70

فقال سيف: ولكن هذا الفناء يملأ نفسي حزنا. كل شيء هنا ينادي قائلا: «كنا»، أو يقول: «ما هذه الحياة سوى باطل وغرور.»

فقال الشيخ باسما: ولكني أسمع لغة أخرى. كأن هذه الأطلال تقول إن الألوف كانوا يحجون إلى هنا، يملئون الفضاء الذي تراه اليوم مقفرا، وكانوا ينظرون إلى هذه الأعمدة ويتأملون جمالها ويعجبون بها خاشعين. وكانوا يدخلون إلى المعبد ويستمعون إلى أناشيده تتردد بين جنبات المحراب جليلة، فتمتلئ قلوبهم تقديسا، ويخرجون بعد ذلك إلى الصحراء ويطلقون أنفاسهم في جوها، وهم يحسون أنهم ألقوا عن كواهلهم أثقالها، فالتوبة للآثم، والعزاء للحزين، والأمل للبائس.

وصمت هنيهة وسيف ينظر إليه مستغرقا: وكانت الشمس تخطر في موكبها، فقال الشيخ: لا يلهنا الحديث عن جلال الصباح يا سيف، إن موكب الشمس مشرقة أعظم بهاء من موكبها غاربة. هذا أجدر أن يكون تتمة حديثنا.

فقال سيف باسما وهو ينظر إلى الشمس: إنك تنطق الأشياء كما تحب يا سيدي المبجل. حقا ما أبدع الشمس في إشراقها على طلل مثل هذا. الحياة والفناء معا.

فقال الشيخ كأنه يحدث نفسه: حكمة أبدية تنطق بها الأشياء جميعا؛ غروب وشروق، حياة وفناء، شباب وشيخوخة، وكلها تتعاقب في دورات متوالية. الحياة بعد الفناء، والشروق بعد الغروب، والشباب بعد الشيخوخة. لا عبرة هنا بالأفراد، فإن سنة الحياة لا تقف عند حدود حياتنا الفانية.

الحياة في إبانها والفناء في إبانه، وكلها تخضع لحكمة أزلية، تدبرها يد عليا.

فقال سيف: أتؤمن يا سيدي الشيخ؟

فقال الشيخ باسما: لست أدري يا ولدي، بل كأنني لا أفهم ما أقول. هي معان في النفس غامضة، فإذا حاولت أن أفصح عنها تعثرت الألفاظ وناءت بحملها.

ولو فتح الناس قلوبهم لأدركوا بها فوق ما يدركون من هذه الألفاظ التي ندعي أنها وسيلتنا إلى البيان. كل ما في الكون ينطق لمن يستطيع أن يدرك كلماته. كل حركة بميزان، وكل شيء لحكمة، حتى الأمم في حياتها وفنائها تتكلم.

فقال سيف: قائلة؟

Unknown page