الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - في الأناجيل الأربعة ومؤلفيها ورسالتها
2 - الغنوصية ونشأة المسيحية
3 - اليهودية في فلسطين ومسألة الجليل
4 - المداخلات اليهودية في العهد الجديد وموقف يسوع من اليهود واليهودية
5 - استطراد حول الغنوصية
6 - الانتفاضة الأخيرة للغنوصية البوجوميل والكاثار
7 - أثر الغنوصية في الفكر الحديث
8 - نموذج من الأدبيات الغنوصية
ملحق: الإنجيل بحسب مرقس
مراجع البحث
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
فاتحة
1 - في الأناجيل الأربعة ومؤلفيها ورسالتها
2 - الغنوصية ونشأة المسيحية
3 - اليهودية في فلسطين ومسألة الجليل
4 - المداخلات اليهودية في العهد الجديد وموقف يسوع من اليهود واليهودية
5 - استطراد حول الغنوصية
6 - الانتفاضة الأخيرة للغنوصية البوجوميل والكاثار
7 - أثر الغنوصية في الفكر الحديث
8 - نموذج من الأدبيات الغنوصية
ملحق: الإنجيل بحسب مرقس
مراجع البحث
الوجه الآخر للمسيح
الوجه الآخر للمسيح
موقف يسوع من اليهودية - مقدمة في الغنوصية
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني،
وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي،
فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة
دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن
الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت
خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة
وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما
يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي
مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت
دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب
الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية،
ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم
في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في
20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل
هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع
المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته. إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
فاتحة
مولع بيسوع
قرأت الإنجيل في سن الحداثة، وفتنتني شخصية يسوع التي رأيت فيها نموذجا للثوري الذي جاء ليعلن نهاية عالم قديم، وتأسيس عالم جديد يتحقق المثالي فيه باعتباره واقعا، واليوتوبيا باعتبارها حالة يمكن أن نحياها، قال يسوع: «روح الرب نازل علي؛ لأنه مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء، وأبلغ المأسورين إطلاق سبيلهم، والعميان عودة البصر إليهم، وأفرج عن المظلومين.» (لوقا 4: 18)، وقال: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والمثقلين بالأحمال، وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني؛ لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم.» (متى 11: 28، 29)، لقد كانت رسالة يسوع موجهة بالدرجة الأولى إلى الشرائح الاجتماعية المظلومة والمضطهدة، إلى المتعبين والمعذبين، وكان راعية للحرية والعدل والمساواة، ولم يلق منه الأغنياء أي تعاطف، بل لقد طالبهم بالتخلي عن ممتلكاتهم وتوزيعها على المحتاجين، قال يسوع لغني أراد الانضمام إلى جماعته: «إذا أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع ما تملكه وتصدق به على الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال فاتبعني. فلما سمع الشاب هذا الكلام مضى حزينا لأنه كان ذا مال كثير، فقال يسوع لتلاميذه: يعسر على الغني أن يدخل ملكوت السموات، وأقول لكم، لأن يدخل الجمل في سم الإبرة أيسر من أن يدخل الغني في ملكوت السموات.» (متى 19: 21-24)، وقال: «الويل لكم أيها الأغنياء فقد نلتم عزاءكم، الويل لكم أيها الشباع فسوف تجوعون، الويل لكم أيها الضاحكون الآن فسوف تحزنون وتبكون.» (لوقا 6: 24-25).
انطلاقا من هذا الالتزام الاجتماعي، فقد كانت شرائح المجتمع الدنيا هي التي استحوذت على اهتمامه، قال يسوع: «جاء يوحنا المعمدان لا يأكل ولا يشرب، فقالوا إن به مسا من الشيطان، جاء ابن الإنسان (= يسوع) يأكل ويشرب، فقالوا هو ذا رجل أكول سكير صديق للعشارين والخاطئين.» (متى 11: 18-19)، «وكان تلاميذ كثيرون يتبعونه، فلما رأى بعض الكتبة من الفريسيين أنه يؤاكل الخاطئين والعشارين، قالوا لتلاميذه، لماذا يؤاكل الخاطئين والعشارين؟ فسمع يسوع كلامهم، فقال لهم : ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى، ما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين.» (مرقس 2: 16-17)، وقال لهم أيضا: «إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله، جاءكم يوحنا المعمدان سالكا طريق البر فلم تؤمنوا به، وآمن به العشارون والزواني، وأنتم رأيتم ذلك فلم تندموا وتؤمنوا به ولو بعد حين.» (متى 21: 31-32).
من هنا جاءت سخرية يسوع من السلطة، وحضه على إلغاء المراتبية الاجتماعية: «ووقع جدال بينهم في من يعد أكبرهم، فقال لهم: إن ملوك الأمم يسودونها، وأصحاب السلطة فيها يريدون أن يدعوا محسنين، أما أنتم فليس الأمر فيكم كذلك، بل ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والمترئس كالخادم.» (لوقا 22: 24-26)، وعندما كان يتناول العشاء الأخير مع تلامذته: «قام عن العشاء فخلع رداءه، وأخذ منشفة فائتزر بها، ثم صب ماء في مطهرة وشرع يغسل أقدام تلاميذه ... فلما غسل أقدامهم ولبس رداءه وعاد إلى المائدة قال لهم: أتفهمون ما صنعت إليكم؟ أنتم تدعونني معلما وسيدا، وأصبتم فيما تقولون، فهكذا أنا، وإذا كنت أنا المعلم والسيد قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أيضا أن يغسل بعضكم أقدام بعض، فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا ما صنعت إليكم.» (يوحنا 13: 5-15).
ولقد أدان يسوع سعي البشر المحموم إلى مراكمة الثروات والإقبال على الاستهلاك: «فلا تهتموا فتقولوا ماذا نأكل وماذا نشرب وماذا نلبس؟ فهذا كله يطلبه الوثنيون، وأبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون هذا كله، فاطلبوا الملكوت وبره قبل كل شيء، تزادوا هذا كله.» (متى 6: 31-33). هذا الكلام طبقه يسوع على نفسه قبل أن يدعو الآخرين إليه، فترك أسرته وبيته في سبيل دعوته، وراح يتجول في القرى والبلدات غير آبه بما يأكل أو يشرب أو يلبس: «وبينما هم سائرون، قال له رجل في الطريق: أتبعك حيث تمضي، فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطير السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له ما يضع رأسه عليه.» (لوقا 9: 57-58)، وعلى من يتبعه أن يحتذي حذوه، ويقطع كل روابطه بالعالم القديم، ويتخلى عن كل ما يشده إليه: «وقال لآخر: اتبعني، فقال: سيدي ائذن لي أن أمضي أولا فأدفن أبي، فقال له: دع الموتى يدفنون موتاهم. وقال له آخر: أتبعك سيدي، ولكن ائذن لي أولا أن أودع أهل بيتي، فقال له يسوع: ما من أحد يضع يده على المحراث ثم يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله.» (لوقا 9: 59-62)، وعندما أرسل اثنين وسبعين تلميذا للتبشير في الأمصار قال لهم: «اذهبوا فها أنا ذا أرسلكم كالحملان بين الذئاب، لا تحملوا صرة ولا مزودا ولا نعلين.» (لوقا 10: 3-4). وتطبيقا لهذه التعاليم كانت حلقة التلاميذ المحيطة بيسوع عبارة عن مشاعة صغيرة لا يملك أحد فيها شيئا لنفسه، وكان لها أمين صندوق يحتفظ بالمال القليل المتوفر وينفق منه على احتياجاتها.
مثل هذا الانقلاب على القيم القديمة لن يحصل بيسر وسهولة، ولا بد من الصراع بكل عنف وشراسة؛ لأن حركة يسوع هي حركة راديكالية من شأنها تمزيق المجتمع القديم تمهيدا لإحلال المجتمع الجديد، قال يسوع: «لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض، ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا، جئت لأفرق بين المرء وأبيه، والبنت وأمها، والكنة وحماتها، ويكون أعداء الإنسان أهل بيته.» (متى 10: 34-36)، والعالم القديم يجب أن يحترق ليخرج من رماده العالم الجديد: «جئت لألقي على الأرض نارا، وكم أرجو أن تكون قد اشتعلت، أوتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم لا، بل الخلاف، فمنذ اليوم يكون في بيت واحد خمسة، فيخالف ثلاثة منهم اثنين، واثنان يخالفان ثلاثة.» (لوقا 12: 49-52)، من هنا لا يكفي أن يقطع أتباع يسوع كل رابطة تشدهم إلى المجتمع المتآكل الذي يهدفون إلى تغييره، بل أن يلبسوا الأكفان وهم على قيد الحياة استعدادا للموت في أي لحظة: «من لم يحمل صليبه ويتبعني ليس جديرا بي، من حفظ حياته يفقدها، ومن فقد حياته في سبيلي يجدها.» (متى 10: 39)، وقال أيضا: «فملكوت السموات ما زال في جهاد منذ أيام يوحنا المعمدان إلى اليوم، والمجاهدون يأخذونه عنوة.» (متى 11: 12).
تمثل المجتمع القديم وقيمه في الوثنية التقليدية التي فقدت روحها خلال الفترة الهلينستية، وتحولت إلى عبادات شكلانية، كما تمثلت في اليهودية وشريعتها البالية، التي تكمن خصوصيتها في أنها شريعة طقوس ترمي بالدرجة الأولى إلى تأسيس الطرائق التي يحب الإله يهوه أن يبجل بها، ونوع الأضاحي المقربة إليه، والحفاظ على السبت، والاحتفالات الدينية الدورية، والطقوس والعبادات التي يتوجب إقامتها، وما يجوز وما لا يجوز في كل مناحي الحياة، حتى زادت القواعد التي تقيد حياة اليهودي وسلوكه اليومي عن 600 قاعدة، لقد كان الشغل الشاغل لليهود خلال القرون الخمسة السابقة للميلاد، وهي فترة تشكل الديانة اليهودية، هو الحفاظ على تفردهم الديني بأي ثمن، وهذا ما أدى إلى إنتاج ظاهرتين مهمتين في الحياة الدينية اليهودية، أولاهما التنظيم الكهنوتي، والثانية الحرص على الالتزام بالشريعة التي اعتبرت حاجزا يفصل بين اليهود وبقية الأمم، وحارسا على إيمان إسرائيل، ولكن يسوع هدد ركني السلطة اليهودية هذين، أي الشريعة وحراسها من الكهنة، والكتبة، والناموسيين (علماء الشريعة)، والفريسيين، الذين يمثلون النخبة المتعلمة من المجتمع اليهودي.
لقد عبر يسوع من خلال سلوكه اليومي عن رفضه لشريعة موسى، وأحل محلها شريعة القلب والروح، شريعة تخدم الإنسان بدل أن تستعبد الإنسان: «ومر يسوع في السبت خلال المزارع فأخذ تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون، فقال له الفريسيون: انظر، لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ ... فقال لهم: إن السبت جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت.» (مرقس 2: 23-27)، كما عبر في أقوال عديدة عن فساد حراس الشريعة: «الويل لكم أيها الناموسيون تحملون الناس أحمالا باهظة، وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم ... الويل لكم أيها الناموسيون، فقد استوليتم على مفتاح المعرفة، فلا أنتم دخلتم ولا الذين أرادوا الدخول تركتموهم يدخلون.» (لوقا 11: 46-52).
في رفضه للوثنية التقليدية والشريعة التوراتية، بشر يسوع برسالة شمولية تتوجه إلى العالم أجمع، لا لهذه الفئة الإثنية أو تلك، ولا لهذه الطائفة الدينية أو تلك، فقد قال لتلاميذه في إنجيل متى بعد قيامه: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (متى 28: 19)، وقال في إنجيل مرقس: «اذهبوا في الأرض كلها وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين.» (مرقس 16: 15)، وهذه الرسالة الشمولية جوهرها المحبة، محبة الله ومحبة الآخرين: «فسأله واحد منهم، وهو ناموسي ، ليجربه: يا معلم ، ما هي أكبر وصية في الشريعة؟ فقال له: أحبب ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك، تلك هي الوصية الكبرى والأولى، والثانية مثلها، أحبب قريبك حبك لنفسك، بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة كلها والأنبياء.» (متى 22: 35-40)، وقال أيضا: «وصية جديدة أنا أعطيها لكم، أن تحبوا بعضكم بعضا.» (يوحنا 13: 34)، وأيضا: «افعلوا للناس ما أردتم أن يفعله الناس لكم، هذه هي خلاصة الشريعة وكلام الأنبياء.» (متى 7: 12)، وبهذا فقد ألغى يسوع شريعة الطقوس القديمة، وأحل محلها شرع المحبة والأخلاق.
على أن من يقرأ الإنجيل للمرة الأولى ويعجب بهذا الانقلاب الشامل الذي أراده يسوع، يدهش من أقوال ليسوع ترسخ القديم وتكرسه، فقد ورد في إنجيل متى، مثلا، قوله: «لا تظنوا أني جئت لأبطل كلام الشريعة والأنبياء، ما جئت لأبطل بل لأكمل، الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الشريعة، حتى يتم كل شيء، فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا، وعلم الناس أن يفعلوا مثله، عد صغيرا جدا في ملكوت السموات.» (متى 5: 17-19)، وورد في إنجيل متى أيضا: «إن الكتبة والفريسيين على كرسي موسى جالسون، فافعلوا ما يقولونه لكم واحفظوه، ولكن لا تفعلوا مثل أفعالهم؛ لأنهم يقولون ولا يفعلون.» (متى 23: 1-3)، كما وتصدم القارئ مواقف تتسم بالشوفينية الإثنية والدينية، وتتعارض بشكل صارخ مع تعاليم يسوع الإنسانية، لقد وصف يسوع، في قول منسوب إليه في إنجيل متى، الكنعانيين بالكلاب، ورفض شفاء ابنة امرأة كنعانية في نواحي صيدا، بحجة أنه مرسل فقط إلى بني إسرائيل: «فدنا منه تلاميذه يتوسلون إليه، فقالوا: أجب طلبها واصرفها لأنها تتبعنا بصياحها، فأجاب: لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، ولكنها وصلت إليه فسجدت له، وقالت: أغثني سيدي. فأجابها: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويلقى إلى جراء الكلاب، فقالت: رحماك سيدي، حتى جراء الكلاب تأكل من الفتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها.» (متى 15: 21-27).
في قراءتي المبكرة للعهد الجديد فضلت التغاضي عن مثل هذه الأقوال والمواقف، باعتبارها من إشكاليات الإنجيل التي تتطلب التفسير والتأويل، ولكني بعد الاطلاع المنهجي على نشوء المسيحية وتشكلها خلال القرنين التاليين للميلاد، وما جرى خلال هذه الفترة من صراع بين كنيسة الأمم العالمية وكنيسة أورشليم التي أرادت الحفاظ على بعض الملامح اليهودية في الإيمان المسيحي الجديد، أدركت مدى التأثير الذي مارسه اليهود المتحولون إلى المسيحية على الصياغة الأخيرة للأناجيل الرسمية، وما قادت إليه مثل هذه المداخلات المقحمة على سيرة يسوع من ربط عضوي لكتاب العهد القديم بالعهد الجديد، وما فرضه هذا الربط على المسيحيين من تركة توراتية ثقيلة، كان يسوع قد رفضها بكل وضوح وصراحة، تركة عاد بعض الفرق المسيحية للتوكيد عليها في العصور الحديثة، حتى صار الإيمان بكل ما ورد في العهد القديم جزءا لا يتجزأ من الإيمان المسيحي.
إن الروايات المختلفة للحادثة الواحدة في الأناجيل، وحتى التناقضات في الإنجيل الواحد (مما كان موضع دراسة مكثفة خلال القرنين الماضيين) يمكن تفسيرها باختلاف مصادر الرواة، واختلاف الذكريات التي حفظت عن أقوال يسوع وأعماله، ولكن مثل هذه التناقضات الجذرية التي سقنا بعضها آنفا، والتي تضعنا أمام نوعين من التعاليم لا يمكن التوفيق بينهما على أي صعيد، لا يمكن تفسيرها إلا بالمداخلات اليهودية التي أقحمت عن عمد، من أجل الحفاظ على الخمرة الجديدة التي سكبها يسوع ضمن زقاق قديمة (جمع زق، وهو قربة من جلد تحفظ فيه السوائل) هي زقاق العهد القديم، على الرغم مما قاله يسوع عن استحالة سكب الخمرة الجديدة في زقاق قديمة، مشيرا بذلك إلى تعاليمه المستقلة عن تعاليم العهد القديم: «ما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زقاق قديمة، لئلا تشق الخمرة الجديدة الزقاق فتراق وتتلف الزقاق، بل يجب أن تجعل الخمرة الجديدة في زقاق جديدة فتسلم جميعا.» (لوقا 5: 37-38)، و(متى 9: 17).
والحق أقول لكم إن قراءة العهد الجديد لن تستقيم وتعطي مدلولات واضحة ورسالة متماسكة، إذا لم يتم عزل المداخلات اليهودية وفصلها عن سياق النص، وتبيان مدى غرابتها عن المتون الأصلية، وهذا أحد الأهداف الرئيسية التي أسعى لتحقيقها في هذا الكتاب، ولكن دراستي لن تكتفي بذلك لأن الوجه الآخر للمسيح، الذي أحاول نفض ما تراكم عليه من غبار الزمن، ليس الوجه الذي يتجاوز العهد القديم فقط، بل الوجه الرافض للعهد القديم وكل ما يمثله، والرافض أيضا لإله العهد القديم، الذي لم يكن إله يسوع، والذي اعتبرته الكنيسة المسيحية الغنوصية متطابقا مع الشيطان، وبشرت بالأب النوراني الأعلى، أبي الحقيقة، ومخلص الإنسانية.
إن دراستي لنشوء المسيحية والتي ترافقت مع ترجمة ونشر النصوص الغنوصية التي اكتشفت في نجع حمادي بصعيد مصر، ولم توضع بين أيدي الباحثين إلا في أواسط سبعينيات القرن العشرين، قد أوضحت لي، ولكثير من الباحثين، أن الأناجيل الأربعة التي اعتمدت من قبل كنيسة روما في أواخر القرن الثاني الميلادي، لا تحتكر صورة يسوع الحقيقي، التي لا بد لاستكمالها من الرجوع إلى الأناجيل والمؤلفات الغنوصية لمكتبة نجع حمادي، التي شكلت خلال القرون الثلاثة التالية للميلاد الأساس الفكري لكنيسة غنوصية نافست الكنيسة الرسمية لعدة قرون، وادعت حيازتها لتعاليم أخرى ليسوع بثها في حلقة ضيقة من تلاميذه المقربين.
سوف يعتمد استقصائي للوجه الآخر للمسيح على أسفار العهد الجديد نفسها؛ لأنها بقيت تحتفظ بخطوط واضحة وقوية من هذا الوجه على الرغم من المداخلات اليهودية واللمسات التحريرية التوفيقية، وفي الوقت نفسه أعقد صلة بين ما تحصل لدي من قراءة الأناجيل الأربعة وصورة يسوع كما رسمتها الأناجيل والنصوص الغنوصية، التي جرى إتلافها في القرن الرابع الميلادي عقب حملات التصعيد التي تعرضت لها، ولم يبق منها سوى ترجمات قبطية دفنت في صحراء الصعيد، ولم تكتشف إلا بعد مرور ألف وخمسمائة سنة، وبما أن منطقة الجليل كانت المسرح الذي شهد مولد يسوع، وفيها عاش كل حياته وبشر برسالته، فإننا سوف نولي هذه المنطقة اهتماما خاصا من الناحية الإثنية والثقافية والدينية، ونتقصى صلتها التاريخية بيهوذا والسامرة، ثم بمقاطعة اليهودية التي نشأ وتطور فيها الدين اليهودي، وذلك في محاولة لإلقاء الضوء على خلفية يسوع الثقافية، وعلاقته باليهود واليهودية.
قبل الشروع في قراءة الفصل الأول من هذا الكتاب أنصح القارئ بقراءة سيرة يسوع كما وردت في إنجيل مرقس ، والتي خصصت لها ملحقا في آخر الكتاب، وقد اخترت إنجيل مرقس بالذات بسبب قصره واختصاره وبعده عن التطويل، فهو يقدم سيرة يسوع في خطوطها العامة دون الخوض في كثير من التفاصيل التي وردت في الأناجيل الأخرى. إن قراءة هذا الإنجيل، أو أي إنجيل آخر يختاره القارئ، من شأنها تزويده بمزدلف سهل إلى الجو العام لهذا الكتاب، وقد اعتمدت الترجمة الكاثوليكية الجديدة للعهد الجديد الصادر في بيروت عام 1969م، وهي بمثابة تشذيب للترجمة الأقدم، لجعلها أقرب إلى العربية العصرية، ولاستيعاب القارئ الذي لم يعد قريب الصلة بأساليب الكتابة القديمة ومصطلحاتها، وهذه الترجمة هي التي اقتبست منها معظم شواهدي الإنجيلية في هذا الكتاب، مع الاستعانة بالترجمة البروتستانتية عندما أجد الجملة فيها أكثر فصاحة.
فراس السواح
حمص، حزيران (يونيو) 2004م
الفصل الأول
في الأناجيل الأربعة ومؤلفيها ورسالتها
لم يترك يسوع أثرا مكتوبا، بل تعاليم شفوية وسيرة حياة، لقد تكلم وعاش وكانت الجماعات المسيحية الأولى تتناقل أقواله وسيرة حياته كما وصلت إليها عن طريق تلاميذ يسوع الذين رأوه وسمعوه، ومارسوا تبشيرهم وهم تحت تأثير شخصيته وطريقة عيشه وأعماله. وعندما مات معظم أفراد هذا الجيل حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، وطفت على السطح الخلافات والتناقضات داخل الكنيسة الأولى، ظهرت الحاجة إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه، بهدف تثبيت المعتقد المسيحي من جهة، وتوكيد وجهة نظر هذه الجماعة أو تلك من جهة أخرى، ويبدو أن إنجيل مرقس كان أقدم الأناجيل، حيث يجمع دارسو العهد الجديد على أنه قد دون نحو عام 70م، تلاه إنجيلا متى ولوقا اللذان دونا خلال الفترة الواقعة بين عامي 70 و90م، ثم إنجيل يوحنا الذي دون في زمن ما خلال الفترة الواقعة بين عام 90 وعام 110م.
إلى جانب هذه الأناجيل الأربعة، التي اعتبرت وحدها قانونية فيما بعد، فقد تداول المسيحيون خلال القرون الأولى الميلادية عددا كبيرا من الأناجيل والرؤى والأعمال التي دعيت منحولة فيما بعد، ومنع المسيحيون من قراءتها وتداولها، تتضمن الكتابات المنحولة روايات عن ميلاد يسوع وطفولته ويفاعته، مما يغطي الفترة التي تجاهلتها الأناجيل الأربعة من حياة يسوع ، وروايات عن مريم العذراء وميلادها وحياتها، وأخرى عن تاريخ يوسف النجار، وغيرها من الموضوعات التي كان الخيال الشعبي والتقوى المسيحية البسيطة بحاجة إليها، وعلى الرغم من بقاء هذه الكتابات المنحولة على هامش العهد الجديد، فإنها مارست تأثيرا كبيرا على الفن التشكيلي المسيحي، والموسيقى الكنسية، والمناسبات والأعياد الدينية، إن مغارة الميلاد التي ما زالت تصور حتى يومنا هذا على بطاقات أعياد الميلاد ورأس السنة، ليست إلا تقليدا باقيا من تقاليد الميلاد المنحولة.
إلى جانب هذه المؤلفات المنحولة ذات الطابع التقوي الشعبي، ظهر نوع آخر من الأناجيل والمؤلفات الغنوصية أحدثت شرخا حقيقيا في الكنيسة المبكرة، وإذا كانت الكنيسة القويمة
1
قد تجاهلت النوع التقوي الشعبي من الأناجيل والمؤلفات المنحولة لأسباب شتى أهمها امتلاؤها بالعجائب والغرائب والمعجزات، فإنها حرمت المؤلفات الغنوصية باعتبارها هرطقة وتجديفا وخطرا على الإيمان المسيحي.
في هذا الفصل سوف نركز على الأناجيل الأربعة القانونية؛ لأنها عماد المسيحية التي نعرفها اليوم، ونبحث في مؤلفيها وبنيتها ومضمونها، مع التركيز على وجهتي النظر التي تطرحها بخصوص حياة يسوع وشخصيته وتعاليمه، تتبدى وجهة النظر الأولى في الأناجيل الثلاثة المدعوة بالإزائية والمتشابهة، وهي متى ومرقس ولوقا، أما وجهة النظر الثانية فتتبدى في إنجيل يوحنا، الذي يعتبر نسيج وحده بين الأربعة. (1) الأناجيل الإزائية
عزيت هذه الأناجيل إلى أسماء من العصر الرسولي، هم على التوالي: متى ومرقس ولوقا، ويبدو أن عناوين هذه الأناجيل، التي تقول: الإنجيل بحسب متى، أو بحسب مرقس، أو بحسب لوقا، قد وضعت بعد تأليفها بزمن طويل، وذلك لإضفاء السلطة والمصداقية عليها، إن أقدم إشارة إلى متى ومرقس بوصفهما مؤلفين لإنجيليهما قد وردت لدى أوزيبوس القيساري
Eusibius Of Caesarea ، الذي عاش في القرن الرابع الميلادي ووضع في تاريخ الكنيسة كتابا اعتمد في أخباره عن الإنجيليين على الأسقف بابياس
الذي عاش في القرن الثاني الميلادي. يقول بابياس بأن متى كان أول من جمع تعاليم يسوع في مؤلف دعاه «بالأقوال»
Logia ، كتبه بالآرامية، ثم قام الآخرون بترجمته كل حسب مقدرته، ونحن لا نعرف بالفعل ما إذا كان هذا الكتاب هو نفسه إنجيل متى المعروف، والذي يحتوي على أكثر من مجرد أقوال وتعاليم يسوع، ولا ندري ما إذا كان متى «الأقوال» هذا هو نفسه متى العشار تلميذ يسوع. وفي الحقيقة فإن معظم الباحثين في العهد الجديد، منذ القرن التاسع عشر، يشكون بنسبة إنجيل متى إلى متى العشار تلميذ يسوع، ولكن هذا الخبر عن «الأقوال» أو «اللوجيا» يلفت نظرنا إلى حقيقة مهمة تتعلق بتأليف الأناجيل، وهي أن المؤلفين قد اعتمدوا مجموعة أو أكثر لأقوال يسوع، ثم وضعوا لها مناسبات معينة، وشبكوا هذه المناسبات إلى بعضها في سياق كرونولوجي لتعطي الانطباع بسيرة مطردة، وقد بقي لنا نموذج عن مثل هذه «الأقوال» التي لم تتحول إلى سيرة، وذلك في إنجيل توما، الذي يحتوي على 114 قولا ليسوع دون ذكر مناسباتها أو سياقها الكرونولوجي في حياة يسوع، الذي يبدو هنا خارج أي سياق دنيوي، ومعلما يهدي إلى العرفان في جمل قصيرة ومكثفة.
ثم يقدم لنا بابياس هذا مرقسا باعتباره مرافقا لبطرس في رحلاته التبشيرية، ويقول بأن مرقس قد سجل ما سمعه من بطرس عن حياة وأقوال يسوع، على الرغم من أنه لم ير يسوع ولم يسمع منه مباشرة. أما عن الإنجيل الثالث فإن أقدم إشارة تربطه بلوقا تأتي من أول كاتالوج للعهد الجديد في نهاية القرن الثاني الميلادي، ولوقا هذا، شأنه شأن مرقس، شخصية غامضة وغير واضحة المعالم، ونحن لم نعرف عنهما إلا من إشارات متفرقة في سفر أعمال الرسل، وفي رسائل بولس.
وبشكل عام، هنالك شبه إجماع بين دارسي العهد الجديد، على أنه على الرغم من الاسم الرسولي لكاتب الإنجيل الأول، فإن مؤلفي الأناجيل الثلاثة لم يروا يسوع ولم يسمعوا منه مباشرة، وإنما كتبوا أناجيلهم باللغة اليونانية بعد مضي جيل أو جيلين على وفاة يسوع، اعتمادا على ذكريات ومعلومات غير مباشرة، وربما توفرت لواحد منهم أو أكثر مجموعة أقوال ليسوع دونها مؤلف مجهول الهوية. ويبدو من المعلومات التي يوردونها عن فلسطين عصر يسوع، عدم معرفتهم بجغرافية وطبوغرافية وبيئة فلسطين، من ذلك مثلا ما ورد في إنجيل مرقس 517: 1 وإنجيل لوقا 8: 26، عن ممسوس في كورة (أو ناحية) الجدريين (نسبة إلى بلدة جدرة الجليلية) أخرج يسوع منه شياطين كثيرة كانت تعذبه، ولكن الشياطين استأذنت يسوع أن تدخل في قطيع من الخنازير كان يرعى في الجوار، فأذن لها، وعندما حلت الشياطين في الجزيرة اهتاجت واندفعت من على الجرف إلى بحر الجليل وغرقت، والمعروف أن بلدة جدرة كانت تقوم على مسافة بعيدة جدا عن بحر الجليل، بحيث إذا أرادت الخنازير أن تصل إليه كان عليها أن تطير لا أن تقفز.
2
دعيت هذه الأناجيل الثلاثة بالإزائية؛ لأنها تعكس وجهة نظر واحدة في حياة يسوع ورسالته؛ ولأن القصة فيها تسير عبر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث نستطيع المقارنة بينها عن طريق وضعها إزاء بعضها بعضا في أعمدة ثلاثة. لننظر مثلا إلى حادثة شفاء يسوع لحماة بطرس في الأناجيل الثلاثة، ونرى كيف تتقابل الروايات عندما نضعها في ثلاثة أعمدة إزائية.
متى 8
مرقس 1
لوقا 4 (14) وجاء يسوع إلى بيت بطرس فرأى حماته ملقاة على الفراش محمومة. (29) ولما خرجوا من المجمع جاءوا إلى بيت سمعان وأندرواس. (38) ثم ترك المجمع ودخل بيت سمعان. وكانت حماة سمعان مصابة بحمى شديدة فسألوه أن يسعفها. (30) وكانت حماة سمعان في الفراش محمومة فأخبروه بأمرها. (15) فلمس يدها ففارقتها الحمى فنهضت وأخذت تخدمهم. (31) فدنا منها فأخذ بيدها وأنهضها ففارقتها الحمى وأخذت تخدمهم. (39) فانحنى عليها وزجر الحمى، ففارقتها فنهضت من وقتها وأخذت تخدمهم.
ولكن المقابلة بين الأناجيل الإزائية ليست دوما على هذه الدرجة من الدقة، ذلك أن إنجيل مرقس هو الأقصر بينها والأشد اختصارا، وهو يبدأ من ظهور يوحنا المعمدان وتعميده للناس في نهر الأردن، ومجيء يسوع للاعتماد على يديه، وهو يتجاهل تماما ميلاد يسوع وطفولته ونسبه، على عكس الإنجيلين الآخرين اللذين يبتدئان بروايتين مطولتين ومختلفتين عن الميلاد، ثم ينفرد لوقا بإيراد قصة يسوع وهو فتى في الثانية عشرة من عمره يناقش شيوخ الهيكل، وبينما يزيد طول إنجيل متى على 60٪ من طول إنجيل مرقس، فإن إنجيل لوقا يزيد على إنجيل مرقس بمقدار 70٪، هذا وتشكل المادة التي قدمها مرقس قاسما مشتركا بين متى ولوقا، عالجاها على هذه الدرجة أو تلك من التطوير والإطالة، ولكن الإنجيلين يشتركان أحيانا بإيراد أحداث أو أقوال لم ترد عند مرقس، وقد ينفرد أحدهما بمادة غير موجودة في الآخر، وهذا ما دعا الباحثين في العهد الجديد إلى الاستنتاج بأن إنجيل مرقس هو تأليف أصلي مستقل اعتمده كل من متى ولوقا، فنظم مادته بشكل خاص به، وأضاف إليها مادة مستمدة من مرجع آخر مجهول ومشترك بينهما أيضا دعوه ب «كويلا»
Quella ، وهي كلمة ألمانية تعني «المصدر».
وإليكم هذه المقارنة الثانية:
مرقس 8
متى 16
لوقا 9 (27) ثم ذهب يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيليبس، فسأل في الطريق تلاميذه: من أنا على حد قول الناس؟ (13) ولما وصل يسوع إلى نواحي قيصرية فيليبس، سأل تلاميذه: من هو ابن الإنسان على حد قول الناس؟ (18) واتفق أنه كان يصلي في عزلة، والتلاميذ معه، فسألهم: من أنا على حد قول الجموع؟ (28) فأجابوه: يوحنا المعمدان، والبعض يقول إيليا، وآخرون أحد الأنبياء. (14) فقالوا: بعضهم يقول هو يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول هو إرميا أو أحد الأنبياء. (19) فأجابوه: يوحنا المعمدان، وبعضهم يقول إيليا، آخرون نبي من الأولين قام. (29) فسألهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ (15) فقال لهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ (20) فقال لهم: ومن أنا على حد قولكم أنتم؟ (30) فأجاب بطرس: أنت المسيح، فنهاهم أن يخبروا أحدا بأمره. (16) فأجاب سمعان بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي. (21) فأجاب بطرس مسيح الله، فنهاهم بشدة أن يخبروا أحدا بذلك. (17) فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان ابن يونا، فليس اللحم والدم كشفا لك هذا، بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك: أنت صخر، وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي فلن تقوى عليها أبواب الجحيم، وسأعطيك مفاتيح ملكوت السموات ... ثم أوصى تلاميذه بألا يخبروا أحدا بأنه المسيح.
نلاحظ من هذه المقارنة أن الإضافة التي انفرد بها متى تخدم أهدافه، فليس الإعلاء من شأن بطرس هنا إلا انتصارا من قبل متى لكنيسة الختان التي كان بطرس داعيتها الرئيسي، على حساب كنيسة الأمم التي كان بولس داعيتها الرئيسي.
فإذا تابعنا المقارنة السابقة وجدنا لوقا الذي عودنا على التفصيل والإفاضة، يهمل ما تلا ذلك من تفريع يسوع لبطرس.
مرقس 8
متى 16
لوقا 9 (32) ثم بدأ يعلمهم أن ابن الإنسان يجب عليه أن يعاني آلاما شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة وأن يقتل، وأن يقوم في ثلاثة أيام. (21) وبدأ يسوع من ذلك اليوم يظهر لتلاميذه أنه يجب عليه الذهاب إلى أورشليم ويلقى أشد الآلام من الشيوخ والأحبار والكتبة، ويقتل ويقوم في اليوم الثالث. (22) وقال: يجب على ابن الإنسان أن يعاني آلاما شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة وأن يقتل ويقوم في اليوم الثالث. (32) وكان يقول هذا الكلام صراحة فانفرد به بطرس وراح يعاتبه. (22) فانفرد به بطرس وجعل يعاتبه فيقول: حاشاك يا رب من هذا المصير. (33) فالتفت فرأى تلاميذه، فزجر بطرس وقال: اذهب عني يا شيطان لأن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار البشر. (23) فالتفت وقال لبطرس: سر خلفي يا شيطان، فأنت عقبة دوني؛ لأن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار البشر. (2) بين إنجيل مرقس والإنجيلين الآخرين
لعل أكثر ما يلفت النظر في مسألة الفروق بين الأناجيل الإزائية، هو الإطار الزمني الذي تجري فيه أحداث الرواية، فإنجيل مرقس الأكثر اختزالا بينها يفتتح روايته، كما ألمحنا سابقا، بالظهور العلني ليوحنا المعمدان وتعميده بالماء لمغفرة الخطايا، وهو يتجاهل تماما عنصر الحبل العذري بيسوع وقصة ميلاده وطفولته، فيسوع يظهر فجأة عندما يأتي من الناصرة ليتعمد على يدي يوحنا. وفي النسخ القديمة لإنجيل مرقس يختتم المؤلف روايته عندما هربت النساء الثلاث اللواتي أتين إلى قبر يسوع مذعورات؛ لأنهن لم يجدن الجثمان، وقال لهن الملاك الواقف في الداخل إن يسوع قد قام من بين الأموات، وإنه سيسبق تلاميذه إلى الجليل، وهذا ما يرجح في رأي بعض الباحثين أن قصة الميلاد العذري، وكذلك ظهورات المسيح المتكررة لتلاميذه، وارتفاعه أخيرا إلى السماء أمام أعينهم، مما ورد في النسخ اللاحقة للإنجيل، هي عناصر مقحمة على النص الأصلي .
أما متى فإنه يزيد على مرقس مقدمة تتعلق بنسب يسوع من ناحية يوسف النجار، فيعرض سلسلة تبتدئ بإبراهيم وتنتهي بيوسف زوج مريم، مرورا بالملك داود، ثم ينتقل بعد ذلك إلى قصة الميلاد، وفي النهاية يقدم لنا خاتمة تتجاوز خاتمة مرقس لتقص باختصار عن ظهورات يسوع بعد القيامة، وأما لوقا فإنه يمد القصة في كلا الاتجاهين، فقبل أن يتحدث عن الميلاد وعن نسب يسوع، يورد لنا قصة ميلاد يوحنا المعمدان التي تتساوق أحداثها مع قصة ميلاد يسوع، ثم يزيد على قصة الميلاد حادثة زيارة الأبوين للهيكل، وبقاء يسوع الفتى هناك يجادل الشيوخ الذين أدهشتهم حكمته. وفي نهاية إنجيله يقدم لنا لوقا خاتمة طويلة عن قيامة المسيح وظهوراته، تحتوي على العديد من العناصر التي لم ترد عند متى. (3) الميلاد بحسب متى
الإصحاح الأول (1) نسب يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم. (2) فإبراهيم ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب، ويعقوب ولد يهوذا وإخوته. (3) ويهوذا ولد فارص وزارح من تامار، وفارص ولد حصرون، وحصرون ولد آرام. (4) وآرام ولد عميناداب، وعميناداب ولد نحشون، ونحشون ولد سلمون. (5) وسلمون ولد بوعز من راحاب، وبوعز ولد عوبيد من راعوث، وعوبيد ولد يسي. (6) ويسي ولد الملك داود، وداود ولد سليمان من امرأة أوريا. (7) وسليمان ولد رحبعام، ورحبعام ولد أبيا، وأبيا ولد آسا. (8) وآسا ولد يهوشافاط، ويهوشافاط ولد يورام، ويورام ولد عوزيا، وعوزيا ولد يوتام. (9) ويوتام ولد آحاز، وآحاز ولد حزقيا (10) وحزقيا ولد منسي، ومنسي ولد آمون، وآمون ولد يوشيا. (11) ويوشيا ولد يكينا وأخوته في أثناء الجلاء إلى بابل. (12) ويكينا ولد شألتئيل، وشألتئيل ولد زربابل. (13) وزربابل ولد أبيهود، وأبيهود ولد أليقايم، وأليقايم ولد عازور. (14) وعازور ولد صادوق، وصادوق ولد آخيم، وآخيم ولد أبيهود. (15) وأبيهود ولد عازر، وعازر ولد متان، ومتان ولد يعقوب. (16) ويعقوب ولد يوسف زوج مريم والدة يسوع الذي يقال له المسيح. (17) فجملة الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلا، ومن داود إلى الجلاء إلى بابل أربعة عشرة جيلا، ومن الجلاء إلى بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلا. (18) أما ميلاد يسوع المسيح، فهذا خبره: لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف، وجدت حاملا من الروح المقدس قبل أن يتساكنا. (19) وكان يوسف زوجها بارا فلم يرد أن يشهر أمرها، فعزم على تركها سرا. (20) وفيما هو متفكر في ذلك تراءى له ملاك الرب في الحلم وقال له: يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تجيء بامرأتك مريم إلى بيتك؛ لأن الذي تحمله هو من الروح القدس. (21) وستلد ابنا فسمه يسوع؛ لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم. (22) وإنما حدث هذا كله ليتم ما أوحى الرب إلى النبي القائل. (23) هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا يدعى عمانوئيل، أي الله معنا. (24) فلما قام يوسف من النوم، فعل ما أمره به ملاك الرب فجاء بامرأته إلى بيته. (25) على أنه لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر فسماه يسوع.
3
الإصحاح الثاني (1) ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية على عهد الملك هيرود، قدم أورشليم مجوس من المشرق. (2) وقالوا: أين هو المولود ملك اليهود؟ فقد رأينا نجمه طالعا في المشرق فجئنا لنسجد له. (3) فلما بلغ الخبر هيرود اضطرب واضطربت أورشليم كلها معه. (4) فجمع الأحبار وكتبة الشعب، واستخبرهم أين يولد المسيح. (5) فقالوا له: في بيت لحم اليهودية، فقد أوحي إلى النبي فكتب: (6) «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغيرة في ولايات يهوذا، فمنك يخرج وال يرعى شعبي إسرائيل.» (7) فدعا هيرود المجوس سرا وتحقق منهم في أي وقت ظهر النجم. (8) ثم بعثهم إلى بيت لحم وقال: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الطفل، فإذا وجدتموه فأخبروني لأذهب أنا أيضا وأسجد له. (9) فلما سمعوا كلام الملك انصرفوا، وإذا النجم الذي رأوه طالعا يتقدمهم حتى بلغ المكان الذي فيه الطفل فوقف فوقه. (10) فلما أبصروا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا. (11) ودخلوا البيت فرأوا فيه الطفل وأمه مريم فجثوا له ساجدين، ثم فتحوا حقائبهم وأهدوا إليه ذهبا وبخورا ومرا. (12) ثم أوحي إليهم في الحلم ألا يرجعوا إلى هيرود، فانصرفوا سالكين طريقا آخر إلى بلادهم. (13) وكان بعد انصرافهم أن تراءى ملاك الرب ليوسف في الحلم، وقال له : قم فاهرب بالطفل وأمه إلى مصر وأقم فيها حتى أعلمك؛ لأن هيرود سيبحث عن الطفل ليهلكه. (14) فقام وسار بالطفل وأمه ليلا ولجأ إلى مصر. (15) فأقام فيها إلى أن توفي هيرود، لكي يتم ما أوحي إلى النبي فقال: «من مصر دعوت ابني.» (16) أما هيرود فلما رأى أن المجوس سخروا منه، استشاط غضبا وأرسل فقتل كل طفل في بيت لحم وسائر أراضيها، من ابن سنتين فما دون ذلك، بحسب الوقت الذي تحققه من المجوس. (17) فتم ما أوحي إلى النبي إرميا فقال (18): «صراخ سمع في الرامة، بكاء ونحيب، راحيل تبكي بنيها، وتأبى أن تتعزى لأنهم زالوا من الوجود.» (19) وما أن توفي هيرود حتى تراءى ملاك الرب في حلم ليوسف في مصر. (20) وقال له: اذهب بالطفل وأمه وارجع إلى أرض إسرائيل، قد مات من كان يريد إهلاك الطفل. (21) فقام فذهب بالطفل وأمه ورجع إلى أرض إسرائيل. (22) فسمع أن أرخلاوس قد خلف أباه هيرود على اليهودية فخاف أن يذهب إليها. (23) فأوحى إليه في الحلم، فلجأ إلى الجليل وجاء إلى مدينة يقال لها الناصرة فسكن فيها ليتم ما أوحي إلى الأنبياء فقالوا: «وإنه ناصريا يدعى.» (إلى هنا وتتوقف سيرة يسوع عند متى حتى ظهور يوحنا المعمدان وقدوم يسوع للاعتماد على يديه، حيث يقول متى في الإصحاح 3): (13) ثم ظهر يسوع فجأة من الجليل إلى الأردن قاصدا يوحنا ليعتمد على يده. (14) فجعل يوحنا يمانعه فيقول: أنا أحتاج إلى الاعتماد على يدك، فكيف تجيء أنت إلي؟ (15) فأجابه يسوع: دعني الآن وما أفعل فهكذا يحسن بنا أن نتم بكل بر. فكف عن ممانعته. (16) واعتمد يسوع وخرج لوقته من الماء فإذا السموات قد انفتحت فرأى روح الله يهبط كأنه حمامة وينزل عليه. (17) وإذا صوت من السماء يقول: «هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت.» •••
يطرح مطلع إنجيل متى المتعلق بنسب المسيح أولى المداخلات اليهودية في الإنجيل، فسلسلة النسب عبر خط الذكور تتألف عنده من أربعة عشر جيلا مقسمة على ثلاث مجموعات: الأولى من إبراهيم إلى داود، والثانية من داود إلى يكنيا (ويدعى كيناهو، ويهوياكين، وهو واحد من أواخر ملوك يهوذا)، والثالثة من يكنيا إلى يسوع عبر يوسف، فيسوع هو ابن داود، وهو المسيح اليهودي المنتظر. ولكن سلسلة نسب يسوع هذه تتهاوى كبيت من ورق، عندما ينهيها متى بخاتمة تنسفها من حيث الأصل فبدلا من أن يتابع سلسلته على طريقة «أ» أنجب «ب»، و«ب» أنجب «ج»، و«ج» أنجب «د»، وصولا إلى نهايتها المنطقية التي يجب أن تكون: «ويعقوب أنجب يوسف، ويوسف أنجب يسوع»، وهذا ما يتناقض مع فكرة الحمل العذري من الروح القدس، فقد أنهاها متى على الشكل التالي: «ويعقوب أنجب يوسف زوج مريم والدة المسيح»، وهذه الخاتمة على غموضها تشير إلى أن يسوع ليس الابن الجسدي ليوسف، وفي هذه الحالة يبقى السؤال الذي لم يجب عليه متى مطروحا، وهو: «كيف يكون يسوع ابنا لداود عبر هذه السلسلة الطويلة، على الرغم من أنه ليس الابن الجسدي ليوسف؟ هذا على فرض صحة نسب يوسف لداود، وهي مسألة سوف نثيرها فيما بعد.
أما قصة الميلاد نفسها فتحتوي على أخطر المداخلات اليهودية في الإنجيل، وهي المداخلة التي رسخت الأصل اليهودي ليسوع، فأسرة يسوع ليست أسرة جليلية متهودة، بل هي أسرة يهودية من مدينة بيت لحم الواقعة في مقاطعة اليهودية، ويسوع ولد في بيت عادي من بيوت بيت لحم؛ حيث قصده المجوس هناك وسجدوا له وقدموا الهدايا، ولكي يعطي قصته هذه مصداقية، نراه يقتبس من العهد القديم نبوءة حول المسيح المنتظر، ولكنه يعدلها بطريقة تخدم أهدافه عندما يقول بأن ميلاد يسوع في بيت لحم يهوذا قد حقق النبوءة القديمة القائلة: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغيرة في ولايات يهوذا، فمنك يخرج وال يرعى شعبي إسرائيل.» وفي الحقيقة فإن النبوءة الوحيدة التي يمكن أن تتطابق مع ما اقتبسه متى، هي الواردة في سفر ميخا 5: 2 والتي تقول: «أما أنت يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل .» وبما أن «أفراتة» التي يذكرها هذا النص تقع في منطقة الجليل، على ما نفهم من عدة مواضع في سفر التكوين، وفيها تقع مدينة بيت لحم الجليلية التي كان مؤلف متى يعرفها جيدا، فقد عمد إلى التلاعب بنص العهد القديم وحول بيت لحم أفراتة الصغيرة على أن تكون بين ألوف يهوذا، إلى بيت لحم أرض يهوذا التي ليست أصغر ولايات يهوذا، ومنها يخرج وال يرعى شعب إسرائيل وهذه نقطة سوف نعود إليها بالتفصيل لاحقا.
ولكي يبرر متى وجود أسرة يسوع في الجليل ونشأته وتبشيره هناك، فإنه يبتكر قصة هرب العائلة المقدسة إلى مصر؛ خوفا من هيرود الذي كان يبحث عن الطفل ليقتله، وعندما توفي هيرود، ويسوع ما زال طفلا صغيرا، عاد يوسف ليسكن مع عائلته في موطنه الأصلي بيت لحم، ولكنه عرف لدى وصوله إلى أرخيلاوس، قد خلف أباه هيرود على حكم اليهودية، فخاف ونزح بعائلته إلى الجليل حيث سكن في مدينة الناصرة، وهنا يبتكر متى نبوءة لم ترد في أي موضع من أسفار العهد القديم عندما قال: «فسكن فيها ليتم ما أوحي إلى الأنبياء فقالوا: إنه ناصريا يدعى.»
ومن ناحية أخرى فقد كان لمتى من وراء قصة قيام هيرود بقتل كل المواليد في بيت لحم، على أمل أن يكون يسوع بينهم، هدف لاهوتي بعيد المرامي، فيسوع هو موسى الجديد، معلم إسرائيل القديم في حلة جديدة، فكما أمر فرعون في سفر الخروج بقتل كل المواليد العبرانيين الذكور إبان الوقت الذي ولد فيه موسى، كذلك يأمر الفرعون الجديد، وهو الملك هيرود الشرير، بقتل كل مواليد بيت لحم، ولكن يسوع ينجو مثلما نجا موسى عندما أودعته أمه في سلة ورمته إلى نهر النيل (سفر الخروج 1 و2).
وسواء في قصة الميلاد الافتتاحية أم في بقية إنجيل متى، يحاول المؤلف على الدوام إثبات المطابقة بين يسوع وبين مسيح العهد القديم، من خلال إيراد الأقوال النبوية التوراتية، وتوجيهها لتنطبق على سيرة يسوع، فهو يولد من عذراء تحقيقا لنبوءة إشعياء 7: 14: «هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنا يدعى عمانوئيل ...» ويكون مولده في بيت لحم تحقيقا لنبوءة ميخا 5: 2: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا ... إلخ.» وهيرود يقتل مواليد بيت لحم تحقيقا لنبوءة إرميا 31: 15: «صراخ سمع في الرامة، بكاء ونحيب، راحيل تبكي على بنيها ...» والعائلة المقدسة تلجأ إلى مصر تحقيقا لنبوءة هوشع 11: 1: «من مصر دعوت ابني.» وهو يسكن في كفر ناحوم، بعد الناصرة، تحقيقا لنبوءة إشعيا 9: 2: «أرض زبولون وأرض نفتالي، طريق البحر، عبر الأردن جليل الأمم، الشعب القاعد في الظلمة أبصر نورا باهرا.» ويوحنا المعمدان يبدأ مهمته التبشيرية قبل يسوع، تحقيقا لنبوءة ملاخي 3: 1: «ها أنا ذا أرسل رسولي قدامك ليعد الطريق أمامك.» ويسوع يكلم مستمعيه بالأمثال تحقيقا لنبوءة وردت في المزمور 77: 2: «أنطق بالأمثال وأعلن ما كان خفيا.» وهو يطرد الأرواح الشريرة من الممسوسين ويشفي المرضى، تحقيقا لنبوءة إشعيا 53: 4: «أخذ أمراضنا وحمل أسقامنا.» وروح الرب يحل عليه ليبشر الأمم، تحقيقا لنبوءة إشعيا 42: 1-2: «هو ذا فتاي
4
الذي اخترته حبيبي الذي رضيت عنه، سأفيض روحي عليه فيبشر الأمم بالحق.» وتتتابع هذه النبوءات عبر حياة يسوع التبشيرية وصولا إلى مشهد الصلب، عندما سقوه خلا فيه مرارة ليشربها، ثم اقترعوا على ثيابه، حيث تم هذا تحقيقا لما ورد في المزمور 69: 21: «ويجعلون في طعامي علقما، وفي عطشي يسقونني الخل.» ولما ورد في المزمور 22: 18: «ثقبوا يدي ورجلي، أحصي كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون، يقسمون ثيابي بينهم، وعلى لباسي يقترعون.» (4) الميلاد بحسب لوقا
الإصحاح الأول (5) كان في عهد هيرود ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة أبيا، له امرأة من بنات هارون اسمها أليصابات. (6) وكانا كلاهما بارين عند الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه، ولا غبار عليهما. (7) ولم يكن لهما ولد لأن أليصابات كانت عاقرا، وقد طعنا كلاهما في السن. (8) وبينما هو يكهن لدى الله في نوبة فرقته. (9) ألقيت القرعة جريا على سنة الكهنوت، فأصابته ليدخل هيكل الرب ويحرق البخور. (10) وكانت جماعة الشعب كلها تصلي في خارج المذبح عند إحراق البخور. (11) فتراءى ملاك الرب قائما عن يمين مذبح البخور. (12) فاضطرب زكريا حين رآه، واستولى عليه الخوف. (13) فقال له الملاك: يا زكريا لا تخف، إن دعاءك قد سمع، وستلد امرأتك ابنا فسمه يوحنا. (14) وستلقى فرحا وابتهاجا، ويفرح بمولده أناس كثيرون. (15) لأنه سيكون عظيما لدى الرب ولن يشرب الخمر ولا مسكرا، ويمتلئ من الروح القدس وهو في بطن أمه. (16) ويهدي كثيرا من بني إسرائيل إلى الله ربهم. (17) ويتقدمه روح إيليا وقوته، ليعطف بقلوب الآباء على الأبناء، ويرجع العصاة إلى حكمة الأبرار، فيعد للرب شعبا صالحا. (18) فقال زكريا للملاك: بم أعرف هذا، وأنا شيخ كبير وامرأتي طاعنة في السن؟ (19) فأجابه الملاك: أنا جبرائيل القائم في حضرة إله، أرسلت إليك لأبلغك هذه البشرى. (20) وستصاب بالخرس فلا تستطيع الكلام إلى يوم يحدث ذلك لأنك لم تؤمن بكلامي، وكلامي سيتم في أوانه. (21) وكان الشعب ينتظر زكريا متعجبا من إبطائه في الهيكل. (22) فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم فعرفوا أنه رأى رؤيا في الهيكل، وكان يخاطبهم بالإشارة وبقي أخرس. (23) فلما انتهت أيام خدمته انصرف إلى بيته. (24) وبعد تلك الأيام حبلت امرأته أليصابات، فكتمت أمرها خمسة أشهر وكانت تقول: (25) هذا ما آتاني الرب من فضله يوم عطف علي، فأزال عني العار من بين الناس. (26) وفي الشهر السادس أرسل الله الملاك جبرائيل إلى مدينة في الجليل تدعى الناصرة. (27) إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، واسم العذراء مريم. (28) فدخل إليها فقال: السلام عليك أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك. (29) فاضطربت لهذا الكلام وقالت في نفسها ما معنى هذا. (30) فقال لها الملاك: يا مريم لا تخافي قد نلت حظوة عند الله. (31) فستحملين وتلدين ابنا تسمينه يسوع. (32) فيكون عظيما وابن العلي يدعى، ويوليه الله ربنا عرش داود أبيه. (33) ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء. (34) فقالت مريم للملاك: أنى يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟ (35) فأجابها الملاك إن الروح القدس يحل عليك، وقدرة العلي تظللك؛ لذلك يكون المولود قدوسا وابن الله يدعى. (36) وإن قريبتك أليصابات قد حبلت هي أيضا بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك التي كانت تدعى عاقرا. (37) فما من شيء يعجز الله. (38) فقالت مريم: أنا أمة الرب فليكن لي كما قلت. وانصرف الملاك من عندها. (39) وفي تلك الأيام مضت مريم تجد السير إلى الجبل إلى مدينة يهوذا [أورشليم]. (40) ودخلت بيت زكريا فسلمت على أليصابات. (41) فلما سمعت أليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من الروح القدس. (42) فهتفت بأعلى صوتها: مباركة أنت بين النساء ومباركة ثمرة بطنك. (43) أنى لي أن تأتيني أم ربي؟ (44) فما أن وقع صوت سلامك في مسمعي حتى اهتز الجنين طربا في بطني. (45) فطوبى لك يا من آمنت بأن ما بلغها من عند الرب سيتم. (46) فقالت مريم: تعظم الرب نفسي. (47) وتبتهج روحي بالله مخلصي. (48) لأنه عطف على أمته الحقيرة، سوف تهنئني جميع الأجيال. (49) لأن القدير آتاني فضلا عظيما قدوس اسمه. (50) ورحمته للذين يتقونه من جيل إلى جيل. (51) كشف عن شدة ساعده فشتت ذوي القلوب المستكبرة. (52) أنزل الأعزاء عن العروش ورفع الأذلاء. (53) أشبع الجياع من الخيرات وصرف الأغنياء فارغين. (54) نصر عبده إسرائيل. (55) فتذكر ما وعد به آباءنا من رحمة لإبراهيم وذريته إلى الأبد. (56) ومكثت مريم عندها نحو ثلاثة أشهر ثم عادت إلى بيتها. (57) وأما أليصابات فلما حان موعد ولادتها وضعت ابنا. (58) فسمع جيرانها وأقاربها بأن الرب رحمها رحمة عظيمة ففرحوا معها. (59) وجاءوا في اليوم الثامن ليختنوا الطفل وسموه باسم أبيه زكريا. (60) فاعترضت أمه وقالت: لا بل يسمى يوحنا. (61) قالوا: ليس في قرابتك من تسمى بهذا الاسم. (62) وسألوا أباه بالإشارة ماذا يريد أن يسمي. (63) فطلب لوحا وكتب: اسمه يوحنا، فتعجبوا كلهم. (64) فانفتح فمه من ساعته وانطلق لسانه فتكلم وبارك الله. (65) فاستولى الخوف على جيرانهم أجمعين وتحدث الناس بجميع هذه الأشياء في جبال اليهودية كلها. (66) وكان كل من سمع بذلك يحفظه في قلبه قائلا: ما عسى أن يكون هذا الطفل؟ فإن يد الرب كانت معه. (67) وامتلأ أبوه زكريا من الروح القدس فأنبأ قال: (68) تبارك الله إله إسرائيل لأنه تفقد شعبه وافتداه. (69) فأقام لنا قرن خلاص في بيت عبده داود. (70) كما وعد بلسان أنبيائه الأطهار في العهد القديم. (71) إنقاذا لنا من أعدائنا وأيدي جميع مبغضينا. (72) ورحمة لآبائنا وذكرا لعهده المقدس. (73) والقسم الذي أقسمه لأبينا إبراهيم بأن ينعم علينا. (74) فننجو من أيدي أعدائنا. (75) ونعبد بالتقوى والبر غير خائفين طوال أيام حياتنا. (76) وأنت أيها الطفل ستدعى نبي العلي لأنك تتقدم الرب لتعد طرقه. (77) وتعلم شعبه أن الخلاص هو في غفران خطاياهم. (78) تلك رحمة من لطف إلهنا يتفقدنا لها الشارق من العلى. (79) ليضيء للقاعدين في الظلمة وظلال الموت ويسدد خطانا لسبيل السلام. (80) وكان الطفل ينمو وتزكو روحه وأقام في البراري إلى أن ظهر لإسرائيل.
الإصحاح الثاني (1) وفي ذلك الزمان، أمر القيص أغسطس بإحصاء جميع أهل المعمورة. (2) وجرى هذا الإحصاء الأول؛ إذ كان كيرينيوس حاكما في سورية. (3) فذهب جميع الناس ليكتتب كل واحد في مدينته. (4) وصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، فقد كان من بيت داود وذريته. (5) ليكتتب ومريم خطيبته وكانت حاملا. (6) وبينما هما فيها حان وقت ولادتها. (7) فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في مذود لأنه لم يكن لهما موضع في الفندق. (8) وكان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البرية يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم. (9) ففاجأهم ملاك الرب وأشرق مجد الرب حولهم فخافوا خوفا شديدا. (10) فقال لهم الملاك: لا تخافوا إني أبشركم بفرح عظيم يعم الشعب بأجمعه. (11) ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود وهو المسيح الرب. (12) وإليكم هذه العلامة: ستجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود. (13) وانضم إلى الملاك بغتة جمهور من جند السماء يسبحون الله فيقولون: (14) المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة. (15) فلما انصرف الملائكة عنهم إلى السماء قال الرعاة بعضهم لبعض: هلم بنا إلى بيت لحم فنرى هذا الحدث الذي أنبأنا به الرب. (16) وجاءوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضطجعا في المذود. (17) فجعلوا بعدما رأوا الطفل يخبرون بما قيل لهم فيه. (18) فصار كل من سمع الرعاة يعجب مما حدثوه به. (19) وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور وتتأملها في قلبها. (20) ورجع الرعاة وهم يمجدون الله، ويسبحونه على كل ما سمعوا ورأوا كما أنبئوا. (21) ولما بلغ يومه الثامن وهو اليوم الذي يجب أن يختن فيه، سمي يسوع، كما سماه الملاك قبل أن يحبل به. (22) ولما حان يوم طهورهما بحسب شريعة موسى صعدا به إلى أورشليم ليقرباه إلى الرب. (23) كما تقضي شريعة الرب من أن كل بكر ذكر ينذر للرب. (24) وليقربا ما تفرضه شريعة الرب: زوجي يمام أو فرخي حمام. (25) وكان في أورشليم رجل بار تقي اسمه سمعان، ينتظر الفرج لإسرائيل، والروح القدس نازل عليه. (26) وكان الروح القدس قد أوحى إليه أنه لا يذوق الموت قبل أن يرى مسيح الرب. (27) فأتى إلى الهيكل بوحي من الروح ولما دخل بالطفل أبواه ليؤديا عنه ما تفرضه الشريعة. (28) حمله على ذراعيه وبارك الله ثم قال: (29) رب أطلق الآن عبدك بسلام وفاقا لقولك. (30) فقد رأت عيناي ما أعددته من خلاص. (31) للشعوب كلها. (32) نورا لهداية الأمم ومجدا لشعبك إسرائيل. (33) وكان أبوه وأمه يعجبان مما يقال فيه. (34) وباركهما سمعان ثم قال لأمه مريم: إنه جعل لسقوط كثير من الناس وقيام كثير منهم في إسرائيل وآية ينكرونها. (35) وأنت سينفذ سيف في نفسك لتنكشف الأفكار عن قلوب كثيرة. (36) وكان هناك نبية هي حنة ابنة فانوئيل من سبط أشير، طاعنة في السن، عاشت مع زوجها سبع سنوات بعد بكارتها. (37) ثم بقيت أرملة فبلغت الرابعة والثمانين من عمرها لا تفارق الهيكل متعبدة بالصوم والصلاة ليل نهار. (38) فحضرت في تلك الساعة وأخذت تحمد الله وتحدث بأمر الطفل كل من كان ينتظر فداء أورشليم. (39) ولما أتما جميع ما تفرضه شريعة الرب، رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة. (40) وكان الطفل ينمو ويترعرع ويمتلئ حكمة وكانت نعمة الله عليه. (41) وكان أبواه يذهبان إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح. (42) فلما بلغ اثنتي عشرة سنة صعدوا إليها جريا على السنة في العيد. (43) فلما انقضت أيام العيد ورجعا بقي الصبي يسوع في أورشليم من غير أن يعلم أبواه. (44) وكانا يظنان أنه في القفلة فسارا مسيرة يوم ثم أخذا يبحثان عنه عند الأقارب والمعارف. (45) فلما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يبحثان عنه. (46) فوجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالسا في حلقة العلماء يستمع إليهم ويسألهم. (47) وكان جميع سامعيه في حيرة من ذكائه وجواباته. (48) فلما أبصراه دهشا فقالت له أمه: يا بني لم صنعت بنا ذلك؟ فأنا وأبوك نبحث عنك متلهفين. (49) فقال لهما: ولم بحثتما عني؟ ألم تعلما أنه يجب علي أن أكون عند أبي؟ (50) فلم يفهما الكلمة التي قالها. (51) ثم نزل معهما وعاد إلى الناصرة وكان طائعا لهما. (52) وكانت أمه تحفظ كل شيء في قلبها، وكان يسوع يتسامى في الحكمة والقامة والحظوة عند الله والناس. •••
هذه هي قصة الميلاد المطولة عند لوقا، والتي لم يفتتحها على طريقة متى بسلسلة نسب يسوع، الأمر الذي يدل على أنه لم يولها الأهمية التي أولاها متى، ولكن لوقا لم يتجاهل تماما نسب يسوع بل أورده لاحقا، وبعد أن جعل يسوع يعتمد على يد يوحنا المعمدان، عندما هبط عليه الروح القدس فهو يقول: (22) ونزل الروح القدس عليه في صورة جسم كأنه حمامة، وأتى صوت من السماء يقول: «أنت ابني الحبيب الذي عنه رضيت.» (23) وكان يسوع في بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره، وكان الناس يحسبونه ابن يوسف ابن عالي. (24) ابن متثات بن لاوي بن ملكي بن ينا بن يوسف (25) بن متاثيا بن عاموص بن ناحوم بن حسلي بن نجاي (26) بن مآث بن متاثيا بن شمعي بن يوسف بن يهوذا (27) بن يوحنا بن ريسا بن زربابل بن شألتئيل بن نيري (28) بن ملكي بن أدي بن قطم بن ألمودام بن عير (29) بن يوسي بن أليعازر بن يوريم بن متثات بن لاوي (30) بن شمعون بن يهوذا بن يوسف بن يونان بن أليقايم بن مليا بن مينان بن متاثا بن ناثان بن داود (32) بن يسي بن عوبيد بن بوعز بن سلمون بن نحشون (33) بن عميناداب بن آرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا (34) بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن تارح بن ناحور (35) بن سروح بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح (36) بن قينان بن أرفكشاد بن سام بن نوح بن لامك (37) بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان (38) بن أنوش بن شيت بن آدم ابن الله.
على الرغم من أن سلسلة نسب يسوع عند لوقا تربط يسوع بداود كما هو الحال عند متى، إلا أنها تضيف عنصرا لاهوتيا مهما، فهي إذ تبدأ بالاتجاه المعاكس لاتجاه سلسلة متى، أي من يسوع ويوسف لا من إبراهيم وإسحاق، فإنها تتجاوز إبراهيم إلى بدء الخليقة إلى آدم ابن الله، وبذلك يتقاطع لوقا هنا مع تعاليم بولس بخصوص شمولية رسالة يسوع باعتباره آدم الثاني، فآدم الأول قد وهب الإنسانية الموت، أما آدم الثاني فقد وهبها الحياة.
ومع ذلك فإن الجملة الاستهلالية التي ابتدأ بها لوقا سلسلة النسب عندما قال: «وكان الناس يحسبونه ابن يوسف ابن عالي» تجعل السلسلة تتهاوى أيضا كبيت من ورق مثلما تهاوت سلسلة متى في خاتمتها عندما قال: «ويعقوب ولد يوسف زوج مريم والدة المسيح»، ولم يقل: «ويعقوب ولد يوسف، ويوسف ولد يسوع»، فيسوع ليس الابن الجسدي ليوسف، وسلسلة النسب هذه لا معنى لها في الواقع، يضاف إلى ذلك أن السلسلتين غير متفقتين في حلقاتهما، ويبدو التناقض بينهما جليا ابتداء من الجد المباشر ليسوع، الذي يورد اسمه لوقا على أنه عالي، بينما يورد اسمه متى على أنه يعقوب، ويبدو لنا الاختلال واضحا إذا وضعنا السلسلتين في مقابل بعضهما لغرض المقارنة، بعد أن نقلب سلسلة متى لجعلها متوازية مع سلسلة لوقا.
سلسلة متى
سلسلة لوقا
يوسف بن يعقوب
يوسف بن عالي
ومتان ولد يعقوب
بن مثتات بن لاوي
وعازر ولد متان
بن ملكي بن ينا
وأليهود ولد عازر
بن يوسف بن متاثيا
وأخيم ولد أليهود
بن عاموص بن ناحوم
وصادوق ولد أخيم
بن حسلي بن نجاي
وعازور ولد صادوق
بن مآث بن متاثيا
وألياقيم ولد عازور
بن شمعي بن يوسف
وأبيهود ولد ألياقيم
بن يهوذا بن يوحنا
وزربابل ولد أبيهود
بن ريسا بن زربابل
وشألتئيل ولد زربابل
بن شألتئيل بن نيري
ويكينا ولد شألتئيل
بن ملكي بن أدي
ويوشيا ولد يكينا
بن قصم بن المود
ومنسي ولد آمون
بن عير بن يوسي
وحزقيا ولد منسي
بن اليعازر بن يوريم
وآحاز ولد حزقيا
بن متثات بن لاوي
ويوتام ولد آحاز
بن شمعون بن يهوذا
وعوزيا ولد يوتام
بن يوسف بن يونان
ويورام ولد عوزيا
بن ألياقيم بن مليا
ويوشافاط ولد يورام
بن مينان بن متاثا
وآسا ولد يوشافاط
بن ناثان بن داود
وآبيا ولد آسا
بن يسي بن عوبيد
ورحبعام ولد آبيا
بن بوعز بن سلمون
وسليمان ولد رحبعام
بن نحشون بن عميناداب
وداود ولد سليمان
بن آرام بن حصرون
ويسي ولد داود
بن فارص بن يهوذا
وعوبيد ولد يسي
بن يعقوب بن إسحاق
وبوعز ولد عوبيد
بن إبراهيم بن تارح
وسلمون ولد بوعز
بن ناحور بن سروج
ونحشون ولد سلمون
بن رعو بن فالج
وعميناداب ولد نحشون
بن عابر بن شالح
وآرام ولد عميناداب
بن قينان بن أرفكشاد
وحصرون ولد آرام
بن سام بن نوح
وفارص ولد حصرون
بن لامك بن متوشالح
ويهوذا ولد فارص
بن أخنوخ بن يارد
ويعقوب ولد يهوذا
بن مهلئيل بن قينان
وإسحاق ولد يعقوب
بن أنوش بن شيت
وإبراهيم ولد إسحاق
بن آدم ابن الله
إن المقارنة البسيطة بين هاتين السلسلتين تظهر مدى اختلافهما وتباينهما حتى لكأنهما وضعتا لشخصيتين منفصلتين لا لشخصية واحدة ثابت نسبها. ولو كانت إحدى السلسلتين تختلف عن الأخرى ببضعة أسماء، لقلنا إن إحداهما على خطأ والأخرى على صواب، أما وأنهما تختلفان في كل حلقاتهما تقريبا فلا يمكننا إلا القول بأنهما على خطأ كليهما، وأن محاولة ربط نسب يسوع بالملك داود ليس إلا مداخلة يهودية من شأنها الإقلال من أهمية الحبل البتولي من ناحية، والتوكيد على أن مسيح الإنجيل هو الذي حقق مسيح التوراة على مسرح التاريخ من ناحية ثانية.
أما قصة الميلاد نفسها فتختلف عناصرها في لوقا اختلافا بينا عنها في متى، فقد لعب يوسف الدور الرئيسي في قصة ميلاد متى التي تقدمه كرجل حكيم عاقل، تصرف بهدوء عندما عرف أن خطيبته مريم حامل، فلم يشأ أن يشهر أمرها بين الناس وعزم على تركها سرا، ولكن ملاك الرب ظهر له في الحلم، وقال له أن يحتفظ بامرأته؛ لأن الذي تحمله هو من روح القدس، وأن عليه أن يسمي مولودها يسوع، وبعد ولادة الطفل يهرب بعائلته إلى مصر؛ خوفا من الملك هيرود الذي كان يطلب إهلاك يسوع. ثم يعود بعد وفاة هيرود ليجد أن ابنه أرخيلاوس قد خلفه على حكم اليهودية، فيرحل إلى الجليل حيث يستقر في مدينة الناصرة. أما عند لوقا فإن الدور الرئيسي تلعبه مريم، فالملاك يظهر لمريم في اليقظة لا في المنام، ويدخل عليها ملقيا السلام كأي زائر عادي، وعندما تضطرب من دخوله المفاجئ ومن تحيته يطمئنها ويبشرها بأنها ستحمل من الروح القدس، وأن عليها أن تسمي ابنها يسوع، كما ينقل إليها خبر حمل قريبتها العاقر أليصابات زوجة الكاهن زكريا بمولود ذكر، ولا نعرف بعد ذلك كيف عرف يوسف بخبر الحمل ولا عن ردة فعله تجاه ذلك، ثم نجدهما معا في أورشليم قادمين من ناصرة الجليل للاكتتاب في بيت لحم حيث وضعت مريم مولودها.
بعد ذلك نجد مريم تعيش حياتها الخاصة بحرية، ودون أي إشارة إلى أسرتها، فبعد سماعها خبر حمل قريبتها أليصابات تترك مدينتها في الجليل وتتوجه لزيارة أليصابات في مقاطعة اليهودية، قاطعة مسافات طويلة ووعرة وشاقة، حيث مكثت عندها ثلاثة أشهر إلى أن وضعت مولودها ثم قفلت راجعة.
يجعل لوقا من ناصرة الجليل موطنا أصليا ليوسف ومريم، ولكنه يضطرهما إلى القدوم إلى بيت لحم اليهودية من أجل الاكتتاب فيها، فقد أمر القيصر أغسطس بإحصاء جميع أهل الإمبراطورية، وجرى هذا الإحصاء عندما كان كيرينيوس واليا على سورية، فذهب جميع الناس ليكتتب كل واحد في مدينته، وصعد يوسف أيضا من مدينته الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، فقد كان من بيت داود وذريته ليكتتب ومريم خطيبته وكانت حاملا، وبينما هما فيها حان وقت ولادتها فولدت ابنها البكر فقمطته وأضجعته في مذود؛ لأنه لم يكن لهما موضع في الفندق بسبب كثرة القادمين إلى المدينة للاكتتاب. وفي الحقيقة، فإن الإحصاء الروماني للسكان قد جرى في عهد كيرينيوس فعلا، ولكن في عام 6 للميلاد على ما نعرف من السجلات الرومانية، فإذا كان يسوع وفق لوقا قد ولد في هذا العام، فإن تاريخ ميلاده يأتي متأخرا بأكثر من عشر عنه وفق متى، الذي جعله في عام 6 قبل الميلاد، أي قبل عامين من وفاة هيرود؛ ولهذا لا نجد في قصة لوقا مكانا لمذبحة أطفال بيت لحم، ولا لهرب العائلة المقدسة إلى مصر ثم عودتها منها بعد وفاة هيرود.
يتحول مجوس متى الذين رأوا نجم يسوع طالعا في المشرق، ثم تقدمهم ليرشدهم إلى البيت الذي ولد فيه يسوع، إلى رعاة عند لوقا كانوا يبيتون في البرية، عندما ظهر لهم ملاك الرب وبشرهم بولادة مخلص في مدينة داود، وقال لهم إنهم سيجدونه مقمطا مضطجعا في مذود، وانضم إلى الملاك بغتة جمهور من جند السماء يسبحون الله، فبحث الرعاة عن المولود حتى وجدوه كما وصف الملاك، وراحوا يخبرون بما قيل لهم فيه. وفي غياب عنصر الخوف من هيرود تتتابع القصة بشكل روتيني، فقد انتظر الوالدان ثمانية أيام وهي الفترة اللازمة لطهور الوالدة بعد الوضع، فختنا الطفل حسب شريعة موسى وقدما قربانا في الهيكل، حيث سمعا عن مستقبله من خلال خطبة ألقاها رجل شيخ، كان يلزم الهيكل في انتظار ظهور المسيح، ومن خلال عدة أقوال لنبية اسمها حنة كانت تلزم الهيكل أيضا، ثم رجعوا إلى الجليل، بعد ذلك ينفرد لوقا بذكر قصة يسوع في الهيكل يجادل الشيوع، وهو حدث في الثانية عشرة من عمره، مفصحا عن حكمة مبكرة لا تتوفر عادة لشخص عادي في مثل هذه السن.
وبالرغم من أن لوقا لا يحاول التوفيق على طريقة متى بين نبوءات العهد القديم وأحداث سيرة يسوع، فإن نصه يمتلئ بمقتبسات من العهد القديم ظهرت في نشيد زكريا، عندما فكت عقدة لسانه بعد ولادة الطفل، وفي نشيد مريم عندما ارتكض الجنين في بطن نسيبتها أليصابات، لما فتحت الباب لمريم وتلقت سلامها، فعرفت أمرها وعظمت ما تحمله في بطنها، وفي خطبة الرجل التقي سمعان في الهيكل، وهذه نماذج منتقاة من فقرات هذه النصوص: •
تعظم الرب نفسي وتبتهج روحي بالله مخلصي (مريم). •
قدوس اسمه، ورحمته للذين يتقونه جيلا فجيل (مريم). •
إني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي (حبقوق 3: 18). •
قدوس ومهوب اسمه (المزمور 111: 9). •
أما رحمة الرب فإلى الدهر والأبد على خائفيه (المزمور 103: 17). •
أشبع الجياع من الخيرات وصرف الأغنياء فارغين (مريم). •
لأنه أشبع نفسا مشتهية وملأ نفسا جائعة خبزا (المزمور 107: 9). •
تبارك الله رب إسرائيل لأنه افتقد شبعه وافتداه (زكريا). •
مبارك الرب إله إسرائيل (المزمور 41: 13). •
أرسل فداء لشعبه (المزمور 111: 9). •
ليضيء للقاعدين في الظلمة وظلال الموت (زكريا). •
الشعب السالك في الظلمة أبصر نورا عظيما الجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور (أشعيا 9: 3). •
فقد رأت عيناي ما أعددته من خلاص للشعوب كلها (سمعان). •
قد شمر الرب عن ذراع قدسه أمام عيون كل الأمم، فترى كل أطراف الأرض خلاص إلهنا (أشعيا 52: 10). (5) البعث والقيامة
كما اختلفت الأناجيل الإزائية في بداياتها، كذلك تختلف في نهاياتها التي تروي عن قيامة يسوع من بين الأموات، فمؤلف إنجيل مرقس في نصه الأصلي،
5
يقدم لنا خاتمة موجزة جدا عن القيامة، تنتهي بشكل مفاجئ مع هروب النسوة الثلاث مذعورات من القبر الفارغ، بعد أن أخبرهن شاب يجلس هناك مرتديا ثوبا أبيض بأن يسوع قد قام من بين الأموات، ومع ذلك فباستطاعتنا مقارنة بقية خاتمة مرقس، المضافة فيما بعد، مع خاتمة متى لنظهر الاختلافات فيما بينها:
مرقس
متى
الخاتمة الأصلية :
ولما انقضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة طيبا ليأتين فيطيبنه، وفي غداة يوم الأحد جئن إلى القبر وقد طلعت الشمس، وكان يقول بعضهم لبعض: من تراه يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟ فنظرن فرأين أن الحجر قد دحرج، وكان كبيرا جدا، فدخلن القبر فأبصرن شابا جالسا عن اليمين، عليه حلة بيضاء فارتعبن، فقال لهن:
لا ترتعبن، أنتن نتطلبن يسوع الناصري الذي صلب، إنه قام وليس هنا، وهذا هو المكان الذي وضع فيه، فاذهبن وقلن للتلاميذ ولبطرس أن يتقدمكم إلى الجليل، فترونه هناك كما أنبأكم، فخرجن هاربات من القبر، لما أخذهن من الرعدة والدهشة، ولم يخبرن أحدا بشيء؛ لأنهن كن خائفات.
ولما انقضى السبت وبزغ فجر الأحد جاءت مريم المجدلية، ومريم الأخرى تتفقدان القبر فإذا زلزال شديد قد حدث، ذلك بأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء إلى الحجر فدحرجه وقعد عليه، وكان منظره كالبرق وثوبه أبيض كالثلج، فقال الملاك للمرأتين:
لا تخافا أنتما، أنا أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب، إنه ليس هنا، فقد قام من بين الأموات كما أنبأ، تعاليا فانظرا الموضع الذي فيه كان مضطجعا، وأسرعا في الذهاب إلى تلاميذه وقولا لهم إنه قام من بين الأموات، وها هو ذا يسبقكم إلى الجليل، فترونه هناك. فتركتا القبر مسرعتين، وهما في خوف شديد وفرح عظيم، وبادرتا إلى التلاميذ تحملان البشرى.
الإضافة اللاحقة :
قام يسوع صباح الأحد فتراءى أولا لمريم المجدلية، تلك التي أخرج منها سبعة شياطين، فمضت وأخبرت تلاميذه، وكانوا في مناحة ونحيب، فلما سمعوا أنه حي، وأنها شاهدته لم يصدقوها، وتراءى بعد ذلك بهيئة أخرى لاثنين منهم، كانا في الطريق ذاهبين إلى إحدى القرى.
فرجعا وأخبرا الآخرين، فلم يصدقوهما أيضا، وتراءى آخرا للأحد عشر أنفسهم، وهم على الطعام فوبخهم لقلة إيمانهم وقساوة قلوبهم؛ لأنهم لم يصدقوا الذين رأوه بعدما قام، ثم قال لهم: اذهبوا في الأرض كلها وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين، فمن آمن واعتمد يخلص، ومن لم يؤمن يقض عليه والذين يؤمنون تصحبهم هذه الآيات: فباسمي يطردون الشياطين، ويتكلمون بلغات مختلفة، ويمسكون بأيديهم الحيات، وإن شربوا شرابا قاتلا لا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون.
وبعدما كلمهم الرب يسوع، رفع إلى السماء، وجلس على يمين الله.
وإذا يسوع قد جاء للقائهما فقال لهما:
السلام عليكما، فتقدمتا والتزمتا قدميه ساجدتين له، فقال لهما يسوع:
لا تخافا، اذهبا فقولا لإخوتي أن يمضوا إلى الجليل فهناك يرونني.
وأما التلاميذ الأحد عشر، فذهبوا إلى الجليل إلى الجبل الذي جعله يسوع موعدا لهم، فلما رأوه سجدوا له .
ولكن بعضهم ارتابوا، فدنا يسوع إليهم وكلمهم، وقال:
إني أوليت كل سلطان في السماء والأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر.
من هذه المقارنة بين الروايتين نجد أن النص الأصلي لمرقس صامت تماما عن ظهورات المسيح وعن ارتفاعه إلى السماء، حتى إنه لا يتابع النتيجة المنطقية المتوقعة، وهي ذهاب النسوة الثلاث إلى التلاميذ وإخبارهم بما رأين وسمعن، وبذلك يبقى خبر القيامة بالنسبة إلى التلاميذ مجرد رواية قالها شاب غامض، ونقلتها نسوة يشك بشهادتهن، ومن هنا كان لا بد من إكمال القصة وتزويدها بما يعطيها مصداقية، وذلك بجعل عدد متزايد من التلاميذ يواجهون المسيح القائم من بين الأموات، وهكذا تمت صياغة خاتمة كل من متى ولوقا بشكل يتجاوز خاتمة مرقس الأصلية، كما جاء محرر متأخر فزاد على خاتمة مرقس عناصر الظهور والارتفاع إلى السماء، بعض هذه العناصر مستمد من متى ولوقا، وبعضها من مصدر مجهول لا نعرفه.
تبدي خاتمتا مرقس ومتى في شكلهما الأخير عددا من التباينات، فمرقس يذكر ثلاث نسوة هن: مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة، بينما يذكر متى امرأتين فقط، هما: مريم المجدلية، ومريم الأخرى (التي كان قد دعاها في الإصحاح 27: 56 بأم يعقوب وموسى)، وفي نص مرقس تجد النسوة أن الحجر قد دحرج عن مدخل القبر، فيدخلن ليجدن شابا جالسا عن اليمين، يخبرهن بأن يسوع قد قام وأنه سيلتقي بتلامذته في الجليل، أما في نص متى فتجد النسوة أن الحجر قد دحرج عن مكانه بسبب زلزال، ويرين ملاك الرب جالسا فوقه، ومنظره كالبرق وثيابه بيضاء كالثلج، فيخبرهن بأن يسوع قد قام، ويأمرهن بالإسراع لإعلام تلاميذه بذلك؛ لأنه سيسبقهم إلى الجليل حيث يرونه هناك. وبدون أن تتأكد المرأتان من فراغ القبر، تسرعان في خوف وفرح لإعلام التلاميذ.
يظهر الانقطاع في نص مرقس واضحا، فبعد أن يقول بأن النسوة الثلاث خرجن من القبر هاربات، وقد أخذتهن الرعدة والدهشة، ولم يخبرن أحدا لأنهن كن خائفات، يتابع قوله: «قام يسوع صباح الأحد فتراءى أولا لمريم المجدلية ...» فذهبت وأخبرت التلاميذ الذين لم يصدقوها، ثم بعد ذلك تراءى لاثنين منهم وهم على الطريق إلى إحدى القرى، فراحا أيضا وأخبرا البقية الذين ظلوا على عدم تصديقهم، وأخيرا ظهر يسوع للتلاميذ الأحد عشر وهم مجتمعون للطعام، فوبخهم على قلة إيمانهم ثم وجههم للتبشير بين الخلق أجمعين، وبعد ذلك يرتفع إلى السماء أمام أعينهم، أما عند متى فإن يسوع لا يظهر إلا مرة واحدة للتلاميذ الأحد عشر الذين سبقوه إلى الجليل، وهذا يعني أنه ظهر لهم بعد عدة أيام من قيامته، لا في يوم القيامة نفسه ولا في أورشليم، كما هو الأمر عند مرقس، ولا يأتي متى على ذكر ظهور يسوع للمجدلية ولا للتلميذين الآخرين، ثم إن الخاتمة عند متى لا تنتهي بصعود يسوع إلى السماء، وإنما بقوله: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ... وها أنا ذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر».
فإذا انتقلنا إلى خاتمة لوقا وجدناها الأكثر إطالة وتفصيلا، وغنى بالحوارات والعناصر الأدبية، يقول لوقا:
الإصحاح الثالث والعشرون (55) وكان النسوة اللواتي جئن من الجليل مع يسوع يتبعن يوسف، فأبصرن القبر وكيف وضع فيه جسده. (56) ثم رجعن وأعددن طيبا وحنوطا، واسترحن في السبت على ما تقضي به الوصية.
الإصحاح الرابع والعشرون (1) وجئن عند فجر الأحد إلى القبر وهن يحملن الطيب الذي أعددنه. (2) فوجدن الحجر قد دحرج عن القبر. (3) فدخلن فلم يجدن جسد الرب يسوع. (4) وبينما هن في حيرة؛ إذ تراءى لهن رجلان عليهما ثياب براقة. (5) فاستولى عليهن الخوف ونكسن وجوههن نحو الأرض، فقالا لهن: لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ (6) إنه ليس ها هنا بل قام، اذكرن ما أنبأكن إذ كان في الجليل. (7) قائلا: يجب على ابن الإنسان أن يسلم إلى أيدي الخاطئين، ويصلب ثم يقوم في اليوم الثالث. (8) فذكرن كلامه. (9) ورجعن من القبر فأخبرن الأحد عشر والآخرين جميعا بهذه الأحداث كلها. (10) وهن مريم المجدلية وحنة ومريم أم يعقوب، وكذلك سائر النسوة اللواتي صحبنهن أخبرن الرسل بذلك ، فبدا لهم هذا الكلام ضربا من الهذيان ولم يصدقوهن، غير أن بطرس قام فأسرع إلى القبر، فلم ير عند انحنائه غير اللفائف، فانصرف متعجبا مما حدث. (13) واتفق أن اثنين منهم كانا ذاهبين في ذلك اليوم إلى قرية يقال لها عماوس، على مسافة ستين غلوة من أورشليم. (14) وكانا يتحدثان بهذه الأمور كلها. (15) وإنهما ليتحدثان ويتجادلان إذ يسوع نفسه قد دنا منهما وأخذ يسير معهما. (16) على أن أعينهما حجبت عن معرفته. (17) فقال لهما: ما هذا الحديث الذي تخوضان فيه وأنتما سائران؟ فوقفا مكتئبين. (18) وأجابه أحدهما واسمه كلاوبا: أأنت وحدك تقيم في أورشليم ولا تعلم ما حدث فيها هذه الأيام؟ (19) فقال لهما: ماذا؟ قالا له: ما حدث فيها ليسوع الناصري، وكان نبيا مقتدرا على العمل والقول عند الله والشعب كله. (20) كيف أسلمه الأحبار وأولياء أمرنا ليحكم عليه بالموت، وكيف صلبوه. (21) وهو الذي كنا نرجو أن يعتق إسرائيل ومع ذلك كله فهذا هو اليوم الثالث لتلك الأحداث التي وقعت. (22) غير أن نسوة منا قد حيرتنا، فإنهن قد بكرن إلى القبر. (23) فلم يجدن جسده فرجعن وقلن إنهن أبصرن ملائكة تراءوا لهن وقالوا إنه حي. (24) فذهب بعض أصحابنا إلى القبر فوجدوا الحال على ما قالت النسوة ولكنهم لم يروه. (25) فقال لهما: بل قليلي الإدراكي وبطيئي القلب عن الإيمان بكل ما تنطق به الأنبياء. (26) أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده؟ (27) ثم أخذ يفسر لهما ما يعنيه مما ورد في جميع الكتب من موسى إلى سائر الأنيباء. (28) ولما اقتربوا من القرية التي يقصدان إليها، أظهر لهما أنه ماض إلى مكان بعيد. (29) فتمسكا به وقالا: أمكث معنا، فقد حان المساء ومال النهار فدخل ليمكث معهما. (30) ولما جلس معهما إلى الطعام أخذا خبزا وبارك ثم كسره وناولهما. (31) فانفتحت أعينهما وعرفاه فتوارى عنهما. (32) فقال أحدهما للآخر: أما كان قلبنا متقدا في صدرنا حين حدثنا في الطريق وفسر لنا الكتب؟ (33) ثم قاما من ساعتهما ورجعا إلى أوشليم ، فوجدا الأحد عشر وأصحابهم مجتمعين. (34) وكانوا يقولون: قام الرب حقا وتراءى لسمعان. (35) فرويا لهم ما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز. (36) وإنهما ليتكلمان، إذ هو يتوسطهم فيقول: السلام عليكم. (37) فدهشوا وخافوا وتوهموا أنهم يرون روحا. (38) فقال لهم: ما بالكم مضطربين ولم ثارت الأوهام في نفوسكم؟ (39) انظروا إلى يدي ورجلي أنا هو بنفسي، المسوني وتوحققوا، فإن الروح ليس لها لحم ولا عظم كما ترون لي. (40) قال هذا وأراهم يديه ورجليه. (41) غير أنهم لم يصدقوا من الفرح يتعجبون فقال لهم: ألديكم ما يؤكل؟ (42) فناولوه قطعة سمك مشوي. (43) فأخذها وأكل على مرأى منهم. (44) ثم قال لهم: ذاك كلامي الذي قلته لكم إذ كنت معكم، وهو أنه يجب أن يتم كل ما كتب في مصيري في شريعة موسى وكتب الأنبياء والمزامير. (45) فحينئذ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب. (46) وقال لهم: كتب أن المسيح يتألم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث. (47) ويدعى باسمه في جميع الأمم إلى التوبة لغفران الخطايا، ويبتدأ بذلك في أورشليم. (48) وأنتم شهود على ذلك. (49) وسأرسل إليكم ما وعد به أبي فامكثوا في المدينة إلى أن تنزل عليكم القوة من العلا. (50) ثم خرج إلى بيت عنيا، ورفع يديه وباركهم. (51) وبينما هو يباركهم انفصل عنهم ورفع إلى السماء. (52) فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم. (53) وكانوا يلازمون الهيكل لله مسبحين.
تظهر لنا المقارنة بين رواية لوقا هذه وروايتي مرقس ومتى عددا من خصوصيات خاتمة لوقا. فالنساء الثلاث عند مرقس، وهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة، والمرأتان عند متى وهن مريم المجدلية ومريم الأخرى (أم يعقوب ويوسي) يتحولن إلى عدد غير محدد من النساء اللواتي جئن من الجليل وتبعن يسوع، وشهدن صلبه وموته ودفنه، وأبصرن القبر الذي وضع فيه جسده، ثم ذهبن فأعددن طيبا وحنوطا واسترحن في السبت، ثم جئن إلى القبر في صباح الأحد، وعندما دخلن لم يجدن جسد يسوع، ولكنهن وجدن رجلين عليهما ثياب براقة لا رجلا واحدا كما هو الحال عند مرقس، فرجعن من القبر وأخبرن التلاميذ، وكان بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وحنة، لا مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة كما هو الحال عند مرقس، ولكن التلاميذ رأوا في خبر النسوة ضربا من الهذيان، وكان لا بد لهم من شهادة رجل موثوق، فذهب بطرس بنفسه وتحقق من خلو القبر، وذهاب بطرس هذا، عنصر انفرد به لوقا.
ثم إن لوقا يغض الطرف عن ظهور يسوع للمجدلية أولا، ويجعل ظهوره الأول للاثنين اللذين ورد ذكرهما عند مرقس (16: 12)، ولكنهما لا يتعرفان عليه للوهلة الأولى، وهنا يتوقف لوقا ليسرد حوارية بين يسوع والتلميذين تنتهي بأن يتعرفا على يسوع عندما جلس معهما للطعام، وأخذا خبزا وبارك ثم كسره وناولهما، ثم قاما ورجعا إلى أورشليم، وعندما كانا يسردان لبقية التلاميذ ما وقع لهما، عرفا أن يسوع قد تراءى أيضا لسمعان (بطرس)، ولكن دون تفاصيل، وهنا يحصل الظهور الأخير ليسوع عندما تجلى أمام التلاميذ الأحد عشر.
ولكي يزيد لوقا في التوكيد على أن ظهور يسوع لم يكن ظهورا شبحيا، وإنما ظهورا ماديا حقيقيا، فقد جعله يطلب من التلاميذ أن يلمسوه، وأراهم موضع المسامير في يديه ورجليه من أثر الصلب، وكما أكل مع التمليذين أولا، فقد طلب منهم أن يأكل معهم، فناولوه قطعة سمك مشوي، وأكل أمام أنظارهم، وبعد أن فتح أعينهم على معنى رسالته التي عليهم إكمالها، انفصل عنهم وصعد إلى السماء. (6) رسالة يسوع في الأناجيل الإزائية
إن الأناجيل الإزائية، على اختلافها في التفاصيل، تقدم لنا سيرة واحدة ليسوع ووجها واحدا لشخصيته وتعاليمه، حتى لتبدو وكأنها إنجيل واحد في ثلاثة تنويعات.
ولقد أعلن يسوع عن جوهر رسالته في مطلع إنجيل مرقس، في أول تعاليمه العلنية، حيث نقرأ في الإصحاح الأول: 14-15: «وبعد أن أسلم يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل يعلن بشارة الله، فيقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل.»
فيسوع هو المسيح الذي يأتي من نسل داود، وفق النبوءات التوراتية، ليختتم التاريخ ويفتتح الزمان المقدس، أو ملكوت الله، يتقدمه النبي إيليا في صورة يوحنا المعمدان، وفق النبوءة التوراتية الواردة في سفر ملاخي 4: 5-6: «ها أنا ذا أرسل إليكم إيليا النبي، قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم.» ولهذا أجاب يسوع رسل يوحنا الذين بعثهم من سجنه ليسألوه: أأنت الآتي، أم ننتظر الآخر؟ وقال لهم: «اذهبوا وأخبروا يوحنا بما تسمعون وترون، إن العمي يبصرون والكسحان يمشون، والبرص يبرءون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والفقراء يبشرون، وطوبى لمن لا يشك في» (متى 11: 2-5)، وهذه كلها من علامات ظهور المسيح في اليوم الأخير الذي يفتتح ملكوت الرب في التصورات التوراتية (راجع إشعيا 26: 19 و29: 8 و35: 5)، ولما انصرف الرسل، أخذ يسوع يقول للجموع بشأن يوحنا: «ماذا خرجتم إلى البرية تنظرون؟ أقصبة تهزها الريح؟ بل ماذا خرجتم ترون؟ أرجلا يلبس الثياب الناعمة؟ بل ماذا خرجتم؟ ألكي تروا نبيا أقول لكم أجل، بل أكرم من نبي، فهذا الذي كتب في خبره: ها أنا ذا أرسل رسولي قدامك ليعد الطريق أمامك، الحق أقول لكم لم يظهر في أولاد النساء أكبر من يوحنا المعمدان، ولكن أصغر الذين في ملكوت السموات أكبر منه ... فإذا شئتم أن تصدقوني، فاعلموا أنه إيليا الذي ينتظر رجوعه، من كان له أذنان فليسمع.»
يتخذ مفهوم مملكة الله، أو مملكة السموات، مكانة مركزية في تعاليم يسوع الإزائي، ولا أدل على ذلك من ورود هذا التعبير نحو ثمانين مرة في الأناجيل الثلاثة، بينما لم يرد إلا مرة واحدة فقط في إنجيل يوحنا، كما تشغل المطاليب الأخلاقية والسلوكية لدخول مملكة الرب الجزء الأكبر من تعاليم يسوع، فرسالة يسوع الإزائي هي رسالة أخروية بالدرجة الأولى، وترتكز على فكرة نهاية الزمن والتاريخ، وحلول اليوم الذي فيه ينتزع الله العالم من الشيطان، الذي كان حتى كرازة يسوع سيدا على الأرض، ولكن يسوع قدم منذ البدء مفهومه الخاص عن ملكوت الله، وميزه بحدة عن المفهوم السائد لدى يهود عصره، الذين كانوا ينتظرون مسيحا سياسيا، يعيد مجد إسرائيل ويخضع جميع الأمم تحت قدميها، ثم يسلم الحكم إلى يهوه، فملكوت يسوع هو ملكوت روحاني، وكان متحفظا تجاه لقب المسيح، وفضل عليه لقب ابن الإنسان لما للقب المسيح من تداعيات سياسية، كما أنه تحفظ تجاه لقب الملك ولم يقبله إلا باعتبار ما سيأتي من صعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب.
وعلى عكس ملكوت الرب اليهودي، فإن ملكوت السموات الذي بشر به يسوع يشمل جميع الأمم والشعوب، وهو يؤكد في أكثر من قول له عدم أهلية اليهود لدخول هذا الملكوت، رغم اعتقادهم بأنهم أصحابه الشرعيون، نقرأ في إنجيل متى 8: 12: «الحق أقول لكم، سوف يأتي أناس كثيرون من المشرق والمغرب، فيجالسون إبراهيم وإسحاق ويعقوب على المائدة في ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت فيلقون في الظلمة البرانية، وهناك البكاء وصريف الأسنان.» ونقرأ في متى 21: 43: «لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله سينزع عنكم إلى أمة تجعله يخرج ثمره.»
لقد اكتملت سلسلة الأنبياء عند يوحنا المعمدان، كما اكتملت الأزمنة وظهر يسوع في مجيئه الأول ليبشر بالملكوت، ثم صلب ومات وقام في اليوم الثالث ليتمجد مسيحا كونيا يجلس عن يمين الآب، وأما في مجيئه الثاني فسيأتي إلها ديانا ينهي العالم القديم، ويقيم على أنقاضه عالما جديدا يرثه المؤمنون، نقرأ في إنجيل متى 16: 27-28: «سوف يأتي ابن الإنسان في مجد أبيه مع ملائكته فيجازي يومئذ كل امرئ على قدر أعماله، الحق أقول لكم، في جملة الحضور هنا من لا يذوقون الموت حتى يشاهدوا ابن الإنسان آتيا في ملكوته.» ونقرأ في متى أيضا 24: 29: «وعلى أثر الشدة في تلك الأيام، تظلم الشمس ويفقد القمر ضوءه وتتساقط النجوم من السماء، وتتزعزع أجرام السموات، عندئذ تظهر في السماء آية ابن الإنسان، فتنتحب جميع قبائل الأرض، ويرى الناس ابن الإنسان آتيا على غمام السماء بقوة ومجد كثير، فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، ليجمعوا مختاريه من جهات الرياح الأربع، من أطراف السموات إلى أطرافها الأخرى.»
إنجيل يوحنا
إنجيل يوحنا ظاهرة فريدة بين الأناجيل، وهو يشكل بحق جنسا قائما بذاته بين أسفار العهد الجديد، وإذا كانت الأناجيل الثلاثة الأولى تتبع نفس الخطوط العامة لسيرة يسوع وتعاليمه، فإن إنجيل يوحنا يمتلك رؤية خاصة به وبنية عامة ، وتحقيبا زمنيا، ونسيجا لاهوتيا، وأسلوبا في أقوال يسوع، لا يوازيها شيء في الأناجيل الإزائية، أما الرسالة المعوزة ليسوع فيه فجديدة، وغالبا ما تتناقض مع شهادات الإزائيين، إن القراءة النقدية للأناجيل الأربعة لا توصلنا إلى تسوية من أي نوع بينهما، فإذا كان يوحنا على حق، كان الإزائيون على خطأ، والفريقان لا يمكن أن يكونا صحيحين في الوقت نفسه، وفق أبسط قواعد المنطق، فالإزائيون، مثلا، يعينون سنة واحدة لحياة يسوع التبشيرية، بينما يعين يوحنا سنتين أو أكثر، وذلك بذكره لثلاثة أعياد فصح، والإزائيون يؤرخون حادثة الصلب في الخامس عشر من نيسان، في يوم الفصح بينما يؤرخ يوحنا الحادثة في الرابع عشر من نيسان، اليوم السابق للفصح.
يجمع معظم الباحثين في العهد الجديد على أن إنجيل يوحنا قد كتب بين عام 90 وعام 110م، ذلك أن الشذرات الأقدم التي وصلتنا منه يتراوح تاريخها بين 125 و150م، كما أن أقدم الإشارات إلى هذا الإنجيل في المصادر الخارجية ترجع إلى أواسط القرن الثاني الميلادي، وهذا ما يرجح أن الإنجيل قد كتب قبل هذه التواريخ، ومن ناحية أخرى فإن اللاهوت العالي التركيب للنص، يشير إلى فترة تالية لفترة تحرير الأناجيل الإزائية التي يرجح أنها كتبت خلال الفترة من عام 70 إلى عام 90م، ويرى بعض الباحثين أن ما يظهره إنجيل يوحنا من العداء السافر لليهود، يشير إلى الفترة التي طرد فيها المسيحيون من الكنيس اليهودي، أي خلال الفترة الانتقالية من القرن الأول إلى القرن الثاني الميلادي.
أما بخصوص مؤلف الإنجيل، فإن الباحثين في العهد الجديد ليسوا على هذه الدرجة من الاتفاق، فهل هو يوحنا التلميذ الذي كان يحبه يسوع أكثر من غيره، والذي اتكأ على صدره في مجلس العشاء الأخير؟ أم هو شخص آخر يحمل الاسم نفسه؟ أم إن المسألة ليست أكثر من إعطاء مصداقية للنص من خلال نسبه إلى يوحنا الحبيب؟ إن عنوان النص: الإنجيل بحسب يوحنا، لا يزيل هذا الالتباس، والنص لا يطابق بين كاتب الإنجيل ويوحنا الحبيب إلا في الفقرة الأخيرة من المشهد الختامي، والتي يمكن أن تكون مقحمة على السياق، حيث نقرأ: «وهذا التلميذ (أي الذي يحبه يسوع) هو الذي يشهد بهذه الأمور ويدونها، ونحن نعلم أن شهادته حق» (يوحنا 21: 24). يضاف إلى ذلك أن أخبار يوحنا الحبيب تنقطع في أسفار العهد الجديد، قبل وقت طويل من الفترة المفترضة لتدوين الإنجيل، فقد ورد ذكره لآخر مرة في أعمال الرسل، عندما ذهب مع بطرس إلى أهل السامرة ليبشر بينهم، كما أفاد بولس المتوفى سنة 67 أو 68م أن يوحنا كان أحد أعمدة كنيسة أورشليم مع يعقوب وبطرس (غلاطية 2: 9)، فهل عاش يوحنا أربعين سنة أخرى حتى كتب إنجيله؟ وهل كان في نحو المائة من عمره في وضع عقلي يساعده على التذكر وربط الأحداث، وإنجاز مثل هذا النص اللاهوتي المتماسك والعالي التركيب؟ ولماذا انتظر كل هذه السنين ليخرج علينا بإنجيله؟ وأخيرا، يرى البعض أنه من الصعب علينا أن نتصور أن كاتب الإنجيل الرابع، المتبحر في الفلسفة الهيلينستية، هو نفسه يوحنا بن زبدي، صياد السمك البسيط.
لقد ترسخ اعتقاد الكنيسة بنسبة الإنجيل الرابع إلى يوحنا الحبيب، بتأثير ما أورده إيرينايوس، أحد آباء الكنيسة الأوائل، والذي كتب في أواسط القرن الثاني الميلادي، أن يوحنا الرسول قد رحل إلى إفسوس بآسيا الصغرى، حيث عاش إلى سن متقدمة جدا، وأنجز إنجيله في أواخر حياته، ولكن لا يوجد بين أيدينا شاهد من أسفار العهد الجديد، يقيم صلة بين يوحنا الرسول ومدينة إفسوس، كما أن أغناطيوس الشهيد، أسقف أنطاكية الذي كتب نحو عام 110م رسالة إلى مسيحيي إفسوس، قد وصفهم بأنهم جماعة بولس (صاحب الرسالة إلى أهالي إفسوس)، ولم يذكرهم بأن يوحنا كان بين ظهرانيهم في ذلك الوقت، أو قبله بقليل.
انطلاقا من كل هذه المعطيات، فإن الرأي الغالب لدى الباحثين غير الكنسيين، هو أن مؤلف إنجيل يوحنا لم يكن شاهد عيان على حياة يسوع، ويتراوح الرأي في هويته من أنه كان يهوديا خوارجيا ذا خلفية صوفية مسطيقية، أو مثقفا يونانيا اعتنق المسيحية، إلا أن هذا، في رأينا، لا يقدم حجة على ضعف مصداقية ما أورده هذا الإنجيل من تعاليم يسوع، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، ذلك أن ما يظهره إنجيل يوحنا من مواقف حاسمة ليسوع في رفض اليهود واليهودية، يدل على رسالة مسيحية صافية لم تنلها المداخلات اليهودية إلا في الحد الأدنى، وفي هذا يقول ألبير باييه، الباحث في سيسيولوجيا العهد الجديد: «إن إنجيل يوحنا في شكله الأول يسير على النهج الذي عرفناه في مؤلفات الغنوصي مرقيون، وبعد إدانة مرقيون وحرمانه من الكنيسة، أي بعد عام 144م، خضع الإنجيل لتنقيحات مهمة غرضها إسباغ حلة قويمة عليه.»
6
إن القواسم المشتركة بين إنجيل يوحنا والأناجيل الإزائية، هي من الندرة بحيث تقتصر على الإصحاح السادس الذي يسرد معجزة إطعام خمسة آلاف شخص من خمسة أرغفة وسمكتين، وسير يسوع على الماء لاحقا تلاميذه الذين كانوا قد سبقوه في سفينة إلى الضفة الأخرى من بحيرة طبرية، وهناك قصص أخرى أوردها يوحنا بشكل معدل، ومنها قصة شفاء يسوع لخادم قائد روماني، وذلك بنطقه أمر الشفاء عن بعد، والتي حولها يوحنا إلى شفاء يسوع لابن موظف عند أنتيباس ملك الجليل (وهو هيرود أنتيباس بن هيرود الكبير)، نقرأ في إنجيل متى 8: 5-13 (وما يقابله في إنجيل لوقا 7: 1-10) ما يلي: «ودخل كفر ناحوم فدنا منه قائد مائة متوسلا إليه بقوله: سيدي إن عبدي ملقى على الفراش في بيتي مقعدا يعاني أشد الآلام، فقال له: أنا ذاهب لأشفيه، فأجاب قائد المائة: سيدي، لست أهلا لأن تدخل بيتي، فتقف تحت سقفي، ولكن حسبك أن تقول فيبرأ عبدي ... ثم قال يسوع لقائد المائة: اذهب وليكن لك قدر ما آمنت، فبرئ العبد من ساعته.» وقد وردت هذه الحادثة عند يوحنا على الوجه التالي: «وكان في كفر ناحوم عامل للملك له ابن مريض، فلما عرف أن يسوع عاد من اليهودية إلى الجليل، وفد عليه يسأله أن ينزل فيبرئ ابنه الذي أشرف على الموت، فقال له يسوع: إذا لم تروا الآيات والأعاجيب لا تؤمنوا، فقال له عامل الملك: انزل سيدي قبل أن يموت ولدي، فقال له يسوع: اذهب إن ابنك حي فآمن الرجل بالكلمة التي قالها يسوع ومضى ... وبينما هو نازل تلقاه عبيده فبشروه بأن ابنه حي » (يوحنا 4: 46-51).
ومن القصص التي وردت بشكل معدل قصة طرد يسوع للباعة والصيارفة من باحة الهيكل، فقد وضع الإزائيون هذه القصة في نهاية حياة يسوع التبشيرية بينما وضعها يوحنا في أولها وحملها معاني نبوئية ولاهوتية عندما قال: انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام، نقرأ في يوحنا 2: 13-22 (وما يقابله عند متى 21: 12-13، ومرقس 11: 15-17، ولوقا 19: 45-46): «واقترب فصح اليهود فصعد يسوع إلى أورشليم، فرأى في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى مناضدهم، فجدل سوطا من حبال وطردهم جميعا من الهيكل مع الغنم والبقر، ونثر دارهم الصيارفة وقلب مناضدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذا من هنا، ولا تجعلوا من بيت أبي بيت تجارة. فتصدى له اليهود فقالوا: أية آية ترينا حتى نفعل هذا؟ فأجابهم يسوع: انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيام، قال له اليهود: بني هذا الهيكل في ست وأربعين سنة فكيف تقيمه في ثلاثة أيام، ولكنه كان يعني هيكل جسده، فلما قام من بين الأموات تذكر تلاميذه أنه قال ذلك.»
ولدينا أيضا قصة قيام مريم، أخت لعازر (الذي أقامه يسوع من بين الأموات)، بدهن قدمي يسوع بزجاجة عطر فاخرة ومسحها بشعرها، واعتراض يهوذا على ذلك، فهذه القصة عند يوحنا تحتوي على عناصر من قصتين، الأولى وردت عند متى 26: 6-13، ومرقس 14: 3-9، حيث قامت امرأة لم يورد النص اسمها بسكب زجاجة طيب على رأس يسوع، عندما كان جالسا للعشاء في قرية بيت عنيا عند المدعو سمعان الأبرص، والثانية وردت عند لوقا 7: 36-50، عندما دخلت امرأة خاطئة على يسوع وهو جالس للعشاء في بيت أحد الفريسيين، فجلست عند رجليه وجعلت تبلل قدميه بالدموع وتمسحها بشعرها، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب. وهذه هي القصة في الروايات الثلاث:
عند متى 26، ومرقس 14
عند لوقا 7
وكان يسوع في بيت عنيا عند سمعان الأبرص، وبينما هو على الطعام دنت منه امرأة بيدها قارورة طيب غالي الثمن فأفاضتها على رأسه.
ودعاه أحد الفريسيين إلى الطعام عنده، فدخل بيت الفريسي وجلس إلى المائدة، وكان في المدينة امرأة خاطئة، فعلمت أنه على المائدة في بيت الفريسي فجاءت ومعها قارورة طيب، وطلبت مكانا من خلف عند رجليه وهي تبكي، وجعلت تبلل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعرها وتدهنهما بالطيب.
فلما رأى التلاميذ ما فعلت استاءوا فقالوا: لم هذا الإسراف؟ فقد كان يمكن بيعه غاليا والتصدق بثمنه على الفقراء، فشعر بهم يسوع فقال لهم: لماذا تعنتون هذه المرأة؟ فقد عملت لي عملا صالحا، أما الفقراء فهم عندكم دائما، وأما أنا فلست عندكم دائما، وإذا كانت قد أفاضت هذا الطيب على جسدي، فلأجل دفني صنعت ذلك، الحق أقول لكم: حيثما تعلن هذه البشارة في الأرض كلها، يحدث بما صنعت إحياء لذكراها.
فلما رأى الفريسي الذي دعاه هذا الأمر، قال في نفسه: لو كان هذا الرجل نبيا لعلم من هي المرأة التي تلمسه وما حالها، إنها خاطئة. فأجابه يسوع: يا سمعان عندي ما أقوله لك:
أترى هذه المرأة؟ إني دخلت بيتك فما سكبت على قدمي ماء، وأما هي فبالدموع بللت قدمي وبشعرها مسحتهما، أنت ما قبلتني قبلة أما هي فلم تكف عن تقبيل قدمي، أنت ما دهنت رأس بزيت، أما هي فبالطيب دهنت قدمي، أقول لك: إنما غفرت لها خطاياها الكثيرة؛ لأنها أحبت كثيرا، وأما الذي يغفر له القليل فإنه يحب قليلا.
عند يوحنا 12
جاء يسوع قبل الفصح بستة أيام إلى بيت عنيا، حيث كان لعازر الذي أقامه من بين الأموات، فأعد له عشاء، وأخذت مرتا (أخت لعازر) تخدم، وكان لعازر في جملة الذين كانوا على الطعام فتناولت مريم (أخت لعازر الأخرى) حقة طيبة من الناردين الخالص غالية الثمن، ودهنت قدمي يسوع ثم مسحتهما بشعرها، فعبق البيت بالطيب، فقال يهوذا الإسخريوطي، أحد تلاميذه، وهو الذي كان مزمعا أن يسلمه: لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار، ليتصدق بها على الفقراء؟ ولم يقل هذا لعطفه على الفقراء، بل لأنه كان لصا، وكان مؤتمنا على صندوق الدراهم، فيختلس ما يدفع فيه، فقال يسوع: دعها ، فإنها حفظت هذا الطيب ليوم دفني، أما الفقراء، فهي عندكم دائما أبدا، وأما أنا فلست عندكم دائما أبدا (12: 1-8).
ولقد أكدت الأناجيل الإزائية على أعمال يسوع الشفائية، وطرده للشياطين من أجساد المرضى والممسوسين، ولكن هذا العنصر غائب تقريبا في إنجيل يوحنا، فمن بين عمليات الشفاء الكثيرة الواردة لدى الإزائيين لم يحتفظ يوحنا إلا بواحدة فقط، قدمها بشكل معدل، وهي قصة شفائه لخادم موظف روماني، التي حولها يوحنا إلى شفائه لابن واحد من موظفي ملك الجليل، مما شرحناه منذ قليل، ثم أضاف يوحنا إلى هذه الحادثة، حادثتين من عنده لم تردا عند الإزائيين، الأولى شفاؤه لرجل مقعد بكلمة من فمه: قم احمل سريرك وامش (5: 2-9)، والثانية شفاؤه لأعمى منذ الولادة، عندما طلى عينيه بعجينة من تراب الأرض مزجها بلعابه (9: 1-7)، وفيما عدا ذلك فقد وردت مجرد إشارات عامة إلى أن يسوع كان يصنع آيات في المرضى (6: 2)، وربما يرجع ذلك إلى ارتباط هذه الظواهر الشفائية لدى الإزائيين بفكرة قرب حلول مملكة الرب، التي لم يركز عليها يسوع يوحنا، ولم تكن فكرة محورية في لاهوت الإنجيل الرابع.
وبالمقابل فإن يوحنا أكد على معجزات يسوع، واعتبرها «آيات» تشف عن أصله السماوي فوق الطبيعي، فإلى جانب معجزة تكثير خمسة أرغفة وسمكتين، لإطعام خمسة آلاف شخص، ومعجزة سير يسوع على الماء، التي اشترك بهما مع الأناجيل الإزائية، فقد انفرد إنجيل يوحنا بمعجزة تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا (2: 1-11)، وقصة إحياء الشاب لعازر (أخي مرتا، ومريم التي سكبت الطيب على قدمي يسوع) بعد أربعة أيام من موته (11: 1-45)، وهي المعجزة التي صنعت له شهرة كبيرة في اليهودية، وأقنعت أحبار اليهود بأنه لا بد من قتل يسوع.
وردت قصة معجزة تحويل الماء إلى خمرة في الإصحاح الثاني من إنجيل يوحنا، بعد أن جمع يسوع إليه التلاميذ الخمسة الأوائل، فكانت أول عمل علني ليسوع افتتح به حياته التبشيرية، نقرأ في يوحنا 2: 1-12 ما يلي: «كان في قانا الجليل عرس وكانت فيه أم يسوع فدعي يسوع وتلاميذه إلى العرس، ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: لم يبق عندهم خمر، فقال لها يسوع: ما لي ولك أيتها المرأة؟ لم تأت ساعتي بعد، فقالت أمه للخدم: افعلوا ما يأمركم به، وكان هناك ست أجاجين لقضاء الطهارة تسع كل واحدة منها مقدار مكيالين أو ثلاثة، فقال لهم يسوع: املئوا الأجاجين ماء، فملئوها حتى طفحت، فقال لهم: اغرفوا الآن وناولوا وكيل المائدة، فناولوه فذاق وكيل المائدة الماء الذي صار خمرا، وكان لا يدري من أين أتت، غير أن الخدم الذين استقوا يدرون، فدعا وكيل المائدة العريس، وقال له: جرت عادة الناس أن يقربوا الخمرة الجيدة أولا، فإذا أخذ منهم الشراب قربوا ما كان دونها في الجودة، أما أنت فأخرت الخمر الجيدة إلى الآن. فهذه أولى آيات يسوع أتى بها في قانا الجليل، فأظهر مجده فآمن به تلاميذه.»
أما معجزة إقامة لعازر من بين الأموات فقد تمت في آخر حياة يسوع التبشيرية، نقرأ في يوحنا 11: 1-45 ما يلي: «وكان رجل مريض يدعى لعازر من بيت عنيا، من قرية مريم وأختها مرتا، ومريم هي التي دهنت الرب بالطيب ومسحت قدميه بشعرها، وكان لعازر المريض أخاها، فأرسلت أختاه تقولان: ربنا، إن الذي تحبه مريض، فقال يسوع حين بلغه الخبر: ليس هذا المرض مرض الموت، بل مآله إلى مجد الله، ليتمجد به ابن الله، وكان يسوع يحب مرتا وأختها ولعازر، على أنه لبث في مكانه يومين بعدما عرف أنه مريض، ثم قال لتلاميذه بعد ذلك: لنعد إلى اليهودية، فقال له تلاميذه: رابي (= يا معلم) أتعود إلى هناك وقد أراد اليهود رجمك منذ قريب؟ فأجاب يسوع: أليس النهار اثنتي عشرة ساعة؟ فمن سار في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم، ومن سار في الليل يعثر لأنه ليس فيه نور، وقال لهم بعد ذلك: إن صديقنا لعازر راقد، فأنا ذاهب لأوقظه، فقال له تلاميذه: ربنا، إذا كان راقدا فسيشفى. وكان يسوع يعني موته، فظنوا أنه أراد به رقاد النوم، فقال لهم يسوع موضحا: قد مات لعازر، ويسرني، رحمة لكم كي تؤمنوا، أني لم أكن هناك فلنمض إليه ... فلما وصل يسوع رأى أنه في القبر منذ أربعة أيام ... وكان كثير من اليهود قد جاءوا إلى مرتا ومريم يعزونهما عن أخيهما، فلما سمعت مرتا بمجيء يسوع خرجت لاستقباله، ولبثت مريم قاعدة في البيت، فقالت مرتا ليسوع: يا سيد، لو كنت هنا لما مات أخي، ولكني ما زلت أعلم أن الله يعطيك جميع ما تسأله إياه. فقال لها يسوع: سيقوم أخوك. قالت له: أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الآخر. فقال لها يسوع: أنا القيامة من آمن بي يحيا وإن مات، ومن يحيا مؤمنا بي لا يموت أبدا. أتؤمنين بهذا؟ قالت له: نعم يا سيد أؤمن بأنك المسيح ابن الله الذي يأتي إلى العالم ... قال: أين وضعتموه؟ قالوا: تعال سيدي فانظر، فدمعت عينا يسوع فقال اليهود: ما أشد ما كان يحبه. على أن بعضهم قالوا: أما كان بوسعه أن يرد الموت عنه، وهو الذي فتح عيني الأعمى؟ فارتعشت نفس يسوع ودنا من القبر، وهو كناية عن مغارة وضع عليها حجر، فقال يسوع: ارفعوا الحجر. فقالت مرتا: هذا يومه الرابع، لقد أنتن، قال لها يسوع: ألم أقل لك إني آمنت بي ترين مجد الله؟ فرفعوا الحجر، ورفع يسوع عندئذ عينيه وقال: شكرا لك يا أبت لأنك استجبت لي، وقد علمت أنك تستجيب لي في كل حين، ولكني قلت هذا من أجل أولئك الناس الذين يحدقون بي؛ لكي يؤمنوا أنك أنت الذي أرسلتني، وصاح بعد ذلك بأعلى صوته: هلم لعازر فاخرج. فخرج الميت مشدود اليدين والرجلين بالعصائب ملفوف الوجه بمنديل، فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب، فآمن به كثير من اليهود الذين جاءوا إلى مريم إذ رأوا ما صنع.»
كما انفرد يوحنا بذكر حادثتين تحملان دلالات بعيدة الأثر، الأولى حادثة العفو عن الزانية، التي أعلن فيها يسوع صراحة معارضته لشريعة موسى، والثانية لقاؤه مع امرأة سامرية عندما مر في أراضي السامرة، منتهكا العرف اليهودي بتجنب المرور في أراضي السامريين، والاحتكاك بهم وإقامة أي علاقة معهم، وقد شف حواره مع المرأة السامرية بشكل خاص عن بعض الجوانب المهمة في لاهوت يوحنا.
نقرأ في يوحنا 4: 4-24 «فوصل إلى مدينة سامرية تدعى سيخارة، بالقرب من الأرض التي جعلها يعقوب لابنه يوسف، وفيها بئر يعقوب، وكان يسوع قد تعب من المسير فقعد على حافة البئر، وكانت الساعة نحو السادسة، فجاءت امرأة من السامرة تستقي، فقال لها يسوع: اسقيني، وكان التلاميذ قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا قوتا، فقالت له المرأة (وقد ظنته يهوديا): أنت يهودي وأنا سامرية فكيف تستقيني؟ فأجابها يسوع: لو كنت تعرفين عطاء الله، ومن هو الذي يقول لك اسقيني، لسألته أنت فأعطاك ماء حيا، قالت له: سيدي ليس لك ما تستقي به، والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحي؟ هل أنت أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر، وشرب منها هو وماشيته، فأجابها يسوع: من يشرب من هذا الماء فلا بد له أن يظمأ، وأما الذي يشرب من الماء الذي أعطيه إياه فلن يظمأ أبدا، فالماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجر حياة أبدية، قالت المرأة: سيدي أعطني هذا الماء؛ لكي لا أظمأ فأعود إلى الاستسقاء من هنا، قال لها: اذهبي فادعي زوجك وارجعي إلى هنا، أجابت المرأة: ليس لي زوج، فقال لها يسوع: أصبت إذ قلت ليس لي زوج، فقد اتخذت خمسة أزواج وأما الذي يصحبك اليوم فليس بزوجك لقد صدقت، قالت المرأة: سيدي أرى أنك نبي، قد تعبد آباؤنا في هذا الجبل، وأنتم تقولون إن أورشليم هي المكان الذي فيه يجب التعبد، قال لها يسوع: صدقيني يا امرأة ستأتي ساعة تعبدون فيها الآب لا في هذ الجبل ولا في أورشليم، أنتم تعبدون ما تجهلون، ونحن نعبد ما نعلم؛ لأن الخلاص هو من اليهود، ستأتي ساعة بل أتت الآن، يعبد فيها العباد الصادقون الآب بالروح والحق؛ لأن الآب يريد مثل هؤلاء العباد، إن الله روح، فيجب على العباد أن يعبدوه بالروح والحق.»
لقد أعلن يسوع للمرأة السامرية عن زوال العبادات الشكلانية القديمة، والتأسيس لعبادة روحية جديدة، عبادة القلب لا عبادة الحرف، في هذه العبادة لم يعد لهيكل أورشليم مبرر؛ لأن الله سوف يعبد في كل مكان من دون ذبائح ولا محارق يصعد دخانها إلى عنان السماء ليتشممها يهوه فيرضى، وقبل ذلك يجب التخلص من اليهود ومن معتقداتهم البالية.
ولقد أعلن يسوع في مناسبات عديدة سدى الشريعة اليهودية، وضرب مثالا على ذلك من خلال سلوكه وسلوك تلاميذه.
ولعل في حادثة عفوه عن المرأة الزانية، التي أوردها إنجيل يوحنا، أوضح تعبير عن موقف يسوع الحقيقي من هذه المسألة. «أما يسوع فذهب إلى جبل الزيتون ثم عاد عند الفجر إلى الهيكل، فأقبل إليه الشعب كله، فجلس وجعل يعلمهم، فأتاه الكتبة والفريسيون بامرأة أخذت في زنا، فأقاموها في وسط الحلقة وقالوا له: يا معلم، إن هذه المرأة أخذت في الزنا المشهود، وقد أوصانا موسى في الشريعة برجم أمثالها، فأنت ماذا تقول؟ وإنما قالوا ذلك ليحرجوه فيتهموه، فأكب يسوع يخط بإصبعه في الأرض، فلما ألحوا عليه في السؤال جلس وقال لهم: من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم ويرمها أولا بحجر، ثم أكب ثانية يخط في الأرض، فلما سمعوا هذا الكلام، انصرفوا واحدا بعد واحد يتقدمهم كبارهم سنا، ولبث يسوع وحده والمرأة في مكانها، فجلس يسوع وقال لها: أين هم أيتها المرأة؟ ألم يحكم عليك أحد؟ فأجابت: لا يا سيدي، فقال لها يسوع: وأنا لا أحكم عليك، اذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة» (8: 1-11).
ويسبغ يوحنا على قصة لقاء يسوع بيوحنا المعمدان، والتي أوردها بشكل مختلف عن الإزائيين، معاني لاهوتية خاصة به، فيسوع لم يعتمد على يد يوحنا؛ لأنه الابن المؤله الذي ولد بلا خطيئة يغسلها العماد، وهو أعظم من يوحنا وبالتالي لا موجب لكي يركع أمامه ويعتمد على يديه، ويوحنا يشهد له بأنه ابن الله، وهو الذي رأى دون غيره، الروح القدس ينزل عليه، ولكن من غير أن يعين المكان والزمان: «فسألوه أيضا (الكتبة واللاويون): إذا لم تكن المسيح ولا إيليا ولا النبي، فلم تعمد إذا؟ فأجابهم يوحنا: أنا أعمد بالماء وبينكم من لا تعرفونه ذاك الذي يأتي من بعدي ولست أهلا لأن أحل سيور حذائه ... وفي اليوم الثاني رأى يسوع آتيا نحوه فقال: هو ذا حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم، هذا الذي قلت فيه: يأتي بعدي رجل قد تقدمني؛ لأنه كان قبلي، ولم أكن أعرفه، فجئت أعمد بالماء لكي ينجلي لإسرائيل وشهد يوحنا قال: رأيت الروح ينزل كأنه حمامة فيستقر عليه، ولم أكن أعرفه، ولكن الذي أرسلني أعمد بالماء قال لي: إن الذي ترى الروح ينزل عليه فيستقر، هو ذاك الذي يعمد بالروح القدس، وأنا رأيته وشهدت له بأنه ابن الله» (يوحنا 1: 24-34).
ينفرد يوحنا هنا بتعبير «حمل الله»، وهو من خلال هذا التعبير يقارن بين يسوع وحمل الفصح الذي يضحي به اليهود ابتداء من بعد ظهر اليوم السابق للفصح، والذي يحمل دمه المراق مفعولا تطهيريا وخلاصيا عند اليهود، ولكن على عكس حمل الفصح الذي يطهر اليهود من خطاياهم، فإن حمل الله هذا سوف يحمل خطيئة العالم بأكمله وذلك بموته على الصليب؛ ولهذا السبب فقد انفرد يوحنا عن الإزائيين بجعله واقعة الصلب في اليوم السابق للفصح؛ لكي تكتمل رمزية الفداء وتأخذ أبعادا كونية غير مسبوقة في الأناجيل الإزائية، مؤسسة بذلك لأهم ركن في اللاهوت المسيحي المقبل.
وينعكس اختيار يوحنا لليوم السابق على الفصح يوما للصلب، على قصة العشاء الأخير، فالعشاء الأخير عند الإزائيين كان عشاء فصح وحصل عشية الفصح، أما عند يوحنا فقبل ذلك بأربع وعشرين ساعة، وهنا تختلف الرسالة في كلتا القصتين، فبينما يركز الإزائيون على طقس التناول الذي ابتدره يسوع في تلك الجلسة، عندما أخذ خبزا وبارك ثم كسره وناولهم، وقال: «خذوا هذا هو جسدي، ثم أخذ كأسا وشكر وناولهم فشربوا منها كلهم، وقال لهم: هذا هو دمي، دم العهد، الذي يراق من أجل جماعة كثيرة» (مرقس 14: 22-23)، (راجع أيضا متى 26: 26-28، ولوقا 22: 17-20)، فإن يوحنا يتجاهل هذه المناولة ويستبدلها بقيام يسوع بضرب مثل عملي لتلاميذه على المحبة والتواضع، عندما قام وغسل أرجلهم جميعا (يوحنا 13: 4-6).
ومن أهم خصائص إنجيل يوحنا تركيزه على كراهية يسوع لليهود، وسعي اليهود منذ البداية لقتله والتخلص منه، وإذا كان الإزائيون قد جعلوا من النخبة اليهودية المتمثلة في الفريسيين والكتبة والناموسيين من علماء الشريعة، الخصوم الرئيسيين ليسوع فإن إنجيل يوحنا يشير على الدوام إلى اليهود جملة باعتبارهم خصوما ليسوع يرومون هلاكه بسبب إفساده للعقيدة: «وأخذ يسوع بعد ذلك يسير في الجليل، ولم يشأ أن يسيروا في اليهودية؛ لأن اليهود كانوا يريدون قتله ... وكان اليهود يطلبونه في العيد، ويقولون: أين هو» (يوحنا 7: 25-26) وقد وصف يسوع اليهود بأبشع الأوصاف، فهم أولاد الأفاعي وقتلة الأنبياء وأولاد الشيطان: «فقال يسوع لليهود ... إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم، ذاك كان منذ البدء مهلكا للناس لم يثبت على الحق» (يوحنا 8: 31-44). (7) رسالة يسوع في إنجيل يوحنا
في الأناجيل الإزائية تمحورت أقوال يسوع حول الأب السماوي، وقرب حلول ملكوت الله الذي سيفتتحه المسيح في قدومه الثاني، هابطا من السماء على جناح الغمام، فيفصل بين الأشرار والأخيار، ويرسل الأشرار إلى عذاب أبدي، ويجعل الأخيار ينعمون بسعادة أبدية، أما يسوع يوحنا فلا يبدي انشغالا بملكوت الله، وهذا التعبير لم يرد في أقواله إلا مرة واحدة (بينما ورد في الأناجيل الإزائية ثمانين مرة)، وحتى في هذه الحالة فقد اتخذ مفهوم ملكوت الله معاني مختلفة تماما عن معناه لدى الإزائيين، نقرأ في يوحنا 3: 5-8: «الحق، الحق أقول لك: ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من عل، فقال له نيقوديموس: كيف يسع الإنسان أن يولد وهو شيخ كبير؟ أيستطيع أن يدخل في بطن أمه ثانية ثم يولد؟ أجاب يسوع: الحق، الحق أقول لك، ما من أحد يمكنه أن يدخل ملكوت الله إلا إذا ولد وكان مولده من الماء والروح، فمولود الجسد يكون جسدا، ومولود الروح يكون روحا.» أي إن دخول الملكوت لن يتيسر في زمن مقبل، بل هو متاح الآن وهنا إذا مات الإنسان عن نفسه وعاش في الله.
ورسالة يسوع ليست رسالة آخروية وإنما هي رسالة عرفان روحي، يتحقق من خلال معرفة الابن الذي هو تجسيد لله على الأرض، والإيمان بأنه ابن الله الوحيد، الذي حمل الخلاص للعالم بموته على الصليب؛ لهذا فإن يوحنا لا يهتم في مطلع إنجيله بتتبع الأصل الأرضي ليسوع، على طريقة متى ولوقا، وإنما يفتتح نصه بمقدمة فلسفية صوفية تتتبع أصل يسوع السماوي، باعتباره الكلمة-الابن، الذي كان عند الله منذ الأزل، والذي صار جسدا وحل بين الناس في هيئة يسوع الناصري، الابن الوحيد الذي أتى من لدن الآب، نقرأ في إنجيل يوحنا 1: 1-18: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله، كان منذ البدء لدى الله، به كل كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان، هو الحياة لكل موجود، والحياة نور الناس، والنور يضيء في الظلمات، ولا تغشاه الظلمات، ظهر رسول من لدن الله اسمه يوحنا، جاء شاهدا ليشهد للنور، فيؤمن على يديه جميع الناس، لم يكن هو النور، بل شاهدا للنور، الكلمة هو النور الحق الذي ينير كل إنسان، كان قادما إلى العالم، وكان في العالم، ولم يعرفه العالم، جاء إلى بيته، فما قبله أهل بيته، أما الذين قبلوه فقد أولاهم أن يصيروا أبناء الله، هم الذين آمنوا باسمه، وهو ليس من دم، ولا من رغبة ذي لحم، بل الله ولده، والكلمة صار بشرا فسكن بيننا فرأينا مجده، مجد الابن الواحد الذي أتى من لدن الأب ملؤه النعمة والحق، شهد له يوحنا فهتف: هذا الذي قلت فيه إن الذي يأتي بعدي قد تقدمني؛ لأنه كان قبلي، ومن ملئه نلنا بأجمعنا نعمة على نعمة؛ لأن الشريعة أتتنا على يد موسى، وأما النعمة والحق فقد بلغا إلينا على يد يسوع المسيح، ما من أحد رأى الله، الابن الواحد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه.»
ويكمل هذه المقدمة ما ورد على لسان يسوع في الإصحاح الثالث: «لم يصعد أحد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء ... إن الله بلغ من حبه للعالم أن جاد بابنه الواحد، لكي لا يهلك من يؤمن به، بل ينال الحياة الأبدية، فإن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليحكم على العالم، بل ليخلص العالم، فمن يؤمن به لا يحكم عليه، ومن لم يؤمن به حكم عليه؛ لأنه لم يؤمن باسم ابن الله وواحده، وإنما الدينونة هي أن النور جاء إلى العالم، فاستحب الناس الظلام على النور؛ لأن أعمالهم سيئة» (يوحنا 3: 13-19).
من هنا، فقد كان اللقب الذي أحب يسوع يوحنا أن يستخدمه في الإشارة إلى نفسه هو لقب الابن، الابن الغريب عن هذا العالم، «فقال لهم (لليهود) أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق، أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم» (8: 23). وهذا بالفعل هو جوهر رسالة الإنجيل الرابع: يسوع الابن، ابن الله الآب، الذي جاء من عند الآب وإلى الآب يعود: «لأني من الله خرجت وأتيت، وما أتيت من نفسي بل هو الذي أرسلني» (8: 42). «لأن الكلام الذي بلغتنيه بلغتهم إياه، فقبلوه وعرفوا حقا أني من لدنك أتيت، وآمنوا بأنك أنت أرسلتني» (17: 8). «أتيت من لدن الآب وجئت إلى العالم، أما الآن فإني أترك العالم وأمضي إلى الآب» (16: 28). «لأني إلى الآب ذاهب» (14: 12). والطريق إلى معرفة الآب هي معرفة الابن لأنهما من طبيعة واحدة: «أنا هو الطريق والحق والحياة، لا يمضي أحد إلى الآب إلا إذا مر بي، فإذا كنتم تعرفونني عرفتم أبي أيضا، وقد عرفتموه ورأيتموه ... من رآني رأى الآب ... صدقوا قولي: إني في الآب، وإن الآب في» (14: 6-11).
هذه المعرفة هي التي تضمن الحياة الأبدية: «من يؤمن بالابن فله الحياة الأبدية، ومن لم يؤمن بالابن لا يرى الحياة الأبدية» (3: 36). فهو ماء الحياة: «من يشرب من هذا الماء فلا بد له أن يظمأ، وأما من يشرب من الماء الذي أعطيه إياه فلن يظمأ أبدا» (4: 13). «من كان عطشان فليأتني، ومن آمن بي فليشرب» (7: 38). وهو خبز الحياة، قال لليهود: «آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا، هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت، أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء» (6: 49-51).
وفي الحقيقة فإن هذه الأقوال وغيرها مما سنورده لاحقا من إنجيل يوحنا تشف عن طابع غنوصي لا يخفى، كما سيتضح لنا في سياق الفصل القادم، الذي سنقدم من خلاله الخطوط العامة للفكر المسيحي الغنوصي اعتمادا على نصوصه الأصلية، وعلى الرغم من أن إنجيل يوحنا ليس إنجيلا غنوصيا بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا أنه يشكل في حقيقة الأمر صلة وصل بين الأناجيل الأربعة والأناجيل الغنوصية.
الفصل الثاني
الغنوصية ونشأة المسيحية
إن المسيحية السائدة اليوم، على اختلاف طوائفها، ترجع في أصولها إلى صيغة من المسيحية اتخذت ملامحها العامة في نهاية القرن الثاني الميلادي، عندما تبنت كنيسة روما الأناجيل الأربعة المعروفة، إضافة إلى رسائل بولس التي كانت متداولة بشكل مكتوب قبل تدوين الأناجيل الأربعة بوقت طويل، وفي نهاية القرن الرابع الميلادي تم اعتماد الكاتالوج الأخير لأسفار العهد الجديد الذي نعرفه الآن، والذي يتضمن الأناجيل الأربعة، ورسائل بولس، وأعمال الرسل، ورسالة يعقوب، ورسالتين لبطرس، وثلاث رسائل ليوحنا، ورسالة ليهوذا، ورؤيا ليوحنا، وعددها جميعا سبعة وعشرون سفرا.
ولقد انتقت الكنيسة الرسمية، التي أطلقت على نفسها اسم الكنيسة الأرثوذكسية (أي القويمة الإيمان) هذه الأسفار من بين عشرات الأسفار المقدسة التي كانت متداولة بين المسيحيين، وأسبغت عليها صفة القداسة، ووصمت بقية الأسفار بالزيف ودعتها بالأسفار المنحولة، وحرمت بعضها ودعت أولئك الذين يتداولونها بالهراطقة، أي المنحرفين عن الإيمان القويم.
وهذا يعني أن الأيديولوجيا المسيحية الرسمية لم تتشكل إلا عبر صراع طويل بين مجموعة من الفرق التي نشأت وتنازعت فيما بينها، عقب موت يسوع مباشرة، فلقد حصل الانشقاق الأول بين كنيسة أورشليم وهي (كنيسة الختان)، التي فرضت على أتباعها عادة الختان اليهودية، وبقي فهمها لتعاليم يسوع متلونا بالأيديولوجيا التوراتية، وبين كنيسة الأمم التي تأسست بين الوثنيين بتأثير تعاليم بولس، على مساحة تمتد من أنطاكية وآسيا الصغرى إلى روما، وحررت أتباعها من شريعة الختان، وتخلصت إلى هذا الحد أو ذاك من سلطة الأيديولوجيا التوراتية، ذلك أن مسيح بولس ليس المسيح الذي انتظره اليهود ليحمل الخلاص لهم وحدهم، بل المسيح الكوني الذي افتدى بدمه البشرية جمعاء.
وعلى الرغم من هذا الانقسام الأيديولوجي والجغرافي، فقد بقيت عناصر من كنيسة الختان فاعلة في كنيسة الأمم، وعناصر من كنيسة الأمم فاعلة في كنيسة الختان، كما كان لكل من الكنيستين أتباع في مناطق الكنيسة الأخرى، وكان المسيحيون اليهود هم الخصوم الذين جادلهم بولس حيثما ذهب، سواء في غلاطية، أم في إفسوس وكولوسي ورومة، وغيرها، بينما كانت كنيسة الأمم تتوسع على حساب كنيسة الختان في مصر وسورية.
وعلى الرغم من أن هذا الانقسام قد تبعه انقسامات أخرى داخل كل كنيسة، فإن كنيسة الأمم كانت تتغلب على خلافاتها وترسخ أقدامها، حتى طغت على كنيسة الختان، واستقرت معتقداتها عندما توصلت في نهاية القرن الثاني الميلادي إلى صياغة الشكل المبكر من «قانون الإيمان المسيحي»، الذي ما زال حتى اليوم القاسم المشترك بين الكنائس المسيحية المختلفة، والذي بني على تفسير خاص للأناجيل الأربعة ولتعاليم الرسل، كما ونظمت الكنيسة نفسها في مؤسسة ذات هيكلية مراتبية، يشرف عليها ثلاث شرائح كهنوتية، هم الأساقفة والقساوسة والشمامسة، الذين نظروا إلى أنفسهم باعتبارهم حماة الإيمان الحق، والمصدر الوحيد لتفسير الكتاب المقدس.
وقد تربعت كنيسة روما على رأس الكنائس الأممية، وصار لها دور الرياسة والقيادة الروحية والتنظيمية، فهناك الآن كنيسة واحدة أرثوذكسية أي مستقيمة الإيمان، وهي في الوقت نفسه كاثوليكية أي مسكونية عالمية، وأما ما عداها فهرطقات ينبغي محاربتها واجتثاث أصولها، خلال هذه الفترة كانت كنيسة الختان تخسر مواقعها أمام الكنيسة القويمة، حتى تبدد أتباعها في الغرب واختفوا تماما، أما في الشرق فقد انقسمت إلى شيع مختلفة أهمها الأبيونيون والنصارى، واضمحلت تدريجيا حتى لم يبق منها أثر بعد الفتح الإسلامي لأقطار المشرق.
ولكن كنيسة الختان لم تكن، في الواقع، الخصم الأقوى شكيمة للكنيسة القويمة، فخلال الفترة الانتقالية من القرن الأول إلى القرن الثاني الميلادي، وهي الفترة التي كتب خلالها إنجيل لوقا (نحو سنة 90م)، وإنجيل يوحنا (نحو 110م)، بدأت بالظهور، في سورية ومصر، حركة مسيحية راديكالية عارضت كلتا الكنيستين، هي الحركة الغنوصية التي اتخذت نحو أواسط القرن الثاني الميلادي شكل كنيسة غير منمطة عقائديا وغير منظمة مراتبيا ، وإذا كانت الكنيسة القويمة قد فصلت نفسها بشكل غير جذري عن المسيحية اليهودية، فإن المسيحية الغنوصية التي اعتبرت نفسها الممثل الحقيقي للدين العالمي الجديد، لم تكتف بالإعلان عن استقلالها عن اليهودية، بل وأظهرت العداء لكل الميراث التوراتي وتصوراته عن الألوهية والإنسان والعالم، وفي مقابل الأناجيل التي تداولتها الكنيسة القويمة، فقد أنتج الغنوصيون أناجيلهم الخاصة التي قالوا باعتمادها على فهمهم الأصيل لتعاليم يسوع المبثوثة في أناجيل القويمين، وعلى تعاليم أخرى له سرية بثها في تلاميذه، وعلى تعاليم بولس التي بثها في رسائلها المعروفة، وتعاليم أخرى سرية له ولرسل آخرين، وصلت إليهم عن طريق التداول الشفهي، وفي هذا يقول المعلم الغنوصي بتولمايوس (الذي كان رئيسا للمدرسة الغنوصية في إيطاليا نحو عام 160م) في إحدى رسائله: «إننا تلقينا أيضا تعاليم رسولية عبر سلسلة من المعلمين، تحتوي ملاحق سرية لمجموعة أقوال يسوع المعروفة.»
1
إضافة إلى تعاليم يسوع السرية التي بثها في نخبة من تلاميذه خلال حياته، يقول الغنوصيون بأن يسوع قد تابع اتصاله بالمختارين من تلامذته بعد صلبه وقيامه، وذلك عن طريق الرؤى الذهنية، وهم يستشهدون بالرؤيا التي حصلت لبولس وهو على طريق دمشق، عندما كان يهوديا متعصبا، وموكلا من قبل المجمع اليهودي بملاحقة اليهود المتحولين إلى المسيحية (أعمال الرسل: 9)، كما يستشهدون برؤيا أخرى له عندما صعد إلى السماء في حالة انخطاف روحي، حيث رأى وسمع ما لا يمكن التلفظ به، وقد تحدث بولس عن تجربته هذه مستخدما الضمير الثالث عندما قال في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة 12: 2-4: «أعرف رجلا اختطف إلى السماء الثالثة منذ أربع عشرة سنة، أبجسده؟ لا أعلم، أم بغير جسده؟ لا أعلم، الله أعلم وإنما أعلم هذا الرجل اختطف إلى الفردوس ... وسمع كلمات لا تلفظ ولا يحل لإنسان أن يذكرها.»
وكما تلقى بولس تعاليم خفية من الملأ الأعلى، كذلك يدعي المعلمون الغنوصيون تلقيهم حكمة خفية من يسوع الحي، وهنا تلعب شخصية يسوع الروحاني، لا يسوع الناصري، دورا مركزيا في تعاليمهم، فهم بدلا من رواية قصة يسوع من الميلاد إلى الصلب ، على الطريقة التقليدية، فإن أناجيلهم تبدأ من حيث تنتهي الأناجيل الأربعة، أي منذ ظهور المسيح الروحاني لتلامذته بعد حادثة الصلب ، ففي كتاب يوحنا السري (أو منحول يوحنا) يبدأ الكاتب بوصف حالة الحزن والخوف والإحباط، التي انتابت تلاميذ يسوع بعد أن أسلم إلى الصلب، وكيف مضى يوحنا وحيدا إلى جبل الزيتون يتداول في رأسه عددا من الأسئلة المحيرة، عند ذلك، انفتحت السماء وأضاءت الدنيا بنور ليس من هذا العالم، واهتز الكون، ثم أتاه صوت يقول: «يوحنا، لماذا تشك؟ لا تكن قليل الإيمان، إني معك.» يلي ذلك حوار بين يوحنا والمسيح يوضح له فيه أهم المسائل التي خفيت عليهم، حول أصل الكون والإنسان، والشر، وطبيعة الخلاص،
2
ويبتدئ إنجيل فيليب بالطريقة نفسها، فبعد صلب يسوع يلجأ التلاميذ إلى جبل الزيتون يصلون، عندما شع نور أضاء الجبل وناداهم صوت قائلا: «أنصتوا، أنا يسوع المسيح، الباقي معكم دوما.» يلي ذلك حوار يفضي لهم المسيح من خلاله بالأسرار التي كانت خافية عليهم،
3
وفي نص «حوار المخلص» يتكرر مشهد التلاميذ وقد لجئوا إلى جبل الزيتون بعد الصلب، فتجلى لهم المخلص لا في هيئته الأرضية التي عرفوها، بل في هيئة أشبه بملاك نور، وأخذ يعلمهم أسرار الخطة الإلهية للعالم ومصيره.
4
هذا النوع من التواصل المباشر مع الإلهي لا يقتصر على الرسل والتلاميذ، والغنوصيون يعتقدون أن كل من تلقى (الروح) يستطيع التواصل مع الإلهي دون واسطة، يقول المعلم الغنوصي هيركاليون: «يؤمن الناس بناء على شهادة الآخرين أولا، ثم يأتي وقت يستمدون إيمانهم فيه من الحقيقة نفسها.»
5
ويقول المعلم فالينتينوس إنه قد تلقى في البداية التعاليم السرية لبولس الرسول ثم عرضت له بعد ذلك رؤيا صارت منبع عرفانه الخاص، فقد ظهر له طفل وليد، فسأله فالنتينوس: من أنت؟ فقال له: «أنا الكلمة.»
6
ويتحدث المعلم ماركوز عن تجربة مماثلة، عندما ظهرت له امرأة هبطت من الأعالي، وقالت له: «أريدك أن ترى الحقيقة ذاتها، فقد جلبتها من الأعالي لتراها عارية دون حجاب، وتفهم حقيقة جمالها.»
7
وعلى عكس المسيحيين القويمين الذين لا يرفضون الرؤى الذهنية تماما، وإنما يتوقعون منها أن تأتي في اتفاق مع تعاليم الرسل التي تميز الإيمان القويم من الهرطقة، فإن الغنوصيين يقولون بأنهم قد تجاوزوا تعاليم الرسل، على حد تعبير إيرينايوس أشهر نقاد الغنوصية، واكتشفوا مزيدا عما عرفوه، وأن هؤلاء الرسل الذين يبشرون بالأناجيل الرسمية ما زالوا تحت تأثير الفكر اليهودي،
8
وهنا يجب أن نؤكد مرة أخرى على أن الغنوصيين عندما يتحدثون عن تعاليم الرسل، إنما يميزون بين التعاليم الظاهرية التي تلقاها الرسل عن يسوع خلال حياته، وتلك التي تلقوها منه بعد قيامته، وهي الأهم والأكثر أصالة، ففي النص الغنوصي المعروف برؤيا بطرس نجد أن هذا الرسول الأكثر قربا إلى المسيحية اليهودية، يختبر حضور المسيح في حالة انخطاف روحي، فيفتح بصيرته على الحقائق الروحانية: «قال لي المخلص: ضع كفيك على عينيك وقل لي ماذا ترى؟ ففعلت، وقلت له: ليس بمقدور أحد أن يرى بهذه الطريقة، فقال لي: افعل ثانية، عندها انتابني رعب ممزوج بالغبطة: فلقد رأيت نورا أعظم من نور النهار.»
9
وفي إنجيل يعقوب الغنوصي، نجد التلاميذ جلوسا يتذاكرون ما قاله المخلص لكل منهم، علانية أو على انفراد، ثم يلمسون حضور المسيح بينهم، فيقترب منهم ويختار بطرس ويعقوب، فيختلي بهما على انفراد، وينقل إليهما تعاليمه السرية.
10
كل ذلك من شأنه أن يؤكد عند الغنوصيين تفوق موروثهم على الموروث التقليدي، إلا أنهم ينقسمون بخصوص موقفهم من الكنيسة القويمة إلى فريقين، يرى الفريق الأول، ويمثله كاتب «رؤيا بطرس»، أن أولئك الأساقفة والقساوسة والشمامسة، الذين يدعون تلقي سلطتهم من الله، ليسوا إلا جداول ماء جافة، وهم يتفاخرون بامتلاكهم وحدهم أسرار الحقيقة، على الرغم من أنهم لا يفقهون الأسرار، لقد أساءوا فهم تعاليم الرسل، وأسسوا لكنيسة زائفة بدلا عن الأخوية المسيحية الحقيقية، أما الفريق الثاني، ويمثله المعلم فالنتينوس، فلا ينكر على الكنيسة القويمة تعليمها للموروث الرسولي التقليدي، ولكنه يرى أن من حاز على العرفان قد تخطى أولئك الموظفين الكنسيين ولم يعد خاضعا لسلطتهم؛ لأن كل من وضع نفسه في تماس مباشر مع يسوع الحي صار سيدا لنفسه، والخبرة الفردية وحدها هي محك الحقيقة، وتعلو على الخبرة المستمدة من التقاليد، وهذا ما قاد إلى عدم وجود مؤسسة دينية غنوصية مراتبية على غرار الكنيسة القويمة؛ لأن القيادة فيها تبقى تلقائية ومفتوحة ومتبدلة.
11
وإذا كانت الكنيسة القويمة مفتوحة للجميع وبلا شروط، سوى الاعتماد بالماء والنطق بقانون الإيمان والمشاركة في العبادة، فإن الكنيسة الغنوصية مفتوحة للنخبة، وتقوم عضويتها على تقييم النضج الروحي للمريد الذي يجب عليه إظهار الشواهد الملموسة على قابليته لتلقي الأسرار، وذلك انطلاقا من قول يسوع: «من ثمارهم تعرفونهم.» وفي هذا الصدد، يقول مؤلف إنجيل فيليب الغنوصي: «إن كثيرا من المرشحين لعضوية الكنيسة يغطسون في ماء العماد، ويخرجون دون أن يتغير فيهم شيء»،
12
أي إن ما يهم الكنيسة القويمة هو الكم، أما الكنيسة الغنوصية فيهمها النوعية، وبينما تركز الأولى على الطاعة العمياء لرجال الدين، تركز الثانية على حرية الفرد في سلوك طريقه، مسترشدا بخبرة المعلمين الغنوصيين دون تقليدها بشكل أعمى، حتى إذا وصل مرحلة النضج الروحي استغنى عن أي مرشد ودليل.
مثل هذه الحرية الفردية داخل المؤسسة الدينية مفقود في الكنيسة القويمة، يقول الأسقف أغناطيوس، أسقف أنطاكية في أواسط القرن الثاني الميلادي: «إن الالتصاق بالأسقف هو التصاق بالكنيسة، أما الاستقلال عنه فليس استقلالا عن الكنيسة فقط، وإنما استقلالا عن الله نفسه ... وبعيدا عن الهرمية الكنسية لا توجد كنيسة على الإطلاق.»
13
ويقول أسقف ليون مؤيدا: «إن العرفان متضمن في تعاليم الرسل، وفي التنظيم المسكوني للكنيسة، وفي جسد المسيح الذي تمثله سلسلة الأساقفة الذين نقلوا التعاليم ... إن الكنيسة المسكونية، وحدها، تقدم المنظومة الكاملة للعقائد ... وخارجها لا يوجد خلاص».
14
وهنا يرد الغنوصيون على لسان مؤلف نص «بيان الحقيقة»
The Testimony of Truth
بالقول: «إن طاعة رجال الدين تسلم المؤمنين إلى قيادة عمياء تستمد سلطتها من إله العهد القديم، لا من الله الحق، وتربطهم إلى أيديولوجيا سقيمة وطقوس ساذجة، مثل طقس المناولة ذي الطابع السحري، وطقس العماد الذي يدعي ضمان الخلاص لهم، ولكن للخلاص طريق أكثر مشقة من ذلك، وهو يقوم على معرفة النفس ومعرفة الله في الداخل، وينتهي بالاستنارة التي تليها القيامة الروحية في هذا العالم لا بعد الموت»،
15
وهذه المعرفة، على ما يقول مؤلف نص «التعاليم المعتمدة»
Authoritative Teachings
تكشف عن الأصل السماوي للروح التي هبطت مثل شرارة من الروح الأسمى، وسجنت في الجسد المادي، إن أتباع الكنيسة القويمة هم في غفلة عن أنفسهم، إنهم لا يبحثون عن الله بل يقنعون بعدد من الإجابات السطحية المطمئنة، في الوقت الذي ينظر فيه الغنوصيون إلى رسالة المسيح باعتبارها حثا على البحث، بحث الروح عن منشئها، حتى تسكن إلى الساكن الأبدي، وهم في سعيهم هذا، يتصلون بالمسيح السماوي دونما حاجة إلى مرشد أو راع كنسي، ويشكلون كنيسة روحية غير مرئية لا تشبه في شيء كنيسة رجال الكهنوت المادية الأرضية.
16
في خضم هذا الخلاف الذي استعر بين الجانبين، وكل منهما يدعي تمثيله للكنيسة الحقة، وقف أتباع المعلم الغنوصي فالنتينوس في نقطة الوسط بين الطرفين، فهم في إصرارهم على البقاء داخل إطار الكنيسة المسكونية يرفضون المحاولات الرامية إلى وضعهم في صف الهراطقة، ويعتبرون أنفسهم أعضاء فعالين في هذه الكنيسة نفسها، وفي هذه المسألة يقول المعلمان الفالنتينيان بتولمي وهيركاليون، بأن الكنيسة تتألف من فريقين: الأول روحاني ويشتمل على الغنوصيين، والثاني غير روحاني ويشتمل على القويمين، وذلك استنادا إلى قول يسوع: «لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون.» فالكثرة التي دعيت هم القويمون، والقلة التي اختيرت هم الغنوصيون، الذين وهبهم الله الفهم الروحي لكي يعلموا الكثرة طريق العرفان، إن كلا الفريقين ينتميان إلى كنيسة واحدة، ويتشاركان في طقوس وعبادات واحدة.
ولكن ما يميزها هو درجة الفهم، ذلك أن القويمين يعبدون إله العهد القديم على أنه الله، ويعتقدون بأن المسيح الذي قام من بين الأموات سوف ينجيهم من الخطيئة، وهم يقبلونه عن طريق الإيمان دون أن يفهموا سر طبيعته، أما الذين تلقوا العرفان فقد تعرفوا على المسيح باعتباره مرسلا من «أبي الحقيقة»، وقد كشف لهم قدومه عن طبيعتهم المتطابقة مع طبيعته ومع الله.
17
ويقدم المعلم الفالنتيني الآخر، هيركاليون، تفسيرا رمزيا للكنيسة باعتبارها بنية مؤلفة من قسمين: الأول عبارة عن باحة خارجية يتعبد فيها القويمون، والثاني عبارة عن حرم داخلي يتعبد فيه الروحانيون الذين تلقوا الغنوص.
18 (1) الغنوص: معرفة النفس
جاءت تسمية الغنوصية
Gnosticism
من الكلمة اليونانية
Gnosis ، التي تعني المعرفة الحدسية الباطنية، أو العرفان بمصطلح التصوف الإسلامي، والعارفون هم الغنوصيون
Gnostics ، الذين يتواصلون من خلال بصيرتهم الداخلية مع الحقيقة الكلية، أما خصومهم فهم غير العارفين الذين وقفوا عند ظاهر التعاليم الدينية ولم ينفذوا إلى باطنها، فإذا كان الخلاص عند اليهود يتأتى عن طريق الالتزام بالشريعة وعند المسيحيين القويمين، من خلال الإيمان بيسوع المسيح، فإن الخلاص عند الغنوصي يتأتى عن طريق فعالية روحانية داخلية، تقود إلى معرفة النفس، ومعرفة النفس تقود إلى معرفة الطبيعة الإنسانية ومصير الإنسان، وفي أعمق مستوياتها تقود إلى معرفة الله، ذوقا وكشفا وإلهاما، عند ذلك يمكن تحرير الروح الحسية في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع، لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه، يقول المعلم الغنوصي ثيودوتس: «إن الغنوصي هو الذي يتوصل إلى فهم من نحن، وما الذي صرنا إليه، وأين كنا، وإلى أن نسعى، ومن ماذا علينا أن نتخلص، ما هو الميلاد، وما هو الميلاد الثاني.»
19
ويقول المعلم مونويموس: «اترك التفتيش عن الله والبحث في مسائل الخلق والتكوين وما إليها، لمعرفة الله ابدأ بنفسك، واهتد إلى من في داخلك يقول: إلهي، وعقلي، وأفكاري، وروحي، وجسدي، اهتد إلى مصدر الأحزان، والغبطة، والحب والكراهية ... فإذا استقصيت هذه الأمور فإنك واجده (الله) في ذاتك.»
20
تصر الكنيسة القويمة على أن البشر لا يستطيعون السير في الطريق المؤدية للخلاص، إلا بعون ومدد يأتيهم من العالم القدسي، وهذا الطريق تكشف عنه الكنيسة وكهنتها الذين ورثوا المسيح كوسيط بين الله والناس، فلقد قال يسوع في إنجيل يوحنا: «أنا هو الطريق، والحق، والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي.» وهذا يعني بالنسبة للمفسرين القويمين أنه لا أحد يأتي إلى الآب إلا بالكنيسة الرسمية، ولكن الغنوصية تقدم بالمقابل منظورا دينيا مختلفا تماما، فعندما سأل التلاميذ يسوع في إنجيل توما الغنوصي الفقرة 24: «أرنا المكان الذي أنت فيه؛ لأنه من الضروري لنا أن نبحث عنه، قال لهم: من له أذنان فليسمع، هنالك نور داخل مخلوق النور من شأنه أن يضيء العالم، ولكن إذا لم يضئ، فإنه لا شيء سوى الظلمة.»
21
مثل هذا القول يوجه ذهن المريد إلى ذاته الحقيقية، وخبيئته التي تنطوي على طاقة جبارة هائلة، إلى النور الداخلي؛ لكي يكتشف طريقه بنفسه، وفي «كتاب توما المنافح»
Thomas The Contender ، قال يسوع: «إن من لم يعرف نفسه لم يعرف شيئا، ولكن من عرف نفسه حقق في الوقت نفسه معرفة بأعماق الكل.»
22
والجهل هو نقيض المعرفة من هنا فإن بؤس الشرط الإنساني يعود إلى الجهل لا إلى الخطيئة، والبشر يعيشون في هذه الحياة في حالة نسيان وغفلة وعدم إحساس بذواتهم الحقيقية، يقول المعلم فالنتينوس في «إنجيل الحقيقة»: «إن الوجود أشبه بالكابوس، فالنائم يرى أحيانا أنه يسقط من جبل عال، أو تطارده الوحوش المفترسة، أو يلاحقه قاتل، أو يطير في الهواء من دون جناح، ولكنه حين يستيقظ من نومه يتلاشى كل ذلك، هذا هو حال أهل العرفان الذين تخلصوا من جهلهم، مثلما يتخلص النائم من كابوسه، تاركين حياة الجهل مثلما يترك من أفاق من نومه لليل أحلامه وكوابيسه، مقبلين على عالم جديد يتلاشى فيه الجهل مثلما يتلاشى الظلام أمام نور الصباح.»
23
هذا السعي نحو الاستنارة يتطلب الكفاح ضد مقاومة داخلية هي أشبه بالرغبة في البقاء على حال النوم أو اللاوعي، يقول المعلم سيلفانوس: «قم من هذا النوم الذي يثقل عليك، اصح من الغفلة التي تملؤك بالظلام، لماذا تطلب الظلام مع أن النور متاح لك؟ الحكمة تناديك، ولكنك تطلب الحماقة، الإنسان الأحمق يتبع طريق الرغبات والشهوات، ويغرق في مستنقعاتها، إنه مثل سفينة جانحة تدفعها الرياح في كل اتجاه، أو مثل حصان جامح بلا فارس يحتاج لجاما هو الرشد، قبل كل شيء آخر: اعرف نفسك.» والعقل والرشد هما المرشد والمعلم في رحلة اكتشاف الضوء الداخلي، يتابع سيلفانوس قائلا: «اعتمد على مرشدك وعلى معلمك، فالعقل هو المرشد، والرشد هو المعلم ... عش وفق ما يميله عليك عقلك ... اكتسب القوة لأن العقل قوي ... أنر عقلك ... أشعل النور الذي في داخلك.» ولتحقيق ذلك ليس بمقدور المريد أن يعتمد على أحد سوى نفسه: «اقرع على باب ذاتك، وامش عليها كما تمشي على طريق ممهد مستقيم، فإذا مشيت في هذا الطريق لن تضل أبدا.»
24
وفي نص «حوار المخلص»
The Dialogue Of The Savior ، لدينا مثال على طريقة يسوع في تحويل السائل إلى نفسه ليجد عندها الجواب، فقد سأله التلاميذ أن يريهم مكان الحياة، النور النقي، فأجاب يسوع: «من عرف منكم نفسه رآه.» وفي نفس النص يسأله التلاميذ: «من الذي يبحث ومن الذي يكتشف؟ قال يسوع: إن من يبحث عن الحقيقة هو الذي يكشف عنها.»
25
وفي نص «بيان الحقيقة» يقول المؤلف بأن «التلميذ هو في الواقع تلميذ عقله الخاص»، وهو الذي يكتشف «أن عقله هو أبو الحقيقة»، وهو يعرف ما يتوجب عليه معرفته من خلال التأمل الباطني الصامت.
26
من هنا، فإن يسوع الحي بالنسبة إلى الغنوصيين ليس إلا رمزا لمعرفة الحقيقة، قال يسوع لتوما في كتاب توما المنافح: «تفحص نفسك لكي تعرف من أنت، وكيف جئت، وما الذي ستئول إليه، وبما أنك تدعى أخي، ليس من المناسب أن تبقى في جهل من نفسك، وإني لأعرف أنك قد عرفت؛ لأنك فهمت بأني أنا معرفة الحقيقة.»
27
من هنا، فإن من يحقق العرفان لا يغدو مسيحيا، بل يغدو «مسيحا» على حد تعبير مؤلف إنجيل فيليب.
28
وكما قام المسيح روحيا من بين الأموات، كذلك هو العارف الذي حقق الاستنارة، والقيامة تحدث هنا والآن لا في مستقبل ما، يقول مؤلف رسالة في البعث
Treatise on Resurrection : «إن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، أما القيامة فهي لحظة الكشف والاستنارة التي تنقل العارف إلى عالم جديد، وإن من يصحو على هذه الحقيقة يغدو حيا من الناحية الروحية، إن باستطاعتك الانبعاث من عالم الموتى هنا والآن، هل أنت مجرد جسد فان؟ هلا تفحصت نفسك ووعيت بأنك قد قمت من بين الأموات.»
29
ويعرض إنجيل فيليب الفكرة نفسها، عندما يسخر ممن ينظر حرفيا إلى مسألة قيامة الجسد، فيقول بأن من يعتقد أن عليه أن يموت أولا ثم يبعث هو على ضلال؛ لأن بمقدوره أن يبعث وهو حي،
30
إن البعث والقيامة عند الغنوصيين ليس بعث الأجساد وعودة الحياة إليها، ومثل هذا البعث لن يحصل، بل البعث هو استفاقة الروح على حقيقتها، ولا يحققه إلا العارفون، قال يسوع في إنجيل توما الغنوصي الفقرة 11: «هذه السماء ستزول، والتي فوقها ستزول، ولكن الذين هم أموات لن يحيوا، والذين هم أحياء لن يموتوا».
31
إن إنكار القيامة يستتبع عند الغنوصيين إنكار مفهوم التاريخ الدينامي الذي يسعى نحو مستقبل مجيد وباهر، عندما يتخلص العالم من بذور الشر التي زرعت فيه منذ القدم، فالعالم ليس حسنا وخيرا في أصله، بل هو شر من حيث الأساس، والتاريخ لا يسعى نحو غاية وليس له معنى، وما على الإنسان إلا الهروب من العالم ورفضه، بدلا من انتظار النهاية السعيدة؛ لأن الروح الحبيسة في المادة لن تنعتق إلا من خلال الغنوص الذي يرجع بها إلى عالم النور.
إن المسيحية القويمة تؤمن بأن يسوع قد مات على الصليب، ثم بعث جسديا في اليوم الثالث، وأن المؤمنين به سوف يبعثون بالطريقة نفسها، أما الغنوصيون فيعتقدون بأن المسيح لم يصلب ولم يقم بجسده في اليوم الثالث، وأن من رآه من التلاميذ بعد الصلب قد واجهه على المستوى الروحاني، وبالتالي فإن أجساد المؤمنين لن تبعث في اليوم الأخير، وما البعث إلا بعث الأرواح لا بعث الأجساد، وما الجسد إلا ثوبا نرتديه لفترة مؤقتة، ثم نتخلص منه إلى الأبد، وهذا ما دعا الغنوصيين إلى احتقار الجسد، واعتبار وظائفه غير مهمة بالنسبة للكائن الروحاني، قال يسوع في إنجيل توما الغنوصي، الفقرة 29: «إنني أعجب لتلك الثروة العظيمة (= الروح) تقيم في هذا الفقر المدقع (= الجسد).»
32
من هنا يأتي عدم ثقة الغنوصيين بالجسد، واعتباره مصدرا للألم والمعاناة، وعدم ثقتهم بالعالم المليء بالشرور التي لا تقتصر على الشر الأخلاقي الذي يركز عليه القويمون، وإنما تشمل الشرور الطبيعانية التي تصيب الإنسان مثل المرض والشيخوخة، وأنواع الأذى الأخرى التي تلحق الجسد والنفس، ولكن بينما أكد فريق من الغنوصيين على ترك الزواج، والعلاقات الجنسية أو الإنجاب، وعدم الانهماك في مسائل الحياة العملية كوسيلة للانسحاب من عالم وجدوا أنفسهم غرباء فيه، فإن فريقا آخر وهم الفالنتينيون، قد مارس حياته الطبيعية فتزوج وأنجب وشارك في الحياة العامة، ولكنه اعتبر ذلك كله أمرا ثانويا بالنسبة إلى حياة التأمل والمعرفة. (2) إله الغنوصيين ليس إله العهد القديم
إن الله الذي يبحث عنه الغنوصي في أعماق نفسه، ليس الإله يهوه صانع هذا العالم المادي الناقص المليء بالشرور، بل هو الأب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصف أو يحيط به اسم، الذي بشر به يسوع وبالآب دعاه لا بأي اسم من أسماء الألوهة التوراتية، ذلك أن ما يميز الغنوصية عن المسيحية القويمة، هو اعتقادها بأن عالم المادة الذي يتخلله الشر ليس من صنع الله، بل من صنع إله أدنى هو إله التوراة، الذي يوازي أنجرا ماينو شيطان الزرادشتية، وهم يتصورونه على هيئة مسخ مزيج من هيئة الأفعى وهيئة الأسد، وله عينان جمرتان من نار، ويجلس على عرش يحيط به معاونون من قوى الظلام المدعوين بالأراكنة (مفردها أركون، وتعني باللغة اليونانية حاكم)، تدعوه نصوص التكوين الغنوصية، التي تقدم تأويلا خاصا لنص التكوين التوراتي، بالاسم يهوه، ويلدابوث، وبإله هذا العالم، كما تلقبه بسكلاس أي الأحمق، وبسمائيل أي الأعمى، وبالديميرج أي الإله الصانع (باللغة اليونانية
Demiourgos )، وعلى الرغم من أن هذا الإله قد صنع الإنسان من مادة الأرض الظلامية، إلا أنه أخذ روحه من نور الأعالي المسروق، وحبسها في الجسد المادي، مثلما يمزج الجواهري وهو في حالة السكر حفنة من شذرات الذهب مع كومة من المعدن الخسيس، ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة التي تشغله عن نفسه وعن اكتشاف الجوهر الحقيقي للروح.
33
إن العالم الذي نعرفه ونعيش فيه ليس عالما حسنا وخلقا طيبا؛ لأنه قد ظهر إلى الوجود نتيجة عملية سقوط تمت في عالم الألوهة، شبيهة بسقوط إبليس، وقادت إلى تكون المادة الكثيفة المظلمة المناقضة لعالم الأنوار الروحاني الأعلى، وإلى تشكيل عالمنا انطلاقا من هذه المادة، من قبل الديميرج الذي صنعه بجهل وصلف متأصلين في طبيعته، فجاء عالما ناقصا سمته الألم والمرض والموت، وينجم عن هذه العقيدة المركزية لدى الغنوصيين رفضهم للعالم، ورفضهم لإله هذا العالم ومتطلباته التي تعرقل سعي الروح إلى الانعتاق، وتجاوز حالة السقوط إلى حالة الكمال.
وهكذا فقد حلت الغنوصية مشكلة وجود الشر في العالم بطريقة مبدعة وجديدة على الفكر الديني، وذلك بابتكارها لفكرة الأب الأعلى مصدر عالم النور الروحاني، والإله الأدنى مصدر العالم المادي عالم الجهل والظلمات، فهذا العالم لم يخلق كاملا ثم داخله النقص والشر من خارجه، كما هو الحال في المعتقدات الزرادشتية واليهودية والمسيحية القويمة، بل إن المادة بعينها هي الشر، ومصدر الشر هو إله التوراة الذي لجهله بوجود العالم النوراني الأسمى، تربع على عرش الكون الذي صنعه وصاح متفاخرا: «أنا الرب ولا إله غيري، إله غيور» (راجع: الخروج 20: 5، وإشعيا 45: 21)، ولكن هذا الإله وعالمه سيئولان إلى الدمار عندما يتعرف الإنسان على النور الأسمى في داخله، وهي المعرفة التي تعتقه من دورة الميلاد والموت والتناسخ في الأجساد، فالإنسان ليس خاطئا منذ البداية، ولكنه مأسور وراء حجاب الجهل، ولا فكاك له إلا بالعرفان الذي يعد النشاط الأسمى للنفس الإنسانية، هذا العرفان هو الذي يجعل صاحبه طيبا وأخلاقيا دونما حاجة إلى لوائح أخلاقية مفروضة من الخارج؛ لأن الشر هو الجهل والخير هو المعرفة، أما الطقوس والعبادات الشكلانية فليست في حقيقتها إلا خضوعا لإله العالم المادي، وتطبيقا أعمى لشرائعه، بينما لا يتطلب الأب الروحاني الأعلى من الإنسان إلا أن يعرفه ويتلمس منابع الخير في داخله، وهو ملتزم بتخليصه واستعادة روحه إلى بيتها الذي ضاعت عنه، إذا استجاب لنداء رحمته. (3) آلام المسيح وموته وقيامته
في دراما السقوط هذه، يلعب يسوع دورا مركزيا باعتباره محررا للبشرية الواقعة في إسار العالم المادي، والراسفة في أغلال إله هذا العالم، ولقد هبط من السماء الروحانية العليا التي تقع وراء السماء المادية التي نعرفها، لا ليضحي بنفسه من أجل تخليص البشر من الخطيئة، وإنما ليفتح بصيرتهم ويحرك العرفان الغافي في النفس الإنسانية، التي تنتمي إلى الله الحق لا إلى الديميرج، ولعلنا واجدون في الإنجيل الرابع ما يتفق وهذه الرؤية الغنوصية، فقد قال يسوع لليهود الذين يعبدون الديميرج: «أنتم لا تعرفونني ولا تعرفون أبي، ولو عرفتموني لعرفتم أبي» (إنجيل يوحنا 8: 19). «أنتم من الدرك الأسفل وأنا من الملأ الأعلى، أنتم من العالم وأنا لست من العالم» (يوحنا 8: 23). «إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم ... من كان من الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لست من الله» (يوحنا 8: 41-42).
إن بؤس الشرط الإنساني ناجم عن الجهل الذي يشبه مجازا بالنوم أو الخدر أو العمى، ويسوع قد جاء لتخليص البشر من هذا الجهل، من هنا فلا مكان في الفكر الغنوصي للخطيئة، وما من حاجة إلى موت المخلص من أجل رفع خطيئة العالم؛ لأنه لم يأت لوصل ما انقطع بين الخالق وخليقته، وإنما لتخليص الخليقة من الجهل، وفتح بصيرتها على الحقيقة؛ لهذا يقول يسوع في النص الغنوصي المعروف «برؤيا بطرس» بأنه لم يتعذب على الصليب ولم ينله أي أذى من جلاديه،
34
وفي نص «الأطروحة الثانية لشيت الكبير» يقول يسوع بأنه لم يمت حقيقة على الصليب، وأنا ما رأوه من موته لم يكن سوى مظهر خادع، وأنهم ما ضربوه وما أهانوه وما سقوه الخل والمرار، وإنما فعلوا ذلك بآخر اتخذ شبهه، بينما كان هو على البعد يهزأ منهم ومن جهلهم.
35
يتفق الغنوصيون والقويمون بخصوص تاريخية حادثة صلب المسيح وموته وقيامته، ولكنهم يختلفون في تفسير هذه الحادثة وفي نتائجها، فبينما يؤكد القويمون على أن يسوع ابن الله الحي قد تألم على الصليب ومات ثم بعث جسديا، فإن الغنوصيين يؤكدون على أن آلام يسوع وموته لم تكن سوى مظهر خادع، وبالتالي فإنهم ينكرون قيامته الجسدية، ولا يرون فيها أي معنى؛ لأن مثل هذه الفكرة تحمل في طياتها مباركة للجسد المادي الذي يسعون إلى التخلص منه.
وهنا ينقسم الغنوصيون إلى فريقين في موقفه من القيامة، فأتباع المعلم فالنتينوس يميزون بين يسوع الأرضي المولود من امرأة، والمسيح السماوي، ويقولون بأن المسيح السماوي قد هبط على يسوع وتطابق معه لحظة خروجه من الماء، بعد أن اعتمد على يد يوحنا المعمدان، ثم غادره عندما مات على الصليب، وبذلك تكون قيامة المسيح قيامة روحانية، عندما تخلى عن جسد يسوع الأرضي. ونستطيع تلمس مثل هذه الأفكار في عدد من النصوص المنسوبة إلى فالنتينوس أو تلامذته، ولا سيما في نص «حوار المخلص» و«الرسالة الثلاثية» و«إنجيل الحقيقة» و«تفسير الغنوص»، وجميعها من نصوص مكتبة نجع حمادي.
أما الفريق الثاني الذي يطابق بين يسوع والمسيح، فيرى أن ظهور المسيح بين الناس لم يكن إلا ظهورا شبحيا، على الرغم مما تبدى للناس من ماديته، فلقد هبط المسيح من السماء هبوطا روحانيا وصعد صعودا روحانيا من غير أن تمسه أدران المادة، ففي النص الغنوصي المعروف بعنوان «أعمال يوحنا» نجد يوحنا ويعقوب مبحرين في زورقهما نحو اليابسة، حيث كان يسوع في انتظارهما، عندما تبدل شكل يسوع متحولا إلى طفل صغير، عند ذلك نبه يعقوب يوحنا إلى ما رآه، ولكن يوحنا لم ير من ذلك شيئا، وقال له إن ذلك ناجم عن طول التحديق إلى الماء، عندما اقتربا إلى اليابسة تعاظمت حيرتهما، فقد بدا يسوع ليوحنا على هيئة رجل خفيف شعر الرأس كثيف اللحية، وليعقوب على هيئة فتى مراهق، بعد ذلك يتابع يوحنا شرح حيرته إزاء مظهر يسوع وماهيته الحقيقية، فعندما كان يلمسه كان يحس أحيانا بملمس جسد مادي، وفي أحيان أخرى كان يحس بأن الجسد الذي يلمسه غير موجود على الإطلاق، وقد انتبه في أكثر من مرة إلى أن قدميه لا تتركان أثرا على الأرض، وأن عينيه لا ترمشان أبدا، وبعد أن أسلم يسوع إلى الصلب وهرب تلاميذه، مضى يوحنا وحيدا وقبع في كهف يبكي، عندها تراءى له يسوع وقال له: بالنسبة للناس، هناك في الأسفل، أنا مصلوب، وخاصرتي مثقوبة بالرمح، وأتجرع الخل والمرار، ولكني لم أعان بالفعل أيا من هذه الأمور ، وها أنا ذا معك فاستمع لما أقول.
36 (4) أصول الغنوصية
في الحديث عن أصول الغنوصية، لدينا مسألة لم تحل بعد على مستوى البحث الأكاديمي الحديث، تتعلق بوجود غنوصية سابقة على المسيحية، ذات ملامح واضحة وتنظيم ديني ناضج، فهناك اتجاه قوي اليوم يقول بوجود غنوصية يهودية نشأت ضمنها الغنوصية المسيحية، قبل أن تشق طريقها الخاص وتستقل بفكرها وتنظيمها، وأهل هذا الاتجاه يستشهدون بوجود العديد من النصوص في مكتبة نجع حمادي، تعتمد مادة توراتية لكن دون أن تعكس وجهات نظر مسيحية واضحة، وذلك مثل نص رؤيا آدم ونص تفسير شيم وغيرهما، وفي هذا يقول الباحث الألماني كورت رودولف، وهو من أهم شارحي الغنوصية ما يلي: «إن النصوص الغنوصية التي وصلتنا، في جلها، يمكن فهمها باعتبارها إعادة صياغة وتفسير لقصص من العهد القديم، والمادة التوراتية غالبة فيها على الرغم مما تبديه من نقد للفهم التقليدي للنص التوراتي، كما أن شخصيات من العهد القديم قد رفعت إلى مقام الأسلاف المبجلين، مثل نوح وشيت وقايين وشيم، كل هذا يشير إلى أصول يهودية لهذه النصوص، حتى حين تنتقص من قيمة الإله اليهودي لمصلحة الإله الخفي الأعلى، وتوجه النقد إلى الشريعة التوراتية، وتعبر عن موقفها التشاؤمي من العالم المادي.»
37
وفي الحقيقة، فإن القول بوجود غنوصية يهودية سابقة على المسيحية، استنادا إلى وجود نصوص في مكتبة نجع حمادي تعتمد مادة توراتية من دون أن تعكس رؤية مسيحية واضحة، هو قول مردود، فهذه النصوص وجدت في سياق مسيحي لا في سياق يهودي، وضمن عدد أكبر من النصوص الغنوصية ذات التوجه المسيحي الواضح، وقد تم تداول هذه النصوص خلال القرن الثاني الميلادي، إبان فترة مد المسيحية الغنوصية، لا قبل ذلك، ولا من قبل أي جماعة غنوصية يهودية معروفة لنا، أما عن الشخصيات التوراتية التي تظهر في نصوص نجع حمادي، فجميعها ينتمي إلى الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، ومن جيل آدم إلى جيل نوح تحديدا، من دون بقية إصحاحات السفر التي تقص عن أسلاف بني إسرائيل من إبراهيم إلى يوسف، ومن دون بقية أسفار الكتاب، وهذا يدل على أن المسيحية الغنوصية قد استخدمت هذه المادة وتلك الشخصيات التي تنتمي إلى مرحلة الخلق والتكوين وأصول العالم، في سياق مطابقتها بين الإله الديميرج صانع العالم والإله اليهودي يهوه، وفي سياق نقدها العام للعالم المادي باعتباره صنيعة الشيطان-يهوه.
ومن ناحية أخرى، لا يوجد لدينا أي دليل تاريخي على قيام نظام ديني غنوصي واضح الملامح وراسخ التنظيم قبل ظهور المسيحية الغنوصية، ومن الأفضل لنا في هذا المجال أن نتحدث عن إرهاصات غنوصية، ومفكرين ذوي طابع غنوصي، وجماعات غنوصية صغيرة مبعثرة غير ثابتة التنظيم، مثل هذه الجماعات وجدت في منطقة الجليل بتأثير تعاليم سمعان ماجوس الشخصية السامرية الغامضة، التي عاصرت يسوع والرسل الأوائل، كما وجدت في الإسكندرية بتأثير التعاليم الهرمزية (أو الهرمسية)، ويضاف إلى هذا بعض الجماعات اليهودية غير الأرثوذكسية التي اقتربت بفكرها من الغنوصية، دون أن تتوصل إلى إنتاج فكر غنوصي متسق، بعض هؤلاء اليهود قد تحول إلى المسيحية وساهم في إغناء الفكر الغنوصي بعد أن صار مسيحيا لا قبل ذلك، خلال الفترة التي شهدت تحول كثير من اليهود إلى المسيحية الناشئة بكنائسها الثلاث: كنيسة الأمم وكنيسة الختان وكنيسة الغنوص، وفي هذا السياق يمكننا تفسير أقوال بعض هؤلاء المتحولين، كقول جماعة من أتباع المعلم باسيليد: «لم نعد يهودا، ولكننا لسنا بعد مسيحيين.» وقول جماعة من أتباع المعلم فالنتينوس: «عندما كنا عبرانيين كنا يتامى.»
إن كل النصوص الغنوصية في مكتبة نجع حمادي قد دونت بأقلام مسيحية، وجرى تداولها بين المسيحيين، ولم يتوفر لدينا حتى الآن ما يشير إلى أنها كانت متداولة قبل ذلك لدى أي شيعة غنوصية أخرى، سواء بشكلها الذي وصلنا أم بأي شكل آخر، ولكن هذا لا يعني أن الغنوصية المسيحية قد نشأت في فراغ، بل لقد أفادت من عدد من التيارات الفلسفية والدينية التي نمت فيها، وبشكل جنيني، أفكار ومفاهيم غنوصية لم تصل مرحلة النظام الغنوصي المتكامل.
فلقد أفادت الغنوصية المسيحية من الفلسفة الأفلاطونية الوسيطة، التي ميزت بين التفكير العقلي الخطي، والخبرة الداخلية الحدسية التي تقود إلى معرفة الله، وتكشف للروح الإنسانية صلتها بعالم الألوهة، كما قالت هذه الأفلاطونية بوجود ديميرج يتوسط بين الملأ الأعلى والعالم المادي، ودعته بالإله الثاني، وهذا الديميرج ممزق بين تأمل الملكوت المثالي الأعلى، وبين توجيه عنايته نحو الأدنى باتجاه العالم الحسي،
38
كما أفادت الغنوصية المسيحية من الكتابات الهرمزية (Corpus Hermeticum) ، وهي عبارة عن ثلاث عشرة رسالة منسوبة إلى هرمز المثلث العظمة، كانت متداولة في الإسكندرية موطنها الرئيسي، وفي الحلقات الإيزوتيرية في العالم الهيلينستي خلال القرن الأول الميلادي، فقد كانت هذه الرسائل مصدرا للأفكار الغنوصية التي تدور حول ثنوية الروح والجسد، والنظر إلى الجسد باعتباره ممثلا للظلام والمادة والموت، وإلى الروح باعتبارها ممثلة للنور والحقيقة الأبدية، نقرأ في (رسالة بيوماندريس) ما يلي: «إن من عرف نفسه حصل على الخير الأسمى، أما من أضلته الرغبات وحب الجسد، فسوف يتيه في ظلمات عالم الحواس ويذوق الموت ... إن الله أب للجميع، وهو النور والحياة ومصدر الإنسانية، فإذا عرفت أنك مجبول من النور والحياة، سوف تعود إلى النور والحياة ... على الإنسان الروحاني أن يعرف نفسه.»
39
وقد قالت بعض الشيع اليهودية التي تبنت من الكتاب المقدس موقفا تأويليا، بوجود إله آخر إلى جانب الإله التوراتي يدعى يوئيل، ويجلس على عرش قرب عرش يهوه، ويلعب دور الممثل أو الوكيل، وهو الذي تشير إليه أسفار التوراة بلقب ملاك الرب، وقالوا بأن كل الصور التشخيصية ليهوه في التوراة يجب أن تعزى إلى هذا الإله الوكيل، وعلى الرغم من أن الفيلسوف الأفلاطوني فيلو الإسكندري (وهو يهودي حاول التوفيق بين اليهودية والأفلاطونية) قد وجه نقدا لاذعا لمثل هذه الأفكار، فإنه طور أفكارا ليست بعيدة عنها تماما، عندما قال بأن اللوغس (= الكلمة، العقل) هو وسيط الخلق ودعاه بالإله الثاني، وبالملاك، وبالرب، وبالاسم.
40
وليس من المستبعد أن تكون إحدى هذه الشيع قد طورت في الإسكندرية مفهوم «الإله الوكيل» إلى نتيجته المنطقية بأن عزت إليه مهمة خلق العالم، وتصورت وجود إله خفي أعلى يسمو فوق ثنائيات الكون، ولكننا لا نملك بالفعل دليلا على أن مثل هذه الخطوة قد حصلت فعلا داخل الفكر اليهودي، وإذا كانت مثل هذه الأفكار قد توضحت فعلا، فإنها لم تجد سبيلا إلى التعبير الكامل عن نفسها إلا عندما تحول أصحابها إلى المسيحية الغنوصية التي وجدوا فيها موئلا وملاذا من سطوة الشريعة التوراتية، التي لم تعد مقبولة في ثقافة عالمية منفتحة مثل ثقافة مدينة الإسكندرية خلال العصر الهيلينستي.
أخيرا، ينبغي ألا ننسى الأثر الذي تركته أفكار سمعان ماجوس، السامري، على السميحية الغنوصية الناشئة، وسوف نفرد لأفكار سمعان هذا حيزا في الفقرة المقبلة التي نعرض فيها لأهم المدارس الغنوصية. (5) في المدارس الغنوصية
فيما عدا الغنوصية المانوية، التي تحولت على يد معلمها ماني إلى ديانة مؤسساتية خلال أواسط القرن الثالث الميلادي، فإن الفكر الغنوصي لم يطور أيديولوجيا دينية موحدة ومنظمة، وبقيت الفرق الغنوصية أشبه بالطرق الصوفية الإسلامية، التي يتبع كل منها معلما روحيا له نهجه الخاص وفكره المتميز، مع اشتراكها جميعا بعدد من الأفكار العامة التي ميزتها عن غيرها من التيارات الدينية والفلسفية، التي كانت تتمازج وتتلاقح خلال فترة تعد من أخصب فترات التاريخ الروحي والثقافي للمنطقة المشرقية، ولسوف أقدم فيما يلي عرضا لأفكار بعض من أهم المعلمين الغنوصيين.
مرقيون
ولد مرقيون في منطقة بونتوس على البحر الأسود، في أواخر القرن الأول الميلادي، وانتمى في مطلع شبابه إلى الكنيسة القويمة، ولكنه سرعان ما أخذ بصياغة عقيدته الخاصة المتلونة بالغنوصية، والتي تسببت أخيرا في حرمانه من الكنيسة عام 144م. ينطلق مرقيون في تفكيره من مبدأ الفصل التام بين العهد الجديد والعهد القديم، وكان معارضا للطريقة المسيحية في تأويل العهد القديم لجعله متلائما مع العقيدة المسيحية، فإله العهد القديم بالنسبة إليه ليس الأب السماوي الذي بشر به يسوع، بل هو الديميرج الذي صنع العالم المادي والناقص، وصنع الإنسان أيضا وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة، على حد تعبير بولس الرسول (غلاطية 3: 13)، هذا الإله الحقود والمنتقم، الذي يقول مرقيون إنه يعرفه حق المعرفة، لا يستحق بالفعل الطاعة والعبادة التي يطلبها، وهو ليس أبا يسوع كما يعتقد المسيحيون القويمون، أما الأب السماوي الذي يدعوه مرقيون بالإله المتعالي، والإله المجهول، فليس له علاقات بمجريات الأحداث في العالم لأنه لم يكن صانعه، وهو لم يتدخل إلا بأن أرسل ابنه يسوع المسيح، الذي هبط من السماء إلى هذا العالم السقيم والتافه، وصلب من أجل الإنسان الذي أحبه وأراد الخلاص، اعتمد مرقيون إنجيلا خاصا به ضم إنجيل لوقا فقط بعد تشذيبه من قبله، فقد حذف منه قصة ميلاد يسوع وسلسلة النسب التي تربطه بالملك داود، كما ضم إلى الإنجيل عشر رسائل لبولس الرسول، وبذلك كان مرقيون أول من وضع كتالوجا معتمدا للعهد الجديد.
إن مفهوم اغتراب الله عن العالم هو مفهوم كلي لدى مرقيون، فبينما تعقد الأنظمة الغنوصية الأخرى صلة قربى من نوع ما بين الديميرج صانع العالم وبين الإله المتعالي، فإن نظام مرقيون يصر على عدم وجود أي رابطة بين الإلهين، وعلى عكس الأنظمة الأخرى أيضا، فإن الإنسان لدى مرقيون، روحا وجسدا، هو من صنع الديميرج وهو لا يملك قبسا مسروقا من نور الأعالي، وبالتالي فإن خلاصه لن يؤدي إلى تحرير إله التوراة نفسه، على ما يقول بعض المفكرين الغنوصيين، لقد ظهر المسيح فجأة بين الناس وهو يعلم ويبشر بملكوت الروح، فظنه بعض اليهود المسيح القومي المنتظر، كما أن تلاميذ يسوع أنفسهم لم يفقهوا المغزى الحقيقي لرسالته، ونظرا لجهل يهوه بقيمة المخلص، فقد دفع به إلى الصلب.
وعلى الرغم من معارضة مرقيون لإله العهد القديم، وتوكيده على تحرير الإنسان من حكمه، إلا أنه يعتقد بأن عليه متابعة مهمته في تسيير شئون هذا العالم؛ لأن العالم من حيث الأصل لا قيمة له، والجسد الإنساني لا يساوي شروى نقير، وكذلك الحياة الإنسانية؛ لذلك فقد عارض مرقيون الزواج لأنه يؤدي إلى إنجاب رعايا جدد يقعون تحت سلطة إله هذا العالم، على أن ما يجعل مرقيون في نقطة الوسط بين المسيحية الغنوصية والمسيحية القويمة، هو توكيده على عنصر الإيمان المسيحي في مقابل العرفان الغنوصي، فالخلاص عنده يتحقق من خلال الإيمان وعن طريق يسوع المسيح بالذات، لا من خلال العرفان، وهو لم يقدم للمؤمنين وعدا باستنارة الروح، بل بمباركتها عن طريق شفاعة ابن الله المتعالي .
بعد صراع طويل بينه وبين الكنيسة، أصدرت كنيسة روما قرارا بحرمانه، وإبعاده عن الكنيسة عام 144م، وهو العام الذي أعلن مرقيون فيه تأسيس كنيسته الخاصة، التي انتشرت حلقاتها على نطاق واسع في بلاد الشام ومصر ووادي الرافدين وآسيا الصغرى وأرمينيا، وشكلت أكبر خطر على الكنيسة القويمة، بحيث دفعتها في نهاية القرن الثاني الميلادي إلى وضع أول مجموعة قانونية للعهد الجديد، وإلى صياغة قانون الإيمان المسيحي.
41
فالنتينوس
اتخذت الغنوصية شكلها الناضج على يد معلمها الكبير فالنتينوس، الذي ولد بمنطقة الدلتا المصرية من أسرة ذات أصول يونانية عام 100م. تلقى علومه بالإسكندرية، مدينة العلم والثقافة في ذلك العصر، وبؤرة إشعاع الفكر الأفلاطوني والهرمسي. اتصل بالمسيحيين واعتبر نفسه مسيحيا، ولكنه شكل لنفسه مجموعة من الأخويات الغنوصية داخل كنيسة الإسكندرية، وأسس أكاديمية للبحث الحر. اعتبر نفسه المفسر الحقيقي لتعاليم المسيح، بعد أن نقل إليه معلمه ثيوداس تعاليم بولس السرية، وأدخله إلى حلقة العارفين بمعتقد الأب السماوي الأعلى، وقد بلغ من ثقته بنفسه أنه رشح نفسه لمنصب أسقف روما في أواسط القرن الثاني الميلادي، على الرغم من أن تعاليمه تشكل انشقاقا تاما عن لاهوت العهد القديم، وتقدم تفسيرا متطرفا لحياة يسوع ورسائل بولس.
يرى فالنتينوس أن بؤس الإنسان ناجم عن سجن روحه في المادة المظلمة من قبل يهوه إله العهد القديم، وأن هذا الإله الذي يعبده البسطاء ليس إلا ظلا للإله الحقيقي، وأن تعاليم الكنيسة القويمة التي يبشر بها رجال الهرمية الكنسية التقليدية لا تنطبق على الله العلي الخفي، بل على الديميرج الذي يحكم العالم كملك وسيد ويتصرف كقائد عسكري، والذي فرض الشريعة ويعاقب على انتهاكها، ولكن أولئك البسطاء الذين عبدوا إله هذا العالم، سوف يتعلمون كيف يرفضون سلطته ويعتبرون كل ما ورد في الشريعة بمثابة حماقة، وذلك بعد تلقيهم الأسرار ودخولهم حلقة العارفين، وهذا ما يقودهم بالتالي إلى نبذ سلطة الهرمية الكنسية التي تستمد سلطتها من الديميرج لا من الأب الأعلى، إن العرفان يؤدي إلى الخلاص والتحرر من عالم المادة، بعد أن يتعرف الغنوصي على الله الحق وعلى طبيعته الروحانية التي هي جزء من طبيعة الله، وعلى الرغم من أن هذا العرفان ذو طابع فردي في أساسه، ويؤدي إلى خلاص فردي في النهاية، فإن كل فعالية عرفانية فردية سوف تؤثر على صيرورة الكون برمته، وتساعد في النهاية على تخليص العالم، كما تساعد على إصلاح إله هذا العالم نفسه؛ لأنه جاهل ومحروم من العرفان اللازم لخلاصه، ولكن الإنسان قادر على معونته وتحريره من خلال عرفانه الداخلي.
لم ينشق الفالنتينيون عن الكنيسة، بل اعتبروا أنفسهم على الدوام جزءا منها. إن ما تعلمه الكنيسة بالنسبة إليهم، هو مرحلة أولية وابتدائية من المعتقد المسيحي، أما هم فيعلمون الحقائق العليا لمن مر بالمرحلة الأولية، ولكنهم رفضوا المراتبية الكنسية، وكانوا يعقدون اجتماعاتهم في جو من الإخاء والمساواة، ففي كل اجتماع كانوا ينتخبون بالقرعة من يدير الاجتماع، ومن يلعب دور الأسقف، أو دور القسيس أو دور الشماس، دون أن يكون لهذه المناصب ديمومة أو أشخاص ثابتون يشغلونها، وهذا ما خلق لديهم هيكلية مختلفة لا تمييز فيها بين رجال الدين والرعية، في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة القويمة تتجه نحو مزيد من تركيز السلطة، والتمييز بين رجال الدين الذين اعتبروا المفسرين الوحيدين للنصوص المقدسة وبين الرعية التي تتلقى الأوامر والتوجيهات دون مساءلة.
42
باسيليد
يعتبر باسيليد المعلم الثاني للمسيحية الغنوصية بعد معاصره فالنتينوس، اعتبر نفسه مسيحيا أيضا، وبقي عضوا في كنيسة الإسكندرية حتى آخر أيامه، بالرغم من أن أتباعه كانوا يقولون بأنهم لم يعودوا يهودا ولم يصبحوا بعد مسيحيين، أسس باسيليد مدرسة غنوصية اجتذبت الكثير من الأتباع خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، أنتج باسيليد ميثولوجيا على غاية من الغموض والتعقيد في موضوعات النشأة الأولى والتكوين، فوفق ناقده المسيحي هيبوليتوس يقول باسيليد إنه في البداية لم يكن سوى العدم، والله الخفي المتشح بالعدم، ثم أنتج الإله الخفي بشكل تلقائي بذرة الكون التي تنطوي على كل الممكنات التي تحققت فيما بعد، مثلما تحتوي حبة الخردل على ممكنات الجذور والساق والأوراق، من هذه البذرة خرج الأركون الأكبر المدعو يهوه، وباشر بخلق العالم المادي دون أن يعلم بوجود الله الخفي الأسمى منه.
أما ناقد باسيليد الآخر إيرينايوس، فيعزو إليه قوله إنه من الله الخفي غير المخلوق نجم «العقل»، وعن العقل نجم «اللوغوس» أو الكلمة، وعن هذين الأخيرين نجم «الفهم»، ثم الثنائي «صوفيا» و«القوة» وعن هذين الأخيرين نجم «الأركون الأكبر» وملائكته، وقد صنع هؤلاء السماء الأولى بمن فيها من أراكنة وملائكة، وهؤلاء بدورهم صنعوا السماء الثانية بمن فيها من أراكنة وملائكة، وهكذا وصولا إلى السماء الخامسة والستين بعد الثلاثمائة، حيث الإله يهوه صانع العالم وملائكته، وقد صنع يهوه عالمنا هذا وصنع الإنسان ثم اختار شعبا خاصا له أراد أن يخضع بقية أمم الأرض، ولكن الأب الكلي أرسل ابنه المسيح (العقل) لتخليص الأمم، وعندما أسلمه يهوه إلى الصلب، اتخذ سمعان القريني، الذي كلف بحمل الصليب، شكل يسوع، بينما اتخذ يسوع شكل سمعان القريني، وراح يضحك من جهل اليهود الذين شبه لهم أنهم صلبوه.
43
سمعان ماجوس
سمعان ماجوس، أو سمعان الساحر، هو مؤسس المدرسة الغنوصية السورية، وهو أكثر الشخصيات الغنوصية غموضا؛ لأن مؤلفاته قد ضاعت، ولم يبق منها إلا أفكار متفرقة وصلت إلينا عن طريق نقاده المسيحيين، وقد امتلأ ما وصلنا إليه من سيرته بالخوارق والمعجزات، حتى ضاعت ملامح سيرته الحقيقية. نشط سمعان خلال أواسط القرن الأول والميلادي، وهذا يعني أنه قد عاصر يسوع ونشط خلال فترة نشاط الرسل الأوائل، ومن اليسير الذي وصلنا عنه، لا يبدو لنا سمعان يهوديا راديكاليا ثائرا على الأرثوذكسية اليهودية، ولا مسيحيا غنوصيا متطرفا، وإنما تنبع غنوصيته من مصدر ثالث، هو على ما يبدو الغنوصية المبكرة التي نشأت عن الموروث الوثني التقليدي للمنطقة.
يقول سمعان، وفق ناقده هيبوليتوس، بأن الله قوة أزلية موحدة وغير متمايزة، منغلقة على نفسها في صمت مطلق، ثم إن هذه القوة اتخذت شكلا وانقسمت على نفسها، فظهر «العقل»
Nous
وهو مذكر، و«الفكرة»
Enoia
وهي مؤنثة، وبذلك انشطرت الألوهة إلى قسم علوي هو عالم الروح، وقسم سفلي هو عالم المادة، فلقد امتصت الفكرة إنويا القوى الخلاقة للأب وأنتجت ملائكة وقوى عملت بواسطتهم على صنع العالم المادي، ولكن إنويا فقدت السلطة على القوى التي نتجت عنها، وصارت أسيرة لها ولا تستطيع الرجوع إلى الآب، ثم ظهر سمعان ماجوس كتجسيد لله على الأرض لكي يحرر إنويا من قيودها، ويقدم الخلاص من العالم المادي لكل من يتعرف عليه، بصفته هذه من البشر،
44
وقد كان لسمعان عدد من التلاميذ أشهرهم دوتيسيوس وميناندر، اللذان بشرا في سورية، واتخذا من أنطاكية مقرا لهما.
يروي سفر أعمال الرسل في العهد الجديد عن سمعان ماجوس ما يلي: «فنزل الرسول فيليبس مدينة سامرية وجعل يبشر بالمسيح ... وكان في المدينة قبل ذلك رجل اسمه سمعان، يفتري السحر ويفتن أهل السامرة، زاعما أنه رجل عظيم، فكانوا يلزمونه من صغيرهم إلى كبيرهم، ويقولون: هذا هو قوة الله العظيمة، وإنما لزموه لأنه أخذ يفتنهم بأساليب سحره من زمن طويل، فلما آمنوا بكلام فيليبس الذي بشرهم بملكوت الله واسم يسوع، اعتمدوا رجالا ونساء، وآمن سمعان أيضا» (8: 4-12).
ولكن سفر أعمال بطرس المنحول يعطينا صورة أخرى، حيث نجد سمعان وبطرس في روما، وكل منهما يظهر الآيات والمعجزات لإثبات صحة رسالته، ثم اجتمع الرجلان للمنافسة، وبالرغم من أن سمعان قد أظهر في هذه المواجهة أعجوبة عظيمة، عندما طار وحلق فوق أحياء روما، إلا أن الغلبة في النهاية كانت لبطرس، بتأييد المسيح الذي ظهر له في الحلم، ووعده بأن أعمال سمعان كلها سيظهر للملأ بطلانها، كونها تعتمد على السحر والإيهام.
45 (6) هل كان يسوع غنوصيا؟
إن الحديث الذي سقناه أعلاه عن المدرسة الغنوصية السامرية، يعطينا مفتاحا لفهم مقطع غامض ورد في إنجيل يوحنا، حيث وصف اليهود يسوع بالسامري: «فقال اليهود: ألسنا على صواب إذا قلنا إنك سامري، وإن بك مسا من الشيطان؟» (يوحنا 8: 48)، فكيف يكون يسوع سامريا وكل الأناجيل الأربعة تروي أنه ولد في بيت لحم، وعاش حياته وبشر برسالته في الجليل، ثم مات في أورشليم؟ إن التفسير الوحيد لصفة السامري هنا، هو أن اليهود قد شعروا منذ البداية بوجود صلة بين تعاليم يسوع الغريبة عليهم، وبين تعاليم الغنوصية السامرية، فهل كان يسوع غنوصيا؟
إن الأناجيل الأربعة التي بين أيدينا اليوم هي نتاج عملية تحريرية طويلة: فقد دونت باللغة اليونانية خلال الفترة ما بين العام 70م والعام 110م، وعزيت إلى بعض تلاميذ المسيح مثل متى ويوحنا، أو إلى أشخاص عملوا مع الرسل ورافقوهم في رحلاتهم التبشيرية مثل مرقس ولوقا، ونظرا للصراع بين الفرق، مما رافق تشكل ونشوء الكنيسة المسيحية، فقد خضعت هذه النصوص إلى الكثير من التعديل والتنقيح لتلائم وجهة نظر الكنيسة القويمة، التي كانت ترسخ أقدامها وتعمل بجد على التخلص من خصومها، وعندما تحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية أمر بإتلاف جميع المؤلفات التي تتعارض مع العقيدة القويمة، ثم شكل في عام 331م لجنة من رجال الدين كلفها بإعداد نسخ جديدة من الكتاب المقدس، ويبدو أن ما توفر لهذه اللجنة من نسخ قديمة تعتمدها لإعداد النسخ الجديدة كان قليلا جدا، بعد أن كان سلف قسطنطين الإمبراطور ديوقليانوس قد أمر بإتلاف جميع الكتب المسيحية التي أمكن العثور عليها، وذلك في آخر حملة رسمية شاملة على المسيحية جرت عام 303م، وكان من نتيجتها فقدان الوثائق المسيحية لا سيما ما كان منها موجودا في روما، وقد هيأ هذا الوضع فرصة لا تجارى لحماة الإيمان القويم، مكنتهم من تنقيح الوثائق وتحريرها،
46
وهي العملية الأخيرة التي أعطت يسوع الوجه الذي يعرفه العالم عنه.
مع ذلك فإن الأناجيل الرسمية قد حافظت على ملامح من الوجه الآخر للمسيح ذي صبغة غنوصية واضحة، وسنبدأ في استجلاء هذا الوجه من أول ما قام به يسوع، بعد أن هبط عليه الروح القدس عقب اعتماده بالماء على يد يوحنا المعمدان، عندما مضى وحيدا يتأمل في الصحراء، وأتى الشيطان ليختبره، وهذه حادثة لم تلق من الباحثين حتى الآن عناية كافية، على الرغم من أنها في اعتقادي مفتاح لفهم العهد الجديد برمته، نقرأ في إنجيل لوقا، وما يوازيه في إنجيل متى ما يلي: «فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السموات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السموات قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت ... ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلئ من الروح القدس، فاقتاده الروح في البرية أربعين يوما، وإبليس يجربه، ولم يأكل شيئا في تلك الأيام حتى انقضت، فأحس بالجوع، فقال له إبليس: إن كنت حقا ابن الله فقل لهذه الحجارة أن تصير أرغفة، فأجابه: مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل من كل كلمة تخرج من فم الله. فمضى به إبليس إلى المدينة المقدسة، وأقامه على شرفة الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فألق بنفسك إلى الأسفل، فإنه مكتوب: يوصي ملائكته بك فيحملونك على أيديهم فلا تصطدم رجلك بحجر. فقال له يسوع: مكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك. ثم مضى به إبليس إلى جبل عال جدا، وعرض عليه ممالك الأرض في لحظة من الزمن، ثم قال له: أجعل لك هذا السلطان كله، ومجد هذه الممالك؛ لأنه سلم إلي وأنا أجعله لمن أشاء، فإن سجدت لي يعود إليك ذلك كله. فقال يسوع: اذهب يا شيطان؛ لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. فلما أفرغ إبليس جميع ما عنده من تجربة، انصرف عنه إلى حين» (لوقا 4: 1-13)، و(متى 3: 16-17)، و(4: 1-13).
إن هوية الإله الذي تجلى ليسوع بعد خروجه من ماء العماد، تعلن عن نفسها من خلال الهيئة الرمزية التي تجلى بها، فإله العهد القديم لم يتجل في أسفار التوراة أبدا في هيئة حمامة، بل تجلى في ظواهر تمثل القوة والجبروت والغضب والانتقام، في عمود الدخان الذي كان يتقدم جماعة موسى في الصحراء نهارا، وعمود النار الذي كان يقودهم ليلا، وفي الأوبئة والأمراض التي أرسلها على المصريين، وفي النار الآكلة على جبل سيناء ودخانه يصعد كدخان الأتون، وفي الرعود والبروق عندما كان يعلن شريعته للشعب، وفي العاصفة وقصف الرعد عندما كان يخاطب أيوب، أما الحمامة فكانت في ديانات الشرق القديم رمزا للحب والخصب والعطاء، وكانت في عبادات الأسرار رمزا للانخطاف الروحي في لحظات الكشف والاستنارة، ومن خلالها أعلن إله يسوع عن نفسه كإله محبة لا إله غضب، محبة الإنسان ومحبة العالم: «لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكيلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16-17).
وبالمقابل، فإن الذي اقتاد يسوع ليجربه في البرية، يعلن عن هويته من خلال قوله ليسوع بعد أن عرض عليه ممالك الأرض في لحظة من الزمن: «أجعل لك هذا السلطان كله، ومجد هذه الممالك؛ لأنه سلم إلي وأنا أجعله لمن أشاء»، فهو الديميرج إله هذا العالم، الذي رفض يسوع السجود له، وأعلن انتهاء سلطانه على المؤمنين بالأب السماوي الأعلى: «اليوم دينونة هذا العالم، واليوم ينبذ سيد هذا العالم، فإذا رفعت من هذه الأرض جذبت إلى الناس أجمعين» (يوحنا 12: 31-32)، وأيضا: «لأن رئيس هذا العالم قد حكم عليه» (يوحنا 16: 11)، «لن أخاطبكم بعد الآن لأن سيد هذا العالم آت وليس له يد علي، وما ذلك إلا ليعرف العالم أني أحب الآب، وأعمل بما أوصاني الآب» (يوحنا 14: 30)، وفي مشهد المحاكمة أعلن يسوع أن كل سلطة دنيوية في هذا العالم تستمد قوتها من هذا الإله، قال له بيلاطس الوالي الروماني: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطانا أن أصلبك وسلطانا أن أطلقك؟ أجاب يسوع: لم يكن لك سلطان علي ألبتة لو لم تكن أعطيت من فوق لذلك، الذي أسلمني إليك له خطية عظيمة» (يوحنا 19: 10-11).
إن الغنوصية هي النظام الديني الوحيد الذي يطابق بين الشيطان وإله هذا العالم، والشيطان الذي جرب يسوع في البرية ما هو إلا إله العهد القديم نفسه، ولقد فهم بولس الرسول، بعد ذلك، أكثر من غيره هوية المجرب عندما دعاه بإله هذا الدهر الذي يعمي بصيرة غير المؤمنين (2 كورنثة 4: 4)، مستخدما أحد ألقاب يهوه في العهد القديم، نقرأ في سفر إشعيا 40: 27: «إله الدهر، الرب خالق أطراف الأرض.» إن إله هذا الدهر هو الذي سلم يسوع إلى الصلب، جاهلا بقيمته الحقيقية، على ما قال به مرقيون، ولكن يسوع بموته على الصليب قد غلب العالم وإله هذا العالم: «ستعانون الشدة في العالم، فاصبروا لها، فقد غلبت العالم» (يوحنا 16: 13).
بعد هذا الخيار المبدئي ليسوع هل تشف الأناجيل الأربعة عن أفكار غنوصية بسطها يسوع لتلاميذه؟ في الحقيقة، لقد بقيت في الأناجيل أقوال عديدة ليسوع تفصح عن خلفيته الفكرية، فيسوع لم يستخدم أيا من أسماء الإله التوراتي، أو صفاته أو ألقابه، في الإشارة إلى إلهه، بل دعاه دوما بلقب الآب، والآب السماوي، فهو أب ليسوع وأب للمؤمنين جميعا: «فاغفروا لكي يغفر لكم أيضا أبوكم الذي في السموات زلاتكم» (مرقس 11: 25)، «إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي» (يوحنا 10: 25)، «لأن لكم أبا واحدا هو الأب السماوي» (متى 21: 9)، «صلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك ... إلخ»، «فكونوا أنتم كاملين لأن أباكم الذي في السموات كامل» (متى 25: 48)، إن كل الآلهة السابقة على يسوع كان لها أسماء إلا إله الغنوصية الذي لم يدع باسم معين، وإنما أشاروا إليه بلقب الأب، والأب الأعلى، والأب النوراني، والإله الخفي ... إلخ، وهذا الإله الخفي هو إله يسوع.
وقد ركز يسوع على ثنائية النور والظلمة اللذين يرمزان إلى الأب النوراني الأعلى، والإله الديميرج سيد العالم المادي الكثيف والمظلم، قال يسوع: «أنا نور العالم، من يتبعني لا يخبط في الظلام، بل له نور الحياة» (يوحنا 8: 12)، «من سار في النهار لا يعثر لأنه يرى نور هذا العالم، ومن سار في الليل يعثر لأنه ليس فيه نور» (يوحنا 11: 9)، «النور باق معكم وقتا قليلا، فامشوا ما دام لكم النور مخافة أن يدرككم الظلام؛ لأن الذي يمشي في الظلام لا يدري أين يسير، آمنوا بالنور ما دام لكم النور فتكونوا أبناء النور» (يوحنا 12: 35-36)، «جئت إلى العالم نورا، فمن آمن بي لا يقيم في الظلام» (يوحنا 12: 46)، «النور يشرق في الظلمات ولا تغشاه الظلمات ... الكلمة هو النور الحق الذي ينير كل إنسان» (يوحنا 1: 5-9).
وفي مقابل ملكوت الرب الذي يؤسسه يهوه على الأرض في نهاية الزمن، فإن مملكة إله يسوع لا تنتمي إلى هذا العالم، فعندما سأله بيلاطس في المحاكمة: أنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع: «ليست مملكتي من هذا العالم، ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجالي لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن مملكتي ليست من هنا» (يوحنا 18: 36)، هذا الملكوت لن يتأسس في زمن مقبل يسعى إليه تاريخ الإنسان، بل هو حاضر هنا والآن في داخل المؤمن، سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله، فأجابهم: «إن مجيء ملكوت الله لا يستدل عليه بشيء، ولا يقال ها هو ذا هنا، أو ها هو ذا هناك، فإن ملكوت الله هو فيكم» (لوقا 17: 20-21).
كما استخدم يسوع مصطلحات غنوصية واضحة عندما تحدث عن غربة المؤمنين في هذا العالم، قال يسوع: «ستعانون الشدة في هذا العالم، فاصبروا لها، لقد غلبت العالم» (يوحنا 16: 33)، «إن أبغضكم العالم فاعلموا أنه قد أبغضني قبل أن يبغضكم، لو كنتم من هذا العالم لأحب العالم من كان منه، ولكن العالم أبغضكم لأنكم لستم منه» (يوحنا 15: 18-20)، «بلغتهم كلامك فأبغضهم العالم؛ لأنهم ليسوا من هذا العالم، كما أني لست من هذا العالم» (يوحنا 17: 14)؛ لهذا فإن يسوع إنجيل يوحنا لم يأت ليدين العالم، كما هو الحال في الأناجيل الثلاثة الإزائية، بل ليخلص العالم: «ما جئت لأحكم على العالم بل لأخلص العالم» (يوحنا 12: 47)، وهذا الخلاص هو في طبيعته هروب من عالم فاسد لا أمل في إصلاحه؛ لأنه واقع تحت سلطان الظلمة: «من أحب حياته هلك، ومن كره حياته في هذه الحياة الدنيا حفظها للحياة الأبدية» (يوحنا 12: 25)، والحياة الأبدية تبدأ عندما تنكشف البصيرة على الحقائق السرية، عندها يولد الإنسان ولادة جديدة، ولادة من الأعلى الروحاني لا من الأسفل المادي: «ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت الله إلا إذا ولد من عل ... إلا إذا كان مولودا من الماء والروح، فمولود الجسد يكون جسدا، ومولود الروح يكون روحا» (يوحنا 3: 3-6).
هذا وبإمكاننا استكمال صورة يسوع الغنوصي اعتمادا على إنجيل توما الذي اعتبر بمثابة الإنجيل الخامس على الرغم من عدم ضمه إلى أسفار العهد الجديد، وذلك بسبب قربه الشديد إلى إنجيل يوحنا، واحتوائه على عدد كبير من أقوال ليسوع وردت في الأناجيل الرسمية. يعود تاريخ تدوين هذا الإنجيل إلى النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، أي إلى وقت قريب من تاريخ تدوين إنجيل يوحنا، وقد عد بين الأناجيل الغنوصية على الرغم من عدم إغراقه في الغنوصية، وما ذلك إلا لتركيزه على عدد من الأفكار الغنوصية مثل معرفة النفس والبحث عن الله في الداخل، لا يحتوي النص على سيرة حياة يسوع التقليدية، وإنما على مجموعة من أقواله المتفرقة التي دونها المؤلف من غير أن يذكر المناسبة في قولها، وهو يبتدئ بالقول: «هذه هي الكلمات السرية (أو الخفية) التي قالها يسوع الحي»، وبما أن كلمات يسوع هذه قد دونت لكي يطلع عليها كل من يشاء، فإن صفة السرانية هنا لا تعني الخفاء المادي، بل سرانية المعاني وخفاءها على علوم الظاهر؛ ولهذا فقد تابع المؤلف قائلا: «إن من يتوصل إلى تأويل هذه المعاني لا يذوق الموت»، ومن ناحية أخرى فإن السرانية هنا تدل على أن هذه الأقوال لم تعلن للعامة، وإنما أعلنت للخاصة فقط.
قال يسوع في إنجيل توما: «ألقيت على العالم نارا، وإني لأرقبه حتى يضطرم» (الفقرة 10)،
47
وقال أيضا: «يعتقد الناس بأني جئت لألقي سلما على الأرض، ولكنهم لا يعلمون بأني جئت لألقي على الأرض شقاقا، نارا وسيفا وحروبا، فإذا كان خمسة في منزل واحد، يقوم ثلاثة ضد اثنين، واثنين ضد ثلاثة، ويقوم الابن ضد أبيه، والأب ضد ابنه، ويقفون وحيدين» (الفقرة 16)، وقال: «من هو قربي هو قرب النار» (الفقرة 82).
وذلك لأن رسالة يسوع هي رسالة راديكالية تهدف إلى قلب عالم قديم وخلق عالم جديد، ولهذين القولين ما يشبههما في الأناجيل الرسمية، فقد ورد في إنجيل متى: «لا تظنوا أني جئت لأحمل السلام إلى الأرض، ما جئت لأحمل سلاما بل سيفا» (متى 10: 35)، وورد في إنجيل لوقا: «جئت لألقي على الأرض نارا، وكم أرجو أن تكون قد اضطرمت ... أوتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم لا، بل الخلاف» (لوقا 12: 49-51)، قال يسوع في إنجيل توما: «عندما تعرفون أنفسكم عندها يعرفونكم، وتعرفون أنكم أبناء الآب الحي، ولكن إذا لم تعرفوا أنفسكم أقمتم في الفقر، وكنتم الفقر» (الفقرة 3)، ومعرفة النفس هي جهد حثيث متواصل يصاحبه الاضطراب الداخلي قبل الحصول على الهدوء: «على من يبحث ألا يتوقف عن البحث إلى أن يجد ضالته، وعندما يجد ضالته سوف يضطرب، وعندما يضطرب سوف يدهش ويسود على الكل» (الفقرة 1)، «من يبحث يجد، ومن يريد الدخول يفتح له» (الفقرة 94).
ومن خلال العرفان تحل القيامة الفردية، ويفتح باب الملكوت؛ لأن القيامة لن تأتي في زمن موعود قادم، بل هي متاحة في أي وقت، قال له التلاميذ: «متى راحة الموتى، ومتى يأتي العالم الجديد؟ فقال لهم: إن ما تنتظرونه قد أتى ولكنكم لم تتبينوه» (الفقرة 51)، وقالوا له أيضا: «متى يأتي الملكوت؟ فقال يسوع: لا يأتي حين تنتظره، لا يقولون لكم هو ذا هنا، أو هو ذا هناك؛ لأنه يملأ الأرض ولكن الناس لا يرونه» (الفقرة 113)، وهو يسخر من الفهم اليهودي لمملكة الرب باعتبارها تنتمي إلى مكان ما وزمان ما: «إذا قال قادتكم هو ذا الملكوت في السماء، عندها تكون طيور السماء أقرب إليه منكم، وإذا قالوا لكم إنه في البحر، تكون أسماكه فيه قبلكم، ولكن الملكوت في داخلكم» (الفقرة 3)، إن القيامة المرتقبة لن تجلب الحياة لمن لم يجدها قبل موته، ومن وجد الحياة قبل موته لن يموت أبدا: «هذه السماء ستزول والتي فوقها ستزول، ولكن الذين هم أموات لن يحيوا، والذين هم أحياء لن يموتوا» (الفقرة 11).
والنفس العارفة تدرك أنها جاءت من عالم النور، وتدرك أن سجنها في عالم المادة مؤقت: «إذا سألكم الناس من أين أتيتم؟ قولوا لهم أتينا من النور» (الفقرة 50)؛ ولذلك فإن قبسا من النور يبقى في النفس الغافلة، وما عليها سوى إضرامه، سأله التلاميذ: «أرنا المكان الذي أنت فيه؛ لأننا يجب أن نطلبه، فقال لهم: هنالك نور داخل مخلوق النور من شأنه أن يضيء العالم، ولكن إذا لم يضئ كان ظلمة» (الفقرة 24).
في رحلة العارف هذه، لا يلعب المعلم سوى دور ثانوي بالنسبة إلى الدور الرئيسي الذي يلعبه المريد نفسه، وعلى عاتقه وحده تقع مسئولية الكدح الروحي، بينما يقوم المعلم بدور الموجه الذي يكشف لتلميذه من الأسرار ما يتلاءم وقابليته للتقدم والارتقاء، فإذا ما بلغ مرحلة النضج، تجاوز التلميذ أستاذه وانطلق وحيدا، قال يسوع في إنجيل توما لتلميذ ناداه يا معلم: «لست معلمك؛ لأن شربت فسكرت من النبع الفوار الذي سكبته.» (الفقرة 13)، وقال أيضا: «من يشرب من فمي يصبح مثلي، وأنا أكون هو، وسوف تنكشف له الأشياء الخبيثة» (الفقرة 108)، وهذا يعني أن من حقق العرفان تماهى مع المسيح، وذابت الفواصل بين الإلهي والإنساني.
ولعل من أهم ما تنكشف عنه بصيرة العارف هو أصل الروح في العالم الأسمى وغربتها في هذا العالم الذي ليس سوى معبر مؤقت. قال يسوع في إنجيل توما: «طوبى لمن وجد قبل أن ينشأ» (الفقرة 9)، وقال: «طوبى للمتوحدين والمختارين؛ لأنكم تجدون الملكوت؛ لأنكم عنه نشأتم وإليه تعودون» (الفقرة 49)، «كونوا مثل عابرين» (الفقرة 42)، وعندما سألته مريم المجدلية: من يشبه تلاميذك؟ قال لها: «يشبهون أطفالا يعيشون في حقل لا يخصهم» (الفقرة 21).
إن بؤس الشرط الإنساني يعود إلى الجهل لا إلى الخطيئة، ويسوع قد جاء كمعلم روحي لإنقاذ النفوس من جهلها، لا لتحريرها من الخطيئة؛ لذلك فإنه يشبه في إنجيل توما الجهلاء الذين يعزفون عن المعرفة بالسكارى الغافلين عن أنفسهم: «لقد وقفت في وسط العالم، وبالجسد ظهرت لهؤلاء، فوجدتهم سكارى كلهم، ولم أجد أحدهم ظمآن، فحزنت نفسي على بني البشر لأنهم عميان القلوب، لقد أتوا إلى العالم فارغين ويسعون إلى الخروج منه فارغين» (الفقرة 28).
والعارف يركز على المدلولات الداخلية للأحداث ولا تهمه سلسلة الأحداث التوراتية كما فهمتها الكنيسة القويمة باعتبارها تاريخا للخلاص. من هنا فإن الأقوال النبوية التوراتية التي تتنبأ بمجيء المخلص لا قيمة لها، وهي تنتمي إلى منظومة دينية مغايرة لما يؤمن به الغنوصي، فعندما قال التلاميذ ليسوع: «أربعة وعشرون نبيا في إسرائيل أخبروا بك، قال لهم: لقد تجاهلتم الحي الحاضر بينكم (يعني نفسه) وتحدثتم فقط عن الأموات» (الفقرة 52). وفي قول آخر له اختصر الشريعة إلى معرفة داخلية فردية بالخير والشر: «سأله تلاميذه : هل تريدنا أن نصوم؟ كيف نصلي؟ هل نتصدق؟ ما الذي يحل لنا أكله وما الذي لا يحل؟ قال يسوع: لا تقولوا كذبا ولا تفعلوا ما تكرهون» (الفقرة 6)، وفي قول آخر سخر من الشريعة ممثلة بعادة الختان: «قال له التلاميذ: هل الختان مفيد؟ فقال لهم: لو كان مفيدا لأنجبهم أبوهم من أمهم مختونين، ولكن إذا كان ختانا حقيقيا فبالروح، عندها يكون مفيدا» (الفقرة 53).
ولقد بث يسوع في تلاميذه تعاليم خاصة غير التي بثها في عامة الناس، ومع ذلك فقد خص جماعة من هؤلاء التلاميذ بتعاليم أكثر سرية: «قال يسوع لتلاميذه: بمن تقارنونني وتشبهونني؟ قال له سمعان بطرس: أنت تشبه ملاكا بارا، وقال له متى: أنت تشبه رجلا حكيما وفيلسوفا، وقال له توما: يا معلم، إن فمي عاجز عن تشبيهك بأحد ... فأخذه يسوع وتنحى به جانبا وقال له بضع كلمات، وعندما رجع توما إلى رفاقه سألوه: ماذا قال لك يسوع؟ فأجابهم: لو أني أخبرتكم بكلمة مما قال لي لحملتم حجارة ورجمتموني، وتخرج نار من الحجارة تحرقكم» (الفقرة 13). (7) مصادر خلفية يسوع الغنوصية
في الحديث عن خلفية يسوع الثقافية نحن لا نملك سوى التكهنات، فالأناجيل الغنوصية لم تهتم بسيرة يسوع بقدر ما اهتمت بأقواله، وركزت بشكل خاص على ظهوراته الروحانية التي تلت حادثة الصلب، أما الأناجيل الرسمية فإنها تبدأ سيرة يسوع من اليوم الذي اعتمد فيه على يد يوحنا المعمدان، عندما كان في نحو الثلاثين من عمره، وليست قصص الميلاد، وقصة ظهور يسوع في الهيكل وهو في سن الثانية عشرة يحاور الشيوخ بفهم وحكمة، إلا نوعا من السرد العجائبي الذي يروق للخيال الشعبي، مما عرفناه في أناجيل الطفولة المنحولة، مثل إنجيل يعقوب التمهيدي، وإنجيل الطفولة العربي، وكتاب توما الإسرائيلي، المليئة بالمعجزات التي اجترحها يسوع في سن الطفولة.
وحتى صورة يسوع الفتى وهو يساعد أباه يوسف النجار في حانوت النجارة، مما تحدثت عنه بعض الأناجيل المنحولة الأخرى، فصورة غامضة ولا يوجد شواهد كافية عليها، وفي الواقع فإن صفة النجار تطلق على يوسف أو على ابنه يسوع، لم ترد إلا مرة واحدة في العهد الجديد، وبصورة عرضية جدا، وقد لا تدل هذه الكلمة على مهنة النجارة بل على شيء آخر.
لقد وردت صفة النجار في إنجيل مرقس في الإشارة إلى يسوع: «ولما أتى السبت أخذ يعلم في المجمع، فدهش أكثر الناس حين سمعوه، وقالوا: من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أوتيها، وهذه المعجزات التي تجري على يديه؟ أما هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته عندنا هنا؟ وأخذتهم الحيرة فيه» (مرقس 6: 32)، ووردت الحادثة نفسها في إنجيل متى على الوجه التالي، ومنها نفهم أن النجار هو يوسف: «وذهب من هناك وعاد إلى وطنه، وجعل يعلم في مجمعهم حتى دهشوا وقالوا: من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات، أما هو ابن النجار؟ أليست أمه تدعى مريم، وإخوته هم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا؟ أوليس جميع أخواته عندنا؟ وأخذتهم الحيرة فيه» (متى 13: 53-55)، فهل كان يسوع نجارا أو أن أباه كان نجارا؟ في دراسة هذه المسألة، لاحظ الباحث جيزا فيرمي
Geza Vermes
فقيه اللغات السامية الشرقية، والأستاذ في جامعة أكسفورد، أن كلمة «نجار» في اللغة الآرامية، لغة يسوع، قد لا تدل في السياق الذي استخدمت به في النص الإنجيلي على مهنة النجارة، وإنما على الشخص المتعلم والمثقف والحكيم؛ لأن مؤلفي التلمود قد استخدموها على هذا الوجه، وعلى هذا، من المرجح أن المقطع الذي يتحدث عن النجار أو ابن النجار قد ورد في أصله الآرامي على الوجه التالي: «من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أوتيها وهذه المعجزات التي تجري على يديه؟ ولكن أما هو الحكيم ابن مريم ...» و«من أين له هذه الحكمة وتلك المعجزات؟ ولكن أما هو ابن الحكيم؟ أليست أمه تدعى مريم ...»
48
وبما أننا لا نملك من النصوص الأدبية الآرامية ما يكفي للتحقق من كيفية استخدام كلمة «نجار» في آرامية عصر يسوع، فإن استخدامها التلمودي ربما يعكس واقع استخدامها الأدبي في اللغة الآرامية، وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج بأن يسوع كان ينتمي إلى شريحة متعلمة من المجتمع الجليلي، وربما كان ينتمي إلى إحدى الأخويات العرفانية التي كانت منتشرة في الجليل.
حول هذا الموضوع، يقول ه. سبنسر لويس، وهو من مؤرخي الحركات السرانية العرفانية، شارحا خلفية يسوع الثقافية، ما ملخصه:
يوصف يسوع في الأدبيات المسيحية بالناصري، ويراد بهذا الوصف أنه قد عاش في مدينة تدعى «ناصرة» (واسمها في النص الكتابي
Nazareth
والنسبة إليها
Nazarene )، وذلك تبعا لما ورد في إنجيل متى 2: 22-23، من أن يوسف وعائلته قد انتقلوا إلى الجليل، وعاشوا في مدينة الناصرة «ليتم ما أوحي إلى الأنبياء فقالوا إنه يدعى ناصريا»، ولكن كل الوقائع تشير إلى أن المدينة التي نعرفها اليوم باسم الناصرة، لم تكن موجودة خلال حياة يسوع، فنصوص العهد القديم لم تأت على ذكرها، ولم ترد في أخبار المؤرخ اليهودي يوسيفوس الذي عاش في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، ووصف بالتفصيل خريطة فلسطين، كما لم ترد في أي وثيقة تاريخية أو طبوغرافية أخرى، ولا سيما في الوثائق الرومانية، ويبدو أن المدينة قد أحدثت فيما بعد، وأطلق عليها اسمها، بسبب الحاجة إلى وجود مثل هذا الموقع لتفسير ما ورد في إنجيل متى، وقد تم ذلك في القرن الثالث الميلادي عندما اختيرت مزرعة صغيرة على مبعدة من بحيرة طبريا (أو بحر الجليل كما دعيت أحيانا) تحمل اسما قريبا من الاسم الكتابي، لتكون موقعا لناصرة إنجيل متى، ومسرحا لطفولة يسوع.
وفي الواقع (يتابع سبنسر لويس) فإن صفة «ناصري» لم تكن في ذلك الوقت تعني شخصا من مدينة الناصرة، وإنما شخصا ينتمي إلى شيعة سرانية غير يهودية تدعى شيعة الناصرين
Nazarene ، ومثلها أيضا شيعة النذيرين
Nazarites ، وشيع أخرى قريبة منهما، وجميع هذه الشيع يضم وثنيين من حيث المولد ويهودا جليليين حديثي العهد باليهودية؛ لأن اليهودية لم تنتشر في الجليل إلا قبل بضعة عقود فقط من مولد يسوع، ولقد رفض هؤلاء اليهود المحدثون الشريعة التوراتية، كليا أو جزئيا، وكانوا ينتظرون المسيح الكوني الذي سيقدم الخلاص لكل الناس لا لليهود وحدهم، وكان لهذه الشيع مقام ديني مقدس على جبل الكرمل ، ودير هو أشبه بالمعهد الديني الذي يلتحق به الفتيان في سن الثانية عشرة، من أجل الإعداد الديني وتلقي الأسرار، وكان لهذا المقام الديني شهرة واسعة خارج فلسطين، وقصده العديد من الحكماء وأمضوا فيه وقتا لا بأس به خلال فترة إعدادهم الروحي، ومنهم فيثاغورث الذي تروي سيرة حياته عن اعتكافه لسنوات في جبل الكرمل، أكثر الجبال قداسة.
ويخلص سبنسر لويس إلى القول بأن يسوع كان واحدا من شيعة الناصريين (وهم غير الناصرين، أو النصارى، الذين شكلوا شيعة مسيحية يهودية بعد موت يسوع)، وأنه تلقى أسرارها منذ حداثته، وتفقه في تعاليمها، وتدرب على أيدي معلميها، ولعل القصة التي أوردها لوقا عن يسوع الفتى وهو يحاور، بمعرفة وذكاء شيوخ الهيكل، لم تجر في هيكل أورشليم وإنما في دير جبل الكرمل، وفي رأي سبنسر لويس، فإن مثل هذا التدريب لا يتعارض مع الوحي الإلهي الذي تلقاه يسوع، أو مع تواصله المباشر مع الوعي الكوني الذي أمده بالأفكار؛ لأنه كان عليه أن يشرح هذه الأفكار لمعاصريه ويقربها إلى أذهانهم من خلال كلمات وصور ومفاهيم يألفونها. إن الرسامين العظام قد أنتجوا روائعهم تحت تأثير نوع خاص من الوحي والإلهام، ولكنهم مروا قبل ذلك بفترة تدريب طويلة، أتقنوا خلالها أصول التعبير بالخط واللون، حتى صاروا مهيئين للتعبير عن الوحي بتقنيات عالية، والشيء نفسه ينطبق على الموسيقى العظيمة التي نشأت أولا عن إلهام انبثق في ضمير المؤلف الموسيقي، ولم يكن بمقدوره التعبير عنه إلا من خلال تقنيات موسيقية عالية اكتسبها خلال فترة التدريب. لقد كان على يسوع، بصرف النظر عن كمال التواصل مع الوعي الكوني، أن يكتسب التدريب المناسب ليستطيع التعبير عن أفكاره بتلك الطريقة، وتلك اللغة التي ميزت المعلمين الروحيين عبر التاريخ. ولا شك أن إعداد يسوع قد ابتدأ منذ سنوات طفولته الأولى على يد أبوين غير يهوديين ينتميان إلى شيعة الناصريين.
49
وهنالك من الباحثين من يرجع خلفية يسوع الثقافية إلى بيئة مدينة الإسكندرية، وهؤلاء يأخذون على محمل الجد ما ورد في إنجيل متى عن سفر العائلة المقدسة إلى مصر؛ خوفا من الملك هيرود الذي كان يبحث عن يسوع الوليد ليقتله، وفي هذا يقول ديزموند سيتورات، أحد الباحثين الراديكاليين في سيرة يسوع، بأن يسوع قد أمضى فترة الطفولة والفتوة في الإسكندرية، واتصل ببعض الشيع العرفانية السرانية، ولا سيما جماعة الشافين
Therapeutae
التي كان أفرادها يعيشون عيشة النساك في منطقة قرب الإسكندرية، وهم كما يخبر عنهم فيلو الإسكندراني (من القرن الثاني الميلادي) جماعة من المنشقين اليهود آثروا الزهد والابتعاد عن التجمعات الحضرية، وتكريس وقتهم للعبادة والتأمل، وهم يحتفظون بتعاليم تقوم على تفسير باطني للكتاب المقدس يخالف التعاليم الأرثوذكسية الظاهرية، ويلبسون خشن الثياب ويعيشون عيشة الفقر.
50
إن الصورة التي سنتابع تقصي ملامحها ليسوع المسيح، بصرف النظر عن مصادر خلفيته الثقافية التي لا نستطيع الإدلاء بقول قاطع بشأنها، هي صورة حكيم جليلي عاش في بيئة الجليل التي اختلطت فيها عقائد وثنية تقليدية، ويهودية، وعرفانية سرانية، وانطلق في تعاليمه من نقد الجمود العقائدي اليهودي، والنزعة الطقسية اليهودية، والشريعة التوراتية، مؤسسا بذلك لمفاهيم ذات طابع إنساني شمولي يتجاوز الانغلاق الأيديولوجي، والتعصب الإثني والديني، بعض هذه التعاليم كان سريا ولم يبثه يسوع إلا في حلقة ضيقة من تلاميذه، وهو الذي قاد إلى تكوين المسيحية الغنوصية، التي لم تتجاوز اليهودية فقط، بل وقفت منها موقف العداء السافر، واعتبرت إلهها بمثابة الشيطان الساقط الذي صنع العالم المادي.
في الفصل القادم سوف نستخدم مقاربة تاريخية شاملة، تساعدنا على استقصاء البيئة الدينية والثقافية والإثنية لمنطقة الجليل، وذلك من خلال إطلالة عامة على السياق التاريخي لنشوء الدين اليهودي، والمدى الجغرافي لانتشار اليهودية داخل المنطقة الفلسطينية، وذلك لغرض توفير المعلومات اللازمة للإجابة على عدة أسئلة تتعلق بخلفية يسوع، وجميعها تؤدي إلى سؤال مهم أخير يتعلق بصلة يسوع باليهود واليهودية.
الفصل الثالث
اليهودية في فلسطين ومسألة الجليل
ينشأ كل دين في سياق تاريخي معين وتحت شروط معينة، ثم تأخذ معتقدات هذا الدين في التغير والتطور، حتى تكتسب صيغتها الأخيرة التي لا تبدي استجابة للتغيير إلا في حدود الاجتهادات التي تطال المظهر من دون الجوهر، من هنا، فإن فهم أي دين مرتبط إلى هذا الحد أو ذاك بفهم الشروط التاريخية التي أحاطت بولادته ونشأته وتطوره، تغدو هذه المسألة أكثر حيوية وأهمية في دراستنا للدين اليهودي، وذلك بسبب الصلة الوثيقة التي يعقدها كتاب التوراة بين هذا الدين وتاريخ شعب معين هو «شعب إسرائيل»، وقد صارت هذه الصلة إلى درجة من القوة بحيث يصعب على قارئ التوراة التمييز بين الدين والتاريخ؛ لأن التاريخ هنا لم يعد إلا المسرح الذي تتجلى فيه مقاصد الإرادة الإلهية من خلال علاقة إله التوراة بشعبه المختار إسرائيل، كما أن الرسالة الروحية في كتاب التوراة كما يقدمها محرروه، لا تتكشف دفعة واحدة، وخلال حقبة قصيرة من الزمن، ومن خلال شخصية روحية واحدة، وإنما تتكشف عبر فترة زمنية تمتد قرابة 1300 سنة، ومن خلال شخصيات روحية عديدة تبدأ بإبراهيم، الأب الأول، نحو عام 1800ق.م. وتنتهي بعزرا الكاهن نحو عام 450ق.م.
ولكن إلى أي حد تكتسب الرواية التوراتية مصداقية تاريخية؟ وإلى أي حد نستطيع الوثوق بالمخطط التاريخي العام لتكشف الرسالة الروحية في التوراة كما رسمه لنا محرروه؟ ما هو السياق التاريخي البديل لنشوء اليهودية؟ وما هو المدى الزمني والجغرافي الحقيقي لانتشار اليهودية؟ هل دانت فلسطين يوما باليهودية؟ هل كان لليهود كيان سياسي في فلسطين في يوم من الأيام؟ ومتى وأين؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في هذا الفصل، وهو الذي سيوصلنا أخيرا إلى استقصاء البيئة الثقافية لمنطقة الجليل، مسرح الإنجيل.
1
حتى وقت قريب كان الباحثون التوراتيون والمؤرخون، على حد سواء، مقتنعين إلى هذا الحد أو ذاك بالطابع التاريخي للرواية التوراتية، وبالصلة العضوية بين الديانة اليهودية وتاريخ شعب إسرائيل كما ترسمه هذه الرواية، غير أن المعلومات الآثارية والتاريخية التي توفرت بين أيدي الباحثين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبخاصة منذ أوائل ثمانينياته، قد قادت العديد من المؤرخين وعلماء الآثار الراديكاليين في الغرب، إلى الفصل بين الصورة التاريخية لإسرائيل القديمة وصورتها التوراتية.
وكلما كانت هذه المعلومات تتراكم ويتم الربط بينها، تبين للباحثين صعوبة ملاءمتها مع الرواية التوراتية عن أصول إسرائيل، وعن مملكتها الموحدة مملكة شاءول وداود وسليمان، وعن مملكتيها التوأمين السامرة ويهوذا، أي إن النشاط الأركيولوجي المحموم الذي كان يهدف إلى إثبات الرواية التوراتية، قد أدى أخيرا إلى عكس الغاية المنشودة، وبدأت حلقات الرواية التوراتية تخرج واحدة إثر أخرى من مجال التاريخ إلى مجال الأدب الديني، ولم يبق من أحداث ما يدعى بالأسفار التاريخية في التوراة (من سفر يشوع إلى أخبار الأيام الثاني) ما يتقاطع مع المصادر الخارجية، ويتفق مع نتائج التنقيب الأثري، سوى بضعة أخبار من الهزيع الأخير لحياة مملكتي السامرة ويهوذا، يشوبها الغموض والتشوش، ويثقل كاهلها المنظور اللاهوتي للمحررين التوراتيين.
إننا نعرف الآن أن ما يدعى بعصر الآباء الذي ابتدأ بإبراهيم وانتهى برحيل أولاد يعقوب واستقرارهم في مصر، هو عبارة عن مجموعة قصص مستوحاة من ماض خرافي لا يمكن وضعه في إطار تاريخي حقيقي، ونعرف أيضا أن الجماعات التي توطنت في مناطق الهضاب الفلسطينية في عصر الحديد الأول 1200-1000ق.م. (وهي الفترة المفترضة لدخول القبائل الإسرائيلية أرض كنعان) لم تخرج من مصر في هجرة جماعية قوامها مئات آلاف الأشخاص، ولم تدخل فلسطين بعد فترة تجوال في الصحراء، ولم تفتك بالسكان المحليين وتحل محلهم، ولم تأت معها بديانة نزل وحيها في سيناء، إن ثقافة هؤلاء المستوطنين كما تعكسها مخلفاتهم المادية تدل على انتمائهم إلى الثقافة الفلسطينية، فهم سكان محليون من مناطق فلسطين الكبرى تسربوا ببطء إلى مناطق الهضاب الفلسطينية التي كانت خالية من السكان، نتيجة موجة الجفاف الطويل التي ضربت المنطقة خلال عصر البرونز الأخير، ولا علاقة لهم بالقبائل العبرانية التي تسلسلت من أولاد يعقوب الخرافيين.
ونعرف الآن، وعلى وجه التأكيد، أن المناطق الهضبية الفلسطينية لم تشهد خلال القرن العاشر قبل الميلاد قيام مملكة موحدة حكمها على التوالي شاءول وداود وسليمان، لمت شمل القبائل العبرانية في كيان سياسي قوي، ثم ضمت إليها معظم المناطق الفلسطينية وجزءا كبيرا من شرقي الأردن وسورية الجنوبية، ذلك أن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمناطق الهضاب الفلسطينية، تقول لنا بأن قيام مثل هذه المملكة لم يكن مستبعدا فقط، بل كان مستحيلا، فالمناطق الهضبية الشمالية (مرتفعات السامرة) لم تكن تحتوي في أواخر القرن الحادي عشر ق.م. وهي الفترة المفترضة لحكم الملك شاءول، إلا على 200 مستوطنة زراعية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها مجتمعة بضعة آلاف نسمة، أما منطقة الهضاب الجنوبية (مرتفعات يهوذا) فلم تحتو حتى نهاية القرن العاشر، أي إلى الفترة المفترضة لموت الملك سليمان وانحلال المملكة الموحدة، إلا على بضع عشرات من المستوطنات الزراعية لا يتجاوز عدد سكانها الألفي نسمة، وأما مدينة أورشليم العاصمة المفترضة لهذه المملكة، فقد كانت خلال كامل القرن العاشر مدينة مهجورة ولا أثر فيها لحياة سكنية، إن ما يقوله لنا علم الآثار هو أن المملكة الموحدة لكل إسرائيل لم تقم لها قائمة؛ لأن القاعدة الاقتصادية والسكانية لم تتوفر فيها، ولم يكن هنالك عاصمة أو مراكز حضارية ذات شأن.
2
أما بخصوص المملكتين التوأمين إسرائيل (= السامرة) ويهوذا اللتين نشأتا عن المملكة الموحدة عقب موت الملك سليمان عام 931ق.م. فإن علم الآثار يقول لنا بأن مملكة إسرائيل قد ظهرت كدولة مكتملة النمو في منطقة الهضاب الشمالية قبل قرن ونصف تقريبا من ظهور مملكة يهوذا في الجنوب، وإن الدولتين لم تتعاصرا إلا لفترة قصيرة جدا، إن المسح الأركيولوجي الميداني الشامل لمناطق الهضاب الفلسطينية، قد رسم لنا الصورة الأكثر قربا إلى الحقيقة، بخصوص تشكل مملكة إسرائيل التاريخية ومملكة يهوذا، فهاتان الدولتان قد نشأتا على الخلفية العامة لثقافة عصر الحديد، وفي حقبتين متباعدتين، وشروط متباينة، وقد جاء سكان هاتين الدولتين من مناطق فلسطينية متعددة، ومن المناطق الرعوية في البلدان المجاورة؛ لأن الطابع الثقافي المحلي الكنعاني هو الطابع السائد في جميع المواقع، من هنا، فإن الروابط التي يمكن أن تكون قد جمعت بين هاتين المملكتين، ليست أكثر قوة من الروابط التي جمعت أي دولتين في منطقة فلسطين والجنوب السوري، والقاعدة المشتركة بينهما ليست إلا من ابتكار قصة الأصول التوراتية، أما قصة الأسباط الاثني عشر من بني إسرائيل، فلم تعد اليوم سوى رواية لاهوتية لا تحمل أي مصداقية تاريخية.
هذا وتبين لنا الدراسة النقدية المدققة للأسفار التوراتية، ولنصوص الحملات الآشورية على فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، أن المساحة التي شغلها كل من إسرائيل ويهوذا لم تتعد المناطق الهضبية إلا على شكل مد استعماري قصير الأجل ومتقطع، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المستعمرة وضم أراضيها بشكل كامل، وبشكل خاص فقد كانت منطقة الجليل منذ القرن العاشر تحت السيطرة غير المباشرة لكل من مملكتي صور ودمشق، بحيث بسطت دمشق نفوذها السياسي على الجليل الشرقي، وبسطت صور نفوذها على الجليل الغربي، أما بخصوص وادي يزرعيل (مرج ابن عامر) الذي يفصل مرتفعات السامرة عن مرتفعات الجليل، فقد تحكمت صور بمدينة يزرعيل الواقعة عند مدخل الوادي غربا، والتي يمر بها الطريق التجاري الساحلي قبل صعوده إلى فينيقيا، وتحكمت دمشق ببقية المدن وصولا إلى بيت شان عند مخرج الوادي شرقا. وعندما شعر ملوك السامرة بالقوة توسعوا شمالا باتجاه وادي يزرعيل والجليل، ولكن بقاءهم في هذه المناطق لم يدم طويلا؛ لأن الحملات الآشورية المتوالية التي قادت أخيرا إلى سقوط السامرة، قد حرمتها من جميع ممتلكاتها الشمالية قبل أن تجهز عليها.
لقد اختلفت مصائر إسرائيل-السامرة ويهوذا، مثلما اختفت وتباينت أصولهما وتباينت نشأتهما، فقد دمر الآشوريون السامرة عاصمة إسرائيل في عام 721ق.م. وسبوا قسما كبيرا من السامريين إلى آشور وأحلوا محلهم سكانا جددا من المناطق المقهورة الأخرى، واختفت مملكة السامرة إلى الأبد من التاريخ، وحلت محلها مقاطعة السامرة التابعة لآشور، أما يهوذا فقد عاشت بعد دمار إسرائيل قرابة قرن ونصف من الزمان، بسبب سياسة العمالة لملوك آشور، ثم انتهت بعد فترة قصيرة من زوال سلطان آشور وصعود المملكة البابلية الجديدة، وعندما قام نبوخذ نصر الكلداني بتدمير أورشليم نحو عام 587ق.م. سبى قسما كبيرا من أهلها إلى مناطق بابل، وبقوا هناك حتى سقوط العاصمة بابل بيد قورش الفارسي عام 539ق.م.
إضافة إلى تباين أصول يهوذا وإسرائيل، واختلاف مصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسا من القاعدة الدينية التي جمعت أي مملكتين في فلسطين خلال تلك الفترة من حياتهما، إن المسح الآثاري الشامل لمنطقتي إسرائيل ويهوذا، من أكبر المدن إلى أصغر القرى، لم يساعدنا على تلمس أي أثر للمعتقدات والطقوس التوراتية، كما رسمها لنا محررو التوراة، وذلك خلال كامل الفترة السابقة على العودة من السبي وإعادة بناء هيكل أورشليم، فجميع المعابد والمقامات الدينية والتماثيل وشارات الألوهة، تشير إلى استمرارية دينية منذ عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد (أي من العصر الكنعاني إلى العصر المدعو بالإسرائيلي)، والديانة التي سادت هنا هي ديانة كنعانية تقليدية، أما الإله يهوه، الذي تركز حوله المعتقد التوراتي فيما بعد، فلم يكن العثور على كتابات تذكره بالطريقة التي صورته بها أسفار التوراة، ولا على هياكل ومقامات ومذابح مكرسة له، لقد كان هنالك إله اسمه يهوه، ولكنه غير يهوه المعروف في التوراة، فهو يذكر في عدد قليل من النقوش التي اكتشفت قرب مدينة حبرون (الخليل)، وبعض المناطق الواقعة إلى الجنوب من يهوذا، إلى جانب عدد آخر من الآلهة الفلسطينية، وتذكر معه زوجته عشيرة، وهي الإلهة الكنعانية المعروفة لنا جيدا من نصوص أوغاريت والنصوص الفينيقية.
إن الدين اليهودي لم يتشكل في سياق تاريخ شعب إسرائيل كما ترويه الأسفار التوراتية؛ لأن مثل هذا التاريخ لم يكن إلا أخيولة أدبية من ابتكار المحررين التوراتيين، الذين ابتدءوا منذ مطلع العصر الفارسي (أواخر القرن السادس ومطلع القرن الخامس ق.م.) بابتكار قصة أصول للمجتمع الجديد الذي تشكل في مقاطعة «يهود» الفارسية، التي قامت على جزء من أراضي مملكة يهوذا البائدة، ودعيت في العصر الهيلنستي بمقاطعة «اليهودية»، ومع ابتكارهم لقصة الأصول هذه، فقد نسج المحررون إليها قصة أصول أخرى للمعتقد التوراتي المتأخر، فجعلوا هذا المعتقد يظهر لأول مرة في عصر الأب الأول إبراهيم، ويتطور عبر بقية الرواية التوراتية، ولكننا نعلم الآن على وجه اليقين أن الديانة اليهودية قد بدأت بالتشكل والتطور خلال العصر الفارسي، وقسم لا بأس به من العصر الهيلينستي، أي خلال القرون الثلاثة الواقعة بين أواخر القرن السادس وأوائل القرن الثاني قبل الميلاد، وهي الفترة التي تمت خلالها الصياغة التدريجية للأسفار التوراتية، كما شهدت هذه الفترة تشكل الإثنية اليهودية التي عبرت عن نفسها بالتمرد على الحكم السلوقي نحو عام 170ق.م. ومع ذلك فإننا جاهلون بحقيقة ما جرى خلال هذه الفترة؛ لأن الرواية التاريخية في التوراة تنتهي مع سفر نحميا، نحو عام 440ق.م. أما المصادر الخارجية فصامتة تماما عما كان يجري في مقاطعة اليهودية حتى مطلع القرن الثاني الميلادي.
ولكننا نستطيع تقديم بعض التكهنات بهذا الخصوص، فلقد عاد مسبيو يهوذا بعد أن أطلقهم قورش الفارسي، ووجههم لإعادة بناء مدينة أورشليم وهيكلها، وجاءت عودتهم على ثلاث دفعات رئيسية، على ما نفهم من النص التوراتي، كانت الأولى بقيادة أحد أفراد النسل الملكي واسمه شيشبصر نحو عام 539ق.م. في عهد قورش الأول، والثانية نحو عام 522ق.م. في عهد الملك داريوس حفيد قورش، بقيادة زربابل، وهو الذي أعاد بناء هيكل أورشليم، أما الموجة الثالثة والأخيرة فكانت بقيادة عزرا الكاهن نحو عام 458ق.م. وفي عهد عزرا أعيد بناء مدينة أورشليم من قبل نحميا الذي عينه البلاط الفارسي واليا على المقاطعة، ويبدو أن عزرا الكاهن هذا، هو الذي ابتدأ عملية تحرير أسفار التوراة بعد أن طابق بين الإله العالمي الواحد للديانة الزرادشتية، والإله الفلسطيني القديم يهوه، وهو الذي ابتدر نواة الشريعة التوراتية التي قامت في البدء على عدد من بنود الشريعة الزرادشتية، ثم أخذت بالتوسع تدريجيا على عهد خلفائه من كهنة أورشليم.
خلال القرون التالية التي توسعت فيها حلقات القصة التوراتية لم يكن محررو التوراة يبتكرون كل شيء من بنات أفكارهم، وإنما أفادوا من التاريخ السياسي لمملكتي إسرائيل ويهوذا، ومن التراث الديني والأدبي المحلي، ويبدو أن الوحدات الأساسية للقصة التوراتية قد ولدت كل على حدة، وتم إنتاجها من قبل محررين مختلفين، وعلى فترات متباعدة، واستخدم كل محرر أو مجموعة محررين مصادر وموروثات متباينة المنشأ، ثم جاءت عملية التنسيق الأخيرة لتجمع بينها في رواية مطردة، ومن خلال منظور أيديولوجي وكرونولوجي مفروض عليها من خارجها ، وبذلك تم إنجاز كتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية ككيان ذهني وأدبي على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطمور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي، ومع تكامل حلقات هذا الكتاب، كانت اليهودية تتشكل تدريجيا وتغدو مصدرا للتلاحم الإثني والاجتماعي في هذه المقاطعة الصغيرة والمنسية، التي قامت على جزء لا يتعدى ربع مساحة مملكة يهوذا الكنعانية القديمة، وقد بقيت اليهودية محصورة في هذه البقعة الضيقة من المناطق الهضبية الفلسطينية حتى ظهور الأسرة المكابية التي حكمت أورشليم في أواسط القرن الثاني الميلادي، وظهر منها ملوك أقوياء استغلوا فترة ضعف السلطة المركزية السلوقية، فتوسعوا شمالا باتجاه السامرة ووادي يزرعيل والجليل، وفرضوا الدين اليهودي بالقوة على السكان. (1) مقاطعة اليهودية في العصر الهيلينستي
آلت فلسطين مع بقية مناطق بلاد الشام إلى الإسكندر المقدوني، بعد انتصاره الحاسم على الفرس في معركة إيسوس عام 33ق.م. وبعد وفاة الإسكندر، تم تقسيم الإمبراطورية الفارسية بين قادته الرئيسيين، فآلت بلاد الشام إلى سلوقس، بينما احتفظ بطليموس بمصر وفلسطين وشرقي الأردن، تلا ذلك فترة صراع بين السلوقيين والبطالمة، دامت قرابة قرن كامل، آلت في نهايته فلسطين وسورية الجنوبية إلى السلوقيين، وعندما دخل الملك السلوقي أنطوخيوس الثالث إلى أورشليم عام 198ق.م. أعطى المدينة امتيازات خاصة، واعترف بنظامها السياسي القائم على السلطة الكهنوتية برئاسة الكاهن الأعلى للهيكل.
على عكس الحكام الفرس السابقين، فقد كان الحكام الإغريق مهتمين بنشر ثقافتهم الخاصة وأساليب حياتهم، جريا على سنة الإسكندر الأكبر، وهذا ما تقبلته المناطق المحكومة عن طيب خاطر، بل وسعت إليه حثيثا، نظرا لما يوفره لها من مزايا عند الحاكم، وكان من أنجع وسائل نشر الثقافة الإغريقية هو نظام المدينة اليونانية «بوليس»، فقد قام الحاكم الإغريقي بإنشاء مدن جديدة، وأعاد تنظيم وإعمار مدن قديمة على النمط الإغريقي، وجميعها أعطي لقب البوليس، سواء دخل هذا اللقب في اسمها الجديد أم لم يدخل، ولقب «البوليس» لا يتوقف عند التسمية السطحية فقط، بل إنه ينطوي على مضامين سياسية واجتماعية ودينية عميقة الأثر في حياة المجتمع المدني، فالمدينة التي تكتسب اللقب تحكم إداريا وسياسيا على نمط دولة المدينة الإغريقية، بمجالسها الشعبية وبقية مؤسساتها السياسية، وتشاد فيها معابد للآلهة اليونانية بعد مطابقتها مع الآلهة المحلية القديمة، وتنشر فيها الثقافة اليونانية عن طريق عدد من المؤسسات المدنية مثل الجمنازيوم، وهو بناء مخصص للتدريب على الألعاب الرياضية، والستاديوم وهو ملعب مفتوح يحتوي على مدرجات لمشاهدة السباقات والألعاب الرياضية، والأوديوم وهو بناء مسقوف من الأعلى ومفتوح الجوانب ذي مدرجات، مخصص للاستماع إلى الموسيقى ومشاهدة العروض المسرحية الخفيفة، والمسرح المدرج الضخم الذي تقدم فيه العروض المسرحية الطويلة، والليكيوم وهو قاعة مخصصة للاجتماعات والمناظرات والمحاضرات، والآجورا وهو رواق يحف بإحدى الساحات الرئيسية مخصص للاجتماعات السياسية.
في عام 175ق.م. ورث العرش السلوقي أنطوخيوس الرابع (أبيفانوس) الذي وجد فيه أنصار الحركة الإصلاحية الميالون إلى الثقافة الهيلينية في أورشليم نصيرا قويا، فقد عمد هذا الملك التواق إلى نشر الثقافة الهيلينية إلى دعم الإصلاحيين عن طريق إزاحة الكاهن الأعلى المحافظ أونياس، واستبداله بواحد من الكهنة ذوي الميول الإصلاحية واسمه ياسون، وقد ابتدأ ياسون عملية إسباغ الطابع الهيليني على المدينة ببناء جمنازيوم قرب جدار الهيكل، وقام بتحويل الإيرادات الهائلة للهيكل من الإنفاق على الذبائح والقرابين إلى الفعاليات والنشاطات والمرافق ذات النفع العام، كما أنفق على المباريات والألعاب الرياضية بسخاء، وبعد بضعة أعوام أصدر أبيفانوس مرسوما يستبدل فيه الشريعة الموسوية الناظمة للعلاقات المدنية في مقاطعة اليهودية بالقانون المدني السلوقي، وحول هيكل أورشليم من مركز ديني محلي إلى مركز ديني عالمي، وذلك بالمطابقة بين يهوه اليهودي وزيوس الأوليمبي، ونصب تمثالا لزيوس-يهوه في الهيكل.
لو أن ما حصل في أورشليم قد حصل في أي مدينة سورية تطمح إلى مرتبة المدينة اليونانية، لكان أمرا طبيعيا بل ومرغوبا فيه من قبل الجميع، ولكن المجتمع اليهودي الذي بقي محافظا في غالبيته، لم يكن جاهزا بعد للانفتاح، ولم تجد عامة المتدينين في عبادة يهوه-زيوس إلا شكلا من أشكال عبادة بعل التي نددت بها أسفار الأنبياء، وما لبث التململ حتى تحول إلى تمرد اتخذ شكل حرب عصابات بقيادة رجل يدعى متى حشمون، وهو سليل أسرة كهنوتية، وأولاده الخمسة. بعد عامين من المواجهات بين الثوار والقوات السلوقية، استطاع الإخوة الخمسة بقيادة يهوذا الملقب بالمكابي طرد الحامية السلوقية خارج منطقة أورشليم عام 164ق.م. وطهروا المعبد من كل رموز الإصلاح الديني، ولكن الأمور لم تستقر تماما للإخوة الذين دعوا بالمكابيين إلا في عام 143ق.م. عندما أعلن سمعان آخر الإخوة المكابيين، استقلال مقاطعة اليهودية عن سلوقيا، ونصب نفسه كاهنا أعلى تتركز بين يديه جميع السلطات الدينية والدنيوية، وبذلك تم تأسيس أول كيان سياسي مستقل لليهود في فلسطين، دام قرابة ثمانين سنة.
ابتدأ سمعان بخطة شاملة لمحو كل آثار الهيلينية والعودة إلى التقاليد الدينية القديمة، فألغى المؤسسات التربوية والثقافية الهيلنستية، وأحل محلها نظاما قويا للتعليم قوامه شبكة من المدارس التي تعلم أسفار التوراة، ويقصدها الشبان بدل الجمنازيوم والملاعب والمسارح اليونانية، وساعده في حملته الثقافية هذه طائفة الصدوقيين، وهي طائفة متزمة تلتزم التفسير الحرفي للكتاب المقدس، وترفض كل شكل من أشكال التفكير الحر، حكم سمعان من عام 142 إلى عام 134ق.م. وعمل خلال هذه الفترة على توسيع مناطق نفوذ باتجاه الغرب والشمال الغربي، فضم إليه يافا وحصل بذلك على ميناء على البحر المتوسط.
لم يأت تشكيل الدولة المكابية نتيجة للقوة العسكرية للمكابيين، ولا لبطولات وتضحيات أولاد متى حشمون الذين رفعهم الخيال الشعبي في سفري المكابيين إلى مصاف الأبطال الخرافيين، فمقاطعة اليهودية لم تكن سوى مقاطعة صغيرة وفقيرة ومتخلفة في كل المجالات، ولم يكن بمقدورها تحقيق الاستقلال لولا التفكك السياسي للدولة السلوقية، وصعود نجم روما التي كانت في ذلك الوقت تضغط على سلوقيا وتفرض عليها الإتاوات الباهظة. وفي الحقيقة، فإن استقلال مقاطعة اليهودية قد جاء في سياق سلسلة من العمليات الانفصالية عن الإدارة المركزية، وقيام العديد من الولايات السلوقية بإعلان استقلالها، مستفيدة من الخلافات المستمرة بين أفراد الأسرة المالكة السلوقية، والصراع على السلطة فيما بينهم.
بعد وفاة سمعان المكابي عام 134ق.م. خلفه ابنه المدعو جون هيركانوس، كان هيركانوس تلميذا نجيبا للتوراة، وقد اعتقد أن الحكمة الإلهية قد اختارته لإعادة فتح كنعان على طريقة يشوع بن نون، فبدأ بتجهيز جيش مدرب من المرتزقة الذين أنفق عليهم بسخاء، وعندما أحس بقوته كانت السامرة هدفه الأول، فأحرقها ودمرها وذبح عشرات الآلاف من سكانها، وألحق كامل مناطقها بأملاكه وصولا إلى وادي يزرعيل، حيث أعمل السيف في سكان بيت شان وقتل منهم الآلاف، ثم توجه نحو الجنوب وضم إليه منطقة أدوم، وفي كل مكان وصلت إليه قواته كان على الأهالي إما مواجهة الموت أو اعتناق اليهودية. وعلى الرغم من أنه لم يتخذ لقب الملك، إلا أن مقاطعة اليهودية قد تحولت في عهده إلى مملكة كبيرة تم اكتسابها بحد السيف.
توفي هيركانوس عام 104ق.م. وخلفه ابنه أرسطو بولس الأول، الذي اتخذ لقب الملك، واستطاع خلال سنة واحدة من حكمه ضم منطقة الجليل، ثم توفي فجأة وخلفه أخوه أليكسندر ينايوس. كان ينايوس آخر الشخصيات المهمة في الأسرة المكابية، وهو الذي وسع حدود الدولة اليهودية إلى أقصى مدى جغرافي لها، وذلك باستيلائه على معظم مناطق شرقي الأردن، إضافة إلى ما تبقى من المناطق الغربية والساحل، بينما كان السلوقيون يقفون موقف المتفرج بانتظار الضربة الأخيرة المتوقعة من روما، والتي لم تتأخر كثيرا، كان ينايوس أشرس الحكام المكابيين (ويدعون أيضا بالحشمونيين)، فقد تابع سياسة التهويد تحت قوة السلاح وطبقها على أوسع نطاق، كما مارس القمع والإرهاب والقتل الجماعي في كل مكان، ولم ينج من طغيانه سكان اليهودية أنفسهم، وهذا ما أحدث تململا شعبيا واسعا، ما لبث حتى تحول إلى تمرد بقيادة الطائفة الفريسية.
نشأ الفريسيون من قلب الطبقات الشعبية، وقد ورثوا قسما لا بأس به من أفكار الإصلاحيين القدماء، ولكنهم تميزوا بالاعتدال وبقوا ضمن الإطار العام للعقيدة التقليدية، وقد قالوا بأن يهوه عندما أنزل الشريعة على موسى قد أنزل معها شريعة شفوية تم تداولها عبر أجيال من الحكماء، وبواسطتها يمكن تفسير وتكميل الشريعة المكتوبة بما يتلاءم والظروف المستجدة. وفي المقابل فقد رفضت الطائفة الصدوقية هذه الأفكار، وأصرت على عدم وجود شريعة غير مكتوبة، وأدانت كل التفسيرات المرنة والعصرية الناجمة عن إعمال المنطق الفريسي في النصوص المقدسة، وقد وقفت الطبقات الشعبية إلى جانب الفريسيين، بينما وقفت الأرستقراطية والكهنوت إلى جانب الصدوقيين والحكام، وتحول التوتر إلى تمرد فإلى حرب أهلية غلب عليها الطابع الطبقي، ولم تنته إلا بوفاة أليكسندر ينايوس عام 76ق.م. وصعود زوجته سالومي على العرش.
حكمت سالومي تسع سنوات (76-67ق.م)، وتقربت من الفريسيين فأوكلت إليهم مراكز حساسة في الدولة، فكانت سنوات حكمها عهد استقرار ومصالحة بين شرائع المجتمع المتناقضة، وبعد وفاتها تنازع ابناها أرسطو بولس الثاني وهيركانوس الثاني على السلطة. في ذلك الوقت كان القائد الروماني بومبي قد صفى المملكة السلوقية، ودخل دمشق عام 65ق.م. فقصده الأخوان المتنازعان وكل منهما يسعى إلى تثبيته حاكما إقليميا على اليهودية وممتلكاتها، ولكن وزير هيركانوس المدعو أنتيبار، وهو آدومي، قصد دمشق واتفق مع القائد الروماني على فتح أبواب أورشليم أمام الرومان، مقابل الاعتراف بسلطة سيده هيركانوس على أورشليم، وكان، عندما وصل الرومان، أن أنصار أرسطو بولس تحصنوا في المدينة ورفضوا فتح الأبواب، فحاصرهم الرومان ثلاثة أشهر ثم فتحوا المدينة عام 63ق.م. وعلى الأثر ثبت بومبي هيركانوس في منصبه، ولكن لا كملك بل ككاهن أعلى يتمتع بصلاحيات الحكم والإدارة على مقاطعة اليهودية، التي تم تجريدها من كل المناطق التي كسبها المكابيون، وإعادتها مرة ثانية مجرد مقاطعة صغيرة من مقاطعات فلسلطين، وبذلك انتهت أول وآخر دولة مستقلة لليهود دامت قرابة ثمانين سنة فقط، وذلك من عام 142 إلى عام 63ق.م. (2) مقاطعة اليهودية في العصر الروماني
خلال العشرين سنة الأولى من العصر الروماني في سورية، لم يحصل تغير يذكر على النظام الإداري الذي وضعه بومبي؛ لأن روما كانت تشهد في ذلك الوقت أحداثا جساما قادت إلى نهاية الجمهورية وصعود القيصرية، بعد صراع على السلطة بين بومبي ويوليوس قيصر انتهى بانتصار قيصر الذي أنهى الجمهورية عام 48ق.م. وقد قام الوزير الداهية أنتيبار الآدومي خلال هذه الفترة بسلسلة من التحركات الدبلوماسية، قادت أخيرا إلى اعتراف قيصر بهيركانوس الثاني وتثبيته في منصبه. بعد بضع سنوات قامت مجموعة يهودية أصولية باغتيال الوزير أنتيبار فأعطي المنصب إلى ابنه هيرود.
كان هيرود آدوميا من جهة الأبوين؛ ولهذا لقب بهيرود العربي؛ لأن الآدوميين في القرن الأول قبل الميلاد كانوا قد ذابوا في الجماعات النبطية العربية التي استقرت في مناطقهم التقليدية الواقعة إلى الجنوب من البحر الأحمر باتجاه خليج العقبة. أما عن ديانة هيرود، فكانت نوعا من اليهودية السياسية التي ورثها عن أبيه أنتيبار الذي لم يولد من أسرة يهودية، ولكنه تهود خلال خدمته في قصر المكابيين وترقيته فيه، من هنا، فإن اليهود لم يعتبروا هيرود يهوديا قط، مثلما لم يعتبر نفسه كذلك، وكانت فترة حكمه صراعا مستمرا مع اليهود والديانة اليهودية التقليدية.
نحو عام 40ق.م. دفعت الأصولية اليهودية إلى واجهة الأحداث واحدا من أفراد الأسرة المكابية يدعى أنتيغونوس، وهو ابن أخ لهيركانوس الثاني. وقد تآمر هذا لقلب نظام الحكم، وتراسل مع البلاط الفارسي لمعونته في مشروعه، فأمده الفرس بجيش ساعده على دخول أورشليم، فقبض على عمه وأودعه في السجن بعد أن قطع أذنيه، أما هيرود فقد استطاع الهرب ولجأ إلى روما، كانت الأوضاع في روما شديدة التعقيد عقب مقتل يوليوس قيصر، وكانت السلطة بيد مجلس الشيوخ الذي يدير الأمور من خلال حكومة ثلاثية مؤلفة من أنطونيو وليبيدو وأوكتافيان، الذي صار فيما بعد قيصرا تحت لقب أوغسطوس، فمثل هيرود أمام مجلس الشيوخ والحكومة الثلاثية، وأقنعهم بأنه الوحيد القادر على استعادة أورشليم إلى روما، فعينه المجلس ملكا على اليهودية مطلق الصلاحية وزوده بجيش قوامه 30000 جندي، سار معه إلى أورشليم حيث هزم الفرس ودخل المدينة عام 37ق.م. فحكمها مدة تزيد عن الثلاثين سنة.
بعد أن صار أوكتافيان قيصرا عقب تغلبه على أنطونيو في معركة أوكتيوم الشهيرة، تابع دعم هيرود وأعطاه المزيد من المقاطعات، حتى اشتملت مملكته على جميع المناطق السابقة للمكابيين في عصر أليكسندر ينايوس، وزادت عليها شمالا باتجاه حوران والجولان في الجنوب السوري، فقد أثبت هيرود أنه الوحيد القادر على تدعيم سلطة روما في هذه المناطق، وكان أكثر الحكام السوريين ولاء لها ودعما لجيوشها في مواجهة الفرس، يضاف إلى ذلك أنه قد أثبت للرومان أن الدولة اليهودية لن تعود إلى سابق عهدها كدولة دينية، وذلك بفصله لمنصب الكاهن الأعلى عن منصب الحاكم، وإحلاله للقوانين الرومانية محل الشريعة التوراتية من أجل الفصل في العلاقات المدنية، وعندما حاول السنهدرين، وهو المحفل اليهودي الذي يساعد الكاهن الأعلى في مهماته، التدخل من أجل منع تطبيق القوانين الرومانية على اليهود، أعدم هيرود 46 من أعضائه البارزين، ثم أخذ يعين ويعزل الكاهن الأعلى على هواه، وبذلك تم تحميل منصب الكاهن الأعلى إلى مجرد وظيفة رسمية، وجرده من سلطانه وهيبته السابقة.
حكم هيرود مملكته بقبضة من حديد، حتى إن آخر مجازره ضد اليهود قد تمت وهو على فراش الموت، ولكن عصره كان عصر ثراء وازدهار في جميع المجالات، لقد أحب هيرود جمع المال، ولكنه أحب إنفاقه بسخاء أيضا، فعمل على تنشيط التجارة والإفادة من مكوسها، وجعل طرقها آمنة، والتزم تحصيل الضرائب في مملكته الواسعة، وشارك روما في عائداتها، وكان جل إنفاقه على المرافق والمشاريع العامة، وبما أنه كان محبا للفكر الهيليني ولطرائق الحياة الإغريقية، فقد عمل على تزويد أورشليم بكل مظاهر ومرافق المدينة الرومانية- اليونانية، فبنى فيها مؤسسات ثقافية هيلينية كالمسرح والملعب الرياضي، وبما أنه لم ينظر إلى نفسه كحاكم يهودي، وإنما كحاكم لكل الشعوب المنضوية تحت لواء هذه المملكة الرومانية، فقد زاد اهتمامه بالمناطق الأخرى عن اهتمامه باليهودية، فبنى أو أعاد بناء مدن وثنية عديدة، وأشاد فيها معابد للآلهة المحلية، وبعيدا عن المناطق التابعة لمملكته، فقد طالت عطايا هيرود التي بذلها للمشاريع العمرانية ذات الطابع الهيليني جميع مدن بلاد الشام، وتجاوزتها إلى أرض اليونان.
لقد كان هيرود أكثر من هيليني متحمس، كما وصفه المؤرخون، كان موطنا عالميا يؤمن بوحدة الأديان والثقافات، وبانفتاح الحضارات على بعضها وتعاونها على بناء دولة عالمية شمولية، لا فضل فيها لدين على دين ولا لعرق على عرق، وهو لم يكره شيئا قدر كراهيته للتعصب العرقي والديني والانغلاق الثقافي والمذهبي، ومن هنا جاءت كراهيته وكراهية اليهود له، ومع ذلك ، فقد بنى في أورشليم هيكل يهوه الذي ذاع صيته في المنطقة، وكان درة نشاطات هيرود العمرانية، ولم يكن في ذهنه عندما بنى هذا الهيكل سوى مشروع أنطوخيوس أبيفانوس القديم، الذي هدف إلى مطابقة الإله يهوه بالإله زيوس الأوليمبي، وقد جاء بناء الهيكل الجديد انطلاقا من هيكل زربابل القديم الذي وسعه إلى الضعف وزاد عليه في الأبهة والعظمة، حتى كان لمعان جدرانه المبنية بالحجر الأبيض المطعم بالذهب والفضة يبهر أنظار القادمين من مسافة بعيدة.
لم تكن مملكة هيرود يهودية، بل على العكس، فلقد عمل هيرود طوال حياته على قمع روح العصبية اليهودية، وأتاح لشعوب مملكته حياة دينية حرة وشجعها على ممارسة طقوسها، وساعدها على بناء معابدها الخاصة، وهذا ما حفز غالبية من تهود تحت قوة السلاح على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين أسلافه، وعندما توفي في عام 4ق.م. قسمت مملكته بين أولاده الثلاثة، فأعطيت اليهودية والسامرة والآدومية إلى أرخيلاوس والجليل إلى أنتيباس، وشرقي الأردن والجولانية إلى فيليبس، حكم أرخيلاوس بن هيرود في أورشليم فيما بين عام 4ق.م. و6م، ثم تمت إزاحته لتصبح منطقة اليهودية مقاطعة تحكم من قبل ناظر روماني (
) يتبع مباشرة إلى القنصل الروماني، الذي يدير ولاية سورية من دمشق، ومنذ ذلك الوقيت بقيت مقاطعة اليهودية ضمن حدودها السابقة التي رسمها لها بومبي، تحكم من قبل نظار رومانيين، بلغ عددهم حتى دمار أورشليم عام 70م أربعة عشر ناظرا، وفيما عدا بونتوس بيلاطس الذي ارتبط اسمه بمحاكمة يسوع وصلبه، فإننا لا نعرف عن هؤلاء النظار سوى أسمائهم.
في عام 66م قامت الأصولية اليهودية بآخر جولاتها من أجل استعادة الاستقلال، ولكن التمرد أخضع بقسوة من قبل الرومان، وقام القائد الروماني تيتوس بإحراق وتدمير هيكل هيرود ومعظم أحياء أورشليم عام 70م، ولكن الحياة لم تتوقف تماما في المدينة، وبقي قسم من السكان يعيش فيها، ولكن من دون معبد ولا ذبائح ولا طقوس، أما في بقية مناطق المقاطعة، فقد تناقص عدد السكان نتيجة الحرب والنزوح، وأقفرت الأراضي الزراعية وتدهورت الحياة الاقتصادية بين عامي 130 و131م، قام الإمبراطور هادريان بزيارة عدد من المناطق الشرقية للإمبراطورية، وأرسى القواعد لبناء عدد من المدن الرومانية فيها، وقد أعلن خلال هذه الزيارة عن عزمه على بناء مدينة رومانية في موقع أورشليم، وهذا ما أشعل نار الثورة اليهودية الثانية بقيادة رجل يدعى سمعان باركوخبا، الذي استولى على أورشليم وأعلن اليهودية دولة مستقلة.
جاء رد فعل روما هادئا، وقامت استراتيجية هادريان على التمشيط البطيء لمناطق اليهودية التي سقطت تدريجيا، وهنا يقول المؤرخ الروماني ديوكاسيوس إن الرومان استولوا على خمسين بلدة وذبحوا الثوار فيها كما هدموا 985 قرية، حتى بلغ عدد القتلى 850000 نسمة، بعد ذلك جرى الهجوم الأخير على أورشليم عام 135م، وهدمت حجرا حجرا وسويت جميع أبنيتها بالتراب، أما من بقي حيا من اليهود فقد تم بيعه في أسواق النخاسة، حتى إن سعر اليهودي صار أدنى من سعر الحمار، بعد ذلك أقام هادريان في موقع أورشليم مدينة رومانية تحت اسم إيليا كابيتولينا، ومنع دخول أي يهودي إليها تحت طائلة الموت، وإيليا كابيتولينا هذه هي التي سلم سكانها المسيحيون مفاتيحها إلى عمر بن الخطاب خلال الفتوح العربية لبلاد الشام. (3) الجليل مسرح الإنجيل
تبدو منطقة فلسطين صورة مصغرة عن الغرب السوري الذي تشكل قسمه الأدنى الجنوبي، وهي تتألف من المناطق الجغرافية التالية: (1)
شريط الموانئ الساحلية، وأهمها عكو (عكا)، ويوبا (يافا)، وأشقلون (عسقلان)، وغزة. (2)
السهل الساحلي، وهو شريط خصب من الأرض الموازية للبحر. (3)
منطقة التلال المنخفضة (أو سهل شفلح) ويشكلها الانحدار التدريجي لمنطقة الهضاب الفلسطينية. (4)
الهضاب الفلسطينية وهي بمثابة الامتدادات المنخفضة لجبل لبنان الشرقي، وتتألف من أربعة أقسام: (أ) مرتفعات الجليل في الشمال، يليها وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، الذي يفصل الجليل عن بقية الهضاب الفلسطينية. (ب) الهضاب المركزية أو مرتفعات السامرة. (ج) مرتفعات يهوذا. (د) نجدة النقب. (5)
وادي الأردن، وهو غور عميق يمتد بين طبرية والبحر الميت، ثم يستمر بعد ذلك في وادي عربة.
إن الصورة العامة التي تقدمها لنا جغرافية فلسطين، هي صورة منطقة متنوعة تتألف من بيئات معزولة بعضها عن بعض، وقد انعكست هذه الجغرافية المتنوعة على الحياة السياسية، ففي منطقة كهذه يصعب تحقيق الوحدة السياسية؛ لذا فقد كانت فلسطين على الدوام مقسمة إلى عدد من الدويلات الصغيرة المستقلة، وتتجلى عزلة البيئات الفلسطينية بشكل خاص في مناطق الهضاب، ونموذجها منطقة الجليل التي يفصلها عن الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا وادي يزرعيل العريض والخصب، فمنذ أواخر عصر البرونز القديم، في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، ظهرت في الجليل الأعلى مدينة حاصور الشهيرة في العالم القديم، والتي تحكمت في منطقة الجليل فيما يشبه دولة المدينة الموسعة خلال عصر البرونز الوسيط والحديث، وصولا إلى دمارها في نهايات القرن الثالث عشر قبل الميلاد (ربما على يد شعوب البحر).
تشير الدلائل الأركيولوجية والتاريخية إلى أن صلات الجليل الثقافية والسياسية مع منطقة الساحل الفينيقي، ومع العالم السوري الأوسع، كانت أقوى من صلاته مع المنطقة الفلسطينية، فإلى جانب اللقى الأثرية والبنى المعمارية المكتشفة، والتي تشير بقوة إلى روابط الجليل مع الشمال أكثر من روابطه مع الجنوب، وقد ورد اسم حاصور في أكثر من عشرين رقيما اكتشفت ضمن أرشيف مدينة ماري على الفرات الأوسط. ونعرف من هذه الرقم عن عدد القناصل والسفراء الذي كانوا يفدون إلى حاصور من الممالك الكبرى، وعن شحنات البضائع التي كانت ترسل إليها من ماري، كما ونعرف عن اسم أشهر ملوكها المدعو إبني هدو، الذي لعب دورا مهما في السياسة السورية خلال الفترة التي يغطيها أرشيف ماري.
في عصر الحديد الأول والثاني، الذي شهد مولد مملكتي السامرة ويهوذا، بقيت منطقة الجليل على عزلتها عن مناطق الهضاب الأخرى، ولا يوجد لدينا دليل على صلات ثقافية مع السامرة، بل على العكس من ذلك، فالفخاريات وغيرها من اللقى المكتشفة خلال هذا العصر تشير بقوة إلى مؤثرات فينيقية، وصورية (نسبة إلى صور) بشكل خاص، ويبدو أن الجليل قد وقع تحت سيطرة صور آنا وتحت سيطرة دمشق آنا آخر، كما وقع تحت سيطرة السامرة لفترة قصيرة خلال الهزيع الأخير من حياتها، وتأثر بالحملات الآشورية التي ساقت إلى السبي أعدادا كبيرة من سكانه وأحلت محلهم سكانا من المناطق المقهورة الأخرى.
تنقصنا المعلومات عن منطقة الجليل خلال العصر الفارسي، أما خلال العصر الهلينيستي والروماني فقد تهلين الجليل مثلما تهلينت فينيقيا والسامرة وشرقي الأردن، ونشأت فيه مدن جديدة ذات طابع إغريقي، أهمها مدينة سيفوريس ومدينة تبيرياس (طبرية) التي بناها هيرود ودعاها باسم الإمبراطور الروماني تيبريوس. كان التركيب الإثني لهذه المدن متنوعا، فقد احتوت على ذخيرة أساسية من السكان الجليليين القدماء، وعلى شرائح أخرى تم تهجيرها إلى الجليل من قبل الآشوريين، وعلى جاليات يونانية، أما الديانة الغالبة فكانت كنعانية تقليدية تم تطعيمها بعناصر إغريقية بعد مطابقة الآلهة المحلية مع الآلهة الإغريقية والرومانية؛ ولهذا يطلق مؤلف إنجيل متى على الجليل اسم جليل الأمم، أي جليل الوثنيين (متى 4: 15).
ونظرا لبعد مقاطعة اليهودية وعزلتها عن جيرانها، لم يحتو الجليل حتى مطلع القرن الثاني قبل الميلاد إلا على جالية يهودية قليلة العدد، وكان الجليليون ينظرون بعداوة إلى هؤلاء، ويعتبرونهم جسما دخيلا على المجتمع الجليلي، وعندما ثارت مقاطعة اليهودية على الحكم السلوقي وجد الجليليون في هذا مناسبة للتخلص من اليهود، وهذا ما دفع بيهوذا المكابي عام 164ق.م. إلى الإسراع لنجدة يهود الجليل وإجلائهم إلى أورشليم، نقرأ في سفر المكابيين الأول 5: 14-23: «وبينما هم يقرءون الكتاب إذا برسل قد وفدوا من الجليل وثيابهم ممزقة وأخبروا قائلين: قد اجتمعوا علينا من بطلمايس وصور وصيدا وكل جليل الأمم ليبيدونا ... فلما سمع يهوذا المكابي والشعب هذا الكلام، عقدوا مجمعا كبيرا وتشاوروا فيما يصنعون لإخوتهم الذين يعانون الشدة وهجمات الأعداء، فقال يهوذا لسمعان أخيه: اختر لك رجالا وامض فأنقذ إخوتك الذين في الجليل ... ومضى سمعان إلى الجليل وشن على الأمم حروبا كثيرة، فانسحقت الأمم أمام وجهه، فتتبعها إلى باب بطلمايس، فسقط من الأمم نحو ثلاثة آلاف رجل وسلب غنائمهم وأخذ اليهود الذين في الجليل، وعربات من حديد، مع النساء والأولاد وكل ما كان لهم، وجاء بهم إلى اليهودية بسرور عظيم».
ولكن الوضع في الجليل تغير ظاهريا بعد ضمه إلى أملاك اليهودية في عهد الملك المكابي أرسطو بولس الأول، وفرض الدين اليهودي على أهله بقوة السلاح من قبل خلفه الملك أليكسندر ينايوس، وذلك في مطلع القرن الأول قبل الميلاد، أي قبل جيلين أو ثلاثة أجيال من ميلاد يسوع، ومع ذلك فقد بقيت الديانة اليهودية بمثابة قشرة سطحية تعلو الثقافة والمجتمع الجليليين والمراجع اليهودية ملأى بالإشارات إلى قلة دين الجليليين وجهلهم بأداء الطقوس والواجبات الدينية اليهودية، وعدم وجود فريسيين أو كتبة أو علماء شريعة بينهم يعلمونهم أصول دينهم. ويروي أحد المراجع الربانية المتأخرة أن ناموسيا يدعى يوحنا بن زكاي، قد صعد من اليهودية وأقام في مدينة جبارا الجليلية حيث نذر نفسه مدة ثمانية عشر عاما لتعليمهم أصول الدين الصحيح، ولكنه في نهاية هذه الفترة تخلى عن مهمته وقفل راجعا إلى أورشليم وهو يقول بأن الجليليين قوم يكرهون التوراة، وأما عن الفريسيين والكتبة والناموسيين الذين حاورهم يسوع في الأناجيل، فإننا نفهم دوما من سياق النص أنهم لم يكونوا مقيمين في الجليل، وإنما زوار جاءوا من اليهودية في مهمات مؤقتة.
بعد دخول الرومان إلى سورية واستيلائهم على أورشليم عام 63ق.م. وانسلاخ الجليل وبقية المقاطعات التي ضمها المكابيون بالقوة إلى الدولة اليهودية، ساد جو من التسامح الديني شجع الكثيرين على الارتداد عن اليهودية والعودة إلى دين آبائهم، ولا سيما في عهد الملك هيرود الذي شجع الديانات المحلية على التعبير عن نفسها، وبنى المعابد لها، وهذا يعني أن الجليل لم يقع تحت السيطرة اليهودية إلا لفترة قصيرة لم تزد على أربعين سنة، وأن من بقي على اليهودية في الجليل بعد ذلك لم ينظر إلى نفسه كيهودي أرثوذكسي، مثلما لم يعد يهوديا حقا من قبل أهل اليهودية.
في جليل الأمم هذا ولد يسوع، وعاش طفولته وشبابه، وفيه بشر برسالته الجليلية الأممية، وكان تلاميذه وأتباعه جليليين، وهو لم يذهب إلى اليهودية إلا في آخر رحلته التبشيرية حيث صلبه اليهود، وأما عن أبويه، فربما كانا على الديانة الكنعانية التقليدية، أو من أسرة تهودت قبل جيلين أو ثلاثة، واستمرت على اليهودية بحكم العادة، أو أنهما كانا من أتباع جماعة روحانية من جماعات جبل الكرمل، وهذا ما نرجحه، وما قدمنا له من شواهد.
بعد هذا المدخل التاريخي الذي توصلنا في نهايته إلى رسم صورة لبيئة الجليل التي عاش فيها يسوع، وألقينا ظلالا من الشك حول يهودية يسوع، وكونه قد ولد في أسرة يهودية، سوف نلجأ إلى مقاربة نقد-نصية نستنطق من خلالها الأناجيل الرسمية الأربعة، لنتبين منها الموقف الحقيقي ليسوع من اليهود واليهودية.
الفصل الرابع
المداخلات اليهودية في العهد الجديد وموقف يسوع من اليهود واليهودية
سوف نتحدث في هذا الفصل عن أهم المداخلات اليهودية في العهد الجديد، ونظهر مدى غرابتها وشذوذها عن السياق العام للنص، معتمدين في ذلك على أسفار العهد الجديد نفسه، وعلى أقوال يسوع ومواقفه العملية التي أظهر من خلالها تجاوزه للموروث الوثني واليهودي على حد سواء، وعبر عن نقد حاد لليهود واليهودية وشريعة إله التوراة. (1) مكان الميلاد
تطرح قصة الميلاد في إنجيل متى أخطر المداخلات اليهودية في العهد الجديد، وهي التي رسخت فكرة الأصل اليهودي ليسوع، وتركت أثرا لا يمحى على مجرى تاريخ المسيحية، وعلى تشكل اللاهوت المسيحي، فلقد ولد يسوع عند متى في مدينة بيت لحم اليهودية الواقعة قرب أورشليم من أسرة يهودية، ولكي يبرر مؤلف الإنجيل نشوء يسوع في الجليل وقضائه كل حياته هناك، فقد دبج قصة مذبحة مواليد بيت لحم، وفرار العائلة المقدسة بيسوع إلى مصر، ثم عودتها إلى فلسطين بعد وفاة الملك هيرود الكبير، واستقرارها في مدينة في الجليل تدعى الناصرة. أما قصة الميلاد عند لوقا، فعلى الرغم من اختلافها في معظم التفاصيل عن قصة متى، إلا أنها حافظت بدورها على بيت لحم اليهودية باعتبارها المكان الذي ولد فيه يسوع، ولكن لوقا يعترف بالأصل الجليلي لأسرة يسوع، ويجعل يوسف النجار وامرأته مريم الحبلى بيسوع يقصدان بيت لحم بمناسبة الإحصاء العام للسكان، الذي جرى بأمر الإمبراطور أوغسطوس عندما كان كيرينيوس واليا على سورية، فقد كان يوسف من بيت داود وعشيرته، وعليه أن يكتتب وزوجته في بيت لحم مدينة داود، وهناك وضعت مريم مولودها، ثم عادت الأسرة إلى الجليل ، إلى مدينتهم الناصرة.
وبما أننا نعرف الآن من سجلات التاريخ الروماني أن الإحصاء الذي يشير إليه لوقا قد تم في سنة 6 ميلادية، فإن ميلاد يسوع عند لوقا يأتي متأخرا عشر سنوات على الأقل عنه عند متى، الذي جعله في عهد هيرود الكيبر المتوفى سنة 4ق.م. فهل وقع لوقا في خطأ تاريخي، أم أنه قصد فعلا تأخير ميلاد يسوع هذا العدد من السنوات؟ إن عدم ذكر لوقا لهيرود الكبير في قصة الميلاد، يرجح أن لوقا كان يعرف التاريخ الحقيقي للإحصاء، وأنه قد تعمد فعلا وضع ميلاد يسوع في هذا التاريخ المتأخر.
ونحن إذا نحينا هذه المداخلة جانبا، لما وجدنا فيما تبقى من سيرة يسوع أي رابط يربطه ببيت لحم ومقاطعة اليهودية، فهو مواطن جليلي، ولد وترعرع وعاش كل حياته في الجليل، وأبواه جليليان، وكذلك كل أنسبائه ومن تبعه من التلاميذ، وفي الجليل بشر برسالته، وكان له مقر دائم فيها يعود إليه من رحلاته التبشيرية، وهو لم يذهب إلى أورشليم إلا مرة واحدة وفق الأناجيل الإزائية، أو ثلاث مرات وفق إنجيل يوحنا، حيث صلبه اليهود. إن نصوص العهد الجديد ملأى بالإشارات إلى جليلية يسوع، ولقبه «الناصري» يشير إلى أصله من ناصرة الجليل، التي يدعوها إنجيل مرقس وطن يسوع: «وانصرف من هناك وجاء إلى وطنه يتبعه تلاميذه» (مرقس 6: 1-6)، وعندما لم يلق من أهل الناصرة أذنا صاغية في أول الأمر قال يسوع: «لا يزدرى نبي إلا في وطنه وذوي قرابته وبيته» (مرقس 6: 4). وعندما كان اليهود يتجادلون في أمر يسوع على ما نقرأ في إنجيل يوحنا، قال بعضهم: «هذا هو النبي حقا، وقال غيرهم هذا هو المسيح، وقال آخرون: أمن الجليل يأتي المسيح؟» (يوحنا 7: 40-42).
وعندما انبرى نيقوديمس للدفاع عنه، وهو منهم، قال له اليهود: «أوأنت أيضا من الجليل؟ ابحث (في الكتب) تجد أنه لا يبعث من الجليل نبي» (يوحنا 7: 50-52)، وعندما دخل أورشليم في الزيارة التي أدت إلى صلبه، تعرفت عليه الجموع باعتباره النبي الآتي من الجليل: «ولما دخل أورشليم ضجت المدينة كلها وسألت: من هذا ؟ فأجابت الجموع: هذا النبي يسوع من ناصرة الجليل» (متى 21: 10-11)، وعندما تبع بطرس يسوع عقب القبض عليه وإدخاله دار رئيس الكهنة، تعرفت على بطرس جارية هناك وقالت: هذا الرجل كان مع يسوع الناصري، وعندما أنكر بطرس صلته بيسوع فضحته لهجته الجليلية، فقالوا له: «أنت أيضا منهم لأنك جليلي» (متى 26: 69-73)، والذين تبعوا يسوع إلى أورشليم وشهدوا صلبه كانوا جليليين: «وكان هناك كثير من النسوة ينظرن عن بعد، وهن اللواتي تبعن يسوع من الجليل ليخدمنه، فيهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي، وأم ابني زبدي» (متى 27: 55-56)، وبعد القيامة قال للمرأتين اللتين تراءى لهما: «لا تخافا اذهبا وقولا لإخوتي (التلاميذ) يمضوا إلى الجليل، فهناك يرونني» (متى 28: 9-10)، «وأما التلاميذ الأحد عشر فذهبوا إلى الجليل إلى الجبل الذي جعله يسوع لهم موعدا، فلما رأوه سجدوا له» (متى 28: 16-17).
وعلى كل، فإذا كانت قصة الميلاد في بيت لحم ذات أصل تاريخي، فإن المدينة المرشحة لأن تكون مكان الميلاد ليست بيت لحم اليهودية، وإنما مدينة أخرى في الجليل تحمل الاسم نفسه، إن ما لا يعرفه الجميع، وما تم التعتيم عليه تاريخيا، هو وجود مدينة في الجليل تحمل اسم بيت لحم، تقع مقابل السفوح الشمالية الشرقية لجبل الكرمل، وقد كانت هذه المدينة قائمة ومزدهرة خلال حياة يسوع، على ما تثبته نتائج التنقيب الأثري في موقعها، ولكنها ترجع بتاريخها إلى نحو القرن السابع قبل الميلاد، وبيت لحم الجليل هذه تظهر في المصورات الجغرافية القديمة، ومنها مصور بطليموس الذي يعود بتاريخه إلى عام 160م، وقد تتالت على المدينة مراحل خراب وهجران، ثم بناء وازدهار، طوال أكثر من ألفي سنة، وعند قيام دولة إسرائيل عام 1948، كانت بيت لحم مع معظم الجليل ضمن حدودها، وهي تظهر الآن في جميع الخرائط الحالية لدولة إسرائيل.
1
وقد عرف محررو كتاب التوراة بيت لحم الجليل، وأورد سفر يشوع 9: 15 أنها كانت في نصيب سبط زبولون الذي حدد له يشوع أراضيه في منطقة الجليل، وقد دعيت في الكتاب ببيت لحم أفراته نسبة إلى منطقة أفراته التي تقع فيها، والاسم أفراته يعني الأرض المخصبة المثمرة، وإليها تشير النبوءة الواردة في سفر ميخا، بخصوص المواطن الذي يظهر فيها المخلص: «أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة على أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم» (ميخا 5: 2)، وقد اقتبس متى هذه النبوءة بعد تحريفها وتحويل «بيت لحم أفراته» إلى «بيت لحم يهوذا» فقال: «فقد أوحي إلى النبي فكتب: «وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لست الصغيرة في ولايات يهوذا، فمنك يخرج وال يرعى شعبي إسرائيل» (متى 1: 5-6). (2) نسب يسوع
بالإضافة إلى سلسلة نسب يسوع التي أوردها متى ولوقا كل على طريقته الخاصة، وأرجع بها نسب يسوع إلى الملك داود، مما درسناه بالتفصيل في الفصل الأول، فإن الأناجيل الإزائية تتابع هذه الفكرة من خلال دعوة يسوع بابن داود، وباللقب الآخر المتصل به وهو لقب ملك اليهود، ولكننا إذا تابعنا المواضع التي ورد فيها هذان اللقبان، لوجدنا أن يسوع لم يستخدم أيا منهما في الإشارة إلى نفسه، وعندما قبل لقب «ملك» أثناء المحاكمة التي عقدها له بيلاطس الروماني، فقد قبله بمعنى محدد دقيق، يحول النظر عن أي مفهوم زمني للملك، يهوديا كان أم غير يهودي، فعندما سأله بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟ أجاب يسوع: ليست مملكتي من هذا العالم، ولو كانت مملكتي من هذا العالم لدافع عني رجال لكي لا أسلم إلى اليهود، ولكن مملكتي ليست من ها هنا» (يوحنا 18: 34-36)، وعندما حاولت الجموع، قبل ذلك، أن تنادي به ملكا هرب منهم وتوارى عن الأنظار: «فلما رأى الناس الآية التي أتى بها يسوع ، قالوا: حقا هذا هو النبي الآتي إلى العالم. وشعر يسوع أنهم يهمون باختطافه ليقيموه ملكا، فابتعد عنهم وعاد وحده إلى الجبل» (يوحنا 6: 14-15). وبالمقابل فإن لقب ابن داود أو ملك اليهود قد استعمل من قبل الآخرين في الإشارة إلى يسوع، فقد ناداه شحاذ أعمى بينما هو خارج من أريحا: «رحماك يا ابن داود» (متى 9: 27). وعندما دخل أورشليم هتف له جمع كبير من الناس: «حيوا ابن داود، تبارك الآتي باسم الرب» (متى 21: 9)، «تبارك الآتي باسم الرب تباركت المملكة الآتية مملكة أبينا داود» (مرقس 11: 10)، على أن يسوع قد حسم هذه المسألة بشكل قاطع، وفي ثلاث روايات متشابهة في الأناجيل الإزائية عندما قال: «كيف يقول الكتبة إن المسيح هو ابن داود؟ وداود نفسه قال بوحي من الروح: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك تحت قدميك؟ فداود نفسه يدعوه ربا، فكيف يكون ابنه؟» (متى 22: 41)، و(مرقس 12: 35-27)، و(لوقا 20: 41). (3) يسوع والشريعة «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس»
لدينا في إنجيل متى مقطع شهير بقدر ما هو إشكالي، يضع على لسان يسوع قوله: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس (الشريعة) أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل ... الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل، فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا وعلم الناس أن يفعلوا مثله، عد صغيرا في ملكوت السموات، وأما الذي يعمل بها ويعلمها فذاك يعد كبيرا في ملكوت السموات» (متى 5: 17-19).
فهل كان يسوع نبيا يهوديا أخذ على عاتقه ترسيخ شريعة العهد القديم، أم كان صاحب رسالة جديدة تبطل الشريعة اليهودية الضيقة، وتؤسس لعهد جديد بين الله والبشرية، يتجاوز العهد القديم بين يهوه وشعبه الخاص؟ في الحقيقة، إن كل أقواع يسوع وأعماله، سواء في الأناجيل الإزائية أم في إنجيل يوحنا، تدل على تجاوزه لشريعة موسى، شريعة الحرف، وتأسيسه لشريعة الروح، قال يسوع في إنجيل يوحنا: «لم يعطكم موسى خبز السماء، بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق؛ لأن خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم حياة ... أنا خبز الحياة، آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا، هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت، أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء» (637: 51)، وبذلك يستبدل يسوع شريعة موسى العتيقة التي وهبت الموت بشخصه الحي الذي يهب الحياة الأبدية، وهو لا يتجاوز موسى فقط، بل يتجاوز كل الآباء وصولا إلى الأب الأول إبراهيم: «ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي، ورآه ففرح، قال له اليهود: أرأيت إبراهيم وما بلغت الخمسين بعد؟ فقال يسوع: الحق أقول لكم، كنت قبل أن يكون إبراهيم» (يوحنا 8: 56-57)، وبهذا القول يتجاوز يسوع التاريخ اليهودي بأكمله، والذي يبتدئ بإبراهيم، ويجعل نفسه مؤسسا لحركة روحية جديدة، وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متى: «إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة من الناموس»، نجده بعد ذلك يقول: «الأرض والسماء تزولان، وكلامي لا يزول» (متى 24: 35).
في مطلع حياة يسوع التبشيرية أعلن يسوع موقفه الواضح من شريعة العهد القديم، عندما مر وتلاميذه بين الزروع في يوم السبت، فأخذ التلاميذ يقطفون السنابل ويأكلون منها، فقال له الفريسيون: انظر، لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ فقال لهم: «... إن السبت جعل للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت» (مرقس 2: 23-28)، وبذلك أخل يسوع ببند من أهم بنود الشريعة كان منتهكه يستحق الموت، على ما ورد في سفر الخروج 31: 14: «وكلم الرب موسى قائلا ... فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم، من دنسه يقتل قتلا، إن كل من صنع عملا فيه تقطع تلك النفس من بين شعبها». ودخل يسوع أيضا في يوم سبت أحد مجامعهم وكان فيه رجل يده مشلولة، وكان الفريسيون والكتبة يراقبونه ليروا هل يشفيه في السبت، فعلم أفكارهم فقال للرجل: قم فقف في حلقة المجمع، فقام ووقف فيها، قال يسوع لهم: أسألكم، أعمل الصالحات يحل في يوم السبت أم عمل السيئات؟ أتخليص نفس أم إهلاكها؟ ثم أجال طرفه فيهم جميعا وقال له: امدد يدك، فمدها فعادت صحيحة (لوقا 6: 6-11). وفي حادثة شفاء أخرى يوم السبت أخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه يعمل في يوم السبت، وسمح لمريضه أن يعمل عندما قال له: قم فاحمل فراشك وامش، فقال يسوع لليهود جملة تحمل كل معاني السخرية من مفهومهم عن الراحة المطلقة في يوم السبت: «إن أبي ما يزال يعمل وأنا أيضا أعمل». أي إن الله لا يتوقف عن رعاية خلقه يوم السبت، ويسوع ينسج على منواله (يوحنا 5: 16-17).
وقد ثار يسوع على مفاهيم الطهارة الشرعية التي تركز على طهارة الظاهر، وتنسى الطهارة الحقيقية التي هي طهارة الباطن، فقد اجتمع لديه بعض الفريسيين والكتبة الآتين من أورشليم، فرأوا بعض تلاميذه يأكلون قبل غسل أيديهم، فسأله الفريسيون والكتبة: لماذا لا يجري تلاميذك على سنة الشيوخ، بل يتناولون الطعام بأيد نجسة؟ فقال لهم: ... ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان، ألا تدركون أن ما يدخل الفم ينزل إلى الجوف ثم يخرج في الخلاء، وأما الذي يخرج من الفم فإنه ينبعث من القلب، وهو الذي ينجس الإنسان، فمن القلب تنبعث مقاصد السوء والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والنميمة، تلك هي التي تنجس الإنسان، أما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان (متى 15: 1-20، ومرقس 7: 1-23)، وبهذا ينسف يسوع جميع بنود الشريعة التوراتية المتعلقة بالأطعمة الطاهرة والأطعمة غير الطاهرة، وما يحل أكله وما لا يحل، وعلى حد قول إنجيل مرقس، فإن يسوع في رده على الفريسيين قد ألغى شريعة الطعام: «وفي قوله ذلك، جعل الأطعمة كلها طاهرة» (مرقس 7: 19).
وفي رواية لوقا للحادثة نفسها، نجد غضب يسوع وقد استعر على الفريسيين فخاطبهم قائلا: «ألا أيها الفريسيون، تطهرون ظاهر الكوب والصحفة، وباطنكم ممتلئ نهبا وفسقا. أيها الجهال، أليس الذي صنع الظاهر قد صنع الباطن أيضا؟ فتصدقوا بما لديكم يكن كل شيء طاهرا ... الويل لكم أيها الفريسيون، تحبون صدور المجالس في المجامع وتلقي التحيات في الساحات، الويل لكم، أنتم أشبه بالقبول المجهولة، يسير عليها الناس وهم لا يعلمون، فقال له أحد علماء الشريعة (الناموسيين): يا معلم بقولك هذا تشتمنا نحن أيضا. فقال يسوع: الويل لكم أنتم أيضا يا علماء الشريعة، تحملون الناس أحمالا باهظة، وأنتم لا تمسون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم» (لوقا 11: 37-46)؛ لذلك فقد أراح يسوع الناس من أحمال الشريعة التي لا يطيقها الإنسان، وقال لهم: «تعالوا إلي جميعا أيها المرهقون والمثقلون فإني أريحكم، احملوا نيري وتتلمذوا لي، أنا الوديع المتواضع القلب، تجدوا الراحة في نفوسكم؛ لأن نيري لطيف وحملي خفيف» (متى: 11: 28-30)، اعتمادا على قول يسوع هذا، تحدث بولس الرسول أكثر من مرة عن الحرية التي فتح بابها يسوع، «فاثبتوا إذا في الحرية التي حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضا بنير العبودية، ها أنا بولس أقول لكم إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا ... لأنه في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئا ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة» (غلاطية 5: 1-6).
وقد شبه يسوع شريعة القلب والمحبة بالخمرة الجديدة التي لا تقبل الاحتواء في زقاق قديمة (جمع زق وهو وعاء جلدي لحفظ الخمر) هي قوالب شريعة الحرف. فقد سأله بعض الناس: «لماذا يصوم تلاميذ يوحنا (المعمدان) وتلاميذ الفريسيين، ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا، ولكن سيأتي زمن يرتفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون، ما من أحد يرقع ثوبا قديما برقعة من نسيج جديد، مخافة أن تنتزع الرقعة الجديدة شيئا من الثوب القديم، فيتسع الخرق، وما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زقاق قديمة لئلا تشق الخمر الزقاق، فتتلف الخمر والزقاق معا، ولكن للخمرة الجديدة زقاق جديدة» (مرقس 2: 18-22).
وهو يلغي طقوس الذبائح والمحارق اليهودية التي كانت تقام بشكل رئيسي في هيكل أورشليم، فالرحمة عنده تحل محل الذبيحة: «قال الفريسيون لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخاطئين؟ فسمع يسوع كلامهم فقال: ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب، بل المرضى. فهل عرفتم معنى هذه الآية: إنما أريد الرحمة لا الذبيحة، ما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين» (متى 9: 11-13). وشريعة المحبة تتفوق عنده على شريعة الطقوس والذبائح، فقد سأله واحد من الفريسيين ليحرجه: يا معلم، ما هي أكبر وصية في الشريعة؟ فقال له: أحبب الله ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك، تلك هي الوصية الكبرى والأولى، والثانية مثلها، أحبب قريبك حبك لنفسك، بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة والأنبياء» (متى 22: 34-40)، ويضيف مرقس في روايته لهذه الحادثة قول السائل: «لقد أصبت يا معلم إذ قلت إنه الله الأحد وليس من دونه آخر، وأن يحبه الإنسان بجميع قلبه وجميع ذهنه وقدرته، وأن يحب قريبه حبه لنفسه أفضل من كل محرقة وذبيحة، فلما رأى يسوع أنه أجاب بفطنة قال له: لست بعيدا عن ملكوت الله» (مرقس 12: 32-33)، وفي قول شهير آخر يحل يسوع الأخلاق محل الشريعة جملة وتفصيلا: «افعلوا للناس ما أردتم أن يفعله الناس لكم، هذه هي خلاصة الشريعة وكلام الأنبياء» (متى 7: 12).
لقد تجاوز يسوع موسى والأنبياء وتخطى الشريعة والطقوس، ولم يعد للهيكل مبرر وجود، ففي جداله حول حرمة السبت مع الفريسيين قال لهم: «أوما قرأتم في الشريعة أن الكهنة يستبيحون حرمة السبت في الهيكل ولا حرج عليهم؟ فأقول لكم: ها هنا أعظم من الهيكل (يشير إلى نفسه) ولو فهمتم معنى هذه الآية: إنما أريد الرحمة لا الذبيحة، لما حكمتم على من لا حرج عليه، فابن الإنسان (يعني نفسه) سيد السبت» (متى 12: 5-8)، «ولما خرج من الهيكل قال له أحد تلاميذه: يا معلم انظر يا لها من حجارة، ويا لها من أبنية! فقال له يسوع: أترى هذه الأبنية العظيمة؟ لن يبقى فيها حجر على حجر، بل ينقض كله» (مرقس 13: 1-2)، وفي موعظة الجبل الشهيرة في إنجيل متى يناقض يسوع شريعة موسى في عدد من أهم فقراتها، مستخدما صيغة: «سمعتم أنه قيل للأولين ... كذا، أما أنا فأقول ... كذا» وبذلك يضع يسوع سلطة أقواله فوق سلطة بنود الشريعة القديمة، قال يسوع: «سمعتم أنه قيل للأولين: لا تقتل فإن من يقتل يستوجب القضاء، أما أنا فأقول لكم من غضب على أخيه باطلا يستوجب القضاء، ومن قال لأخيه يا أحمق استوجب حكم المجالس ...» «سمعتم أنه قيل: لا تزن، أما أنا فأقول لكم: من نظر إلى امرأة فاشتهاها زنى بها قلبه ...» «سمعتم أنه قيل للأولين: لا تخنث، بل أوف للرب إيمانك، أما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة لا بالسماء فهي عرش الله، ولا بالأرض فهي موطئ قدميه ...» «سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن، أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر ...» «سمعتم أنه قيل: أحبب قريبك وابغض عدوك، أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وادعوا لمضطهديكم، فتكونوا بني أبيكم الذي في السموات؛ لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل غيثه على الأبرار والفجار» (متى 5: 21-45).
فأي شيء، بعد هذا، بقي من شريعة العهد القديم، التي وضعت المداخلة اليهودية على لسان يسوع قوله فيها: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل؟ (4) عالمية رسالة يسوع «الخراف الضالة من بيت إسرائيل»
في مداخلة يهودية أخرى لمتى يضع على لسان يسوع قوله إن رسالته محصورة ببني إسرائيل، ثم يصف الكنعانيين بالكلاب الذين لا يستحقون بركته الشافية، «ثم خرج يسوع من هناك وذهب إلى نواحي صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك البلاد تصيح: رحماك سيدي يا ابن داود، إن ابنتي يتخبطها الشيطان تخبطا شديدا، فلم يجبها بكلمة، فدنا منه تلاميذه يتوسلون إليه فقالوا: أجب طلبها واصرفها، فإنها تتبعنا بصياحها. فأجاب: لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، ولكنها وصلت إليه فسجدت له وقالت: أغثني سيدي. فأجابها: لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين فيلقى إلى جراء الكلاب. فقالت: رحماك يا سيدي، حتى الكلاب تأكل من الفتات الذي يتساقط عن موائد أصحابها. فأجابها يسوع: ما أعظم إيمانك أيتها المرأة، فليكن لك ما تريدين. فشفيت ابنتها من ساعتها» (متى 15: 21-28). وفي مداخلة ثالثة لمتى، نجد يسوع يرسل تلاميذه للتبشير بين الخراف الضالة من بيت إسرائيل، ويحذرهم من الاقتراب من الوثنيين والسامريين: «ودعا تلاميذه الاثني عشر، فأولاهم سلطانا يطردون به الأرواح النجسة ويشفون الناس من كل مرض وعلة ... وقال لهم: لا تسلكوا طريقا إلى الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة للسامريين، بل اذهبوا نحو الخراف الضالة من بيت إسرائيل» (متى 10: 1-6) (راجع أيضا مرقس 7: 24-30).
فإلى أي حد تتوافق هذه الأقوال والمواقف الشوفينية المنسوبة إلى يسوع مع بقية أقواله ومواقفه في الأناجيل الأربعة، والتي أعلن يسوع من خلالها عن عالمية رسالته وشمولها للإنسانية جمعاء؟
في الحقيقة، إن الأناجيل تمتلئ بالإشارات إلى الجموع الوثنية العديدة التي كانت تتبع يسوع وتستمع إلى رسالته، من ذلك ما ورد في إنجيل مرقس: «فانصرف يسوع إلى البحر يصحبه تلاميذه، وتبعه جمع كبير من الجليل و... وعبر الأردن ونواحي صور وصيدا» (3: 7-8)، أي إن من وصفهم يسوع بالكلاب من سكان صيدا وفق مداخلة متى، كانوا في عداد من تبعه، وكذلك سكان عبر الأردن، حيث توزعت معظم المدن العشر اليونانية الوثنية، فقد طلب يسوع من ممسوس شفاه أن يذهب إلى هذه المدن الوثنية ويبشر بين أهلها: «وبينما هو يركب السفينة سأله الذي كان ممسوسا أن يصحبه، فلم يأذن له، بل قال له: اذهب إلى بيتك وحدث ذويك بما آتاك الرب من رحمته، فمضى وأخذ ينادي في المدن العشر بما آتاه يسوع» (5: 17-18). وفي إنجيل لوقا نجد يسوع يشفي أناسا كثيرين من ساحل صور وصيدا: «ثم نزل بهم فوقف في مكان منبسط، وهناك جماعة كبيرة من تلاميذه، وحشد كبير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيدا، فقد جاءوا ليسمعوه ويبرءوا من أمراضهم، وكان الجمع كله يحاول أن يلمسه، فقد كانت تخرج منه قوة تبرئهم جميعا» (لوقا 6: 17-19).
وعندما جاء يسوع إلى أورشليم للمرة الأولى ودخل الهيكل أعلنه بيتا لإله جميع الأمم لا لإله اليهود: «ثم وصلوا إلى أورشليم فدخل الهيكل وأخذ يطرد الذين يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام، وأخذ يعلمهم فيقول: ألم يكتب بيتي لجميع الأمم بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مرقس 11: 15-17).
وفي مقابل توجيه يسوع لتلاميذه بألا يسلكوا طريقا إلى الوثنيين، ولا يدخلوا بيتا للسامريين، مما ورد في مداخلة متى اليهودية، نجد أن متى نفسه قد أنهى إنجيله بما يناقض ذلك، عندما قال يسوع لتلاميذه وهو يودعهم: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم طوال الأيام إلى انقضاء الدهر» (متى 28: 19-20)، وورد عند متى في موضع آخر: «الحق أقول لكم، حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه المرأة تذكارا لها» (متى 26: 13). ويكرر مرقس القول نفسه في الإصحاح 14: 9. وورد عند مرقس أيضا: «وينبغي أن يكرز أولا بالإنجيل في جميع الأمم» (مرقس 13: 10)، وورد عند متى: «هو ذا فتاي الذي اخترته حبيبي الذي عنه رضيت، سأفيض روحي عليه فيبشر الأمم بالحق ... وعلى اسمه تتوكل الأمم» (متى 12: 18-21).
ويسوع نفسه قد مر بالسامرة وبشر فيها، مناقضا بذلك ما نسب إليه متى، وقصة وقوفه عند بئر يعقوب قرب مدينة سامرية تدعى سيخارة، وحواره مع امرأة سامرية، هي من القصص المشهورة في العهد الجديد، وقد انتهت بإيمان المرأة وإيمان عدد كبير من السامريين: «فآمن به عدد كبير من سامريي تلك المدينة، بدافع من كلام المرأة ... فلما جاءه السامريون سألوه أن يقيم بينهم، فأقام يومين، فآمن عند سماع كلامه عدد يفوق بكثرته عدد الأولين، وقالوا للمرأة: لا نؤمن تبعا لكلامك؛ بل لأننا سمعناه نحن وعلمنا أنه مخلص العالم» (يوحنا 4: 39-42).
وفي قصة السامري الصالح التي رواها يسوع في إنجيل لوقا خير رد على الشوفينية اليهودية، فقد سأله ناموسي عمن هو القريب الذي يتوجب على المرء أن يحبه من بعد حبه لله، قال له يسوع: «كان بعضهم نازلا من أورشليم إلى أريحا، فوقع في أيدي اللصوص، فعروه ثم انهالوا عليه بالضرب ومضوا وقد تركوه بين حي وميت، فاتفق أن أحد الكهنة كان نازلا فمر من ذلك الطريق، فرآه فمال عنه ومضى، وكذلك جاز لاوي (= من خدم الهيكل) في ذلك المكان، فرآه فمال عنه ومضى، ثم مر به سامري مسافر، فرآه فأشفق عليه، فمال إليه فضمد جراحه وصب عليه زيتا وخمرا، ثم حمله على مطيته وجاء به إلى فندق واعتنى بأمره ... فمن كان في رأيك من هؤلاء الرجال الثلاثة قريب الذي وقع بأيدي اللصوص؟ فقال: الذي عامله بالرحمة، فقال له يسوع: اذهب فاعمل أنت أيضا مثل ذلك» (لوقا 10: 25-37).
وفي أكثر من قول له، يصرح يسوع بأن ملكوت الله سيصير إلى غير اليهود من الوثنيين، بسبب عنادهم وقساوة قلوبهم وعزوفهم عن كلمة الله: «إن العشارين والبغايا يسبقونكم إلى ملكوت الله» (متى 21: 31). «أهل نينوى سيقومون يوم الدين مع هذا الجيل ويحكمون عليه لأنهم تابوا بإنذار النبي يونان، وها هنا أعظم من يونان (يشير إلى نفسه). ملكة الجنوب ستقوم يوم الدين مع هذا الجيل وتحكم عليه؛ لأنها جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وها هنا أعظم من سليمان» (متى 12: 41-42).
وسيأتي الناس من جهات الأرض الأربع ليدخلوا في ملكوت الله أفواجا، وأما اليهود فيجدون أنفسهم في الخارج مطرودين: «ترون في ملكوت الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وجميع الأنبياء، وترون أنفسكم في الخارج مطرودين، وسوف يأتي الناس من المشرق والمغرب، ومن الشمال والجنوب، فيجلسون على المائدة في ملكوت الله، فيصير من الآخرين أولون، ومن الأولين آخرون» (لوقا 13: 28-30).
ويضرب يسوع مثلا عن تفضيل الله للوثنيين الذين آمنوا، على اليهود الذين قست قلوبهم عن سماع كلمة الله، بروايته للقصة التالية: «فمثل ملكوت السموات كمثل رب بيت خرج والفجر ليستأجر عمالا لكرمه، فاتفق مع العمال على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، ثم خرج نحو الساعة الثالثة فرأى عمالا آخرين قياما في الساحة بطالين، فقال لهم: اذهبوا أنتم أيضا إلى كرمي فأعطيكم ما يحق لكم. وخرج أيضا نحو الساعة السادسة، ثم نحو الساعة التاسعة، ثم نحو الساعة الحادية عشرة، ففعل مثل ذلك، ولما جاء المساء قال صاحب الكرم لوكيله: ادع العمال وادفع لهم الأجرة مبتدئا بالآخرين سائرا إلى الأولين، فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذ كل منهم دينارا، ثم جاء الأولون فظنوا أنهم سيأخذون زيادة، فأخذوا هم أيضا دينارا لكل منهم، وكانوا يأخذونه متذمرين على رب البيت: هؤلاء الذين أتوا آخرا لم يعملوا غير ساعة واحدة، فساويتهم بنا نحن الذين احتملنا عبء النهار وحره، فأجاب رب البيت واحدا منهم وقال: يا صديقي ما ظلمتك، ألم أتفق معك على دينار؟ خذ مالك وانصرف، فهذا الذي أتى آخرا أريد أن أعطيه مثلك، أفما يحق لي أن أتصرف في أموري كما أشاء؟ أم أنت تنظر إلي نظرة سوء لأني كريم؟ فهكذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين» (متى 20: 1-16).
وفي الهيكل ضرب للأحبار والشيوخ والكتبة مثلا مشابها : غرس رجل كرما فسيجه، وحفر فيه معصرة وبنى برجا، وسلمه إلى كرامين وسافر، فلما حان وقت الثمر، أرسل عبدا إلى الكرامين ليأخذ نصيبه من ثمر الكرم، فأمسكوه وضربوه، وأرجعوه فارغ اليدين، فأرسل عبدا آخر وهذا أيضا شجوا رأسه وشتموه، فأرسل آخر، وهذا قتلوه، ثم أرسل كثيرين غيرهم، فضربوا فريقا وفريقا قتلوا، وبقي عنده واحد وهو ابنه الحبيب، فأرسله إليهم آخر الأمر، وقال: سيهابون ابني، فقال أولئك الكرامون بعضهم لبعض: هو ذا الوارث، هلم نقتله فيعود الميراث إلينا، فأمسكوه وقتلوه وألقوه في خارج الكرم، فماذا يفعل رب الكرم؟ قالوا له: يأتي ويهلك الكرامين ويجعل الكرم لآخرين يؤدون إليه الثمر في وقته، قال لهم يسوع: لذلك أقول لكم إن ملكوت الله سينزع عنكم ليسلم إلى أمة تجعله يخرج ثمره» (متى 21: 33-43)، و(مرقس 12: 1-12).
وبعد أن شفى ابن قائد روماني، التفت إلى تلاميذه متعجبا من إيمان ذلك الوثني، وقال لهم: «سوف يأتي أناس كثيرون من المشرق والمغرب، فيجالسون إبراهيم وإسحاق ويعقوب على المائدة في ملكوت السموات، وأما بنو الملكوت (أي اليهود) فيلقون في الظلمة الخارجية، وهناك البكاء وصريف الأسنان» (متى 8: 11-13).
وفي مقابل القول الذي نسبه إليه متى: «لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل»، فإن يسوع يقول صراحة بأن اليهود ليسوا من خرافه: «إن الأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي، ولكنكم لا تؤمنون لأنكم لستم من خرافي فخرافي تسمع صوتي، وأعرفها فتتبعني، وأنا أهب لها الحياة الأبدية فلا تهلك أبدا» (يوحنا 10: 25-28).
وهو يتهم التاريخ النبوي الإسرائيلي كله بالزيف، عندما يقول بأن كل الذين جاءوا قبله كانوا لصوصا سارقين: «من لم يدخل حظيرة الخراف من الباب، بل تسلق إليها من طريق آخر كان لصا سارقا، ومن يدخل من الباب كان راعي الخراف، البواب يفتح له والخراف تصغي إلى صوته، تتبعه لأنها تعرف صوته، أما الغريب فلا تتبعه ... أنا باب الخراف، جميع الذين جاءوا قبلي لصوص سارقون، ولكن الخراف لم تصغ إليهم» (يوحنا 10: 1-8). (5) يسوع واليهود
تميزت علاقة يسوع باليهود بالعدائية والكراهية المتبادلة منذ بداية رسالته، فهو لم يترك نقيصة إلا ونسبها إليهم، وهم كانوا يتحينون الفرص لقتله والتخلص منه، ففي أول تبشير علني له بعد أن خرج من ماء العماد وهبط عليه روح الرب، قام اليهود بأول محاولة لقتله: «فلما سمع أهل المجمع هذا الكلام ثار ثائرهم جميعا، فقاموا ودفعوه إلى خارج المدينة، وساقوه إلى حرف الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليلقوه عنه، ولكنه مر بينهم ومضى» (لوقا 4: 28-30). وبعد ذلك تكررت محاولاتهم ولكن دون جدوى: «فأخذ اليهود يشغبون على يسوع لأنه يفعل ذلك يوم السبت، فقال لهم يسوع: إن أبي ما يزال يعمل، وأنا أيضا أعمل، فاشتد سعي اليهود لقتله» (يوحنا 5: 16-18)، «وأخذ يسوع يسير بعد ذلك في الجليل، ولم يشأ أن يسير في اليهودية؛ لأن اليهود كانوا يريدون قتله» (يوحنا 7: 1)، «فأتى اليهود بحجارة ليرجموه فقال لهم يسوع: أريتكم عدة أعمال صالحات من لدن الآب، فلأي عمل منها ترجمونني» (يوحنا 10: 31-32)، وبعد إحيائه لعازر عقد الفريسيون والأحبار مجلسا، وعزموا منذ ذلك اليوم على قتله، فصار لا يظهر بين اليهود، واعتزل في الناحية المتاخمة للبرية في مدينة تدعى أفرام، فأقام فيها مع تلاميذه (يوحنا 11: 46-54).
وفي المقابل كان يسوع يمطرهم بكلماته القاسية المباشرة، فقد قال للفريسيين وهم النخبة المتعلمة من اليهود: «يا أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تقولوا كلاما طيبا وأنتم خبثاء؟ فمن فيض القلب ينطلق اللسان» (متى 12: 34)، وفي موضع آخر وصفهم بأنهم عميان يقودون عميانا، أي بقية اليهود: «فدنا منه تلاميذه وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين استاءوا عندما سمعوا هذا الكلام؟ فأجابهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع، دعوهم وشأنهم إنهم عميان يقودون عميانا» (متى 15: 12-13)، وفي تعبير مليء بالتورية ذات المغزى قال لتلاميذه عندما نسوا أن يتزودوا بالخبز: «احذروا خمير الفريسيين والصدوقيين» (متى 16: 5-6).
وكان يسوع يخاطب اليهود من موقع مفارق وكأنه ليس واحدا منهم فيقول لهم: بماذا أوصاكم موسى؟ ولا يقول بماذا أوصانا موسى؟ و: ألم يكتب في شريعتكم؟ وليس: ألم يكتب في شريعتنا: «فأجابهم يسوع: ألم يكتب في شريعتكم ... إلخ» (يوحنا 10: 34)، وأيضا: «وما كان هذا إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم، وهي: أبغضوني بلا سبب» (يوحنا 15: 25)، وأيضا: «وكتب في شريعتكم: شهادة شاهدين صحيحة، أنا أشهد لنفسي وأبي الذي أرسلني يشهد لي» (يوحنا 8: 17-18)، «ابتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي» (يوحنا 8: 56)، «فأجابهم: بماذا أوصاكم موسى ... من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية» (مرقس 10: 3-5)، «ألم يعطكم موسى الشريعة، وما من أحد منكم يعمل بأحكام الشريعة؟» (يوحنا 7: 19)، إن الرأي القائل بأن يسوع لم يكن يهوديا، ليجد سندا قويا له في هذه الصيغة التي توجه بها يسوع إلى اليهود.
واليهود هم قتلة الأنبياء والمرسلين، وعليهم يقع كل دم زكي سفك على الأرض: «الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون: تبنون قبور الأنبياء وتزينون ضرائح الصديقين، وتقولون: لو عشنا زمن آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء، فأنتم تشهدون على أنفسكم بأنكم قتلة الأنبياء، فاملئوا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تهربوا من عقاب جهنم؟ ها أنا ذا (يقول الرب) أرسل إليكم من أجل ذلك أنبياء وحكماء وكتبة، ففريقا تقتلون وتصلبون، وفريقا في مجامعكم تجلدون، ومن مدينة إلى مدينة تطاردون، حتى يقع عليكم كل دم زكي سفك على الأرض، من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح، الحق أقول لكم: هذا كله سيقع على هذا الجبل، أورشليم، أورشليم، يا قاتلة الأنبياء والمرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أبناءك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم تريدوا، إن بيتكم سيترك لكم خرابا، أقول لكم: لا ترونني بعد اليوم حتى تقولوا: تبارك الآتي باسم الرب» (23: 29-39).
وقد تنبأ يسوع بأنه سوف يسلم إلى اليهود أبناء قتلة الأنبياء فيحكمون عليه بالموت ويتركون التنفيذ للرومان: «وأوشك يسوع أن يصعد إلى أورشليم، فانفرد بالاثني عشر، وقال لهم: إنا صاعدون إلى أورشليم، وسيسلم ابن الإنسان إلى الأحبار والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الوثنيين ليسخروا منه ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم» (متى 20: 17-19)، وقد أثبت اليهود بعد ذلك صدق ما قاله فيهم يسوع فهم ورثة قتلة الأنبياء، فعندما حاول الوالي الروماني عبثا إقناع اليهود ببراءة يسوع، غسل يديه أمام الجميع وقال: «إني بريء من دم هذا البار، أنتم وشأنكم فيه، فأجاب الشعب بأجمعه: دمه علينا وعلى أولادنا» (متى 27: 24-29)، وعندما رفع يسوع على الصليب راح اليهود يشتمونه وأحبارهم يهزءون منه: «وكان المارة يشتمونه ويهزون رءوسهم ويقولون: يا أيها الذي ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام، إن كنت ابن الله فخلص نفسك وانزل عن الصليب، وكان الأحبار يسخرون مثلهم، فيقولون مع الكتبة والشيوخ: خلص غيره ولا يقدر أن يخلص نفسه» (متى 27: 39-42).
وقد لخص يسوع موقفه من اليهود في جملة واحدة، عندما قال للمرأة السامرية إن الخلاص لا يتم إلا بالتخلص من اليهود: «يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما فنحن فنسجد لما نعلم؛ لأن الخلاص هو من اليهود، ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يوحنا 4: 21-23).
وهم لا يعرفون إله يسوع، بل يعبدون إلها آخر، قال يسوع لليهود: «أنتم لا تعرفونني ولا تعرفون أبي» (يوحنا 8: 19)، «على أني ما جئت من نفسي، بل هو حق الذي أرسلني أنتم لا تعرفونه، وأما أنا فأعرفه؛ لأني من لدنه أتيت وهو الذي أرسلني» (يوحنا 7: 28-29)، «أنتم من الدرك الأسفل، وأنا من الملأ الأعلى، أنتم من العالم، وأنا لست من العالم» (يوحنا 8: 23)، واليهود أبناء إبليس وإليه يتعبدون: «أنتم تعملون أعمال أبيكم ... لو كان الله أباكم لأحببتموني؛ لأني من الله خرجت وأتيت، إنكم أولاد أبيكم إبليس، وأنتم تريدون إتمام شهوات أبيكم، كان منذ البدء مهلكا للناس لم يثبت على حق ... من كان من الله سمع كلام الله، فإذا كنتم لا تسمعون فلأنكم لست من الله» (يوحنا 8: 41-47)، واليهود في عبادتهم لإلههم يهوه يكرهون الله الحق: «وهم مع ذلك يبغضونني ويبغضون أبي، وما ذلك إلا لتتم الآية المكتوبة في شريعتهم: أبغضوني بلا سبب» (يوحنا 15: 24-25).
فأي شيء بعد هذا يبقى من الأقوال المنسوبة إلى يسوع بأنه لم يرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، وأنه ما جاء لينقض وإنما ليكمل؟ (6) بولس الرسول
بولس الرسول هو أشهر شخصية في أسفار العهد الجديد بعد يسوع، فمعظم مادة سفر أعمال الرسل يتحدث عن نشاطه التبشيري، كما أن رسائله الأربع عشرة كانت متداولة بين المسيحيين، كتابة، قبل تدوين الأناجيل الأربعة، ولد نحو عام 10م في مدينة طرسوس بمنطقة كيليكيا بجنوب آسيا الصغرى، من أسرة يهودية تحمل المواطنية الرومانية، وبعد مسيرة تبشيرية حافلة تنقل خلالها بين دمشق وأنطاكية وآسيا الصغرى واليونان وروما، استشهد نحو عام 67م خلال حملة الاضطهاد الشاملة ضد المسيحيين، التي جرت خلال عهد الإمبراطور نيرون، لم ير يسوع شخصيا، ولكنه واجهه في رؤيا عقلية عرضت له على طريق دمشق، حولته إلى المسيحية وإلى أهم مبشر بيسوع. قصر نشاطه على التبشير بين الوثنيين، وهو المسئول عن تشكيل «كنيسة الأمم» التي ورثتها كنيسة روما كقائدة للحركة المسيحية القويمة والمسكونية، كان اليهودي الوحيد بين بقية الرسل الجليليين، ومع ذلك فقد كان أكثرهم فهما لتعاليم يسوع ومراميها الكونية، وعلى رسائله الأربع عشرة قامت المسيحية التي نعرفها اليوم، فماذا قال بولس في اليهود والشريعة وعالمية رسالة يسوع، وما هي مواقفه من العهد القديم وصلته بالعهد الجديد؟
في رسالته الثانية إلى أهالي كورنثة يحدث بوليس قطيعة تامة غير قابلة للوصل بين العهد القديم والعهد الجديد: «إذا كان أحد في المسيح، فإنه خلق جديد قد زال كل شيء قديم، وها هو ذا كل شيء جديد» (2 كورنثة 5: 17)، والعهد الجديد هو عهد الروح لا عهد الحرف (أي الشريعة): «تلك ثقتنا بالمسيح لدى الله ... فهو الذي مكننا من خدمة العهد الجديد، عهد الروح لا عهد الحرف؛ لأن الحرف يميت والروح يحيي» (1 كورنثة 2: 4-6)، وموت يسوع على الصليب قد حرر من آمن به من أهل الشريعة: «نحن نعلم أن الإنسان لا يبر لأنه يعمل بأحكام الشريعة، بل لأن له الإيمان بيسوع المسيح ... بالشريعة مت عن الشريعة لأحيا في الله ... وإذا كانت لي حياة بشرية، فإنها في الإيمان بابن الله الذي أحبني وضحى بنفسه من أجلي ... ولو كان بالشريعة بر الإنسان، لكان موت المسيح عبثا» (الرسالة إلى أهل غلاطية 2: 16-21).
وشريعة الروح الجديدة قد حررت من شريعة الحرف القديمة: «فليس بعد الآن من هلاك للذين هم في يسوع المسيح؛ لأن شريعة الروح الذي يهب الحياة في يسوع المسيح قد حررتني من شريعة الموت والخطيئة، فالذي تستطيعه الشريعة، والجسد قد أوهنها، حققه الله بإرسال ابنه في جسد يشبه جسدنا الخاطئ كفارة للخطيئة، فحكم على الخطيئة بالجسد ليتم ما تقتضيه منا الشريعة، نحن الذين لا يسلكون سبيل الجسد بل سبيل الروح» (الرسالة إلى أهالي روما 8: 1-2)، وأيضا: «لم تتلقوا روحا يستعبدكم ويردكم إلى الخوف، بل روحا يجعلكم أبناء، وبه ننادي أبتاه ... فإذا كنا أبناء الله فنحن الورثة، ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث» (الرسالة إلى أهالي روما 8: 15-17). «أما الآن وقد متنا عما كان يعتقلنا فقد حللنا من الشريعة، وأصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم» (الرسالة إلى أهالي روما 7: 6-7)، والمسيحيون الذين يصرون على المحافظة على أحكام شريعة العهد القديم، قد انقطعوا في الواقع عن المسيح ورفضوا الحرية التي قدمها لهم: «إن المسيح قد حررنا لنكون أحرارا فاثتبوا إذا ولا تعودوا إلى نير العبودية، فها أنا ذا بولس أقول لكم: إذا اختتنتم فلن يفيدكم المسيح شيئا وأشهد مرة أخرى لكل مختتن بأنه ملزم أن يعمل بالشريعة جمعاء، لقد انقطعتم عن المسيح يا أيها الذين يلتمسون البر من الشريعة» (الرسالة إلى أهالي غلاطية 5: 1-4).
وسيرا على سنة يسوع فقد حلل بولس كل الأطعمة، فلا يوجد بعد اليوم ما هو محرم على الأكل وما هو محلل: «وأما الأكل من ذبائح الأوثان، فنحن نعلم أن الوثن ليس بشيء في العالم، وأن لا إله إلا الله الأحد ... ولكن المعرفة ليست لجميع الناس، فبعضهم جرت لهم العادة في الأوثان أن يأكلوا الذبائح كأنها حقا ذبائح للأوثان، فيتدنس ضميرهم لضعفه، ما من طعام يقربنا إلى الله، فإن لم نأكل لا نخسر شيئا، وإن أكلنا لا نربح شيئا» (الرسالة الأولى إلى أهالي كورنثة 8: 1-8)، وأيضا: «كل شيء حلال، ولكن ليس كل شيء بنافع ... كلوا من اللحم كل ما يباع في الأسواق، ولا تسألوا عن شيء تورعا؛ لأن الأرض وما عليها للرب» (1 كورنثة 10: 23-25)، وأيضا: «فكل ما خلق الله حسن، فما من طعام نجس إذا تناوله الإنسان وهو حامد؛ لأن كلام الله والصلاة يقدسانه» (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 4: 3-4).
وقد تحدث بولس عن اليهود بسخرية وتهكم واستخدم في وصفهم تعابير مقذعة: «هنالك جماعات كثيرة وقد كلمتكم عليها مرارا وسأكلمكم عنها اليوم باكيا، تسير سيرة أعداء الصليب، عاقبتهم الهلاك، وإلههم بطنهم (إشارة إلى تحريمات الشريعة بخصوص الأطعمة)، ومجدهم عورتهم (إشارة تهكمية إلى الختان)، همهم أمور الأرض، أما نحن فموطننا في السموات ومنها ننتظر مجيء المخلص يسوع المسيح، الذي يبدل جسدنا الحقير فيجعله على صورة جسده المجيد» (الرسالة إلى أهالي فيليبي 3: 18-21)، وأيضا: «احذروا الكلاب (يعني اليهود الذين أرادوا فرض عاداتهم على المسيحيين)، احذروا عمال السوء، احذروا ذوي الجب (أهل الختان)، فإنما نحن ذوو الختان لأن عبادتنا بروح الله، وفخرنا فخر بالمسيح يسوع» (الرسالة إلى أهالي فيليبي 3: 1-3)، وهو يسخر من كل نواهي الشريعة اليهودية التي لا تني عن تكرار أوامر مثل: لا تأخذ، لا تمس، لا تذق ... إلخ: «فأما وقد متم مع المسيح متخلين عن أركان العالم، فما بالكم لو كنتم عائشين في العالم تخضعون لمثل هذه النواهي، لا تأخذن، لا تذق، لا تمس، وتلك الأشياء كلها تئول بالاستعمال إلى الزوال» (الرسالة إلى أهالي كولوسي 2: 20-21).
وبولس يعكس معنى قصة زوجة إبراهيم الحرة سارة، وزوجته الأخرى هاجر الجارية، فاليهود هم العبيد أولاد الجارية، أما المسيحيون فهم الأحرار الذين ولدوا روحيا من الحرة: «هاتين المرأتين تمثلان العهدين، إحداهما هاجر، طور سيناء تلد للعبودية، وتعني أورشليم هذا الدهر، فإنما هي وبنوها في العبودية، أما أورشليم العليا (السماوية) فحرة وهي أمنا» (الرسالة إلى أهالي غلاطية 4: 24-26).
والشريعة اليهودية بما تفرضه من أحمال تفوق طاقة أحد عليها إنما تقود في النهاية إلى المعصية: «فما الشريعة إلا سبيل إلى معرفة الخطيئة، أما الآن فقد ظهر بر الله بمعزل عن الشريعة، تشهد له الشريعة والأنبياء، هو بر الله، وطريقه الإيمان بيسوع المسيح» (الرسالة إلى أهالي روما 3: 20-23). وأيضا: «فالوعد الذي تلقاه إبراهيم بأن يرث العالم لا يعود إلى الشريعة، بل إلى بر الإيمان، فلو كان الورثة أهل الشريعة لأبطل الإيمان ونقض العهد؛ لأن الشريعة تورث الغضب، وحيث لا تكون شريعة لا تكون معصية» (الرسالة إلى أهالي روما 4: 13-14)، كما أن الشريعة تورث اللعنة، وذلك لتقصير أهل الشريعة عن الوفاء بمتطلباتها: «إن دعاة العمل بأحكام الشريعة لعنوا جميعا، فقد ورد في الكتاب: ملعون من لم يثابر على العمل بجميع ما كتب في سفر الشريعة ... فالمسيح قد افتدانا من لعنة الشريعة» (الرسالة إلى أهالي غلاطية 3: 10-13).
لقد أخضع إله العهد القديم الخليقة للباطل كرها عنها، ولكنها لم تقطع الرجاء في انتظار انتسابها لله، الأب السماوي، الذي كشف لنا يسوع عن ملء رحمته: «وأرى أن آلام هذه الدنيا لا تساوي المجد الذي سيتجلى فينا، فالخليقة تنتظر بفارغ الصبر تجلي أبناء الله، فقد أخضعت للباطل بسلطان الذي أخضعها (أي الديميرج إله العهد القديم)، لا طوعا منها، ومع ذلك لم تقطع الرجاء» (الرسالة إلى أهالي روما 8: 19-21). لقد أغلق كتاب العهد القديم كل بوابات الرجاء، حتى ظهور المسيح: «لو أعطيت شريعة بوسعها أن تحيي لصح أن البر يحصل عليه بالشريعة، ولكن الكتاب أغلق على كل شيء وجعله في حكم الخطيئة، ليوهب الوعد للمؤمنين لإيمانهم بيسوع المسيح» (الرسالة إلى أهالي غلاطية 3: 21-22).
واليهود الذين تحولوا إلى المسيحية وبولس واحد منهم، كانوا أشبه بالقاصرين الواقعين تحت وصاية أركان هذا العالم ، ولكن يسوع افتداهم وأدخلهم سن الرشد، وهنا يستخدم بولس تعبير «أركان» أو «أراكنة» باللغة اليونانية، وتعني «حكام»، وبالمفهوم الغنوصي هم حكام العالم المادي الذي يأتمرون بأمر كبير الأراكنة إله العهد القديم، وقد دعاهم بولس أيضا بالآلهة المزيفة: «حين كنا قاصرين كنا عبيدا لأركان العالم، فلما تم الزمان، أرسل الله ابنه مولودا لامرأة، مولودا في حكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فنحظى بالتبني، والدليل على كونكم أبناء الله ، أن الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي يا أبتاه، فلست بعد الآن عبدا بل أنت ابن، وإذا كنت ابنا فأنت وارث بفضل الله، لما كنتم تجهلون الله، كنتم عبيدا لآلهة ليست بآلهة حقا، أما الآن وقد عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى تلك الأركان الضعيفة الحقيرة، وتريدون أن تكونوا عبيدا لها كما كنتم قبلا، تراعون الأيام والشهور والفصول والسنين (إشارة إلى السبت وأعياد اليهود الدينية)؟ إني أخشى أن أكون قد تعبت عبثا من أجلكم» (الرسالة إلى أهالي غلاطية 4: 3-11).
وفي الرسالة الثانية إلى أهالي كورنثة هنالك إشارة إلى «إله هذا الدهر» وهذه العبارة تدل على الأركون الأكبر إله العهد القديم في الفكر الغنوصي، وهي مستمدة من سفر إشعيا الذي أطلق لقب إله الدهر على يهوه: «أما عرفت أم لم تسمع؟ إله الدهر، الرب خالق أطراف الأرض، لا يكل ولا يعيا» (إشعيا 40: 28)، ويرى بولس أن إله هذا الدهر هو إله الهالكين من اليهود الذين رفضوا يد يسوع التي امتدت إليهم لتخليصهم: «ولكن إذا كان إنجيلنا مكتوما، فإنه مكتوم في الهالكين، الذين فيهم إله هذا الدهر،
2
قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (4: 3).
خلاصة
فيما سبق من هذا الفصل جعلنا نصوص العهد الجديد نفسها ترد على المداخلات المقحمة عليه، والغريبة عن سياقه العام، فيسوع قد جاء لينقض لا ليكمل، ورسالته جديدة كل الجدة عن رسالة العهد القديم، ولا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال حركة إصلاحية يهودية، ميزت نفسها تدريجيا حتى شبت على الطوق واستقلت، لقد كانت منذ البدء حركة مستقلة كما أراد لها يسوع عندما قال: «جئت لألقي على الأرض نارا، وكم أرجو أن تكون قد اشتعلت ... أوتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم لا، بل الخلاف» (لوقا 12: 49-51)، لقد أحدث يسوع شرخا في المجتمع اليهودي والمجتمع الوثني على السواء، انطلاقا من قناعته بأن الجديد لا يرسخ قبل تهديم كامل للقديم: «فمنذ اليوم يكون في بيت واحد خمسة، فيخالف ثلاثة منهم اثنين، واثنان ثلاثة، يخالف الأب ابنه والابن أباه، والأم بنتها والبنت أمها، والحماة كنتها والكنة حماتها» (لوقا 12: 52-53)، ولقد تخللت رسالة يسوع منذ البدء المجتمع كعاصفة تقتلع القديم لتزرع الجديد، ومنذ البدء ميز أتباعه أنفسهم عن محيطهم الثقافي، مشكلين النواة الأولى لواحدة من أهم الحركات الروحية في تاريخ الإنسانية، استطاعت بعد بضعة قرون أن تكسب نصف أرجاء المعمورة، ومع ذلك فقد أفلحت اليهودية في زرع شوكة في خاصرة المسيحية مع انطلاقتها الكبيرة، عندما تم في أواخر القرن الرابع الميلادي الجمع بين كتاب العهد القديم وأسفار العهد الجديد في كتاب المسيحيين المقدس.
عند هذه المرحلة من بحثنا، تبينت لنا ملامح الوجه الآخر للمسيح، والوجه الحقيقي لرسالته التي ترفض اليهودية والوثنية التقليدية، وتتجاوزهما نحو أرحب الآفاق الإنسانية، ولكن الأرض التي ألقى عليها يسوع نارا لم تحترق تماما إلا مع الغنوصية المسيحية، التي أكملت نصوصها صورة الوجه الآخر للمسيح، وسوف نخصص الفصل القادم لتوسيع ما كنا قد قدمناه في الفصل الثاني بخصوص الغنوصية ونشأة المسيحية.
الفصل الخامس
استطراد حول الغنوصية
في شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1945م كان فلاحان مصريان يحفران في الأرض، حول صخرة كبيرة تقع عند جبل صخري يدعى جبل الطارف، قرب بلدة نجع حمادي بصعيد مصر، عندما اصطدم معول محمد علي السمان بعقبة صلبة أزاح من حولها التراب، فظهرت له جرة فخارية كبيرة مختومة الفوهة تقادم عليها الزمن، وعندما هم بفتحها تداعت في مخيلته قصص العفاريت القديمة المحبوسة في مثل هذه الأوعية المريبة، فتردد وأحجم، ولكن قصصا أخرى عن كنوز ظهرت من تحت التراب في منطقة وادي الملوك القريبة، جعلت طمعه في الذهب يغلب خوفه من العفاريت، ففتح الجرة ليجد فيها ثلاثة عشر مجلدا من ورق البردي، تناثرت بعض صفحاتها السائبة في الهواء ومعها أحلامها في الثراء السريع، ولكنه بحسه الفطري أدرك أن مثل هذه الأشياء القديمة المدفونة في التراب غالبا ما يكون لها ثمن ما، فحملها على جمله وعاد إلى بيته في الأقصر.
كان محمد علي ملاحقا بتهمة ارتكابه لجريمة ثأر، ولخوفه من اقتحام رجال الأمن بيته والعثور على الكنز، قام بتوزيع محتوياته على عدة أمكنة، واستودع بعضها لدى رجل دين مسيحي هو القمص باسيليوس عبد المسيح، ليحفظها أمانة عنده، وبينما كان محمد علي وأخوه محتجزين رهن التحقيق في جريمة الثأر، زار أستاذ تاريخ يعمل في مدرسة محلية القمص باسيليوس، ورأى عنده واحدا من المجلدات، فشك في أهميته الأثرية، وأقنع القمص بإعارته إياه وأرسله إلى صديق له في القاهرة للتأكد من قيمته، وهنا ابتدأت عملية بيع المجلدات في سوق الآثار السوداء في مصر وتهريب بعضها إلى الخارج، ولكن الإشاعات عن تداول مخطوطات قديمة في السوق ما لبثت أن وصلت أسماع السلطات المصرية التي بادرت إلى البحث عنها ومطاردة المتعاملين فيها، حتى استطاعت أخيرا مصادرة أو شراء معظمها، وإيداعها في المتحف القبطي بالقاهرة، ولم يبق منها سوى المجلد الثالث عشر الذي تم تهريبه إلى الولايات المتحدة وجرى تداوله هناك.
علم أستاذ تاريخ الأديان في جامعة أوتريخت بهولندا جيلز كويسبل
G. Quispel ، وهو باحث مهتم بالغنوصية بوجود هذا المجلد لدى إحدى الجهات في أمريكا، فحث مؤسسة يونغ في زيوريخ على اقتنائه. عندما وصل المجلد إلى المؤسسة، اكتشف كويسبل بعد تفحصه فقدان عدد من صفحاته، فطار إلى القاهرة في ربيع عام 1955م عله يجد الصفحات المفقودة، ويحصل على صور فوتوغرافية لها، تعاون موظفو المتحف القبطي مع الباحث الهولندي فأعاروه صورا فوتوغرافية لعدد من المخطوطات التي عكف على دراستها فورا، لم يتأخر كويسبل كثيرا في التعرف على طبيعة المخطوطات التي بين يديه، وكان إنجيل توما أول ما تعرف عليه بين الصور الفوتوغرافية، عندما قرأ في السطر الأول من المخطوط المدون باللغة القبطية، مثل بقية المخطوطات، ما يلي: «هذه هي الكلمات الخفية التي نطق بها يسوع الحي، ودونها يهوذا توما التوأم»، وكان كويسبل يعرف أن شذرات مخطوط اكتشف عام 1890م وجرى التعرف عليها باعتبارها بقية من إنجيل توما الغنوصي المفقود، تبتدئ بالسطر نفسه، ولكنه الآن أمام النص الكامل لهذا الإنجيل الذي كان معروفا ومتداولا في بداية عصور المسيحية، فتابع بحماس قراءته، ليجد أنه عبارة عن مجموعة أقوال ليسوع بعضها معروف من الأناجيل الأربعة، ولكن معظمها غير معروف، ويرد على لسان يسوع في صيغ ملغزة، كقوله مثلا: «عندما تستولد ما في باطنك، فإن ما عندك سوف يخلصك، ولكن إذا لم يكن عندك ذلك في باطنك، فما تعدمه في باطنك سوف يقتلك» (إنجيل توما الفقرة 70).
لم يكن إنجيل توما سوى واحد من اثنين وخمسين نصا احتوت عليها مجلدات نجع حمادي الثلاثة عشر، وكان إلى جانبه في المجلد نفسه إنجيل فيليب الذي يعزو إلى يسوع أقوالا وأعمالا غير معروفة في الأناجيل الرسمية، على ما نراه في المقطع التالي: «وكانت مريم المجدلية برفقة المخلص دوما، ولكنه كان يحبها أكثر من بقية التلاميذ، وغالبا ما اعتاد تقبيلها، وهذا ما أثار حفيظة التلاميذ فقالوا له: لماذا تحبها أكثر منا؟ فأجابهم: لماذا لا أحبكم مثلما أحبها؟» كما احتوى المجلد على خمسة نصوص أخرى، بعضها يبحث في مفاهيم التكوين الغنوصية مثل «كتاب يوحنا السري» و«طبيعة الأراكنة»، وبعضها يبحث في أصل الروح الإنسانية وغربتها في العالم المادي، ومصيرها، مثل نص «تفسيرات بخصوص الروح».
وهكذا فقد تبين لكويسبل وغيره من أوائل الباحثين الذين سمح لهم بالاطلاع على وثائق نجع حمادي، أن الكنز الذي اكتشفه الفلاح الصعيدي محمد علي السمان، كان عبارة عن مكتبة احتوت على ترجمات قبطية جرى إعدادها قبل ما ينوف عن ألف وخمسمائة سنة، عن نصوص يونانية أقدم منها تعود إلى مطلع العصور المسيحية، تشتمل على أناجيل وأدبيات غنوصية أخرى، فإلى جانب إنجيل توما وإنجيل فيليب، هنالك إنجيل الحقيقة، وإنجيل المصريين، وهنالك نماذج من الأدب الرؤيوي مثل رؤيا بولس، ورؤيا بطرس، ورؤيا آدم، ورؤيا يعقوب، وهنالك نبذات عن أعمال الرسل، مثل أعمال بطرس وأعمال بطرس والرسل الاثني عشر، وهنالك أساطير في التكوين مثل كتاب يوحنا السري، وطبيعة الأراكنة، وحول أصل العالم، وهنالك رسائل ومقالات في مسائل دينية شتى، وباختصار، فإننا أمام «عهد جديد» موسع لم نكن نعرف عنه إلا القليل.
أما بخصوص تاريخ هذه الوثائق القبطية ، فهنالك اتفاق بين الباحثين على أنها تعود إلى الفترة ما بين 350 و400 ميلادية، ولكن الخلاف نشأ بينهم بخصوص تاريخ كتابة النصوص اليونانية الأصلية، علما أن الغالبية منهم ترى أن معظمها قد دون خلال النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، وهي الفترة التي شهدت ميلاد الطوائف الغنوصية الرئيسية، ونشاط المعلمين الغنوصيين الكبار، وفيما يتعلق بإنجيل توما بشكل خاص، فإن كويسبل والذين عملوا معه على تحقيق وترجمة ونشر أول نص كامل له، يرون أنه دون باليونانية نحو عام 140 ميلادية، ولكن هنالك من الباحثين من يرى أن النص الذي تم جمعه في ذلك التاريخ هو تحرير لعمل أقدم منه، ربما يرجع إلى فترة تدوين الأناجيل الأربعة، أي إلى الفترة ما بين 50 و110م.
أما لماذا دفنت هذه النصوص في الصحراء وتركت هناك هذه المدة الطويلة، فإن تاريخ الحركة المسيحية وما تميزت به بداياتها من صراع بين الفرق والطوائف المختلفة، هو الذي يجيب على هذا السؤال، ففي الفترة المبكرة من نشوء المسيحية، كانت نصوص نجع حمادي وغيرها من النصوص التي اعتبرت بعد ذلك غير رسمية، متداولة بحرية وعلى نطاق واسع بين المسيحيين، ولكن منذ أواسط القرن الثاني الميلادي ابتدأت كنيسة روما، التي شعرت بقوتها وسطوتها، حملة واسعة النطاق ضد الطوائف المسيحية الغنوصية، واعتبرتها هرطقات يجب مكافحتها بكل الوسائل، وتفرغ عدد من آباء الكنيسة الأوائل لدحض الفكر الغنوصي وإظهار زيفه وبطلانه.
فهناك الآن كنيسة واحدة فقط قويمة الإيمان (أرثوذكسية)، وهي في الوقت نفسه عالمية مسكونية (كاثوليكية)، أما ما تبقى من الشيع والفرق والاتجاهات الفكرية داخل المسيحية، فانحرافات عن الإيمان الصحيح ينبغي تقويمها وإعادة خرافها الضالة إلى الحظيرة الكاثوليكية، وعندما تحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية في مطلع القرن الرابع الميلادي، وصارت المسيحية القويمة دينا للدولة، تحول رجال الكنيسة من ضحايا لاضطهاد السلطات الرسمية إلى مشرفين ومحرضين على اضطهاد خصومهم، فجرى منع تداول كل الأدبيات المسيحية غير الرسمية، وصار اقتناء الكتب الغنوصية جريمة يعاقب عليها القانون، وشنت السلطات الكنسية حملات تفتيش واسعة على هذه الكتب وأحرقتها، ولكن راهبا غنوصيا مقيما في دير القديس باخوميوس القريب من منطقة الاكتشاف، قد أنقذ ما يمكن إنقاذه من المخطوطات الغنوصية، فخبأها في جرة ودفنها عند جبل الطارف.
على أن أولئك المسيحيين الذين تداولوا مخطوطات نجع حمادي، وغيرها من المخطوطات الغنوصية التي ضاعت إلى الأبد، لم ينظروا إلى أنفسهم كهراطقة بل نظروا إلى أنفسهم باعتبارهم أهل الإيمان الصحيح، وورثة تعاليم سرية أصلية ليسوع المسيح، فهم «العارفون
Gnostics » نسبة إلى الكلمة اليونانية «غنوص
Gnosis » التي تعني «العرفان» و«البصيرة الداخلية»، التي تجعل أصحابها في تواصل مباشر مع الأسرار الإلهية، أما البقية من أتباع الكنيسة القويمة، فهم «المحجوبون» أو «غير العارفين
Agnostics »، الذين وقفوا عند حدود «الظاهر» ولم ينفذوا إلى «الباطن»، وتظهر كتابات هؤلاء الغنوصيين صلتهم بالحركة المسيحية الأولى، فهي تدعي حفظها لتعاليم شفوية للمسيح لم تدونها الأناجيل الرسمية وبقية أسفار العهد الجديد، كما أن الشخصية المركزية فيها هو يسوع المخلص، ومعظم هذه الكتابات يعزى إلى أفراد من حلقة تلاميذ يسوع المقربين، ولكن الفارق بين الشيعتين واسع جدا، فالمسيحيون القويمون يعتقدون بأن الله هو كيان مفارق كليا، وعلى جميع الأصعدة، والهوة العميقة بينه وبين الإنسان لا يمكن عبورها، أما الغنوصيون فيرون من خلال تجربتهم الباطنية، أن معرفة الإنسان في أعمق مستوياتها، هي في الآن نفسه معرفة الله، وأن الإلهي والإنساني متطابقان بشكل ما.
ومن ناحية ثانية فإن النصوص الغنوصية تتحدث عن «الوهم» و«الاستنارة» لا عن «الخطيئة» و«التوبة» كما هو حال النصوص الرسمية، ويسوع قد جاء إلى العالم كمعلم عرفان وكمرشد على طريق الاستنارة، ولم يأت ليفتدي العالم من الخطيئة الأصلية.
ومن ناحية ثالثة، يؤمن القويمون بأن يسوع هو رب، وابن لله بطريقة فريدة لن تتكرر؛ ولذا فإنه يبقى متميزا عن بقية البشر، أما الغنوصيون فيعتقدون بأن كل عارف قادر على التحول إلى «مسيح»، بعد أن يقطع شوطا على طريق العرفان، فقد قال يسوع لتوما عندما ناداه يا معلم: «لست معلمك؛ لأنك شربت وسكرت من النبع الفوار الذي سكبته» (الفقرة 13)، وهكذا يبدو لنا مسيح الغنوصية أقرب إلى بوذا الديانات الشرق أقصوية منه إلى يسوع الناصري، الذي صلب ليحقق الرابطة المفقودة بين الله والناس.
لم توضع نصوص مكتبة نجع حمادي بين أيدي الباحثين عقب اكتشافها مباشرة، وذلك لعدة أسباب، فقد استغرقت عملية مصادرة المجلدات من قبل السلطات المصرية عدة سنوات، ولم تستطع وضع يدها على المجموعة كاملة إلا في عام 1952م. بعد ذلك لم تكن إدارة المتحف القبطي بالقاهرة كريمة في السماح للباحثين بالاطلاع على المخطوطات ودراستها، والقلة التي سمح لها بذلك مارست احتكارا على ما أودع بين يديها، ولم يسمح أفرادها للباحثين الآخرين مشاركتهم، لما يمكن أن ينجم عن نسخها ونشرها وترجمتها من شهرة أكاديمية، أخيرا، وبضغط وإلحاح عدد من الباحثين الأوروبيين، تدخلت منظمة اليونسكو العالمية لدى السلطات المصرية، ودفعت قدما عملية نشر صور فوتوغرافية للمخطوطات، فصدر المجلد الأول منها عام 1972م، ثم صدرت تسعة مجلدات أخرى تباعا حتى عام 1977م، وفي عام 1978م صدرت الترجمة الكاملة لمكتبة نجع حمادي باللغة الإنجليزية بإشراف وتحرير الباحث الأمريكي جيمس م. روبنسون ومشاركة عدد من الباحثين العالميين.
1 (1) مصادر معلوماتنا عن الغنوصية
حتى وقت متأخر من العصور الحديثة كانت مصادر معلوماتنا عن الغنوصية وأهلها، تقتصر على ما أورده عنها آباء الكنيسة الأوائل من خصوم الغنوصية، والمدافعين عن الإيمان المسيحي القويم في وجه الهراطقة، وهذا ما قاد إلى رسم صورة مهتزة للغنوصية، بعد تمحيصها وإظهار مثالبها من قبل خصومها، فقد اتهم الغنوصيون بتشويه العقيدة المسيحية والارتداد إلى مواقع وثنية، كما اتهموا بالخداع والتزوير والسحر، وجرت متابعة أصولها إلى الشيطان نفسه ، الذي يعمل جاهدا على تقويض الكنيسة، وقد قاد هذا النشاط المحموم في النهاية إلى اختفاء الجماعات الغنوصية، وإلى تدمير ميراثها الفكري، ومع ذلك فقد حفظ لنا هؤلاء المدافعون عن الإيمان القويم نبذة عن العقائد الغنوصية ومقتبسات لا بأس بها من نصوصهم الأصلية، التي ثبت لنا اليوم صحتها ودقة مقتبسيها وأمانتهم في نقلها لنا، على الرغم من أنهم ما أوردوها إلا لغرض نقدها ودحضها وإظهار زيفها.
يعد كتاب الأسقف إيرنايوس، أسقف ليون المعروف بعنوانه اللاتيني المصغر
Adversus Haereses ، أي «ضد الهرطقات » أقدم وأشمل وثيقة وصلت إلينا في دحض العقيدة الغنوصية، وقد ظهر الكتاب بعد عام 177م في خمسة مجلدات، في المجلد الأول عرض المؤلف المذهب الفالنتيني ودحضه، ثم تعرض في المجلدات الباقية للمذاهب الغنوصية الأخرى، فأظهر بطلانها، وتابع أصولها إلى سمعان ماجوس السامري، ومن كتاب إيرنايوس هذا، نعرف للمرة الأولى عن نص غنوصي بعنوان «إنجيل الحقيقة»، وآخر بعنوان «كتاب يوحنا السري»، وكلاهما عثر عليهما في مكتبة نجع حمادي.
2
بعد نحو خمسين عاما كتب مفكر مسيحي آخر هو الأسقف هيبوليتوس في روما مؤلفا موسوعيا شبيها تحت عنوان «دحض كل الهرطقات»، يتكون من عدة مجلدات، وتتوزع موضوعاته على قسمين: في القسم الأول عالج المؤلف ضلالات الإغريق والفلاسفة والمجوس والمنجمين وأهل عبادات الأسرار، أما في القسم الثاني فقد قدم توصيفا لمعتقدات وممارسات ثلاث وثلاثين بدعة غنوصية، خلف هذا التقسيم تكمن رؤية هيبوليتوس الخاصة إلى الغنوصية باعتبارها نتاجا فكريا يونانيا ووثنيا، لا نتاجا مسيحيا، وهو يؤكد بشكل خاص على أن الغنوصيين قد اعتمدوا الفلسفة اليونانية وشوهوها لكي تخدم أغراضهم.
وصل الجدل بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية ذروته خلال الفترة الممتدة بين عام 150 وعام 250م، وإلى هذه الفترة ترجع أعمال مؤلفين آخرين في الرد على الغنوصية وإظهار زيفها، وهم تورتوليان وكليمانت الإسكندري وأوريجين، وضع تورتوليان وهو أول الآباء اللاتين، مؤلفه في إقامة الحجة على الهراطقة نحو عام 200م، ولكن كتابه هذا لا يعطي الكثير من المعلومات الموثقة عن الغنوصية بقدر ما يركز الاهتمام على المعتقد القويم ويظهر تفوقه . فالمعتقد القويم يستند إلى تعاليم يسوع المسيح وتعاليم الرسل وهي أقدم من تعاليم الغنوصية، وهذا القدم وحده كفيل برد الفكر الغنوصي إلى الهرطقة اللاحقة باعتباره تحريفا وتزييفا للتعاليم الأصلية، وهو يرى، مثل هيبوليتوس، أن المعتقدات الغنوصية تقوم على الفلسفة الوثنية بالدرجة الأولى، ولكنها بالنتيجة فكر توفيقي هابط وعدمي حافزه الشيطان.
يقف اللاهوتيان الإسكندرانيان كليمنت وأوريجين على الطرف النقيض من تورتوليان في موقفه من الغنوصية؛ لأنهما ينطلقان من النظرة الجدية إلى العقائد الغنوصية، ويحاولان إيجاد الروابط بينها وبين العقيدة القويمة، الأمر الذي جعلهما يقفان على حافة الهرطقة، عاش كليمنت الإسكندري بين عام 140 أو 150م، وعام 211 أو 215م، وكان أكثر آباء الكنيسة ثقافة واطلاعا، وقد ميز في مؤلفاته بين الغنوصية الوثنية الزائفة والهرطوقية وبين الغنوصية المسيحية التي تسعى إلى معرفة الله والكمال الأخلاقي، وهو في استخدامه الوعي لمفهوم الغنوص المسيحي باعتباره معرفة الحقيقة يعمل على ردم الهوة بين الموقف القويم الذي يستند إلى «الإيمان» والموقف الغنوصي الذي ينطلق من «العرفان» بدلا من البقاء، مثل سابقيه، في الحلقة المفرغة لدحض الغنوصية وإظهار زيفها، أما أوريجين فيقف من ناحيته موقفا مشابها لكليمنت، فهو على الرغم من معارضته للغنوصية بشكل عام، إلا أنه يطرح أفكارا تقربه منها إلى حد بعيد، مثل تفضيله للعرفان على الإيمان الساذج، وقوله بمبدأ الوجود المسبق للروح وسقوطها في المادة ثم عودتها إلى الله، وفي واحد من مؤلفاته التي ضاع معظمها، يعمل على تفسير إنجيل يوحنا ويعرض تأويلاته الغنوصية له، وهو في استخدامه منهج معارضيه في البحث عن المعاني الباطنية للنص المقدس، إنما يسعى إلى صياغة تفسيرات ترضي الكنيسة من جهة، وتكشف عن الأساس «القويم» الذي تقوم عليه الهرطقة الغنوصية من جهة أخرى.
في العقود الأولى من القرن الرابع الميلادي ظهر أول مؤلف في تاريخ الكنيسة، أعده أوزيب القيصاري، الذي جمع فيه مادة غنية مقتبسة من مؤلفات سابقيه من نقاد الغنوصية، لا من الأعمال الغنوصية الأصلية، ومع ذلك فإن هذا الكتاب يتمتع بأهمية خاصة لأنه حفظ لنا مقتبسات من مؤلفات فقدت أو فقد بعض أجزائها فيما بعد، ومن هنا تأتي أهميته بالنسبة إلى دارسي الغنوصية اللاحقين.
في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي نشط إبيفانوس السلاميسي أسقف قبرص، وهو من أصل فلسطيني، لقد أعاد أبيفانوس حركة الجدل مع الهراطقة إلى ذروتها مرة أخرى، من أعماله المشهورة كتاب «صندوق النطاسي» الذي ظهر نحو عام 374م، وتقوم فكرته الرئيسية على أن الغنوصيين وغيرهم من الهراطقة هم سلالة من الزواحف والأفاعى السامة تنفث السم الزعاف في نقاء الإيمان القويم، وأن كتابه يقدم الترياق لكل من أصابته لدغات هؤلاء الهراطقة ليعيدهم إلى الحياة المسيحية مرة أخرى، ولقد عدد في كتابه هذا نحو ثمانين حركة هرطوقية، عشرون منها ما قبل مسيحية، والستون الباقية هرطقات مسيحية، وغنوصية في معظمها، كان أبيفانوس متعصبا بشكل أعمى، ومفتقدا إلى المنهجية العلمية التي ميزت أعمال سابقيه، ونظرا لولعه بالجمع أكثر من التحليل، فقد عني بإيراد أسماء جماعات هرطوقية كثيرة، ولم يلق الضوء إلا على بعضها نظرا لقصور معلوماته بخصوصها، الأمر الذي دفعه غالبا إلى ابتكار المعلومات غير الموثقة واللجوء إلى مصادر مشكوك بأمرها.
في سياق القرن الرابع الميلادي توقف الفكر الغنوصي عن النشاط، وتشتت أتباع الجماعات الغنوصية المسيحية، ومع ذلك، فإن نشاط آباء الكنيسة في مقارعة الهرطقة لم يهدأ. من هؤلاء نذكر أفرام السرياني من الرها (306-373م) وأوغسطين (354-430م) ويوحنا الدمشقي (675-749م)، وثيودور بارقونيا المؤلف السرياني الذي ألقى في كتابه (
Scholia ) الأضواء على أواخر الحركات الغنوصية في المنطقة الشرقية، ومنهم المندائيون في جنوب العراق.
حتى وقت متقدم من العصور الحديثة لم يتوفر بين أيدي الباحثين في الغنوصية، غير تلك المقتبسات التي أوردها آباء الكنيسة في معرض جدلهم مع الغنوصيين ودحضهم لمعتقداتهم، ولكن كل هذه المقتبسات إذا جمعت معا لا تملأ اليوم أكثر من خمسين صفحة مطبوعة، على الرغم من آلاف الصفحات التي أنتجها الفكر الغنوصي في فترة نشاطه بين القرن الثاني والقرن الثالث الميلاديين، غير أن نصوصا غنوصية أصلية بدأت تظهر تباعا وضمن ظروف متنوعة.
كانت «المجموعة الهرمزية» أولى النصوص الغنوصية التي ظهرت في العصر الحديث، وعلى الرغم من أن هذه الكتابات لا تنتمي إلى المسيحية الغنوصية، إلا أنها تعد اليوم نوعا من الغنوصية المبكرة التي شكلت أحد الروافد الرئيسية للفكر الغنوصي المسيحي، كتبت هذه النصوص الثمانية عشر في مطلع العصر المسيحي باللغة اليونانية في الإسكندرية، وهي تنسب إلى شخصية ميثولوجية هي هرمز المثلث العظمة، وهو شكل إغريقي توفيقي لإله الحكمة المصري القديم تحوت، وعلى الرغم من أنها اعتبرت في البداية من إنتاج حكيم مصري هيلينستي، إلا أنها تمثل في الواقع اتجاها دينيا سرانيا خاصا ساهم في صياغته عدد من المؤلفين. يظهر في أهم هذه النصوص، وهو بعنوان بيوماندريس، عدد من الأفكار المؤسسة للغنوصية، وأهمها النظرة الثنوية إلى الحياة، حيث يمثل الجسد كل ما هو مظلم ومادي وفان، ويمثل العقل كل ما هو نوراني وحقيقي وخالد، وهو الذي يقود في النهاية إلى الخلاص، ويجسد سعي الروح إلى الانعتاق من سجن المادة عن طريق العرفان، ودعوتها إلى العوالم النورانية، إلى الله الذي تدعوه هذه النصوص بالأب الكلي، أو أبو الكل، ترجمت المجموعة الهرمزية إلى اللاتينية عام 1463م، ومارست تأثيرا واضحا على فكر عصر النهضة في إيطاليا، ثم ظهرت تباعا في لغات أوروبية متعددة وصولا إلى القرن العشرين.
ابتداء من القرن الثامن عشر بدأ عدد من النصوص الغنوصية الأصلية بالظهور، معظمها بالقبطية أو السريانية وبعضها باليونانية، منها نص
(الحكمة - الإيمان)، وفيه نجد المسيح يبسط أمام تلاميذه من الرجال والنساء المفاهيم المتعلقة باحتباس النور في عالم الظلام ثم تحريره، وذلك من خلال أسطورة سقوط الإلهة صوفيا من عالم الأنوار واستعادتها إليه ثانية، ومنها كتاب «اللوغوس السري العظيم»
Book of the Great Mysterious Logos
الذي يحتوي على رسالتين معروفتين بعنوان:
The Two Books of Jeu ، وفيهما يشرح المسيح القائم من بين الأموات لتلاميذه أسرار العالم النوراني الأعلى، وأيضا «إنجيل مريم المجدلية» و«كتاب يوحنا السري» و«حكمة يسوع المسيح»، وهذه النصوص الثلاثة ظهرت فيما بعد ضمن مكتبة نجع حمادي، وأيضا «تراتيل سليمان»
The Odes of Solomon ، وهي أشبه بمزامير العهد القديم وأيضا «ترتيلة اللؤلؤة»
The Hymn of the Pearl ، وهي تعد من عيون الشعر الغنوصي الراقي ، وأيضا «أعمال الرسل» من وجهة نظر غنوصية، يضاف إلى ذلك الكتب الدينية للفرقة المندائية التي لا تزال تعيش في جنوب العراق، وهي سليلة الغنوصية المشرقية القديمة، وقد نشر بعض هذه الكتب وترجم في سياق القرن التاسع عشر.
اعتمادا على هذه المصادر المتوفرة عن الغنوصية قبل اكتشاف مكتبة نجع حمادي، بدأت سلسلة من المفكرين والباحثين الغربيين، وبخاصة الألمان منهم، باستقصاء نزيه وحر للحركة الغنوصية عبر التاريخ ابتدأت بجوتفريد أرنولد
Gottfried Arnold
الذي وضع كتابا في عام 1699م، وقدم فيه جدالا مفاده أن تاريخ الكنيسة المسيحية يجب أن يتوسع ليشمل الحركات الغنوصية التي رفدت الفكر المسيحي بمادة غنية لا يتوجب إهمالها، وانتهت هذه السلسلة من المفكرين بالفيلسوف هانز جوناس
Hans Jonas
وهو من تلاميذ الفيلسوف الألماني هايدجر، والذي نشر في عام 1958م كتابه المعنون «الديانة الغنوصية» الذي يعد ذروة البحث الفكري الغربي في الغنوصية قبل اكتشاف مكتبة نجع حمادي وما زالت قراءته مفيدة حتى الآن.
بعد ترجمة ونشر نصوص نجع حمادي، كان هناك العديد من المساهمات على جانبي الأطلسي، ولكن أهمها في اعتقادي هو كتاب مؤرخ الأديان الألماني كورت رودلف
Kurt Rudolf
الصادر عام 1977م بالألمانية، والذي ترجم إلى الإنجليزية عام 1987م تحت عنوان «الغنوص، دراسة في طبيعة وتاريخ الغنوصية»
The Nature and History of Gnosticism, Gnosis . (2) الخطوط العامة للعقيدة الغنوصية
في الحديث عن «العقيدة الغنوصية» يجب على القارئ ألا يتوقع العثور على ما يشبه قانون الإيمان المسيحي كما صاغته الكنيسة القويمة، ولا على دوغما ثابتة ونهائية. ذلك أن تعدد المدارس الغنوصية، وتوكيد المعلمين الغنوصيين على حرية الإبداع والتعبير، وعدم فرض القيود على التأملات اللاهوتية طالما بقيت ضمن الإطار العام للرؤية الغنوصية للعالم، قد قاد إلى خلق اتجاهات فكرية غنوصية لم تنتظم أبدا ضمن كنيسة واحدة ذات هيكلية مراتبية، وعقيدة منمطة يعد الإخلال بواحدة من بنودها هرطقة وخروجا عن الإيمان القويم، ومع ذلك فإن هذه الاتجاهات الفكرية لم تتصارع ولم تستبعد بعضها بعضا، ولم يعد أي منها نفسه بمثابة القيم الوحيد على الإيمان الغنوصي، بل تعاونت وأغنت بعضها بعضا، ووجدت في التنوع إغناء للفكر لا تشتيتا له.
ولهذا؛ فإن المسيحية الغنوصية لم تنتج نصا مقدسا أو مجموعة نصوصية مقدسة، على طريقة المسيحية القويمة، وإنما نظرت إلى نصوصها باعتبارها تنويعات على خلفية الحقيقة الكلانية الخافية، التي لا يمكن إدراكها إلا من تعبيرات رمزية، تعين المريد في تجربته الروحية الخاصة التي تقوده نحو الانعتاق، وهذه التعبيرات الرمزية لم تجد ضيرا في الاستعارة من التقاليد الدينية والفلسفية السابقة عليها، واستخدامها بطريقة تسبغ عليها قيمة جديدة وتعطيها بعدا روحيا مختلفا.
إن الإطلالة الأولى على النصوص الغنوصية من شأنها توليد القنوط في نفس الباحث من إمكانية التوصل إلى صياغة مطردة ومنسجمة للفكر الغنوصي، ولكن البحث المتعمق فيها ما يلبث حتى يكتشف عددا من النواظم المشتركة والأفكار الرئيسية المتكررة التي من شأنها جمع شتات التصورات الغنوصية في بنية واحدة، بصرف النظر عن تعدد المدارس والتباين الظاهري لأفكار كبار المعلمين الغنوصيين، مما سوف نبسطه فيما يلي:
يقع مفهوم «الغنوص» أو «العرفان» في بؤرة عقائد وممارسات الغنوصيين. و«الغنوص» كلمة يونانية تدل على المعرفة بشكل عام
Gnosis ، ولها أشباه في عدد من اللغات الهند-أوروبية مشتقة من الجذر نفسه، مثل الكلمة السنسكريتية «جنانا»
Jnana ، والكلمة الإنجليزية
Know
بمعنى يعرف، و
Knowledge
بمعنى معرفة، ولكن المعرفة التي يسعى إليها الغنوصي ليست مما يمكن اكتسابه بإعمال العقل المنطقي وقرءاة الكتب وإجراء التجارب والاختبارات، وإنما هي فعالية روحية داخلية تقود إلى اكتشاف الشرط الإنساني، وإلى معرفة النفس، ومعرفة الله الحي ذوقا وكشفا وإلهاما.
هذه المعرفة هي الكفيلة بتحرير الروح الحبيسة في إطار الجسد المادي والعالم المادي الأوسع؛ لتعود إلى العالم النوراني الذي صدرت عنه، فالروح الإنسانية هي قبس من روح الله، وشرارة من نور الأعالي وقعت في ظلمة المادة، ونسيت أصلها ومصدرها، والإنسان في هذه الحياة أشبه بالجاهل أو الغافل أو النائم أو السكران. ولكن في أعماق ذاته هنالك دوما دعوة إلى الصحو عليه أن ينصت لها، ويشرع في رحلة المعرفة التي تحوله من نفس حيوانية أسيرة لرغبات وشهوات الجسد، إلى نفس عارفة أدركت روابطها الإلهية وتهيأت للانعتاق الذي يعود بها إلى ديارها، وعلى الرغم من أن هذه الدعوة إلى الصحو موجودة بشكل خافت لدى النفوس الغافلة، فإنها سمعت مثل دوي الرعد من فم المخلص الذي هبط من نور الأعالي وتجسد في يسوع الناصري.
ولكن الله الذي يبحث عنه الغنوصي في أعماق ذاته ليس الإله الذي صنع هذا العالم المادي الناقص والمليء بالألم والشر والموت، بل هو الأب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصف أو يحيط به اسم، وهو الذي وصفه كتاب يوحنا السري بالكلمات التالية: «الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره، البداية التي لم تسبقها بداية، بلا حدود ولا أبعاد لعدم حدوث شيء قبله يحدده ويقيس أبعاده، خفي لم يره أحد، بلا أوصاف لأن أحدا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم، لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم، قائم في نفسه ولنفسه وراء الوجود ووراء الزمن»،
3
إن ما يميز المسيحية الغنوصية عن المسيحية القويمة هو أن عالم المادة المرئي ليس من صنع الله، وإنما من صنع إله أدنى هو إله اليهود، الذي يوازي أنجرا مانيو شيطان الزرادشتية. تتصوره الأدبيات الغنوصية على شكل مسخ، مزيج من هيئة الأفعى وهيئة الأسد، وله عينان تشبهان جمرتين من نار، يجلس على عرش يحيط به معاونوه من قوى الظلام المدعوون بالأراكنة (مفردها أركون، أي حاكم باللغة اليونانية)، يدعى بالاسم «يهوه» وبالاسم «يلدابوث»، ويلقب ب «سكلاس» أي الأحمق، وب «سمائيل» أي الأعمى، وب «الديميرج» أي الإله الصانع باللغة اليونانية (
Demiourgos ) أي الأعمى، وعلى الرغم من أن هذا الإله قد صنع الإنسان من مادة الأرض الظلامية نفسها، إلا أنه أخذ روحه من نور الأعالي المسروق وحبسها في قوقعة الجسد، ولكي يبقيه في حجب الجهل فقد فرض عليه الشريعة التي تشغله عن نفسه وعن اكتشاف الجوهر الحقيقي للروح.
إن مثل هذه التصورات تضع الغنوصية في زمرة العقائد الدينية الثنوية، وهي التي تقول بوجود مبدأين، أو أصلين متناقضين، وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ، وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن ويسير بالعالم وبالإنسانية نحو نهاية التاريخ عبر ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة، قبل أن يعدو مبدأ الشر على مبدأ الخير، والمرحلة الثانية هي مرحلة الامتزاج عندما عدا مبدأ الشر على مبدأ الخير، فدخل في نسيج الخليقة فأفسدها، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائيا على مبدأ الشر؛ ليعود العالم طيبا ونقيا وكاملا كما كان في البدايات، هذا النوع من الثنوية أدعوه بالثنوية الكونية؛ لأن التعارض بين المبدأين يطال الكون بأسره، وهنالك نوع معتدل من الثنوية أدعوه بالثنوية الأخلاقية، لأن صراع الخير والشر لا ينسحب على الكون بأسره، بل يقتصر على المجتمعات الإنسانية، والشيطان فيها لا سلطة له إلا على النفس الإنسانية، التي يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله، ونجد النموذج الأوضح عن هذه الثنوية الأخلاقية في المسيحية القويمة وفي الإسلام، أما النموذج الأوضح عن الثنوية الكونية فنجده في العقيدة الزرادشتية، التي صاغها زرادشت المولود نحو عام 900ق.م. على ما يرجحه معظم الباحثين اليوم.
تقول التعاليم الأصلية لزرادشت إنه في البدء لم يكن سوى الله الذي يدعوه «أهورا مزدا»، وجود أزلي سرمدي، وألوهة قائمة بذاتها مكتفية بنفسها عما عداها، ثم إن هذه الألوهة اختارت الخروج من كمونها والظهور فيما سواها، فصدر عنها روحان توأمان هما «سبينتا مانيو» و«أنجرا مانيو»، وقد وهبهما الله منذ البداية أهم خصيصة تميز استقلالهما عن مصدرهما، هي خصيصة الحرية. ومنذ البداية أيضا استخدم هذان الروحان حريتهما، فاختار الأول الخير، ومنه جاء اسم سبينتا مانيو، أي الروح المقدس، واختار الثاني الشر، ومنه جاء اسم أنجرا مانيو أي الروح الخبيث، بعد هذا الخيار الأخلاقي للتوأمين، كان لا بد من تعارضهما وتصادمهما ودخولهما في صراع، لقد كان الله قادرا على محق الشر في مهده، ولكنه قرر عدم التناقض مع نفسه، والسير بخطته التي تقوم على الحرية إلى آخرها، فعمد بمشاركة الروح المقدس سبينتا مانيو إلى إظهار ستة كائنات قدسية إلى الوجود تدعى بالأميشا سبينتا أي المقدسون الخالدون، ليستعين بها على مقاومة الروح الخبيث أنجرا مانيو، فشكلت مع سبينتا مانيو بطانته الخاصة التي تحيط به على الدوام وتعكس مجده، ثم شرع بعد ذلك، وبمعونة هؤلاء المقدسين الخالدين بخلق العالم، وصار الأميشا سبينتا حافظين لخلق الله ووسطاء بينه وبين العالم، ثم إن هؤلاء قد أظهروا إلى الوجود عددا من الكائنات القدسية الطيبة المدعوة بالأهورا، وراح الجميع يكافحون الشر، كل في مجاله.
لقد خلق أهورا مزدا العالم المادي على ست مراحل، وكان الإنسان آخر ما خلق في المرحلة السادسة (قارن مع سفر التكوين: 1 و2). خلق الله العالم والإنسان في أحسن تكوين، وكان هذا الخلق الطيب والحسن بداية للصراع الحقيقي بين الخير والشر، فقد استنفر الشيطان وأعوانه كل قواته لمهاجمة خلق الله وتشويهه، فزرعوا كل نقيصة في الخلق الطيب، وزينوا للإنسان كل خطيئة، وجففوا المساحات الخضراء وصنعوا الصحارى، ونشفوا الينابيع، وأفسدوا ماء البحر بالملح، وبثوا في الأرض الأفاعي السامة والعقارب وكل دابة مؤذية، وعلى الرغم من أن الأميشا سبينتا قد تصدوا للهجوم وباشروا بإصلاح ما خربه الشيطان، فإن العالم لن يعود إلى سابق عهده من النقاء، إلا بعد كفاح طويل يلعب فيه الإنسان دورا مركزيا، عندما يعي مسئولياته الخلقية ويدعم قوى الخير بفكره وقوله وفعله، وبدون عون الإنسان لن يتم حسم هذا الصراع الكوني، ودفع التاريخ إلى نهايته، عندما تتم تنقية الوجود المادي والروحاني مما داخلهما من خبث الشيطان، وقد ابتدأت هذه المرحلة الأخيرة بميلاد زرادشت، وتأتي إلى خاتمتها بميلاد المخلص المدعو ساوشنياط، الذي يقود المعركة الأخيرة الفاصلة بين قوى النور وقوى الظلام، ويقضي على الشيطان وأتباعه، عند ذلك يتطهر العالم ويعود إلى كمال البدايات، ليعيش فيه المؤمنون حياة أبدية بعد أن يسقوا شراب الخلود.
4
تقوم العقيدة الثنوية الزرادشتية بشكل أساسي على فكرة توكيد العالم وتمجيد الحياة الإنسانية، فالعالم من خلق الله، وهو طيب وحسن من حيث الأصل كما أراد له خالقه أن يكون، وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان فعندما خلق الله الزوجين الأولين قال لهما: «أنتم الإنسان، وأنتم سلف البشرية، خلقتما كاملين، فحافظا على الفكر الحسن والكلمة الحسنة والعمل الحسن، ولا تخضعا للشيطان.» من هنا، فإن فساد العالم ليس خصيصة أصلية فيه، وإنما هو أمر طارئ من صنع الشيطان، وخلاص الإنسان لن يتأتى من خلال إدارة ظهره للعالم والهروب منه، وإنما من خلال الانغماس فيه حتى النهاية بوعي كامل لمسئولياته الأخلاقية، وانخراط كامل في عون القوى الإلهية الخيرة على قهر قوى الشر، وهنا يكمن الفارق الأساسي بين الثنوية الزرادشتية والثنوية الغنوصية، ففي مقابل توكيد الزرادشتية على العالم، فإن الغنوصية تنفي العالم؛ لأنه ليس من صنع الله الكامل وإنما من صنع الإله الديميرج الجاهل والناقص، الذي صنع من المادة الظلامية عالما كله فساد وخداع وموت وآلام، ومن هذه المادة الظلامية نفسها صنع جسد الإنسان، إن الإله الزرادشتي، على علوه وتنزيهه، منغمس في شئون العالم والإنسان، شأنه في ذلك شأن نقيضه أنجرا مانيو، وهو الذي يوجه حركة التاريخ نحو النهاية السعيدة المنشودة، أما الإله الغنوصي فمتعال على كل ما يجري في العالم المادي، ولكنه مع ذلك حريص على خلاص الإنسان من سجن المادة؛ لأن البشرية هي العنصر الوحيد في هذا العالم الذي ينطوي على قبس من نور الأعالي ينبغي تحريره وعودته إلى أصله السماوي، ومسئولية هذا التحرير تقع بالدرجة الأولى على عاتق الإنسان نفسه. الله ينادي الإنسان، وما على الإنسان إلا أن يتلمس هذه الدعوة في أعماق نفسه، ويصحو على حقيقة شرطه، ذلك أن الإنسان ليس خاضعا بكليته إلى إله هذا العالم، وإنما بجسده فقط الذي صنع من مادة العالم، أما في جزئه الأنبل والأسمى، وهو الروح، فحر وقادر على تخطي شرطه الأرضي من خلال فعالية العرفان.
هذه الثنوية التي تقسم الوجود إلى مجال نوراني علوي ومجال ظلامي سفلي لا صلة بينهما، ولا حتى صراع على الرغم من تناقضهما، تجعل من الإنسان كائنا موزعا بشكل تراجيدي بين عالم ناقص لا يمكن إصلاحه يشكل موطنه المؤقت والعارض، وعالم كامل يشكل موطنه الأصلي الحقيقي، كما تجعل من الغنوصية مذهبا تشاؤميا تتجلى ثنويته بشكل رئيسي في الإنسان الذي تجتمع عنده قوى النور وقوى الظلام، وتسيطر عليه الشهوات والرغبات التي تبقيه في حجب الجهل والنوم والغفلة، وتجعل من قلبه مقرا للقوى الشيطانية التي تدفعه إلى المطابقة بينه وبين جسده الظلامي، وتباعد بينه وبين بذرة النور المزروعة في داخله، وبما أن العالم محكوم عليه باللعنة ولا سبيل إلى إصلاحه، فإن الوسيلة الوحيدة للخلاص منه ومن دورة تناسخ الأرواح، هي الهروب من العالم ورفضه، وكبح جماح شهوات ورغبات الجسد الذي يشكل قبرا للروح في الحياة، إن رحلة الخلاص تبتدئ عندما ينصت الفرد إلى النداء الأصلي الذي يرن في أعماقه، وإلى نداء المسيح المخلص الذي هبط من العالم النوراني ليرشد إلى طريق العرفان.
أما كيف تم احتباس بذرة النور العلوي في الجسد الإنساني، فسؤال تجيب عنه نظرية التكوين الغنوصية التي تحكي عن أصل الديميرج، وكيف ظهر إلى الوجود وصنع العالم السفلي والإنسان، وذلك من خلال عملية سقوط جرت في عالم الألوهة، فمنذ الأزل لم يكن سوى الأب النوراني الأعلى القائم بذاته المكتفي بنفسه، ثم إن هذه الألوهة فاضت وأنتجت أفلاك قوى روحانية تحيط بالأب وتعكس مجده، هي الأيونات، ومفردها أيون
Aeon
وتعني باللغة اليونانية دهرا أو عصرا، ولكنها في الميثولوجيا الغنوصية تدل على فلك قوة روحانية، يقع في نقطة الوسط بين الفكرة والشخصية، وقد اكتملت حلقات الفيض بالفلك المؤنث المدعو صوفيا (= الحكمة)، واستقر العالم النوراني الأعلى المدعو ب
، وهي كلمة يونانية يمكننا ترجمتها بالملء أو التمام أو الكمال، وببعض الحرية يمكننا ترجمتها ب «الملأ الأعلى»، يتكون هذا العالم النوراني من ثلاثين أيونا تختتمها صوفيا، التي حدث عندها ذلك الصدع في عالم الألوهة، والذي أدى إلى ظهور العالم المادي، والقوى الشيطانية، نتيجة خلل في الهارموني حدث عند الأطراف الخارجية للملأ الأعلى.
ويبدو أن هذه الألوهة المؤنثة، ذات الصلة بظهور العالم المادي، والمدعوة صوفيا (أي الحكمة)، قد نفذت إلى الأدبيات الغنوصية عن طريق سفر الحكمة، وسفر الأمثال في العهد القديم، نقرأ في سفر الحكمة 9: 9: «إن معك الحكمة العليمة بأعمالك، والتي كانت حاضرة إذ صنعت العالم ، وهي عارفة ما المرضي في عينك، والمستقيم في وصاياك.» ونقرأ في سفر الأمثال 8 عن الحكمة بلسانها: «الرب حازني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض؛ إذ لم يكن غمر أبدئت؛ إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه، من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أبدئت، إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة، لما ثبت السموات كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر، لما أثبت السحب من فوق، لما تشددت ينابيع الغمر، لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه ، لما رسم أسس الأرض، كنت عنده صانعا، وكنت كل يوم فرحة دائما قدامه.»
وقد استلهم سمعان ماجوس السامري، وهو مؤسس المدرسة الغنوصية السورية في أواسط القرن الأول الميلادي، مفهوم «صوفيا» هذا واستخدمه في تطوير نظريته في أصل الكون، فقد كانت صوفيا في نظامه الميثولوجي زوجة الأب الأعلى، وتدعى أيضا «إنويا» الفكرة الأولى، وأيضا «الروح القدس» أم الجميع، ولكن صوفيا هبطت إلى المجال الأسفل وأعطت الميلاد لمجموعة من الملائكة (= أراكنة) الذين صنعوا العالم المادي، ثم صارت أسيرة لهم بعد ذلك، ولا تستطيع العودة إلى المجال العلوي، وللمبالغة في تقييدها، فقد أجبرت على التناسخ في أجساد أنثوية بشرية، منها هيلين الطروادية المعروفة في ملاحم الإغريق، حتى ظهر سمعان ماجوس، الذي اعتبر نفسه ظل الله على الأرض، ومخلصا للإنسانية فحررها من قيودها.
5
في مكتبة نجع حمادي لدينا ثلاثة نصوص أساسية في التكوين وأصل العالم والإنسان، هي كتاب يوحنا السري المدعو أيضا بمنحول يوحنا، ونصان آخران لم يذكر اسم مؤلفيهما، هما «حول أصل العالم» و«طبيعة الأراكنة»، إضافة إلى إشارات متفرقة وردت في «إنجيل فيليب» و«إنجيل الحقيقة» وغيرهما، وجميعها تعطف على قصة التكوين التوراتية، وتقدم تفسيراتها الخاصة لها من وجهة نظر غنوصية، مستخدمة ميثولوجيا على غاية من التعقيد والتركيب. ولسوف أعمد فيما يلي إلى تقديم عرض مبسط لنظرية التكوين الغنوصية، اعتمادا على منحول يوحنا بشكل رئيسي.
6
يبتدئ النص بالمقدمة التالية: «هذه تعاليم المخلص، ووحيه بخصوص الأسرار والمسائل الخفية وراء حجاب الصمت، وكل ما نقله إلى تلميذه يوحنا.
فلقد حدث في أحد الأيام (بعد صلب المخلص) أن يوحنا أخا يعقوب، وهما ابنا زبدي، صعد إلى الهيكل، فاقترب منه فريسي اسمه أريمانيوس، وقال له: أين هو معلمك الذي سرت وراءه؟ فقال يوحنا: لقد عاد إلى المكان الذي جاء منه، فقال الفريسي: لقد خدعكم هذا الناصري، وملأ آذانكم بالأكاذيب، وقسى قلوبكم، وحرفكم عن سنة آبائكم، عندما سمعت، أنا يوحنا، هذه الأقوال، توليت عن الهيكل ومضيت إلى الجبل، فانتجعت مكانا قفرا، وقد انتابتني كآبة عميقة، قلت في نفسي: كيف تم اختيار المخلص، ولماذا أرسله أبوه إلى العالم، ومن أبوه الذي أرسله وما طبيعة المكان الذي سنئول إليه؟ لقد قال لنا بأن ذلك المكان هو نسخة عن فلك الصمدية، دون أن يطلعنا على المزيد بخصوصه.
وبينما أنا على هذه الحال أتأمل في هذه المسائل، اهتزت الأرض وانشقت السماء، وشع نور ليس من هذا العالم أضاء كل شيء، فخفت وسقطت على الأرض، ثم تراءى لي في النور طفل واقف أمامي، وفيما أنا ناظر إليه تحول شكله إلى رجل عجوز، ثم تبدى لي في هيئة خادم، لم يكن أمامي عدة أشكال، وإنما شكل واحد بهيئات مختلفة تشف في النور من خلال بعضها بعضا، ثم سمعت صوتا صادرا عنه يقول: يوحنا، لماذا تشك ولماذا تخاف؟ أليس الذي تراه أمامك معروفا لك؟ لا تكن قليل الإيمان، فأنا معك دائما، أنا الأب وأنا الأم وأنا الابن، أنا الموجود السرمدي، جئت لأكشف لك حقيقة ما هو كائن، وما كان، والذي سيكون، فتعرف ما هو ظاهر للأعين، وما هو خاف عنها، وأطلعك على سر الإنسان الكامل، فارفع وجهك واسمع وتعلم ما أقوله لك اليوم لكي تنقله لأترابك من سلالة الإنسان الكامل القادرين على الفهم، وعندما سألت أن أتعلم، قال لي:
الروح كمال قائم بذاته، لا يحكم فوقه أحد، إنه الله الحقيقي أبو الجميع، الروح القدس الخفي الذي يهيمن على الكل، الواحد الموجود بصمديته، القائم بنوره، الذي لا تدركه الأبصار، الروح ليس إلها أو كائنا له صفات وخصائص محددة، بل هو أكثر من مجرد إله، هو البداية التي لم تسبقها بداية، ولم يكن لأحد وجود قبله ليحتاج إليه، الروح لا يحتاج الحياة لأنه سرمدي، ولا يطلب شيئا سواه لعدم وجود نقص فيه يتطلب التكميل، إنه وراء الكمال، إنه النور، بلا حدود ولا أبعاد، لعدم وجود شيء قبله يحدده ويقيس أبعاده، خفي لأن أحدا لم يره، قيوم وموجود أبدا، بلا أوصاف لأن أحدا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم، ليس واسعا وليس ضيقا، ليس كبيرا وليس صغيرا، ليس ماديا وليس معنويا، ليس كما وليس كيفا، ليس كيانا وليس بغير كيان، ليس زمنيا لأنه وراء الزمان، ليس موجودا لأنه وراء الوجود، قائم في نفسه ولنفسه.»
بعد ذلك يتابع الصوت تعليم يوحنا، فيشرح له كيفية صدور أفلاك القوى الروحانية (الأيونات) عن منبع النور الأسمى، كانت «الفكرة الأولى» أول الأيونات في الصدور، وتدعى باربيللو تلاها «المعرفة الأولى» ثم «الصمدية» (
Imperishability ) ثم «الحياة الخالدة» ثم «الحقيقة»، هذه هي أفلاك القوى الروحانية الخمس الأولى، والتي كانت مذكرة ومؤنثة في آن واحد.
ثم إن باربيللو، الفكرة الأولى، نظرت إلى أعماق النور العظيم، فحملت وأنجبت شرارة نور هي المولود البكر والابن الوحيد للنور الأعظم، المسيح المعمد بطيبة الروح الخفي الأعظم، فجعل سيدا لاثني عشر فلك قوة تتالت في الظهور، وصولا إلى الفك الأخير المدعو «صوفيا»، التي أقامت عند الأطراف البعيدة لعالم الأنوار الأعلى، ولقد ألحت على صوفيا رغبة عارمة في أن تعطي الميلاد لكائن يشبهها، ولكن رغبتها تلك لم تحظ بموافقة شريكها ولا بمباركة الروح الأعلى، ومع ذلك فإن رغبتها استعرت حتى شعت نحو الخارج، وأعطت الميلاد لكائن جهيض أشبه بالمسخ؛ لأنه ولد من دون موافقة الأب وتعاونه، فكان له شكل خليط من أسد وأفعى وعينان جمرتان من نار، فلما رأته صوفيا ذعرت وأبعدته عنها، ودعت اسمه «يلدابوث» وهذه الكلمة آرامية وتعني «منجب الجند »، هي تعادل لقب يهوه المتكرر في العهد القديم، وهو «رب الجنود» (راجع على سبيل المثال صموئيل الأول 4: 4، وصموئيل الثاني 6: 2). والجند هنا هم جند السماء، أي الكواكب، ولا صلة لهم بجند الجيوش العسكرية، ولكي لا يراه أحد من أهل الملأ الأعلى، صنعت صوفيا ليلدابوث عرشا وأخفته عن الأعين داخل سحابة من نور، فكان أول الأراكنة.
لقد ورث يلدابوث عن أمه قوة عظيمة، كما دخل في تكوينه بعض من نور الأعالي أيضا، ولكنه شعر بالقوة التي ورثها ولم يشعر بما فيه من نور، فخرج من المكان الذي أودعته فيه صوفيا، وصنع لنفسه فلكا ناريا أقام فيه ، فكان هذا الفلك أعلى طبقات العالم المادي الكثيف الذي سيظهر فيما بعد عن ظلمات جهل الأركون الأعظم. ثم إن يلدابوث دعا اثني عشر فلك قوة مادية إلى الظهور، سبعة أراكنة لحكم السموات وهي الكواكب السيارة، وخمسة أراكنة لحكم أعماق الجحيم، وأعطاها من قوته، ولكنه لم يعطهم مما فيه من نور لأنه جاهل به، ثم جعل لكل أركون طبقة من قوى الظلام لخدمته، تحتها طبقة أخرى، وتابع تنظيم هذه المراتبية «الملائكية» حتى بلغ أفرادها ثلاثمائة وستين قوة.
عندما نظر إله الجند إلى ما خلق من أفلاك قوة مادية، وإلى حشد الملائكة التي تأتمر بأمره، قال لهم: «أنا الرب ولا إله غيري، إله غيور.» وهو التعبير الذي استخدمه يهوه التوراتي في أكثر من موضع في العهد القديم: «لأني أنا الرب إلهك، إله غيور» (سفر الخروج 20: 5)، وأيضا: «لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو» (سفر الخروج 34: 14)، وأيضا: «لأن الرب إلهك نار آكلة، إنه غيور» (سفر التثنية 4: 24). وهنا يعقب نص منحول يوحنا على صرخة يهوه هذه بقوله إنها قد أوحت للأراكنة بوجود إله آخر؛ لأنه إذا لم يكن لإله آخر من وجود، فممن يغار إلههم إذا؟ بعد ذلك جاءه صوت من الأعالي قائلا: «أنت مخطئ يا سمائل (= الأعمى، أو إله العميان)؛ لأن إنسانا كاملا ومستنيرا قد وجد قبلك، ولسوف يأتي ويحل في جسد، فيحطم مملكتك كما تحطم الجرة الفخارية، ويحيل كل نقص إلى كمال.» ولم يعرف يلدابوث مصدر الصوت فظنه صادرا عن أمه صوفيا، التي لم يعتقد بوجود أحد فوقه غيرها. في هذه الأثناء كانت صوفيا تروح جيئة وذهابا عند الأطراف السفلية للعالم الروحاني الأعلى، بعد أن شعرت بخطيئتها وذنبها (إشارة إلى نص سفر التكوين 1: 2، حيث نقرأ: وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف فوق وجه المياه). راحت صوفيا تصلي للأب النوراني الأعلى، وتعرب عن ندمها وتوبتها، فاستجاب لها ولكنه لم يسمح لها بالعودة إلى فلكها، بل وضعها في مكان وسيط بين عالم الروح وعالم المادة، إلى أن تصحح نقصها وتستعيد كمالها.
ثم إن يلدابوث شرع بصنع السموات والأرض بكلمته الخالقة وبالقوة التي ورثها عن أمه، وبعد اكتمال عملية الخلق أطل الأب النوراني الأعلى في صورة الإنسان الكامل، فانعكس خياله على صفحة الماء، لما رأى الأركون الأعظم الصورة الإلهية مطبوعة على الماء لم يعرف مصدرها، ولكنه أعجب بها أشد الإعجاب، فدعا الأراكنة وقال لهم: «هلم نصنع الإنسان على الصورة التي رأيناها، ليخدمنا على الأرض» (إشارة إلى ما ورد في سفر التكوين 1: 26، حيث نقرأ: وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا)، وهكذا ابتدأ الأركون الأعظم ومساعدوه بصنع الكيان النفسي للإنسان، فصنعوا النفس العظمية، فالنفس اللحمية، فالنفس النخاعية، فالنفس الدموية، وشكلوا الأعضاء عضوا عضوا، وجمعوها إلى بعضها، حتى اكتمل الجسد على الهيئة التي تراءت لهم، فدعوا اسمه آدم، ولكن الهيئة بقيت مسجاة على الأرض بلا حراك؛ لأن آدم الذي صنعوه كان نفسا تفتقد إلى الروح، ولكن صوفيا التي كانت راغبة في استرجاع قوة الروح التي استمدها منها يلدابوث، تدخلت لدى الأب الأعلى ليمد يد العون إلى آدم، فأوحى الأب إلى يلدابوث، أن ينفخ في أنف آدم من روحه التي أخذها من أمه، فلما فعل انتقل النور الذي لم يكن يشعر به إلى آدم فصار نفسا حية، وبسبب النور الذي شع في داخله لن يكون آدم خاضعا كلية لسلطة حكام هذا العالم.
غار رؤساء الأراكنة من آدم بعد أن رأوا تفوقه عليهم ذكاء وفهما ومعرفة، فصنعوا قالبا من عناصر المادة الكثيفة، وهي الماء والتراب والنار والهواء، وحبسوا آدم فيه، فصار كائنا ماديا فانيا مثل بهائم البرية، ولكن قبس النور بقي في داخله، بعد ذلك أخذ يلدابوث آدم وأسكنه في الجنة، ثم صنع من جوهره امرأته حواء، وأمرهما أن يأكلا من كل ثمر الجنة عدا ثمرة شجرة المعرفة، وذلك خوفا من أن تتفتح أعينهما ويعرفا أصلهما النوراني في عالم الروح الأعلى، ولكن الأب النوراني أشفق على الإنسان، فأرسل رسولا من لدنه في هيئة الصقر، وقف على شجرة المعرفة وزين لهما الأكل منها. وفي نص غنوصي آخر هو: «طبيعة الأراكنة»
7
يلجأ المؤلف إلى استخدام عنصر الحية، الوارد في قصة التكوين التوراتية، فالرسول الذي يمثل مبدأ العرفان، يظهر للزوجين في هيئة الحية ويحرضهما على الأكل من ثمر الشجرة، ليتحرك العرفان الغنوصي في داخلهما. قالت الحية: أحقا قال لكما أن تأكلا من ثمر الشجر كله عدا ثمر شجرة معرفة الخير والشر؟ فقالت المرأة: ليس هذا فحسب، وإنما قال لنا ألا نمسها، وأننا في اليوم الذي نأكل منها موتا نموت. فقالت الحية: لن تموتا، بل يوم تأكلان منها تنتفح أعينكما وتكونان مثل الآلهة تعرفان الخير والشر. قال هذا وانسحب من جسد الحية التي عادت كائنا عاديا من كائنات الأرض، عند ذلك أخذت المرأة من ثمر الشجرة فأكلت وأعطت زوجها فأكل معها، فانفتحت أعينهما على قصورهما الإنساني، وعلى النور الداخلي أيضا، وهو النور الذي سيقود ذريتهما إلى التحرر من سلطة إله هذا العالم، وإلى الخلاص من دورة الحياة والموت، والالتحاق بالعالم النوراني الذي صدرت عنه الأرواح، وعندما يبلغ سعي الإنسانية نحو الخلاص أوجه، سوف يهبط المسيح ليظهر في هيئة يسوع الناصري، فيرفع عن الناس لعنة الشريعة، التي أبقتهم في حجب الجهل، وينقذهم من صاحب هذه الشريعة ومن العالم المادي الناقص.
يشكل الإنسان نقطة المركز في التصورات الكونية الغنوصية، على ما يتضح من أسطورة التكوين التي أوردناها أعلاه، ومن غيرها من النصوص الغنوصية التي تدور حول الأفكار نفسها، والفكرة الرئيسية هنا هي علاقة التماثل بين الإله الأعلى وبين الجوهر الروحاني الإنساني، وأكثر من ذلك فإن الإنسان قد صنع على صورة الله، فالله الذي لا تحده صورة أو شكل يحب إذا أراد اتخاذ صورة في الملأ الأعلى، عالم المثل، أن يتخذ صورة إنسان، فهو المنزه عن أي صورة ما، وبنفس الوقت هو الإنسان الكامل الأعلى، وبهذه الصورة أطل من البليروما السماوية (الملأ الأعلى)، فانعكست صورته على صفحة الماء، وأعطت النموذج الذي صنع منه الأراكنة الإنسان الأول، فالإنسان الأرضي نسخة عن الإنسان الكامل السماوي، ويحمل أيضا في طبيعته الجوهرية قبسا من نور الله وروحه؛ ولهذا فإنه متفوق على الديميرج الذي صنعه في كل شيء، وقادر في النهاية على التخلص من سلطته، مقتفيا أثر يسوع الذي قال قبل أن يسلم إلى الصلب: «لن أخاطبكم بعد الآن؛ لأن سيد هذا العالم آت، وليس له يد علي» (يوحنا 14: 30)، وأيضا: «لأن رئيس هذا العالم قد حكم عليه» (يوحنا 16: 11)، وأيضا: «ستعانون الشدة في هذا العالم، فاصبروا لها، لقد غلبت العالم» (يوحنا 16: 33).
من هنا، فإن عملية خلق الإنسان بالنسبة إلى الأركون الأعظم سوف تتكشف في المستقبل عن نتائج كارثية بالنسبة له. وفي هذا يقول أحد نصوص نجع حمادي على لسان الأب النوراني: «لقد صنع «الأركون» الإنسان على صورتي، ولكنه لم يتبين القوة التي في داخله، ولم يعرف النتائج المدمرة لخياره هذا.»
8
كل هذا يجعل من الثنوية الغنوصية فلسفة وجودية إنسانية تبتدئ عند الإنسان وتنتهي عنده، وما العالم إلا نتاج عرضي لا قيمة له لا بالنسبة لعالم الألوهة ولا بالنسبة لعالم الإنسان، وهو آيل إلى التآكل والزوال من خلال عملية تفكك داخلي لا علاقة للأب النوراني بها، فالله لا علاقة له بالعالم إلا من خلال الإنسان، ابنه الروحاني، وهو معني بخلاصه وعودته إلى بيته.
فالغنوصية ديانة خلاص، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص أخيرا في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق، والصراع الرئيسي الذي يخوضه الإنسان هو صراع بين العرفان الذي يقود إلى الخلاص، وبين الجهل الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت. من هنا، فإن الحكمة الشهيرة المنقوشة على جدار معبد دلفي، والمؤلفة من كلمتين فقط هما: «اعرف نفسك» تتخذ أهمية مركزية في كل النظم القائمة على العرفان، فلقد استخدمتها المدرسة الأفلاطونية وفسرتها بمعرفة النفس الإلهية في الداخل، وكذلك الهرمزية التي نقرأ في إحدى رسائلها الثلاث عشرة، وهي رسالة بيوماندريس، ما يلي: «إن الله الأب الذي جاء منه الإنسان، هو نور وحياة، فإذا عرفت أنه نور وحياة، وأنك صدرت عنه، فسوف تستعاد إلى الحياة مرة أخرى.»
9
وفي كتاب «توما المناضل» (أو المكافح) يقول يسوع لتوما: «إن من لم يعرف نفسه لم يعرف شيئا، ولكن من عرف نفسه حقق معرفة بأعماق الكل.»
10
وفي إنجيل فيليب نقرأ: «طالما بقيت جذور الشر مختفية فإنها قوية، أما عندما يتم كشفها والتعرف عليها فإنها تتفسخ، وعندما تغدو بينة فإنها تنمحق ... لقد عرى يسوع جذور هذا العالم واجتثها، وعلى كل منا أن ينقب عن جذور الشر في نفسه، ويقتلعها من قلبه حتى أساساتها، وذلك عن طريق تعريتها ومعرفتها، فإذا لم نعرفها فإنها تضرب أكثر في الأعماق، وتعطي ثمارها في قلوبنا ... والحقيقة بدورها مثل الجهل (= الشر)، فطالما أنها مختفية فهي كامنة في نفسها، ولكن عندما يتم التعرف عليها، فإنها تغدو أقوى من الجهل وتعطي الحرية.»
11
وعلى عكس الزرادشتية وغيرها من النظم الدينية التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن الخلاص الذي تبشر به الغنوصية ليس خلاص الأجساد، بل خلاص الأرواح، إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن معا، لا من الخطيئة والذنوب، وإذا كان هنالك من مفهوم عن «الخطيئة الأصلية» في العقيدة الغنوصية، فإنه سقوط الروح في عالم المادة، وإذا كان هنالك من مفهوم عن التوبة فإنه وعي الإنسان لشرطه الأرضي، وبحثه عن الوحدة المفقودة، مع هذا الوعي تبتدئ الروح رحلة خلاصها وانعتاقها، ويتحول الموت من بوابة إلى القبر، أو معبر إلى دورة تناسخ جديدة، إلى بوابة نحو العالم النوراني الأعلى. إن من حقق العرفان قد بعث من الموت قبل أن يموت، وما عليه سوى ترقب الموت الذي سينزع عنه رداءه المادي ويحوله إلى روح منعتقة، وهذا هو معنى قول يسوع في إنجيل توما الغنوصي: «هذه السماء ستزول والتي فوقها ستزول، ولكن من هم أحياء لن يموتوا، ومن هم أموات لن يحيوا» (الفقرة 11).
ومع ذلك فإن مسئولية العرفان الذي يقود إلى الخلاص، لا تقع على عاتق الإنسان وحده؛ لأن «النعمة الإلهية» حاضرة في صميم فعالية العرفان، وتتجلى هذه النعمة أولا في «النداء الداخلي» المزروع في النفس الإنسانية منذ «السقوط»، وهو النداء الصادر عن قبس النور الراسف في أغلال المادة، والذي يحن إلى العودة إلى مصدره ، مثلما يحن عود القصب الذي صنع منه الناي إلى أصله في الشجرة، عندما يصدر تلك الأصوات الحزينة (على حد تعبير جلال الدين الرومي في المثنوي)، كما تتجلى النعمة الإلهية في الدور الذي يلعبه ابن عبد الله المخلص، الذي جاء إلى العالم لا ليحمل خطيئة العالم، وإنما لينبه البشر من غفلتهم ويفتح بصيرتهم الداخلية، فانطلاق فعالية العرفان، والحالة هذه، يعتمد على ثلاثة عناصر، أولها النداء الداخلي، وثانيها نداء المخلص، وثالثها استجابة الإنسان.
وهذه الاستجابة الأخيرة يجب أن يتبعها جهد حثيث من قبل العارف الذي يتوجب عليه إثبات نفسه من خلال الصراع ضد شهوات طبيعته الجسدية والنفسانية؛ لأن «النفس» التي هي مقر «الروح» تنتمي إلى عالم الديميرج، شأنها في ذلك شأن الجسد.
يلعب نداء المخلص بالنسبة إلى النداء الداخلي دور المنبه والمحرض، فصوت النداء الداخلي خافت بسبب كثافة حجب المادة التي تكتمه، والإنسان أشبه بالنائم أو السكران، ولا بد لإيقاظه من صوت يدعوه وينبهه، قال يسوع في إنجيل توما: «وقفت في وسط العالم، وبالجسد ظهرت لهم، فوجدتهم كلهم سكارى، ولم أجد بينهم ظمآن» (الفقرة 28). ونقرأ في إنجيل الحقيقة: «إن العارف هو الذي تحقق أنه قد جاء من الأعلى؛ ولذا فإنه عندما يدعى يسمع، ويستجيب لداعيه، فيرنو إليه، ويعرف من دعاه ... إنه الآن يعرف من أين أتى وإلى أين سوف يمضي، فهو أشبه بالسكران الذي صحا من سكره وعاد إلى نفسه.»
12
وفي «أعمال يوحنا» المنحولة، وهو من النصوص المعروفة قبل اكتشاف مكتبة نجع حمادي، نقرأ على لسان يسوع: «لم يكن لكم أن تعوا آلامكم ومعاناتكم في هذا العالم، لو لم يرسلني الآب إليكم، لو لم يرسل الآب إليكم الكلمة»،
13
وفي بعض النصوص الغنوصية التي لا تشف عن مؤثرات مسيحية واضحة، مثل «رؤيا آدم»، نجد أن نار العرفان تبقى متقدة في عالم الإنسان من خلال عدد من الشخصيات التي تتالت عبر الزمن، وعملت بوحي من الأب الأعلى على إبقاء جذوتها في النفس الإنسانية، وفي النصوص التي تسير على خطى المسيحية القويمة، حيث يظهر المخلص في هيئة يسوع الناصري في لحظة معينة من التاريخ، فإن المهمة الخلاصية للمسيح لا تقتصر على هذه اللحظة من الزمن، وإنما تستمر من خلال ظهورات المسيح للتلاميذ بعد قيامته ومتابعته تعليمهم وإرشادهم، وهذا يعني أن المسيح على الرغم من دخوله في عالم الزمن، إلا أن مهمته تتجاوز الزمن ولا تنتهي بموته وصعوده إلى الآب.
وهذا ما عبر عنه إنجيل يوحنا الرسمي، ذو الطابع الغنوصي، من خلال شخصية «البارقليط»، روح الحق، الذي يبقى مع المؤمنين وفيهم: «وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم. إني آت إليكم. بعد قليل لن يراني العالم أيضا، وأما أنتم فترونني ... والذي يحبني يحبه أبي وأظهر له ذاتي» (يوحنا 14: 16-21). وهنا يلتقي الإنجيل الرابع مع الأناجيل الغنوصية في لا تاريخانية المسيح على الرغم من ظهوره في التاريخ، فقد كان منذ البدء عند الله، وسيبقى دائما بين البشر وحيا ونداء دائما.
هذا الطابع اللازمني وغير التاريخاني لشخصية المسيح، هو الذي أوحى بفكرة الظهور الشبحي للمسيح في العالم، والتي تتضمن أن المسيح النوراني الأعلى قد تجلى في العالم في هيئة بشرية من غير أن يكون له قوام جسدي مادي من لحم ودم. وفي الواقع، فإن هذه الفكرة لم تكن مرفوضة تماما من قبل المسيحيين الأوائل خلال القرنين الأولين، وذلك استنادا إلى الإنجيل الرابع الذي يقول في مقدمته: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله ... والكلمة صار جسدا وحل بيننا.» ولكن في سياق الجدل بين المسيحية القويمة والمسيحية الغنوصية، جرى استبعاد هذه الفكرة واستبدالها بمبدأ الطبيعتين، الذي يقول بامتلاك يسوع لطبيعة إلهية وطبيعة بشرية في آن معا.
تتدرج فكرة الشبحية (أي الظهور الشبحي للمسيح) من شبحية معتدلة، إلى شبحية توفيقية، فشبحية مطلقة. تقول الشبحية المعتدلة بأن المسيح قد ظهر في العالم بجسد روحاني يشبه أجساد البشر، وهذا النوع من الشبحية يقترب إلى حد كبير من مفهوم الطبيعتين في اللاهوت القديم. نقرأ في أحد نصوص نجع حمادي المعروف بعنوان «وثيقة ملكي صادق»: ليس مولودا، مع أنه ولد، لم يأكل مع أنه قد أكل، لم يشرب مع أنه قد شرب، ليس مختونا مع أنه قد ختن، ليس جسديا مع أنه جسدي، لم يسلم إلى العذاب مع أنه عذب، لم يقم من بين الأموات مع أنه قام من بين الأموات.
14
أما الشبحية التوفيقية فتميز بين يسوع الناصري الإنسان المولد من امرأة مثل كل البشر، والمسيح الأعلى النوراني الذي هبط على يسوع في هيئة حمامة بعد خروجه من ماء العماد في نهر الأردن، فحل فيه ردحا من الزمن ثم فارقه قبل الصلب، أي إن من صلب ومات وقام من بين الأموات هو يسوع، وليس المسيح الذي لم يخضع لشروط هذا العالم، ومن القائلين بهذا النوع من الشبحية معلمان غنوصيان هما كيرينثوس وباسيليد، وفق شهادة إيرينايوس وهيبوليتوس،
15
وأما الشبحية الراديكالية فتقول بالطبيعة الواحدة للمسيح، وبأن مظهره البشري لم يكن سوى وهم بصري، أحدثه بقدرته على اتخاذ أشكال لا حصر لها، وفي هذا يقول أحد نصوص نجع حمادي: «لم يظهر أبدا بشكله الحقيقي، فللكبير ظهر كبيرا وللصغير ظهر صغيرا، وللملائكة ظهر ملاكا، وللناس ظهر بشرا، وبذلك حجبت طبيعته نفسها عن الجميع.»
16
وفي نصوص أخرى يشهد بعض التلاميذ بأنهم لم يتبينوا أحيانا أثرا لقدميه على الأرض، أو أن عينيه لم تكونا ترمشان كبقية البشر.
17
تبعا لهذه الأنواع الثلاثة من الشبحية، فإن الآثار الخلاصية لآلام وصلب المسيح، تتفاوت من مدرسة إلى أخرى، وفي شكلها المتطرف فإن الشبحية الراديكالية لا تعترف بأي أثر خلاصي لحادثة الصلب؛ لأن المسيح لم يصلب ولم يمت ولم يقم من بين الأموات. وفي هذا الشأن يقول المخلص في أحد نصوص نجع حمادي: «فاعلم إذا أني لم أسلم إلى أيديهم كما ظنوا، ولم أتألم أبدا ... لم أمت في الحقيقة، وإنما شبه لهم موتي ... ولم أتألم إلا في نظرهم وتقديرهم ... في جهالتهم وعماهم، عندما سمروا رجلهم على موتهم ... وبعملهم هذا فقد أدانوا أنفسهم وحكموا على أنفسهم ... لم أتجرع الخل والمرار كما رأوني أفعل، بل هو شخص آخر، لم أكن من ضربوه بالعصا، بل هو شخص آخر، ولقد سخرت في الأعالي من جهل الأراكنة ومن تبجحهم.»
18
وفي نص «أعمال يوحنا»، نجد التلميذ يوحنا الحبيب يلجأ إلى جبل الزيتون بعد أن أسلم المخلص إلى الصلب، عندما يتجلى له المخلص ويقول له: «بالنسبة لهم هناك في الأسفل، أنا مصلوب في أورشليم، وأتجرع الخل والمرار وأطعن بالحراب ... ولكني لست ذلك المعلق على الصليب، ولم أعان أيا من تلك الآلام.»
19
وفي الحقيقة فإن الغنوصية تعكس رمزية الصليب، «فلقد جاء المسيح ليصلب العالم، لا لكي يصلب من قبل العالم.» على حد تعبير أحد نصوص نجع حمادي.
20
فإذا لم يكن المسيح قد مات في جسد مادي ثم بعث في جسد مادي أيضا، فإن البعث الذي يعد به العارفين ليس بعث الأجساد وإنما بعث الأرواح، وروح العارف لا تبعث من خلال قيامة عظمى للأموات في آخر الزمان، وإنما من خلال قيامة فردية يحققها الغنوصي من خلال كدحه الروحي الفردي، الذي يقود إلى انفلات روحه بعد الموت من سيطرة الأركون الأعظم وحكام هذا العالم المادي، وعلى حد تعبير بولس الرسول في مقطع من الرسالة إلى أهالي كورنثة، لا يخفى طابعه الغنوصي الواضح، فإن جسد الإنسان: «يزرع في فساد ويقام في عدم فساد، يزرع في ضعف ويقام في قوة، يزرع جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا ... فأقول هذا أيها الإخوة: إن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد» (15: 42-50).
فالقيامة تبدأ في هذه الحياة من خلال معرفة النفس التي تقود إلى تنبيه جذوة الروح النائمة في مرقدها الأرضي، ومن خلال الإصغاء إلى دعوة المخلص، وهذا هو مؤدى القول الإشكالي الوارد في إنجيل فيليب، حيث نقرأ: «إن من يقول بأن المسيح قد مات أولا ثم قام، هو على خطأ؛ لأن المسيح قد قام أولا ثم مات.» وأيضا: «إن من يقول بأن عليه أن يموت أولا ثم يبعث بعد ذلك، هو على خطأ؛ لأن الإنسان إذا لم يختبر القيامة وهو حي، فإنه لن يتلقى شيئا بعد موته.»
21
ويقول مؤلف نص «رسالة في البعث»: «إن القيامة ليست وهما بل حقيقة، ومن الأفضل لنا أن نقول بأن العالم هو وهم».
22
وعلى الرغم من غياب فكرة القيامة العامة للموتى في اليوم الأخير عن العقيدة الغنوصية، إلا أن بعض نصوص نجع حمادي تقدم لنا تصوراتها الخاصة عن «اليوم الأخير»، الذي تتزعزع فيه قوى الظلام ويئول العالم المادي إلى نهايته. فعندما تحقق معظم نفوس البشر تحررها من خلال معرفة الله، تقترب ساعة نهاية العالم التي يشعر بها الأركون الأعظم وبطانته، مثلما تشعر المرأة الحامل بقرب ساعة الولادة، فيحاولون جهدهم منع الكارثة ولكنهم يفشلون في كل مسعى وغاية، فتهتز عروشهم وتنقلب، وتنطبق السماء على الأرض هاوية نحو العالم الأسفل، وتنبعث في وسط العالم نار آكلة تأتي على كل شيء، ثم تلتهم نفسها قبل أن تنطفئ، وفي هذه الأثناء يتحرر ما تبقى من النفوس الفاضلة في العالم، أما النفوس التي لم تستطع حتى ذلك الوقت تطهير نفسها، فتفنى مع بقية عناصر المادة وحكامها.
23
كلمة أخيرة لا بد من قولها بخصوص الأخلاق الغنوصية.
انطلاقا من موقفها الرافض للعالم، فإن الغنوصية ترى أن الأخلاق التي فرضها إله هذا العالم، إنما فرضت لإبقاء العالم على حالته الراهنة، وإبقاء المجتمعات الإنسانية تحت سيطرة الأركون الأعظم، وهي في النهاية أخلاق براغماتية بالنسبة لأولئك الذين يعتنقونها، فالذي يعمل بقاعدة «لا تسرق» إنما يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه إلى السرقة، والذي يعمل بقاعدة «لا تقتل» إنما يفعل ذلك لكي لا يتعرض هو نفسه للقتل، والذي يعمل بقاعدة «لا تزن» أو «لا تشته امرأة قريبك» إنما يحمي نساءه من الاعتداء الجنسي.
إن مثل هذه النواهي الواردة في شريعة إله التوراة ليست أخلاقا حقيقية، والالتزام بها لا ينشأ عن تلمس حقيقي للخير الكامن في النفس الإنسانية، وإنما ينبع من الخوف من صاحب الشريعة، الخوف من الآخرين الذين يمثل عدم التزامهم باللوائح الأخلاقية تهديدا للآخرين، أما الأخلاق الغنوصية فتنشأ عن الحرية التي يحققها الغنوص للإنسان، وعن اكتشاف مصدر الخير الأسمى في داخله. فالمعرفة تحقق كمال الإنسان، والكامل لا يستطيع إلا فعل الخير، لا خوفا من هذا ولا طمعا في ذاك، والأب النوراني الأعلى لا يطلب من الإنسان إلا أن يعرفه في داخله، وعندما يعرفه يغدو حرا وكاملا وخيرا، وفي هذا يقول مؤلف إنجيل فيليب: «إن من يمتلك معرفة الحق يغدو حرا، والحر لا يرتكب الخطيئة؛ لأن من يرتكب الخطيئة هو عبد للخطيئة ... إن المعرفة تسمو بقلوب المؤمنين وتحررهم وتجعلهم فوق العالم، وهم لا يستعبدون إلا للحب.»
24
ومثلما تغني هذه الأخلاقية الغنوصية النابعة من الداخل عن القواعد المفروضة من الخارج، فإنها تغني أيضا عن الوصايا الطقسية وعن العبادات الشكلانية التي لا يطلبها الأب النوراني الأعلى، وقد عرى يسوع هذا النوع من العبادات الشكلانية في إنجيل توما، عندما سأله التلاميذ: «أتريدنا أن نصوم؟ كيف نصلي؟ هل نتصدق؟ ماذا نأكل وماذا لا نأكل؟» فقال لهم جملة تختصر الوصايا الأخلاقية والوصايا الطقسية: «لا تقولوا كذبا ولا تفعلوا ما تكرهون.»
25
وفي قول آخر له من النص نفسه نقرأ: «إذا لم تصوموا عن العالم لن تجدوا الملكوت، إن لم تقيموا من السبت سبتا حقيقيا لن تروا الأب.»
26
وفي سدى الطقوس والعبادات الشكلانية قال أيضا: «إذا صمتم جلبتم الخطيئة على أنفسكم، وإذا صليتم أدنتم أنفسكم، وإذا تصدقتم آذيتم أرواحكم.»
27
في هذه الأقوال وأشباهها لا يدعو يسوع إلى نبذ الصلاة والصوم والصدقة، وإنما إلى إقامة الصلاة القلبية الحقيقية وإيتاء الصدقة النابعة من الإحساس بالخير الداخلي، والصوم عن العالم لا عن الطعام والشراب لبضع ساعات معلومات.
الفصل السادس
الانتفاضة الأخيرة للغنوصية البوجوميل والكاثار
بينما كانت الغنوصية المسيحية تدافع عن وجودها في أصقاع الإمبراطورية الرومانية، شرقا وغربا، خلال النصف الثاني من القرن الثالث، كانت الغنوصية المانوية، التي أسسها المعلم ماني المولود في بابل (216-275م)، تنتشر مثل الإعصار، فقد انتشرت في فارس والعراق وسورية خلال حياة ماني، وبعد وفاة ماني انتقلت من سورية إلى مصر، حيث تشكلت جماعات مانوية قوية التأثير في الحياة العامة والسياسية، كما دانت إمارة الحيرة العربية بالمانوية عندما اعتنق ملكها عمر بن عدي ديانة ماني، وصار من أشد المدافعين عنها خلال فترة حكمه التي امتدت من 270 إلى 300 ميلادية، ومن الحيرة خرجت بعثات تبشيرية مانوية إلى جزيرة العرب على ما يروي الجغرافي العربي ابن رستة، فوصلت إلى مكة واستمالت فريقا من أهلها، بينما يروي المؤرخ ابن قتيبة أن القرشيين قد جلبوا هذه البدعة من بلاد الشام، ومن مصر انتشرت المانوية إلى شمال إفريقيا وإلى إسبانيا، كما عبرت سورية إلى آسيا الصغرى واليونان وإيطاليا وأوروبا الوسطى، وباتجاه الشرق انتشرت المانوية خلال حياة ماني إلى المناطق الهندية القريبة من إيران، وصارت ديانة رسمية لمملكة طورفان. وبعد وفاة ماني صارت مدينتا سمرقند وطقشند في إقليم الصغد مركزا للدعوة المانوية، ومنهما انتقل المبشرون على طول طريق الحرير نحو أعماق الشرق حتى طرقوا باب الإمبراطور الصيني وشرحوا له معتقدهم، ونحو عام 760م صارت المانوية الديانة الرسمية لمملكة أويغور الصينية الحدودية، التي كانت تسيطر على أجزاء كبيرة من مناطق آسيا الوسطى.
لم تكن المانوية فرعا من الغنوصية المسيحية على الرغم من أنها الابن الشرعي لها، بل كانت ديانة توفيقية حاولت الجمع بين الديانات الكبرى السائدة في ذلك الوقت من خلال منظور غنوصي، وقد اعتبرها بعض مؤرخي الأديان بمثابة الدين العالمي الرابع بعد المسيحية والإسلام والبوذية، تتفق الغنوصية المانوية مع الغنوصية المسيحية في نقطتين رئيسيتين، هما أن العالم شر ومحكوم من قبل القوى الشريرة، وأن العرفان لا الإيمان هو الذي يقود إلى خلاص الروح، التي هي قبس من النور الأعلى حبيس في المادة. ولكن المانوية تفتقد إلى عنصر المخلص ذي الطبيعة الإلهية، الذي يتجلى بشرا في عالم الإنسان ليقدم له الخلاص، وهي لا تعتمد أيا من الأناجيل المسيحية الرسمية منها أو الغنوصية، وإنما تعتمد ما خطه ماني بيده من كتب مقدسة.
1
وبما أن دراستنا هنا تقتصر على الغنوصية المسيحية، فإننا سوف نتجاوز المانوية إلى حركتين مهمتين في تاريخ الغنوصية المسيحية، هما البوجوميل والكاثار اللتان بقيتا تصارعان من أجل البقاء بعد انتصار الكنيسة القويمة.
انتشر في أرمينيا منذ وقت مبكر من العصر المسيحي شكل من المسيحية غير القويمة، على يد مبشر قدم من أورشليم يدعى عاديا. وقد بشر عاديا بعقيدة تقول إن المسيح ليس ابن الله، بل هو كائن بشري تبناه الله وجعل منه ابنا له، ثم تطور ضمن هذه العقيدة تنويع آخر، يقول بوجود إلهين أعليين لا إله واحد، الأول هو الأب السماوي الأعلى والثاني هو الديميرج خالق هذا العالم، وعندما صارت المسيحية القويمة دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية، تم تصنيف هذه المسيحية الأرمينية في زمرة الهرطقات الكبرى، ولكنها بقيت في منأى عن بطش السلطات الكهنوتية في روما، وأخذت تجتذب إليها جماعات غنوصية تم تهجيرها من مواطنها الأصلية، فأقامت في أرمينيا وشكلت مع أتباع عقيدة التبني مذهبا غنوصيا عرف بالمذهب البوليسي، نسبة إلى بولس الرسول، وقد عرف هؤلاء البولسيون بنزعتهم الحربية وميلهم المستميت إلى الدفاع عن عقيدتهم الدينية، وعندما أفلحت السلطات البيزنطية أخيرا في الضغط على البولسيين وتهجيرهم، توجهت جماعات منهم غربا واستقرت في مكدونيا وبلغاريا والبلقان، وهناك تلاقحت أفكارهم مع أفكار جماعات محلية غير أرثوذكسية، ونجم عن ذلك مذهب قوي آخر في سياق القرن العاشر الميلادي، عرف بمذهب البوجوميل نسبة إلى كاهن مسيحي اسمه بوجوميلوس، وقد قام البوجوميل بهجوم معاكس سياسي وعقائدي على بيزنطة، وتمتعوا بجاذبية خاصة بين الجماهير بسبب نقدهم الشديد لسلوك الأباطرة البيزنطيين، ولفساد الكنيسة البيزنطية، فكان لهم جماعات سرية أو علنية في أقطار عديدة من الإمبراطورية البيزنطية، ولكن الاضطهادات الدموية التي تعرضوا لها من قبل الكنيسة الرسمية والسلطات البيزنطية، قد أدت إلى تشتيتهم تدريجيا خلال القرن الثاني عشر، ومع ذلك فإن كنيسة غنوصية قد بقيت قائمة في البوسنة حتى القرن الخامس عشر، وتحول من بقي من أتباعها بعد ذلك إلى الإسلام، وعلى الرغم من ذلك فقد تمتعت الكتابات البوجوميلية التي دونت باللغة السلافية القديمة بانتشار واسع، وأثرت في الأدب الشعبي السلافي، وحتى وقت متقدم من العصور الحديثة كان الشحاذون على أبواب الكنائس في روسيا ينشدون أغاني احتفظت بطابعها البوجوميلي القديم.
2
اعتبر البوجوميل كتاب العهد القديم من صنع الشيطان، ولم يتبنوا من أناجيل العهد الجديد سوى إنجيل يوحنا الذي رأوا فيه إبانة عن الله الحق، وهم يقولون بثنوية معتدلة لا تجعل من الشيطان إلها مستقلا، بل تجعله ابنا لله خرج عن طاعته وعصاه، فهم يؤمنون بإله واحد أعلى هو الإله المسيحي الطيب صانع كل ما هو خير وحسن، ويعتقدون بأن الإله الطيب قد أنجب ابنه البكر لوسيفر، الذي يعني اسمه حامل الضياء نظرا لشدة بريقه ولمعانه، إلا أن لوسيفر هذا عصا أباه، وسقط من المستوى الروحاني الأعلى بمحض إرادته، وصار اسمه ساتانا-إيل، أي الشيطان، وهم في تبنيهم لقصة التكوين التوراتية، فإنهم يعزونها إلى الشيطان لا إلى الله، فقد خلق الشيطان (إله العهد القديم) السموات والأرض، انطلاقا من المادة القديمة المتمثلة بالمياه الأولى، كما خلق الإنسان، ولكن روح الإنسان، كما هو الحال في بقية النظم الغنوصية، قد استمدت من روح الله؛ ولذلك فقد عمل الله على إنقاذ أرواح البشر عن طريق «الكلمة»، التي تجسدت في الشكل الشبحي ليسوع المسيح على الأرض، ومن الناحية التنظيمية، انقسم البوجوميل إلى ثلاث شرائح، على الطريقة المانوية، هي شريحة الكاملين المهيئين للانعتاق من دورة تناسخ الأرواح في هذا العالم، تليها شريحة السماعين المؤهلة للتحول إلى شريحة الكاملين في التناسخ المقبل، فشريحة عامة المؤمنين، وكان الالتزام بالأخلاقيات والسلوكيات البوجوميلية يختلف من شريحة لأخرى، فكانت شريحة الكاملين بمثابة النموذج الأعلى في الالتزام، فلم يكن أفرادها يتناولون الخمر أو اللحم، وعاشوا حياة زهد وتنسك تحكمها قواعد أخلاقية وسلوكية صارمة.
لقد وصف أحد آباء الكنيسة في القرن الثاني الميلادي الغنوصية بأنها مثل التنين الذي إذا قطعت له رأسا نبت له رأس آخر محله، وها هو تاريخ الغنوصية يثبت صحة ذلك الوصف، فبعد القضاء على البوجوميل في البلقان وأوروبا الوسطى، انتشرت أفكارهم إلى فرنسا عن طريق مناطق إيطاليا الشمالية، وتجلت في معتقد غنوصي جديد هو المعتقد الكاثاري.
من بين الفرق الغنوصية التي عبرت المحن وعاشت حتى القرون الوسطى، كانت الفرقة الكاثارية أكثرها نجاحا، وأشدها خطورة على الكنيسة الرسمية من أي هرطقة أخرى، تواجد الكاثار (أو الكاثاريون) بشكل خاص في مقاطعة
Lanuedoc
في الجنوب الفرنسي، فيما بين مدينة بوردو شمالا وسفوح جبال البيرينيه على حدود إسبانيا جنوبا، لم تكن هذه المقاطعة في مطلع القرن الثاني عشر جزءا من فرنسا، بل منطقة مستقلة بلغتها وثقافتها ونظامها السياسي، يحكمها عدد من الأسر النبيلة برئاسة كونت تولوز وعائلة ترانسفال المتنفذة، ضمن هذه المساحة الواسعة التي تضم عشرات المدن، من بينها ألبين ومونبيلييه وتولوز ومرسيليا، نشأت ثقافة كاثارية متميزة كانت الأكثر تطورا في الغرب المسيحي بعد بيزنطة، فقد انتشر فيها التعليم ونشطت التيارات الفكرية والفلسفية المختلفة، وعلا شأن الشعر والشعراء وتعلم الطلاب اللغات اليونانية واللاتينية والعربية، وكان النبلاء يرعون هذه النشاطات ويشاركون فيها، في الوقت الذي لم يكن فيه نبلاء الشمال قادرين على كتابة أسمائهم، ونظرا لقرب المنطقة من مركز الإشعاع الحضاري في الأندلس، فقد وردتها تأثيرات عربية عن طريق الموانئ البحرية وعبر جبال البيرينيه، دعيت هذه الغنوصية المسيحية المتأخرة بالكاثارية، نسبة إلى كلمة كاثاري، التي تعني نقيا أو طهورا، كما دعيت بالألبينية نسبة إلى مدينة ألبين
Albin
أهم مراكزها في الجنوب الفرنسي.
وعلى الرغم من أن العقيدة الكاثارية قد صارت عقيدة رسمية لمجتمع ولنظام سياسي معين، فإنها لم تشكل كنيسة بالمفهوم المسيحي القويم، أو بالمفهوم المانوي، ولم تتحول إلى أيديولوجيا دينية مصاغة في قالب دوغمائي منمط، بل كانت تضم عددا من الطوائف التي يتبع كل منها مرشدا روحيا ويتكنى باسمه، أي إنها بقيت أمينة لمبادئ الغنوصية المسيحية المبكرة، التي عرفناها في القرون الأولى للميلاد، ولكن على الرغم من اختلاف الطوائف الكاثارية في تفاصيل المعتقد والممارسة، إلا أنها تتفق على عدد من المبادئ، وعلى رأسها العرفان وتناسخ الأرواح والثنوية الكونية.
لقد رفض الكاثار المؤسسة الدينية كوسيط بين الله والناس، وكمفسر لوحي الكتاب، كما رفضوا مفهوم الإيمان المسيحي، وأكدوا على العرفان الداخلي الذي يقود إلى الانعتاق من دورة التناسخ، وقد استتبع ذلك رفضهم لفكرة المسيح المتجسد، ورفض المضمون الخلاصي لواقعة الصلب، والصليب كرمز لخلاص الإنسان، بل لقد رأوا في الصليب رمزا لأمير الظلام حاكم العالم المادي والعدو الأول لمبدأ الخلاص، ورأوا في كنيسة روما تجسيدا لسلطان أمير الظلام على العالم، ومع ذلك فقد اعتبروا أنفسهم المسيحيين الحقيقيين، واعتقدوا بمسيح سماوي لم يتجسد في إنسان؛ لأن الجسد الإنساني ينتمي إلى عالم المادة المظلمة صنيعة الشيطان، ومن غير الممكن للمسيح أن يلبس جسدا ويبقى في الوقت نفسه ابنا لله.
لا يقف المعتقد الثنوي الكاثاري عند حدود الثنوية الأخلاقية للمسيحية، وإنما يتعداه إلى ثنوية كونية تتخلل جميع مظاهر الوجود قطباها مبدآن متصارعان على كل صعيد، المبدأ الأول روحاني جوهره الحب، والمبدأ الثاني مادي جوهره القوة، الأول هو الله والثاني هو الشيطان، وبما أن الخلق والتكوين هو عمل من أعمال القوة لا من أعمال الحب، فإن العالم المادي قد صنعه الشيطان، ملك الدهر وأمير هذا العالم، من هنا، فإن المادة بجميع أشكالها شر، بما في ذلك جسد الإنسان، فبعد أن انتهى أمير العالم من عمل التكوين وجاء إلى صنع الإنسان، وجد نفسه غير قادر على بث الحياة في الجسد الطيني للزوجين الأولين، فعمد إلى اصطياد روحين ملائكيتين من الأعالي وسجنهما في الهيئة المادية التي صنعها، فنهض أمامه آدم وحواء بشرا سويا بجسد ظلامي وروح نورانية ، ولما كان ملك العالم راغبا في احتباس مزيد من الأرواح في المادة الكثيفة، فقد أغوى آدم وحواء وزين لهما الفعل الجنسي، الذي يقود إلى التكاثر فكانت الخطيئة الأصلية للإنسان.
عندما بدأ أولاد آدم يتكاثرون، أعلن الشيطان ألوهته لهم عن طريق أخنوخ بن يارد (انظر سفر التكوين 5: 18-24)، الذي رفعه إليه وأعطاه ريشة وحبرا فكتب سبعة وستين كتابا، وأمر بأن تحمل إلى الأرض وتسلم للناس لكي تعلمهم كيفية إقامة الطقوس وتقديم القرابين، وأشياء أخرى تخفي عنهم ملكوت السماء، وكان الشيطان يقول لهم: آمنوا فأنا إلهكم ولا إله إلا أنا، بعد ذلك أعلن ألوهته لموسى واختار اليهود شعبا له ، وأعطاهم الشريعة على يد موسى، وقادهم عبر البحر الذي انشق أمامهم؛ ولهذا نزل المسيح إلى العالم، وقبل نزوله أرسل الله ملاكه قبله واسمه مريم ليستقبل فيه الابن، فلما نزل، دخل عبر الأذن من مريم وخرج من الأذن الأخرى، وعندما علم الشيطان بنزول الابن أعطى اليهود ثلاثة أنواع من الخشب ليصلبوه، واعتقد في ضلالته أنه قد أماته.
3
وعلى الرغم من كل مجهود للشيطان، فإن الإنسان قادر على إزالة أثر الخطيئة الأصلية من خلال التعرف على أصله النوراني، ومقاومة كل تأثير للعالم المادي عليه، وهو في سعيه لتحرير روحه إنما يشارك في الوقت نفسه بالسعي الخلاصي الكوني، الذي يهدف إلى القضاء على مملكة الشيطان، ومع ذلك، فإن سعي الإنسان هذا يبقى قاصرا إذا لم يرفده مدد من عند الله. لقد شعر الأب النوراني بالعطف نحو ملائكته المحبوسة في أجساد بشرية مادية، وغفر للإنسان خطيئته الأصلية التي ارتكبها جهلا لا اختيارا، فأرسل ابنه المسيح لمساعدتهم على الخلاص، كما أمدهم بالروح القدس لتوجيههم وتعليمهم، وعلى الرغم من أن المسيح قد تألم في الأعالي من أجل الإنسانية وتعاطف معها، فإنه لم يكن له أن يتألم ويعاني في ظهوره الشبحي على الأرض، حيث تراءى للناس في هيئة وشكل، ولكن حضوره بينهم كان أشبه بحضور ملائكي منظور ومسموع، ولكن من غير قوام مادي؛ لهذا فإن الإنسان لا يستطيع أن يلتمس المسيح في الكنائس لأنها ليست بيتا له، وإنما يلتمسه في هيكل النفس ويطلب عونه على الخلاص بالمعرفة، وعندما تنتصر الإنسانية على الشيطان وتخلص من ربقته، فإن هذا الانتصار لن يتوج ببعث الأجساد التي تعود للاتحاد بأرواحها، بل بتدمير الجسد مع ما يتم تدميره من عالم الشيطان، عندما تأتي السيادة النهائية للعالم الروحاني بعد فناء العالم المادي وقهر صانعه.
تختلف ثنوية المعتقد الكاثاري عن ثنوية البوجوميل المعتدلة في النظر إلى طبيعة تناقض المبدأين، فالتناقض بين النور والظلام لدى الكاثارية هو تناقض مطلق، وتعارضهما أزلي؛ لأنهما مبدآن مستقلان ومنفصلان أصلا ولم ينشأ أحدهما عن الآخر، فالكاثارية في هذا أقرب إلى المانوية من أي معتقد غنوصي آخر، فالخيار الحر لم يكن السبب في سقوط الشيطان واستقلاله عن الله؛ لأن الشيطان كان في استقلال منذ البداية، ولم يكن لله في أي وقت سلطان عليه، على الرغم من أنه سيربح حربه تدريجيا في نهاية المطاف، وكما لم تكن الحرية سببا في سقوط الشيطان، فإنها لم تكن أيضا السبب في سقوط الإنسان؛ لأن الإنسان قد سقط عنوة في إسار الشيطان، ولم يكن له خيار في ذلك، ولكنه قادر على التحرر عبر حيوات متتالية، يعمل خلالها على تكميل معرفته، وتطهير روحه من عالم المادة، الذي هو الجحيم بعينه ولا جحيم غيره، هذا التطهير التدريجي يتم عن طريق رفض العالم رفضا كليا، ونبذ الشروط التي تجعل الوجود الإنساني المادي ممكنا، وهذا يعني الامتناع عن الزواج والمعاشرة الجنسية، التي تؤدي إلى استمرار النسل الإنساني، وتقديم مزيد من الرعايا لإله هذا العالم، يضاف إلى ذلك الامتناع عن أكل الحيوان؛ لأنه نتاج عملية التناسل المادية، وعدم تملك أي شيء من متاع الدنيا، وممارسة الزهد والتقشف إلى أبعد حد ممكن، وعلى النطاق الأخلاقي، على الكاثاري التزام الصدق وحسن معاملة الآخرين، وعدم إيذاء جميع الكائنات الحية.
ولما كان هذا النهج عسيرا على معظم الناس، فقد انقسم الكاثاريون إلى شريحتين، الأولى شريحة رهبانية منذورة للخلاص القريب، هي فئة الكاملين الذين يلتزمون السلوكيات والأخلاقيات الكاثارية بحذافيرها ، ويتفرغون للتأمل والمعرفة الباطنية والرياضات الروحية، والثانية هي شريحة سواد الناس الذين يمارسون حياتهم الاعتيادية، ويتبعون سلوكيات وأخلاقيات أقل صرامة، ويدعمون الكاملين، ويقبلون توجيههم الروحي، وذلك على أمل الالتحاق بهم في تناسخات مقبلة. ذلك أن الانتماء إلى جماعة الكاملين متاح أمام الجميع، ولمن يجد في نفسه القوة الروحية اللازمة، وباب السماء مفتوح لكل من يشاء اختصار دورة الحياة والموت والالتحاق بالأبدية، يتم قبول المريدين الجدد إلى جماعة الكاملين بعد طقس إدخالي خاص، يؤمن عبور المريد من عالم ملذات الدنيا الفانية إلى عالم متع الروح الصافية، ومن أهم فقرات هذا الطقس، عميلة التعميد الروحي التي تتم من خلال وضع يد الشيخ على رأس المريد، بعد فترة اختبار تدوم عاما كاملا، يكشف خلالها الشيوخ للمريدين المقبولين أسرار العقيدة المخفية عن عامة المؤمنين، ويغدو هؤلاء المريدون أعضاء عاملين في سلك الرهبنة الكاثارية.
نحو عام 1200م، شعرت الباباوية الكاثوليكية بأن المقاطعة الكاثارية في فرنسا، وجيوبها المتفرقة في أنحاء عديدة من الغرب المسيحي، باتت تشكل خطرا حقيقيا عليها، فأمر البابا إنوسنت الثالث بتجهيز حملة عسكرية دعاها بالحملة الصليبية الألبينية، ووجهها إلى جنوب فرنسا عام 1209م، كان قوام الحملة ثلاثين ألف جندي من المشاة والفرسان الذين انحدروا من الشمال كالإعصار نحو مقاطعة الكاثار، وكان أجرهم هو ما يحصلون عليه من أسلاب وغنائم، إضافة إلى صك غفران يضمن لهم مكانا في الجنة، ويروي أحد مؤرخي تلك الحملة أن قائدها سأل ممثل البابا الذي يرافقه عن كيفية تمييز الهراطقة من المسيحيين في المدن المفتوحة قبل إعمال السيف فيهم، فقال له: اقتلهم جميعا واترك لله بعد ذلك أن يميز رعيته بينهم. وهذا ما حصل فعلا، فقد أحرق الصليبيون الجدد الأرض ومسحوا المدن الآمنة فسووها بالتراب، وأفنوا سكانها عن بكرة أبيهم دون تمييز، وفي هذه الأثناء، كان الممثل البابوي في الحملة يرسل تقارير التي تثلج قلب الفاتيكان قائلا: إن السيف لم يميز ضحاياه تبعا للجنس أو السن أو المكانة الاجتماعية،
4
ولكن هذه الحملة الألبينية الأولى لم يقدر لها أن تنتهي بسرعة، على الرغم من النجاحات التي حققتها في الهجمات الأولى، وذلك بسبب المقاومة العنيفة التي أبداها الكاثاريون الذين انسحب خيرة مقاتليهم إلى المناطق الوعرة والصعبة الاجتياز على الجيوش النظامية، ومن هناك كانوا يشنون حرب عصابات أرهقت الجيش البابوي، كما بقي عدد من المواقع الحصينة في يد الكاثار مدة أربعين سنة أخرى، إلى أن سقطت مدينة
Monstegur
في عام 1244م، وكانت آخر معاقل الكاثار. وبذلك تم محو أرقى ثقافة في أوروبا القرون الوسطى عن الخارطة الأوروبية المظلمة.
الفصل السابع
أثر الغنوصية في الفكر الحديث
لم يندثر الفكر الكاثاري عقب زوال الحضارة الكاثارية الفرنسية، بل اتخذ أشكالا جديدة، وحملته إلى العصور الحديثة في أوروبا حركات سرية تسمت بأسماء شتى منها:
The Brothers of the Free Spirit, The Hossites, The Waldensians Anaptists, The Camisard .
وقد كان للفرقة الأخيرة وجود قوي في لندن خلال القرن الثامن عشر،
1
ويبدو أن الكاثارية كانت أحد الروافد القوية التي شكلت جماعة الصليب الوردي في أوروبا (
The Rosicrucians )، والتي ما زالت تعلن عن وجودها بقوة اليوم في المدن الأمريكية الكبرى وفي معظم العواصم الأوروبية، ولها محافل منتشرة في شتى أنحاء العالم.
2
وبعيدا عن هذه الفرق السرية المتأثرة بالكاثارية، فقد كان للفكر الغنوصي عامة تأثير على بعض المفكرين الغربيين في العصور الحديثة، وذلك من خلال الصوفي والمفكر الألماني جاكوب بوهمه (نحو 1600م)، الذي أسس للتيار الغنوصي في الثقافة الأوروبية الحديثة، وكان من أكثر المتأثرين بجاكوب بوهمه الفنان والشاعر الإنجليزي وليم بليك (1757-1827م)، الذي تشف رسوماته وأشعاره عن مؤثرات غنوصية عميقة، وضمن هذا التيار الذي خلقه بوهمه ابتدأت في ألمانيا بشكل خاص الدراسة الأكاديمية الجدية للغنوصية، وذلك منذ ظهور كتاب غوتفريد أرنولد: «التاريخ الإمبراطوري للكنائس والهرطقات» في عام 1699م، الذي عرض في المؤلف الهرطقات الغنوصية باعتبارها تيارات مسيحية أصيلة، وقد قرأ الكاتب والمفكر الألماني غوته في شبابه عن كتاب أرنولد وتأثر به، ثم استعاد غوته شغفه الأول ذاك عندما كتب خاتمة مؤلفه الشهير «فاوست»، التي يصور فيها تجلي الأنوثة الخالدة، وكأنها نسخة عن صوفيا الغنوصية، التجلي الأكمل للألوهة.
لم يكن غوته الشاعر الوحيد الذي تأثر بالغنوصية، بل لقد أثرت الغنوصية على عدد كبير من شعراء الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر، الذين أخذوا بإعادة ابتكار أساطير غنوصية للتعبير عن موقف من العالم وصل إلى شفا هاوية من العدمية أحيانا، من هؤلاء الشعراء نذكر: ب. شيلي
في مؤلفه
(1818-1819م)، واللورد بايرون
Byron
في مؤلفه
Ad Arimane (1833م)، وألفونسو دي لامارتن
Alfonso de Lamartine
في مؤلفه
Un Ange, La Chute d (1837م)، وفيكتور هيجو
Victor Hugo
في مؤلفه
La Fin de Satan (1854-1857م)، وميهيل إمينيسكو
Mihail Eminescu
في مؤلفه
Muresanu and Demonism (1872م)، وفيما عدا ليوباردي الذي كان على معرفة واسعة بالغنوصية القديمة ومتأثرا بها بشكل مباشر، فإن البقية قد ابتكروا ميثولوجيا تطابقت أحيانا في تفاصيلها مع الميثولوجيا الغنوصية القديمة، وكان هدفهم من ذلك التحرر من تركة العهد القديم في المسيحية، حتى وصل بهم نقدهم لمفهوم الألوهة التوراتي إلى الموقف المارقيوني (نسبة إلى المسيحي المنشق مارقيون، من القرن الثاني الميلاد)، الذي يرى في إله العهد القديم صانع هذا العالم المادي تجسيدا للشر، ويجب مقاومته والتحرر من سلطانه.
كما ألهمت الغنوصية عددا من الكتاب المحدثين مثل: أناتول فرانس
Anatol France (1844-1924م) وأليكسندر بلوك
Aleksander Blok (1880-1921م)، وألبرت فيروي
Albert Verwey (1865-1937م)، وهيرمان هيسه (1877-1962م) والروسي ميخائيل بولجاكوف
M. Bulgakov ، وفي مجال الفلسفة فقد نشر الألماني فرديناند كريستيان بوير في عام 1935م كتابه المميز في الغنوصية المسيحية، الذي دافع فيه عن الغنوصية باعتبارها فلسفة دينية يقابلها في العصر الحديث المثالية الألمانية ممثلة بشيلينغ وهيغل، وغيرهم ممن تأثر برؤى بوهمه، وفي مجال علم النفس الحديث تأثر كارل غوستاف يونغ، مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي وسيكولوجيا الأعماق، بالرؤى والصور الغنوصية، حتى إنه كتب مؤلفا غنوصيا فيه الكثير من تأملات الغنوصي القديم باسيليد، عنوانه
Septem Sermones ad Mortuous
وبتأثير يونغ قام عدد من علماء النفس، بينهم
Henri Charles
و
Karl Kerenye
بتفسير الرموز الغنوصية باعتبارها إسقاطات ميثولوجية للتجربة الذاتية.
3
هذا عن أثر الغنوصية في الفكر الأوروبي، أما عن أثرها في الفكر المشرقي فقد ساهمت الغنوصية إلى حد بعيد في حركة التصوف الإسلامي، وبشكل خاص في الفكر الفلسفي والصوفي للشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، كما أثرت في عقائد الفرق الإسلامية غير الأرثوذكسية،
4
التي تشف أهم مؤلفاتها عن عناصر غنوصية واضحة، ومنها (أم الكتاب) و(كتاب الأظلة) و(كتاب الكشف) و(كشف الحقائق)، أما في مجال الفكر والأدب العربي الحديث، فلم أجد أثرا للغنوصية إلا في أدب جبران خليل جبران، ورسوماته المتأثرة إلى حد بعيد برسوم وليم بليك، وأغلب الظن أن هذه المؤثرات الغنوصية قد انتقلت إلى جبران من التيار الرومانسي الأوروبي، وليست نتيجة احتكاك مباشر.
وفي جنوب العراق ما زالت بقايا الفرق المندائية، وهي فرقة غنوصية لا تنتمي لا إلى المسيحية ولا إلى الإسلام، قائمة إلى اليوم وتمارس طقوسها وشعائرها بحرية تامة، وقد عمل عدد من الباحثين الغربيين على دراسة المعتقدات المندائية، ونشروا بعض نصوصها المقدسة.
5
الفصل الثامن
نموذج من الأدبيات الغنوصية
(1) إنجيل توما النص الكامل مع الشرح والتعليق
مقدمة
لعل الأثر الوحيد الذي تركه لنا يسوع، هو مجموعة من الأقوال والحكم والأمثال التي تعبر عن جوهر رسالته. وقد كانت هذه الأقوال متداولة على ما يبدو قبل تدوين الأناجيل، وشكلت الأساس الذي اعتمد عليه الإنجيليون في صياغة نص مطرد عن حياة يسوع، وذلك من خلال البحث عن مناسبة لكل قول استنادا إلى الذكريات الغامضة والمبعثرة عن سيرة المعلم وأعماله، وعلى الرغم من أن مثل هذه الأقوال لم تصلنا في سفر واحد يجمع بينها قبل اكتشاف مكتبة نجع حمادي، فإن البحث الحديث في العهد الجديد قد افترض وجودها، واعتقد عدد كبير من الباحثين بأنها كانت وراء تأليف إنجيلي متى ولوقا، اللذين اعتمد مؤلفاهما على إنجيل مرقس، وهو أقدم الأناجيل، وعلى هذه الأقوال التي دعاها أولئك الباحثون «اللوجيا
Logia »، وهي صيغة الجمع من لوغوس
Logus ، التي تعني كلمة أو قول باللغة اليونانية، ودعوا السفر الذي تضمنها ب «كويلا
Quelle » أي المصدر باللغة الألمانية. وقد كان لهذا الاعتقاد ما يبرره لأن إنجيلي متى ولوقا قد تضمنا معظم المادة الموجودة في إنجيل مرقس، إضافة إلى عدد كبير من الأقوال المنسوبة إلى يسوع لم ترد في إنجيل مرقس، ولا بد أنها جاءت من مصدر آخر مشترك بين الإنجيلين.
لقد تعززت هذه الفرضية بعد اكتشاف مكتبة نجع حمادي، التي عثر في أحد مجلداتها على إنجيل يعزى إلى التلميذ يهوذا توما، لا يسرد سيرة يسوع من الميلاد إلى الصلب، بل يقدم مسردا بأقواله بلغ عددها نحو 114 وفق التقسيم الأصلي للنص القبطي، وقد استطعت رصد نحو خمسين قولا في إنجيل توما لها متوازيات في إنجيلي متى ولوقا، تصل في معظم الأحيان إلى حد التطابق الحرفي، سبعة منها فقط وردت في إنجيل مرقس، قد لا يكون إنجيل توما هو «المصدر» الذي استند إليه متى ولوقا، ولكن هذا الاكتشاف الجديد يدعونا إلى الاعتقاد بوجود أكثر من «مصدر» لأقوال يسوع كانت متداولة قبل وخلال فترة تدوين الأناجيل الأربعة، التي ظهرت تباعا فيما يلي بين سنة 70 وسنة 110م، ذلك أن البحث الأكثر جدة اليوم يميل إلى القول بقدم إنجيل توما ، والباحثون في أمريكا يرجعونه إلى الفترة السابقة لتدوين الأناجيل الرسمية، علما بأن أقدم الشذرات التي وصلتنا من هذا الإنجيل كانت باللغة اليونانية، وترجع بتاريخها إلى نحو عام 200م، ولكن الباحثين يعتقدون بأنها ترجمة عن نص آرامي أو سرياني أقدم دون في فلسطين أو مكان آخر من سورية.
1
على الرغم من طابعه الغنوصي، فإن إنجيل توما هو أقرب الأناجيل «المنحولة» إلى الأناجيل الرسمية، وهذا ما أكسبه بحق لقب «الإنجيل الخامس»، فإن ما يميزه عن الأناجيل الإزائية التي يتقاسم معها ذلك العدد الكبير من الأقوال، هو أن يسوع لا يظهر فيه كمبشر بقرب حلول اليوم الأخير ودينونة العالم، وإنما كمعلم حكمة يرشد الناس إلى سبيل الحياة الروحية الكفيلة بتطهير النفس والاستعداد للانعتاق، وتظهر في أقوال لهجة غنوصية بسيطة وواضحة، وبعيدة عن التصورات الميثولوجية المعقدة التي نواجهها عادة في النصوص الغنوصية، وهو قريب من كل وجه إلى إنجيل يوحنا الرسمي.
تبتدئ فقرات النص الأربع عشرة ومائة إما بجملة «قال يسوع» أو بجملة «قال له التلاميذ» أو «سأله التلاميذ»، يليها حوار بين يسوع يشرح لهم فيها ما غمض عليهم من تعاليمه وأقواله، متبعا في أحيان كثيرة أسلوب الأمثال الذي عهدناه في الأناجيل الإزائية، وهنا تتدرج أقوال يسوع وأمثاله من البسيط المعهود لنا سابقا، إلى المعقد، فالملغز، فمن الأقوال البسيطة المباشرة قوله مثلا في الفقرة 102: «الويل للفريسيين، فإنهم أشبه بكلب رابض فوق معلف للثيران، فلا هو يأكل ولا يدع الثيران تأكل»، ومن الأقوال المعقدة قوله في الفقرة 11: «هذه السماء ستزول، والتي فوقها ستزول، ولكن من هم أحياء لن يموتوا ومن هم أموات لن يحيوا». ومن الأقوال الملغزة قوله في الفقرة 7: «طوبى للأسد الذي يأكله الإنسان فيصير الإنسان إنسانا، وملعون الإنسان الذي يأكله الأسد فيصير الإنسان أسدا.» ولهذا فقد زودت ترجمتي للنص بشروحات وتعليقات على جميع فقراته، مما لم أجده في المراجع المتوفرة لدي، كما أشرت إلى مواضع تقاطعه مع الأناجيل الأربعة، وهنا أود أن أنبه إلى ضرورة قراءة الشروحات التي أفردت لها قسما خاصا في تزامن مع قراءة النص؛ لأن معظم فقراته لن تفهم بغير ذلك.
وفيما يتعلق بالترجمة فقد أفدت بشكل خاص من ترجمة الصديق ديمتري أفييرينوس لإنجيل توما نقلا عن الإنجليزية، كما استندت إلى ثلاث ترجمات إنجليزية عن اللغة القبطية هي ترجمة
J. Dart and R. Riegent ، وترجمة
Marvain W. Meyer
وترجمة
H. Koester and T. O. Lambdin ، والتعديلات الطفيفة التي أدخلتها
Elaine Pgeles
على نص
M. W. Meyer .
2
النص
استهلال: هذه هي الكلمة الخفيفة التي نطق بها يسوع الحي، ودونها يهوذا توما، التوأم: (1) قال: من يتوصل إلى تأويل هذه الأقوال لن يذوق الموت. (2) قال يسوع: على من يبحث ألا يتوقف عن البحث إلى أن يجد، وحين يجد سوف يضطرب، وحين يضطرب سوف يعجب ويسود على الكل. (3-أ) قال يسوع: إذا قال لكم أولو الأمر منكم: «هو ذا الملكوت في السماء»، عندها تكون طيور السماء أقرب إليه منكم، وإذا قالوا لكم: «هو ذا في البحر»، عندها تكون الأسماك أقرب إليه منكم. ولكن الملكوت في داخلكم، وهو في خارجكم (قارن مع لوقا 12: 21). (3-ب) عندما تعرفون أنفسكم، تعرفون وتفهمون أنكم أبناء الأب الحي، ولكن إذا لم تعرفوا أنفسكم أقمتم في الفقر، وكنتم الفقر. (4) قال يسوع: على الشيخ الطاعن في السن ألا يحجم عن سؤال الطفل ابن السبعة أيام عن مكان الحياة، مثل هذا الشخص سوف يحيا، ذلك أن كثيرا من الأولين سيغدون آخرين، ويصيرون واحدا (قارن الشطر الثاني مع متى 9: 30). (5) قال يسوع: اعرف ما في متناول البصر، يظهر لك الخافي عليك، فما من خفي إلا وينكشف. (6) سأله تلاميذه فقالوا: «أتريدنا أن نصوم؟ هل نتصدق؟ ما الذي نأكله وما الذي لا نأكله؟» قال يسوع: «لا تكذبوا ولا تفعلوا ما تكرهون لأن كل الأمور مكشوفة أمام السماء، ما من خفي إلا وينكشف، وما من مستور إلا ويعلن.» (قارن الشطر الثاني من هذا القول مع متى 10: 26، ومرقس 4: 22). (7) قال يسوع: طوبى للأسد الذي يأكله الإنسان فيصير الأسد إنسانا، وملعون الإنسان الذي يأكله الأسد، فيصير الإنسان أسدا.
3 (8) الإنسان أشبه بصياد حكيم ألقى شبكته في البحر وسحبها ملأى أسماكا صغيرة، وجد الصياد الحكيم بينها سمكة كبيرة جيدة، فطرح الأسماك الصغيرة كلها في البحر، وبدون تردد اختار السمكة الكبيرة، من له أذنان للسمع فليسمع (قارن مع متى 13: 47-48). (9) قال يسوع: هو ذا الزارع خرج ليزرع، فأخذ حفنة من البذار ونثرها، بعضها وقع على الطريق فحطت الطيور والتقطته، وبعضها وقع على الصخر فلم يضرب جذورا في الأرض ولم يثمر سنابل، وبعضها وقع على الشوك فخنقه الشوك والتهمه الدود، وبعضها سقط على أرض طيبة فآتى أكله وأعطى المكيال ستين، وحتى مائة وعشرين مكيالا. (قارن مع متى 13: 3-9 ومرقس 4: 7-9). (10) قال يسوع: لقد ألقيت على العالم نارا، وها أنا أرقبه حتى يضطرم (قارن مع لوقا 12: 49). (11-أ) قال يسوع: هذه السماء ستزول والتي فوقها ستزول، ولكن من هم أموات لن يحيوا، ومن هم أحياء لن يموتوا. (11-ب) أيام كنتم تأكلون الميتة كنتم تحيونها، ولكن عندما تصبحون في النور ماذا ستفعلون؟ يوم كنتم واحدا صرتم اثنين، ولكن عندما تصيرون اثنين ماذا ستفعلون؟ (12) قال التلاميذ ليسوع: نعلم أنك مغادرنا فمن سيكون قائدنا؟ قال لهم يسوع: أينما كنتم فلتمضوا إلى يعقوب البار، الذي لأجله صنعت السماء والأرض. (13) قال يسوع لتلاميذه: قارنوني وقولوا بمن تشبهونني؟ قال له سمعان بطرس: أنت تشبه ملاكا بارا، وقال له متى: أنت تشبه فيلسوفا حكيما، وقال له توما: يا معلم، إن فمي يعجز عن تشبيهك بأحد. قال يسوع: لست معلمك؛ لأنك شربت فسكرت من النبع الفوار الذي سكبته. ثم أخذه وتنحى به جانبا، وقال له بضع كلمات، وعندما عاد إلى رفاقه سألوه: ماذا قال لك يسوع؟ أجابهم توما: إذا أخبرتكم بكلمة مما قال لي تناولتم حجارة ورجمتموني. ومن الحجارة تخرج نار تأتي عليكم. (14-أ) قال لهم يسوع: إذا صمتم جلبتم على أنفسكم خطيئة، وإذا صليتم أدنتم أنفسكم، وإذا تصدقتم آذيتم أرواحكم. (14-ب) إذا جلتم في الأصقاع ودخلتم أرضا فاستقبلكم أهلها، كلوا مما يقدمون لكم واشفوا المرضى منهم؛ لأن ما يدخل فمكم لا ينجسكم، أما ما يخرج من فمكم فهو الذي ينجسكم. (قارن مع لوقا 10: 3، ومتى 15: 21). (15) قال يسوع: حين ترون من لم يولد من المرأة، خروا على وجوهكم واسجدوا ، فهذا هو أبوكم. (16) يعتقد الناس بأني جئت لألقي سلاما على الأرض، إنهم لا يعلمون أني جئت لألقي على الأرض شقاقا، نارا وسيفا وحربا، فإذا كان خمسة في منزل واحد، يقوم ثلاثة ضد اثنين، واثنان ضد ثلاثة، أب ضد ابن، وابن ضد أب، وسيقفون وحدهم (قارن مع متى 10: 34، ولوقا 12: 49-51). (17) سأعطيكم ما لم تره عين ولا سمعت به أذن، ولا بلغته يد، ولا خفق به قلب بشر قط. (18) قال التلاميذ ليسوع: قل لنا، على أي وجه تكون نهايتنا؟ قال يسوع: هل اكتشفتم البداية حتى تسألوا عن النهاية؟ حيث البداية هناك تكون بلا نهاية، طوبى لمن يقف في البداية لأنه سوف يعرف النهاية، ولن يذوق الموت. (19-أ) قال يسوع: طوبى لمن وجد قبل أن يخلق. (19-ب) إذا أصبحتم تلاميذي وسمعتم كلماتي، تخدمكم هذه الحجارة. (19-ج) لكم في الجنة خمس أشجار لا تتبدل صيفا أو شتاء، ولا تسقط أوراقها، من يعرفها لا يذوق الموت. (20) قال التلاميذ ليسوع: قل لنا ماذا يشبه ملكوت السموات؟ قال لهم: يشبه حبة خردل، إنها أصغر البذور، ولكنها عندما تسقط على تربة خصبة تنمو فتصير نبتة كبيرة، وتغدو مأوى لطيور السماء (قارن مع متى 13: 31-32، ومرقس 4: 30-32). (21-أ) قالت مريم (المجدلية) ليسوع: ماذا يشبه تلاميذك؟ قال لها: يشبهون صغارا يعيشون في حقل لا يخصهم، عندما يأتي مالكو الحقل يقولون لهم: أعيدوا لنا حقلنا، عندها يخلعون ثيابهم أمامهم، ويعيدون لهم حقلهم. (21-ب) لهذا أقول لكم: لو علم مالك البيت أن السارق آت لبقي ساهرا، ولما ترك السارق ينفذ إلى بيته ويسرق أملاكه، فكونوا أنتم ساهرين ضد العالم، تسلحوا بقوة عظيمة، لئلا يجد اللصوص منفذا إليكم، فإن البلوى التي تترقبونها آتية (قارن مع متى 24: 42، ولوقا 2: 39). (21-ج) ليكن بينكم رجل فطن: إذا نضج المحصول أتى على عجل ومنجله في يده وحصده، من له أذنان للسمع فليسمع (قارن مع مرقس 4: 29). (22) رأى يسوع أطفالا يرضعون فقال لتلاميذه عن هؤلاء الرضع: يشبهون الذين يدخلون الملكوت، قالوا له: فهل ندخل الملكوت أطفالا؟ قال لهم يسوع: عندما تجعلون الاثنين واحدا وعندما تجعلون الباطن كالظاهر والظاهر كالباطن، والأعلى كالأسفل، وعندما تجعلون الذكر والأنثى واحدا حتى لا يبقى الذكر ذكرا ولا الأنثى أنثى، وعندما تجعلون عيونا مكان عين، ويدا مكان يد، ورجلا مكان رجل، وصورة مكان صورة، عندئذ تدخلون الملكوت. (23) سأختاركم واحدا من بين ألف، واثنين من بين عشرة آلاف، وهؤلاء سوف يقفون كواحد. (24) قال له تلاميذه: أرنا المكان الذي أنت فيه، فإننا يجب أن نطلبه، قال لهم: من له أذنان فليسمع: هنالك نور داخل امرئ النور، من شأنه أن ينير العالم، فإذا لم ينر فلا شيء سوى الظلمة. (25) قال يسوع: أحبب أخاك كنفسك، اسهر عليه كما على بؤبؤ عينك. (26) قال يسوع: القشة التي في عين أخيك تراها، ولكن الرافدة التي في عينك لا تراها، عندما تنزع الرافدة من عينك ترى بوضوح، وعندها تخرج القشة من عين أخيك (قارن مع لوقا 6: 41-42). (27) قال يسوع: إن لم تصوموا عن العالم، لن تجدوا الملكوت، إن لم تجعلوا من السبت سبتا (حقيقيا)، لن تروا الآب. (28) قال يسوع: وقفت في وسط العالم، وبالجسد ظهرت لهم، فوجدتهم سكارى جميعا ولم أجد ظمآن بينهم، فحزنت نفسي على أبناء البشر؛ لأنهم عميان في قلوبهم ولا يرون، فارغين أتوا إلى العالم، ويسعون إلى الخروج منه فارغين ولكنهم الآن سكارى، فإذا جاءتهم الصحوة عندها يتوبون. (29) قال يسوع: إذا نشأ الجسد عن الروح فهي معجزة، وإذا نشأت الروح عن الجسد فهذه معجزة المعجزات، وإني لأعجب كيف لهذه الثروة العظيمة أن تقيم في هذا الفقر. (30) قال يسوع: حيث يوجد ثلاثة آلهة، فهم مؤلهون، وحيث يوجد هناك اثنان أو واحد، فأنا هناك. (31) قال يسوع: لا يقبل نبي في وطنه، ولا يجري طبيب شفاء فيمن يعرفونه (قارن مع مرقس 4: 6). (32) قال يسوع: إن مدينة مبنية على جبل عال وحصين لا يمكن أن تسقط ولا يمكن سترها. (33) قال يسوع: ما تسمعه في أذنك أعلنه من فوق سطوحك، فما من أحد يوقد سراجا ويضعه تحت مكيال، أو في مكان خفي، بل يضعه على منصب حتى يرى نوره الغادي والرائح (قارن مع متى 10: 26، ومرقس 4: 21، ولوقا 11: 33). (34) قال يسوع: إذا قاد الأعمى أعمى آخر، سقط كلاهما في حفرة (قارن مع لوقا 6: 9، ومتى 15: 14). (35) قال يسوع: لا تقدر أن تدخل دار القوي، وتأخذه عنوة إذا لم توثق يديه، عندئذ تسطو على داره. (36) قال يسوع: لا تهتموا من الصباح إلى المساء، ومن المساء إلى الصباح بما تلبسون (قارن مع متى 6: 27-30). (37) قال تلاميذه: متى تظهر لنا، ومتى نراك؟ قال يسوع: عندما تتعرون بدون خجل وتخلعون ثيابكم كالأطفال وتطئونها، عندئذ ترون ابن الحي ولن تخافوا. (38) قال يسوع: كم رغبتم في سماع هذه الكلمات التي أقولها لكم، وليس لديكم آخر تسمعونها منه، ولكن ستأتي أيام تطلبونني فلا تجدونني. (39-أ) قال يسوع: أخذ الفريسيون والكتبة مفاتيح المعرفة وأخفوها، فلا هم دخلوا ولا أجازوا الدخول لمن أراد (قارن مع لوقا 11: 52). (39-ب) أما أنتم فكونوا في فطنة الحياة ووداعة الحمام (قارن مع متى 10: 16). (40) قال يسوع: زرعت كرمة بعيدا عن الآب، ولأنها لم تتقو، سوف تقتلع من جذورها وتفنى. (41) قال يسوع: من في يده شيء يزاد له، ومن ليس في يده شيء يحرم حتى من القليل الذي عنده (قارن مع متى 13: 12، ومرقس 4: 25، ولوقا 19: 26). (42) قال يسوع: كونوا عابري سبيل. (43) قال له تلاميذه: من أنت حتى تقول لنا هذه الأشياء ؟ قال يسوع: أنتم لا تعرفون من أنا من الأشياء التي أقولها لكم، لقد صرتم أشبه باليهود الذين يحبون الشجرة ويكرهون ثمارها، أو يحبون الثمرة ويكرهون الشجرة (قارن مع يوحنا 14: 7-10). (44) قال يسوع: من جدف على الأب يغفر له، ومن جدف على الابن يغفر له، ولكن من جدف على الروح القدس لا يغفر له لا في الأرض ولا في السماء (قارن مع مرقس 3: 28-29). (45) قال يسوع: لا يجنى عنب من الشوك، ولا يقطف تين من الحسك، فهي لا تعطي ثمرا، المرء الصالح يخرج الصالح من مخزنه، والمرء الطالح يخرج الفاسد من مخزنه الفاسد في القلب، وينطق بالشر. من قلبه يسكب الشر (قارن مع متى 7: 16-17، ولوقا 6: 43-45). (46) قال يسوع: بين الذين ولدتهم النساء، منذ آدم، لا يوجد من هو أعظم من يوحنا المعمدان، فيخفض البصر أمامه، ولكني قلت إن من يصير منكم طفلا سيعرف الملكوت، ويغدو أعظم من يوحنا (قارن مع متى 11: 11، ولوقا 16: 16). (47) قال يسوع: ليس بمقدور المرء أن يمتطي حصانين معا، أو يشد قوسين، وليس بمقدور العبد أن يخدم سيدين، وإلا فإنه سيكرم أحدهما ويغضب الآخر (قارن مع متى 6: 24)، ما من أحد يشرب خمرا عتيقة ويشتهي من فوره أن يشرب خمرا جديدة، لا تسكب خمر جديدة في زقاق (قراب) قديمة، لئلا تنشق الرقاق، ولا تسكب خمر عتيقة في زقاق جديدة، لئلا تفسد الخمر، الرقعة العتيقة لا تخاط إلى ثوب جديد لئلا تمزقه (قارن مع متى 9: 16-17، ومرقس 2: 21-22، ولوقا 5: 36-39). (48) قال يسوع: إذا تسالم اثنان في بيت واحد، لقالا للجبل: انتقل من هنا، فينتقل. (49) قال يسوع: طوبى للمتوحدين والمصطفين، فإنكم ستجدون الملكوت لأنكم منه أتيتم وإليه ترجعون. (50) قال يسوع: إذا سألوكم: من أين جئتم، أجيبوهم: جئنا من النور، من المكان الذي انبثق فيه النور من تلقاء ذاته، وأسس نفسه، وتجلى في صور نورانية، وإذا سألوكم: من أنتم؟ قولوا: نحن أبناؤه، نحن مختارو الآب الحي، وإذا سألوكم: ما هي آية أبيكم فيكم؟ قولوا: هي حركة وراحة. (51) قال له تلاميذه: متى تحل راحة الأموات، ومتى يأتي العالم الجديد؟ قال لهم: ما تنتظرونه قد أتى، لكنكم لم تتبينوه. (52) قال له تلاميذه: أربعة وعشرون نبيا تكلموا في إسرائيل وكلهم تكلموا عنك، قال لهم: لقد غفلتم عن الحي الذي أمامكم، وتكلمتم عن الأموات. (53) قال له تلاميذه: هل الختان مفيد؟ قال لهم: لو كان مفيدا لكان أبوهم أنجبهم من أمهم مختونين، ولكن الختان الحقيقي بالروح، وهو مفيد من كل وجه. (54) قال يسوع: طوبى للفقراء، فإن لهم ملكوت السموات (قارن مع لوقا 6: 20، ومتى 3: 5). (55) قال يسوع: من لا يبغض أباه وأمه لا يستطيع أن يكون تلميذي، ومن لا يبغض إخوته وأخواته، ولا يحمل صليبه كما أفعل ليس أهلا لي (قارن مع متى 16: 24، ولوقا 14: 26). (56) قال يسوع: من فهم العالم وقع على جيفة، ومن وقع على جيفة، العالم ليس أهلا له . (57) قال يسوع: يشبه ملكوت الآب رجلا بذر في حقله بذارا حسنا. فجاء عدوه في الليل وزرع زؤانا بين البذار الطيب، ولكن الرجل لم يدع أحدا يجتث الزؤان قائلا لهم لا تفعلوا مخافة أن تقلعوا القمح وأنتم تجمعون الزؤان، ولكن عندما يأتي يوم الحصاد يكون الزؤان بارزا، عندها يقتلع ويحرق. (قارن مع متى 13: 24-30). (58) قال يسوع: طوبى للمرء الذي جاهد ووجد الحياة. (59) تطلعوا إلى الحي ما دمتم أحياء، لئلا تموتوا وتحاولوا رؤية الحي فلا تستطيعون. (60) رأوا سامريا يتأبط حملا ويمضي إلى اليهودية، قال لتلاميذه: لماذا يتأبط الحمل؟ أجابوه: لكي يذبحه ويأكله. قال لهم: إنه لن يأكله ما دام حيا، وإنما بعد أن يذبحه ويصير جثة. قالوا: وإلا فلا يستطيع ذلك. قال لهم: وأنتم كذلك فتشوا عن مكان راحة لئلا تصيروا جثة فتؤكلوا. (61-أ) قال يسوع: اثنان يستريحان على أريكة واحدة، أحدهما يموت والآخر يحيا. (61-ب) قالت سالومة: من أنت يا سيد؟ وقد اتكأت على أريكتي وأكلت من مائدتي؟ قال لها يسوع: أنا الذي يستمد وجوده من التام غير المنقسم، أعطيت مما لأبي. قالت سالومة: أنا تلميذتك. أجاب يسوع: لهذا أقول، إذا كان المرء تاما يكون ممتلئا نورا، ولكن إذا كان منقسما يكون ممتلئا ظلمة. (62-أ) قال يسوع: أكشف أسراري لمن هو أهل لها. (62-ب) لا تدع يدك اليسرى تدري ما تفعل يدك اليمنى (قارن مع متى 6: 3). (63) قال يسوع: كان رجل غني يملك أموالا طائلة، قال في نفسه: سوف أثمر أموالي، فأبذر وأحصد، وأشتل، وأملأ أهرائي غلالا، فلا ينقصني شيء، تلك كانت نواياه، لكنه مات في تلك الليلة، من له أذنان للسمع فليسمع (قارن مع لوقا 12: 17-21). (64) قال يسوع: رجل من عادته استقبال الضيوف، أولم للعشاء، وأرسل عبده يدعو الضيوف، مضى العبد إلى الأول وقال له: إن سيدي يدعوك، قال الرجل: أرجو أن تعذرني عن الوليمة؛ لأن بعض التجار مدينون لي بمال وهم قادمون إلي الليلة، مضى العبد إلى آخر وقال له: سيدي يدعوك، قال الرجل للعبد: لا وقت لدي، فقد اشتريت دارا، وأنا مشغول طوال اليوم، أرجو المعذرة، مضى العبد إلى آخر وقال له: سيدي يدعوك، قال الرجل: لن أستطيع المجيء؛ لأن صديقي مزمع على الزواج وأنا موكل بترتيب الوليمة، أرجو المعذرة، مضى العبد إلى آخر وقال: سيدي يدعوك، فقال الرجل: لن أستطيع المجيء فلقد اشتريت أرضا وأنا ذاهب لقبض الإيجار، أرجو المعذرة.
عاد العبد إلى سيده وقال: القوم الذين دعوتهم إلى الوليمة اعتذروا عن المجيء، قال السيد لعبده: اخرج إلى الشوارع وأت إلى الوليمة بكل من تجدهم، الباعة والتجار لن يدخلوا أماكن أبي (قارن مع لوقا 14: 12-24). (65) قال يسوع: كان لرجل طيب كرما أجره لبعض الكرامين، فيعملوا فيه ويعطوه ريعا، أرسل الرجل عبده ليقبض الريع، ولكن الكرامين أمسكوا به وضربوه وكادوا أن يقتلوه، عاد العبد وأخبر سيده بما حصل، فقال سيده في نفسه: لعلهم لم يعرفوه ثم أرسل عبدا آخر فضربه الكرامون أيضا، عندئذ أرسل ابنه قائلا: لعلهم يتهيبون ابني، لكن الكرامين لما علموا أنه وارث الكرم أمسكوا به وقتلوه، من له أذنان للسمع فليسمع (قارن مع لوقا 20: 9-16). (66) أروني الحجر الذي رذله البناءون، فإنه حجر الزاوية (قارن مع متى 21: 22). (67) قال يسوع: من عرف كل شيء ولم يعرف نفسه افتقر إلى كل شيء. (68) قال يسوع: طوبى لكم عندما تبغضون وتضطهدون ، ولا تجدون ملاذا من الاضطهاد (قارن مع متى 5: 11 ولوقا 20: 17). (69) قال يسوع: طوبى للذين اضطهدوا في قلوبهم لأنهم عرفوا الآب الحق، طوبى للجياع؛ لأن بطن المحتاجين سوف تملأ (قارن مع متى 5: 6). (70) قال يسوع: عندما تستولد ما في باطنك، فإن ما عندك سوف يخلصك، فإذا لم يكن عندك ذلك في باطنك، فما تعدمه في باطنك سوف يقتلك. (71) قال يسوع: سوف أهدم هذا البيت، ولن يتمكن أحد من إعادة بنائه. (72) جاءه رجل وقال: قل لإخوتي يقاسموني ميراث أبي، أجاب يسوع: يا رجل، من جعلني قساما، ثم التفت إلى تلاميذه وقال لهم: لست قساما، أليس كذلك؟ (قارن مع لوقا 12: 13). (73) قال يسوع: الحصاد وافر ولكن الأجراء قليلون فتوسلوا إلى الآب أن يرسل أجراء إلى الحصاد (قارن مع متى 9: 37-38، ولوقا 10: 2). (74) قال يسوع: يا رب، كثيرون واقفون حول ميزاب الشرب، ولكن ما من شيء في البئر. (75) قال يسوع: كثيرون واقفون بالباب، لكن المتوحدين هم الذين يدخلون مخدع العرس. (76) قال يسوع: يشبه ملكوت الآب تاجرا لديه حمل من البضائع ثم وجد لؤلؤة، فكان فطنا بحيث إنه باع بضاعته كلها واشترى اللؤلؤة، أنتم أيضا فتشوا عن كنزه الذي لا ينضب حيث لا سوس ينخر ولا ديدان تتلف (قارن الشطر الأول مع متى 13: 45، والشطر الثاني مع متى 6: 19-21، ولوقا 12: 32-34). (77) قال يسوع: أنا النور الذي فوق كل شيء، أنا الكل، الكل مني خرج، وإلي الكل وصل، اشطر الحصبة فأكون هناك، ارفع الحجر تجدني هناك. (78) قال يسوع: لم خرجتم إلى الفلاة؟ ألرؤية قصبة تهزها الريح (يوحنا المعمدان)؟ أم لرؤية امرئ في ثياب ناعمة مثل حكامكم وسادتكم؟ يرتدون الثياب الناعمة وهم بعيدون عن الحقيقة (قارن مع متى 11: 7-11، ولوقا 7: 24-28). (79) قالت له امرأة من الجمع: طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك، قال لها: طوبى للذين سمعوا كلمة الآب وحفظوها، فستأتي حقا أيام تقولون فيها: طوبى لبطن لم يحمل ولثديين لم يدرا لبنا (قارن مع لوقا 11: 27-28). (80) من عرف (حقيقة) العالم، عرف (حقيقة) الجسد، ومن عرف (حقيقة) الجسد فالعالم ليس أهلا له. (81) قال يسوع: ليحكمن من اغتنى ، وليزهدن صاحب السلطان في سلطانه. (82) قال يسوع: من هو قربي هو قرب النار، والبعيد عني بعيد عن الملكوت. (83) قال يسوع: الصور بادية للناس، لكن النور الذي في باطنها مستور في صورة نور الآب، سوف يعلن عن نفسه، لكن صورته محجوبة بنوره. (84) قال يسوع: عندما ترون مظهركم تسرون، ولكن هل ستتحملون رؤية صوركم التي وجدت قبلكم، والتي لا تموت ولا تتبدى؟ (85) نشأ آدم عن قوة عظيمة وغنى واسع، لكنه لم يكن أهلا لكم، لو كان أهلا لكم لما ذاق الموت. (86) قال يسوع: للثعالب أوجرة وللطيور أعشاش، لكن ليس لابن الإنسان موضع يسند عليه رأسه ويرتاح (قارن مع متى 8: 20، ولوقا 9: 58). (87) قال يسوع: الجسم العالة على جسم ما أشقاه، والنفس العالة على هذين الاثنين ما أشقاها. (88) قال يسوع: الملائكة والأنبياء سيأتون ويعطونكم ما يخصكم، أنتم بدوركم أعطوهم ما لديكم، وقولوا في أنفسكم: متى يأتون ويأخذون ما يخصهم؟ (89) قال يسوع: لم تغسلون ظاهر الكأس؟ ألا تفهمون أن الذي صنع الباطن هو الذي صنع الظاهر أيضا؟ (قارن مع متى 23: 25-26، ولوقا 11: 39-40). (90) قال يسوع: تعالوا إلي فإن نيري هين وسلطاني خفيف، ولسوف تجدون الراحة لنفوسكم (قارن مع متى 11: 28-30). (91) قالوا له: قل لنا من أنت فنؤمن بك، قال لهم: تفحصون وجه السماء والأرض، لكنكم لا تعرفون الذي أمامكم ولا تستبصرون وقتكم هذا (قارن مع يوحنا 14: 5-10). (92) قال يسوع: اطلبوا تجدوا، الأشياء التي سألتم عنها سابقا ولم تلقوا مني جوابا، أريد الآن قولها لكم، ولكنكم لا تسألون (قارن الجملة الأولى مع متى 7: 7-8). (93) قال يسوع: لا تعطوا ما هو مقدس للكلاب لئلا ترميه على كوم الزبل، لا تلقوا بدرركم إلى الخنازير (قارن مع متى 7: 6). (94) قال يسوع: من يطلب يجد ومن يقرع يفتح له (قارن مع متى 7: 7، ولوقا 11: 9-10). (95) قال يسوع: إذا كان لديكم مال فلا تقرضوه بالربا، بل أعطوه لمن لن يرده لكم. (96) قال يسوع: يشبه ملكوت الآب امرأة وضعت قليلا من الخميرة في العجين وصنعت منه أرغفة كبيرة، من له أذنان للسمع فليسمع (متى 13: 33، ولوقا 13: 18-19). (97) قال يسوع: يشبه ملكوت الآب امرأة تحمل جرة مملوءة طحينا، وتغذ السير على طريق طويلة، انكسر مقبض الجرة وأخذ الطحين يتسرب من خلفها على الطريق دون أن تدري به، عندما بلغت دارها وضعت الجرة على الأرض فاكتشفت أنها فارغة. (98) قال يسوع يشبه ملكوت الآب رجلا يخطط لقتل صاحب سلطان، ولكي يتأكد من قوة ساعده، امتشق في البيت حسامه وطعن الجدار وبعد ذلك مضى لمهمته. (99) قال له التلاميذ: إخوتك وأمك يقفون خارجا (يطلبونك)، قال لهم: الذين يعملون منكم إرادة أبي هم إخوتي وأمي، وهم الذين يدخلون ملكوت أبي (قارن مع لوقا 8: 20-21). (100) عرضت على يسوع عملة ذهبية وقيل له: رجال قيصر يطلبون منا جزية، قال لهم: أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وأعطوني الذي لي (قارن مع مرقس 12: 14-17، ومتى 22: 17-22، ولوقا 20: 21-25). (101) قال يسوع: من لم يبغض أما وأبا مثلي، لا يستطيع أن يكون تلميذي، ومن لم يحب أما وأبا مثلي، لا يستطيع أن يكون تلميذي، فإن أمي ... لكن أمي الحقة قد وهبتني الحياة. (102) قال يسوع: الويل للفريسيين، فإنهم أشبه بكلب رابض فوق معلف للثيران، فلا هو يأكل ولا يدع الثيران تأكل. (103) طوبى للمرء الذي يعرف من أين سيدخل اللصوص، فإذا صحا استجمع قواه وتسلح قبل أن يدخلوا. (104) قالوا ليسوع: هيا نصلي اليوم ونصوم، قال يسوع: أي خطيئة اقترفت؟ وكيف أخفقت؟ بالحري عندما يترك العريس مخدع العرس، دعوا القوم يصومون ويصلون (قارن مع مرقس 220: 8). (105) قال يسوع: من عرف أبا وأما، ابن عاهرة يدعى. (106) قال يسوع: عندما تجعلون الاثنين واحدا تصيرون أبناء بشر، عندها تقولون أيها الجبل انتقل من هنا فينتقل. (107) قال يسوع: يشبه الملكوت راعيا عنده مائة خروف، ضل منه أكبرها، فترك التسعة والتسعين، وبحث عن الضال حتى وجده، وبعد أن تجشم كل هذا العناء، قال للخروف: أحبك أكثر من التسعة والتسعين (قارن متى 18: 12-14، ولوقا 15: 3-7). (108) قال يسوع: من يشرب من فمي يصبح مثلي، وأنا أصير ذلك المرء، والأشياء المستورة تنكشف له. (109) قال يسوع: يشبه الملكوت رجلا لديه حقل فيه كنز مخبوء لم يكن يعلم به، وعندما مات ورث ابنه الحقل ولم يعرف أيضا بوجود الكنز فباعه، وعندما شرع الشاري بحراثة الحقل اكتشف الكنز، وبدأ يقرض المال بالربا لمن يريد (قارن مع متى 13: 44). (110) قال يسوع: من وجد العالم واغتنى، فليزهد في العالم. (111) قال يسوع: السموات والأرض سوف تدرج أمام أنظاركم، ولكن من يحيا في الواحد الحي لن يرى الموت، ألم يقل يسوع إن من وجد نفسه فالعالم ليس أهلا له؟ (112) قال يسوع: الويل للجسد العالة على النفس، والويل للنفس العالة على الجسد. (113) قال له تلاميذه: متى يأتي الملكوت؟ قال: لن يأتي بترقبه، لا يقال لكم انظروا هنا، أو انظروا هناك، بل إنه بالحري مبسوط على الأرض ولكن الناس لا يرونه. (114) قال لهم سمعان بطرس: على مريم (المجدلية) أن تنفصل عنا؛ لأن النساء لسن أهلا للحياة (الروحية)، فقال يسوع: انظروا فإني سوف أرشدها لأجعل منها ذكرا، فتصير هي الأخرى روحا حية تشبهكم أنتم الذكور، فإن كل امرأة تجعل نفسها ذكرا تدخل ملكوت السموات.
شروح وتعليقات على إنجيل توما
الاستهلال : يدعى مدون هذا الإنجيل، في المقطع الاستهلالي، بيهوذا توما التوأم، وقد وردت كلمة التوأم في النص اليوناني الأصلي «ديديم»
Didymus
لتفسر الكلمة الأرامية «توما» والتي تعني التوأم، فاسم صاحب هذا الإنجيل هو «يهوذا» ولقبه هو «توما» أي التوأم، وتوما هذا هو أحد التلاميذ الاثني عشر، والذي تعزو إليه التقاليد التبشيرية في مناطق فارس والهند، والاتجاه السائد الآن لدى الباحثين بخصوص التلميذ توما، أو يهوذا توما، هو أنه واحد من إخوة يسوع المذكورين في إنجيل متى 13: 54-56، حيث نقرأ: «أليست أمه مريم، وإخوته يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا؟» (قارن أيضا مع إنجيل مرقس 6: 3)، وقد تعززت هذه الفرضية بعد اكتشاف نص «كتاب توما المناضل» بين مخطوطات نجع حمادي، حيث ينادي يسوع توما ب «يا أخي»، ويقول له أيضا: «بما أنك تدعى أخي». (1) المقصود بالخفاء هنا هو عمق المعنى، لا سرية النص؛ ولهذا قال: إن من يعرف تأويل هذه الأقوال لن يذوق الموت. (2) إن عملية المعرفة هي جوهر وجود الغنوصي، وعليه متابعتها على الدوام دون كلل أو يأس ؛ لأنها ستقود في النهاية إلى الاستنارة التي يصاحبها في البداية الدهشة والاضطراب، يليها الغبطة والسكون الداخلي، الذي يجعل صاحبه في سيطرة تامة على نفسه وعلى المؤثرات الخارجية. (3-أ) ليس ملكوت السماء واقعة تاريخية سوف تحل في أجل قريب أو بعيد، بل هو حاضر هنا والآن، وأقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، فمن عرفه في داخله رآه مبسوطا في خارجه، ولكن غير العارفين لا يرونه، وقد استخدم يسوع هنا أسلوبا تهكميا في حديثه عن أسماك البحر وطيور السماء، ساخرا من مفهوم الملكوت التوراتي، وقد ورد في إنجيل لوقا 17: 20-21 قول مشابه: «إن ملكوت الله لا يستدل عليه بشيء، ولا يقال لكم هو ذا هنا أو هو ذا هناك، فإن ملكوت الله هو فيكم.» (3-ب) في إنجيل توما، كما في بقية الأدبيات الغنوصية، تقترن الروح بالثروة، والجسد بالفقر، فمن عرف نفسه عرفه ربه ومد له يد الخلاص، ومن لم يعرف نفسه بقي مقيما في الجسد المادي أسيرا لدورة التناسخ. (4) الشيخ الطاعن في السن، هنا، يمثل الإيمان اليهودي القديم، بينما يمثل الطفل الإيمان المسيحي الجديد الذي يهب الحياة.
لقد اعتقد اليهود أنهم أهل الملكوت والسباقون إليه، ولكن يسوع يقول لهم إنهم قد غدوا آخرين، أما المسيحيون الذين جاءوا في الزمن متأخرين فسيغدون الأولين والسباقين إلى الملكوت.
وإني أرجح أن جملة من النص الأصلي قد سقطت من الترجمة القبطية التي أعيد بناؤها على الشكل التالي: «ذلك أن كثيرا من الأولين سيغدون آخرين، ومن الآخرين يغدون أولين ويصيرون واحدا.» وإعادة البناء هذه تستند إلى ما ورد في إنجيل متى: «كثير من الأولين يصيرون آخرين ومن الآخرين يصيرون أولين» (19: 30)، وهؤلاء الآخرون يصيرون واحدا، أي يكتملون بالمصطلح الغنوصي. (5) المعرفة الحقة للعالم تكشف لك أصله المتجذر في الشر والظلام. (6) يعلن يسوع هنا سدى الطقوس التي أسست لها شريعة موسى، وينتقد الأخلاقية البراغماتية اليهودية، وقوله هنا شبيه من حيث المضمون بقول له في إنجيل متى: 22، فقد سأله أحد الفريسيين: يا معلم، ما هي أكبر وصية في الشريعة؟ فقال له: أحبب الله ربك ... أحبب قريبك حبك لنفسك، بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة كلها والأنبياء.
ويمكن مقارنة الشطر الثاني من هذا القول بما ورد في إنجيل متى: «فما من مستور إلا سيكشف، وما من مكتوم إلا سيعلم» (متى 10: 26)، وبما ورد في إنجيل لوقا: «فما من خفي إلا سيظهر، وما من مكتوم إلا سيعلم» (لوقا 8: 17). (7) ربما كان المراد هنا التعبير عن صراع النوازع البهيمية مع النوازع الروحانية عند الإنسان، فالإنسان الذي يأكل الأسد هو الذي يطهر نوازعه البهيمية ويؤنسنها، والأسد الذي يأكل الإنسان هو النوازع البهيمية التي تسيطر على كيان الإنسان وتملؤه؛ لهذا أرجح وجود خطأ ارتكبه الناسخ القبطي، وأن الشطر الأخير يجب أن يقرأ على الوجه التالي: وملعون الإنسان الذي يأكله الأسد فيصير الإنسان أسدا. (8) أمام الإنسان في هذه الحياة خيارات كثيرة في الطريقة التي ينفق بها أيامه المعدودة، المفلحون فقط هم الذين يدركون أن هناك طريقا واحدا لتحقيق الغاية من وجودهم فيتبعونه، وفي قول يسوع هذا شبه بقول له ورد في إنجيل متى: «مثل ملكوت السموات كمثل تاجر كان يطلب اللؤلؤ الكريم، فوجد لؤلؤة ثمينة فمضى وباع جميع ما يمتلك واشتراها» (متى 13: 45). (9) البذار هنا هو تعاليم يسوع، وكيفية تلقيها وفهمها والعمل بها من قبل شرائح مختلفة من الناس، وهذا القول له ما يوازيه في إنجيل متى 13: 3-9، وإنجيل مرقس 4: 3-9، وإنجيل لوقا 8: 7-8، كما ورد في إنجيل يوحنا ما يؤدي المعنى نفسه، ولكن بشكل أكثر اختصارا: «أثبتوا في وأنا فيكم، لم تختاروني أنتم بل أنا الذي اخترتكم، وأقمتكم لتنطلقوا وتثمروا ويبقى ثمركم» (يوحنا 15: 16). (10) أي إن يسوع قد جاء ليقضي على كل ما هو قديم، ويستبدله بكل ما هو جديد، وفي قوله: «ألقيت على العالم نارا»، صورة بلاغية للتعبير عن هذا التغيير الجذري، وقد ورد في إنجيل لوقا: «جئت لألقي على الأرض نارا، وكم أرجو أن تكون قد احترقت» (لوقا 12: 29). (11-أ) الموتى الذين لن يحيوا هم غير العارفين، أما الأحياء الذين لن يموتوا فهم العارفون، لا قيامة عامة للأموات في اليوم الأخير؛ لأن القيامة هي واقعة فردية تحصل للإنسان في لحظة الاستنارة، ومن حقق العرفان قد بعث من الموت قبل أن يموت، وما عليه سوى انتظار واقعة الموت التي ستنزع عنه رداءه المادي وتحوله إلى روح منعتقة. (11-ب) الحياة في هذا العالم تتغذى على الموت، ولكنها في عالم النور تتغذى على النور، وفي قوله: «يوم كنتم واحدا صرتم اثنين» إشارة إلى المفهوم الغنوصي عن الكمال البدئي السابق لانقسام الإنسان إلى ذكر وأنثى، وإني أرجح وجود خطأ في النص القبطي ارتكبه الناسخ، وأن الشطر الأخير من الفقرة (ب) يجب أن يقرأ: «عندما تصيرون واحدا ماذا ستفعلون؟» أي عندما تعود الوحدة الأصلية إلى سابق عهدها، ولعل ما ورد في الفقرة 22 من هذا الإنجيل يؤيد اقتراحي هذا، حيث قال يسوع: «عندما تجعلون الذكر والأنثى واحدا، حتى لا يبقى الذكر ذكرا، ولا الأنثى أنثى». (12) يعقوب البار هو أخو يسوع (راجع متى 13: 55 ومرقس 6: 3)، وكان رأس كنيسة أورشليم في العصر الرسولي (راجع أعمال الرسل 12: 17 و15: 13 و21: 18، وكذلك رسالة بولس إلى أهالي غلاطية 2: 9 و12). (13) يمثل يسوع في اللاهوت المسيحي التقليدي حالة فريدة في تاريخ البشرية وعلاقتها بعالم الألوهة، أما في الفكر الغنوصي فإن غاية الرحلة العرفانية أن تجعل العارف في تماه كامل مع يسوع، بحيث يغدو هو نفسه مسيحا لا مسيحيا، وفي الفقرة 108 من هذا الإنجيل قال يسوع: «من يشرب من فمي يصبح مثلي، وأنا أصير ذلك المرء.» (14-أ) إن الغنوصي الذي يصوم عن العالم ليس بحاجة إلى الصيام التعبدي اليهودي، والذي يكون في حالة تواصل دائم مع الإله ليس بحاجة إلى طقس الصلاة الشكلي، والذي تنبع أخلاقه عن التزام حر وأصيل ليس بحاجة إلى أخلاق الشريعة المفروضة من الخارج. (14-ب) الشطر الثاني من هذه الفقرة يشبه ما ورد في إنجيل لوقا 10: 8: «وأية مدينة دخلتم وقبلوكم، فكلوا مما يقرب إليكم.» وورد في إنجيل متى قوله: «ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان ... فمن القلب تنبعث مقاصد القتل والزنى والفحش والسرقة ...» (15: 10-20). لقد ألغى يسوع شريعة الطعام التوراتية، وحلل للمسيحيين كل الأطعمة دون تمييز بين ما هو طاهر للأكل وما هو نجس، وفي هذا يقول مؤلف إنجيل مرقس بأن يسوع قد جعل كل الأطعمة طاهرة (مرقس 7: 19). (15) ربما كانت الإشارة هنا إلى المسيح الغنوصي الذي لم يولد من امرأة بشرية. (16) ليس يسوع مصلحا اجتماعيا جاء ليرمم ما هو قديم، وإنما هو ثوري راديكالي جاء ليحدث قطيعة تامة مع الماضي، ومثل هذه الرسالة لن تحقق أهدافها إلا بإحداث صدع في البنى الاجتماعية والسياسية والدينية السائدة (قارن مع متى 10: 34، ولوقا 12: 49-51). (17) ملكوت السموات ليس نسخة محسنة عن العالم المادي، بل هو عالم روحاني بحت لا يستطيع أهل هذا العالم تصوره. (18) عندما تجلى المسيح ليوحنا، في كتاب يوحنا السري، قال له: «جئت لأكشف عن حقيقة ما هو كائن ، والذي كان، والذي سيكون.» وفي كتاب توما المناضل قال يسوع لتوما: «تفحص نفسك لكي تعرف من أنت، وكيف جئت، وما الذي ستئول إليه.» أي إن توق الإنسان لمعرفة حال نهايته لن يتيسر قبل معرفة أصله القديم في عالم النور، وشرطه الحالي كأسير في العالم المادي، عند ذلك تنكشف له أحوال النهاية التي تتطابق مع أحوال البداية. (19) يعطف قول يسوع هنا على قوله السابق ويتممه، ذلك أن العارف هو الذي يتوصل إلى إدراك وجوده الروحاني القديم السابق على وجوده الأرضي، وعلى حد قول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي: «من كان أصله العدم في القدم، كانت غربته الوجود.» (20) ورد في إنجيل متى قوله: «مثل ملكوت السموات كمثل حبة من خردل أخذها رجل فزرعها في حقله. هي أصغر الحبوب كلها، فإذا نمت كانت أكبر البقول، بل صارت شجرة حتى تأتي طير السماء فتستظل في أغصانها» (13: 31-32)، (قارن أيضا مع مرقس 4: 30-32، ولوقا 13: 18-19)، أي إن لملكوت الله قوة خفية تنميه حتى يدرك غايته. (21-أ) الأطفال الصغار هم العارفون الذين حققوا التمام والوحدة الأصلية، والحقل هو العالم الذي يعيش فيه العارفون عيشة الغرباء، أما خلع الثياب هنا فيتضمن معنيين: المعنى الأول أن العارفين قد حققوا التمام والوحدة الأصلية، فصار خارجهم مثل داخلهم، والمعنى الثاني يشير إلى ما حصل في اللحظة الأولى من التاريخ البشري عندما راح آدم وحواء يستران عورتيهما بعد الخطيئة الأصلية، وإلى ما سيحصل في النهاية عندما يخلع العارفون هذه الثياب نفسها كعلامة على النقاء والطهارة، والتخلص من الخطيئة الأصلية التي هي الجهل، ويمكن مقارنة غربة العارفين في هذا العالم بما ورد في إنجيل يوحنا: «إن أبغضكم العالم فاعلموا أنه أبغضني قبل أن يبغضكم، لو كنتم من العالم لأحب العالم من كان منه، ولكن أبغضكم العالم لأنكم لستم منه» (15: 18-19). (21-ب) قال يسوع في إنجيل متى: «فاسهروا إذا؛ لأنكم لا تعلمون أي يوم يأتي سيدكم، واعلموا أنه لو عرف رب البيت أي ساعة من الليل يأتي اللص لسهر ولم يدعه ينقب بيته. فكونوا على أهبة ؛ لأن ابن الإنسان يأتي في ساعة لا تتوقعونها» (24: 42-43)، (قارن أيضا مع لوقا 12: 39-40)، ولكن السهر في إنجيل توما ليس ترقبا لنهاية العالم التي تمهد لها عودة المسيح، كما هو الحال في الأناجيل الإزائية، بل هو سهر ضد العالم ومغرياته. (21-ج) قال يسوع في إنجيل مرقس: «مثل ملكوت الله كمثل رجل يبذر الزرع في الأرض، ثم ينام ويقوم ليل نهار، والزرع ينبت وينمى، وهو لا يدري كيف كان ذلك، فالأرض من نفسها تنبت العشب أولا، ثم السنبل، ثم القمح الذي يملأ السنبل، فإذا أدرك الثمر، أعمل فيه المنجل من ساعته لأن الحصاد قد حان» (4: 26-29)، والمعنى هنا شبيه بمعنى الفقرة 20 سابقا، والتي تتحدث عن حبة الخردل. (22) مرة أخرى يشبه يسوع هنا العارفين الذين حققوا الوحدة الأصلية بالأطفال الصغار. (24) يسوع باعتباره ممثلا لمبدأ العرفان هو في قلب العارف، وطلب المعرفة هو انكفاء على الذات لتتلمس النور الداخلي فيها. (25) راجع التعليق على الفقرة 6، وقارن مع يوحنا 13: 34-35. (26) قارن مع متى 7: 3-4، ولوقا 6: 41-42، والمعنى هنا يدور حول جلي البصيرة الداخلية، حتى تتمكن عين الرأس من الرؤية بوضوح. (27) انظر التعليق على الفقرة 14. (28) البشر في هذا العالم غافلون عن حقيقتهم وشرط وجودهم، وهم أشبه بالنائمين أو السكارى، وفي هذا الموضوع يقول النص الغنوصي المعروف بعنوان «تعاليم سيلفانوس»: قم من هذا النوم الذي يثقل عليك، اصح من الغفلة التي تملؤك بالظلام، لماذا تطلب الظلام مع أن النور متاح لك، الحكمة تناديك، فلماذا تطلب الحماقة. (29) يؤكد يسوع هنا على ثنائية الروح والجسد، وهو يشبه الروح بالثروة والجسد بالفقر. (30) يمكن تفسير هذه الفقرة مقارنة بما ورد في إنجيل يوحنا: «من رآني رأى الآب.» وأيضا: «إني في الآب وإن الآب في» (يوحنا 14: 6-11). (34) الأعمى الذي يقود أعمى آخر، هم الفريسيون الذين يقودون اليهود، قال يسوع في إنجيل يوحنا 9: 38-40: «جئت إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون. فسمعه بعض الفريسيين الذين كانوا معه فقالوا: أفنحن أيضا عميان؟ قال لهم يسوع: لو كنتم عميانا لما كان عليكم خطيئة، ولكنكم تقولون إننا نبصر، فخطيئتكم ثابتة.» (37) راجع التعليق على الفقرة 21(أ) (39-أ) ورد هذا القول بحرفيته تقريبا عند لوقا: «الويل لكم يا علماء الشريعة، قد استوليتم على مفاتيح المعرفة فلا أنتم دخلتم ولا الذين أرادوا الدخول تركتموهم يدخلون» (11: 52). (39-ب) وورد في إنجيل متى: «ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام» (10: 16). (40) ورد ما يشبه هذا القول عند لوقا (8: 18) وعند مرقس (4: 24) وعند متى (13: 12)، والمعنى هنا قريب من مؤدى قول لكونفوشيوس: «الحكيم يتطور باتجاه الأعلى، أما الجاهل فيتطور باتجاه الأسفل.»
4
فمن ابتدأ طريق المعرفة يزاد له في المعرفة، ومن رضي بجهله ازداد جهلا وحرم حتى من قليل المعرفة الذي يملك. (42) يحيلنا هذا القول مرة أخرى إلى قوله في الفقرة 21، حيث شبه العارفين بأطفال يعيشون في حقل لا يخصهم، فالغنوصي يعيش في هذا العالم لا كمقيم، وإنما كعابر سبيل. (43) يمكن تفسير هذه الفقرة بما ورد في إنجيل يوحنا 14: «لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضا، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه، قال له فيليبس: يا سيد أرنا الأب وكفانا، قال له يسوع: أنا معكم زمانا هذه مدته، ولم تعرفني يا فيليبس؟ الذي رآني رأى الآب، فكيف تقول أرنا الآب، ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب في» (14: 7-10). (45) ورد في إنجيل لوقا 64: 3-45 قول يتطابق إلى حد كبير مع هذا القول، وفي إنجيل متى 7: 16-17 ما يشبهه. (47) الحصانان، أو القوسان، هنا، هما الجسد والروح، وفيما يتعلق بالخمر القديمة والجديدة، والرقعة التي تخاط على الثوب، قارن مع متى 9: 16-17، ومرقس 2: 21-22، ولوقا 5: 36-39، ويسوع هنا ينفي إمكانية التوفيق بين العقيدة اليهودية القديمة والعقيدة المسيحية الجديدة. (48) يظهر في هذا القول المعنى الإيجابي لقوله في الفقرة 16 بأنه قد جاء ليلقي على الأرض شقاقا. (49) راجع شرح الفقرتين 18 و19. (50) الصور النورانية التي تجلى فيها النور الأصلي هي أفلاك القوى الروحانية التي تحيط بالأب الأعلى وتعكس مجده، الروح والراحة، هي الحركة في هذا العالم، والراحة والثبات في الملأ الأعلى. (51) انظر شرح الفقرة 3. (52) يؤكد يسوع هنا على القطيعة مع التاريخ الديني اليهودي. فالشريعة والأنبياء أمر ينتهي مع يوحنا المعمدان ، كما أوضح يسوع في إنجيل لوقا 16: 16، وخمر الإنجيل لا يمكن صبها في آنية عتيقة، كما قال في إنجيل مرقس 2: 21-22، وبعد البشارة هناك أب واحد فقط، وهناك مرشد واحد فقط هو يسوع المسيح، كما قال في إنجيل متى 23: 9-10، وكلمات هذا المرشد لا تزول حتى بعد زوال السماء والأرض: «السماء والأرض تزولان وكلامي لن يزول» (لوقا 33: 34). (53) كما في أقوال سابقة فإن يسوع هنا ينقض شريعة الحرف التوراتية، ويستبدلها بشريعة القلب والروح. وكما كان الصيام الحقيقي هو صيام عن العالم (الفقرة 27)، كذلك هو الختان الحقيقي الذي هو ختان الروح (راجع أيضا شرح الفقرتين 6 و14). (55) يتفق هذا القول مع ما ورد في إنجيل لوقا: «إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضا، فلا يقدر أن يكون لي تلميذا، ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذا» (14: 26-27)، والمقصود هنا قطع كل الروابط الأرضية بما في ذلك قطع رابطة العارف مع ذاته القديمة. (56) عندما يتوصل الغنوصي إلى معرفة العالم حق معرفته لا يرى فيه سوى جيفة، فيشيح بوجهه عنها ويغدو فوق العالم. (57) الشر في هذا العالم (= الزؤان) مختلط بالخير (البذار الطيب)، ولا يمكن استئصال هذا الشر إلا عندما تعم معرفة الله على أوسع نطاق بين البشر. (58) راجع شرح الفقرة 2. (59) لن يرى الله بعد الموت إلا من رآه رؤية القلب الحقة في الحياة. (61-أ) إشارة إلى العارفين الناجين، وغير العارفين الهالكين. (61-ب) يتحقق التمام بالقدر الذي يستطيع فيه الإنسان توسيع مساحة النور في داخله لتطغى على مساحة الظلام، ويبقى المرء منقسما طالما كان في داخله نور خاب هو نور الروح الأصلي، وظلام طاغ هو ظلام النفس الدنيوية. (62-أ) يعطف قول يسوع هنا على قوله في الفقرة 93: «لا تعطوا ما هو مقدس للكلاب، ولا تلقوا بدرركم إلى الخنازير.» (62-ب) لم أجد علاقة لهذا الشطر بما سبقه، ويمكن تفسيره بما ورد في إنجيل متى: «فإذا تصدقت فلا تدع شمالك تعلم ما تفعل يمينك» (6: 3). (63) على المرء أن يبحث عن الكنز الحقيقي الباقي الذي لا ينضب، حيث لا سوس ينخر ولا ديدان تتلف، على حد قول يسوع في الفقرة 76 لاحقا. (64) ورد هذا المثل عند لوقا 14: 16-24، ويمكن تفسيره بما ورد قبله في الآيات 12: 14، حيث قال يسوع: «إذا صنعت غداء أو عشاء، فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء؛ لئلا يدعونك هم أيضا فتنال المكافأة على صنيعك، ولكن إذا أقمت مأدبة فادع الفقراء والكسحان والعميان، فطوبى لك إذ ذاك لأنهم ليس بوسعهم أن يكافئوك.»
ويمكن تفسير هذا المثل في إحجام اليهودي عن رسالة يسوع، بعد أن كانوا أول من دعي، والتفات يسوع إلى الأمم من غير اليهود. (65) الكرامون هم اليهود قتلة الأنبياء، والابن هو يسوع، وفي إنجيل متى وصف يسوع اليهود بأنهم قتلة الأنبياء: «أيها الحيات أولاد الأفاعي، أنى لكم أن تهربوا من عقاب جهنم؟ ها أنا ذا أرسل لكم من أجل ذلك أنبياء وحكماء وكتبة، ففريقا تقتلون وتصلبون، وفريقا في مجامعكم تجلدون ومن مدينة إلى مدينة تطاردون، حتى يقع عليكم كل دم زكي سفك على الأرض» (23: 33-35).
وقد ورد مثل صاحب الكرم في إنجيل لوقا 20: 9-16، بحذافيره تقريبا. (66) الحجر الذي رذله البناءون هو يسوع (قارن مع لوقا 20: 17). (67) ورد في النص الغنوصي المعروف بعنوان كتاب توما المناضل: «إن من لم يعرف نفسه لم يعرف شيئا، ولكن من عرف نفسه حقق معرفة بأعمال الكل.» (70) إشارة إلى النور في داخل الإنسان. (71) المقصود بالبيت هنا هو هيكل أورشليم الذي يرمز إلى الإيمان القديم الذي قوضه يسوع. (72) أي إن يسوع هو صاحب رسالة روحية لا صاحب شريعة. (73) لعل في كيفية استخدام كل متى ولوقا لهذا القول توكيد على ما ذهبنا إليه في استهلالنا لإنجيل توما، من أن معظم المادة الإنجيلية قد بنيت انطلاقا من أقوال يسوع التي كانت متداولة قبل وضع سيرته، فلقد فهم متى هذا القول بطريقة مختلفة عن لوقا، وقدم له بمناسبة مختلفة عندما قال: «وكان يسوع يسير في جميع المدن والقرى، ويعلم في مجامعهم ويعلن بشارة الملكوت، ويشفي الناس من كل مرض وعلة ، ورأى الجموع فأخذته الشفقة عليهم؛ لأنهم كانوا تعبين رازحين كغنم لا راعي لها، فقال لتلاميذه: الحصاد كثير ولكن العملة قليل، فاسألوا رب الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده» (9: 35-38).
أما لوقا فقد عبر عن فهم مغاير لهذا القول عندما ربطه بنشر رسالة يسوع: «وبعد ذلك، أقام الرب اثنين وسبعين آخرين، ثم أرسلهم اثنين اثنين يتقدمونه إلى كل مدينة أو موضع كان مزمعا أن يذهب إليه، وقال لهم: الحصاد كثير ولكن العملة قليل، فاسألوا رب الحصاد أن يرسل عملة إلى حصاده، اذهبوا فها أنا ذا أرسلكم كالحملان بين الذئاب ... إلخ» (10: 1-3).
وفي الحقيقة فلقد أصاب لوقا المعنى أكثر من متى، فالعملة أو الأجراء، هم الرسل، والحصاد الكثير هو العمل الشاق الذي ينتظرهم، ويسوع هنا يأمل أن يزداد عدد المبشرين برسالته. (74) المقصود هنا أن البئر فارغ على الرغم من امتلائه بالماء؛ لأن ماء الطبيعة يروي العطش ولكنه لا يهب الحياة الأبدية، على عكس الماء الذي يقدمه يسوع، قال يسوع في إنجيل يوحنا: «من يشرب من هذا الماء فلا بد له أن يظمأ، أما الذي يشرب من الماء الذي أعطيه إياه فلن يظمأ أبدا، فالماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجر حياة أبدية» (4: 13-14)، وقال أيضا: «من كان عطشان فليأتني، ومن آمن بي فليشرب» (7: 37)، كما استخدم يسوع أيضا مجاز الخبز عندما قال في إنجيل يوحنا أيضا: «أنا خبز الحياة، من يأتني لا يجع أبدا، ومن يؤمن بي لا يعطش أبدا» (6: 35). (75) الدخول إلى حلقة العارفين لا يتحقق بالتمني بل بالكدح. (76) في الشطر الأول من هذه الفقرة تكرار للمعنى الوارد في الفقرة 8 سابقا، وللشطر الثاني ما يوازيه عند متى ولوقا، نقرأ في إنجيل متى: «لا تكنزوا لأنفسكم كنوزا في الأرض، حيث يرعى السوس والعث، وينقب اللصوص فيسرقون، بل اكنزوا لأنفسكم كنوزا في السماء، حيث لا يرعى السوس والعث، ولا ينقب اللصوص فيسرقوا، فحيث يكون كنزك يكون قلبك» (6: 19-21) (قارن مع لوقا 12: 32-34). (77) يقترب يسوع هنا من أفكار الحكمة الشرق أقصوية، ولا سيما اللاثنائية الهندوسية (الأدفاييتا)، التي تقول بوحدة الوجود. (78) الحديث هنا عن يوحنا المعمدان، وقد ورد هذا القول في إنجيل متى على الشكل التالي: «فلما انصرفوا أخذ يسوع يقول للجموع في شأن يوحنا: ماذا خرجتم إلى البرية تنظرون؟ أقصبة تهزها الريح؟ بل ماذا خرجتم ترون؟ أرجلا يلبس الثياب الناعمة؟ ولكن الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك، بل لماذا خرجتم؟ ألكي تروا نبيا؟ أقول لكم أجل، بل أكرم من نبي فهذا الذي كتب في خبره: ها أنا ذا أرسل رسولي قدامك ليعد الطريق أمامك» (11: 6-10)، وقد وردت عند لوقا رواية مشابهة، ولكننا نلاحظ أن المعنى الغنوصي الذي أراده يسوع في إنجيل توما مفقود في الإنجيلين الآخرين. (79) يحول يسوع هنا انتباه سامعيه من شخصه إلى رسالته، كما أنه يعلي من شأن العائلة الروحية في مقابل العائلة البيولوجية الاجتماعية. (80) من عرف حقيقة العالم، عرف جسده فزهد فيه وتعالى عنه. (81) المعنى غامض، والشطر الأول من هذا القول لا يتفق وشطره الثاني. (82) كناية عن قوة رسالة يسوع وصعوبة الطريق. (83) يمكن رؤية الجسد المادي لأنه ينتمي إلى العالم المادي، ولكن الروح التي تنتمي إلى الله لا يمكن رؤيتها لأنها قبس من النور الأعلى. (84) لا يدري المرء من وراء صورته التي يزهو بها في هذا العالم، صورة أخرى نورانية موجودة منذ القدم، صورة لا تموت مثل الصورة المادية ولا تتمظهر على طريقتها. (85) المقصود بآدم هنا هو الجسد المادي الفاني الذي ليس أهلا للروح الخالدة، وقد قال بولس الرسول بهذا المعنى: «فقد خلعتم الإنسان القديم وخلعتم معه أعماله ولبستم الإنسان الجديد، ذاك الذي يسير إلى المعرفة الحقيقية في تجدده على صورة خالقه» (كولوسي 3: 9-10). (87) الجسم (= الإنسان) العالة على جسم (= العالم) ما أشقاه، والنفس العالة على الجسم والعالم ما أشقاها. (88) المعنى غامض. (89) يسخر يسوع هنا من شريعة الطهارة اليهودية التي تركز على النظافة الخارجية وتتناسى نظافة الباطن، وقد ورد في إنجيل لوقا: «ألا أيها الفريسيون، تطهرون ظاهر الكأس والصحفة وباطنكم ممتلئ نهبا وفسقا، أيها الجهال، أليس الذي صنع الظاهر قد صنع الباطن أيضا؟» (11: 39-40) (قارن مع متى 23: 25-26). (91) انظر شرح الفقرة 43. (93) لا تتحدثوا بالحكمة أمام أهل الجهل. (96) يشبه هذا المثل في مضمونه المثل الوارد في الفقرة 20. (97) على المريد أن يفرغ نفسه من شئون هذا العالم تدريجيا ليدخل الملكوت. (98) ربما كان المقصود هنا ما تتطلبه الرحلة الروحية للمريد من استعداد مسبق. (99) يؤكد هنا مرة أخرى على أسبقية العائلة الروحية على العائلة البيولوجية الاجتماعية. (101) انظر التعليق على الفقرة 55، الأب والأم في الجملة الثانية هما الآب والروح القدس، ونستطيع ملء الفراغ بعد كلمة أمي ... على الوجه التالي: فإن أمي (الأرضية قد وهبتني الموت) لكن أمي الحقة قد وهبتني الحياة. (102) يشبه هذا القول من حيث المضمون قوله في الفقرة 39: «أخذ الفريسيون والكتبة مفاتيح المعرفة وأخفوها، فلا هم دخلوا ولا أجازوا الدخول لمن أراد» (قارن مع لوقا 11: 52). (103) لو عرف المرء الطرق التي يزين له بواسطتها الشيطان إتيان الفواحش، لسد عليه الطريق قبل أن يفلح في إغوائه. (104) لهذا القول صلة بأقوال يسوع السابقة التي يعلن بها سدى الطقوس والعبادات الشكلانية التي لا تصدر عن القلب، وإنما خضوع لشريعة مفروضة مؤيدة بالثواب والعقاب (الفقرة 14 و27 و53)، والشطر الثاني من هذه الفقرة له متوازيات في الأناجيل الإزائية: «وكان تلاميذ يوحنا والفريسيون صائمين، فجاء إليه بعض الناس وقالوا له : لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين ولا يصوم تلاميذك؟ فقال لهم: أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم لا يستطيعون أن يصوموا، ولكن سيأتي زمن فيه يرتفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون» (مرقس 2: 18-20)، (راجع أيضا متى 9: 14-17 ولوقا 5: 33-36). (105) ابن العاهرة، بالمعنى المعتاد هو الذي لا يعرف أما ولا أبا، ولكن يسوع هنا يعكس الآية، فابن العاهرة هو الذي يبقى مشدودا إلى روابطه الأرضية، التي يعبر عنها يسوع مجازا بالأب والأم. (106) يجري الحديث هنا مرة أخرى عن الاكتمال واستعادة الوحدة الأصلية، راجع التعليق على الفقرة 22. (107) ورد هذا المثل في إنجيل لوقا كما يلي: «وكان العشارون والخاطئون يدنون منه جميعا ليسمعوه، فقال الفريسيون والكتبة متذمرين: هذا الرجل يستقبل الخاطئين ويؤاكلهم، فضرب لهم هذا المثل: من منكم إذا كان له مائة خروف فأضاع واحدا منها، ألا يدع التسعة والتسعين في البرية ويمضي ينشد الضال حتى يجده؟ فإذا وجده حمله على كتفيه فرحا، ورجع به إلى البيت ودعا الأصدقاء والجيران، وقال لهم: افرحوا معي فقد وجدت خروفي الضال، أقول لكم، هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر منه بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التوبة» (15: 1-7)، (قارن أيضا مع متى 18: 12-14). (108) راجع التعليق على الفقرة 13. (109) الكنز المخبوء هو النور الداخلي المحجوب تحت غلالات المادة، وقد ورد هذا المثل بشكل مختصر في إنجيل متى، حيث نقرأ: «مثل ملكوت السموات كمثل كنز دفين في حقل، وجده رجل فخبأه، ثم مضى فرحا فباع جميع ما يملك، ثم اشترى ذلك الحقل» (13: 44). (111) راجع التعليق على الفقرة 11. (112) لم أوفق في تفسير هذا القول. (113) راجع التعليق على الفقرة 3. (114) تمثل الأنوثة هنا شهوات الجسد ورغباته، بينما تمثل الذكورة نقاء الحياة الروحية التنسكية، هذه الرمزية المعروفة في الحكمة القديمة شرقا وغربا، لا تعني بأي حال من الأحوال أن الرجال وحدهم هم المؤهلون للحياة الزوجية، فكثير من الرجال يعيشون حياة (أنثوية) وكثير من النساء يعشن حياة (ذكرية)، وفق هذا المفهوم الرمزي للأنوثة والذكورة؛ لهذا قال يسوع بأنه سوف يرشد مريم إلى طريق الحياة الروحية لتغدو ذكرا.
ملحق: الإنجيل بحسب مرقس
الإصحاح الأول (1) بدء بشارة يسوع المسيح، (2) كتب في سفر النبي إشعيا: «ها أنا ذا أرسل رسولي قدامك،
ليعد طريقك، (3) صوت مناد في البرية:
أعدوا طريق الرب،
واجعلوا سبله قويمة.» (4) فتم ذلك يوم خرج يوحنا المعمدان في البرية، يعظ بمعمودية التوبة لغفران الخطايا، (5) وكان يخرج إليه أهل بلاد اليهودية كلها وجميع أهل أورشليم، فيعتمدون على يده في نهر الأردن معترفين بخطاياهم، (6) وكان يوحنا يلبس من وبر الإبل، ويقتات من الجراد والعسل البري، وكان يعلن فيقول: (7) «يأتي بعدي من هو أقوى مني، من لست أهلا لأن أنحني فأحل سير نعليه، (8) أنا عمدتكم في الماء، وأما هو فيعمدكم في الروح القدس.»
اعتماد يسوع (9) وفي ذلك الزمان جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد على يد يوحنا في الأردن (10) وبينما هو خارج من الماء رأى السموات تنشق، والروح ينزل عليه كأنه حمامة (11) وإذا صوت من السماء يقول: «أنت ابني الحبيب الذي عنه رضيت.»
يسوع في البرية (12) ومضى به الروح عندئذ إلى البرية (13) فأقام في البرية أربعين يوما يجربه الشيطان وكان يصحب الوحوش، وكانت تخدمه الملائكة.
2
رسالة يسوع في الجليل
رجوع يسوع إلى الجليل (14) وبعدما سجن يوحنا، جاء يسوع إلى الجليل يعلن بشارة الله، فيقول: (15) «حان الوقت واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالبشارة.»
دعوة التلاميذ الأول (16) وكان يسوع سائرا على شاطئ بحر الجليل، فرأى سمعان وأخاه أندراوس يلقيان الشبكة في البحر؛ لأنهما كانا صيادين، (17) فقال لهما: «اتبعاني أجعلكما صيادي بشر» (18) فتركا الشباك من ذلك الحين وتبعاه، (19) وتقدم قليلا فرأى يعقوب بن زبدي وأخاه يوحنا، وهما أيضا في السفينة يصلحان الشباك (20) فدعاهما من ساعته فتركا أباهما زبدي في السفينة مع الأجراء وتبعاه.
يسوع يعلم في كفر ناحوم ويقهر الشيطان
وجازوا إلى كفر ناحوم فلما أتى السبت دخل المجمع وأخذ يعلم (22) فدهشوا لتعليمه لأنه كان يعلمهم مثل من له سلطان، لا مثل الكتبة (23) واتفق أنه كان في مجمعهم رجل فيه روح نجس، فأخذ يصيح: (24) «ما لنا ولك يا يسوع الناصري؟ أجئت لتهلكنا؟ أنا أعرف من أنت: أنت قدوس الله»، (25) فانتهره يسوع قال: «اخرس واخرج منه!» (26) فخبطه الروح النجس، وصرخ صرخة شديدة، وخرج منه، (27) فدهشوا جميعا وأخذوا يتساءلون: «ما هذا؟ إنه لتعليم جديد يلقى بسلطان! حتى الأرواح النجسة يأمرها فتطيعه!» (28) وذاع ذكره بعد ذلك في كل مكان من الجليل.
شفاء حماة بطرس (29) ولما خرجوا من المجمع جاء إلى دار سمعان وأندراوس يصحبه يعقوب ويوحنا، (30) وكانت حماة سمعان ملقاة على الفراش محمومة، فأطلعوه على حالتها، (31) فدنا منها فأخذ بيدها وأقامها، فأقلعت عنها الحمى وأخذت تقوم بضيافتهم.
شفاء من علل كثيرة (32) وعند المساء بعد غروب الشمس حمل إليه جميع المرضى والممسوسين (33) واحتشدت المدينة بأجمعها على الباب (34) فشفى مرضى كثيرين على اختلاف العلل، وطرد كثيرا من الشياطين ولم يدع الشياطين تتكلم لأنها عرفته.
يسوع يخرج من كفر ناحوم ويسير في الجليل (35) وقام في الصباح مبكرا، فخرج وذهب إلى مكان قفر، وأخذ يصلي هناك (36) فانطلق سمعان وأصحابه يبحثون عنه (37) فلما وجدوه قالوا له: «جميع الناس يطلبونك» (38) فقال لهم: «لنذهب إلى مكان آخر، إلى القرى المجاورة لأبشر فيها أيضا، فإني لهذا خرجت» (39) وسار في الجليل كله، يبشر في مجامعهم ويطرد الشياطين.
شفاء أبرص (40) وجاءه أبرص يتوسل إليه فجثا وقال له: «إن شئت فأنت قادر على أن تبرئني» (41) فأشفق عليه يسوع ومد يده فلمسه وقال له: «قد شئت فابرأ» (42) فزال عنه البرص لوقته وبرئ (43) فصرفه يسوع من ساعته (44) بعد ما أنذره بلهجة شديدة فقال له: «إياك أن تخبر أحدا بشيء، ولكن اذهب إلى الكاهن فأره نفسك، ثم قرب عن شفائك ما أمر به موسى، شهادة لديهم» (45) أما هو، فانصرف وأخذ يرفع الصوت ويذيع الخبر، فصار يسوع لا يستطيع أن يدخل مدينة علانية، بل كان يقيم في ظاهرها في أماكن مقفرة والناس يأتون من كل مكان.
الإصحاح الثاني
شفاء مقعد في كفر ناحوم (1) وعاد بعد بضعة أيا إلى كفر ناحوم فسمع الناس أنه في الدار. (2) فاجتمع منهم عدد كبير، ولم يبق موضع لأحد حتى عند الباب، فألقى إليهم كلام الله، (3) فجيء إليه بمقعد يحمله أربعة رجال. (4) فلم يستطيعوا الوصول إليه لكثرة الزحام، فنبشوا عن السقف فوق الموضع الذي هو فيه، ونقبوه ثم دلوا الفراش الذي كان عليه المقعد. (5) فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمقعد: «يا بني غفرت لك خطاياك.» (6) وكان بين الحضور هناك بعض الكتبة، فقالوا في أنفسهم: (7) «ما بال هذا الرجل يتكلم بذلك؟ إنه ليكفر، فمن يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده؟» (8) فعلم يسوع في سره ما جال في صدورهم فسألهم: «لماذا تجول هذه الأفكار في صدوركم؟ (9) أيما أيسر؟ أن يقال للمقعد: غفرت لك خطاياك، أم أن يقال: قم فاحمل فراشك وامش؟ (10) فاعلموا أن ابن الإنسان له سلطان يغفر به الخطايا في الأرض.» (11) ثم قال للمقعد: «أقول لك: قم فاحمل فراشك واذهب إلى بيتك.» (12) فقام فحمل فراشه، وخرج بمرأى من جميع الناس، حتى دهشوا جميعا ومجدوا الله وقالوا: «ما رأينا مثل هذا قط!»
دعوة لاوي (13) وخرج أيضا إلى شاطئ البحر فأتاه الجمع كله، فأخذ يعلمهم (14) ثم رأى وهو سائر لاوي بن حلفي (العشار) جالسا في بيت الجباية، فقال له: «اتبعني!» فقام فتبعه (15) ثم جلس يسوع للطعام عنده، فجلس أيضا معه ومع تلاميذه كثير من العشارين والخاطئين، وكان تلاميذ كثيرون يتبعونه، (16) فلما رأى بعض الكتبة من الفريسيين أنه يؤاكل الخاطئين والعشارين، قالوا لتلاميذه: «لماذا يؤاكل العشارين والخاطئين؟» (17) فسمع يسوع كلامهم، فقال لهم: «ليس الأصحاء بمحتاجين إلى طبيب بل المرضى، ما جئت لأدعو الأبرار بل الخاطئين.»
الجديد والقديم (18) وكان تلاميذ يوحنا والفريسيون صائمين، فجاء إليه بعض التلاميذ وقالوا له: «لماذا يصوم تلاميذ يوحنا وتلاميذ الفريسيين، ولا يصوم تلاميذك؟» (19) فقال لهم: «أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم، لا يستطيعون أن يصوموا، (20) ولكن سيأتي زمن فيه يرفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون (21) ما من أحد يرقع ثوبا برقعة من نسيج جديد، مخافة أن تنتزع الرقعة الجديدة شيئا من الثوب القديم، فيتسع الخرق، (22) وما من أحد يجعل الخمرة الجديدة في زقاق قديمة، لئلا تشق الخمر الزقاق فتتلف الخمر والزقاق معا، ولكن للخمرة الجديدة زقاق جديدة.»
حادثة السنبل (23) ومر يسوع في السبت خلال المزارع فأخذ تلاميذه يقطفون السنبل وهم سائرون، (24) فقال له الفريسيون: «انظر! لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟» (25) فقال لهم: «أما قرأتم قط ما فعل داود حين احتاج فجاع هو وأصحابه؟ 26 كيف دخل بيت الله على عهد عظيم الأحبار أبياتار، فأكل الخبز المقرب إلى الله، وأعطى منه أصحابه وأكله لا يحل إلا للكهنة» (27) ثم قال لهم: «إن السبت جعل للإنسان، وما جعل الإنسان للسبت، (28) فابن الإنسان سيد السبت أيضا.»
الإصحاح الثالث
شفاء في السبت (1) ودخل أيضا بعض المجامع وكان فيه رجل يده شلاء (2) وكان الحاضرون يراقبونه ليروا هل يشفيه في السبت فيستطيعوا أن يشكوه (3) فقال للأشل: «قم في حلقة المجمع» (4) ثم قال لهم: «أعمل الصالحات يحل في السبت أم عمل السيئات؟ وتخليص نفس أم إهلاكها؟» فأطرقوا (5) فأجال طرفه فيهم مغضبا مغتما لعمى قلوبهم، ثم قال للرجل: «امدد يدك» فمدها فعادت يده صحيحة، (6) فخرج الفريسيون وائتمروا به مع الهيرودوسين ليهلكوه.
موجز أعمال يسوع في الجليل (7) فانصرف يسوع إلى البحر يصحبه تلاميذه، وتبعه جمع كبير من الجليل، وجمع كبير من اليهودية (8) ومن أورشليم وآدوم عبر الأردن ونواحي صور وصيدا، وقد سمعوا بما يصنع فجاءوا إليه، (9) فأمر تلاميذه بأن يجعلو له زورقا يلازمه، مخافة أن يضايقه الجمع، (10) لأنه شفى كثيرا من الناس، حتى أصبح كل من به علة يبادر إليه ليلمسه (11) وكانت الأرواح النجسة، إذا رأته، تسجد له وتصيح: «أنت ابن الله!» (12) فكان ينهاها بشدة عن كشف أمره.
يسوع يختار الاثني عشر
ثم صعد الجبل ودعا الذين أرادهم فأقبلوا عليه (14) فأقام منهم اثني عشر يصحبونه فيرسلهم مبشرين (15) ولهم سلطان يطردون به الشياطين (16) فأقام الاثني عشر وهم: سمعان ودعاه صخرا، (17) ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخو يعقوب، وجعل لقبهما بوا نرجس، أي ابني الرعد، (18) وأندراوس وفيلبس وبرتلماوس، ومتى وتوما، ويعقوب بن حلفي وتداوس وسمعان الغيور (القانوي)، (19) يهوذا الإسخريوطي، ذاك الذي أسلمه، (20) ثم رجع إلى الدار، فعاد الجمع إلى الازدحام حتى لم يستطيعوا أن يذوقوا طعاما.
رأيان في يسوع (21) وبلغ الخبر ذويه فخرجوا ليمسكوه فقد قيل: إنه مختل (22) وأما الكتبة الذين نزلوا من أورشليم فقالوا: «إن به مسا من بعل زبول، فهو بسيد الشياطين يطرد الشياطين»، (23) فدعاهم وكلمهم بالأمثال قال: «أنى للشيطان أن يطرد الشيطان؟ فإذا انقسمت مملكة لا تثبت (25) وإذا انقسم بيت لا يثبت (26) وإذا انقض الشيطان على نفسه فانقسم لا يثبت بل يزول (27) ما من أحد يستطيع أن يدخل بيت الرجل القوي وينهب أمتعته، إذا لم يوثق ذلك الرجل القوي أولا، ثم ينهب بعدئذ بيته، (28) الحق أقول لكم: كل شيء يغفر لبني البشر من خطيئة وكفر مهما بلغ كفرهم (29) وأما من كفر بالروح القدس فلا غفران له أبدا، بل هو خاطئ خطيئة أبدية .» (30) قال ذلك ردا على زعمهم أن فيه روحا نجسا.
أسرة يسوع (31) وجاءت أمه وإخوته فوقفوا في خارج الدار، وأرسلوا إليه من يدعوه (32) وكان قد تحلق حوله جمع كبير فقالوا له: «إن أمك وإخوتك في خارج الدار يطلبونك.» (33) فأجابهم: «من هي أمي ومن هم إخوتي؟» (34) ثم أجال طرفه في المتحلقين حوله وقال: «هؤلاء هم أمي وإخوتي؛ (35) لأن من يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمي.»
الإصحاح الرابع
مثل الزارع (1) وعاد إلى التعليم بجانب البحر، فازدحم عليه جمع كبير جدا، حتى إنه صعد إلى سفينة في البحر وجلس فيها، والجمع كله قائم في البر على ساحل البحر، (2) فعلمهم بالأمثال أشياء كثيرة، وقال لهم في تعليمه: (3) «اسمعوا! هو ذا الزارع قد خرج ليزرع (4) وبينما هو يزرع وقع بعض الحب على جانب الطريق فجاءت الطير فالتقطته، (5) ووقع بعضه الآخر على أرض حجرة رقيقة التراب، فنبت من وقته لأن ترابه لم يكن عميقا (6) فلما أشرقت الشمس احترق، ولم يكن له أصل فيبس (7) ومنه ما وقع على الأرض الطيبة فنبت ونمى وأخرج ثمرا، فأثمر بعضه ثلاثين وبعضه ستين وبعضه مائة.» ثم قال: (9) «من كان له أذنان للسمع فليسمع!»
غاية يسوع من الأمثال (10) فلما اعتزل الجمع سأله أتباعه والاثنا عشر عن مغزى المثل، (11) فقال لهم: «أما أنتم فقد أنعم عليكم بسر ملكوت الله، وأما أولئك فكل شيء يلقى إليه بالأمثال، (12) لكي ينظروا نظرا فلا يبصروا،
ويسمعوا سمعا فلا يفهموا،
لئلا يتوبوا فيغفر لهم.» (13) ثم قال لهم: «أما تفهمون هذا المثل؟ فأنى لكم أن تفهموا سائر الأمثال؟ (14) الزارع يزرع كلام الله، (15) فمن كانوا بجانب الطريق حيث زرع الكلام، فهم الذين ما كادوا يسمعونه، حتى أتى الشيطان وذهب بالكلام المزروع فيهم، (16) ومن تلقوا الزرع في الأرض الحجرة، فهم الذين إذا سمعوا الكلام قبلوه من ساعتهم فرحين، (17) ولكن لا أصل لهم في أنفسهم، فلا يثبتون على حالة، فإذا حدث بعد ذلك ضيق أو اضطهاد من أجل الكلام، ارتدوا عنه من ساعتهم (18) ومن تلقوا الزرع في الشوك، فهم الذين يسمعون الكلام ، (19) ولكن هموم الحياة الدنيا وفتنة الغنى وسائر الشهوات تداخلهم فتخنق الكلام، فلا يخرج ثمرا. (20) ومن تلقوا الزرع في الأرض الطيبة فهم الذين يسمعون الكلام ويقبلونه فيثمرون، فمنهم من يثمر ثلاثين، ومنهم ستين، ومنهم مائة.»
مثل السراج (21) وقال لهم: «أيؤتى بالسراج ليوضع تحت المكيال أو تحت السرير؟ أما يؤتى به ليوضع على المنارة؟ (22) فما من خفي إلا سيظهر ولا من مكتوم إلا سيعلن (23) من كان له أذنان للسمع فليسمع.»
مثل الكيل (24) وقال لهم: «انتبهوا لما تسمعون! فبما تكيلون يكال لكم وتزادون (25) لأن من كان له شيء يعطى ومن ليس له شيء ينتزع منه حتى الذي له.»
مثل الزرع الذي ينمي (26) وقال: «مثل ملكوت الله كمثل رجل يبذر الزرع في الأرض (27) ثم ينام ويقوم ليل نهار، والزرع ينبت وينمي، وهو لا يدري كيف كان ذلك، (28) فالأرض من نفسها تنبت العشب أولا، ثم السنبل، ثم القمح الذي يملأ السنبل (29) فإذا أدرك الثمر، أعمل فيه المنجل من ساعته لأن الحصاد قد حان.»
مثل حبة الخردل (30) وقال: «بماذا نشبه ملكوت الله، أو بأي مثل نمثله؟ (31) إنه مثل حبة من خردل، فهي حين تزرع في الأرض أصغر سائر الحبوب التي في الأرض، فإذا زرعت ارتفعت وصارت أكبر البقول كلها، وأرسلت أغصانا كبيرة، حتى إن طير السماء تستطيع أن تستظل في ظلها.»
يسوع والأمثال (33) وكان يضرب لهم كثيرا من هذه الأمثلة ليلقي إليهم كلام الله، على قدر ما كانوا يستطيعون أن يسمعوه. (34) ولم يكلمهم إلا بضرب المثل، فإذا خلا بتلاميذه فسر لهم كل شيء.
يسوع يسكن العاصفة (35) وفي ذلك اليوم نفسه قال لهم عند المساء: «لنعبر إلى الشاطئ المقابل.» (36) فتركوا الجمع وساروا به على حالته في السفينة وكان معه سفن أخرى، (37) فهبت عاصفة هوجاء وأخذت الأمواج تندفع على السفينة حتى كادت تمتلئ، وكان هو في مؤخرها نائما ورأسه على وسادة، فأيقظوه وقالوا له: «يا معلم أما تبالي أننا نهلك؟» (39) فقام وزجر الريح وقال للبحر: «اصمت! اخرس!» فسكنت الريح وعاد هدوء تام، ثم قال لهم: «ما بالكم مضطربين هذا الاضطراب؟ إلى الآن لا إيمان لكم؟» فاستولى عليهم خوف شديد وقال بعضهم لبعض: «من ترى هذا حتى الريح والبحر يطيعانه!»
الإصحاح الخامس
طرد الشيطان عن رجل (1) ووصلوا إلى الشاطئ الآخر من البحر في ناحية الجدريين (2) ولما نزل من السفينة إذا رجل فيه روح نجس قد خرج من القبور إلى لقائه (3) وكان يقيم في القبور، ولا يقدر أحد أن يوثقه حتى بسلسلة (4) فكثيرا ما كبل بالقيود والسلاسل فقطع السلاسل وكسر القيود، ولم يكن أحد يقوى على كبحه، (5) وكان طوال الليل والنهار في القبور والجبال، يصيح ويرضض جسمه بالحجارة (6) فلما رأى يسوع عن بعد أسرع إليه وسجد له (7) وصاح بأعلى صوته: «ما لي ولك، يا يسوع ابن الله العلي؟ أستحلفك بالله لا تعذبني.» (8) لأن يسوع قال له: «أيها الروح النجس، اخرج من الرجل.» (9) فسأله: «ما اسمك؟» فقال له: «اسمي جحفل، لأننا كثيرون.» (10) ثم ألح عليه في السؤال ألا يطردهم من الناحية. (11) وكان يرعى هناك في سفح الجبل قطيع كبير من الخنازير (12) فتوسلت إليه الأرواح النجسة بقولها: «أرسلنا إلى الخنازير فندخل فيها.» (13) فأذن لها، فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير فوثب القطيع من الجرف إلى البحر، وعدده نحو ألفين، فغرق في البحر. (14) فهرب الرعاة ونقلوا الخبر إلى المدينة والمزارع، فجاء الناس ليروا ما جرى. (15) فلما وصلوا إلى يسوع شاهدوا الرجل الذي كان ممسوسا قاعدا لابسا صحيح العقل، ذاك الذي كان فيه جحفل من الشياطين، فاستولى عليهم الخوف. (16) فأخبرهم الشهود بما جرى للذي كان ممسوسا وبما أصاب الخنازير. (17) فأخذوا يسألون يسوع أن ينصرف عن بلدهم. (18) وبينما هو يركب السفينة سأله الذي كان ممسوسا أن يصحبه، (19) فلم يأذن له بل قال له: «اذهب إلى بيتك، وحدث ذويك بما آتاك الرب من رحمته.» (20) فمضى وأخذ ينادي في المدن العشر بما آتاه يسوع، وكان جميع الناس يتعجبون.
شفاء منزوفة وإحياء ابنة يائير (21) ورجع يسوع في السفينة إلى الشاطئ المقابل، فازدحم عليه جمع كبير، وهو ساحل البحر، (22) فجاء رجل من رؤساء المجمع اسمه يائير، فلما رآه ارتمى على قدميه، (23) وألح في السؤال قال: «لي ابنة صغيرة تلفظ أنفاسها، فتعال وضع يدك عليها تبرأ وتحيا.» (24) فذهب معه وتبعه جمع كبير يزحمه (25) وكانت هناك امرأة منزوفة منذ اثنتي عشرة سنة (26) قد عانت آلاما مبرحة من أطباء كثيرين، وأنفقت جميع ما تملك فلم تستفد شيئا، لا بل صارت من سيئ إلى أسوأ (27) فلما سمعت بأخبار يسوع جاءت بين الجمع من خلف ولمست رداءه (28) لأنها قالت في نفسها: «حسبي أن ألمس ثيابه فأبرأ» (29) فجف مسيل دمها من وقته، وأحست في جسمها أنها شفيت من علتها، (30) وشعر يسوع عند ذاك بالقوة التي خرجت منه، فالتفت إلى الجمع وقال: «من لمس ثيابي؟» (31) فقال له تلاميذه: «ترى الجمع يزحمك وتقول: من لمسني؟» (32) فأجال طرفه ليرى التي فعلت ذلك، (33) فخافت المرأة واضطربت لعلمها بما حدث لها، فجاءت وسجدت له واعترفت بالحقيقة كلها، (34) فقال لها: «يا ابنتي أبراك إيمانك، فاذهبي بسلام وتعافي من علتك.» (35) وإنه ليتكلم، إذ وصل أناس من دار رئيس المجمع يقولون: «ماتت ابنتك، فلماذا تكلف المعلم؟» (36) فسمع يسوع كلامهم، فقال لرئيس المجمع: «لا تخف، حسبك أن تؤمن.» (37) ولم يدع أحدا يصحبه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب، (38) ولما وصلوا إلى دار رئيس المجمع رأى ضجيجا وأناسا يبكون ويعولون فدخل وقال لهم: (39) «لماذا تضجون وتبكون؟ لم تمت الصبية وإنما هي نائمة.» فضحكوا منه (40) فأخرجهم جميعا ودخل بأبي الصبية (41) فأخذ بيد الصبية وقال لها: «طليتا قوم!» (أي يا صبية أقول لك: قومي) (42) فقامت الصبية من ساعتها وأخذت تمشي وكانت ابنة اثنتي عشرة سنة (43) فدهشوا أشد الدهش، فأوصاهم مشددا عليهم ألا يعلم أحد بما حدث، وأمرهم أن يطعموها.
الإصحاح السادس
يسوع في وطنه الناصرة (1) وانصرف من هناك فذهب إلى وطنه يصحبه تلاميذه، (2) ولما أتى السبت أخذ يعلم في المجمع فدهش أكثر الناس حين سمعوه، وقالوا: «من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أوتيها وهذه المعجزات المبينة التي تجري على يديه؟ أما هو النجار ابن مريم، أخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟ أوليست أخواته عندنا ها هنا ؟» وأخذتهم الحيرة فيه، فقال لهم يسوع: «لا يزدرى نبي إلا في وطنه وذوي قرابته وبيته» (5) ولم يمكنه أن يجري هناك شيئا من المعجزات، سوى أنه وضع يديه على بعض المرضى فشفاهم (6) وكان يتعجب من قلة إيمانهم، ثم سار في القرى المجاورة يعلم.
وصايا يسوع للاثني عشر (7) ودعا الاثني عشر وأخذ يرسلهم اثنين اثنين، وأولاهم سلطانا على الأرواح النجسة (8) وأوصاهم ألا يأخذوا للطريق شيئا سوى عصا، لا خبزا ولا مزودا ولا نقدا من نحاس في مناطقهم (9) بل: «انتعلوا نعلين، ولا تلبسوا ثوبين.» وقال لهم: (10) «وحيثما دخلتم بيتا فأقيموا فيه إلى أن ترحلوا (11) وإذا لم يقبلكم مكان ولم يسمع فيه كلامكم، فارحلوا عنه نافضين الغبار من تحت أقدامكم شهادة عليهم.» (12) فمضوا يدعون الناس إلى التوبة (13) وطردوا كثيرا من الشياطين، ودهنوا بالزيت كثيرا من المرضى فشفوهم.
استشهاد يوحنا المعمدان (14) وسمع الملك هيرودس بأخباره لأن اسمه أصبح مشهورا وكان أناس يقولون: «إن يوحنا المعمدان قام من بين الأموات؛ ولذلك تجري المعجزات على يده» (15) وقال آخرون: «إنه إيليا» وقال غيرهم: «إنه نبي كسائر الأنبياء» (16) فلما سمع هيرودس بأخباره قال: «هذا يوحنا الذي قطعت أنا رأسه قد قام» (17) ذلك بأن هيرودس كان قد أرسل إلى يوحنا من أمسكه وأوثقه في السجن، من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلبس لأنه تزوجها (18) فكان يوحنا يقول لهيرودس: «لا يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك» (19) وكانت هيروديا ناقمة عليه تريد قتله فلا تستطيع (20) لأن هيرودس كان يهاب يوحنا لعلمه أنه رجل بار قديس، وكان يحميه فإذا استمع إليه، حار فيه كثيرا، وراقه الإصغاء إليه (21) وجاءت يوم مؤات لها إذ أقام هيرودس في ذكرى مولده مأدبة للأشراف والقواد وأعيان الجليل (22) فدخلت ابنة هيروديا ورقصت، فأعجبت هيرودس والمدعوين، فقال الملك للفتاة: «سلي ما شئت أعطك» (23) وأقسم لها: «لأعطينك كل ما تطلبين، ولو نصف مملكتي» (24) فخرجت وسألت أمها: «ماذا أطلب؟» فقالت: «رأس يوحنا المعمدان» (25) فبادرت إلى الملك: «أريد أن تعطيني في هذه الساعة على طبق رأس يوحنا المعمدان» (26) فاغتم الملك ولكنه من أجل الأيمان التي أقسهما بمسمع من المدعوين لم يشأ أن يرد طلبها (27) فأرسل للملك من ساعته حاجبا وأمره بأن يأتي برأسه (28) فمضى وضرب عنقه في السجن، وأتى بالرأس على طبق، فدفعه إلى الفتاة فحملته إلى أمها (29) وبلغ الخبر تلاميذه، فجاءوا فحملوا جثته ودفنوها.
معجزة الخبز والسمك الأولى (30) واجتمع الرسل عند يسوع، وأخبروه بجميع ما عملوا وعلموا (31) فقال لهم: «تعالوا أنتم على حدتكم إلى مكان قفر، واستريحوا قليلا» لأن القادمين والذاهبين كانوا كثرا حتى لم يتح لهم فرصة لتناول الطعام (32) فمضوا في السفينة إلى مكان قفر يعتزلون فيه (33) فرآهم الناس ذاهبين، وعلم بالأمر كثير منهم، فأسرعوا سيرا على الأقدام من جميع المدن وسبقوهم إلى ذلك المكان، (34) فلما نزل إلى البر رأى جمعا كبيرا فأخذته الشفقة عليهم؛ لأنهم كانوا كغنم لا راعي لها، وشرع يعلمهم أشياء كثيرة (35) وفات الوقت فدنا إليه تلاميذه وقالوا: «المكان قفر وقد فات الوقت (36) فاصرفهم ليذهبوا إلى المزارع والقرى المجاورة فيشتروا لهم ما يأكلون» (37) فأجابهم: «أعطوهم أنتم ما يأكلون» فقالوا له: «أنذهب فنشتري خبزا بمائتي دينار ونعطيهم ليأكلوا؟» فقال لهم: «كم رغيفا لديكم؟ اذهبوا فانظروا» (38) فتحققوا ما لديهم ثم قالوا: «خمسة وسمكتان» (39) فأمرهم بإقعاد الناس كلهم فئة فئة على العشب الأخضر (40) فقعدوا أفواجا منها مائة ومنها خمسون (41) فأخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع عينيه نحو السماء، وبارك وكسر الأرغفة ثم جعل يعطي تلاميذه ليناولوهم، وقسم السمكتين عليهم جميعا (42) فأكلوا كلهم حتى شبعوا (43) ثم رفعوا اثنتي عشرة قفة ممتلئة من الكسر وفضلات السمكتين (44) وكان الآكلون خمسة آلاف رجل.
يسوع يمشي على الماء (45) واضطر تلاميذه عندئذ أن يركبوا السفينة ويتقدموه إلى الشاطئ المقابل تجاه بيت صيدا حتى يصرف الجمع (46) فلما صرفهم، ذهب إلى الجبل ليصلي (47) وعند المساء كانت السفينة في عرض البحر وهو وحده في البر (48) ورآهم يجهدون في التجديف لأن الريح كانت مخالفة فجاء إليهم نحو الهزيع الرابع من الليل ماشيا على البحر وكاد يجاوزهم (49) فلما رأوه ماشيا على البحر ظنوه خيالا فصرخوا (50) لأنهم رأوه كلهم فاضطربوا، فكلمهم عند ذاك قال لهم : «سكنوا روعكم أنا هو لا تخافوا.» (51) وصعد السفينة إليهم فسكنت الريح، فداخلهم ما بلغ الغاية من الدهش (52) لأنهم لم يفهموا معجزة الخبز، بل كانت قلوبهم عمية.
يسوع يشفي من أمراض كثيرة (53) وعبروا حتى بلغوا أرض جناسرت فأرسوا (54) وما إن نزلوا من السفينة حتى عرفه الناس (55) فطافوا بتلك الناحية كلها، وجعلوا يحملون المرضى على فرشهم إلى كل مكان يسمعون أنه فيه (56) وحيثما يدخل سواء دخل القرى أو المدن أو المزارع، كانوا يضعون المرضى في الساحات، ويسألونه أن يدعهم يلمسون هدب ثوبه، فكان الذي يلمسه يبرأ.
الإصحاح السابع
الطاهر والنجس (1) واجتمع لديه الفريسيون وبعض الكتبة الآتيين من أورشليم (2) فرأوا بعض تلاميذه يتناولون الطعام بأيد نجسة أي غير مغسولة (3) (لأن الفريسيين واليهود عامة لا يأكلون إلا بعد أن يغسلوا أيديهم حتى المرفق، جريا على سنة الشيوخ (4) وإذا رجعوا من السوق لا يأكلون إلا بعد أن يغتسلوا وهناك أشياء أخرى فرضت عليهم السنة أن يعملوا بها، كغسل الأكواب والجرار وآنية النحاس). (5) فسأله الفريسيون والكتبة: «لم لا يجري تلاميذه على سنة الشيوخ، بل يتناولون الطعام بأيد نجسة؟» (6) فقال لهم: «أيها المراءون، صدق إشعيا في نبوءته عنكم، كما ورد في الكتاب:
هذا الشعب يكرمني بشفتيه ،
وأما قلبه فبعيد مني، (7) ويعبدونني بالباطل.
فليس ما يعلمون من المذاهب سوى أحكام بشرية (8) إنكم تهملون وصية الله وتتمسكون بسنة البشر» (9) وقال لهم: «ما أقدركم على نقض وصية الله لتقيموا سنتكم! (10) فقد قال موسى: «أكرم أباك وأمك، ومن لعن أباه أو أمه فليقتل قتلا» (11)، وأما أنتم فتقولون: إذا قال أحد لأبيه أو أمه: جعلت قربانا كل شيء أبرك به (12) فإنه يعفى عندكم من كل مبرة لأبيه أو أمه (13) فتنقضون كلام الله بسنة من عندكم وهناك أشياء كثيرة مثل ذلك تفعلون.» (14) ثم دعا الجمع وقال لهم: «أصغوا إلي كلكم وافهموا: (15) ما من شيء خارج عن الإنسان إذا دخل الإنسان ينجسه ولكن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان (16) فمن كان له أذنان للسمع فليسمع.»
ولما رجع إلى الدار مبتعدا عن الجمع ، سأله تلاميذه عن مغزى المثل (18) فقال لهم: «أهكذا أنتم أيضا لا فهم لكم؟ ألا فتفهمون أن ما يدخل الإنسان من الخارج لا ينجسه، (19) لأنه لا يدخل إلى القلب بل إلى الجوف، ثم يذهب في الخلاء.» وفي قوله ذلك جعل الأطعمة كلها طاهرة، (20) ثم قال لهم: «ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان (21) لأنه من باطن الناس، من قلوبهم تنبعث مقاصد السوء: الفحش والسرقة والقتل، (22) والزنى والطمع والخبث والغش والفجور والحسد والنميمة والكبرياء والسفه (23) جميع هذه المنكرات تخرج من باطن الإنسان فتحبسه.»
3
رسالة يسوع خارج الجليل (24) ثم مضى من هناك، وذهب إلى نواحي صور وصيدا فدخل بيتا، وكان لا يريد أن يعلم به أحد، فلم يستطع أن يخفي أمره (25) فقد سمعت به وقتئذ امرأة لها ابنة صغيرة فيها روح نجس، فجاءت وارتمت على قدميه. (26) وكانت المرأة وثنية ترجع إلى أصل سوري فينيقي، فسألته أن يطرد الشيطان عن ابنتها (27) فقال لها: «دعي البنين أولا يشبعون، فلا يحسن أن يؤخذ خبز البنين، فيلقى إلى جراء الكلاب» (28) فأجابت: «نعم، سيدي، حتى جراء الكلاب تأكل تحت المائدة من فتات البنين.» (29) فقال لها: «اذهبي، من أجل قولك هذا قد خرج الشيطان من ابنتك.» (30) فرجعت إلى بيتها، فوجدت ابنتها على السرير قد أقلع عنها الشيطان.
شفاء أصم (31) ثم عاد من نواحي صور، ومر بصيدا قاصدا إلى بحر الجليل، في أراضي المدن العشر (32) فجاءوه بأصم حصر، وسألوه أن يضع يده عليه (33) فانفرد به عن الجميع، وجعل إصبعه في أذنيه ثم تفل ولمس لسانه، (34) ورفع عينيه نحو السماء متنهدا وقال له: «افتح!» (أي انفتح) (35) فانفتح مسمعاه وانحلت عقدة لسانه، فتكلم بلسان طليق (36) وأوصاهم ألا يخبروا أحدا، فكان كلما أكثر من توصيتهم أكثروا من إذاعة خبره. (37) وكانوا يقولون وهم في غاية الإعجاب: «قد أبدع في أعماله كلها؛ إذ جعل الصم يسمعون والخرس ينطقون!»
الإصحاح الثامن
معجزة الخبز والسمك الأخرى (1) واحتشد في تلك الأيام جمع كبير، ولم يكن لديهم ما يأكلون، فدعا تلاميذه وقال لهم: (2) «أشفق على هذا الجمع، فإنهم منذ ثلاثة أيام يلازموني، وليس لديهم ما يأكلون، (3) وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين، خارت قواهم في الطريق، ومنهم من جاء من مكان بعيد» (4) فأجابه تلاميذه: «أنى لأحد أن يشبع هؤلاء من الخبز ها هنا في البرية؟» (5) فسألهم: «كم رغيفا لديكم؟» قالوا: «سبعة.» (6) فأمر الجمع بالقعود على الأرض، ثم أخذ الأرغفة السبعة وشكر وكسر، ثم جعل يعطي تلاميذه ليقربوها إلى الجمع، فقربوها إليهم، (7) وكان لديهم بعض سمكات صغار فباركها وأمر بتقريبها أيضا، (8) فأكلوا حتى شبعوا ثم رفعوا مما فضل من الكسر سبع سلال (9) وكانوا نحو أربعة آلاف فصرفهم. (10) ركب السفينة مع تلاميذه، وجاء إلى نواحي دلمانوتا.
الفريسيون يطلبون آية (11) فأقبل الفريسيون وأخذوا يجادلونه طالبين آية من السماء ليجربوه (12) فتنهد من أعماق نفسه وقال: «ما بال هذا الجيل يطلب آية؟ الحق أقول لكم: لا يجعل لهذا الجيل آية!» (13) ثم تركهم وعاد إلى السفينة فركبها، وعبر إلى الشاطئ المقابل.
خمير الفريسيين وهيرودس (14) فنسوا أن يتزودوا من الخبز، ولم يكن لديهم في السفينة سوى رغيف واحد، (15) وأخذ يوصيهم فيقول: «تبصروا واحذروا خمير الفريسيين وخمير هيرودس!» (16) فقال بعضهم لبعض أن لا خبز لديهم، (17) فشعر يسوع بأمرهم فقال لهم: «لماذا تقولون أن لا خبز لديكم ؟ ألم تعقلوا حتى الآن وتفهموا؟ (18) ألكم قلوب عمية؟ أم لكم عيون ولا تبصرون، وآذان ولا تسمعون؟ (19) ألا تذكرون إذ كسرت الخمسة الأرغفة للخمسة الآلاف، فكم قفة مملوءة كسرا رفعتم؟» قالوا له: «اثنتي عشرة» (20) «وإذ كسرت الأرغفة السبعة للأربعة الآلاف، فكم سلة من الكسر رفعتم؟» قالوا: «سبعا» (21) فقال لهم: «ألم تفهموا حتى الآن؟»
شفاء أعمى في بيت صيدا (22) وصلوا إلى بيت صيدا فجاءوه بأعمى، وسألوه أن يضع يده عليه، (23) فأخذ بيد الأعمى وقاده إلى خارج القرية، ثم تفل في عينيه، ووضع يديه عليه وسأله: «أتبصر شيئا؟» (24) فأخذ يبصر وقال: «أبصر الناس وأراهم يمشون كأنهم أشجار.» (25) فوضع يديه مرة أخرى على عينيه، فأبصر وعاد صحيحا يرى كل شيء واضحا عن بعد. (26) فأرسله إلى بيته وقال له: «حتى القرية لا تدخل.»
بطرس يشهد بأن يسوع هو المسيح (27) ثم ذهب يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيلبس، فسأل في الطريق تلاميذه: «من أنا على حد قول الناس؟» فأجابوه: «يوحنا المعمدان، (28) وبعضهم يقول: إيليا، وآخرون: أحد الأنبياء.» (29) فسألهم: «ومن أنا على حد قولكم أنتم؟» (30) فأجاب بطرس: «أنت المسيح.» فنهاهم أن يخبروا أحدا بأمره.
يسوع ينبئ أول مرة بآلامه وموته وقيامته (31) ثم بدأ يعلمهم أن ابن الإنسان يجب عليه أن يعاني آلاما شديدة، وأن يرذله الشيوخ والأحبار والكتبة، وأن يقتل، وأن يقوم في اليوم الثالث. (32) وكان يقول هذا الكلام صراحة، فانفرد به بطرس وأخذ يعاتبه (33) فالتفت فرأى تلاميذه فزجر بطرس قال: «سر خلفي، يا شيطان؛ لأن أفكاري ليست أفكار الله بل أفكار البشر.»
ما يطلب من أتباع يسوع (34) ثم دعا الجمع وتلاميذه وقال لهم: «من أراد أن يتبعني فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني (35) لأن الذي يريد أن يخلص حياته يفقدها، وأما الذي يفقد حياته في سبيلي وسبيل البشارة فإنه يجدها (36) فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟ (37) وبماذا يفدي الإنسان نفسه؟ (38) لأن من يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، يستحي به ابن الإنسان، متى جاء في مجد أبيه تواكبه الملائكة الأطهار.»
الإصحاح التاسع (1) ثم قال لهم: «الحق أقول لكم: في جملة الحضور ها هنا من لا يذوقون الموت، حتى يشاهدوا ملكوت الله آتيا وله العزة.» (2) وبعد ستة أيام مضى يسوع ببطرس ويعقوب ويوحنا، فانفرد بهم على جبل عال، وتجلى بمرأى منهم، (3) فتلألأت ثيابه ناصعة البياض، حتى ليعجز أي قصار في الأرض أن يأتي بمثل بياضها (4) وتراءى لهم إيليا وموسى، وكانا يكالمان يسوع، (5) فقال بطرس ليسوع: «رابي (يا معلم) حسن أن نكون ها هنا، فلو نصبنا ثلاث مظال، واحدة لك وواحدة لموسى، وواحدة لإيليا.» (6) ولم يكن يدري ما يقول لما استولى عليهم من الخوف (7) وإذا غمام قد ظللهم، وصوت من الغمام يقول: «هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا.» (8) فأجالوا الطرف فورا فيما حولهم، فلم يروا معهم إلا يسوع وحده. (9) وبينما هم نازلون من الجبل، أوصاهم ألا يخبروا أحدا بما رأوا، إلا متى قام ابن الإنسان من بين الأموات (10) فحفظوا كلمته وأخذوا يتساءلون: «ما معنى قام من بين الأموات؟» (11) ثم سألوه: «لماذا يقول الكتبة إنه يجب أن يأتي إيليا أولا؟» (12) فقال لهم: «أجل، يأتي إيليا أولا ويصلح كل شيء، فكيف كتب في مصير ابن الإنسان، إنه سيعاني آلاما شديدة ويزدرى؟ (13) على أني أقول لكم: إن إيليا قد أتى، وفعلوا به على هواهم كما كتب في شأنه.»
طرد الشيطان عن صبي مصاب بالصرع (14) ولما لحقوا بالتلاميذ، رأوا جمعا كبيرا حولهم وبعض الكتبة يجادلونهم (15) فما أبصره الجمع حتى دهشوا كلهم وسارعوا إلى السلام عليه. (16) فسألهم: «فيم تجادلونهم؟» (17) فأجابه رجل من الجمع: «يا معلم أتيتك بابني فيه روح أبكم؟ (18) حيثما أخذه يصرعه فيزبد الصبي ويصرف بأسنانه ويتشنج وقد سألت تلاميذك أن يطردوه، فلم يستطيعوا.» (19) فأجابهم: «أيها الجيل الكافر حتام أبقى معكم؟ وإلام أحتملكم؟ علي به!» (20) فأتوا به فما إن رآه الروح حتى خبطه، فوقع إلى الأرض يتمرغ ويزبد. (21) فسأل أباه: «منذ كم يحدث له هذا؟» قال: «منذ طفولته (22) وكثيرا ما ألقاه في النار أو في الماء ليهلكه، فإذا كنت تستطيع شيئا فاشفق علينا وأعنا.» (23) فقال له يسوع: «أتقول إذا كنت تستطيع؟ إن المؤمن يستطيع كل شيء.» (24) فصاح أبو الصبي من ساعته: «آمنت فشدد إيماني الضعيف!» (25) ورأى يسوع الجمع يزدحمون فانتهر الروح النجس وقال له: «أيها الروح الأخرس الأصم، أنا آمرك، اخرج منه ولا تعد إليه.» (26) فصرخ وخبطه خبطا عنيفا وخرج منه، فعاد الصبي كالميت، حتى قال أكثر الناس إنه قد مات. (27) فأخذ يسوع بيده وأنهضه فقام، (28) ولما دخل الدار، خلا به تلاميذه وسألوه: «لماذا لم نستطع نحن أن نطرده؟» (29) فقال لهم: «إن هذا الجنس لا يطرد إلا بالصلاة.»
يسوع ينبئ مرة ثانية بموته (30) ومضوا من هناك فمروا بالجليل، ولم يرد أن يعلم به أحد (31) لأنه كان يعلم تلاميذه فيقول لهم: «إن ابن الإنسان سيسلم إلى أيدي الناس، فيقتلونه وبعد قتله بثلاثة أيام يقوم.» (32) فلم يفهموا هذا الكلام، وهابوا أن يسألوه عنه.
الأكبر في ملكوت الله (33) ثم وصلوا إلى كفر ناحوم فلما دخل الدار سألهم: «فيم كنتم تتجادلون في الطريق؟» (34) فأطرقوا لأنهم كانوا في الطريق يتجادلون فيمن هو الأكبر. (35) فجلس ودعا الاثني عشر وقال لهم: «من أراد أن يكون أول القوم، فليكن آخرهم جميعا وخادمهم.» (36) ثم أخذ بيد طفل فأقامه وسطهم وضمه إلى صدره وقال لهم: (37) «من قبل واحدا من هؤلاء الأطفال إكراما لاسمي، فإياي قبل، ومن قبلني فما إياي قبل، بل الذي أرسلني.» (38) فقال له يوحنا: «يا معلم رأينا رجلا يطرد الشياطين باسمك وهو ليس يتبعنا، فمنعناه لأنه لا يتبعنا.» (39) فقال يسوع: «لا تمنعوه فما من أحد يجري معجزة باسمي يسيء بعدها القول في (40) ومن لم يكن علينا كان معنا.»
المحبة للتلاميذ (41) «ومن سقاكم كوب ماء على أنكم المسيح فإن أجره، الحق أقول لكم، لن يضيع.»
الويل لمسببي الخطايا (42) «ومن عرض هؤلاء الصغار المؤمنين للخطيئة، فأولى به أن تعلق الرحى في عنقه ويلقى في البحر (43) وإن دعتك يدك إلى الخطيئة فاقطعها، خير لك أن تدخل الحياة وأنت أقطع اليد من أن يكون لك يدان وتذهب إلى جهنم، إلى نار لا تطفأ. (44) حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ ، (45) وإذا دعتك رجلك إلى الخطيئة فاقطعها، خير لك أن تدخل الحياة وأنت أقطع الرجل من أن يكون لك رجلان وتلقى في جهنم، (46) حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ (47) وإذا دعتك عينك إلى الخطيئة فاقلعها، خير لك أن تدخل ملكوت الله وأنت أعور من أن تكون لك عينان وتلقى في جهنم، (48) حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ، (49) لأن كل امرئ سيملح بالنار، (50) الملح صالح، ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملحونه؟ فليكن فيكم ملح وليسالم بعضكم بعضا.»
الإصحاح العاشر
الزواج والطلاق (1) ومضى من هناك، فجاء بلاد اليهودية وعبر الأردن، فاحتشدت لديه الجموع وأخذ يعلمهم على عادته، (2) فدنا بعض الفريسيين وسألوه ليحرجوه: «أيحل للزوج أن يطلق امرأته؟» (3) فأجابهم: «بماذا أوصاكم موسى؟» (4) قالوا: «إن موسى رخص أن يكتب لها كتاب طلاق وتسرح.» (5) فقال لهم يسوع: «من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية فمنذ بدء الخليقة، (6) جعلهما الله ذكرأ وأنثى؛ (7) ولذلك يترك الرجل أباه وأمه، (8) ويصير الاثنان جسدا واحدا،
فلا يكونان اثنين بل جسدا واحدا (9) فلا يفرقن الإنسان ما جمعه الله.» (10) وسأله التلاميذ في البيت عن ذلك، (11) فقال لهم: «من طلق امرأته وتزوج غيرها زنى عليها (12) وإن طلقت امرأة زوجها وتزوجت غيره زنت.»
يسوع والأطفال (13) وجيء إليه بأطفال ليضع يديه عليهم، فانتهرهم التلاميذ (14) ورأى يسوع ذلك فاستاء وقال لهم: «دعوا الأطفال يأتوا إلي، لا تمنعوهم فلمثل هؤلاء ملكوت الله. (15) الحق أقول لكم: من لم يقبل ملكوت الله كأنه طفل، لا يدخله.» (16) ثم قبلهم ووضع يديه عليهم مباركا.
الشاب الغني (17) ولما خرج إلى الطريق أسرع إليه رجل فجثا له وسأله: «أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» (18) فقال له يسوع: «لم تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد، وهو الله، (19) أنت تعرف الوصايا:
لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تظلم، أكرم أباك.» (20) فقال له: «يا معلم، هذا كله حفظت منذ صباي.» (21) فحدق إليه يسوع فأحبه فقال له: «واحدة تعوزك، اذهب فبع كل شيء تملكه وتصدق بثمنه على الفقراء ، فيكون لك كنز في السماء، وتعال فاتبعني». (22) فاغتم لهذا الكلام ومضى حزينا؛ لأنه كان ذا مال كثير، (23) فأجال يسوع طرفه وقال لتلاميذه: «ما أعسر دخول ملكوت الله على ذوي المال.» (24) فدهش تلاميذه لكلامه فأعاد يسوع لهم الكلام قال: «يا بني ما أعسر دخول ملكوت الله! (25) لأن يدخل الجمل في سم الإبرة أيسر من أن يدخل الغني ملكوت الله.» (26) فاشتد دهشم وقال بعضهم لبعض: «من تراه يستطيع أن يخلص إذن؟» (27) فحدق إليهم يسوع وقال: «هذا شيء يعجز الناس ولا يعجز الله، إن الله على كل شيء قدير.»
جزاء من يبذل في سبيل يسوع (28) فأخذ بطرس يقول له: «قد تركنا نحن كل شيء وتبعناك.» (29) فقال يسوع: «الحق أقول لكم: ما من أحد ترك بيتا أو إخوة أو أخوات أو أما أو أبا أو بنين أو حقولا من أجلي وأجل البشارة، (30) إلا نال في هذه الدنيا مائة ضعف من البيوت والإخوة والأخوات والأمهات والبنين والحقول مع الاضهطادات، وأما في الآخرة فينال الحياة الأبدية، (31) وكثير من الأولين يصيرون آخرين، والآخرون يصيرون أولين.»
يسوع ينبئ مرة ثالثة بموته (32) وكانوا سائرين في الطريق صاعدين إلى أورشليم، وكان يسوع يتقدمهم، وقد استولى عليهم الدهش، أما الذين يتبعونه فكانوا خائفين، فخلا بالاثني عشر مرة أخرى، وأخذ ينبئهم بما سيحدث له قال: (33) «إنا لصاعدون إلى أورشليم، وسيسلم ابن الإنسان إلى الأحبار والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الوثنيين، (34) فيسخرون منه، ويبصقون عليه ويجلدونه ويقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم.»
طلب ابني زبدي (35) ودنا إليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدي، فقالا له: «نسألك حاجة تقضيها لنا.» (36) فقال لهما: «ما حاجتكما إلي؟» (37) قالا له: «امنحنا أن يجلس أحدنا عن يمينك والآخر عن شمالك في مجدك.» (38) فقال لهما يسوع: «إنكما لا تدركان ما تسألان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سأشربها أو تقبلا المعمودية التي سأقبلها؟» (39) فقالا له: «نستطيع.» فقال لهما يسوع: «أجل، الكأس التي أشربها سوف تشربانها، والمعمودية التي أقبلها سوف تقبلانها. (40) وأما الجلوس عن يميني أو شمالي، فليس لي أن أمنحه، وإنما هو للذين أعد لهم.»
السلطة خدمة (41) وسمع العشرة ذلك الكلام فاغتاظوا من يعقوب ويوحنا، (42) فدعاهم يسوع وقال لهم: «تعلمون أن الذين يعدون رؤساء الأمم يسودونها، وأن أكابرها يتسلطون عليها (43) فلا يكن هذا فيكم بل من أراد أن يكون كبيرا فيكم، فليكن لكم خادما (44) ومن أراد أن يكون الأول فيكم، فليكن للجميع عبدا. (45) لأن ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم، وليفدي بنفسه جماعة كثيرة.»
شفاء أعمى في أريحا (46) ووصلوا إلى أريحا، وبينما هو خارج من أريحا ومعه تلاميذه وجمع كبير، كان ابن تيماوس (برتيماوس) وهو شحاذ أعمى، جالسا على جانب الطريق، (47) فلما سمع بأنه يسوع الناصري، أخذ يصيح: «رحماك يا يسوع ابن داود» (48) فانتهره أناس كثيرون ليسكت فصاح أشد الصياح، «رحماك يا ابن داود» (49) فوقف يسوع وقال: «ادعوه»، فدعوا الأعمى قالوا له : «تشدد وقم فإنه يدعوك.» (50) فألقى عنه رداءه ووثب وجاء إلى يسوع (51) فقال له يسوع: «ما حاجتك إلي؟» قال له الأعمى: «يا سيدي أن أبصر.» فقال له يسوع: «اذهب! أبرأك إيمانك.» فأبصر من وقته وتبعه في سيره.
الإصحاح الحادي عشر
يسوع في أورشليم
يسوع يدخل أورشليم (1) ولما قربوا من أورشليم، ووصلوا إلى بيت فاجي وبيت عنيا، عند جبل الزيتون، أرسل اثنين من تلاميذه، (2) وقال لهما: «اذهبا إلى القرية تجاهكما، فما إن تدخلاها حتى تجدا جحشا مربوطا ركبه أحد، فحلا رباطه وائتيا به، (3) فإن قال لكما قائل: لم تفعلان هذا؟ فقولا: السيد محتاج إليه، ثم يعيده إلى هنا.» (4) فذهبا فوجدا جحشا مربوطا عند باب على الطريق فحلا رباطه، (5) فقال لهما بعض الذين كانوا هناك: «ما بالكما تحلان رباط الجحش؟» فقالا لهم كما أمرهم يسوع فتركوهما. (7) فجاءا بالجحش إلى يسوع ووضعا رداءيهما عليه فركبه (8) وبسط كثير من الناس أرديتهم على الطريق وفرش آخرون أغصانا قطعوها من الحقول. (9) وكان الذين يتقدمونه والذين يتبعونه يهتفون: «حيوه!
تبارك الآتي باسم الرب! (10) تباركت المملكة الآتية، مملكة أبينا داود!
هو شعنا في العلا!» (11) ودخل أورشليم فالهيكل، وتفقد كل شيء فيه، وكان الوقت قد فات، فخرج إلى بيت عنيا يصحبه الاثنا عشر.
يسوع يلعن التينة (12) ولما خرجوا في الغد من بيت عنيا أحس الجوع (13) ورأى عن بعد تينة مورقة، فقصدها راجيا أن يجد عليها ثمرا، فلما وصل إليها، لم يجد عليها غير الورق؛ لأن وقت التين لم يكن قد حان، (14) فخاطبها قال: «لا يأكلن أحد تمرا منك إلى الأبد!» وسمع تلاميذه ما قال.
طرد الباعة من الهيكل (15) ثم وصلوا إلى أورشليم فدخل الهيكل، وأخذ يطرد الذين يبيعون ويشترون في الهيكل، وقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام، (16) ولم يدع حامل متاع يمر من داخل الهيكل (17) وأخذ يعلمهم فيقول: «ألم يكتب:
بيتي لجميع الأمم بيت الصلاة يدعى،
وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.» (18) فسمع الأحبار والكتبة، فجعلوا يبحثون كيف يهلكونه، وكانوا يخافون لأن الجمع كله كان معجبا بتعليمه.
قوة الصلاة بإيمان (19) وعند المساء مضى إلى خارج المدينة (20) وبينما هم راجعون في الصباح، رأوا التينة قد يبست من أصلها، (21) فتذكر بطرس كلامه فقال له: «رابي، إن التينة التي لعنتها قد يبست.» (22) فقال لهم يسوع: «آمنوا بالله، (23) الحق أقول لكم، من قال لهذا الجبل: قم فاهبط في البحر وهو لا يشك في قلبه، بل يؤمن بأن ما يقوله سيكون، تم له ذلك (24) ولهذا أقول لكم كل شيء تطلبونه في الصلاة، آمنوا بأنكم قد نلتموه، يتم لكم (25) وإذا قمتم للصلاة، وكان لكم شيء على أحد أعفوه منه، لكي يعفو عن زلاتكم أبوكم الذي في السموات (26) وإن لم تغفروا لا يغفر لكم أبوكم الذي في السموات زلاتكم.»
سلطة يسوع (27) وعادوا إلى أورشليم وبينما هو يسير في الهيكل جاء إليه الأحبار والكتبة والشيوخ (28) فقالوا له: «بأي سلطان تفعل هذا؟ بل من أولاك ذلك السلطان لتفعل هذا؟» (29) فقال لهم يسوع: «أسألكم سؤالا واحدا فأجيبوني ثم أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا. (30) أمن السماء جاءت معمودية يوحنا أم من الناس؟» فقالوا في أنفسهم: «إن قلنا من السماء يقول: فلم لم تؤمنوا به؟ (32) أفنقول من الناس؟» وكانوا يخافون الجمع؛ لأن الناس كلهم كانوا يعدون يوحنا نبيا حقا. (33) فأجابوا يسوع: «لا ندري.» فقال لهم يسوع: «وأنا لا أقول لكم بأي سلطان أفعل هذا.»
الإصحاح الثاني عشر
مثل الكرامين القتلة (1) وشرع يضرب لهم الأمثال قال: «غرس رجل كرما فسيجه، وحفر فيه معصرة وبنى برجا، وآجره بعض الكرامين ثم سافر، (2) فلما حان وقت الثمر، أرسل عبدا إلى الكرامين، ليأخذ منهم نصيبه من ثمر الكرم (3) فأمسكوه وضربوه وأرجعوه فارغ اليدين (4) فأرسل عبدا آخر، وهذا أيضا شجوا رأسه وشتموه، فأرسل آخر وهذا قتلوه (5) ثم أرسل كثيرين غيرهم، فضربوا فريقا وفريقا قتلوا، (6) فبقي عنده واحد وهو ابنه الحبيب، فأرسله إليهم آخر الأمر وقال: «سيهابون ابني.» (7) فقال أولئك الكرامون بعضهم لبعض: «هو ذا الوارث، هلم نقتله، فيعود الميراث إلينا.» (8) فأمسكوه وقتلوه وألقوه في خارج الكرم، (9) فماذا يفعل رب الكرم؟ يأتي ويهلك الكرامين ويجعل الكرم لآخرين، (10) أوما قرأتم هذه الآية: «الحجر الذي رذله البناءون
هو الذي صار رأس الزاوية. (11) ذاك صنع ربنا
كان عجبا لأبصارنا.» (12) فحاولوا أن يمسكوه، ولكنهم خافوا الجمع، وكانوا قد أدركوا أنه يعرض بهم في هذا المثل، فتركوه ومضوا.»
أداء الجزية لقيصر (13) ثم أرسلوا إليه أناسا من الفريسيين والهيرودسيين ليصطادوه بكلمة، (14) فجاءوه وقالوا له: «يا معلم، عهدناك صادقا لا تبالي أحدا؛ لأنك لا تراعي مقام العظماء، بل تهدي الناس سبيل الله هداية صدق، أيحل دفع الجزية إلى قيصر أم لا؟» (15) ففطن لريائهم فقال لهم: «لماذا تحاولون إحراجي؟ هاتوا دينارا لآراه.» (16) فأتوا به، فقال لهم: «لمن الصورة هذه؟ والكتابة؟» قالوا: «لقيصر.» (17) فقال لهم: «أعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله.» فدهشوا منه.
قيامة الموتى (18) وجاء إليه بعض الصدوقين وهم الذين ينكرون القيامة، فسألوه: (19) «يا معلم إن موسى قد كتب علينا: «إذا مات لامرئ أخ فترك امرأته ولم يخلف ولدا، فليأخذ أخوه المرأة ويقم نسلا لأخيه.» (20) وكان هناك سبعة إخوة، فأخذ الأول امرأة ثم مات ولم يخلف نسلا، (21) فأخذها الثاني ثم مات ولم يخلف نسلا، ومثلهما الثالث، (22) ولم يخلف أحد من السبعة نسلا، ثم ماتت المرأة من بعدهم جميعا (23) فلمن تكون في القيامة المرأة حين يقومون؟ لأنها كانت لكل من السبعة.» (24) فقال لهم يسوع: «أنتم في ضلال؛ لأنكم تجهلون الكتب وقدرة الله، (25) فعندما يقومون من بين الأموات لا يتزوج الرجال ولا تزوج النساء، وإنما هم كالملائكة في السموات، (26) وأما أن الأموات يقومون، أفما قرأتم في كتاب موسى عند ذكر العليقة، كيف كلمه الله فقال:
أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. (27) وما كان إله أموات، بل إله أحياء، فأنتم في ضلال كبير.»
أولى الوصايا (28) فدنا إليه أحد الكتبة، وكان قد سمعهم يجادلونه ورأى أنه أحسن الرد عليهم، فسأله: «ما هي الوصية الأولى في الوصايا كلها؟» (29) فأجاب يسوع: «الوصية الأولى هي: «اسمع يا إسرائيل: إن الله ربنا رب أحد، (30) فأحبب الله ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك وجميع قدرتك.» (31) والثانية هي: «أحبب قريبك حبك لنفسك.»
ولا وصية أخرى أكبر من هاتين.» (32) فقال له الكاتب: «أحسنت يا معلم، لقد أصبت إذ قلت: إنه الأحد وليس من دونه آخر، (33) وأن يحبه الإنسان بجميع قلبه وجميع ذهنه وقدرته، وأن يحب قريبه حبه لنفسه أفضل من كل محرقة وذبيحة.» (34) فلما رأى يسوع أنه أجاب بفطنة قال له: «لست بعيدا عن ملكوت الله.» ولم يجرؤ أحد بعدئذ أن يسأله عن شيء.
يسوع ابن داود وربه (35) وتكلم يسوع وهو يعلم في الهيكل قال: «كيف يقول الكتبة إن المسيح هو ابن داود؟ (36) وداود نفسه قال بوحي من الروح: «قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك تحت قدميك.» (37) فداود نفسه يدعوه ربا، فكيف يكون ابنه؟» وكان من الناس جمع كبير يصغي إليه مسرورا.
يسوع يحذر من الكتبة (38) وقال في تعليمه: «إياكم والكتبة، يحبون المشي بالجبب، وتلقي التحيات في الساحات، وصدور المجالس في المجامع، والمقاعد الأولى في المآدب. (40) يأكلون بيوت الأرامل، وهم يظهرون أنهم يطيلون الصلاة. هؤلاء سينالهم العقاب الأشد.»
الأرملة الفقيرة (41) وقعد يسوع قبالة الخزانة ينظر كيف يلقي الجمع في الخزانة نقودا من نحاس، فألقى كثير من الأغنياء شيئا كثيرا. (42) ثم جاءت أرملة فقيرة فألقت فلسين (أي ربع آس)، (43) فدعا تلاميذه وقال لهم : «الحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة، (44) لأنهم كلهم ألقوا من الفاضل عن حاجاتهم، وأما هي فإنها من حاجتها ألقت كل ما تملك، كل رزقها.»
الإصحاح الثالث عشر
نبوءة يسوع عن خراب الهيكل (1) ولما خرج من الهيكل قال له أحد التلاميذ: «يا معلم انظر! يا لها من حجارة! ويا لها من أبنية!» (2) فقال له يسوع: «أترى هذه الأبنية العظيمة؟ لن يبقى منها حجر على حجر، بل ينقض كله.»
نهاية العالم (3) وبينما هو جالس في جبل الزيتون قبالة الهيكل، انفرد به بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وسألوه: (4) «قل لنا متى يكون هذا، وما هي العلامة عندما يوشك هذا كله أن يتم؟» (5) فشرع يسوع يقول لهم: إياكم أن يضلكم أحد، (6) فسوف يأتي كثير من الناس منتحلين اسمي فيقولون: أنا هو! ويضلون أناسا كثيرين، (7) فإذا سمعتم بالحروب، وبما يشاع عن الحروب فلا تجزعوا، فإنه لا بد من حدوث ذلك، ولكن ليست هي الآخرة، (8) ستقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتحدث زلازل هنا وهناك، وتقع مجاعات، وهذا بدء المخاض، (9) فخذوا حذركم، ستسلمون إلى المجالس وتجلدون في المجامع وتساقون إلى الحكام والملوك من أجلي لتشهدوا لديهم، (10) ويجب أن تعلن البشارة من قبل إلى جميع الأمم، (11) فإذا ساقوكم ليسلموكم، فلا يهمنكم كيف تتكلمون، بل تكلموا بما يلقى إليكم في وقته؛ لأنكم لستم أنتم المتكلمين، بل الروح القدس. (12) سيسلم الأخ أخاه إلى الموت، والأب ابنه، ويثور الأبناء لديهم ويقتلونهم، (13) ويبغضكم جميع الناس من أجل اسمي، ومن يثبت إلى النهاية فذاك الذي يخلص، (14) وإذا رأيتم أشنع الخراب نازلا حيث لا ينبغي أن يكون، (ليفهم القارئ) فليهرب إلى الجبال من كان يومئذ في اليهودية، (15) ومن كان على السطح فلا ينزل إلى البيت ليأخذ منه شيئا، (16) ومن كان في الحقل، فلا يرتد إلى الوراء ليأخذ ردءاه، (17) الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام، (18) صلوا لئلا يحدث ذلك في الشتاء، (19) فستنزل في تلك الأيام نازلة لم يحدث مثلها منذ إنشاء الخليقة إلى اليوم ولن يحدث، (20) ولو لم يجعل الرب تلك الأيام قصيرة، لما نجا أحد من البشر، ولكن من أجل المختارين الذين اصطفاهم قصر الأيام، (21) فإذا قال لكم قائل: «ها هو ذا المسيح هنا، ها هو ذا هناك!» فلا تصدقوه، (22) فسيظهر مسحاء دجالون وأنبياء كذابون يأتون بآيات وأعاجيب، ولو استطاعوا لأضلوا المختارين، (23) أما أنتم فاحذروا، فقد أنبأتكم كل شيء، (24) وفي تلك الأيام بعد هذه الشدة، تظلم الشمس ويفقد القمر ضوءه، (25) وتتساقط النجوم من السماء، وتتزعزع الأجرام في السماء، (26) وحينئذ يرى الناس ابن الإنسان آتيا في الغمام وله العزة والجلال، (27) فيرسل ملائكته ويجمع مختاريه من جهات الرياح الأربع، من أقصى الأرض إلى أقصى السماء.
مثل التينة (28) خذوا من التينة عبرة: فإذا لانت أغصانها ونبتت أوراقها أدركتم أن الصيف قريب. (29) وكذلك إذا رأيتم هذا كله قد حدث ، فاعلموا أنه قريب على الأبواب. (30) الحق أقول لكم: لن يزول هذا الجيل حتى يتم هذا كله. (31) السماء والأرض تزولان وكلامي لن يزول.
السهر الدائم (32) وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فما من أحد يعلمهما: لا الملائكة في السماء، ولا الابن إلا الآب، (33) فاحذروا واسهروا؛ لأنكم لا تعلمون متى تأتي الساعة (34) فمثل ذلك كمثل رجل سافر وترك بيته، وفوض الأمر إلى عبيده، كل واحد وعمله، وأوصى البواب بالسهر، (35) فاسهروا إذن، لأنكم لا تعلمون متى يأتي رب البيت أفي المساء أم في منتصف الليل أم عند صياح الديك أم في الصباح، (36) لئلا يأتي بغتة فيجدكم نياما، (37) وما قلته لكم أقوله للناس أجمع، أي اسهروا.
الإصحاح الرابع عشر
آلام يسوع وموته وقيامته
ائتمار الأحبار بيسوع (1) وكان وقوع الفصح والفطير بعد يومين، وكان الأحبار يتلمسون حيلة يمسكونه بها فيقتلونه؛ (2) لأنهم قالوا: «لا نفعل ذلك في العيد، مخافة حدوث اضطراب في الشعب.»
دهن يسوع بالطيب في بيت سمعان الأبرص (3) وبينما هو في بيت عنيا عند سمعان الأبرص، وقد جلس للطعام، جاءت امرأة بيدها قارورة من طيب الناردين الخالص الثمين، فكسرت القارورة وأفاضته على رأسه، (4) فداخل الاستياء بعضهم وتهامسوا: «لم هذا الإسراف في الطيب؟ (5) فقد كان يمكن بيع هذا الطيب بأكثر من ثلاثمائة دينار والتصدق بها على الفقراء.» وأخذوا يؤنبونها، (6) فقال يسوع: «دعوها، لماذا تعنتونها؟ فقد عملت لي عملا صالحا، (7) أما الفقراء فهم عندكم دائما أبدا، ومتى شئتم، أمكنكم أن تحسنوا إليهم، وأما أنا فلست عندكم دائما أبدا، (8) وقد عملت لي ما في وسعها، فطيبت جسدي سالفا للدفن (9) الحق أقول لكم: حيثما تعلن هذه البشارة في الأرض كلها، يحدث أيضا بما صنعت هذه، إحياء لذكرها.» (10) فذهب يهوذا الإسخريوطي، أحد الاثني عشر، إلى الأحبار ليسلمه إليهم، (11) ففرحوا لسماع ذلك، ووعدوه بأن يعطوه شيئا من الفضة، فأخذ يتربص به ليسلمه.
عشاء الفصح (12) وفي أول يوم من الفطير، اليوم الذي تقرب فيه ذبيحة الفصح، قال له تلاميذه: «إلى أين تريد أن نمضي فنعد لك عشاء الفصح لتأكله؟» (13) فأرسل اثنين من تلاميذه، وقال لهما: «اذهبا إلى المدينة، فيلقاكما رجل يحمل جرة ماء فاتبعاه، (14) وقولا لرب البيت حيث يدخل: يقول المعلم: أين غرفتي التي آكل فيها عشاء الفصح مع تلاميذي؟ (15) فيريكما علية كبيرة مفروشة مهيأة، فأعداه لنا هناك.» (16) فذهب التلميذان وأتيا المدينة، فوجدا كما قال لهما وأعدا عشاء الفصح. (17) ولما كان المساء، جاء مع الاثني عشر (18) وبينما هم على الطعام يأكلون، قال يسوع: «الحق أقول لكم: إن واحدا منكم سيسلمني، وهو يأكل معي.» (19) فاستولى عليهم الحزن وأخذ يسأله الواحد بعد الآخر: «أأنا هو؟» (20) فقال لهم: «إنه واحد من الاثني عشر، وهو الذي يغمس يده في القصة معي، (21) وابن الإنسان ماض كما كتب في مصيره، ولكن الويل لذلك الإنسان الذي يسلم ابن الإنسان، فلو لم يولد ذلك الإنسان لكان خيرا له.»
تقديس الخبز والخمر (22) وبينما هم يأكلون، أخذ خبزا وبارك ثم كسره وناولهم وقال: «خذوا هذا هو جسدي.» (23) ثم أخذ كأسا وشكر وناولهم، فشربوا منها كلهم، (24) وقال لهم: «هذا هو دمي، دم العهد،
يراق من أجل جماعة كثيرة. (25) الحق أقول لكم: لا أشرب بعد من عصير الكرمة، حتى يأتي يوم فيه أشربه خمرا جديدا في ملكوت الله.» (26) ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون.
يسوع ينبئ بإنكار بطرس (27) فقال لهم يسوع: «ستشكون في بأجمعكم في هذه الليلة، لأنه كتب: «سأضرب الراعي فتتبدد الخراف.» (28) ولكن، بعد قيامتي، أتقدمكم إلى الجليل.» (29) فقال له بطرس: «لو شكوا بأجمعهم، فأنا لن أشك.» (30) فقال له يسوع: «الحق أقول لك: اليوم في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرات.» (31) فقال مؤكدا: «لست بناكرك وإن قضي علي بأن أموت معك.» وهكذا قالوا كلهم.
في بستان الزيتون (32) ووصلوا إلى ضيعة يقال لها جتسمانية، فقال لتلاميذه: «اقعدوا هنا ريثما أصلي.» (33) ثم مضى ببطرس ويعقوب ويوحنا، وجعل يستشعر رهبة وكربة، (34) فقال لهم: «نفسي حزينة حتى الموت، امكثوا هنا واسهروا.» (35) ثم ابتعد قليلا ووقع على الأرض يصلي لتبتعد عنه الساعة، إن أمكن، (36) قال: «يا أبتاه، إنك على كل شيء قدير، فاصرف عني هذه الكأس، ولكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء.» (37) ثم رجع فوجدهم نياما، فقال لبطرس: «يا سمعان أتنام ولا تطيق السهر ساعة واحدة؟ (38) اسهروا وصلوا لئلا تقعوا في التجربة، الروح متحمس وأما الجسد فضعيف.» (39) ثم مضى ثانية يصلي فيردد الكلام نفسه، (40) ورجع أيضا فوجدهم نياما؛ لأن النعاس أثقل أعينهم ولم يدروا بماذا يجيبونه، (41) ورجع ثالثة فقال لهم: «ناموا الآن واستريحوا! قضي الأمر وأتت الساعة، إن ابن الإنسان سيسلم إلى أيدي الخاطئين، (42) قوموا ننطلق، قد اقترب الذي يسلمني.» (43) وبينما هو يتكلم، إذ وصل يهوذا أحد الاثني عشر على رأس عصابة كثيرة العدد تحمل السيوف والعصي أرسلها الأحبار والكتبة والشيوخ، (44) وكان الذي أسلمه قد جعل لهم علامة إذ قال: «هو ذاك الذي أقبله فأمسكوه وسوقوه محفوظا.» (45) وما إن وصل حتى دنا منه فقال له: «رابي!» (يا معلم) وقبله، (46) فبسطوا أيديهم إليه وأخذوه، (47) فاستل أحد الحاضرين سيفه، وضرب عبد عظيم الأحبار فقطع أذنه، فقال لهم يسوع: «أعلى لص خرجتم تحملون السيوف والعصي لتأخذوني؟ (49) كنت كل يوم بينكم أعلم في الهيكل فلم تأخذوني، وإنما حدث هذا لتتم الكتب.» (50) فتركوه كلهم وهربوا! (51) وتبعه شاب ليس عليه غير إزار فأمسكوه (52) فتخلى عن الإزار وهرب عريانا.
يسوع في المجلس
فذهبوا بيسوع إلى عظيم الأحبار، فاجتمع الأحبار والشيوخ والكتبة كلهم، (54) وتبعه بطرس عن بعد إلى دار عظيم الأحبار، وقعد مع الحرس يستدفئ عند النار، (55) وكان الأحبار والمجلس كافة يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا، (56) ذلك بأن أناسا كثيرين كانوا يشهدون عليه زورا فلا تتفق شهاداتهم، (57) ثم قام بعضهم وشهدوا عليه زورا قالوا: (58) «قد سمعناه يقول: سأنقض هذا الهيكل الذي صنعته الأيدي، وأبني في ثلاثة أيام هيكلا آخر لم تصنعه الأيدي.» (59) وهذا أيضا لم تتفق عليه شهاداتهم، (60) فقام عظيم الأحبار في وسط المجلس وسأل يسوع: «أما تجيب بشيء؟ ما هذا الذي يشهد به هؤلاء عليك؟» (61) فظل صامتا ولم يجب بشيء، فسأله أيضا عظيم الأحبار: «أأنت المسيح ابن المبارك؟» (62) فقال يسوع: «أنا هو، وسوف ترون ابن الإنسان جالسا عن يمين القدرة، وآتيا على غمام السماء.» (63) فشق عظيم الأحبار ثيابه، وقال: «أي حاجة بنا إلى الشهود، (64) وقد سمعتم الكفر؟ فما قولكم؟» فأجمعوا على الحكم بأنه يستوجب الموت، (65) وأخذ بعضهم يبصقون عليه، ويقنعون وجهه ويلطمونه ويقولون: «تنبأ!» وانهال الحرس عليه بالضرب.
إنكار بطرس ليسوع (66) وبينما بطرس في الساحة السفلى من الدار، جاءت جارية من جواري عظيم الأحبار، (67) فرأت بطرس يستدفئ فتفرست فيه وقالت: «أنت أيضا كنت مع الناصري، مع يسوع» (68) فأنكر قال: «لا أدري ولا أفهم ما تقولين.» وانسل إلى خارج الدار نحو الدهليز، (69) فأبصرته الجارية فأخذت تقول للحاضرين: «هذا منهم!» (70) فأنكر ثانيا وبعد قليل، قال الحاضرون أيضا لبطرس: «حقا أنت منهم لأنك جليلي.» (71) فأخذ يلعن ويحلف «إني لا أعرف هذا الرجل الذي تعنون.» (72) فصاح الديك عندئذ مرة ثانية، فتذكر بطرس قول يسوع: «قبل أن يصيح الديك مرتين، تنكرني ثلاث مرات.» وأخذ يبكي.
الإصحاح الخامس عشر
يسوع عند بيلاطس (1) وما إن أسفر الصبح حتى اجتمع للشورى الأحبار والشيوخ والكتبة أي المجلس كله، ثم أوثقوا يسوع وساقوه وأسلموه إلى بيلاطس، (2) فسأله بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟» فأجابه: «أنت تقول.» (3) وكان الأحبار يتهمونه اتهامات كثيرة، (4) فسأله بيلاطس ثانية: «أما تجيب بشيء ؟ انظر كثرة التهم التي تلقى عليك.» (5) ولكن يسوع لم يجب بشيء حتى تعجب بيلاطس، (6) وكان في كل عيد يطلق لهم سجينا أي واحد طلبوا، (7) وكان رجل يدعى باراباس مسجونا مع المشاغبين الذين اجترموا القتل في فتنة، (8) فصعد الجمع وأخذوا يطلبون ما تعودوا أن يمنحهم، (9) فأجابهم بيلاطس: «أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟» (10) لأنه كان يعلم أن الأحبار من حسدهم أسلموه، (11) فأثار الأحبار الجمع لكي يختاروا إطلاق باراباس، (12) فخاطبهم بيلاطس ثانيا قال: «فماذا أفعل بالذي تدعونه ملك اليهود؟» (13) فعادوا للصياح: «اصلبه!» (14) فقال لهم بيلاطس: «أية جريمة اقترف؟» فبالغوا في الصياح: «اصلبه!» (15) وأراد بيلاطس أن يرضي الجمع، فأطلق لهم براباس، وبعدما جلد يسوع أسلمه ليصلب.
إكليل من شوك على رأس يسوع (16) فساقه الجنود إلى دار الحاكم، فألبوا عليه السرية كلها، (17) وألبسوه أرجوانا، وكللوه بإكليل ضفروه من الشوك، (18) وأخذوا يحيونه فيقولون: «السلام عليك يا ملك اليهود!» (19) ويضربونه بقصبة على رأسه ويبصقون عليه، ويجثون له ساجدين، (20) وبعد ما سخروا منه نزعوا عنه الأرجوان، وألبسوه ثيابه وخرجوا به ليصلبوه.
الصلب (21) وسخروا لحمل صليبه أحد المارة، سمعان القيريني أبا إسكندر وروفس، وكان راجعا من الحقل، (22) وساروا به إلى المكان المعروف بالجلجلة، أي مكان الجمجمة، (23) وقدموا إليه خمرا ممزوجة بمر فلم يتناولها، (24) ثم صلبوه واقتسموا ثيابه، مقترعين على ما يصيب كلا منهم، (25) وكانت الساعة الثالثة حين صلبوه، (26) وكتب في عنوان الحكم عليه: «ملك اليهود» (27) وصلبوا معه لصين، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، (28) فتمت الآية التي جاء فيها: وأحصي مع مجرمين، (29) وكان المارة يشتمونه ويهزون رءوسهم ويقولون: «يا أيها الذي ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام، (30) خلص نفسك وانزل عن الصليب.» (31) وكان الأحبار والكتبة يسخرون مثلهم فيقول بعضهم لبعض: «خلص غيره ولا يقدر أن يخلص نفسه! (32) فلينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب لنرى ونؤمن.» وكان اللصان المصلوبان معه هما أيضا يعيرانه.
موت يسوع (33) ولما بلغت الساعة السادسة انتشر ظلام على الأرض كلها حتى الساعة التاسعة، (34) وصرخ يسوع في الساعة التاسعة صرخة شديدة، قال:
ألوي، ألوي، لما شبقتني؟ (35) (أي إلهي إلهي، لماذا تركتني؟) فسمع بعض الحاضرين فقالوا: «إنه يدعو إيليا!» (36) فأسرع واحد منهم إلى إسفنجة وبللها بالخل وجعلها على طرف قصبة، وقربها ليشرب وهو يقول: «دعونا ننظر هل يأتي إيليا فينزله.» (37) وصرخ يسوع صرخة شديدة ولفظ الروح، (38) فانشق ستار الهيكل شطرين من أعلى إلى أسفل، (39) وأما قائد المائة، وكان واقفا تجاهه، فإنه لما رآه قد لفظ الروح هكذا، قال: «كان هذا الرجل ابن الله حقا!» وكان جماعة من النساء ينظرن عن بعد، فيهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة، (41) وهن اللوتي تبعنه وخدمنه حين كان في الجليل، وغيرهن كثيرات صعدن معه إلى أورشليم.
دفن يسوع (42) وكان المساء قد أقبل وهو وقت التهيئة أي عشية السبت، (43) فجاء يوسف الرامي، وهو عضو وجيه في المجلس، وكان من الذين ينتظرون ملكوت الله، فحملته الجرأة على أن يدخل إلى بيلاطس ويطلب جسد يسوع، (44) فتعجب بيلاطس أنه مات كذا سريعا، فدعا قائد المائة وسأله: «أوقد مات؟» (45) فلما تحقق الخبر من القائد، سمح بالجثة ليوسف، (46) فاشترى يوسف كفنا ثم أنزل يسوع عن الصليب، فكفنه ووضعه في قبر كان محفورا في الصخر، ثم دحرج حجرا على باب القبر، (47) وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسي تنظران أين وضع.
الإصحاح السادس عشر
القيامة (1) ولما انقضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة طيبا ليأتين فيطيبنه، (2) وفي غداة يوم الأحد جئن إلى القبر وقد طلعت الشمس، (3) وكان يقول بعضهن لبعض: «من تراه يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟» (4) فنظرن فرأين أن الحجر قد دحرج، وكان كبيرا جدا، (5) فدخلن القبر فأبصرن شابا جالسا عن اليمين عليه حلة بيضاء فارتعبن، (6) فقال لهن: «لا ترتعبن! أنتن تطلبن يسوع الناصري الذي صلب، إنه قام وليس هنا، وهذا هو المكان الذي وضع فيه (7) فاذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: إنه يتقدمكم إلى الجليل، فترونه هناك كما أنبأكم.» (8) فخرجن من القبر هاربات، لما أخذهن من الرعدة والدهش، ولم يخبرن أحدا بشيء لأنهن كن خائفات.
ترائي يسوع (9) قام يسوع صباح الأحد، فتراءى أولا لمريم المجدلية، تلك التي أخرج منها سبعة شياطين، (10) فمضت وأخبرت تلاميذه، وكانوا في مناحة ونحيب، (11) فلما سمعوا أنه حي وأنها شاهدته لم يصدقوها، (12) وتراءى بعد ذلك بهيئة أخرى لاثنين منهم كانا في الطريق، ذاهبين إلى إحدى القرى، (13) فرجعا وأخبرا الآخرين فلم يصدقوهما أيضا، (14) وتراءى آخرا للأحد عشر أنفسهم، وهم على الطعام، فوبخهم بقلة إيمانهم وقساوة قلوبهم؛ لأنهم لم يصدقوا الذين رأوه بعدما قام، (15) ثم قال لهم: «اذهبوا في الأرض كلها، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين، (16) فمن آمن واعتمد يخلص، ومن لم يؤمن يقض عليه، (17) والذين يؤمنون تصحبهم هذه الآيات: فباسمي يطردون الشياطين، ويتكلمون بلغات مختلفة، (18) ويمسكون بأيديهم الحيات، وإن شربوا شرابا قاتلا لا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون.» (19) وبعدما كلمهم الرب يسوع، رفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله. (20) فذهب أولئك يبشرون في كل مكان، والرب يعينهم ويؤيد كلامه بما يصحبه من الآيات.
مراجع البحث
Baigent. M, And Leigh. R.; The Holy Blood And The Holy Grail, Jonathan Cap, London, 1982.
Branston, Willis (editor); the Other Bible, Harper- Collins, New York, 1984.
Culiano, Loan Petru; Gnosticism From The Middle Ages To The Present. In: M. Eliade, editor, Encyclopedia Of Religion, MacMillan, London, 1987.
Dart, John and Reigent, Ray, The Gospel of Thomas, Seastone, Berkley- California, 2000.
James, Montague Rhodes; The Apocryphal New Testament, Oxford University Press, Oxford, 1983.
Meyes, Marvin W.; The Secret Teachings of Jesus, Vintage, 1986.
Moor, Edward; Gnosticism, The Internet Encyclopedia of Philosophy.
Quispel, Gilles, Gnosticism, in: M. Eliad, editor, Encyclopedia of Religion, Vol. 5, MacMillan, London, 1987, Vol 5.
Robinson, James M. (editor); The Nag Hammadi Library, Harper and Row, New York, 1978.
Rodolph, Kurt; Gnosis: The Nature and History of Gnosticism, Harper Collins, New York, 1987.
Spencer Lewis, Herbert; the Mystical Life of Jesus, AMORC, San Jose, California, 1982.
Stewart, Desmond; The Foreigner; A Search for the First Century Jesus, Hamish Hamilton, London, 1981.
ديميتري أفييرينوس: إنجيل توما، موقع مجلة معابر على الإنترنت
www.maaber.50megs.com ، العدد 4.
إسكندر شديد: الأناجيل المنحولة، سلسلة الكنيسة في الشرق، لبنان، 1999م.
جيمس بنتلي: اكتشاف الكتاب المقدس، قيامة المسيح في سيناء، ترجمة آسيا الطريحي، دار سينا، القاهرة، 1995م.
Unknown page