89

دخل كلود إلى غرفة الطعام، ورمى حقيبتيه على الأرض. «ما الأمر يا سيدة فوكت؟ هل يمكنني أن أساعدك في شيء؟»

كانت تجلس على أحد كراسيها العالية تبكي على نحو يثير الشفقة وقد انحرفت عن مكانها خصلات شعرها الصغيرة المستعارة. لما نظرت لأعلى، أطلقت صرخة خفيفة تنم عن أنها تعرفت على الشخص الواقف أمامها. «أوه، أحمد الرب أنك أنت الشخص الذي جاء، وأنه لن يوجد مزيد من المتاعب! تعلم أنني لا أتجسس ولا أفعل شيئا مما يقوله هؤلاء الفتية. إن هؤلاء الفتية الصغار يروعونني. أبيع لهم الحلوى منذ أن كانوا أطفالا، وقد انقلبوا علي الآن كما ترى. يطلقون علي هيندنبورج والقيصر بيل!» بدأت تبكي مرة أخرى وتلوي أصابعها الصغيرة البدينة وكأنها ستمزقها. «أحضري لي بعض الغداء يا سيدتي، وبعدها سأذهب وأسوي الأمر مع تلك العصابة. لقد كنت مسافرا منذ وقت طويل؛ ولما نزلت من القطار، ورأيت معترشات توت الحجل الخاصة بك تتسلق على الشرفة كما كانت في السابق، أحسست كأني عدت إلى المنزل.»

مسحت عينيها وقالت: «حقا؟ هل تتذكر ذلك؟ أعددت فطيرة لحم اليوم مع القليل من البازلاء التي حصلت عليها من حديقتي الخاصة.» «أحضريهما فورا من فضلك. إننا لا نأكل غير الطعام المعلب في المعسكر.»

دخل بعض عمال السكك الحديدية من أجل تناول الغداء. السيدة فوكت دعت كلود للذهاب إلى نهاية طاولة البيع؛ وبعد أن قدمت الطعام لزبائنها، جلست وأخذت تتحدث إليه همسا.

قالت وهي تربت على كمه : «يا عزيزي، تبدو أنيقا في تلك الملابس. أستطيع تذكر بعض الحروب أيضا؛ لما استعدنا بعض المناطق التي أخذها نابليون منا مثل إلساس ولورين. هؤلاء الأولاد هددوا بأن يأتوا ويضعوا القطران علي في ليلة ما، وأنا أخاف أن أذهب للنوم. لذا، أنا أغطي نفسي فقط بلحاف وأجلس في كرسيي القديم.» «لا تعيريهم أي اهتمام. أنت لا تواجهين أي مشكلات مع العمال هنا، أليس كذلك؟» «بلى، ليست مشكلات على وجه التحديد.» ترددت، ثم مالت فجأة باتجاه طاولة البيع وتحدثت في أذنه. «ولكن في بلدي القديم ليس الأمر بهذا السوء كما يقولون. لا يتعرض الفقراء للاستعباد، ولا يطحنون في العمل كما يقولون هنا. دائما ما يسمح المسئولون عن الغابات للفقراء بالدخول إلى الغابات وحمل الأغصان الساقطة والأشجار الميتة. وإذا فاض روث الحيوانات لدى أحد المزارعين الأغنياء عن حاجته، يسمح للشخص الفقير أن يأخذ بعضا منه لأرضه. الفقراء لا يحصلون على أجور مثل التي يحصلون عليها هنا، ولكنهم يحظون بعيشة مريحة. وحتى أحذيتهم الخشبية، التي يسخرون منها هنا، أنظف من الأحذية الجلد، وأفضل عند المشي في الطين وروث الحيوانات. إنها لا تبتل بشدة؛ ومن ثم لا تنبعث منها رائحة كريهة بشدة.»

كان بإمكان كلود أن يلاحظ أن قلبها يزخر بحبها لوطنها، ويعج بالذكريات الرقيقة عن أيام ولت منذ مدة طويلة، وأرض عاشت عليها أيام شبابها. لم تتحدث معه عن تلك الأشياء من قبل، ولكنها الآن باحت بسيل من الأسرار عن مزرعة الألبان الكبيرة التي عملت فيها في صغرها؛ أخبرته كيف أنها كانت تعتني بتسع بقرات، وعن مدى قوة البقرات على الرغم من صغر سنها؛ إذ كانت تجر المحراث طوال النهار، ومع ذلك تفيض عليهم في الليل باللبن كأنها كانت تتجول طوال النهار في أحد المراعي! لم يضطر قط أهل الريف إلى إنفاق أموالهم على الأطباء، ولكنهم كانوا يعالجون من كل الأمراض بالجذور والأعشاب، وعندما يصاب كبار السن بالروماتيزم، كانوا يأخذون «واحدا من الأرانب الرومية الصغيرة» كي ينام معهم، ويخلصهم هذا الأرنب من كل الآلام .

أحب كلود أن يستمع إليها مدة أطول، ولكنه أراد أن يعثر على من يضايقون المرأة العجوز قبل أن يأتي القطار. ترك حقيبتيه معها، وعبر قضبان السكك الحديدية، واسترشد بطنين جرس غرضه الإغاظة في حقل الذرة، وكان يسمع من وقت لآخر. عثر على مجموعة الأولاد الصغيرة، وكانوا اثني عشر أو نحو ذلك؛ إذ وجدهم مستلقين في أخدود ضحل يمتد من حافة الحقل إلى مرعى مفتوح. وقف على حافة الحقل، ونظر إليهم وهو يقطع طرف سيجار ببطء ويشعله. ابتسم الأولاد له، وحاولوا أن يظهروا عدم المبالاة وعدم الاهتمام.

سأل الفتى الذي كان معه الجرس: «هل تبحث عن أحد أيها الجندي؟» «نعم. أبحث عن ذلك الجرس. عليك أن تعيده إلى صاحبته. كلكم تعلمون أنه لا ضرر يخشى من تلك المرأة العجوز.» «إنها ألمانية، ونحن نحارب الألمان، أليس كذلك؟» «لا أظن أنكم ستقاتلون يوما أحدا منهم. لن تصمدوا أكثر من عشر دقائق في الجيش الأمريكي. أنتم لا تصلحون للانضمام إليه. لا يوجد سوى جيش واحد في العالم يقبل رجالا يتنمرون على امرأة عجوز. يمكن أن تجدوا وظيفة لديه.»

قهقه الفتيان. أشار كلود بنفاد صبر. «تعال ومعك هذا الجرس أيها الولد.»

نهض الفتى ببطء، وصعد الحافة خارجا من الأخدود. لما كانا يمشيان متثاقلين عبر حقل الذرة، التفت إليه كلود فجأة. وقال: «اسمعني يا هذا، ألا تخجل من نفسك؟»

Unknown page