ثانيا:
إلى أحد يطرد الحكم الذاتي للأجزاء المكونة للمجتمع مع قدرة المجتمع على وجه الإجمال؟
ثالثا:
إذا كانت هناك حاجة إلى هيئة مركزية لتوحيد نشاط الأجزاء المستقلة، فما الذي يمنع هذه الهيئة المركزية من أن تصبح أوليجاركية حاكمة من النوع الذي نألفه ونمقته؟
إن طريقة الحكم الذاتي للناس العاديين في أعمالهم العادية أمر لا يمكن مناقشته مناقشة جدية إلا إن كان لدينا فكرة واضحة عما يمكن أن نسميه التاريخ الطبيعي للجماعات وسيكولوجيتها. إن «الجماعة» تختلف عن «الجمهور» في العدد، كما تختلف عنه في نوع الحياة العقلية التي يحيياها الأفراد. الجمهور عدد كبير من الناس، أما الجماعة فقليلة العدد، والجمهور يحيا حياة عقلية أحط من الحياة العقلية للأفراد. والجمهور لا يستطيع أن يسيطر على عاطفته كما يستطيع الفرد. أما الحياة العقلية عند الجماعة فليست أحط ذهنيا ولا عاطفيا من الحياة العقلية للأفراد الذين تتألف منهم الجماعة، بل لقد تكون في بعض الأحيان أعلى من عقلية الأفراد.
وهذه هي الحقائق السيكولوجية الهامة عن الجمهور: الجمهور يميل بطبيعته إلى اللهو والعربدة. إن الفرد في الجمهور يتحلل من قيود شخصيته، وهو أشبه ما يكون بالرجل الثمل. والمعروف أن أكثر الناس يحبون أن يفروا من شخصياتهم، وهم يضيقون بأنفسهم ذرعا فيلجئون إلى المخدرات أو إلى الاختلاط بالجمهور. ونجاح الدكتاتوريين يرجع إلى حد كبير إلى قدرتهم على استغلال رغبة الناس في الفرار من أنفسهم؛ فهم يهيئون الفرص لرعاياهم لأن يفلتوا من أنفسهم ولأن ينحطوا في ميولهم وعواطفهم؛ فالاشتراكيون يخدرون الناس بالجمع بينهم في مجتمعات سياسية. ويلجأ الدكتاتوريون الفاشستيون إلى هذه الطريقة كذلك؛ فالدول الدكتاتورية تتيح للناس أن يفروا من أنفسهم إلى العالم السفلي - عالم عواطف الجماهير. ومن الثابت أن الإنسان إما أن يفر من نفسه إلى عالم علوي كعالم الأديان، أو إلى عالم سفلي كعالم المخدرات. ويؤثر الدكتاتوريون أن يفر أتباعهم إلى العالم السفلي؛ لأنهم إذا فروا إلى العلا حرروا أنفسهم من عبادة الأمة والحزب والطبقة والزعيم. إن تخطي حدود النفس والفرار من سجن الذات إلى الاتحاد بما هو أعلى من الذات يتم عادة في العزلة، وهذا هو السبب في أن الحكام المستبدين يحبون أن يجمعوا رعاياهم في تلك الجماهير الكبيرة التي ينحط فيها الفرد إلى الدرك الأسفل.
والآن لنبحث في الجماعة. إن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد هو هذا السؤال: متى تصبح الجماعة جمهورا له مميزاته السيكولوجية؟ دلت التجربة على أن حركات الجماعة ومشاعرها تتعقد إلى حد كبير إذا زاد عدد أفرادها عن عشرين أو قل عن خمسة. والجماعات التي تتألف لأداء عمل يدوي معين يصح أن يفوق عددها تلك التي تأتلف لغرض سياسي أو للصلاة الدينية أو للهو والمرح. الجماعة في الأغراض العملية يمكن أن تؤدي عملها بنجاح إذا بلغ عددها العشرين أو الثلاثين. أما في الأغراض الأخرى فمثل هذا العدد الكبير قد يكون عاملا من عوامل الفشل. ومما هو جدير بالذكر أن رسل المسيح لم يزيدوا عن اثني عشر. وقد وجد أن اللجان التي يزيد عددها على اثني عشر عضوا تتعسر إدارتها لكثرة الأعضاء. وإني أرى أن حفلة العشاء تكون على أتمها إذا كان أفرادها ثمانية. ورجال التربية مجمعون على أن العدد الملائم للفصل الدراسي يتراوح بين ثمانية وخمسة عشر، وأصغر الوحدات في الجيوش تتكون من عشرة جنود. وإذا فكل الدلائل تدل على أن العدد الملائم لتكوين جماعة أغراضها اجتماعية أو دينية أو عقلية هو عشرة أفراد، والعدد الملائم لتكوين جماعة تؤدي عملا يدويا يتراوح بين العشرة والثلاثين. وعلى ضوء هذه الحقائق نرى أن الحكم الذاتي يجب أن يتألف من وحدات محدودة العدد.
وقد بحث الاقتصادي الفرنسي هياسنت دبريل
Hyacinthe Dubreuil
طريقة الحكم الذاتي في دوائر الصناعة وقدم لنا ثروة من الأمثلة المحسوسة في كتاب قيم عنوانه «لكل فرصته». يقول دبريل: إن أكبر دوائر الصناعات يمكن تنظيمها بحيث تتألف من عدد من الجماعات المستقلة في حكمها والمتحدة في عملها في آن واحد، كل جماعة منها تتكون من نحو ثلاثين عضوا، وكل جماعة تعمل داخل المصنع عمل المقاول الثانوي يتعهد بأداء جزء معين من العمل. وللجماعة حق توزيع الأرباح بين الأفراد، ولها كذلك حق حفظ النظام في داخلها، وانتخاب ممثليها وزعمائها. إن مثل هذا النظام يحبذه العمال لأنه يعيطهم قدرا من الاستقلال، كما أنه يؤدي إلى زيادة الإنتاج. ولهذا النظام مزايا أخرى مثل تدريب الأعضاء على التعاون وتحمل التبعات.
Unknown page