119

al-wiʿāʾ al-marmarī

الوعاء المرمري

Genres

فقال سيف في اهتمام: وكيف؟

فقال الرجل: يقولون إنه مريض، ويقولون إنه جرح في موقعة مع نفيل بن حبيب، ولكن آخرين يقولون إنها خدعة، وإنه يدعي المرض حتى يطمع فيه سيف بن ذي يزن ويعود إلى صنعاء، وهناك ...

ثم رفع يده وأشار إلى رقبته إشارة القطع.

فقال سيف: أنت رجل ظريف أيها الربان. ما اسمك؟

فقال الرجل: أظنك قد تأخرت هنا، والشمس تنحدر مسرعة. نسيت أن أقول لك إن هؤلاء سائرون إلى عكاظ، وسألقي بهم عند أقرب نقطة من ساحل الحجاز، فإذا احتجت يوما إلى خدمة مني فاسأل في جزيرة فرسان عن أبي العيوق.

فانفجرت ضحكة أخرى من الفتيان وشاركهم سيف وهم يسرعون على السلاليم، والرجل الضخم ينظر في آثارهم فاتحا فمه كأنه يقول: «إن في هذا العالم من يصيبهم الجنون.» ومالت الشمس تكاد تصافح الأفق عندما بلغت السفينة الصغيرة مدخل الخليج، وكانت الأمواج تتلاطم متدافعة في أذيال ريح عاتية بدأت تعنف شيئا بعد شيء آخر النهار. وتفسح الفتيان على الشاطئ بعضهم يوقد نارا وبعضهم يستروح ساعة قبل أن يلف الليل الفضاء. وكانت السفينة الضخمة تدب عند الأفق متجهة نحو الشمال، وصورة الفتاة الغاضبة تتمثل لسيف، وصوت الموج يقع في ظهر وعيه الحالم. ولما غمضت الآفاق وانبهمت معالم الشاطئ قام من مجلسه يسير نحو الكهف الذي اتخذه منزلا؛ إذ لم يجد خفة إلى المجلس الذي اعتاد أن يجتمع فيه مع أصحابه في ساعة العشاء.

وكانت شعلة المصباح الضئيل تتراقص مع أنفاس الهواء، وتبعث على جوانب الكهف ظلالا غبشاء تتحرك كالأشباح، فعادت إليه ذكرى كهف ينور وقصة العجوز وصاحبه الشيخ المسكين أبي عاصم. أيهلك يكسوم قبل أن ينفذ إلى صدره طعنة تمزقه؟ أتحرمه الأقدار من هذه السعادة الكبرى؟ وخيلاء؟ كان يوما يظن أنها سعادته الكبرى. أحقا تبعد عنه أبد الدهر ؟ أحقا كان يوما في قصر غمدان ووقف معها إلى جانب الوعاء المرمري؟ إنها أيام بعيدة إن كانت حقيقة. ثم لمعت له صورة الفتاة الغاضبة، لم يكد ينظر إلى وجهها عندما قال لها: «لا تراعي يا فتاة»، ولكنه أحس دفء جسمها وهو يضمها إليه بغير وعي، ثم نظر إلى وجهها الغاضب. ما أعجب تلك اللمعة الوحشية التي رآها في عينيها، وأنفها المستقيم، وحاجباها الدقيقان، ورونق شبابها النضير. كان جسمها اللدن أشبه بتمثال جنية غاضبة. كم وقفت تلك الفتاة في مواقف عنيفة؟ كانت كل حركة منها تنم عن أنها اعتادت الدفع والمقاومة والاستماتة، ومثلها من يستطيع أن يطعن بخنجر أو يتعرض للطعنة. أهي الأخرى أمة تباع وتشترى بمائة ناقة أو مائة دينار؟

كان بين الصورتين شبه عجيب، كما كان بينهما فرق عجيب. بين صورة تلك الفتاة، وبين صورة خيلاء. ماذا تفعل في عكاظ؟ وأية تجارة هناك لمثل تلك الشيطانة الحسناء؟ وأي فرق بين بسمتها وبسمة خيلاء؟

وأحس وخزة من الندم عندما تحدث عن خيلاء وهو يتمثل صورة الفتاة النمرة. كيف يقرن صورة ملاك بصورة ... ماذا يسميها؟ ولكن أين خيلاء؟ إنها هناك في دير نجران، لا في عكاظ حيث الزحمة والتدافع والتنازع والتحدي.

أما الأخرى فهي مثله في حياته الجديدة التي يحياها في السطو على السفن، أو في القتال العنيف الذي يملأ قلبه حقدا وعداوة وقسوة. هذه تستطيع أن تستمع إليه إذا حدثها عن طعناته للأعداء وعن مغامراته في الأودية والبحار، وتطرب إذا وصف لها المآزق التي وقف فيها، ونجا منها على سراط ضيق معلق فوق هوة عميقة مظلمة.

Unknown page