1 - أهداف الإنسانية وسبل تحقيقها
2 - معنى التفسير
3 - الإصلاح الاجتماعي الشامل
4 - الإصلاح الاجتماعي والعنف
5 - الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
6 - طبيعة الدولة الحديثة
7 - المركزية واللامركزية
8 - اللامركزية والحكم الذاتي
9 - الحرب
10 - عمل الأفراد في الإصلاح
Unknown page
11 - عدم المساواة
12 - التربية
13 - العادات الدينية
14 - المعتقدات
15 - قواعد الأخلاق
1 - أهداف الإنسانية وسبل تحقيقها
2 - معنى التفسير
3 - الإصلاح الاجتماعي الشامل
4 - الإصلاح الاجتماعي والعنف
5 - الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
Unknown page
6 - طبيعة الدولة الحديثة
7 - المركزية واللامركزية
8 - اللامركزية والحكم الذاتي
9 - الحرب
10 - عمل الأفراد في الإصلاح
11 - عدم المساواة
12 - التربية
13 - العادات الدينية
14 - المعتقدات
15 - قواعد الأخلاق
Unknown page
الوسائل والغايات
الوسائل والغايات
تأليف
أولدس هكسلي
ترجمة
محمود محمود
الوسائل والغايات
بقلم محمود محمود
وهو بحث لأولدس هكسلي في طبيعة المثل العليا، وفي الوسائل التي تستخدم لتحقيقها، نقدمه إلى قراء العربية.
تعريف بالمؤلف
Unknown page
بقلم محمود محمود
مؤلف هذا الكتاب أولدس ليونارد هكسلي
Aldous Leonard Huxley
ولد في إنجلترا عام 1894م، ولا يزال حتى اليوم على قيد الحياة، لا يني عن الكتابة والتأليف ولا يفتر. وقد بدأ حياته الأدبية شاعرا، محتذيا في ذلك حذو أكثر الكتاب المعاصرين. ونشر شعره أول الأمر في مجلة هويلز
Wheels ، ثم جمعه في ديوان عنوانه «العجلة المحترقة»
The Burning Wheel
نشره عام 1916م. وفي هذه السنة عينها اشترك مع غيره من الأدباء في جمع ديوان «شعر أكسفورد»
Oxford Poetry . وقد بقي شاعرا طوال حياته، مخالفا بذلك الكثيرين من أدباء عصره، الذين انحرفوا من الشعر إلى النثر. وهو الآن شاعر ثائر على العالم الذي يقوم على الأسس العلمية، كما أنه ثائر على ازدياد نفوذ العلم في الحياة. وفي إحدى رواياته يتخيل أن الإنسان سوف يتناسل في المستقبل لا عن طريق الحب والتقاء الرجل بالمرأة، ولكن عن طريق العلم، وتكوين الأطفال بطريقة علمية داخل القوارير. وهكذا يصور لنا هكسلي العلم في صورة تشمئز منها النفوس وتقشعر الأبدان. ولعل هذا التطرف في الخيال هو الذي جذب إلى هكسلي كثيرا من القراء.
وهو حفيد توماس هنري هكسلي العالم الشهير الذي تلقى عليه العلم ه. ج. ولز، وبين الحفيد وجده شبه كبير في الصورة والقسمات. وينحدر هكسلي من ناحية أمه من أسرة توماس أرنولد ناظر مدرسة رجبي الشهير. ومن بين أقربائه من كان أستاذا، ومن كان عالما، أو شاعرا، أو روائيا. فلو تصورنا هذه المجموعة من الرجال الممتازين حول فراش مولده عام 1894م أدركنا ما في دمائه من مواهب. وقد استطاع بقلمه وذكائه أن يرتفع إلى سماء الشهرة.
وهو رجل طويل القامة نحيل القوام، حتى إن أطفال هامستد
Unknown page
Hampstead
كانوا يتجمعون حوله في شبابه الباكر ويهزءون به. غير أن طول قامته يخيل للناظر إليه أنه يعيش في عالم غير عالمنا، وأنه شامخ بعظمته. وما أبعد هذا عن الصواب؛ فإن هكسلي يتحدث إلى كل من يلقاه في سهولة وتواضع. وهو رجل شديد المرح، لا يتصف بالتزمت. وهو يستعمل في أحاديثه كثيرا من غريب اللفظ، لا لأنه يتكلف في الحديث، ولكن لأن الرجل غريب في تفكيره، وهو بحاجة إلى هذه الألفاظ يعبر بها عما يختلج في نفسه. وهو مولع بلقاء الشواذ من الناس، ومشاهدة الشاذ من المناظر؛ لأن به ميلا نحو الشذوذ.
وقد قاسى كثيرا وهو في طفولته من ضعف بصره، الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرا أعمى البصر. وقضى أياما كثيرة وحده في غرفة مظلمة لا يستطيع القراءة، ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يفكر فيها ويتأمل. وكان لهذه الفترة أثرها الكبير في كل ما كتب فيما بعد. وزال الخطر، واسترد الكاتب بصره، ولكنه لا يزال ضعيف النظر. وتعلم في أكسفورد، وفيها نشر بعض قصائده كما قدمت. وبعدما أتم دراسته في الجامعة اشتغل بالصحافة، ونشر عدة مقالات جمعها في كتابه «على الهامش»
On the Margin
ثم جمع بعضا من قصصه في كتاب سماه «السجن
Limbo »، وهو فاتحة عهد جديد في حياته الأدبية.
وبعد «السجن» مارس كتابة الرواية الطويلة، مستوحيا فيها الكاتب توماس بيكوك
Thomas
المعروف بسعة الاطلاع وبروح التهكم. وقد أخذ هكسلي عنه منهجه في الرواية؛ فلم يكن في يوم من الأيام روائيا بالمعنى الصحيح، إنما هو رجل واسع الاطلاع متهكم من الناس. وله قدرة عظيمة على القصة القصيرة، ولكنه حينما يحاول القصة الطويلة يتخذ من خياله الروائي وسيلة لبث آرائه.
وهو كاتب متنوع المواهب متنوع الموضوعات. يقول عنه أخوه جوليان
Unknown page
Julian
إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلة طويلة أو يطوف حول العالم. ولكنه - برغم اطلاعه الواسع - لا يقتصر عند حد النظر، بل يتعداه إلى العمل. يستمتع بالفكر كما يستمتع بالحس. فهو كثير الإدمان في القراءة، ولكنه رجل اجتماعي حي. وقل من الناس من يجمع مثله بين هاتين الصفتين.
وفي مجموعة قصصه التي جمعها تحت عنوان «السجن» وفي روايته «الكروم الأصفر»
Crome Yellow
تتبين قدرته العظيمة على السخرية من المتكبرين والأدعياء. ورواياته مليئة بالصور الإنسانية التي تتميز بالتهكم المرح، وقد خص بسخريته أبناء الطبقة الراقية، فأثار على نفسه سخطهم، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يكف عن الضحك منهم. وفي روايته «الكروم الأصفر» يعلن تلك المشكلة الكبرى التي حاول أن يحلها في كل ما كتب، جاء في هذه الرواية العبارة الآتية:
يدخل الرجل هذه الدنيا ومعه آراء مجهزة عن كل شيء، وله فلسفة يحاول أن يخضع لها الحياة. في حين أنه كان من الواجب أن يحيا المرء أولا، ثم يحاول بعد ذلك أن يلائم بين فلسفته وبين الحياة كما عرفها ... إن الحياة والحقائق والأشياء معقدة تعقيدا شديدا، مع أن الآراء - مهما تعسرت - تخدعنا ببساطتها. كل شيء غامض مضطرب في عالم الحياة، وكل شيء واضح في عالم الآراء. فهل من العجب بعد هذا أن يكون الرجل منا بائسا في حياته تعسا؟
ويتبين لنا من هذا أن هكسلي لا يحب أن يتشبث بالمبادئ والأصول وقواعد العلم، وإنما يقيم وزنا كبيرا للمعارف العملية وتجارب الحياة. كان هكسلي من رجال الفكر، وهو يفخر بذلك، ولكنه - برغم هذا - كان قادرا، بل ومتحمسا، على أن يستفيد من الخبرة والتجربة.
وصل إلى لندن بعدما أتم دراسته الجامعية ورأسه مفعم بالنظريات. ثم أحس بشيء من القلق، ولم يطمئن إلى نظرياته كل الاطمئنان، وأدرك أنها لا تعالج مشاكل الحياة الكبرى، فتتمم الرأي بالخبرة، والعلم بالتجربة. أدرك أن حجرة المعلم لها جمال البساطة ، ولكن بالأرض والسماء كنوزا غنية من المعارف لا تخضع لأي نظام فلسفي، ولا يحلم بها رجال الفكر. أدرك هكسلي بعد قدومه إلى لندن أن آراءه لا تقنعه كل الإقناع، واشتغل بالصحافة، ورأى عن كثب سلوك الرجال والنساء، وكيف تسير الأمور، فتعلم ألوف الأشياء التي لم يتطرق إليها منهج الجامعة. فجمع هكسلي بين الثقافة النظرية والخبرة العملية.
وهكسلي من أبناء الطبقة المتوسطة، لا هو بالغني الذي يتوفر له الفراغ، ولا بالمعدم الذي يشغل وقته كله بكسب القوت. وقد تأثر بهذا الوضع الاجتماعي في أدبه، فسخر من أبناء الطبقة الرفيعة، كما عبر عن تقززه واشمئزازه من الفقر المدقع، وإن كان يعطف على الفقراء. وانتهى هكسلي إلى شيء من اليأس، لا يرى نفعا في أي شيء.
ثم مل النقد والسخرية، وانصرف إلى التفكير في مستقبل العلم والعلماء، فكتب من بين ما كتب روايته «عالم جريء جديد»
Unknown page
Brave New World ، وفيها يعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس. يصور في هذا الكتاب مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، وهو يرى أن العالم الجديد - عالم العقاقير والآلات - تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال. في هذا العالم الجديد كل شيء آلي، وكل شيء مرسوم، أو محفوظ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم. ولعل هكسلي من بين الكتاب الأحياء جميعا الكاتب الوحيد الذي يستطيع أن يصور نتائج العلم بجرأة ووضوح، وهو في هذا الكتاب عالم وشاعر، يرسم لنا صورة مدهشة يتقزز منها القارئ كما تقزز منها الكاتب.
ونقدي لهذا الكتاب - بل ونقدي لأكثر ما كتب هكسلي - أنه سلبي؛ أي إن الكاتب يسخر ويتقزز دون أن يقدم لنا جديدا. فهو يهدم ولا يبني، إذا ذهب إلى السينما شاهد قصصا يقشعر لها بدنه، والجمهور المحتشد في دار السينما في عينيه قذر بليد في جسمه وعقله. آراؤهم سخيفة، وهم مخدوعون في أنفسهم أكبر خداع. وإن قرأ الكتب ألفاها سخيفة ومليئة بالآراء الوضيعة. وإن رحل إلى بلد جديد ألفى سكانه أغبياء بلهاء، لا يختلفون عن أولئك الذين خلفهم وراءه في أرض الوطن. وإن بحث في السياسة وجدها فاسدة، وفي الأخلاق ألفاها دنسة، وفي الروحية لم يجدها سوى مجرد «انتقال أفكار»
telepathy ، وفي مملكة الحيوان رآها تأكل وتتناسل وتتكاثر بغير فهم أو إدراك. وهكذا الأمر فيما يتعلق بالمدينة الفاضلة العلمية؛ فهي ليست إلا خيال فئة من العلماء تمتلئ رءوسهم بالتفكير المادي، وتخلو قلوبهم من شعلة الروح.
ولا يذكر لنا هكسلي في أكثر ما كتب ما مثله الأعلى الذي يرمي إليه. وهو يفعل ذلك إلى درجة ما في كتابه «عالم جريء جديد»؛ فهو هنا ينادي بالعودة إلى البساطة القديمة، وإلى الأمومة الصحيحة، إلى الأطفال ترعاهم أمهاتهم، وإلى الريف الذي لم يلوث بالعلم والمادة، ولم يتعرض هكسلي لبحث المثل العليا، وإصلاح عيوب المجتمع بصورة جدية إلا في كتابه هذا «الوسائل والغايات» الذي نقدمه اليوم إلى القارئ العربي.
ويتعجب هكسلي لكمية الجهل في العالم، ولضعف النظرة التركيبية عند المفكرين والباحثين. وهو يريد أن يعرف كل شيء، ويعتقد أنه لا يستطيع أن يصل إلى قرار في شأن من شئون الحياة إلا إن أدرك كل شيء؛ ولذا تراه لا يني عن الدرس والتحصيل. ويميل هكسلي إلى إخضاع المظاهر المختلفة إلى قاعدة واحدة شاملة، وقد يستطيع في مقتبل العمر أن يقود العالم إلى الخير والسعادة.
وفي كتابه هذا «الوسائل والغايات» عرض ونقد وإصلاح لوسائل الحكم والإدارة الحديثة، وللحروب، وفكرة المساواة، والتعليم والدين والمعتقدات والأخلاق. وقد عرضناه على القارئ العربي مسهبين حينا وموجزين أحيانا. وقد أوجزت بصفة خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب التي بحث فيها هكسلي المعتقدات والأخلاق؛ لأنه كان فيها هداما أكثر منه منشئا.
وإنا لنرجو أن يجد كل محب في الإصلاح الاجتماعي هداية في هذا الكتاب، والله ولي التوفيق.
الفصل الأول
أهداف الإنسانية وسبل تحقيقها
ليس من شك في أننا جميعا متفقون على الغرض الأسمى من مجهود الإنسان في المدنية الراهنة، وليس من شك في أن هذا الغرض هو عينه الذي سيطر على العقول خلال الثلاثين قرنا الماضية. وقد عبر الرسل والأنبياء والمصلحون جميعا عن هذا الغرض من عهد أشعيا في الزمان القديم إلى عهد كارل ماركس في العصر الحديث وليس بينهم من خلاف.
Unknown page
إن الإنسان ليتطلع إلى عصر ذهبي تسود فيه الحرية والسلام والعدل والحب الأخوي، عصر لا تسل فيه أمة على أمة سيفا ولا يقاتل الإنسان فيه أخاه الإنسان، عصر يؤدي فيه تطور كل أمة وتقدمها إلى تطور الأمم الأخرى جميعا وتقدمها، عصر يعرف الناس فيه جميعا ربهم حق المعرفة ويغمر عقولهم العلم بباريهم كما تغمر المياه البحار.
قلت إننا متفقون جميعا على الغرض الأسمى من مجهود البشرية. ولكن هل نحن متفقون على السبل والوسائل التي تؤدي إلى تحقيق هذا الغرض؟ لا وربي. هنا تختلف الآراء وتتناقض وتتضارب، وهي آراء فطيرة غير ناضجة. ومن عجب أن كل رأي من هذه الآراء - على تناقضها وتضاربها - له أتباع يؤمنون به ويتحمسون له، ويعتنقونه بغير بحث أو تمحيص، ويتعصبون له أشد التعصب.
فمن الناس في الوقت الحاضر من يعتقد أن الطريق الذهبي إلى عالم خير من عالمنا هذا هو طريق الإصلاح الاقتصادي. ومن الناس من يعتقد أن أيسر السبل إلى المدينة الفاضلة والحياة المثلى هو الانتصار الحربي وسيادة دولة معينة على باقي الدول. وآخرون يؤمنون بالثورات الداخلية المسلحة وتسلط الطبقة الممتازة من الشعب على غيرها من الطبقات، وفرض إرادتها وآرائها على الناس أجمعين. وهؤلاء وأولئك جميعا تشغل أذهانهم حين يفكرون في الإصلاح الجماعة الإنسانية وطرق تنظيمها تنظيما شاملا واسعا، وينسون الفرد أو يتناسونه كأنه حجر في بناء شامخ، إذا استقل فقد قيمته، وإذا انضم إلى غيره كان جديرا بالتقدير والنظر. ولكن هناك طائفة أخرى من المصلحين تنظر إلى الموضوع من زاوية أخرى. هؤلاء يعتقدون أن الإصلاح الاجتماعي لا يتحقق إلا بإصلاح الأفراد الذين منهم يتألف المجتمع، ومن بين هؤلاء الذين ينحون في التفكير هذا النحو من يعلق آماله على التربية ويضع فيها كل ثقته، ومنهم من يؤمن بالتحليل النفسي كوسيلة لإصلاح الفرد، ومنهم من يعتنق مذهب السلوكيين ويرى فيه سبيل الإصلاح. وهناك طائفة من الناس لا ترى خيرا إلا في العودة إلى الدين وقوة اليقين، ولكن أفراد هذه الطائفة يختلفون فيما بينهم على الدين الذي يجب أن يعتنقه الإنسان.
ومهما يكن من شيء فالكل مجمع على أن الإنسان لا بد أن يرقى، ولا بد أن يرتفع إلى المثل الأعلى. ولا بد لنا لزيادة الإيضاح من أن نقول كلمة في هذا الإنسان المثالي الكامل الذي تتطلع إليه الأنظار ويصبو إليه مريدو الإصلاح. إن لكل عصر وكل طبقة مثلها الأعلى. فالطبقات الحاكمة في بلاد اليونان كانت تقدس الرجل الكريم النبيل عالي النفس، الرجل «العالم المهذب». وكانوا في الهند قديما - كما كان نبلاء العصور الوسطى في أوروبا - يقدسون «الفارس». والمثل الأعلى للرجل في القرن السابع عشر هو «الرجل الأمين». أما في القرن الثامن عشر «فالفيلسوف» هو مثل الإنسانية الأعلى. والقرن التاسع عشر يقدس الرجل الرزين «الموقر». وفي مستهل القرن العشرين آمن الناس بالرجل «الحر»، ثم تطور الرأي العام واتجه إلى عبادة «الزعيم المؤله» الذي تسير وراءه الجماعة سير الأغنام. أما الطبقات الوضيعة الفقيرة فقد كانت خلال العصور جميعا تحلم بالرجل الحر السعيد صحيح البدن الذي لا يناله من غيره ظلم أو اعتساف.
هذه مثل مختلفة متعددة، وهي فوق هذا مضطربة تدعو من يتدبرها إلى الحيرة والارتباك، فأيها نختار لأنفسنا في هذا العصر الحديث؟ لا أظن أن واحدا من هذه المثل يلائم حياتنا الحاضرة؛ لأن كلا منها كان ثمرة لظروف اجتماعية معينة تختلف عن الظروف التي تحيط بنا اليوم.
بيد أنه ينبغي لنا ألا ننسى أن هناك أفرادا من ذوي العقول الممتازة الجبارة استطاعوا في فترات مختلفة من التاريخ أن يتحرروا من ظروف الزمان والمكان، وألا يقيدوا أنفسهم بملابسات عصورهم وبلادهم. وقد رسم كل فرد من هؤلاء الأفراد للإنسانية مثلا أعلى يختلف عن المثل السائد في عصره. ومما هو جدير بالاعتبار والنظر أن الآراء التي نادى بها هؤلاء الرجال جد متشابهة؛ وذلك لأن أهداف الإنسانية هي بعينها في كل زمان ومكان، وقد استطاع هؤلاء المصلحون أن يدركوها بما لديهم من بصيرة نافذة ، وأن يخطوا لتنفيذها خططا متقاربة متشابهة. وقد أمكن لهؤلاء الأفذاذ أن يتحرروا من تقاليد زمانهم لأنهم بدءوا بأنفسهم فحرروا عقولهم من التحيز والهوى، واخترقوا ببصائرهم حجب الحياة المعاصرة، ونفذوا بها إلى الحقائق الأبدية العليا. والواقع أن كلا منا لديه بصيص من هذه البصيرة الوقادة، ولكنه لا يستطيع أن يفيد منها أو يستغلها إلا إذا ترفع عن التحيز لرأي بعينه أو عقيدة بذاتها. غير أنه قل من الناس، بل قل من الفلاسفة الحاذقين، من نجح في تحرير نفسه كل التحرر من سجن عصره وجو بلده الخانق. وربما كان أقرب الناس إلى التحرر العقلي جماعة المتصوفين ومؤسسو العقائد والأديان؛ أولئك الذين يجمعون بين الفضيلة ونفاذ البصيرة.
وقد أجمع هؤلاء الرجال الأحرار - على كر الأجيال - على الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الفرد كي يصبح إنسانا مثاليا. إن الرجل الذي يكبل نفسه بتقاليد عصره قد يعجب بهذا المثل حينا وبذاك حينا آخر، ولكن أحرار الرجال في كل زمان ومكان لهم رأي واحد يعتنقونه ولسان واحد ينطقون به.
ومن العسير أن نجد كلمة واحدة تصف وصفا كاملا هذا الرجل المثالي كما يتصوره الفلاسفة الأحرار والمتصوفة وواضعو العقائد والأديان. وربما كانت خير كلمة تعبر عن مجموع صفات مثل هذا الرجل هي «المتحرر». الرجل المثالي هو الرجل المتحرر، المتحرر من أحاسيسه البدنية ومن شهواته، المتحرر من الولع بالنفوذ وحب الامتلاك، المتحرر من الغضب والبغضاء، المتحرر من العشق والهيام، المتحرر من حب الثراء وبعد الصيت والشغف بعلو المركز الاجتماعي، بل المتحرر من قيود العلم والفن وحب الإنسانية. أجل، المتحرر حتى من هذه الصفات التي نحسبها حسنة مرغوبة؛ لأنها جميعا صفات لا تشبع النفس المتعطشة إلى الخير المحض. ويرى الفلاسفة وواضعو الأديان أن التحرر من الذات ومن شئون الدنيا يؤدي إلى الاتصال بحقيقة عليا أعظم من الذات وأكثر منها أهمية، بل أعظم وأكثر أهمية من خير ما تهبه لنا هذه الدنيا. ولا نحب أن نفصل القول في هذه الحقيقة العليا في هذا الموضع من الكتاب. إنما نحب أن نشير إلى أن فكرة التحرر تقتضينا أن نعترف بوجود حقيقة روحانية عليا تكمن خلف مظاهر الدنيا جميعا وتهيمن على كل الوجود.
وقد يظن القارئ أن «المتحرر» يقف من الحياة موقفا سلبيا، لا يتحرك ولا يعمل، ولكن الواقع غير ذلك؛ إذ إن المرء إن أراد أن يتحرر كان من واجبه أن يتحلى بالفضائل جميعا، بل وأن يمارسها عملا. عليه أن يتصف بالتسامح؛ لأن الغضب والحقد يعوقان النفس عن أن تتصل بما هو أعلى من النفس وأرقى. وعليه كذلك أن يتصف بالشجاعة؛ لأن الخائف ينصرف إلى التفكير في سلامة البدن. والتحرر - فوق ذلك - يربي في المرء قوة الذكاء وعادة الكرم وعدم الاكتراث أو المبالاة. ومن ثم ترى أن التحرر يفرض على من يتحلى به أن يقف من هذه الدنيا موقفا إيجابيا، ينزل إلى ميدان الحياة ولا يحجم عن خوض معركتها.
والتحرر بهذا المعنى معروف منذ ثلاثة آلاف عام. فهو من صميم الهندوسية والبوذية، كما أن لاوتسو الفيلسوف الصيني عرفه وعبر عنه أحسن تعبير. وبشر به الرواقيون في اليونان. وليس إنجيل المسيح سوى إنجيل التحرر من أعراض هذه الدنيا الزائلة حتى يتسنى للمسيحي أن يتصل بربه وبارئه. وقد نادى الفلاسفة المسيحيون بضرورة التحرر، فقال جون تولز
Unknown page
John Tauler : «إن التحرر طهارة تامة، وانفصال كامل عن شئون الدنيا يؤدي إلى البحث عن الله حتى يصبح المرء متحدا بربه أو متصلا به كل الاتصال.» ويقول فيلسوف آخر: «علينا أن نمر بالهموم كألا وجود لها، لا عن خمول أو كسل، ولكن عن حرية عقلية تدفعنا إلى عدم التمادي في حب مخلوق ما إلى حد التطرف.» وهناك أقوال أخرى كثيرة في هذا المعنى لسنا نرى داعيا لذكرها. كما أن علماء الأخلاق من غير رجال المسيحية يؤكدون ضرورة التحرر بدرجة لا تقل عما يحب المسيحيون. فالفيلسوف اسبينوزا يبشر به، وهو يقصد ب «العبودية الإنسانية» حالة المرء الذي يخضع لرغباته وعواطفه وأفكاره ويسمح لها أن تتحكم فيه.
والرجل المتحرر هو الرجل الذي يضع حدا للألم - على حد تعبير بوذا - فهو لا يتألم ولا يوقع بغيره الألم. ذلك هو الرجل السعيد، وذلك هو الرجل الطيب.
غير أن من بين رجال الأخلاق قلة تنكر قيمة التحرر. من هؤلاء نيتشه، ولعله أكثرهم شهرة وأبعدهم صيتا، ومنهم ماركيز دي ساد
Marquis de sade . ولكن هؤلاء الرجال من غير شك فرائس لأهوائهم ولظروف اجتماعية معينة أحاطت بحياتهم. إنهم كانوا لا يقدرون على التحرر فلم يستطيعوا التبشير به. كانوا هم أنفسهم أرقاء فلم يفهموا مزية الحرية. وهم في هذا شواذ من غير شك. وكذلك كان مكيافلي وهجل، وأمثالهما من فلاسفة الفاشستية والاشتراكية الدكتاتورية المعاصرين، فرائس لظروف اجتماعية معينة. وكلهم شواذ في عالم الفكر السياسي.
هذه هي المثل العليا للفرد والمجتمع، المثل التي اتخذت صيغتها منذ نحو ثلاثة آلاف عام في آسيا، والتي ما زال يتعلق بها الكثيرون حتى وقتنا الحاضر. ولكن أكثر شعوب العالم اليوم - رغم إعجابها بهذه المثل - أبعد ما تكون عن اتباعها أو الاهتداء بنورها.
يقول الدكتور مارت
Marett : «إن التقدم الحق هو أن يحب الناس بعضهم بعضا. أما جميع أنواع التقدم الأخرى فهي ثانوية.» وقد تقدمت الإنسانية خلال العصور التاريخية تقدما حقا، ولكن في فترات متباعدة وبغير نظام، وكان التقدم عظيما حقا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويحب أبناء القرن العشرين بعضهم بعضا في وجوه متعددة، ولكنهم في الأمور السياسية لا يعرفون تبادل الحب والتسامح؛ فرجال الحكم كثيرا ما يحيدون عن جادة العدل والاتزان. بل إن هناك من أصحاب النظريات من يبرر قسوة الدولة على الشعب، ولا يرى غضاضة في ضرب الناس بالسياط، أو في اضطهاد الأقليات أو شن الحروب.
ويترتب على تبادل البغضاء بين الناس انحطاط في نظرتهم إلى الحق؛ فالدكتاتوريون السياسيون والاقتصاديون في العصر الحاضر يخترعون الأكاذيب بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. وهم يبثون أكثر هذه الأكاذيب في الدعاية المنظمة التي تنفث الكراهية والغرور في صدور الناس وتمهد العقول لقبول فكرة الحرب والقتال.
ويجب أن نذكر أن تبادل الحب لا يمكن أن يتمكن من القلوب إلا إذا عاد الناس إلى الدين الصحيح والعقيدة في إله واحد . ولكن العامة اليوم تعبد آلهة متعددة؛ فهي تعبد الأمة أو تعبد طبقة معينة من الناس أو قد تقدس الفرد.
هذا هو العالم الذي نعيش فيه. إذا حكمنا عليه بمعيار التقدم الحق ألفيناه ينحدر في سبيل التأخر والانحطاط. إننا لا ننكر أن التقدم العلمي والفني يسير بخطى حثيثة، ولكن تبادل الحب بين القلوب لا يسير مع هذا التقدم جنبا إلى جنب؛ ولذا فليس من وراء التقدم العلمي والفني فائدة، بل إنه من بواعث التأخر والتدهور في كرم النفوس وطيب الأخلاق.
Unknown page
فكيف لنا إذا أن نتحاشى هذا التأخر الخلقي الذي يملك علينا نفوسنا والذي تقع علينا جميعا تبعته؟ كيف نحول الجماعة الراهنة إلى الجماعة المثالية التي ارتآها لنا الأنبياء والمصلحون؟ كيف يتحول الرجل الطامع إلى الرجل المتحرر الذي يستطيع وحده أن يخلق جماعة خيرا من الجماعة التي نعيش فيها؟ هذه هي الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها في هذا الكتاب.
وفي خلال الإجابة عنها سأجدني مضطرا إلى علاج موضوعات كثيرة متنوعة ليس عنها من محيص؛ لأن مناحي النشاط الإنساني معقدة، والدوافع الإنسانية مختلطة كل الاختلاط. وكثير من الكتاب لا يعرفون حق المعرفة هذا التنوع والتعقيد في آراء الناس وأغراضهم وأعمالهم. إنهم يبسطون المسألة أكثر مما ينبغي؛ ومن ثم تراهم يقدمون لها حلا غاية في البساطة والسذاجة. ومن أجل هذا رأيت من الضروري أن أبدأ موضوعات الكتاب الأساسية بمناقشة ما نعنيه من كلمة «التفسير». ماذا نعني حينما نقول إننا فسرنا موقفا معقدا؟ ماذا نعني حينما نتحدث عن حادث معين كأنه سبب في حادث آخر؟ إننا إذا لم نعرف الجواب عن هذه الأسئلة كانت نظرتنا إلى طبيعة الاضطراب الاجتماعي وطرق علاجه قاصرة ناقصة.
ومن البحث في معنى التفسير يتبين لنا أن المشكلة الإنسانية لا يمكن أن ترجع إلى سبب واحد، بل إن لها لأسبابا متعددة. وينجم عن ذلك أن أمراض المجتمع لا يمكن أن يكون لها علاج واحد شامل. يجب أن نبحث عن علاج الاضطراب الاجتماعي في ميادين متعددة في وقت واحد . وفي الفصول التالية من الكتاب سأبحث في هذه الميادين، بادئا بالسياسي منها والاقتصادي ثم معقبا بالسلوك الشخصي. وسوف أقترح في كل حالة أنواع الإصلاح التي يمكن إدخالها إذا كان لا بد للناس من تحقيق الأغراض السامية التي يعترفون جميعا أنهم يبتغونها. ويضطرني هذا إلى البحث في علاقة الوسائل بالغايات. وسأبين في مواضع كثيرة من الكتاب أن الأغراض الطيبة لا يمكن تحقيقها إلا بالوسائل الطيبة وحدها، ولا يمكن تحقيقها بالوسائل الخبيثة. إن الغاية لا تبرر الوسيلة؛ وذلك لأن الوسائل التي نستخدمها تحدد طبيعة الغاية التي تنجم عنها.
الفصول التالية من الفصل الثاني إلى الفصل الثاني عشر تؤلف كتابا في الإصلاح، وهي تتضمن علاجا سياسيا، وآخر اقتصاديا، وآخر تعليميا، واقتراحا لتنظيم الصناعات والجماعات، وغير ذلك من ضروب الإصلاح. وهي تتضمن كذلك وصفا للطرق التي يجب أن نتحاشاها كي نبلغ ما نصبو إليه من أهداف.
وكتاب الإصلاح هذا يبلغ غايته في القسم الأخير منه، وهو القسم الذي أناقش فيه العلاقة الكائنة بين نظريات المصلحين وأعمالهم من ناحية وطبيعة العالم من ناحية أخرى. أي نوع من أنواع العوالم عالمنا هذا الذي يطمح الناس فيه إلى الخير ولكنهم لا يحققون إلا الشر في كثير من الأحيان؟ ما معنى هذا؟ وأين يقع الإنسان من هذا العالم؟ وما العلاقة بين مثله العليا ومعاييره ومقاييسه وبين العالم الفسيح الواسع؟ سأبحث في هذه المسائل في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب. وقد يرى الرجل العملي أن هذه المباحث لا محل لها هنا، ولكنها في الواقع ليست بعيدة عما نرمي إليه من هذا الكتاب. إننا في ضوء معتقداتنا عن طبيعة الحقيقة نصوغ آراءنا في الصواب والخطأ. وفي ضوء آرائنا في الصواب والخطأ نوجه سلوكنا لا في حياتنا الخاصة فحسب، ولكن كذلك في عالم السياسة والاقتصاد. فلسنا نرى إذا أن معتقداتنا الميتافيزيقية لا محل لها هنا. بل على العكس من ذلك هذه المعتقدات هي العامل البعيد الذي يحدد لنا جميع أعمالنا. ولذا فقد بدا لي من الضروري أن أختم كتابي هذا الذي أقترح فيه علاجا عمليا لأمراض المجتمع ببحث في المبادئ الأساسية والمعتقدات؛ فالفصول الثلاثة الأخيرة، قد تكون أكثر فصول الكتاب خطرا، بل إنها من ناحية عملية بحتة قد تكون أهم ما فيه.
الفصل الثاني
معنى التفسير
أحب في مستهل هذا الفصل أن أكرر القول بأننا جميعا متفقون على الفرض الأسمى للحياة من قديم الزمن، وليس بيننا من خلاف في نوع المجتمع الذي نحب أن نكون أعضاء فيه، وليس بيننا من خلاف في المثل الأعلى للرجل أو المرأة الذي نحب أن نحتذيه. ولكننا حين نحاول أن نرسم الخطة التي تعيننا على بلاغ الهدف تتضارب آراؤنا وتتناقض؛ فلكل فرد دواؤه الخاص الذي يكفل به علاج أمراض الإنسانية جميعا، وكثيرا ما تشتد الحماسة لهذا الدواء الناجع، بل كثيرا ما تتطاحن الأمم في سبيله.
وإنا لنتساءل: لماذا يتشبث الناس بالعقائد التي يخترعونها ويعتنقونها؟ ولماذا يمقتون أشد المقت غيرهم ممن يعتنقون عقائد أخرى؟ والجواب على ذلك سهل ميسور؛ ذلك أن الثقة البالغة تريح الفؤاد وتنزل الطمأنينة بالنفس، كما أن الكراهية لها فائدة كبيرة في إذكاء العاطفة. بيد أنه ليس من السهل أن نفهم لماذا تنشأ أمثال هذه العقائد التي يتعصب لها معتنقوها ولا يقبلون سواها. ولماذا يراها فريق من الناس صادقة ويتحمس لها أشد الحماسة وتسيغها عقولهم حتى حينما يكون العقل غير متأثر بالعاطفة، ويراها فريق آخر كاذبة لا تشبع ولا تقنع؟
يجدر بنا هنا في هذا المقام أن نخصص بضعة أسطر لمعنى التفسير: ما معناه؟ ومتى ترضى به العقول وتقنع؟
Unknown page
إن العقل الإنساني يميل بطبعه ميلا شديدا إلى أن يجمع بين الشتيت المختلف في وحدة مؤتلفة. إن ما تقع عليه العين يبدو لحواسنا لأول وهلة متعددا متنوعا. غير أن العقل البشري الذي يتعطش دائما لتفسير الغامض وتوضيحه يحاول أن يجعل من الاختلاف ائتلافا. والفكرة التي ترمي إلى توحيد الأشتات، أو التي تصمد لتقلبات الزمان تلقى في نفوسنا رواجا. إن النفس لترتاح إلى الفكرة التي تخضع المتنوعات التي لا ترتبط في الظاهر برباط معقول إلى وحدة معقولة. وإلى هذه الحقيقة السيكولوجية الأساسية ترجع نشأة العلم والفلسفة وعلوم الدين. إننا إذا لم نحاول دائما أن نوجد من الاختلاف ائتلافا تعسر علينا التفكير كل العسر، وبات العالم فوضى لا نظام له، وأضحى سلسلة مفككة من الظواهر التي لا يمسكها رباط.
غير أنا كثيرا ما نغالي حينما نحاول أن نجمع الأشتات في وحدة مؤتلفة. وأكثر الناس ميلا إلى المبالغة في ذلك المفكرون الذين يعملون في ميادين لا تخضع لقواعد العلوم الطبيعية المنظمة. إن علماء الطبيعة يعترفون بأن الكون لا تزال به بقية من الظواهر المختلفة التي لم يستطع العقل حتى الآن أن يكتشف ما بينها من روابط، ولم يتمكن بعد من إخضاعها لوحدة مؤتلفة أو لحكم العقل والمنطق. أما في العلوم غير المنظمة، فالأمر ليس كذلك؛ إذ الاتجاه الأول فيها هو التوحيد وإيجاد الفكرة العامة. ويترتب على ذلك أن يلجأ الباحثون في هذه العلوم إلى المبالغة في التبسيط.
ومن ثم ترى أن الإنسان ينزع أحيانا نحو إدراك الوحدة بين الظواهر المختلفة، كما أنه في أحيان أخرى يرى ما بين هذه الظواهر من خلاف؛ فهو مثلا يرى أن الطباشير والجبن كلاهما مركب من إلكترونات، وكلاهما مظهر مادي وهمي للحقيقة المطلقة الخفية. ومثل هذه النظرة التي ترى من وراء الاختلاف ائتلافا قد تشبع رغبتنا في حب تفسير الظواهر. غير أن لنا جسوما كما أن لنا عقولا، وهذه الجسوم تجوع فتشتهي الجبن ولا تشتهي الطباشير، وحينئذ ندرك ما بينهما من خلاف. وما دمنا حيوانات تجوع وتعطش فلا مناص لنا من أن نعرف أن هناك فرقا ما بين هو نافع للصحة وما هو ضار بها، وقد يكون إخضاع هذا وذاك لوحدة مؤتلفة صحيحا عند الدراسة، ولكنه في غرفة الطعام لا يجدي نفعا.
إن زيادة تبسيط الأمور فيما يشبه ظاهرة الطباشير والجبن سرعان ما تؤدي إلى نتائج خطرة قاتلة؛ ولذا فإننا قلما نلجأ إلى مثل هذه المبالغة في التبسيط. ولكن هناك ظواهر أخرى لا تعود زيادة التبسيط فيها علينا بضرر، وليس الخطأ فيها جسيما أو مباشرا، بل إن مرتكبي الخطأ أنفسهم لا يحسون بالضرر؛ وذلك لأن الضرر الناشئ لا يحرمهم من خير هم بالفعل مستمتعون به، وإنما يمنع عنهم خيرا كانوا ينالونه لولا ارتكاب هذا الخطأ. خذ مثلا لذلك هذا التبسيط الزائد للحقائق الذي شاع في حين من الأحيان والذي كان يجعل الله مسئولا عن كل ظاهرة لا يمكننا أن نفهمها فهما كاملا. إن فريقا من الناس يغض الطرف عن الأسباب الثانوية ويرد كل شيء إلى الخالق. وهذا التبسيط الشديد في التعليل، وهذا التأليف الشامل بين المختلفات لا ينجم عنه أثر سيئ مباشر. غير أن أولئك الذين يرون سببا واحدا وراء جميع المظاهر لن يكونوا من رجال العلم الباحثين، ولكنهم لا يعرفون ما هو العلم الحق؛ ولذا فهم لا يحسون بأنهم يفقدون شيئا.
إن رد المظاهر جميعا إلى سبب واحد قد بات - في بلاد الغرب على الأقل - أمرا باليا عتيقا ولم يعد من الآراء الحديثة. إن الغربيين لا يحاولون اليوم أن يردوا كل شيء إلى الله ثم يقفون عند هذا الحد من التعليل والتفسير. إنما هم يحاولون أن يخضعوا المختلفات المعقدة التي تحيط بهم إلى نظريات جديدة. فهم مثلا حين يبحثون في الجماعة أو في الأفراد لا يقولون هذه هي إرادة الله، وبذا يبسطون كل أمر، وإنما هم يردون المظاهر إلى أسباب اقتصادية أو جنسية أو إلى عقدة من عقد النقص. وهذه النظريات هي كذلك تبسيط زائد للأمور، والضرر منها ليس كذلك مباشرا أو واضحا. إنما العقوبة التي يقاسيها الغربيون بسبب انتحائهم هذه الناحية من التفكير هي عجزهم عن تحقيق مثلهم العليا وعن الفرار من الحمأة الاجتماعية السيكولوجية التي يتمرغون فيها. إننا لن ولا نستطيع أن نعالج مشاكلنا الإنسانية علاجا نافعا حتى نتبع سبيل العلماء الطبيعيين، ونخفف من حدة رغبتنا في التبسيط العقلي، وذلك بأن نعترف بأن الأشياء والحوادث ما زالت فيها بقية معينة لا تخضع لتعليل العقل أو للتوحيد والائتلاف. إننا لن نستطيع أن نحول عصرنا هذا من عصر حديدي إلى آخر ذهبي حتى نتخلى عن أطماعنا في إيجاد سبب واحد لجميع الأمراض التي نشكو، وحتى نؤمن بوجود أسباب كثيرة تعمل كلها في آن واحد، وحتى نعتقد في وجود علاقات معقدة وفي تعداد المؤثرات والآثار.
وقد رأينا فيما سلف أن هناك آراء كثيرة متنوعة يتحمس لها معتنقوها أشد الحماسة ويتعصبون لها أشد التعصب، وهي آراء تتعلق بخير السبل التي تؤدي بنا إلى الهدف المقصود. ومن الخير أن نبحث هذه الآراء جميعا؛ إذ إننا إذا رفعنا إلى حد التقديس واحدا منها ارتكبنا خطأ شدة التبسيط الذي أشرنا إليه.
وفي الصفحات المقبلة سأتعرض لبعض الوسائل التي يجب أن تستخدم والتي يجب أن تستخدم كلها في آن واحد لو كنا نريد أن نحقق الغاية التي رسمها المصلحون والفلاسفة للبشر، وتلك الغاية هي أن نعيش في جماعة حرة عادلة تصلح لأن يكون الرجل المتحرر أو المرأة المتحررة عضوا فيها، وهي في الوقت نفسه جماعة لا يستطيع تنظيمها غير المتحررين من الرجال والنساء.
الفصل الثالث
الإصلاح الاجتماعي الشامل
هناك فريق من المفكرين لهم آراء طريفة جريئة نسميهم - أو يسمون أنفسهم - «المجددين» يرى هؤلاء المفكرون أن الغايات التي نصبو إليها جميعا يمكن أن تتحقق بمعالجة بناء المجتمع. إنهم لا يبشرون «بتغيير نفوس» الأفراد، وإنما ينادون بإنجاز إصلاح شامل معين، في السياسة وفي الاقتصاد بنوع خاص.
Unknown page
إن الإصلاح السياسي والاجتماعي فرع مما نستطيع أن نسميه «الأخلاق الواقية». والغرض من وضع قواعد هذه الأخلاق هو أن نخلق ظروفا اجتماعية معينة من طبيعتها أن تهيئ للفرد فرصة تمكنه من أن يسلك سلوكا طيبا، وتحرره من كل القيود. وكلنا يعلم أن الرجل المسيحي كثيرا ما يدعو الله ألا يدفع به في سبيل الإغراء. والمصلح السياسي والاقتصادي يرمي بإصلاحه إلى إجابة هذا الدعاء، إنه يعتقد أن البيئة التي يعيش فيها الفرد يمكن أن تنظم بحيث تمتنع جميع ضروب الإغراء، فيعيش الفرد في المجتمع حرا طاهر الذيل لا عن إرادة وقصد، بل لأن الفرص التي تهيئ له الخضوع لشهواته لم تسنح ولم تتيسر له. وليس من شك في أن نظرية المصلحين السياسيين والاقتصاديين هذه فيها من الحق الشيء الكثير. ففي إنجلترا اليوم قلت جرائم القتل كثيرا بالنسبة لعددها في الزمان القديم. وهذه القلة ترجع إلى عدد من الإصلاحات الاجتماعية الشاملة؛ ترجع إلى تشريع يقيد بيع السلاح ويمنع حمله، كما ترجع إلى نظام القضاء الذي يحكم على القاتل المذنب بالقتل وينتقم للضحايا الأبرياء. ثم إنا - فوق ذلك - ينبغي ألا ننسى التغير الذي طرأ على آداب المعاشرة؛ ذلك التغير الذي يجعلنا اليوم نستخف بالمبارزة التي كانت فيما مضى سببا في موت الكثيرين من المبارزين؛ فنحن اليوم لا ندافع عن الشرف الشخصي بالقتال كما كنا نفعل في العصور الوسطى. ويكفي هذا القدر من الأمثلة لكي نبين للقارئ أننا نستطيع عن طريق الإصلاح الاجتماعي أن نغير سلوك الفرد، وأن نخفف من دواعي الإجرام (وفي موضع آخر من الكتاب سأتكلم على بواعث الإجرام الحديثة التي تنشأ عن الإصلاح). وإذا ما اختفت من المجتمع بواعث الإجرام مدة طويلة من الزمن تعود الناس عادات جديدة وتخلقوا بخلق جديد. ومن طبيعة المرء أن ينظر إلى الجريمة التي لا ينساق إليها انسياقا نظرة نفور وتقزز، فلا يفكر البتة في ارتكابها، وهو حينئذ ينسب إلى نفسه فضل النزاهة الخلقية وهي في الواقع من خلق الظروف. خذ مثالا لذلك ميل الإنسان إلى القسوة: كانت كثرة الناس في إنجلترا لا تتورع عن القسوة على الحيوان وعلى الأطفال، فقامت - في وجه معارضة قوية - أقلية صغيرة من المصلحين ذوي القلوب الكبيرة تنادي بضرورة الرأفة بالإنسان والحيوان، وانتهى الأمر بوضع تشريع يعاقب كل من يخالف ذلك. وأزيلت البواعث التي كانت تدفع الناس إلى غلظة القلب فألف الناس الرحمة، وتطرقت الرأفة إلى قلوبهم وأحست النفوس بالعطف المتبادل. ومن ثم ترى أن التشريع قد أجدى في خلق عادة إنسانية جديدة. والإنجليز اليوم ينفرون أشد النفور من مشاهد القسوة، وقل أن ترى فيهم رجلا فظا غليظ القلب. وقد يظن بعض الناس أنهم بطبعهم رقاق القلوب يحبون غيرهم من الناس وليسوا بحاجة إلى تشريع يحرم عليهم القسوة ، ولكنهم في ظنهم مخطئون. فإنهم حين تتغير الظروف وتسنح لهم الفرص تغلظ قلوبهم وتقسو نفوسهم، وبخاصة حينما تكون القسوة وسيلة لغرض نبيل. ومن ثم كان من الضروري أن نبقي على عادات التأدب والاحتشام القديمة بغير مساس. ومن ثم كذلك كان من الضروري أن نتجنب الحرب - سواء كانت دولية أو أهلية - لأن الحرب حين تشتعل في نطاق واسع لا يقتصر ضررها على إزهاق الأرواح، إنما هي كذلك تهز كيان العادات المألوفة والقانون القائم والثقة المتبادلة بين الناس وآداب اللياقة التي تصدر عن المرء من تلقاء نفسها، والعطف المتبادل بين الأفراد، وحينئذ تصبح الحياة الاجتماعية شديدة لا تحتمل. والإنجليز على الجملة، شعب شفيق طيب المزاج. ولا يرجع هذا إلى أن جذور الفضيلة تمتد في نفوسهم أعمق مما تمتد في نفوس غيرهم من الشعوب، وإنما يرجع إلى أن آخر الغزوات الناجحة التي وجهت إلى جزيرتهم كانت في عام 1066 وإلى أن آخر حروبهم الأهلية حدثت في عام 1688، وقد كانت حربا هينة روعيت فيها أصول اللياقة والأدب إلى حد كبير. وكان من نتيجة ذلك أن فترت في نفوس الإنجليز الرغبة في القسوة من عهد بعيد؛ وذلك لانعدام الظروف التي تبعثها. وينبغي أن نلاحظ فوق ذلك أن الإنجليزي شفيق في بلده فحسب، وهو كذلك شفيق في تلك الأجزاء من الإمبراطورية التي انعدمت فيها الحروب أو أشباح الحروب فترة طويلة من الزمن. ولكنه في الهند على غير ذلك، والهنود لا يرون في حكامهم شفقة ولا رحمة. والواقع أن المقاييس الخلقية عند الإنجليز تتحول تحولا شديدا عندما ينتقلون من جو الهدوء والسلام الذي يخيم على بلادهم إلى جو الهند، وهي تلك البلاد التي فتحوها واحتلوها احتلالا حربيا. فهم يفعلون في الهند ما لا يحلمون بفعله في بلادهم، وقد كانت مذبحة آمر تسار من أشنع ما يسجله التاريخ.
إن انتفاء الحروب الخارجية والأهلية يبعث في القلوب رحمة ورأفة لا تبعثها فيها النصائح الخلقية والدروس الدينية، إن الحرب تبعث على الحرب، والعنف يولد العنف. فإسبانيا مثلا التي ألفت ألا يفتر فيها النضال الداخلي أكثر تعرضا للنزاع الداخلي من بلد تأصلت فيه عادة التعاون السلمي من زمن بعيد.
ومما تقدم نرى أن معالجة النظام الاجتماعي علاجا شاملا قد يباعد كثيرا بين الفرد وأسباب الإجرام، تلك الأسباب التي كان من المستحيل على الفرد أن يقاومها لولا هذا الإصلاح الاجتماعي. ولكن الإصلاح الاجتماعي ليس خيرا كله، وينبغي ألا ننسى أنه قد ينقذ الناس من مجموعة من الشرور ليسوقهم إلى شر جديد. وكثيرا ما يحول الإصلاح الاجتماعي الميول الشريرة عند الفرد من اتجاه قديم إلى اتجاه آخر جديد. إننا كثيرا ما نسد ثغرة قائمة لنفتح غيرها، والشر كثيرا ما يبقى في النفوس، إن عارضته من ناحية وجد له مخرجا من ناحية أخرى، وتستطيع أن تتبع هذا الميل الآثم عند الإنسان في كل مدنية من مدنيات العالم، وتستطيع أن تلمح وراء كل ثقافة من الثقافات عيبا من العيوب، وتستطيع أن تلمس ميل الإنسان نحو الشر في صورة من الصور في كل موقف من مواقف السياسة الدولية. خذ على سبيل المثال التاريخ الحديث لسبب أساسي من أسباب الشر عند الإنسان، وأقصد به شهوة السلطان، والرغبة الشديدة في النجاح الشخصي والسيطرة. نستطيع هنا أن نصف الانتقال من ظروف العصور الوسطى إلى ظروف العصر الحديث كأنه انتقال من العنف إلى الدهاء، ومن النظر إلى السلطان على أنه الشجاعة الحربية وحق الأرستقراطية المقدس إلى النظر إليه على أنه التفوق المالي، الداء واحد ولكنه يظهر في صور مختلفة. في العصر السابق كان السيف وامتياز الطبقة التي ينتمي إليها الفرد دليل السيطرة وأداتها في آن واحد، وقد حل المال في العصر الحديث محل السيف وامتياز الطبقات. ومنذ عهد قريب جدا أخذت رغبة السيطرة من جديد صورتها في العصور الوسطى؛ فقد عادت الدول الفاشستية إلى الحكم بالسيف وبالحق المقدس، ولا ننكر أن «الحق» هنا هو حق الزعماء الذين رفعوا أنفسهم إلى مكانة الزعامة، وليس حق الأرستقراطية الموروث، ولكنه حق مقدس على كل حال؛ فموسوليني لا يخطئ، وهتلر رسول من عند الله، وفي روسيا الجديدة الموحدة قام نظام رأسمالية الدولة، واختفت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، واستحال على الأفراد أن يستخدموا المال وسيلة للسيطرة على زملائهم، وليس معنى هذا أن شهوة السلطان قد أقمعت، بل لقد تحولت من اتجاه إلى آخر؛ ففي نظام روسيا الجديد أصبح المركز السياسي هو دليل السلطان وأداته، لا يصبو الرجال إلى الثراء، ولكنهم يتطلعون إلى المناصب، وما أشد اقتتالهم وتناحرهم على هذه المناصب. وقد ظهر التنافس الشديد على السلطان أثناء محاكمات الخيانة عامي 1936 و1937، في الروسيا - وكذلك إلى حد ما في البلدان الدكتاتورية الأخرى - يشبه الموقف كل الشبه نظام رجال الدين؛ حيث يكون المركز أكثر من المال أهمية. إن الاشتراكيين لم يتخلصوا من رغبة الطموح ولكنه ليس الطموح إلى جمع المال والثراء. إن شهوة السلطان لديهم منزهة عن المادة فهي شهوة خالصة.
من هذا نفهم معنى هذه العبارة: «إنك لا تستطيع أن تغير الطبيعة البشرية»، غير أن علماء الإنسان ينبهوننا إلى أن طبيعة الإنسانية - برغم أنها لا تتغير - تتخذ صورا جديدة غاية في الغرابة والطرافة. ومن الممكن أن ننظم مجتمعا لا تجد فيه شهوة السلطان مخرجا سهلا؛ فأفراد قبائل زوني في الهند مثلا لا يأبهون بالشهرة أو جمع الثروة أو بالنفوذ أو المركز الاجتماعي كما نفعل نحن أبناء المدنية الحاضرة. النجاح في الحياة عندنا مقدس معبود، ولكن هذه القبائل الهندية لا تكترث له أو تعيره التفاتا، وقل بين أعضائها من يفكر في الارتفاع على أقرانه، فإن حاول أحدهم أن يفعل نكلوا به وأوقعوا به أشد العقاب، ليس بين أبناء هذه القبائل من هو شبيه بهتلر أو كرجرز أو نابليون أو كالفن، ولا تتاح الفرصة لأحدهم لكي يتسلط على غيره. في هذه المجتمعات الهندية الهادئة المتزنة لا تجد المطامع الشخصية سبيلا إلى الظهور، إنهم لا يطمعون في النفوذ السياسي أو في جمع المال أو في السلطة الدينية أو الحربية مثلما نفعل نحن الذين نعد أنفسنا حملة لواء المدنية الحديثة.
غير أنا يجب أن نذكر أن أبناء المجتمع الصناعي الحديث في بلاد الغرب لا يستطيعون بأية حال أن يحذوا حذو قبائل الزوني أو ما شابهها من قبائل الهند؛ وذلك لأن ثقافة هذه القبائل تختلف عن ثقافتنا كل الاختلاف، بل إنا - إن استطعنا أن نحاكي هذه القبائل - لا نحب أن نسير سيرتها أو نتخذها لنا نموذجا ومثالا؛ وذلك لأن هذه القبائل الهندية قد دفعت في سبيل التغلب على شهوة السلطان ثمنا باهظا. أجل إنهم لا يتسابقون في سبيل الثراء أو التفوق الاجتماعي كما نفعل، ولكنهم يتكلفون من جراء ذلك ما لا نطيق، فهم يرزحون تحت عبء ثقيل من التقاليد الدينية، كما أنهم يرتبطون بكل ما هو قديم ويفزعون من كل جديد غير مألوف. إنهم ينفقون وقتا طويلا ونشاطا وافرا في أداء الشعائر السحرية، وفي تكرار صيغ خاصة لا تكاد تنتهي يحفظونها عن ظهر قلب. وإذا كنا نحن نتصف بالكبر والشره والحقد فهم يتصفون بالتراخي، وخاصة بالتراخي العقلي، أو الغباء، وهو ما يحذر علماء الأخلاق البوذيون تلاميذهم منه تحذيرا شديدا. والمسألة التي نواجهها الآن هي هذه: هل نستطيع أن نجمع بين مزايا ثقافتنا الغربية ومزايا ثقافة هذه القبائل الهندية؟ هل نستطيع أن نخلف نوعا جديدا من الحياة تنتفي فيه عيوب هذين اللونين المختلفين من الثقافة؛ الثقافة الهندية والثقافة الغربية الصناعية؟ هل في مقدورنا أن نكتسب عادات هؤلاء الهنود ونتحرر من حب الثراء ومن الرغبة الملحفة في النجاح الشخصي، مع احتفاظنا في الوقت نفسه بتنبهنا الذهني واهتمامنا بالعلم وقدرتنا على إحداث التقدم الفني السريع وتطور الجماعة؟
هذه أسئلة يتعسر علينا أن نجيب عنها إجابة المتمكن الواثق. ولا نستطيع أن نعرف إن كان من الممكن أن نجمع بين الثقافتين إلا بالخبرة والتجربة. إن كل ما نعرفه على التأكيد هو أن الشغف بالعلوم والقدرة على إحداث التطور الاجتماعي السريع يرتبطان حتى الوقت الحاضر؛ بمظاهر شهوة الحكم وعبادة النجاح في الحياة. وقد أثبت التاريخ أن التقدم العلمي كان دائما حليف العدوان وإيذاء الآخرين. فهل معنى هذا أن تقدم العلوم والاعتداء متلازمان لا ينفصلان؟ كلا ، لسنا نرى ذلك؛ فإن كل ثقافة من الثقافات ترتبط بألوان خاصة من السلوك والفكر والشعور ليست من طبيعتها، إنما هي تسري خلالها اتفاقا وعرضا. وهذا الارتباط قد يدوم طويلا ويعتبر - ما دام قائما - ضروريا وطبيعيا وصائبا. ولكن لا بد أن يأتي وقت - تحت ضغط الظروف المتغيرة - ينهار فيه هذا الارتباط المتين ويحل محله ارتباط جديد بألوان جديدة من السلوك والفكر والشعور، فتبدو هذه الألوان الجديدة طبيعية وضرورية وصائبة كما كانت الأولى كذلك. ولنعرض على القارئ قليلا من الأمثلة لزيادة الإيضاح. في المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى وفي أوائل العصر الحديث كان هناك بين الطبقات الغنية ارتباط وثيق بين الأفكار والعادات التي تتعلق بالجنس والزوجية والأفكار والعادات التي تتعلق بالملكية والمركز الاجتماعي، فكان النبيل في العصور الوسطى يتزوج طمعا في إقطاعية، والرجل المتوسط في أوائل العصر الحديث يتزوج طمعا في المهر، والملوك يتزوجون طمعا في دول بأسرها، وكانوا بحسن اختيارهم زوجاتهم يستطيعون بناء الإمبراطوريات. ولم تكن الزوجة تمثل الملكية فحسب، إنما هي نفسها كانت ملكا للزوج. وكانت الغيرة الشديدة (وهي شعور طبيعي يقره الناس أجمعون) ترجع إلى الإحساس بالاعتداء على الملك، كما ترجع إلى انحراف في العاطفة الجنسية، وكان لا يرضى الزوج الغيران إلا أن يقتل زوجته الخائنة. وكانت الزوجة المخلصة في الوقت نفسه تحلى بالجواهر، بدافع الحب الصادق أحيانا، ولإرضاء رغبة الزوج في حب الظهور في أغلب الأحيان. وكانت الزوجة التي تلبس فاخر الثياب نوعا من الإعلان المتحرك عن ثروة زوجها ومركزه الاجتماعي. كان الميل نحو ما يسميه فبلن
Veplen «التظاهر بالاستهلاك» يرتبط في تلك الثقافات بالسلوك الجنسي. كان الأمر كذلك في الماضي وهو لا يزال كذلك من مميزات العصر الحاضر إلى حد كبير، ولكنه الآن أقل منه في الماضي بدرجة كبيرة. لا ينظر الزوج إلى زوجه اليوم كأنها ملك خاص له بمقدار ما كان يفعل في الزمان القديم. ومن ثم لم يعد من الطبيعي أو من الصواب أن يقتل الزوج شريكته الخائنة. إن فكرة الارتباط الجنسي الذي لا يقوم على المال ولا يرتبط بالمهور والضياع تلقى اليوم رواجا حتى بين الأغنياء، ولم يكن الأمر كذلك في أيام التروبادور مثلا.
وهناك ألوان أخرى من الفكر والشعور كانت في وقت من الأوقات طبيعية لا مفر منها، ولكنها في أوقات أخرى أو في أمكنة أخرى لم تكن معروفة ولم يكن لها وجود. من ذلك أن الفن كان أحيانا يرتبط بالدين (كما كان في أوروبا في العصور الوسطى) ولكنه في أحيان أخرى كثيرة لم تكن له البتة صلة بالدين (كما هي الحال بين قبائل معينة من الأمريكان الهنود وبين الأوربيين في القرون الثلاثة الأخيرة). وكذلك الشئون الجنسية وأمور التجارة والزراعة والمأكل والمشرب، نراها ترتبط بالدين أحيانا وأحيانا لا ترتبط. ومن المجتمعات ما يستصوب الريبة والغيرة والحقد، ومنها ما تراها آثاما خلقية.
وقد يكون ارتباط التقدم الإنساني بروح العدوان اتفاقيا وعرضيا كالعادات العقلية والعادات العملية التي ذكرناها آنفا. وقد يكون لهذا الارتباط من ناحية أخرى جذور متأصلة في أعماق النفس البشرية. وسيتبين لنا فيما بعد أنه من العسير جدا، بل من المستحيل، أن نفصل بين التقدم والعدوان، وهذه المشكلة على كل حال ليست من المشاكل التي يمكن الجزم فيها يقينا. وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا الصدد - ونحن على شيء من الثقة - أن الارتباط بينهما لا يلزم أن يكون كاملا كل الكمال كما هو في الوقت الحاضر.
والآن دعنا نلخص ما فات لعلنا نصل إلى نتيجة:
Unknown page
أولا:
رأينا أن «الطبيعة الإنسانية التي لا تتغير» قد تتغير فهي ليست متحجرة كما يظن بعض علماء الإنسان، وكثيرا ما تغيرت تغيرا ملموسا.
ثانيا:
أن أنواع الارتباط المختلفة التي نشاهدها بين ألوان السلوك المتنوعة في المجتمعات البشرية يمكن فصمها ثم إعادة ربط عناصرها بطرق أخرى.
ثالثا:
أن علاج بناء المجتمع على نطاق واسع قد ينجم عنه تغير معين في الطبيعة الإنسانية. بيد أن هذا التغير قلما يكون أساسيا؛ فهو لا يستأصل الشر من جذوره، وإنما يحوله من مسلك إلى آخر.
رابعا:
إن شئنا أن نحقق الغايات التي نحبها جميعا فالأمر يقتضي أكثر من مجرد تحويل الروح الشريرة عند الإنسان من مجرى إلى مجرى. بل لا بد لنا من القضاء على الشر من منبته، ولا بد لنا من كبح الإرادة الفردية وهي في نشأتها.
ومن ثم نرى أن الإصلاح السياسي والاقتصادي الشامل لا يحقق لنا أغراضنا. ولا مندوحة لنا عن الهجوم على هدفنا المثالي الأعلى، لا من هاتين الناحيتين وحدهما، ولكن كذلك وفي نفس الوقت من جميع النواحي الأخرى. وقبل أن نتكلم فيما ينبغي عمله من هذه النواحي لا بد لي أن أصف في شيء من التفصيل طريقة الهجوم من الناحية الأولى؛ ناحية الإصلاح الاجتماعي الشامل.
الفصل الرابع
Unknown page
الإصلاح الاجتماعي والعنف
يقول بارتلمي دي لجت
Barthélemy de Ligt : «كلما اشتد العنف قلت الثورات.» ويجدر بنا أن نتدبر هذه العبارة.
إن بارتلمي في هذه العبارة ينصح باستخدام العنف وسيلة للإصلاح، ولكن العنف في الواقع لا يولد إلا العنف؛ عنف الحاكم يؤدي إلى عنف المحكوم، ويثير في نفسه الريبة والاستياء والحقد. إننا إذا تتبعنا التاريخ ألفينا نتيجة العنف واحدة في كل موقف من المواقف - السخط ومقابلة الشدة بالشدة.
إن الثورة لا تعد ناجحة إلا إذا أدت إلى التقدم، والتقدم في عبارة الدكتور مارت التي سلف ذكرها هو تبادل المحبة بين الناس. فهل من الممكن أن نحقق التقدم بهذا المعنى - تبادل المحبة - بوسائل أبعد ما تكون بطبيعتها عن تبادل المحبة؟ إن التجربة والتاريخ كلاهما يؤكد لنا استحالة ذلك، غير أن المرء يميل إلى أن يعتقد بأنه يستطيع بعمل حاسم جريء أن يرفع مستوى العالم إلى المدينة الفاضلة كما يتصورها، كما أنه في الوقت نفسه يميل إلى التحيز لمن يشاطره الرأي، ومن ثم تراه يميل إلى استخدام العنف ولا يطيق اللين والهدوء وهما من ضرورات الحكم الرشيد. إن أكثرنا يعتقد أن الغاية الطيبة تبرر الوسيلة الدنيئة. ومن العبارة الآتية التي نقتبسها من كتاب الأستاذ لاسكي عن الاشتراكية يتبين لنا مدى الخطأ الذي نقع فيه من جراء ذلك، يقول لاسكي في معرض حديث له عن تاريخ إنجلترا : «لولا دكتاتورية أسرة جيمس الحديدية لانهارت الجمهورية.» كأن العنف الذي لجأت إليه هذه الأسرة هو الذي حفظ للبلاد الحكم الجمهوري. والواقع الذي يسجله التاريخ هو أن هذه الأسرة بعينها هي التي كانت السبب في انهيار الجمهورية من جراء ما لجأت إليه من قسوة وشدة، بل لقد كانت هذه الأسرة بعينها بسبب عنفها واستبدادها عاملا من العوامل التي أدت إلى الحروب النابليونية الطاحنة، وإلى التجنيد الإجباري - وهو نوع من أنواع الإذلال والاستعباد - كما أدت إلى نشأة الروح القومية القوية التي تهدد كيان المدنية الحاضرة؛ تلك هي نتائج هذه الدكتاتورية الغاشمة التي يتمشدق بها لاسكي، وبرغم هذا كله لا يني أنصار الثورات عن الاعتقاد بأن هذه الوسائل العنيفة وأشباهها تؤدي إلى خير النتائج. إنهم يحسبون أنهم يستطيعون بالثورات أن يرفعوا لواء العدالة الاجتماعية، وأن ينشروا السلام بين الأمم.
إن العنف لا يؤدي إلى التقدم الحق إلا إذا أعقبته الأعمال العادلة اللينة التي تنطوي على حب الخير وحسن النية، حينئذ تصلح هذه الأعمال ما أفسد العنف وتعوض ما فقدته الجماعة من جرائه، والفضل عندئذ لا يرجع إلى العنف ذاته، وإنما يرجع إلى ما يعقبه عادة من إصلاح وتعويض، وعلى سبيل المثال نقول: إن غزو الرومان لبلاد الغال والغزو البريطاني للهند كلاهما عمل عنيف انتهى بالخير وأدى إلى التقدم، وإنما يرجع ذلك التقدم إلى الإصلاح الذي قام به رجال الإدارة من الرومانيين والبريطانيين بعدما ألقى رجال الحرب السلاح، ومع هذا فنحن نؤمن بأن هذا التقدم الذي حدث كان من الجائز أن يتم بغير الغزوات التي شنها المحاربون، أما إذا لم يتل أعمال العنف الأولى عمل إصلاحي - كما حدث في البلاد التي فتحها الأتراك - فإن البلاد تبقى على حالها من الهمجية والتأخر.
وكلما طال أمد العنف تعسر على القائمين به أن يقوموا بالأعمال الإصلاحية التي تستند إلى سياسة اللين؛ ذلك لأن أعمال العنف تصبح من تقاليد الحكم، كما تصبح الأعمال العنيفة - في أعين الجمهور - أعمالا فاضلة تنم عن الشرف الرفيع، وتدل على البطولة الجبارة، وهذا هو ما حدث أيام التتر، وهذا هو ما يحدث الآن في الدول الدكتاتورية الحديثة، وأقصد بها ألمانيا وإيطاليا والروسيا، وفي مثل هذه الظروف يضعف الأمل في تحويل آثار العنف إلى الأعمال الخيرية العادلة التي قد تعقب الشدة إن قصر أجلها.
ومما تقدم يتبين أن الإصلاح لا يحقق النتائج المرجوة إلا أن كان قائما على حسن النية وفي الوقت الملائم. إن القيام بالإصلاح الاجتماعي الذي يثير معارضة قوية تتطلب استخدام العنف والالتجاء إلى الشدة تهور وإجرام؛ لأن الإصلاح الذي يستدعي العنف لإقراره يفشل في تحقيق الخير المرجو، بل يجعل الحياة أسوأ مما كانت من قبل. إن العنف - كما قلت من قبل - لا يولد إلا آثار العنف، وهذا الآثار لا يمكن محوها إلا بأعمال الإصلاح اللينة التي تعقب العنف وتعوض بعض آثاره. وإن طال أمد العنف أضحى عادة في نفوس مرتكبيه وبات من العسير عليهم أن يسلكوا مسلكا آخر أو أن يتخذوا سياسة أخرى. وقد يقبل الحاكم على العمل العنيف عن قصد نبيل ونية حسنة، ولكن أعماله العنيفة تؤدي إلى نتائج لم تكن لتخطر على باله أو تدور بخلده. فقد انتهت دكتاتورية أسرة جيمس بالاستبداد الحربي، وبحرب دامت عشرين عاما، وبالتجنيد الإجباري في كل أنحاء أوربوا، وبظهور القومية المقدسة، وما كان لأحد من أفراد أسرة جيمس أن يحلم بشيء من هذا. وفي العصر الحديث نرى أن ظلم القياصرة الروس واستبدادهم الذي امتد إلى فترة طويلة من الزمن قد أدى، كما أدت أعمال القسوة في الحرب العظمى، إلى دكتاتورية البلاشفة الحديدية. وما كان للقياصرة أو لرجال الحرب العظمى أن يتصوروا هذه النتيجة البعيدة. ثم إن الخوف من اشتعال ثورة عالمية عنيفة دعا إلى قيام الفاشستية، وأعادت الفاشستية التسليح، وتطلبت إعادة التسليح من الدول الديمقراطية أن تخرج تدريجا عن قاعدة الحرية التي رسمتها لنفسها، وتشير كل الدلائل اليوم (يونيو 1937) على أن المستقبل مظلم كئيب.
1
إذا أردنا إذا أن نقوم بإصلاح شامل لا يثبت بطلانه عند تطبيقه فلا مندوحة لنا عن اختيار الوسائل التي لا تتسم بالعنف والشدة، أو - على الأقل - تلك الوسائل التي تقوم على الحد الأدنى منهما (ويجدر بنا هنا أن نذكر أن الإصلاح الذي ينفذ تحت حافز الخوف من جار أجنبي قوي، والذي يرمي إلى استخدام العنف في الحروب الدولية المنتظرة، لا يبوء إلا بالفشل، ومثله كمثل الإصلاح الذي ينفذ بطريق الإرهاب الداخلي، وقد أدخل الدكتاتوريون تعديلا شاملا في بناء المجتمعات التي يحكمونها دون أن يلجئوا إلى وسائل الإرهاب، فقابلت شعوبهم هذا التعديل بالرضا لأنها آمنت - بفعل الدعاية المنظمة - أن هذا التعديل ضروري لتأمين الدول من العدوان الخارجي. وقد كان بعض هذا التعديل إصلاحا مستحبا، ولكن لما كان هذا الإصلاح موضوعا بقصد تمكين الدولة من إدارة عجلة الحرب، فقد حفز ذلك الدول الأخرى على الاستزادة من قدرتها الحربية، وبذا أصبح نشوب الحرب من جديد أمرا محتمل الوقوع. ولما كانت طبيعة الحرب الحديثة تجعل من المستحيل أن يبقى أي أثر من آثار الإصلاح بعد نهاية الحرب، فإن الإصلاح المرغوب، ذلك الإصلاح الذي لا يلاقي من الشعب معارضة، قد يفشل إذا كان القائمون بالأمر يحملون الجماعة على قبوله بطريق الدعاية التي تثير فيها الخوف من عدوان الآخرين، أو الدعاية التي تمجد العدوان، تقوم به الجماعة لمصلحة نفسها كي تحقق من ورائه خيرا ترجوه.
Unknown page
ولنعد الآن إلى موضوعنا الأساسي - وهو ضرورة تجنب العنف الداخلي عند القيام بالإصلاح. نعود فنقول إن الإصلاح قد يكون مستحبا في حد ذاته، ولكنه لا يلائم الظروف التاريخية القائمة، فيصبح عديم الجدوى من الناحية العملية. ولا أحب أن يؤدي هذا إلى الخطأ الشنيع الذي ارتكبه هجل، وسار على نهجه الحكام المستبدون المحدثون، مرتكبين الجرائم يبررون بها أعمالهم، ومقدمين من القول سخفا يعللون به آثامهم - وذلك الخطأ الذي أعني هو الاعتقاد بأن الواقع هو المعقول، وأن الظروف المحيطة هي الظروف المثالية التي ينبغي أن تبقى بغير مساس. ليس الواقع هو المعقول وليس كل ما هو كائن حقا وصوابا. إن الواقع - في أية لحظة من لحظات التاريخ - يحتوي على عناصر معقولة وعلى عناصر أخرى تخرج عن حد المعقول. والإدراك السليم يقتضينا عند إدخال الإصلاح أن نبقي على المعقول وأن ننبذ كل ما عداه.
ولما كان نبذ أي تقليد من تقاليد المجتمع أمرا عسيرا على أكثر النفوس، فإنه يجمل بنا أن نبقي كذلك على التقاليد التي لا تنفع ولا تضر، أو التي لا يكون من ورائها ضرر محقق؛ وذلك لأن ميل الإنسان إلى المحافظة على القديم حقيقة لا ينبغي إنكارها أو إهمالها. ويترتب على ذلك أن يمتنع المصلح الاجتماعي عن القيام بتعديل لا يراه جد ضروري، أو تعديل يدرك أنه يدعو إلى النفور الشديد. وواجب المصلح - كلما أمكن ذلك - أن يمد في حبل النظم القائمة التي يألفها الناس، وأن يجعلها أساسا للتطور الذي يرمي إليه حتى يتمكن من بلوغ مأربه. إن المبادئ القائمة التي يقرها العقل السليم ينبغي أن تجد لها محلا في الإصلاح المنشود، وواجب المصلح أن ينقلها من النطاق الضيق إلى النطاق الواسع.
بهذه الطريقة وحدها تخف المعارضة التي لا بد تنشأ عند كل إصلاح جديد، كما تضعف الحاجة إلى استخدام وسائل العنف والشدة.
الفصل الخامس
الجماعة التي تسير على خطة مرسومة
لم يتعرض قبل الحرب العظمى للكلام على الجماعة التي تسير على خطة مرسومة غير الفابيين (جماعة الاشتراكيين). وفي أثناء الحرب رسمت الخطة لجميع الجماعات المحاربة. وإذا نظرنا إلى السرعة التي تم بها رسم الخطط حكمنا أنها كانت خططا محكمة وضعت بقصد تمكين الدولة من مواصلة العداء. وما كادت الحرب تنتهي حتى قامت المعارضة في وجه سياسة الخطة المرسومة، وكان ذلك طبيعيا بعد حرب ضروس دامت أربعة أعوام. ثم كانت الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الحرب الكبرى، فآمن الناس من جديد بضرورة رسم الخطة للدولة. ومنذ عام 1929 أخذت فكرة تنظيم الدولة في الرواج والانتشار، فرسمت الخطط في نظام وإحكام وعلى نطاق واسع في الدول الدكتاتورية، ورسمت على نطاق ضيق في الدول الديمقراطية، وأخرجت المطابع سيلا جارفا من الكتب في التنظيم الاجتماعي. وكان لكل مفكر مجدد مشروعه في التنظيم. بل لقد أصابت العامة أنفسهم عدوى التفكير في هذا الموضوع. وتنظيم الجماعة اليوم من الأمور المستحدثة المستحبة؛ وذلك لأن العالم يتردى في حمأة من التدهور والضلال. ويبدو لمن يتدبر الظروف الراهنة أنه من المستحيل إنقاذ العالم من الشر الذي يسبح فيه، أو إصلاح ما به من عيوب، دون التفكير في وضع خطة لتنظيمه. غير أننا نخشى - ونحن نحاول إنقاذ العالم أو جزءا منه من اضطرابه الحاضر - أن تكون الخطة المرسومة خطة جهنمية. إننا إذا لا ننتشل العالم من وهدته، إنما نودي به إلى الخراب والدمار؛ فإن من ألوان العلاج ما هو شر من المرض.
لا بد من وضع الخطة لتنظيم المجتمع، ولكن ماذا عسى أن تكون تلك الخطة؟ إننا لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال، ولا نستطيع أن نحكم على أي مشروع للإصلاح إلا إذا رجعنا إلى مثلنا العليا التي نرمي إليها، فإن كان هذا المشروع يحقق لنا أملنا أو بعض أملنا فهو مشروع مستحب مرغوب، ينبغي لنا عند النظر في أية خطة أن نتساءل: هل تعين هذه الخطة على نشر العدالة والسلام بين الأمم؟ هل تعمل على التقدم العقلي والخلقي، هل تصوغ لنا جماعة من الرجال والنساء المتحررين المسئولين؟ إن كان الأمر كذلك فهي إذا خطة طيبة، وإلا فهي خطة خبيثة لا نرضاها لأنفسنا ولا نقبلها برنامجا لحياتنا.
والخطط الخبيثة في العصر الحاضر ضربان: هناك الخطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قوم يختلفون عنا في نظرهم إلى المثل الأعلى للإنسان. وهناك الخطط التي يضعها ويقوم بتنفيذها قوم يتفقون معنا في النظر إلى المثل العليا للحياة، ولكنهم يتصورون أن الغايات النبيلة يمكن أن تتحقق بوسائل دنيئة، إنهم يعبدون الطريق إلى جهنم وهم لا يشعرون، والضرر الذي ينجم عن أبناء هذه الطائفة الأخيرة ليس أقل شأنا من الخطر الذي ينجم عن أبناء الطائفة الأولى، وفي هذا تأييد لبوذا الذي كان يعد الجهل والغباء من أمهات الكبائر.
ولنضرب للقارئ بعض الأمثلة التي توضح ما نقول: من أبناء الطائفة الأولى الفاشستيون العسكريون الذين يختلفون عنا في مثلهم الأعلى للحياة الصحيحة، يقول موسوليني: «إن الفاشستية تعتقد أن الحرب وحدها هي التي ترفع النشاط الإنساني إلى أقصاه، والحرب وحدها هي التي تطبع بطابع الشرف تلك الشعوب التي تجد لديها من الشجاعة ما يدفعها إلى النزول إلى ساحة القتال.» ثم يقول في موضع آخر: «إن الفاشستية والسلام فكرتان متعاديتان.» الرجل الفاشستي إذا يعتقد أن ضرب المدن المكشوفة بالنار والقنابل، وإهلاكها بالسموم والمفرقعات (أو بعبارة أخرى الحرب الحديثة) عمل طيب في صميمه، هو رجل ينبذ تعاليم الرسل المصلحين، ويعتقد أن خير الجماعات جماعة قومية تعيش في عداء دائم مع المجتمعات القومية الأخرى، هو رجل لا يتورع عن النهب والفتك، ثم هو يحتقر الرجل المتحرر، ويعجب بالرجل الذي يخضع للحاكم المستبد الغاصب، والذي يتصف بالكبرياء والحسد والحقد وسرعة الغضب، وهي صفات أجمع الأنبياء والفلاسفة على أنها حقيرة لا يصح أن يتحلى بها الإنسان الراقي. إن الخطط الفاشستية جميعا ترمي إلى غاية واحدة: وتلك هي أن تجعل المجتمع القومي قادرا على أن يدير عجلة الحرب بنشاط ونجاح؛ فالصناعة والتجارة والمالية توجه نحو هذا الغرض، الدولة الفاشستية تعمل على أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية، وتحاول أن تكفي حاجات نفسها دون اللجوء إلى غيرها من الأمم؛ ومن أجل ذلك فهي تشجع الصناعات الوطنية التي قد تكون أقل جودة من الصناعات الأجنبية، كما أنها تحاول أن تستعيض عن الخامات التي تفتقر إليها بخامات مصطنعة محلية، وهي فوق ذلك تفرض الرسوم والضرائب على البضائع الواردة، وتشجع التصدير، وتقلل من تبادل السلع، وتعمل على خسارة منافسيها بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة، وتسير السياسة الخارجية في تلك الدول على المبادئ المكيافلية صراحة وجهارا، وتدخل الدولة الفاشستية في اتفاقات جدية مع غيرها من الدول، وهي تعلم أنها سوف تنقضها في اللحظة التي يتبين لها فيها أن مصلحتها في نقض المعاهدة، ثم هي تحتمي بالقانون الدولي إن كان ذلك في مصلحتها، وتنبذه إذا كان هذا القانون يقف لها حجر عثرة في سياستها الاستعمارية، ويتحكم في الدولة دكتاتور يربي الشعب على الإخلاص لمبادئ الفاشستية، ويتعلم الأطفال الذلة والخضوع؛ كي ينشئوا على الطاعة لأولي الأمر، وعلى القسوة على من هم أدنى منهم مكانة في المجتمع. يبدأ الطفل بعد أن يترك روضة الأطفال ذلك التدريب العسكري الذي ينتهي بسنوات الخدمة العسكرية الإجبارية، التي تدوم ما دام الفرد قادرا على القيام بأعباء الجندية. ويتعلم الأطفال في المدارس الأكاذيب الملفقة في دروس التاريخ، فيمجد معلموهم الأسلاف من أبناء أمتهم، ويحطون من قدر العظماء في الأمم الأخرى جميعا. وتقوم على المطبوعات والكتب رقابة صارمة حتى لا يتسرب إلى الراشدين رأي لا يحب لهم الدكتاتور أن يعرفوه. وكل من يحاول التعبير عن رأي لا يتفق وأغراض الدولة يضطهد اضطهادا لا رحمة فيه ولا هوادة. وبالدولة نظام محكم للجاسوسية التي تتتبع الأفراد حتى في حياتهم الخاصة. وتشجع الدولة الغيبة والنميمة، وتكافئ كل من يبلغ أولي الأمر عن شخص يعادي النظام القائم. والإرهاب في هذه الدولة مشروع، والقضاء يجري سرا في أكثر الأحيان، والمحاكم أبعد ما تكون عن العدل، والعقوبات شديدة قاسية، والوحشية ووسائل التعذيب المختلفة من أساليب الحكم في البلاد.
هذه هي خطة الفاشست، وهي خطة قوم لا يعترفون بالمثل العليا للمدنية المسيحية، أو المدنيات الآسيوية القديمة التي سبقتها، قوم ساءت نياتهم، وهم لا يحاولون أن يستروا خبث مقاصدهم. ولننظر الآن في أمثلة من الخطط التي يرسمها قادة سياسيون أغراضهم نبيلة ووسائلهم وضيعة. إن أول ما نلاحظه على هؤلاء الرجال هو أن إيمانهم بمثلنا العليا واه ضعيف، وكلهم يعتقد أن الغايات النبيلة يمكن أن تحقق بوسائل دنيئة، إنهم يختلفون عن الفاشست كل الاختلاف في أهدافهم وأغراضهم، غير أنهم يسلكون الطرق عينها التي يسلكها الدوتشي والفوهرر، هم من دعاة السلم، ولكنهم يعتقدون أن السلم وسيلتها القتال، وهم قوم مصلحون، ولكنهم يتصورون أن العدالة الاجتماعية يمكن أن تكون وسيلتها الظلم والاستبداد. إنهم يحبون الحرية، ولكنهم يرون أن تركيز السلطة واستعباد الجماهير يمكن أن يحقق الحرية للجميع. إن روسيا الثائرة، التي تزعم أنها تعمل على نشر الحرية كاملة بين أفراد الشعب جميعا ، لديها أكبر جيش من جيوش العالم، ولديها بوليس سري يضارع في دقته وصرامته البوليس السري الألماني أو الإيطالي، ولديها رقابة شديدة على الصحافة، ونظام للتعليم ينبني على خضوع الصغير للكبير كالنظام الألماني الهتلري، ولديها نظام شامل للتدريب العسكري يطبق على النساء والأطفال كما يطبق على الرجال، ويحكمها دكتاتور يرتفع إلى مكانة التقديس في شعب ذليل، لا يختلف عما كان عليه رجال روما المتألهون أو رجال برلين المتغطرسون، وبها بيروقراطية لها امتيازات وحقوق، وهي تستخدم سلطة الدولة للاحتفاظ بامتيازاتها ولحماية مصالحها، وبها حزب أوليجاركي يسود الأمة كلها، ولا يتمتع أعضاؤه أنفسهم بالحرية داخل الحزب (إن معظم الطبقات الحاكمة في أكثر الأمم تمنح الحرية على الأقل لأعضائها وإن حرمتها عامة الشعب، ولكن الحزب الروسي الاشتراكي ينكر الحرية على أعضائه كما ينكرها على أفراد الشعب). ولا يسمح في الروسيا بالمعارضة؛ ولذا تكثر المؤامرات الخفية. وقد كانت تلك المؤامرات سببا في محاكمات الخيانة والتطهير التي انعقدت في الروسيا في عامي 1936 و1937. ومعالجة البناء الاجتماعي وتنظيم الدولة تسير في الروسيا على غير ما يحب الشعب ويرضى، وتستخدم في سبيل ذلك كل وسائل القسوة والاستبداد (في عام 1933 هلكت في الروسيا جوعا عدة ملايين من الفلاحين بإرادة أولي الأمر السوفيتيين ورغبتهم). إن القسوة تولد الحقد، والحقد لا يقمع إلا بالقوة الغاشمة، والعنف - كما قلنا من قبل - يولد الرغبة في الاستزادة منه. هذا هو التنظيم الروسي، إنه نظام نبيل في مقصده، دنيء في وسائله، وقد أنتجت هذه الوسائل نتائج تختلف كل الاختلاف عن تلك التي كان يصبو إليها زعماء الثورة الروسية الأولون.
Unknown page
أما الدول الديمقراطية فهي التي تستخدم عادة الوسائل الطيبة لتحقيق الغايات النبيلة. وحتى هذه الدول كثيرا ما ارتكبت أخطاء شنيعة في الماضي، وهي ما زالت إلى اليوم ترتكب الأخطاء الجسيمة. ويرجع أكثر هذه الأخطاء إلى أن الحاكمين والمحكومين على السواء في هذه البلاد مشبعون بروح العسكرية والقومية برغم عقيدتهم في المثل العليا للإنسانية. حقا إن الإنجليز والفرنسيين يبثون الروح الحربية في البلاد رغبة في تحقيق الهدوء والسلام . غير أن هاتين الدولتين ظفرتا في الماضي بأملاك شاسعة واسعة بطريق النهب والسلب، وأمامهما اليوم منافسون يحبون أن يفعلوا في العصر الحاضر ما فعلوه هم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وشعرت إنجلترا وفرنسا بالسخط على مطامع هؤلاء المنافسين، فشرعتا - وهما كارهتان - في الاستعداد لهزيمة القوى الفاشستية بسلاحها، فهما تتأهبان للقتال، شأنهما في ذلك شأن الدول الفاشستية نفسها. ولكن الحرب الحديثة لا يمكن أن تنجح إلا إذا تركزت السلطة في يد حكومة مطلقة تستطيع أن تنفذ ما تريد بغير معارضة؛ ولذا فإن أكثر الخطط التي ترسم اليوم في الدول الديمقراطية تقوم على أساس تحويل هذه الدول إلى نظام أشبه ما يكون بنظام الدول الدكتاتورية التي تنظم للقتل والنهب. وقد سار هذا التحول حتى الآن ببطء شديد؛ لأن العقيدة في المثل العليا الرفيعة كانت دائما تكبح جماح كل من يريد أن يسارع الخطا نحو النظام الفاشستي، ولكن روح الفاشستية كانت - برغم ذلك - تقوى تدريجا وخلف ستار سميك. وإنا لنتوقع إذا ما أعلنت الحرب،
1
أو اقترب شبحها من هذه البلاد، أن يقوى ساعد الفاشستية، وتخرج من وراء الستار؛ وذلك لأن الدفاع عن الديمقراطية من خطر الفاشستية يستتبع بالضرورة تحويل الديمقراطية إلى فاشستية.
إن أكثر المحاولات التي قامت بها السلطات الديمقراطية لتنظيم الدول تنظيما شاملا قد أملتها رغبة قوية في تعزيز الروح العسكرية، ومن ذلك محاولة توحيد الإمبراطورية البريطانية في وحدة قائمة بذاتها من الوجهة الاقتصادية؛ فقد كانت خطة أملتها على القائمين بالأمر اعتبارات عسكرية. وأكثر من هذا تشبعا بالروح العسكرية النظم التي أدخلت على صناعة الأسلحة، لا في بريطانيا العظمى وحدها، ولكن كذلك في فرنسا وفي الدول الديمقراطية الأخرى بقصد زيادة الإنتاج، وهذه المحاولات في التنظيم وأشباهها - مثلها مثل الخطط الفاشستية التي تعمل على تقوية الروح العسكرية - لا بد تنتهي بتعقيد الأمور، وزيادة الموقف سوءا على سوء. فإن الإمبراطورية البريطانية بتحولها من رقعة حرة التجارة، إلى ضيعة خاصة تحميها أسوار من الرسوم الجمركية إنما تعزز العداوة الأجنبية للإمبراطورية البريطانية. ولما كان الإنجليز يملكون سيادة البحار غير منازعين فقد كان بوسعهم أن يظفروا برضا العالم بأسره لو أنهم تركوا أبواب مستعمراتهم مفتوحة للتجارة الخارجية. أما اليوم وقد فقدوا هذه السيادة البحرية، فقد أغلقت أبواب المستعمرات في وجه التجارة الخارجية. أو نستطيع بعبارة أخرى أن نقول إن إنجلترا تدعو العالم لمعاداتها في اللحظة التي لم تعد فيها في مركز يمكنها من تحدي تلك العداوة، ولا يستطيع المرء أن يتصور حماقة أشد من هذه، ولكن ما أحرى أولئك الذين يفكرون تفكيرا عسكريا أن يرتكبوا أمثال هذه الحماقات!
أما فيما يختص بالتسليح، فإنه بالنسبة التي يسير عليها اليوم، وبهذا القدر العظيم الذي تصنع به الأسلحة، لا بد أن يؤدي إلى إحدى نتيجتين: إما أن تشتعل حرب عامة بعد فترة وجيزة من الزمن أو - إذا أجلت الحرب لبضع سنوات - ينتهي هذا التسابق في التسليح بفتور في هذه الصناعة وتحل بالعالم أزمة اقتصادية لا تقل حدة عن أزمة سنة 1929، والأزمة الاقتصادية تخلق في النفوس القلق. وهذا القلق يدفع الدول الديمقراطية إلى مسارعة الخطأ نحو الاصطباغ بالصبغة الفاشستية، وهذا التحول الفاشستي يجعل الحرب أمرا لا مفر منه.
ويكفينا ما ذكرنا عن الخطط التي تضعها الدول لأغراض عسكرية محضة. غير أن هناك خططا لم تكن أول الأمر عسكرية محضة في صبغتها. تلك خطط رسمتها الحكومات كي تعالج بها آثار الأزمات الاقتصادية، ولكن هذه الخطط - لسوء الحظ - في ظل النظام القائم، لا بد أن تدبر وتنفذ في جو مشبع بالروح العسكرية والقومية. وهذا الجو يعطي كل خطة دولية صفة حربية عسكرية، مهما حسنت نية القائمين بالأمر (ويجدر بنا هنا أن نشير إلى حقيقة عامة لم يفطن إليها علماء الإنسان القدامى، وتلك الحقيقة هي أن العادات والطقوس والتقاليد تتخذ لها لونا جديدا من الجو السائد، فقد يتخذ الشعبان عادة واحدة، ولكن هذا لا يعني أن هذه العادة تتخذ صورة واحدة عند هذين الشعبين؛ وذلك لأن الجو الاجتماعي السائد بين الشعبين قلما يكون متفقا. وإذا طبقنا هذه القاعدة العامة على المشكلة التي نحن بصددها، أدركنا أن الخطة غير العسكرية التي تنفذ في جو عسكري يرجح أن تتلون بلون يختلف كل الاختلاف عن اللون الذي تصطبغ به في جو غير عسكري).
ولما كانت كل الشعوب اليوم، حتى الديمقراطية منها، عسكرية في روحها، تتعصب للقومية بل تعبدها، فإن كل تنظيم اقتصادي تقوم به الحكومة يبدو للمشاهد الأجنبي استعماريا في صبغته. وهذا مما يفسد العلاقات بين الأمم. وقد لجأت الدول إلى فرض الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية وإلى غير ذلك من الحيل للترفيه عن رعاياها. ولكن أمثال هذه التدابير - في الجو الذي يسود العالم - تبدو للدول الأجنبية أعمالا تنطوي على سوء النية ووضاعة المقصد، فتثأر هذه الدول لنفسها، ويتعسر التفاهم بين الأمم، وتصبح الحرب ضرورة لا مندوحة عنها.
وإذا أنعمت النظر في هذه المشكلة ألفيت في الأمر تناقضا شديدا؛ ذلك أن تنظيم كل دولة على حدة يؤدي إلى الفوضى بين مجموع الدول، وتقوية الروح القومية تضعف الروح الدولية، وتماسك الأمة يفضي إلى تفكك مجموعة الأمم؛ فقد كان التبادل الاقتصادي بين الأمم خلال القرن التاسع عشر وفي السنوات الأولى من القرن العشرين سهلا ميسورا حينما كان الاقتصاد القومي يسير في جميع الأمم على غير خطة مرسومة، وكان من مصلحة الأفراد الذين يقومون بالتجارة الدولية أن يتبعوا خطة عادلة ليس فيها إجحاف بأحد؛ كانت الدولة إذا تسير على غير خطة معينة في الشئون الاقتصادية، فكانت النتيجة تعاونا اقتصاديا عالميا.
إننا اليوم على قمة ورطة كبرى؛ فالناس في كل بلد يكابدون حرمانا شديدا من جراء عيوب النظام الاقتصادي السائد. ولا بد لنا من معونة هؤلاء الناس، ولكنا لا نستطيع أن نعينهم معاونة فعالة إلا إذا تغير وجه النظام الاقتصادي من أساسه. غير أن الخطة الاقتصادية التي تسير عليها الحكومات القومية لمصلحة الشعوب سبب من أسباب الاضطراب في بناء الاقتصاد الدولي. إن الحكومات القومية - وهي ترسم خطة محلية لمصلحة شعوبها - تعرقل سير التجارة الدولية، وتخلق صورا جديدة من المنافسة الدولية، وأسبابا جديدة للشقاق بين الأمم . وفي السنوات الأخيرة الماضية كان لا بد لمعظم الأمم أن تختار أحد هذين الشرين: إما أن تترك ضحايا سوء النظام الاقتصادي لفعل القدر، وفي هذه الحالة يحتمل أن يصوت الضحايا ضد الحكومة فيسقطوها، أو ينفجروا في ثورة عنيفة تقلب نظام الحكم، وإما أن تعين الحكومة ضحاياها بأن تفرض خطة حكومية جديدة على النشاط الاقتصادي الداخلي. وفي هذه الحالة تسيء الحكومة إلى نظام التبادل الدولي، وتؤدي به إلى الفوضى، وتخلق أسباب اشتعال حرب عالمية عامة. وبين هذين الطريقين الشائكين طريق مفتوح واضح تستطيع الأمم المختلفة أن تسير فيه، وذلك أن تلجأ الدول إلى التشاور، وأن توحد نشاطها كي لا تعرقل خطة قومية معينة خطة قومية أخرى، ولكن الدول لا تستطيع أن تسلك هذا الطريق في ظل النظام القائم؛ فالدول الفاشستية لا تزعم أنها تريد السلام والتعاون الدولي، بل إن الحكومات الديمقراطية نفسها التي تنادي بالسلام بأعلى صوتها هي في نفس الوقت قومية في صبغتها، حربية استعمارية في صميمها. إن التفكير السياسي في القرن العشرين بدائي ساذج إلى حد غير معقول؛ فالأمة لا تزال تتصور أنها كائن حي له عواطفه ورغباته وإحساساته، وهذا الكائن الحي، أو هذه الشخصية القومية، أكبر من الإنسان العادي في حجمها ونشاطها، ولكنها أحط منه في أخلاقها، الشخصية القومية لا تعرف الصبر أو الاحتمال أو العفو، بل هي لا تعرف الإدراك السليم أو النظر إلى المصلحة الشخصية نظرة مستنيرة؛ ولذا فهي تسيء السلوك إلى حد كبير. والرجال الذين يسلكون في حياتهم الخاصة سلوكا معقولا قائما على قواعد الأخلاق يتحولون عندما يعملون كممثلين للشخصية القومية إلى رجال بدائيين، يتصفون بالغباوة والهستيريا، تراهم يغضبون لأتفه الأسباب أشد الغضب؛ ومن أجل ذلك فإننا لا نرتجي خيرا في الوقت الحاضر من المؤتمرات الدولية العامة، ولا يمكن أن يقوم نظام للتعاون الدولي إلا إذا كانت جميع الدول على أهبة لأن تضحي ببعض سيادتها وحقوقها، وهي لن تفعل ذلك ما دامت القومية تسيطر عليها وتتحكم فيها.
إذا فلا مناص من أن نتخلى - ونحن كارهون - عن خير الطرق التي يجدر بالأمم أن تسلكها، ونقصد به طريق التشاور وتوحيد الجهود. لتتخل الدول عن هذا الطريق الأسمى في الوقت الحاضر لتسلك طرقا أخرى غيره، وإن تكن أكثر التواء وأقل استواء. إن التنظيم القومي يؤدي - كما رأينا - إلى الفوضى في ميدان التجارة الدولية والسياسة الدولية، ونستطيع أن نعالج هذه الفوضى علاجا جزئيا بإحدى الطريقتين الاتيتين أو بكلتيهما:
Unknown page
أولا:
يمكن لبعض الدول التي تتقارب في وجهة النظر أن تنظم مشروعات للتعاون بين بعضها وبعض، وقد حدث ذلك فعلا بين الدول التي تتعامل بالإسترليني، وهي تشمل بلدانا رأى حكامها من الحكمة أن يوحدوا بين الخطط القومية المنفصلة حتى لا تقف إحداها في سبيل الأخرى، وربما رأت بعض الحكومات الأخرى في المستقبل القريب أن من مصلحتها أن تنضم في اتحاد كهذا. ولكننا لا نحب أن نكون شديدي التفاؤل من هذه الناحية. إن الزمن قد يبين للدول مزايا التعاون الدولي، ولكن الزمن كذلك يكسب المصالح المكتسبة التي أوجدتها الخطط القومية المختلفة قوة ومنعة. إن الاشتراك في مشروع تعاون دولي قد يكون في مصلحة الأمة عامة، ولكنه قطعا ليس في مصلحة بعض الطوائف المعينة داخل تلك الأمة. وإذا كانت هذه الطوائف قوية من الناحية السياسية فإن فائدة الأمة كثيرا ما يضحى بها في سبيل فائدة تلك الطوائف.
ثانيا:
يمكن لكل دولة أن تستقل عن غيرها من الدول من الناحية الاقتصادية؛ بذلك يخف أثر الفوضى الاقتصادية الدولية، وتصل أسباب الاحتكاك السياسي إلى الحد الأدنى. ولما كان اتصال الدول بعضها ببعض - في ظل الروح القومية السائدة - غالبا ما ينتهي بالصراع الدولي، فإن التخفيف من أسباب الاتصال بين الأمم يؤدي - على الأرجح - إلى إبعاد شبح الحرب.
إن مثل هذا الاقتراح يبدو في أعين القائلين بحرية التجارة خطأ كبيرا، بل إجراما شديدا. إنهم يرون - وهم على حق - أن حقائق الجغرافيا والجيولوجيا لا مفر منها؛ فالأمم تختلف في إنتاجها بحكم طبيعة أرضها ومناخها، والشعوب تختلف في استعدادها بحكم الإقليم والبيئة؛ ولذا فمن أصالة الرأي أن يتقسم العمل بين الأمم، وأن تستبدل كل دولة بالسلع التي يسهل عليها إنتاجها تلك التي تتعسر عليها، وتتيسر في بقعة أخرى من الأرض.
هذا ما يرى أنصار حرية التجارة، وحجتهم في ظاهرها معقولة مقبولة. ولكنك إن أنعمت فيها النظر من ناحية عملية تبين لك ما فيها من شطط؛ ذلك أن أكثر الدول اليوم ترمي إلى توسيع نفوذها السياسي، وتخشى الحرب وما يترتب عليها من نتائج؛ لذلك تراها تبذل كل جهدها في إنتاج كل ما تستطيع من سلع داخل بلادها، مهما كلفها ذلك، ومهما كانت العقبات الطبيعية، وذلك رغبة منها في الاستغناء عن الدول الأخرى إن دعا إلى ذلك داع. وقد ساعد تقدم العلوم والفنون هذه الدول كثيرا على تنفيذ هذه السياسة الاستقلالية واتباعها في كثير من الأمور. أجل إن فكرة الاستقلال الاقتصادي والاكتفاء بالإنتاج المحلي سخيفة جدا في نظر أنصار حرية التجارة، ولكنها ممكنة التحقيق إلى حد كبير نظرا لتقدم فنون الصناعة. إن العلم لا وطن له؛ ولذا فإنه إن تقدم في بلد من البلدان انتقل إلى البلدان الأخرى وانتفع به قوم آخرون. ويترتب على ذلك أنه إذا نجحت أمة من الأمم في تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي لتقدم العلم فيها كان من اليسير على غيرها من الأمم أن تنقل عنها علمها وفنها لتستقل هي بدورها استقلالا اقتصاديا. هذه حقيقة لا مفر منها، ومن الخير ألا نتجاهلها وأن نستغلها لمصلحة المجموع.
إن الدول الدكتاتورية في الوقت الحاضر تستغل التقدم العلمي في أغراض الحرب وحدها. ولكن ليس هناك ما يدعونا إلى استخدام فكرة الاستقلال الاقتصادي في الاستعداد للحرب دون غيرها؛ فنحن نستطيع أن نستخدمها في نشر لواء السلام؛ وذلك أن قوة الشعور بالقومية تهددنا بقيام النزاع بين الأمم، فإذا نحن استطعنا أن نباعد بين هذه الدول من الوجهة الاقتصادية أمكننا أن نبعد شبح الحرب ولو إلى حين. والمكتشفات العلمية الحديثة تعاوننا على تنفيذ سياسة الاستقلال الاقتصادي؛ ولذلك فمن الخير لنا أن نشجع هذه المكتشفات.
ولننظر على سبيل المثال في مشكلة الغذاء. إن كثيرا من الحكومات - ومنها إنجلترا وألمانيا وإيطاليا واليابان - تبرر استعدادها للحرب وحبها الاستعمار بنقص الأغذية في بلادها نقصا يجعل إمداد جميع السكان بالطعام الكافي أمرا مستحيلا. ومما يزيد الطين بلة أن هذا النقص الطبيعي يعززه نقص وضعي منشؤه سياسة خاطئة في نظام النقد تمنع بعض البلدان من الحصول على مواد الغذاء اللازمة من الخارج، وهذه السياسة الخاطئة في نظام النقد نتيجة للروح العسكري السائد. وتؤثر الحكومات في هذه البلدان أن تنفق كل مصادر الثروة القومية في شراء الأسلحة بدلا من أن تنفقها في شراء الغذاء والكساء، تؤثر أن تشتري المدافع بدلا من الزبد؛ ومن ثم ترى أن الدولة لا تستطيع أن تشتري الغذاء لأنها تستعد للحرب، كما أن الدولة لا بد لها أن تحارب لأنها لا تستطيع شراء الأغذية؛ فهي حلقة مفرغة.
إن سياسة النقد الخاطئة قد تحول دون شراء الأغذية من الأمم الأجنبية، ولكن هناك أسباب أخرى تحتم على بعض الأمم أن تشتري بعض أطعمتها من الخارج؛ فهناك دول - منها بريطانيا العظمى وألمانيا واليابان - لا يكفيها إنتاجها الداخلي في الوقت الحاضر، نظرا لازدحامها بالسكان إلى درجة كبيرة؛ ومن ثم فإن حكام هذه البلاد يرون الاستعمار ضرورة لا مندوحة عنها. ولكن هل يمكن اعتبار ازدحام السكان عذرا مشروعا للاستعداد الحربي ولضرورة الاستعمار؟ إن الخبراء الزراعيين المحدثين لا يرون ذلك، ونحن نحيل القارئ على كتاب الدكتور ولككس
Dr. Wilcox
Unknown page
وعنوانه «تستطيع الأمم أن تعيش في أوطانها»؛ فهو عرض منظم لآراء علماء الزراعة المحدثين. يزعم الدكتور ولككس أن الدولة التي تتبع في زراعتها نظم الإنتاج الحديثة تستطيع أن تكفي حاجة سكانها مهما كانت نسبة ازدحامهم؛ أي حتى إن بلغت كثافة السكان أقصى ما بلغته في أي زمان وأي مكان. وقد استخدمت بالفعل الطرق التي اقترحها ولككس في التجارة وأتت بفائدة جليلة. أما الطريقة الزراعية الجديدة التي اخترعها الأستاذ جرك
Gericke
في كاليفورنيا فلا تزال في دور التجربة، وإذا ثبت نفعها فإنا نرجو أن تمدنا بكميات كبيرة من الأطعمة بجهد يسير وعلى مساحة أصغر مما تتطلبه أية طريقة أخرى . وطريقة جرك هذه ثورة على النظم الزراعية المألوفة، إذا قورنت بها الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدت انقلابا تافها.
2
إن الاختراعات الفنية النافعة لا يمكن أن تقاوم. وإذا ثبتت فائدة طريقة جرك هذه فلا شك أنها ستعم جميع البلدان، وربما كان لذلك أثره في استتباب السلام العالمي. بل إني أرى أنه - سواء نجحت هذه الطريقة أو لم تنجح - في استطاعة الأمم بحسن الرأي والتدبير «أن تعيش في أوطانها.» كما يقول ولككس، بل وتعيش - إذا لم ترتفع نسبة المواليد ارتفاعا فجائيا - في رغد لم يسبق له مثيل. ويهمنا في هذا الصدد أن يتنبه القارئ إلى أن الحكومات على اختلافها لم تبذل حتى الآن مجهودا جديا للاستفادة من الطرق الزراعية الحديثة على نطاق واسع، حتى تستطيع أن ترفع مستوى الشعب المادي فتستغني بذلك عن ضرورة الغزو والاستعمار. وفي هذا وحده دليل على أن أسباب الحروب ليست اقتصادية فحسب، إنما هي سيكولوجية كذلك؛ فالأمم تتأهب للحروب لأسباب من بينها أن الحرب تقليد قديم له قوته وسلطانه على النفوس، ومنها أن الحرب مثيرة للشعور باعثة على الاهتمام، كأنها رواية مسرحية تمثل، ومنها تنشئة الشعب على الإعجاب بالروح العسكرية، ومنها كذلك أننا نعيش في مجتمع يعبد النجاح مهما تكن وسيلته، مجتمع يقوم على التنافس أكثر مما يقوم على التعاون. ومن هنا ينشأ النفور من اتباع السياسة الإنشائية التي تعمل على إزالة أسباب الحروب الاقتصادية على الأقل. ومن هنا كذلك يتدفق ذلك النشاط الوافر الذي يبذله الحاكم والمحكوم على السواء في الدعاية لسياسة الهدم وإثارة الحروب، مثل سياسة التسليح وسياسة تركيز السلطة التنفيذية وتجنيد الجماهير.
تحدثت حتى الآن عن النتائج الدولية للخطط القومية البحتة، وعن السياسة التي ينبغي لأولي الأمر أن يسلكوها كي يخففوا سوء هذه النتائج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وسأعالج فيما يلي تلك الخطط القومية من الوجهة الداخلية. لقد تعرض غيري من الكتاب بالتفصيل الدقيق وبالإسهاب العظيم لمشاكل تنظيم الدول من الوجهة الفنية المحضة. ولبحث هذه المشاكل أحيل القراء على الكتب العديدة التي كتبت في هذا الموضوع،
3
ولكني أحب هنا أن أتعرض لموضوع التنظيم القومي من حيث صلته بمثلنا العليا، كما أني أحب أن أتعرض للظروف التي ينبغي أن تتوفر كي ينجح هذا التنظيم ويحقق لنا تلك المثل.
لقد أوضحت في الفصل الذي كتبته عن «الإصلاح الاجتماعي والعنف» أن أكثر الناس محافظون على القديم، وأبنت أن كل تعديل في نظام المجتمع - مهما يكن طيبا - يثير المعارضة، وأن أية خطة تفرض على الناس بالعنف والشدة لا تؤدي إلى النتائج المرجوة منها. ويستتبع هذا أولا أننا يجب ألا ندخل على المجتمع أي إصلاح إلا إن كان ضروريا جدا، وثانيا ألا نفرض على الناس إصلاحا يثير فيهم المعارضة والمقاومة، مهما يكن هذا الإصلاح ضروريا، اللهم إلا إن كان ذلك تدريجا وبدرجة غير محسوسة. وثالثا عند الإصلاح ينبغي أن نتخذ الوسائل التي تعودها الناس وألفوها من قبل.
ولنطبق الآن هذه القواعد العامة على أمثلة معينة من التنظيم الاجتماعي، ولنطبقها أولا على الخطة الكبرى لكل المصلحين المحدثين - وهي تحويل الجماعة الرأسمالية التي تقوم على مبدأ الكسب الشخصي إلى الجماعة الاشتراكية التي تضع المصلحة العامة في المحل الأول.
Unknown page
القاعدة الأولى:
للإصلاح - كما ذكرنا من قبل - أننا يجب ألا ندخل على المجتمع أي تعديل إلا إن كان ضروريا جدا. فإن أردنا أن نصلح جماعة رأسمالية متقدمة، فما هو التعديل الذي لا يسعنا إلا أن ندخله؟ الجواب على هذا السؤال يسير واضح: إن التعديل الضروري الذي لا مناص منه لا بد أن يعالج إدارة الإنتاج الكبير، وإدارة هذا الإنتاج في العصر الحاضر تنحصر في أيدي أفراد غير مسئولين، كل همهم أن يضاعفوا أرباحهم، وكل وحدة إنتاجية كبيرة مستقلة تمام الاستقلال عن باقي الوحدات، وليس بين الوحدات اتحاد من أي نوع كان. وهذا التفكك القائم بينها هو الذي يؤدي إلى الأزمات الاقتصادية التي تحل بنا بين الحين والحين، وتنشأ عنها صعوبات جمة للطبقات العاملة في الأمم الصناعية. إن الإنتاج الصغير الذي يتولاه أفراد يملكون الآلات التي يستخدمونها بأنفسهم لا يتعرض لمثل هذه الأزمات التي يعانيها الإنتاج الكبير الفينة بعد الفينة، وللإنتاج الصغير - فوق ذلك - ميزة أخرى، وتلك هي أن الملكية الشخصية لوسائله لا تتبعها عواقب سياسية أو اقتصادية أو سيكولوجية وخيمة كتلك التي تترتب على الإنتاج الكبير - مثل استعباد صاحب العمل لعماله، وخوف العمال الدائم من خطر التعطل، واعتمادهم المطلق على أرباب الأعمال؛ ولذا فإني أرى أن نصبغ إدارة وحدات الإنتاج الكبير بالصبغة الاشتراكية، وأن نبقي على وحدات الإنتاج الصغير دون مساس. بذلك يمكننا أن نحتفظ بالفردية في العمل، وأن يبلغ الاعتراض على إصلاحنا الذي نريده حده الأدنى.
والقاعدة الثانية:
التي وضعناها للإصلاح هي ألا نحاوله البتة إذا كان يحتمل أن يثير المعارضة. ولنفرض على سبيل المثال أن الزراعة الجمعية أكثر إنتاجا من الزراعة الفردية، وأن الفلاح الذي يعمل في مزرعة جمعية هو من الوجهة الاجتماعية خير حالا من الفلاح الذي يملك أرضه ويدير أمرها بنفسه. إذا سلمنا بهذا كان إلغاء الملكيات الفردية أمرا لا بد منه. ولكن هذا الإصلاح - رغم أنه قد يكون مستحبا - لا ينبغي تنفيذه إلا إن كان ذلك تدريجا وبخطوات بطيئة. إنا إذا نفذنا هذه السياسة دفعة واحدة فإنا بذلك من غير شك نثير معارضة عنيفة تفتضينا استخدام العنف والشدة. إن إلغاء الملكيات الفردية في الروسيا وإخضاعها للنظام الجمعي اقتضى الحكومة أن تحكم على عدد كبير من الفلاحين المالكين بالسجن والإعدام والحرمان والجوع. ومن المحتمل أن يكون المعارضون المعروفون اليوم (1937) هناك باسم تروتسكيت
Trotskyite
شديدي الحقد على الحكومة لهذا ولغير هذا من أعمال الإرهاب. إن إقماع المعارضة يتطلب من الحكومة أن تلجأ إلى وسائل العنف، كما يتطلب منها على حد تعبير الأستاذ لاسكي تعزيزا ل «الدكتاتورية الحديدية». ووسائل العنف هذه والدكتاتورية الحديدية لا يمكن إلا أن تنتهي بالنتائج الطبيعية للوحشية والاستبداد - وتلك هي استعباد الناس وبث الروح العسكرية فيهم، وإخضاع الشعب وإذلاله وتخليه عن الشعور بالتبعات. والزراعة الجمعية أشد خطرا في البلدان الغربية المتقدمة في الصناعة منها في الروسيا؛ فإن المزارعين والفلاحين في أوروبا الغربية وفي أمريكا أقل عددا من سكان المدن. ولما كانوا قلة ملحوظة فإن لكل فلاح قيمته. فإذا نحن اكتسبنا عداوة هذه الأقلية التي لا غنى لنا عنها قل إنتاجها الزراعي، وربما كان في ذلك هلاك سكان المدن. يستطيع أولو الأمر في الروسيا أن يقضوا على حياة بضعة ملايين من الفلاحين دون أن يتأثر بذلك سكان المدن. أما في فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا أو الولايات المتحدة فإن إهلاك العدد اليسير من الفلاحين والمزارعين يقضي على عمال المدن جوعا.
والقاعدة الثالثة:
للإصلاح هي ضرورة إنجازه باستخدام الوسائل التي ألفها الناس من قبل. وسنذكر هنا أمثلة قليلة محسوسة للوسائل التي نستطيع أن نتخذها لتعديل نظام الرأسمالية. تستطيع الحكومة أن تضع حدا للأرباح، وقد طبقت الحكومة البريطانية بالفعل هذا المشروع في شركة الإذاعة البريطانية. ويمكننا أن نعمم مبدأ تحديد الأرباح في جميع ميادين العمل والتجارة. وتستطيع الحكومة كذلك أن تلجأ إلى مبدأ تعاون المستهلكين وتعاون المنتجين؛ فهو مألوف للناس وليس بجديد عليهم. وإذا عرجنا على نظام الضرائب رأينا أن الأغنياء في أكثر الدول قد قبلوا عن رضى أن يدفعوا ضريبة الدخل وضريبة الميراث. فما يمنع الدول الأخرى أن تفرض هذه الضرائب كي تخفف من حدة المفارقات الاقتصادية بين الأفراد والطبقات؟ وتستطيع الدولة كذلك أن ترفع من أجور العمال، وأن تتولى هي بنفسها الإشراف على تنظيم مصانع الإنتاج الكبير وأمواله، بدلا من أن يتولاه الأفراد.
لقد تحدثت فيما سلف عن الإصلاح القومي، وإني ما زلت أشعر أن المشكلة بحاجة إلى زيادة الشرح والإيضاح لأننا - من الوجهة العملية - لا نستطيع أن نفصل أي نوع من أنواع الإصلاح عن جوه الإداري والحكومي والتعليمي والنفسي. إن الشجرة تعرف بثمارها، وثمار أي إصلاح معين تتوقف كما ونوعا على جو الإصلاح بقدر ما تتوقف على نوع الإصلاح ذاته، كما أن الفاكهة تتوقف عددا وجودة على نوع الشجرة التي تنبتها كما تتوقف على الجو الذي تنبت فيه وتترعرع. إن فائدة الإصلاح لا تتحقق إلا إن كان الجو الاجتماعي من إدارة وحكومة وتعليم وغير ذلك جوا صالحا لا فساد فيه.
خذ مثالا لذلك الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج. هذا الإصلاح في حد ذاته معناه تحرير العمال المستعبدين، ولكن هذا التحرير - في الروسيا المعاصرة - ينمو في جو فاسد مكوناته استيلاء السلطات الحاكمة على المصانع والمزارع الكبيرة، والتربية العسكرية في المدارس، والتجنيد الإجباري في الجيش، واستبداد دكتاتور حاكم تؤيده أوليجاركية من حزبه، وتؤازره البيروقراطية ذات الامتيازات، وهو يسيطر على الصحافة والنشر، ويستخدم قوة كبيرة من رجال البوليس السري. إن الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج لا شك تنقذ العمال من خضوعهم التام لكثير من صغار الدكتاتوريين - وأعني بهم ملاك الأراضي، وأصحاب الأموال، وأرباب المصانع الكبيرة، ومن إليهم، فليسوا إلا كذلك. ولكن إذا كان جو هذا الإصلاح (الطيب في حد ذاته) فاسدا، فلن يظفر العمل بتلك الحرية التي ننشدها لهم، ولكنهم يعانون نوعا جديدا من الاسترقاق السلبي الذي لا يحملهم تبعة من التبعات. أجل إننا بهذا الإصلاح ننقذهم من ظلم كثير من صغار الدكتاتوريين الذين أشرنا إليهم، ولكننا نضعهم تحت وكلاء دكتاتورية واحدة مركزة أقوى من الدكتاتورية الأولى أثرا؛ لأنها تستغل القوى المادية، ويؤيدها نفوذ أدبي يكاد يكون مقدسا، وذلك هو نفوذ الدولة القومية.
Unknown page