الفصل السادس
قال الراوي:
كل شيء في الحياة يتغير، وهذا أمر لا شك فيه ولا موضع فيه للتأمل. ولكن الذي يدعو إلى العجب هو أن الإنسان يتغير بين صباح ومساء أو بين ساعة وساعة في نظرته إلى الأمور وفي تقديره لنفسه ولما يحيط به، فقد يرى الدنيا معتمة في ساعة، ثم يراها متلألئة في أخرى، وقد يضيق بأمر في موقف، ثم يكاد يسخر من ضيقه في موقف آخر، وقد يكون ذلك التغير نتيجة لسبب تافه، مثل كلمة أو حادث صغير، كما قد يكون لسبب غامض خفي لا يستطيع أن يتبينه. تعجب سيف من نفسه عندما رأى الأمور تتبدل في نظره بعد أن استيقظ في عصر اليوم الذي لقي أمه في صباحه، كان عندما هب من نومه شخصا آخر غير الذي كان في الصباح، واستعاد حديثه مع أمه وجعل يردد أقوالها حرفا حرفا، ويتمثل حركاتها حركة حركة. وخيل إليه أنه إنما كان يلتمس أسباب الشقاء لنفسه بالاسترسال في أوهامه، والخضوع لوساوس أحلامه. وكاد يضحك من الحماقة التي جعلته يترجح في هبات تطوح به كما شاءت، بغير أن يتحكم في نفسه بعقله كما ينبغي لمثله، بعد أن شب عن طوق الطفولة. ألم تكن أمه صادقة إذ قالت له إن أوهامه لم تكن إلا مخاوف طفولة؟ بل لعلها لم تكن سوى أثر من المتاعب التي أجهد فيها جسمه في تلك الشهور الأخيرة بغير حكمة. فما الذي كان يريده من وراء كل تلك الحماقات؟ أكان يحب أن يسمع أن أبرهة لم يكن أباه؟
وكانت الشمس الغاربة تطل على الحجرة من وراء صفائحها المرمرية الشفافة، فتملؤها بنور رفيق، يخلع بهاء على الأثاث الثمين الذي كانت ريحانة تعنى بترتيبه وتنسيقه بنفسها، كما كان يزيد في بهجة الأزهار الزاهية، التي كانت تبتسم في آنيتها الفضية الأنيقة.
ومد يده إلى زنبقة بيضاء متفتحة، وخيل إليه أنه يمد يده إلى خيلاء يحييها شاكرا، فهي التي أشارت عليه بأن يذهب إلى أمه ويكشف لها عن وساوسه ، حتى لا تبقى في ظلمة سره وتنمو ولا تدع له سلاما. وتذكر يوم مد يده بمثل تلك الزنبقة إلى خيلاء يحييها بها بعد غيبة، فرشقتها في شعرها الغزير، فكانت مثل غصن مزدهر. ماذا يقول لها إذا لقيها؟ فإنه سيلقاها بعد قليل في خميلة من خمائل البستان أو في ردهة من ردهات القصر، فإذا لم يجدها فإنه ذاهب إليها ليقص عليها ما سمع من أمه. ولكنه كان يجد في نفسه حديثا طويلا آخر لا يدري ما هو، ولكنه يعرف أنه يتدفق في أعماقه. أحقا استطاع أن يمتنع عن لقاء خيلاء عمدا كل تلك الأسابيع الطويلة، فكان لا يكاد يراها إلا في لحظات مثل لمح البصر، ثم ينصرف عنها كأنه يهرب منها؟ أي شيطان ذلك الذي وسوس له ليحرمه من جنته، ويقذف به إلى الشقاء الذي عذبه كل تلك المدة!
وعاد إلى حديث أمه يردده حرفا حرفا، ويتمثل حركاتها حركة حركة، وكاد قلبه يغوص في جوفه عندما لم يجد في كل ما قالته له ما يدل على شيء قاطع. لم تقل له في صراحة: «ما لك تقول هذا القول يا سيف؟ فإنك بلا شك ابن أبرهة.» بل كانت تسأله عن أسباب شكه وعن مبعث أوهامه، ثم أخذت بيده آخر الأمر إلى مخدعه، فهدهدت أشجانه بأغنيتها الحلوة حتى نام.
وذهب إلى النافذة، وكانت أشعة الأصيل تتخلل ظلال البستان ندية هادئة، لم تقع عينه على منظر أبعث على السلام منه. ورفث في صدره نشوة من الشعور الغامض الذي يجعل الشباب يغني بحب الحياة، فما الذي يحمله على تعكير صفائه باللجاجة في شكوك لا تؤدي إلا إلى الشقاء؟ إن الذين يجاهدون في سبيل أمنية عزيزة يحملون أنفسهم العناء حينا من الدهر؛ لكي يفوزوا فيما بعد بجزائهم الجزيل من السعادة عندما تتحقق أمنيتهم، فما الذي يدعوه إلى المجاهدة والمراجعة ومكابدة الأحزان؟ مع أن الأمنية التي يتوق إليها ماثلة أمامه بغير مجاهدة ولا لجاجة. وماذا يجديه من هذه الوساوس التي تطارده كأنما هي حريصة على أن تبرئه من أبرهة؟ ولو كان أنفذ بصيرة وأكثر حكمة لكان يتبين من أول الأمر أن خيلاء هي أمنيته الكبرى التي يتطلع إليها ويتمنى أن يحققها. أهي في مخدعها في مثل هذه الساعة، فلا تخرج إلى البستان لتتمتع بساعة الأصيل الحالمة؟
وكانت خيلاء في تلك الساعة في البهو الأكبر الذي يلي جناح الملكة، وتنتهي إليه الردهة المؤدية إلى حجرتها. هناك كانت تجلس في انتظار درس الشيخ أبي عاصم في تلك الأيام السعيدة الماضية، قبل أن يطرأ على سيف ذلك التغير العجيب الذي اعتراه في الأشهر الطويلة منذ الربيع المنصرم. وسارت حول البهو تقلب بصرها في تحفه وتماثيله ونقوش أثاثه وستوره، وهي شاردة لا تدري ماذا تفعل هناك. كانت تعلم أن الشيخ انقطع عن دروسه منذ أيام، وأنها لن تستقبله هناك كما كانت تفعل من قبل، فماذا كانت تبغي من بقائها هناك؟ وتمثلت لها صورة سيف الذي رأته في الصباح عند عودته من وادي ضهر، وكان عند ذلك مضطربا يلوح عليه الحزن على رغم ابتسامته الضئيلة. وتذكرت ما قاله لها، وما أشارت به عليه من الذهاب إلى أمه الملكة ليفضي إليها بأحزانه.
أفما كان ينبغي له أن يعود إليها ليقص عليها ما قالت له الملكة؟ أيكون قد خرج من عندها عائدا إلى وادي ضهر كما أتى؛ ليستأنف لياليه المسهدة؟ لم تعرف منه سوى أنه فريسة لشكوك مضنية لا تدع له سلاما في ليل ولا في نهار، وأنه لا يستطيع الإفضاء بشيء من تلك الشكوك إلى أحد إلا إلى أمه، فهي وحدها التي تستطيع أن تلقي الضوء عليها. وكان في نفسها شيء من العتب لأنه لم يفض إليها بشيء من تلك الشكوك، لعلها تشاركه برأيها أو تسري عنه بمواساتها. أهكذا لا يعود إليها بعد أن ذهب إلى أمه وأودعها أسرار حزنه؟ ولم يخل قلبها من الغيرة لأنه لم يظهر لها من الثقة ما كانت تتوقعه منه. ألا يستطيع الإفضاء بما في نفسه إلا إلى أمه وحدها؟ وكانت ترهف سمعها لعلها تسمع وقع خطواته فوق الطنافس الوثيرة، فلعله كان متعبا فذهب يستريح حينا، بل لقد كان متعبا بلا شك، فإن عينيه كانتا تنطقان بالإعياء. أو لعله ذهب إلى الشيخ أبي عاصم قبل أن يفكر في العودة إليها. ومن هي حتى يسرع إلى لقائها عقب لقائه لأمه؟ بل لعله كان لا يعبأ بلقائها أول الأمر لو لم يتفق لها أن تكون في البستان، منذ الساعة الأولى من الصباح في الممشى المؤدي إلى جناح الملكة، ومع ذلك فقد بقيت ترهف سمعها لسماع وقع خطواته، والأمل ما يزال يساورها أنه سيبحث عنها حتى يلقاها، لا شك في أنه لن يبطئ عن الليلة في السعي إليها. وأخذت تدبر في نفسها أحاديث كثيرة فيها عتب وفيها عطف وفيها رحمة ومواساة. كانت تردد في سرها ألفاظا تختارها وعبارات تتأمل جرسها وتقدر وقعها، حتى إذا لقيته وحدثته لم يخنها لسانها بكلمة تنم عن شيء من خواطرها، بل إنها كانت في عباراتها تحرص على أن تخفي قلقها ولهفتها على لقائه، وتظهر له أنها ما وقفت هناك في ذلك البهو إلا عفوا، وجريا على عادة تقودها إلى هناك بغير إرادة. وتذكرت آخر مرة لقيته فيها بذلك البهو، وكان ذلك في أواخر الصيف، كان عند ذلك شاردا صامتا، لا يكاد يهتز إلى شيء من قولها. وتذكرت كيف كانت نظراته خابية وانية، وكيف كان لا يرفع بصره إليها ولا يكاد يلقى نظرتها، حتى يحول عينيه سريعا في شيء يشبه الجفول. فما السر في تلك الجفوة التي اعترته؟ أهي الشكوك التي أدخلت إليه كل هذا التبدل؟ أم هو الذي انصرف عن مودته الأولى؟ وما تلك الحمرة التي كانت تصبغ وجهه، ثم لا تلبث أن تنطفئ وتخلف وراءها بقعة صغيرة وردية سقيمة؟ أكان عند ذلك يضمر مفارقتها وقطيعتها التي مضى فيها سائر الصيف وصدرا من الخريف؟
وطال انتظارها منذ ذهبت إلى البهو في عصر اليوم حتى اقترب الليل، وكادت تذهب إلى مخدعها فلا تفارقه ما دام سيف مقيما في غمدان، حتى تجزيه على جفائه بمثله. لا شك أنها تستطيع أن تدله على أنها لا تقف ساعات في البهو في انتظاره، ولا تسعى إلى لقائه في لهفة. ولكن ألا يكون قد غادر غمدان؟ أم يكون قد ذهب إلى حجرته فلا يبارحها سائر اليوم ويبقى إلى الليل في عزلته، ثم يبكر في الصباح خارجا إلى بعض ما يخرج إليه، فلا تراه بعد ذلك إلا اتفاقا إذا لقيته مصادفة عند عودته؟ وما يدريها أنه إذا لقيها بعد ذلك يوما ألقى إليها تحية فاترة من بعيد ثم يمضي إلى حيث يريد، فلا تصيب من وراء لهفتها إلا أقسى الآلام وأبشع الهوان.
Unknown page