ومع أن دازجيلو رفض اتخاذ تدابير شديدة ضد اللاجئين وتقييد حرية الانتقاد في الشئون الداخلية؛ فإنه أخذ يشعر بضرورة التفاهم مع نابليون؛ لأن النمسة كانت تهدد بالهجوم، فضلا عن أن سقوط بالمرستون قضى على آخر أمل يرتجى من إنكلترة، وعليه فإنه إرضاء لنابليون نفى بعض الدمقراطيين المتطرفين وعرض على المجلس قانونا يتعلق بمعاقبة من يقترف إثم الطعن بالملوك، فارتاح نابليون لهذه التدابير ووعد بمساعدة فرنسة عندما تحتاج إليها بشرط أن تحافظ على الهدوء وأن تراقب الفرص.
وكان الانقلاب الحكومي في فرنسة قد أدى إلى تطور ذي شأن في سياسة بيمونته، وأخذ المعتدلون وجماعات اليمين واليسار يميلون إلى الاندماج في حزب مركزي موحد، وكانت الاتفاقيات التجارية سببت خلافا وانفصالا بين أنصار حماية التجارة وأنصار حريتها من حزب اليمين، فأخذ العقلاء من الجانبين يدركون خطر الأكثرية المترجرجة التي تستطيع في كل لحظة أن تحدث أزمة وتنصب وزارة يترأسها ريفل، وكانت الوزارة تعلم أن ريفل نفسه قد يحترم الدستور لكنه يوجد في جماعته أناس لا يحترمونه، وكان الاختلاف الموجود ضئيلا بين وسط حزب اليمين ووسط حزب اليسار إذا قورن بوسعة بالاختلاف الذي يفرق جناحي حزب اليمين؛ فلذلك أصبح ممكنا تأليف حزب قوي متجانس يجمع بين الوسطين المذكورين، وقد فرح كافور للتقرب الذي بدأه بين الوزارة واليسار؛ لأن الانقلاب الحكومي في باريس والخصومة الصريحة التي أبداها بعض أنصار ريفل ضد الدستور قد أقنعتاه بضرورة الحصول على قوة ضد الرجعيين.
وكان يشارك غيره شعور الاستياء المتزايد من رغبة دازجيلو في التفاهم مع روما والنمسا بثمن فاحش جدا، وكان يريد أن يخلق الفرص لا أن يترقبها كما هو شأن دازجيلو، وكان رتازي - منذ مدة طويلة - متشوقا إلى اندماج الوسطين، وما إن أقتنع كافور بصواب الفكرة إلا وتم الاتفاق بينهما على الأساس.
ولما عرض الوزير ديفورستا تعديل قانون المطبوعات على المجلس قرر رتازي أن يؤيد الحكومة بجماعة الوسط في حزبي اليسار، وقرر كافور - من جانبه - أن يقطع علاقته تماما مع أقصى اليمين، وطلب إلى زملائه أن يسيروا معه في سياسة تقدمية، وإذا علمنا أن الأمر تم باتفاق خصوصي عقد بين كافور ورتازي؛ يتضح لدينا جسارة كافور وجرأته.
وهكذا تم اتحاد الحزبين الذي أعلنه أثناء المذاكرة حول قانون ديفورستا، وكان من نتيجة هذا الاتحاد الجديد أن انتخب المجلس رتازي رئيسا له منافسا بذلك مرشح الحكومة، وبعد أزمة استمرت مدة من الزمن استقال كافور وزميله فاريني من الوزارة في شهر أيار.
ولم ير كافور الوقت مساعدا لاستلامه الحكم، فأخذ يتساهل مع دازجيلو ليحول دون مجيء وزارة رجعية وليستغل صيت دازجيلو في إنجلترة لاكتساب عطفها، وأخذت خصومة كافور تشتد بعد ذلك حتى سقطت وزارة بالمرستون فتحرج الموقف السياسي كثيرا، وكان لا يزال يميل إلى التريث لو لم يحدث حادث فجائي نشأ عن موقف الملك بشأن قانون النكاح المدني.
إذ مر هذا القانون من المجلس النيابي بعد أن أقره، لكن البابا عارضه معارضة شديدة، على الرغم من أنه كان مرعيا في النمسة منذ مدة طويلة وفي فرنسة منذ عهد الثورة، وحاول دازجيلو عبثا أن ينال موافقة البابا، فأرسل الملك إلى البابا كتابا يلتمس فيه تذليل الصعاب في وجه الموضوع، فأجابه البابا بجواب قاس اتهمه بأنه يروج التسري إشارة إلى أن النكاح المدني لا يحلل الزواج بين الزوجين، فما كان من الملك إلا أن انحاز إلى جانب الإكليريكيين رغم أنه طالما ظهر بأفعاله احتقاره للروابط الزوجية وأعلن بأن ضميره لا يطاوعه على إقرار القانون، الأمر الذي شجع الأعيان على رفضه، فقدم دازجيلو على إثر ذلك استقالته في 22 تشرين الأول، وانزوى في معمله؛ ليكسب معيشته بريشته.
وكان كافور الخلف الطبيعي لدازجيلو، فاضطر الملك مكرها أن يكلفه بتأليف الوزارة مشترطا عليه أن يتعهد بالاتفاق مع روما، ولما رفض كافور ذلك انتهز الملك الفرصة ودعا بالبو وريفل إلى تقلد الحكم على أساس البرنامج الآتي: «الدستور لا أكثر ولا أقل»، ومعنى ذلك الاكتفاء بالحد الأدنى من الإصلاحات والتساهل فيما هو مصلحة روما، إلا أن وسط اليمين رفض معاضدة بالبو وريفل، ومع أن الأول كان يعارض كل تشريع ضد الإكليروس؛ فقد أبى أن يتساهل في قضية فرانسوني، واعترف بإخفاقه في تأليف وزارة دستورية، فاضطر الملك ثانية إلى الالتجاء إلى كافور بشرط أن لا يجعل قانون النكاح المدني مسألة ثقة.
وقد ظل أكثر أعضاء الوزارة المستقيلة أعضاء في الوزارة الجديدة التي سارت على أثر الوزارة السابقة، فأهمل قانون النكاح المدني. أما السياسة الخارجية فلم يطرأ عليها أي تبدل، وقد أسرع كافور إلى تهنئة نابليون بمناسبة العيد السنوي للانقلاب الحكومي الذي نودي فيه نابليون إمبراطورا.
وبرهن التقدم الهادئ على رضاء الشعب على الحكم الملكي الدستوري، فاعتادت الناس الحياة الدستورية حتى كأنها وليدة أجيال مديدة مع أن بيمونته لم تظفر بها إلا حديثا، وكذلك دل فشل الرجعيين المستندين إلى نفوذ الكنيسة على قلة نفوذهم بين الشعب، وكان الجمهوريون أقل من أن يستطيعوا تأليف حزب، ودلت النشرات التي كانت تحمل على مازيني خصومة الرأي العام له.
Unknown page