وفي هذا الحين وصل الجوادان إلى المنزل الذي كانا يقصدانه في القرية، وهو أعلى المنازل في الجنوب وآخرها. وكان أهل المنزل في النوافذ ينتظرون الضيفين، ويشاهدون اضطراب الأهالي وصياحهم حول المنزل الذي تقدم ذكره.
وكانت العائلة المصيفة في هذا المنزل عائلة صديق لسليم وكليم يدعى الخواجه أمين، وكان مريضا بعلة الصدر المشهورة التي كثرت في سوريا ولبنان في هذا الزمن، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، انقضى عليه ثلاث سنوات بهذه العلة؛ فلم تنجع بها دواء، ولم يبق لها علاج عند الأطباء غير الإقامة في الهواء النقي الجاف في أعالي الجبال، وكان أمين وحيد والديه الشيخين وقبلة آمالهما، ولكن المرض لا يعرف رحمة ولا يرعى حرمة، وكان أبواه في يأس شديد من حالته يبكيان الليل والنهار على وحيدهما الشاب الذاهب عنهما تاركا إياهما في آخر العمر فريدين وحيدين في هذه الحياة.
إلا أنهما مع حزنهما المتصل في السر كانا يظهران أمام المريض كل سرور وبشاشة، وكذلك كان المريض أمامهما، فإنه كان عالما بعلته التي كانت تجره إلى الموت شيئا فشيئا؛ ولكنه كان يحتملها بلا ضجر ولا شكوى؛ لئلا يزيد في عذاب الشيخين اللذين كانا يعتنيان به؛ ولم ير أحد قط صبرا على مرض كصبر هذا المريض الكريم وممرضيه الشيخين.
ولما دخل سليم وكليم عليه كان أمين ممددا في سريره لا يقوى على النهوض، فابتسم لهما مسلما، أما هما فلم يقنعا بهذا الابتسام بل تقدما منه ليصافحاه بهز اليد، فلما رآهما يمدان يديهما نحوه سحب يده وأخفاها تحت اللحاف، وقال لهما بدمع في عينيه: لا تتعباني بالسلام عليكما؛ فإنني في غاية الضعف. فنفرت الدموع حالا إلى عيني سليم وكليم؛ لعلمهما أن ذلك المريض العزيز لم يخف يده إلا فرارا من أن يعديهما من دائه.
فيا أيها المرضى الذين يشكون من فرار الناس منهم خوفا من العدوى، ويا أيها المصابون بأمراض مزمنة يقضون أوقاتهم بالتضجر والتألم والتحسر، تعلموا هذا الشعور اللطيف والصبر الجميل من هذا المريض.
وما جلس سليم وكليم يستريحان بعد تعب الطريق حتى اشتدت الضوضاء في القرية، وعلا الصياح فهرع كلاهما إلى النافذة وأطلا منها، ثم قال كليم لأمين: لم نفهم جيدا سبب هذا الاضطراب. وإذا بصاحب المنزل داخل، فسأله أمين: كيف انتهت المسألة يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: حقا إنهم تجاوزوا الحدود، وقد عزمت أن أذهب وأدعو أولئك الضيوف إلى منزلي هذا وأدعهم يقيمون في الجانب الآخر، فما قولكم؟ فقال له أمين: أحسنت يا أبا مرعب، وهكذا فلتكن الشهامة. فقال: ولكنني أريد ترجمانا بيني وبين الخواجات. فهب سليم وكليم وقالا: نحن نرافقك.
وبعد خمس دقائق وصل أبو مرعب مع سليم وكليم إلى المنزل الذي كان النزاع عليه، فوجدوا حوله عشرين رجلا من أهل القرية وبضع نساء وعدة أولاد، وأمام المنزل ثلاثة بغال عليها حوائج السفر وبجانبها ثلاثة من الأميركان وترجمان وخادم.
وكان أبو مرعب في نحو الخمسين من العمر، وهو رجل كبير الجسم، كثير السمن، قوي العزم، لا يهاب الموت إذا تمثل له في شخص إنسان، وكان مشهورا عنه أنه حارب مع يوسف بك كرم، وكان من أشد أعوانه، حتى إن يوسف بك سماه (كرة مدفع) إشارة إلى استدارة جسمه وقوته.
فلما وصل أبو مرعب إلى المتجمهرين دخل بينهم مع رفيقه، واستفهم منهم عن سبب الاضطراب والصياح، فعلم منهم أن ذلك الجمهور كان مقسوما قسمين: ففريق كان يقول: ليس من آداب الضيافة أن نمنع الأجانب من الإقامة في قريتنا، وإلا سبنا الناس حتى أهل القرى المجاورة. وكان في هذا الفريق صاحب المنزل نفسه.
وفريق آخر كان يقول: نحن لا نبعد هؤلاء الضيوف لأنهم بروتستنت فقط، بل لأن فيهم رجلا مسلولا؛ إذ نخاف على قريتنا من العدوى.
Unknown page