أما الدول الديمقراطية فهي التي تستخدم عادة الوسائل الطيبة لتحقيق الغايات النبيلة. وحتى هذه الدول كثيرا ما ارتكبت أخطاء شنيعة في الماضي، وهي ما زالت إلى اليوم ترتكب الأخطاء الجسيمة. ويرجع أكثر هذه الأخطاء إلى أن الحاكمين والمحكومين على السواء في هذه البلاد مشبعون بروح العسكرية والقومية برغم عقيدتهم في المثل العليا للإنسانية. حقا إن الإنجليز والفرنسيين يبثون الروح الحربية في البلاد رغبة في تحقيق الهدوء والسلام . غير أن هاتين الدولتين ظفرتا في الماضي بأملاك شاسعة واسعة بطريق النهب والسلب، وأمامهما اليوم منافسون يحبون أن يفعلوا في العصر الحاضر ما فعلوه هم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وشعرت إنجلترا وفرنسا بالسخط على مطامع هؤلاء المنافسين، فشرعتا - وهما كارهتان - في الاستعداد لهزيمة القوى الفاشستية بسلاحها، فهما تتأهبان للقتال، شأنهما في ذلك شأن الدول الفاشستية نفسها. ولكن الحرب الحديثة لا يمكن أن تنجح إلا إذا تركزت السلطة في يد حكومة مطلقة تستطيع أن تنفذ ما تريد بغير معارضة؛ ولذا فإن أكثر الخطط التي ترسم اليوم في الدول الديمقراطية تقوم على أساس تحويل هذه الدول إلى نظام أشبه ما يكون بنظام الدول الدكتاتورية التي تنظم للقتل والنهب. وقد سار هذا التحول حتى الآن ببطء شديد؛ لأن العقيدة في المثل العليا الرفيعة كانت دائما تكبح جماح كل من يريد أن يسارع الخطا نحو النظام الفاشستي، ولكن روح الفاشستية كانت - برغم ذلك - تقوى تدريجا وخلف ستار سميك. وإنا لنتوقع إذا ما أعلنت الحرب،
1
أو اقترب شبحها من هذه البلاد، أن يقوى ساعد الفاشستية، وتخرج من وراء الستار؛ وذلك لأن الدفاع عن الديمقراطية من خطر الفاشستية يستتبع بالضرورة تحويل الديمقراطية إلى فاشستية.
إن أكثر المحاولات التي قامت بها السلطات الديمقراطية لتنظيم الدول تنظيما شاملا قد أملتها رغبة قوية في تعزيز الروح العسكرية، ومن ذلك محاولة توحيد الإمبراطورية البريطانية في وحدة قائمة بذاتها من الوجهة الاقتصادية؛ فقد كانت خطة أملتها على القائمين بالأمر اعتبارات عسكرية. وأكثر من هذا تشبعا بالروح العسكرية النظم التي أدخلت على صناعة الأسلحة، لا في بريطانيا العظمى وحدها، ولكن كذلك في فرنسا وفي الدول الديمقراطية الأخرى بقصد زيادة الإنتاج، وهذه المحاولات في التنظيم وأشباهها - مثلها مثل الخطط الفاشستية التي تعمل على تقوية الروح العسكرية - لا بد تنتهي بتعقيد الأمور، وزيادة الموقف سوءا على سوء. فإن الإمبراطورية البريطانية بتحولها من رقعة حرة التجارة، إلى ضيعة خاصة تحميها أسوار من الرسوم الجمركية إنما تعزز العداوة الأجنبية للإمبراطورية البريطانية. ولما كان الإنجليز يملكون سيادة البحار غير منازعين فقد كان بوسعهم أن يظفروا برضا العالم بأسره لو أنهم تركوا أبواب مستعمراتهم مفتوحة للتجارة الخارجية. أما اليوم وقد فقدوا هذه السيادة البحرية، فقد أغلقت أبواب المستعمرات في وجه التجارة الخارجية. أو نستطيع بعبارة أخرى أن نقول إن إنجلترا تدعو العالم لمعاداتها في اللحظة التي لم تعد فيها في مركز يمكنها من تحدي تلك العداوة، ولا يستطيع المرء أن يتصور حماقة أشد من هذه، ولكن ما أحرى أولئك الذين يفكرون تفكيرا عسكريا أن يرتكبوا أمثال هذه الحماقات!
أما فيما يختص بالتسليح، فإنه بالنسبة التي يسير عليها اليوم، وبهذا القدر العظيم الذي تصنع به الأسلحة، لا بد أن يؤدي إلى إحدى نتيجتين: إما أن تشتعل حرب عامة بعد فترة وجيزة من الزمن أو - إذا أجلت الحرب لبضع سنوات - ينتهي هذا التسابق في التسليح بفتور في هذه الصناعة وتحل بالعالم أزمة اقتصادية لا تقل حدة عن أزمة سنة 1929، والأزمة الاقتصادية تخلق في النفوس القلق. وهذا القلق يدفع الدول الديمقراطية إلى مسارعة الخطأ نحو الاصطباغ بالصبغة الفاشستية، وهذا التحول الفاشستي يجعل الحرب أمرا لا مفر منه.
ويكفينا ما ذكرنا عن الخطط التي تضعها الدول لأغراض عسكرية محضة. غير أن هناك خططا لم تكن أول الأمر عسكرية محضة في صبغتها. تلك خطط رسمتها الحكومات كي تعالج بها آثار الأزمات الاقتصادية، ولكن هذه الخطط - لسوء الحظ - في ظل النظام القائم، لا بد أن تدبر وتنفذ في جو مشبع بالروح العسكرية والقومية. وهذا الجو يعطي كل خطة دولية صفة حربية عسكرية، مهما حسنت نية القائمين بالأمر (ويجدر بنا هنا أن نشير إلى حقيقة عامة لم يفطن إليها علماء الإنسان القدامى، وتلك الحقيقة هي أن العادات والطقوس والتقاليد تتخذ لها لونا جديدا من الجو السائد، فقد يتخذ الشعبان عادة واحدة، ولكن هذا لا يعني أن هذه العادة تتخذ صورة واحدة عند هذين الشعبين؛ وذلك لأن الجو الاجتماعي السائد بين الشعبين قلما يكون متفقا. وإذا طبقنا هذه القاعدة العامة على المشكلة التي نحن بصددها، أدركنا أن الخطة غير العسكرية التي تنفذ في جو عسكري يرجح أن تتلون بلون يختلف كل الاختلاف عن اللون الذي تصطبغ به في جو غير عسكري).
ولما كانت كل الشعوب اليوم، حتى الديمقراطية منها، عسكرية في روحها، تتعصب للقومية بل تعبدها، فإن كل تنظيم اقتصادي تقوم به الحكومة يبدو للمشاهد الأجنبي استعماريا في صبغته. وهذا مما يفسد العلاقات بين الأمم. وقد لجأت الدول إلى فرض الرسوم الجمركية على السلع الأجنبية وإلى غير ذلك من الحيل للترفيه عن رعاياها. ولكن أمثال هذه التدابير - في الجو الذي يسود العالم - تبدو للدول الأجنبية أعمالا تنطوي على سوء النية ووضاعة المقصد، فتثأر هذه الدول لنفسها، ويتعسر التفاهم بين الأمم، وتصبح الحرب ضرورة لا مندوحة عنها.
وإذا أنعمت النظر في هذه المشكلة ألفيت في الأمر تناقضا شديدا؛ ذلك أن تنظيم كل دولة على حدة يؤدي إلى الفوضى بين مجموع الدول، وتقوية الروح القومية تضعف الروح الدولية، وتماسك الأمة يفضي إلى تفكك مجموعة الأمم؛ فقد كان التبادل الاقتصادي بين الأمم خلال القرن التاسع عشر وفي السنوات الأولى من القرن العشرين سهلا ميسورا حينما كان الاقتصاد القومي يسير في جميع الأمم على غير خطة مرسومة، وكان من مصلحة الأفراد الذين يقومون بالتجارة الدولية أن يتبعوا خطة عادلة ليس فيها إجحاف بأحد؛ كانت الدولة إذا تسير على غير خطة معينة في الشئون الاقتصادية، فكانت النتيجة تعاونا اقتصاديا عالميا.
إننا اليوم على قمة ورطة كبرى؛ فالناس في كل بلد يكابدون حرمانا شديدا من جراء عيوب النظام الاقتصادي السائد. ولا بد لنا من معونة هؤلاء الناس، ولكنا لا نستطيع أن نعينهم معاونة فعالة إلا إذا تغير وجه النظام الاقتصادي من أساسه. غير أن الخطة الاقتصادية التي تسير عليها الحكومات القومية لمصلحة الشعوب سبب من أسباب الاضطراب في بناء الاقتصاد الدولي. إن الحكومات القومية - وهي ترسم خطة محلية لمصلحة شعوبها - تعرقل سير التجارة الدولية، وتخلق صورا جديدة من المنافسة الدولية، وأسبابا جديدة للشقاق بين الأمم . وفي السنوات الأخيرة الماضية كان لا بد لمعظم الأمم أن تختار أحد هذين الشرين: إما أن تترك ضحايا سوء النظام الاقتصادي لفعل القدر، وفي هذه الحالة يحتمل أن يصوت الضحايا ضد الحكومة فيسقطوها، أو ينفجروا في ثورة عنيفة تقلب نظام الحكم، وإما أن تعين الحكومة ضحاياها بأن تفرض خطة حكومية جديدة على النشاط الاقتصادي الداخلي. وفي هذه الحالة تسيء الحكومة إلى نظام التبادل الدولي، وتؤدي به إلى الفوضى، وتخلق أسباب اشتعال حرب عالمية عامة. وبين هذين الطريقين الشائكين طريق مفتوح واضح تستطيع الأمم المختلفة أن تسير فيه، وذلك أن تلجأ الدول إلى التشاور، وأن توحد نشاطها كي لا تعرقل خطة قومية معينة خطة قومية أخرى، ولكن الدول لا تستطيع أن تسلك هذا الطريق في ظل النظام القائم؛ فالدول الفاشستية لا تزعم أنها تريد السلام والتعاون الدولي، بل إن الحكومات الديمقراطية نفسها التي تنادي بالسلام بأعلى صوتها هي في نفس الوقت قومية في صبغتها، حربية استعمارية في صميمها. إن التفكير السياسي في القرن العشرين بدائي ساذج إلى حد غير معقول؛ فالأمة لا تزال تتصور أنها كائن حي له عواطفه ورغباته وإحساساته، وهذا الكائن الحي، أو هذه الشخصية القومية، أكبر من الإنسان العادي في حجمها ونشاطها، ولكنها أحط منه في أخلاقها، الشخصية القومية لا تعرف الصبر أو الاحتمال أو العفو، بل هي لا تعرف الإدراك السليم أو النظر إلى المصلحة الشخصية نظرة مستنيرة؛ ولذا فهي تسيء السلوك إلى حد كبير. والرجال الذين يسلكون في حياتهم الخاصة سلوكا معقولا قائما على قواعد الأخلاق يتحولون عندما يعملون كممثلين للشخصية القومية إلى رجال بدائيين، يتصفون بالغباوة والهستيريا، تراهم يغضبون لأتفه الأسباب أشد الغضب؛ ومن أجل ذلك فإننا لا نرتجي خيرا في الوقت الحاضر من المؤتمرات الدولية العامة، ولا يمكن أن يقوم نظام للتعاون الدولي إلا إذا كانت جميع الدول على أهبة لأن تضحي ببعض سيادتها وحقوقها، وهي لن تفعل ذلك ما دامت القومية تسيطر عليها وتتحكم فيها.
إذا فلا مناص من أن نتخلى - ونحن كارهون - عن خير الطرق التي يجدر بالأمم أن تسلكها، ونقصد به طريق التشاور وتوحيد الجهود. لتتخل الدول عن هذا الطريق الأسمى في الوقت الحاضر لتسلك طرقا أخرى غيره، وإن تكن أكثر التواء وأقل استواء. إن التنظيم القومي يؤدي - كما رأينا - إلى الفوضى في ميدان التجارة الدولية والسياسة الدولية، ونستطيع أن نعالج هذه الفوضى علاجا جزئيا بإحدى الطريقتين الاتيتين أو بكلتيهما:
Unknown page