125

al-wiʿāʾ al-marmarī

الوعاء المرمري

Genres

فقال سيف باسما: نحن في الشهر الحرام يا أبا حبيب. ولكن ما لنا نتحدث هكذا؟ هذه أول مرة ألقاك فيها، وكنت أود لو رأيتك قبل هذا.

فقال الرجل في جفاء: اجلس أيها الفتى حتى أجمع نفسي في حديثك.

وكان صوته الأجش ينم عن نفس متحركة. وجلس سيف مستندا إلى صخرة، والرجل يتبع حركته في اهتمام، ثم قال له بعد لحظة: لم تكن هذه المرة أول مرة رأيت فيها الهواء يقطر دما.

وكانت الخمر ما تزال تفور في صوته وتفوح في أنفاسه، ومضى يقول: إذا فأنت تحبها يا بن ذي يزن. لو علمت أنك ابنه ... كنت أسمع صوتا يصيح بي: اضرب، اقتل، بغير أن أعرف، ولو عرفت ... ويل لشيطان الجحيم! ما شعرت في حياتي خزيا كما شعرت الليلة. وأمامها؟ أمام تلك الهرة الوحشية؟ هكذا شعرت يوما منذ عشرين عاما عندما كان ينازلني شاب مثلك وكنت أنا شابا كذلك، كان كل منا يريد أن يفوز بها. ألست تقول أيضا إنك تحبها؟ دع هذا الحديث فإنه يحرج صدري. ويل للشيطان، فإنه تخلى عني مرة ثانية، ووجدت يدي ترتعش بالخنجر كما اهتزت من قبل.

وضحك ضحكة مزعجة، ثم وضع مرفقيه على ركبتيه وأسند بهما رأسه حينا، ثم رفعه قائلا: لست أبالي أيها الفتى ما تظن بي، فلست مخمورا كما قد تحسب، ولم تدركني بعد الشيخوخة كما قد يذهب ظنك. إن نفسي هي التي خانتني هذه المرة أيضا، كانت تقف من ورائك، ولو رميت خنجري فلم يصبك لوقع في صدرها هي. كنت أريد أن أبقي عليها حتى أغمد خنجري في صدرها عمدا وهي ترتعد في قبضة يدي.

وكان سيف ينصت إليه وهو بين العجب والازدراء، أهذا نفيل بن حبيب؟

ومضى الرجل قائلا: لا تسخر مني أيها الفتى في سرك، وإن كنت لا أبالي سخريتك، فإني مستعد لمنازلتك مرة أخرى أمامها وإن كنت لا أريد قتلك. كان خنجري تحت قدميك ولم ترده إلى صدري. قل ما شئت في سرك، فإن كرهي لك أشد من حقدي القديم على أبيك. بل إني أمقتك وأمقتها، ولو كان خنجري معي الآن لقذفته عليك ولم أخش أن يقع في صدرها. أنت شاب في ربيع الحياة وأنا شيخ في الخمسين؛ أليس هذا ما تقوله لنفسك؟ كان أبوك يشبهك، أو أنت تشبهه في هذا الرونق الذي أراه عليك؛ ولهذا فاز علي في المنافسة. لست في حاجة إلى التوسل عند النساء بجاه ولا بمال يا بن ذي يزن. أعرفتك طليبة؟ لم أر من هذه الهرة الوحشية من قبل نفورا كما رأيت الليلة. أذلك لأنك كنت هناك؟

ووقف فجأة كأنه يريد أن يستأنف القتال، ولكن الفتى لم يتحرك، بل نظر نحوه ثابتا يترقب حركته. وعاد الرجل إلى الجلوس في عنف، وأسند رأسه على يديه وانفجر باكيا.

وامتلأ قلب سيف شعورا بالخيبة يشوبه شعور آخر من الرثاء. كان يتمنى أن يعثر يوما بنفيل بن حبيب الذي يتحدثون عنه في كل واد كما يتحدثون عن بطل أسطورة، ولكنه رآه آخر الأمر مخمورا يسخر من سنه، كأنما هو أحد صعاليك الخلعاء، لا شيخ فرسان خثعم، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ذلك التخليط في أقواله ويتهالك في ختامها باكيا، كأنه طفل أو فتاة بائسة. أهذا نفيل بن حبيب؟!

ولم يدر أينصرف عنه فيكون ذلك آخر العهد به؟ أم يبقى حتى يرى المهزلة إلى ختامها؟ ورفع الرجل رأسه بطيئا ومسح عينيه وقال في صوت كسيف: ماذا كنت تقول لي آنفا؟ أظنك سألتني عن أبي مرة.

Unknown page