وقبل أن يصل جواب السفير إليه ارتأى الإمبراطور أن يفاتح إمبراطور النمسة، وأخذ في الوقت نفسه يتأهب للقتال فيما إذا رفض تكليفه السخي، ثم اجتمع بكوسوت الوطني الهنغاري ووعده بإيفاد قوة عسكرية إلى هنغارية فيما إذا استمرت الحرب، وفي 9 تموز جاء رسول نابليون يكلف فرنسوا جوزيف بالهدنة في الوقت الذي أدرك أنه لا يستطيع إنقاذ فنيسيه وأن بروسية خذلته، وعلى إثر ذلك اجتمع الإمبراطوران في فيلافرنكة، وكان نابليون الثالث في موقف يستطيع فيه أن يملي شروطه على عدوه، وجرت المفاوضات بين الاثنين ورفض فرنسوا جوزيف تكليف نابليون بتشكيل مملكة مستقلة يحكمها الأرشيدوق ماكسمليان، وعرض على نابليون أن يترك له لمبارديه شريطة أن يسلمها هو إلى بيمونته، ورغم موافقته أن تنضم إيالة فنيسيه إلى الاتحاد الإيطالي إلا أنه فضل الاستمرار على الحرب على ترك هذه الإيالة والقلاع الأربع، وتم الاتفاق على أن تعطى دوقية بارمه إلى بيمونته، بيد أنه نص في شروط الهدنة على أن ترجع مودينه وطوسكانه إلى أميريهما، وكذلك تعود الروماني إلى البابا وتعهد الإمبراطور بأن يساعد على تأسيس الاتحاد الإيطالي برياسة البابا.
وكان وقع خبر الهدنة على الطليان كصاعقة في جو ملبد بالغيوم، وقد عقدت دون أن يطلع عليها أحد حتى الملك فيكتور عمانوئيل نفسه لم يعلم بها، ولما اطلع على هذه الخيانة قال حانقا: إنه سوف يستأنف القتال وحده، إلا أنه أدرك عجزه ذلك ورضي بالتوقيع على المعاهدة المخزية، أما كافور فامتنع الخضوع للأمر الواقع وسارع حين اطلع على الخبر المشئوم إلى المعسكر، فضغط على الملك وأعاد الضغط عليه لكيلا لا يقبل الشروط، ولما رفض الملك تكليفه وجه إليه كلاما لاذعا، خرج فيه عن حدود الاحترام.
الفصل السابع والعشرون
بعد فيلافرنكة
تموز-أيلول 1859
أثارت أخبار فيلافرنكة استياء عاما في إيطالية، فكأن الحرب قد نشبت للاشيء، وكأنما ذهبت جميع الأموال التي أنفقت والنفوس التي أزهقت والجنود التي بذلت سدى، ولم تكسب بيمونته من كل هذا الغرم إلا لمبارديه فقط، أما فنيسيه وطوسكانه والروماني فلم تكد تتنفس الصعداء بضعة أسابيع حتى رأت جميع آمالها تنهار؛ إذ خانها حليفها وتآمرت أوروبا كلها ما عدا إنجلترة ضدها، وأخذ الطليان يجهرون بسخطهم على الإمبراطور الذي وهن عزمه في الساعة الحاسمة، وقد استقبلته ميلانو وتورينو حين عودته بإعراض وصمت بليغين وهما اللتان استقبلتاه منذ أسابيع بحماسة فائقة، وعلقت صور أورسيني في أوجه الدكاكين، وقد شاع أن الملك أخبر الإمبراطور بأنه لن يوقع على المعاهدة.
أما كافور فقدم استقالته، وقال لكوسوت ذات مرة: «لقد أهانني الإمبراطور أمام ملكي ... لن يتم الصلح ... وإذا اقتضى الأمر فسأصافح ديللا مرجريتا بيد ومازيني باليد الأخرى وسأغدو ثوريا متآمرا.» ولما أفاق الطليان من ذهولهم وجدوا في نفوسهم من القوة ما يستطيعون بها المقاومة، فكاد الشعب بأجمعه يتآمر لإحباط مشاريع الملوك العظام والعمل في سبيل سلامته وحريته واستقلاله.
وهنا يجدر بنا أن نسجل ما حدث في أقطار إيطالية في هذه الفترة ونبدأ بطوسكانه فنقول: لقد كان الدوق الكبير قبل الحرب مصرا على التمسك بسياسة الحياد، فرفض تلبية طلب النمسة بإرسال كتيبة إليها، وقد طلب إليه مندوب كافور بون كومباني الدخول في الحلف وأرادت حكومتا فرنسة وبيمونته إغراءه على قبول هذا الطلب بالإعراب عن استعدادهما لحماية عرشه، وكان بعض الأشراف في طوسكانه لا يزالون يقولون بوجود حكم ذاتي في طوسكانه، ويرغبون في إنقاذ آل لورين ويرون أن تحقيق ذلك يكون بتحالف الدوق مع بيمونته.
ثم إن الدومقراطيين أنفسهم كانوا على استعداد للتساهل فيما إذا وافق الدوق الكبير على شروط كافور، بيد أن لئوبولد بقي متصلبا في رأيه ولم يكترث لنصائح الأشراف المخلصين ولم يلتفت إلى إرشادات وزرائه ولم يقم وزنا لنفور جيشه منه، وقد جعل رفضه الحلف الثورة أمرا لا مناص منه، فاتفق الحزبان القوميان ضده وقرر تأليف حكومة تكون حليفة لبيمونته.
وبلغ من تضامن الأحزاب في هذا الشأن أن أنصار مازيني بأن يتولى الأشراف الأحرار قيادة الحركة، وقد اضطرهم عناد الدوق الكبير إلى أن يبدءوا بالعمل توا ، وأخذ الشعب والجيش يهددان بالثورة وصمم الأشراف - بتحريض من كافور - على القيام بمظاهرة تجبر الدوق الكبير على اختيار أحد الحالتين: «الحلف مع بيمونته أو التنزل عن العرش مؤقتا.»
Unknown page