الوصية السنية الدرية الزكية

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الوصية السنية الدرية الزكية، وصية مولانا أمير المؤمنين وسيد المسلمين، وخليفة رب العالمين، المنصور بالله رب العالمين القاسم بن محمد بن علي -عليه السلام-، أوصى بها ولده السيد البدر العالم العلم الطود الأشم، كشاف الغمم، صاحب السيادة والزهادة: محمد بن القاسم بن محمد -عليهم السلام جميعا-.

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد، فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته، ثم إني أوصيك أن لا تترك درس القرآن يوما واحدا ولو في كل يوم جزءين أو جزءا واحدا، لا تترك ذلك أبدا، وعليك بصلاة الجماعة فإنها من الواجبات، ولا يغرنك قول من قال: إنها سنة، وعليك بملازمة العلم وطلبه فإنه من أكبر الفرائض، واستعن على ذلك بتقوى الله سبحانه؛ لأن الله تعالى يقول: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}، والفرقان هو: العلم والفطنة وتنوير القلب الذي يفرق به بين الحق والباطل، وتقوى الله هي: أن تترك كل حرام وكل مشتبه بالحرام كأكل الشظا لأجل الخلاف، وأن تقوم بكل ما أوجب الله عليك.

ومما تستعين به على تحصيل العلم: ترك حب الدنيا والاشتغال بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من اشتدت رغبته في الدنيا أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)).

Page 79

وعليك بالإكثار من الحسنات؛ لأن الله تعالى يقول: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}، وعليك بالتواضع للمؤمنين، وترك التكبر عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله)).

وعليك بترك الإعجاب بنفسك، وذلك أن تعتقد أنك أفضل من غيرك من المؤمنين، فإن ذلك من الكبائر الموبقات، المحبطات للأعمال؛ لأن إبليس -لعنه الله- كان قد عبد الله ستة آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة -شككت أنا في ذلك- فاعتقد أنه أفضل من آدم عليه السلام، فجعل الله عليه لعنته إلى يوم الدين.

وروى الإمام أحمد بن سليمان-عليه السلام-في كتاب( حقائق المعرفة): أن أعرابيا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة المحبين للرحمن، فأمر عليا-عليه السلام-أن يخبره، فقال له علي عليه السلام: (يا ذا خذ عني صفة المحبين للرحمن:

عبد استصغر بذله في الله واستعظم ذنبه، ووطن نفسه أنه ليس في السماوات والأرض مؤاخذ غيره حينئذ -يعني اعتقد أنه لا يؤاخذ أحد من المؤمنين من أهل السماوات والأرض- قال: فصعق الأعرابي حينئذ- يعني ذهب عقله- حتى وقع على الأرض كالميت، فلما أفاق يعني رجع له عقله، قال: أخبرنا يا ابن أبي طالب هل تكون في حالة أعلى من هذا العبد؟

قال: نعم، سبعين درجة حينئذ- يعني أنه خائف أنه ليس مؤاخذ في السماوات والأرض غيره خوفا زائدا على خوف العبد الذي وصفه سبعين درجة.

Page 80

واعلم يابني أن ذلك صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.

ولا تظن بأحد من المؤمنين سوء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} ويقول: { إن بعض الظن}.

وعليك بترك المرآء، وهو: كثرة المراجعة، فلا تفعل شيئا من ذلك، لكن إذا عرضت مراجعة وقد عرفت الحق إن قبل وإلا سكت؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أنا زعيم لمن ترك المرآء ببيت في رياض الجنة، وإن كان محقا)).

وعن علي-عليه السلام-أنه قال: (ومن كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق).

وقال عليه السلام: (فمن جعل المرآء دينا لم يصبح ليله والدين العادة)، ومعنى أنه لم يصبح ليله: أنه يبقى في الظلمات لا يهتدي إلى الحق.

وقال -عليه السلام-في وصيته لابنه الحسن: (فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، وليكن طلبك بتفهم وتعلم، لابتورط الشبهات، وعلم الخصومات...) في كلام طويل إلى أن قال فيه: (وليس كل طالب للدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل).

وقال بعض الشعراء في ذلك:

إياك إياك المرآء فإنه

Page 81

إلى الشر دعاء وللشر جالب وعليك بتعظيم شيخك في العلم لقوله تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}...الآية، وقوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}، فمن جمع بين الإيمان والعلم أفضل من الذي لم يكن منه الإيمان فقط، وهو التعلم.

واعلم يابني أني لم آمرك بالعلم إلا أنه من أعظم الطاعات لحاجتنا إليه؛ ولأنه لا ينجو إلا العلماء العاملون؛ لأنه لا ينجو من عذاب الله إلا من خشي الله بدليل قوله تعالى: {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}، وقال تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد، هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ، من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب منيب}، وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يخشاه إلا العلماء حيث قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، والعابد يوشك أن يقدح الشك في قلبه، فإذا هو في وادي الهلكات.

Page 82

وروى زيد بن علي -عليه السلام- عن علي -عليه السلام- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السماوات والأرض حتى حيتان البحر، وهوام البر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب))(1) .

Page 83