وطبيعي ألا ينتظر من شعب هذا شأنه أي نشاط سياسي محكم، وهذا لم يحل دون وجود طبقة كبيرة من الملاكين والتجار الذين أمنوا شر الفاقة واعتزلوا في أملاكهم الصغيرة، ولا شك في أن الكاربوناريين في سنة 1840 قد استمدوا قوتهم من هؤلاء، بيد أنهم مع الأسف كانوا يؤلفون أقلية صغيرة، أقلية فاسدة الأخلاق فاقدة النشاط.
والخلاصة أن السواد الأعظم من الشعب كان مصابا بالجهالة والشقاء، فيلوح - والحالة هذه - أن تأخر المدينة وتباين المنافع؛ كانا يحولان دون أن تسير نابولي محاذية لأنحاء إيطالية الأخرى.
صقلية
كانت صقلية ونابولي تؤلفان دولة واحدة إلا أن حقدا دفينا كان يفرق بينهما كما يفرق الحقد بين أيرلندة وإنكلترة، وكان اختلاف العرف والتاريخ والطبائع يحول دون اندماج الجزيرة بشبه الجزيرة، فمزيج من الدم النورمندي والعرب والبربر في الجزيرة وإقليمها شبه الحار والتقاليد البرلمانية المتأصلة في الجزيرة؛ ذلك كله جعل للجزيرة خصائص لا رابط لها بتلك التي في شبه الجزيرة.
وكان الصقليون يمتازون بالكرم والرجولة، ويتحلون بأمانة صلبة فلا يخون الصقلي أحدا إلا فيما ندر ويفضل الحياة البرلمانية التي استمدت سبعة قرون، كان الصقليون يهتمون بالأمور السياسية ويتمايزون بالوطنية وقد تمتعت صقلية باستقلالها مدة طويلة، وعلى الرغم من انضمامها إلى نابولي سنة 1735 فإنها ظلت محتفظة بعلمها الخاص وبرلمانها وإدارتها.
وقد أدى الصراع الناشب بين البلاط والأشراف سنة 1812 إلى تثبيت حقوق الصقليين؛ فإن الناس لم يسلموا من اضطهاد آل بوربون وظلمهم، وكان موظفو نابولي يجهرون بملء أفواههم أنهم أتوا إلى صقلية ليمدنوا سكانها المتوحشين، وكانوا يعاملون الجزيرة معاملة المستعمرات، مما أدى إلى حقد الصقليين عليهم وعلى بلاطهم.
وكان التودد بين أحرار باليرمو وأحرار نابولي قليلا، ولم يكن الصقليون يضمرون الولاء للتاج، وإنما كانوا على استعداد ليمدوا أيديهم إلى أية دولة تمنحهم استقلالهم، سواء أكانت تلك الدولة إنجلترة أم روسية أم فرنسة، ولم يتسرب الشعور الإيطالي في صقلية إلا أخيرا حين أخذت الجزيرة تستنجد بإيطالية ضد نابولي، وترى أن الحرية إنما تكون بالاندماج في وطن مستقل واحد تقف فيه صقلية على قدم المساواة مع نابولي.
لم يجر تقسيم الأملاك على صورة واسعة كما هو الأمر في نابولي رغم القوانين التي كانت تسهل بيع الأملاك في صقلية، وقد أعد الملاكون الكبار وألفوا عصبة فيما بينهم لحماية منافعهم، وانضم إليهم بعض التجار الذين استملكوا بعض الأراضي، ومع أن أملاك الناحيات قسمت أقساما صغيرة إلا أن القسم الأعظم من الشعب لم يكونوا أصحاب أراض إلا في بعض المناطق؛ حيث وجد كثيرون من صغار الملاكين.
ويجدر بنا أن نذكر أن تسعة أعشار الأرض كانت بيد الأشراف والأساقفة، وامتدت أملاك بعض الأمراء إلى مسافة خمسين كيلو مترا، وكان الأمن مختلا في الأرياف مما حدا الناس إلى سكنى المدن حتى يصح القول بأن اثنين في المائة فقط من أهالي ثلاث إيالات كانوا يعيشون في الأرياف، فكنت ترى مراعي طبيعية واسعة المساحات بلا قرى ومن دون أشجار، موبوءة بالملاريا ولا تصلح إلا لرعي الماشية.
هكذا غدت حالة البلاد التي كانت مستودع الحبوب والميرة الإيطالية، وقد ساعد على صيرورتها إلى هذه الحالة أنه لم يكن لدى أصحاب المزارع رأس مال كاف لاستغلال أملاكهم الواسعة التي تتفاوت مساحتها من 2000 إلى 5000 فدان، وكان هؤلاء يقسمون أرضهم قطعا صغيرة، ويؤجرونها للقرويين إلى آجال قصيرة، ويقدمون لهم البذر، ويؤمنون مالا لشراء البقرة والمحراث، وهؤلاء يزرعونها حبوبا ويدفعون لمؤجريهم ومقرضيهم عينا من الغلة كانت تبلغ ثلاثة أرباعها، وطبيعي ألا تؤدي تلك الطريقة إلى تقدم الزراعة، فتبقى في حالتها الابتدائية.
Unknown page