ومن تضحك الدنيا إليه فيغترر
يمت كقتيل الغيد بالبسمات
وعدت إلى الشوقيات أرى فيها ما قاله العبقري الذي لم يعجب العقاد، دون أن يفتح علي الله ببيت واحد يناسب المقام!
أما ما حدث بعد ذلك فمألوف في هذه الحالات؛ إذ شاعت البسمات في قسمنا، وشاع تبادل الحديث، وبعد أن تعرفنا وتوثقت علاقات الزمالة زال السحر الذي أتى بمشاعر، أو أحيا مشاعر، لم تكن في الحسبان! كان الحال يختلف عن رشيد، فنحن نتحادث كل يوم، ونجلس في البوفيه لتناول الشاي والتعليق على الدروس، وإن كانت لحظة البسمة قد رسخت في نفسي إلى الأبد (على حد تعبير جيمس جويس).
وعندما عدنا إلى رشيد في الصيف، أحسست بأنني كبرت عشرين عاما! لم أكن قد تجاوزت السادسة عشرة إلا بشهور، ولكنني كنت أشعر أنني قد تجاوزت سن الرشد، وبلغت مبلغ الرجال وتجاوزته! وكان الزملاء يسألونني عن القاهرة فلا أقول الكثير، بل كنت أفضل الاستماع. وذات يوم قص علي أحد «الإخوان» السابقين قصة إدراكه معنى الحب، فقال إنه كان يسكن في الطابق الأرضي بإحدى العمارات بالإسكندرية، وكان يتبادل النظرات مع فتاة في الطابق الأعلى (الأخير) وكانا كثيرا ما يتبادلان التحية دون أمل في اللقاء، أو أمل في علاقة؛ فهو تلميذ ريفي فقير في كلية الزراعة، ومصيره إلى الحقل مع والده وإخوته، وهي ابنة صاحب العمارة، حديثة الملبس والكلام (ألافرانكه)، وذات يوم دعته إلى الصعود إليها في المساء، فقلت له مداعبا: «سعيت إليها بعدما نام أهلها» ولم يفطن إلى مصدر بيت الشعر فرد بحماس: «لأ .. كانوا صاحيين!» - «أكمل»! فقال إنه عندما وصل إلى الطابق السادس شعر بخفقان شديد في قلبه، وبحرارة ورجفة، فقال: «هذا هو الحب!» وكان من العبث إقناعه بأن هذه المظاهر لها أسباب أخرى غير الحب، ولكنه أكد لي أنه الحب، وأنه استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ونزل مسرعا خوفا من الحب!
كان معظم زملائي في المدرسة الرشيدية قد سبقوني بعام إلى الجامعة، وكانوا جميعا في الإسكندرية، فجعل كل منهم يحكي عن أحوال الدراسة والحياة بعيدا عن رشيد، وكان معظمهم من الأوائل، خصوصا أحمد قادوم الذي كان يحصل على تقدير ممتاز في جميع المواد في زراعة الإسكندرية، وكنا نضحك من عدم اهتمامه بالمعلومات العامة، وكان يسر إلي أنه ما زال على عهده لا يقرأ الصحف ولا يستمع إلى الراديو ولا يخرج، وأن هؤلاء ضالون إذ يضيعون أوقاتهم فيما لا يسمن ولا يغني من جوع. وسألت عن بعض الزملاء الذين لم يوفقوا في دراستهم فعلمت أنهم تركوا رشيد إلى العمل في الإسكندرية، وعلم معظمهم في شركة مياه الإسكندرية ؛ لأن رئيس مجلس الإدارة كان من أسرة مرزوق في رشيد، وكان يعطف على أبناء البلد.
وفي الصيف شهدت أول حادثة قتل في حياتي. كان أحد القفاصين واسمه «ريشة» موتورا من بائع كتاكيت (فراريج) اسمه «الزربون»، وكان «الزربون» يطوف راكبا حماره، وعلى الجنبين قفصان فيهما الكتاكيت، وينادي «الملاح ياللي تربي الملاح!» في طول رشيد وعرضها، ويبدو أن خلافا ما وقع بين بائع أقفاص (هو أبو ريشة) وبين الزربون فقرر ابنه «ريشة» الانتقام. وذات يوم أثناء دخول سينما رشيد في الدرجة الثالثة، وأثناء الزحام قام ريشة بطعن الزربون بمدية أو بسكين، وكنا أنا والأصدقاء نرقب المشهد، وعلى الفور أسرع الجميع بالمصاب إلى المستشفى، وبالمعتدي إلى سجن المركز. كانت الطعنة نافذة، وكان الصراخ شديدا، وجاء الفلاحون من وراء الكثبان الرملية ليشهدوا ما حدث، ولإبلاغ الأسرتين.
وفي الصباح ذهبنا إلى المركز فسمعنا عجبا! لقد جاء والد المعتدي بعيد القبض عليه ومعه «عزوة» (أبناء وعدد من القفاصين) ودخلوا ساحة المركز، وأتى والد بابنه ولامه لوما شديدا على رعونته، وعلى ما أبداه من طيش، وصرخ في الشاويش النبطشي (النوبتجي) قائلا: «ده ابني! وأنا اللي أربيه! إذا كان غلط يبقى أنا اللي أعلمه الأدب! يالله ع الدار يا ولد! وقعتك سودة!» وجر ابنه بين ذهول الحاضرين (كان الضابط غائبا ليلة الخميس) وانطلق الجميع بالولد خارج السجن!
ولكن أين ريشة؟ وجاءت الإجابة: أبوه يرفض تسليمه، وقال أحد الموجودين «أصل الزربون فيه نفس، وعملوا له عملية، والشاويش خايف يروح للبيه الضابط البيت يصحيه!» وانصرفنا بين مصدق ومكذب، وعلمنا بعد الظهر أنه كان في الإسكندرية كعادته في «الويك إند» (!) إذ نادرا ما يحدث ما يستدعي بقاءه في رشيد، وعندما جاء يوم السبت ألقى الضابط بنفسه القبض على ريشة (وكان الزربون قد توفي) وقام بترحيله بنفسه إلى الإسكندرية!
كان صيف 1956م ساخنا، بعد تأميم شركة قناة السويس، ولكن الناس في رشيد وكنا في سبتمبر، كانوا ما يزالون يعيشون في حياتهم بعيدا عن الأحداث العامة. وأذكر أننا كنا وزملائي نتنزه في الطريق الزراعي بين كثبان الرمال فشهدت كوكب المريخ بلونه الأحمر القاني يميل للغروب، وكنت أحب الفلك حبا جما، فقلت لهم إن هناك أسطورة تقول إنه كلما اقترب كوكب المريخ في فلكه البيضاوي من الأرض تقوم الحروب؛ ولذلك أسماه اليونان مارس إله الحرب! وأن ذلك يحدث كل 11 سنة، وأنه الآن في أقرب نقطة إلى الأرض، ووقفنا نتأمل الكوكب الأحمر، فالجو الصافي في رشيد يساعد على رؤية الكواكب والنجوم بوضوح، وضحك أحدنا قائلا: معنى هذا أن تحدث حرب عام 1956م .. وعام 1967؟ ولم أقل شيئا، وانصرفنا، ثم عدت إلى القاهرة.
Unknown page