فالتفت إليه كليم وقال: هل مضى عليك وقت طويل في هذا المكان يا عم؟ وكان الرجل حينئذ مطرقا إلى الأرض يتأمل ويفكر بما قام في نفسه لدى مشاهدته هؤلاء البشر القادمين من المدن، فرفع رأسه لسؤال كليم وأدار فيه عينين متحمستين وأجاب: أقيم هنا من حينما جئت إلى هنا. فقال سليم: ومتى جئت إلى هنا؟ فتنهد الرجل وأجاب: من حين تكوين العالم.
فنظر سليم إلى رفيقه بدهشة، فقال الرجل: ما لك لا تصدقني؟ قلت لك إنني هنا من حين تكوين العالم، فإذا كنت نبيها فافهم، وإلا فاسكت وأرحني.
فقال كليم: عفوا يا عم واسمح لي أن أكلمك بحرية، إننا حين نظرناك أول مرة دهشنا لإقامتك منفردا في هذا المكان، أما الآن فيظهر لنا من كلامك أنك في شأن عظيم، فهل تكرم علينا وتفيدنا شيئا؟
فلما سمع الشيخ هذا الكلام اللين أطرق إلى الأرض بانكسار وصار يفكر، ثم رفع رأسه وقال: إنني مسرور من لطفك ولين كلامك، وهذه أول مرة في حياتي أرى رجلا عاقلا، ولكن اعذرني فإن سري هائل.
فازداد سليم وكليم رغبة في الوقوف على خبر هذا الرجل الغريب، فقال سليم: نحن أولادك يا عم فلا تحذر منا.
فلما سمع الشيخ كلمة (أولادك) أجفل ونهض كأن أفعى لسعته، وبدا الغضب في وجهه فقال: لا لا، ليس لي أولاد ولا أريد أن يكون لي أولاد.
فقال كليم لرفيقه: لقد هدمت ما بنيناه. ثم التفت إلى الشيخ، وقال: الحق أقوله لك يا عم، إنني لا أستطيع كتمان ما في نفسي، فلا تغضب علينا ودعنا نستفيد منك، إنني أرى في أمرك شيئا مدهشا، ويخيل لي أنني أقرأه في عينيك، فأستحلفك باسم الله أن لا تحرمنا من الفائدة.
فلما فاه كليم بكلمة (الله) أحنى الشيخ عنقه، وجثا على الأرض وعفر خده بالتراب وهو مطبق العينين.
فقال كليم لرفيقه همسا: لقد قبضنا على شيء. ثم قال للشيخ: فالله - سبحانه وتعالى - قد هيأ لنا اليوم فرصة لقياك، ولا ريب أن ذلك بتدبير منه وعناية خصوصية، فهل لك أن تطلعنا على سبب إقامتك هنا إنفاذا لإرادة الله؟
فرفع الشيخ رأسه واستوى جالسا، ثم قال: نعم، ربما كان لله إرادة بهذا الأمر، ولا أخفي عنكم أنني في الليالي الأخيرة سمعت مرارا صائحا يصيح: قد انتهى قد انتهى.
Unknown page