وكان شرف تهيئة هذه الحملة يعود إلى إقدام لجنة جنوة وليبرتاني وكريسبي ومازيني الذين استطاعوا بإيمانهم القوي أن يتغلبوا على تردد غاريبالدي، وأن يجبروا الملك وكافور على السير وراءهم، وكان إعداد الحملة يومئذ تدبيرا محفوفا بالمخاطر لا يقدم عليه إلا الشجعان المغامرون، وكان لآل بوربون في صقلية ثلاثة وعشرون ألفا من الجند ومائة ألف وغيرهم في القارة مع مدفعية قوية وقلاع يكاد يتعذر اقتحامها.
ولعلنا لا نجد في أوروبا كلها رجلا - ما عدا غاريبالدي - يستطيع بهذه النواة الصغيرة ومن دون مساعدة، وفي هذه الظروف أن يقاتل وأن ينتصر على قوات فائقة ساحقة، حقا لقد خلقت سفرة الألف إيطاليا خلقا جديدا، لقد توجهت السفينتان نحو الجنوب سالكتين طريق الساحل ترمقهما أنظار جميع الإيطاليين وتتجه نحوهما أفئدة الأمة في قلق عظيم؛ ذلك لأن القوة لم تأخذ معها ما يكفي من العتاد لسلاحها لأسباب لعل باعثها الخيانة حتى لتكاد الحملة تصبح بلا سلاح.
وقد أمر غاريبالدي رجاله بالوقوف في الميناء الطوسكاني الصغير «بالامونه»؛ ليتلافى فيها النقص في العتاد أولا إذا استحصل على ما يحتاج إليه من العتاد وثلاثة مدافع، وأراد بالوقوف ثانية أن يلبي رغبة مازيني ورفقائه في إرسال قوة إلى الممتلكات البابوية في الوقت الذي تذهب فيه الحملة إلى صقلية، وكان يتوقع بهذه الحركات أن يلفت أنظار عدوه إلى هذه الناحية ويخفي الهدف الأصلي الذي استهدفه من رحلته.
وقد نزل إلى
طوسكانه وأن يتحرك كوزنسي ومديجي من جنوة بعده بقوات كبيرة، ومع أن غاريبالدي كان يجهل - بلا شك - خبر المفاوضات التي كانت تجرى لإخلاء الإفرنسيين ممتلكات البابا فإنه - لا بد - أدرك المكاره التي ولدها للحكومة بحركته هذه، وكان من جراء تصلب مازيني في مغامرته الجديدة ومساعدة غاريبالدي له أن تأجل إخلاء الحامية الإفرنسية للممتلكات البابوية، واضطرت إيطالية أن تنتظر عشر سنوات أخرى لإنقاذ روما.
وما كاد خبر إنزال القوة يصل إلى كافور حتى أرسل أوامر شديدة إلى ريكاسولي يأمر فيها بأن يحول دون خرق حياد الأراضي البابوية، بيد أن الشعب كان متحمسا للحركة فاجتاز زمبيانكي الحدود في 20 أيار، ولكن قوات البابا هاجمته وأرجعته إلى أرض طوسكانه؛ حيث جرده ريكامبولي من السلاح وأوقف جماعته.
ووصل غاريبالدي إلى مارسالة في 11 أيار، وقد استطاع أن يتملص من السفن الحربية النابولية عرض البحر، ولكنه ما لبث أن اقترب من الساحل حتى شاهدته طرادتان تعقبتاه على مقربة منه حتى دخوله الميناء، ولو استطاعت الطرادتان أن تحسنا صب نيرانهما وتوجيهها لما استطاع نصف الحملة النزول إلى البر.
وبينما كان يتقدم غاريبالدي نحو باليرمو كان «لاماسا» يبذر بذور الثورة في الأنحاء الريفية وأخذ رجال «السكوادرة» الباقون من ثوار ديللا جانسية يصلون إليه زمرا، وفي اليوم الخامس عشر من أيار قابل غاريبالدي في منتصف الطريق القوات النابولية التي احتلت قبل ذلك موضعا منيعا، وكان معه ثمانمائة رجل من أتباعه وألف وخمسمائة من عصابة السكوادرة الذين يعوزهم السلاح وينقصهم الضبط، بينما كانت قوة عدوه تبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي كامل العدة جيد الضبط، ومع ذلك فقد تغلبت شجاعة الوطنيين على كثرة الجند النابولي.
وبعد قتال عنيف استمر عدة أيام استولى غاريبالدي على موضع العدو الذي كان يدافع عن باليرمو، إلا أن الموقف كان لا يزال حرجا للغاية رغم تحرر وسط الجزيرة وإرسال نجدة مؤلفة من خمسة آلاف رجل إليه، لم يكونوا سوى عصابات ينقصها النظام وينتابها الذعر بسهولة، ولا يزال ينتظره في باليرمو عشرون ألفا من الجيش النابولي النظامي.
وكان تفوق القوات الملكية من حيث العدد والسلاح والضبط حتى إنها لتستطيع بقيادة أي قائد أن تسحق عصابة الأبطال الصغيرة هذه دون عناء، وأدرك غاريبالدي بأن مخرجه الوحيد من هذا المأزق هو القيام بحركة جريئة فذة تتغلب على القوات المتفوقة، ولما لم يجرؤ على مهاجمة المدينة قام بحركة التفاف ووصل بعد مسير يومين على قوس طويل في الجبال إلى ميسلميري الواقعة جنوب شرقي المدينة، بينما كان عدوه يسير في رتلين نحو الجنوب باتجاه خاطئ. وكانت خطة غاريبالدي ترمي إلى مهاجمة المدينة ليلا؛ يقينا منه أنه إذا ما دخل المدينة فستصبح الدور معاقل له، وتسرع الجماهير لمساعدته.
Unknown page