Wajh Akhar Li Masih
الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهودية – مقدمة في الغنوصية
Genres
يتفق الغنوصيون والقويمون بخصوص تاريخية حادثة صلب المسيح وموته وقيامته، ولكنهم يختلفون في تفسير هذه الحادثة وفي نتائجها، فبينما يؤكد القويمون على أن يسوع ابن الله الحي قد تألم على الصليب ومات ثم بعث جسديا، فإن الغنوصيين يؤكدون على أن آلام يسوع وموته لم تكن سوى مظهر خادع، وبالتالي فإنهم ينكرون قيامته الجسدية، ولا يرون فيها أي معنى؛ لأن مثل هذه الفكرة تحمل في طياتها مباركة للجسد المادي الذي يسعون إلى التخلص منه.
وهنا ينقسم الغنوصيون إلى فريقين في موقفه من القيامة، فأتباع المعلم فالنتينوس يميزون بين يسوع الأرضي المولود من امرأة، والمسيح السماوي، ويقولون بأن المسيح السماوي قد هبط على يسوع وتطابق معه لحظة خروجه من الماء، بعد أن اعتمد على يد يوحنا المعمدان، ثم غادره عندما مات على الصليب، وبذلك تكون قيامة المسيح قيامة روحانية، عندما تخلى عن جسد يسوع الأرضي. ونستطيع تلمس مثل هذه الأفكار في عدد من النصوص المنسوبة إلى فالنتينوس أو تلامذته، ولا سيما في نص «حوار المخلص» و«الرسالة الثلاثية» و«إنجيل الحقيقة» و«تفسير الغنوص»، وجميعها من نصوص مكتبة نجع حمادي.
أما الفريق الثاني الذي يطابق بين يسوع والمسيح، فيرى أن ظهور المسيح بين الناس لم يكن إلا ظهورا شبحيا، على الرغم مما تبدى للناس من ماديته، فلقد هبط المسيح من السماء هبوطا روحانيا وصعد صعودا روحانيا من غير أن تمسه أدران المادة، ففي النص الغنوصي المعروف بعنوان «أعمال يوحنا» نجد يوحنا ويعقوب مبحرين في زورقهما نحو اليابسة، حيث كان يسوع في انتظارهما، عندما تبدل شكل يسوع متحولا إلى طفل صغير، عند ذلك نبه يعقوب يوحنا إلى ما رآه، ولكن يوحنا لم ير من ذلك شيئا، وقال له إن ذلك ناجم عن طول التحديق إلى الماء، عندما اقتربا إلى اليابسة تعاظمت حيرتهما، فقد بدا يسوع ليوحنا على هيئة رجل خفيف شعر الرأس كثيف اللحية، وليعقوب على هيئة فتى مراهق، بعد ذلك يتابع يوحنا شرح حيرته إزاء مظهر يسوع وماهيته الحقيقية، فعندما كان يلمسه كان يحس أحيانا بملمس جسد مادي، وفي أحيان أخرى كان يحس بأن الجسد الذي يلمسه غير موجود على الإطلاق، وقد انتبه في أكثر من مرة إلى أن قدميه لا تتركان أثرا على الأرض، وأن عينيه لا ترمشان أبدا، وبعد أن أسلم يسوع إلى الصلب وهرب تلاميذه، مضى يوحنا وحيدا وقبع في كهف يبكي، عندها تراءى له يسوع وقال له: بالنسبة للناس، هناك في الأسفل، أنا مصلوب، وخاصرتي مثقوبة بالرمح، وأتجرع الخل والمرار، ولكني لم أعان بالفعل أيا من هذه الأمور ، وها أنا ذا معك فاستمع لما أقول.
36 (4) أصول الغنوصية
في الحديث عن أصول الغنوصية، لدينا مسألة لم تحل بعد على مستوى البحث الأكاديمي الحديث، تتعلق بوجود غنوصية سابقة على المسيحية، ذات ملامح واضحة وتنظيم ديني ناضج، فهناك اتجاه قوي اليوم يقول بوجود غنوصية يهودية نشأت ضمنها الغنوصية المسيحية، قبل أن تشق طريقها الخاص وتستقل بفكرها وتنظيمها، وأهل هذا الاتجاه يستشهدون بوجود العديد من النصوص في مكتبة نجع حمادي، تعتمد مادة توراتية لكن دون أن تعكس وجهات نظر مسيحية واضحة، وذلك مثل نص رؤيا آدم ونص تفسير شيم وغيرهما، وفي هذا يقول الباحث الألماني كورت رودولف، وهو من أهم شارحي الغنوصية ما يلي: «إن النصوص الغنوصية التي وصلتنا، في جلها، يمكن فهمها باعتبارها إعادة صياغة وتفسير لقصص من العهد القديم، والمادة التوراتية غالبة فيها على الرغم مما تبديه من نقد للفهم التقليدي للنص التوراتي، كما أن شخصيات من العهد القديم قد رفعت إلى مقام الأسلاف المبجلين، مثل نوح وشيت وقايين وشيم، كل هذا يشير إلى أصول يهودية لهذه النصوص، حتى حين تنتقص من قيمة الإله اليهودي لمصلحة الإله الخفي الأعلى، وتوجه النقد إلى الشريعة التوراتية، وتعبر عن موقفها التشاؤمي من العالم المادي.»
37
وفي الحقيقة، فإن القول بوجود غنوصية يهودية سابقة على المسيحية، استنادا إلى وجود نصوص في مكتبة نجع حمادي تعتمد مادة توراتية من دون أن تعكس رؤية مسيحية واضحة، هو قول مردود، فهذه النصوص وجدت في سياق مسيحي لا في سياق يهودي، وضمن عدد أكبر من النصوص الغنوصية ذات التوجه المسيحي الواضح، وقد تم تداول هذه النصوص خلال القرن الثاني الميلادي، إبان فترة مد المسيحية الغنوصية، لا قبل ذلك، ولا من قبل أي جماعة غنوصية يهودية معروفة لنا، أما عن الشخصيات التوراتية التي تظهر في نصوص نجع حمادي، فجميعها ينتمي إلى الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، ومن جيل آدم إلى جيل نوح تحديدا، من دون بقية إصحاحات السفر التي تقص عن أسلاف بني إسرائيل من إبراهيم إلى يوسف، ومن دون بقية أسفار الكتاب، وهذا يدل على أن المسيحية الغنوصية قد استخدمت هذه المادة وتلك الشخصيات التي تنتمي إلى مرحلة الخلق والتكوين وأصول العالم، في سياق مطابقتها بين الإله الديميرج صانع العالم والإله اليهودي يهوه، وفي سياق نقدها العام للعالم المادي باعتباره صنيعة الشيطان-يهوه.
ومن ناحية أخرى، لا يوجد لدينا أي دليل تاريخي على قيام نظام ديني غنوصي واضح الملامح وراسخ التنظيم قبل ظهور المسيحية الغنوصية، ومن الأفضل لنا في هذا المجال أن نتحدث عن إرهاصات غنوصية، ومفكرين ذوي طابع غنوصي، وجماعات غنوصية صغيرة مبعثرة غير ثابتة التنظيم، مثل هذه الجماعات وجدت في منطقة الجليل بتأثير تعاليم سمعان ماجوس الشخصية السامرية الغامضة، التي عاصرت يسوع والرسل الأوائل، كما وجدت في الإسكندرية بتأثير التعاليم الهرمزية (أو الهرمسية)، ويضاف إلى هذا بعض الجماعات اليهودية غير الأرثوذكسية التي اقتربت بفكرها من الغنوصية، دون أن تتوصل إلى إنتاج فكر غنوصي متسق، بعض هؤلاء اليهود قد تحول إلى المسيحية وساهم في إغناء الفكر الغنوصي بعد أن صار مسيحيا لا قبل ذلك، خلال الفترة التي شهدت تحول كثير من اليهود إلى المسيحية الناشئة بكنائسها الثلاث: كنيسة الأمم وكنيسة الختان وكنيسة الغنوص، وفي هذا السياق يمكننا تفسير أقوال بعض هؤلاء المتحولين، كقول جماعة من أتباع المعلم باسيليد: «لم نعد يهودا، ولكننا لسنا بعد مسيحيين.» وقول جماعة من أتباع المعلم فالنتينوس: «عندما كنا عبرانيين كنا يتامى.»
إن كل النصوص الغنوصية في مكتبة نجع حمادي قد دونت بأقلام مسيحية، وجرى تداولها بين المسيحيين، ولم يتوفر لدينا حتى الآن ما يشير إلى أنها كانت متداولة قبل ذلك لدى أي شيعة غنوصية أخرى، سواء بشكلها الذي وصلنا أم بأي شكل آخر، ولكن هذا لا يعني أن الغنوصية المسيحية قد نشأت في فراغ، بل لقد أفادت من عدد من التيارات الفلسفية والدينية التي نمت فيها، وبشكل جنيني، أفكار ومفاهيم غنوصية لم تصل مرحلة النظام الغنوصي المتكامل.
فلقد أفادت الغنوصية المسيحية من الفلسفة الأفلاطونية الوسيطة، التي ميزت بين التفكير العقلي الخطي، والخبرة الداخلية الحدسية التي تقود إلى معرفة الله، وتكشف للروح الإنسانية صلتها بعالم الألوهة، كما قالت هذه الأفلاطونية بوجود ديميرج يتوسط بين الملأ الأعلى والعالم المادي، ودعته بالإله الثاني، وهذا الديميرج ممزق بين تأمل الملكوت المثالي الأعلى، وبين توجيه عنايته نحو الأدنى باتجاه العالم الحسي،
Unknown page