كان يعتقد أنه سيتجاوز كل هذا في الوقت المناسب. حتى والده كان مضطربا في شبابه ورحل إلى مكان جديد. لقد كانت عاصفة هدأت أخيرا، ولكن يا للأسف أنه لا يمكن فعل شيء حيالها! إنها إهدار للطاقة؛ حيث إنها أحد أنواع الطاقة، نهض على قدميه ووقف عابسا أمام ضوء الشفق، وغاص بعيدا وسط أفكاره المتصارعة لدرجة أنه لم ينتبه إلى غريب صعد إليه من الدرجات السفلية ووقف كي ينظر إليه.
أخذ الغريب يتفحص كلود باهتمام. رأى شابا يقف حاسر الرأس على مجموعة درجات السلم الطويلة، قابضا يديه كأنه موقوف للقبض عليه، وشعره الأصفر بلون الرمال، ووجهه الضارب إلى السمرة، وهيئته المتوترة ذات لون نحاسي تحت أشعة الشمس المائلة. لو كان بإمكان كلود أن يعلم كيف بدا لذلك الغريب، لصعق.
2
في صباح اليوم التالي، ترجل كلود من القطار في فرانكفورت، وتناول إفطاره في المحطة قبل أن تستيقظ المدينة. لم تكن أسرته تتوقع وصوله؛ ولذا قرر أن يمشي إلى المنزل ويتوقف عند الطاحونة كي يرى إنيد رويس. ففي النهاية، الأصدقاء القدامى هم الأفضل.
غادر المدينة من الطريق المنخفض المتعرج بطول النهير. كان لأشجار الصفصاف جميعها أوراق صفراء جديدة، وكانت براعم الحور القطني اللزجة على وشك أن تتفتح. كانت الطيور تغرد في كل مكان، وكان يرى - بين الفينة والأخرى - جناح طائر كردينال رائع عبر أغصان أشجار الصفصاف المتناثرة.
لا تخلو حقول القمح المغبرة والصفراء من مسحة لون أخضر؛ كانت هناك ملايين السنابل التي تشبه الأصابع الصغيرة التي تعلو وتلوح بخفة في ضوء الشمس. وناحية الشمال والجنوب، كان بإمكان كلود رؤية آلات زراعة الذرة وهي تتحرك في خطوط مستقيمة عبر الأفدنة ذات التربة السمراء المحروثة على نحو ناعم جدا، لدرجة أن تذروها الرياح على هيئة سحب من الغبار على جانب الطريق. عندما هبت زوبعة، اجتاحت رياح صغيرة لطيفة الحقول المفتوحة، وتشكلت دوامات من التربة الناعمة التي دارت في الهواء وسقطت ثانية فجأة. بدا كأن كل عمود سياج عنده طائر قنبر يغرد لكل من هو صامت؛ كان يغرد لمساحة الأرض الكبيرة المحروثة، والخيول الثقيلة في المباني المصطفة على طول الطريق، والرجال الذين يوجهون الخيول.
على جانبي الطريق، كانت تطل زهور الهندباء البرية بوجوهها الصافية اليانعة من تحت الحشائش الذابلة وحزم عشب البلوستم الجاف. إذا تصادف وخطى كلود فوق إحداها، فإن رائحتها الحادة كانت تجعله يفكر في ماهيلي التي ربما كانت خارج المنزل هذا الصباح تحفر في المرج بسكين التقطيع المكسورة الخاصة بها؛ لتضع أوراق الهندباء في مئزرها. كانت دائما ما تذهب من أجل الحصول على هذه الأوراق بشيء من السرية كل يوم في الصباح الباكر؛ إذ تتسلل بطول جانبي الطريق وتنحني قريبا من الأرض كأنها تخشى أن يكشفها أحد ويصرفها بعيدا، أو كأن زهور الهندباء من الحيوانات البرية التي يجب اصطيادها وهي نائمة.
كان كلود يفكر وهو في طريقه كيف كان يحب أن يأتي مع والده إلى الطاحونة. لم يكن يعي شيئا عن عملية الطحن حينذاك؛ كذلك كان منزل الطاحونة وزوجة صاحبه غامضين له، حتى إنيد كانت غامضة قليلا، إلى أن لعب معها في يوم ما بين نباتات التيفا تحت أشعة الشمس الساطعة. اعتادا اللعب في صناديق القمح المدروس، ومشاهدة الدقيق وهو يخرج من القادوس، وتغطية أنفسهما بالغبار الأبيض.
أحب ما في الأمر كان الذهاب إلى مكان الساقية المعلقة وهي تقطر في كهفها المظلم؛ إذ يدخل بصيص متعرج من أشعة الشمس من بين الشقوق ليتراقص فوق الوحل الأخضر ونباتات البلسم المرقطة التي تنمو في الصخور الطينية. الطاحونة كانت مكان التباينات الحادة؛ الشمس الساطعة والظلال المظلمة، الصوت المجلجل والهدوء الشديد لصوت قطرات المياه. تذكر مدى اندهاشه في أحد الأيام عندما رأى السيد رويس لابسا قفازا ونظارة وقد أخذ ينظف أحجار الرحى، واكتشف كم هي أشياء غير مؤذية. أخذ يضرب عليها صاحب الطاحونة بمطرقة حادة حتى تطاير الشرر منها، وكانت لا تزال في يد كلود بقعة زرقاء؛ حيث دخلت رقاقة من الحجر الصوان تحت الجلد عندما اقترب أكثر من اللازم.
لا بد أن استمرار جايسون رويس في تشغيل الطاحونة يرجع إلى حبه لها؛ إذ إنها لم تعد تدر مالا كثيرا الآن. ولكن الطاحونة أول عمل له، وهو لم يعثر على أشياء كثيرة تستحق اهتمامه بها وحبه لها في حياته. في بعض الأحيان، كان يمكن أن يصادفه المرء بملابس عامل الطاحونة المغبرة بالدقيق؛ لأنه أعطى العامل إجازة. ومنذ وقت طويل، لم يعد يعتمد على ارتفاع منسوب المياه وانخفاضه في نهير لافلي كريك من أجل توليد الطاقة؛ لأنه ركب محركا يعمل بالبنزين. أصبح السد القديم الآن «مثل سنة مسوسة»، كما يسميه أحد العمال، ونمت عليه الطحالب وأجمة من أغصان الصفصاف.
Unknown page