روى الشرق عن تلك المناقب والغرب
فلله در الجارم الفحل شاعرا
ولله شعر في غرامك ينصب
كنت واثقا أن هذه أبيات صادقة، وأنني حافظت فيها على الوزن والقافية، وجئت بمعنى لا شك أنه «يعتد به»، حسبما قال خالي، ولكن شيئا ما في أعماقي كان يقول لي إن بها زيفا ما، وعدت إلى براعة الاستهلال، ترى لو أبدلت «وجب» ب «وجف» أو «أرجف» أكون أصدق؟ ونظرت إلى «الخضراء» وقلت في نفسي إنه صدى لقول الشاعر:
وضاقت بنا الأرض الفضاء كأننا
سقينا بكأس لا يفيق لها شرب
واتضح لي ما فعلت على الفور! لقد استعرت المعنى مع الوزن والقافية من ذلك الشاعر، بل إن الكلمة نفسها تنتهي بألف التأنيث الممدودة في البيت الذي نسجت على منواله، أما نبذ البيداء فهو قطعا من باب الزينة فحسب، فأنا لا أسكن البيداء ولا أهيم على وجهي فيها! وقررت ألا أطلع أحدا على القصيدة ، وكنت أعرف أنها مقطوعة على أي حال؛ لأنها لا تزيد على عشرة أبيات، ولم يكن لدي الجلد على كتابة بيتين آخرين.
وكرت الأيام سريعة ، كل يوم يحمل جديدا، وكان أول ما أتت به درس اللغة الإنجليزية، وكان المدرس هو جرجس الرشيدي (الدكتور فيما بعد)، المدرس الأول، وتوثقت الصداقة معه على الفور، ثم أتى درس العربية، وكان موضوع الإنشاء هو شوقي الشاعر! وكتبت موضوع إنشاء أكثرت فيه من المحسنات البديعية والزخرفة اللفظية والسجع، والاستشهاد بالشعر طبعا، وكان أن راق لمدرس اللغة العربية عبد الرءوف مخلوف (الدكتور فيما بعد)، وطلب مني إلقاءه في الفصل، ففعلت، وأبدى الطلبة إعجابهم باستثناء طالب قدر لي وله أن نصبح أصدقاء مدى الحياة، وهو أحمد السودة (المستشار ونائب رئيس هيئة النيابة الإدارية حاليا). وكان مصدر اعتراضه أنني أهتم بالألفاظ والزركشة البيانية أكثر من اهتمامي بالموضوع؛ أي بالأفكار، وقال محقا إن الموضوع لا يتضمن أي معلومات عن شوقي يمكن أن تفيد القارئ، ولكنه لا يعدو أن يكون صياغة منمقة لأفكار يعرفها الجميع! ورد عليه الأستاذ قائلا إن هذا هو المحك؛ أي وضوح التعبير وجماله، وأورد قول أحد القدماء إن الشأن ليس في إيراد المعاني؛ فالمعاني يعرفها العربي والعجمي، والبدوي والحضري، وإنما هو في اختيار اللفظ الشريف ... إلخ، وأردف قائلا إنه يعد رسالة الماجستير عن كتاب العمدة لابن رشيق القيرواني، وفيه تجد هذه النظرات «الكلاسيكية» في النقد الأدبي العربي.
وبعد الدرس تعارفنا أنا وأحمد السودة، وبدأت رحلة حب اللغة والفكر التي استمرت طول العمر معنا، وقد بدا الاختلاف بين مذهبينا عندما طلب منا المدرس كتابة موضوع بعنوان «أزمة نفسية مررت بها ثم تغلبت عليها»، فكتبت أنا عن تجربة الرسوب في السنة المنصرمة، وكتب هو عن فيلم «الطاحونة الحمراء» الذي شاهده وكيف ألقى الضوء على «أزمة» معينة وساعده في التغلب عليها. كان أسلوبه سلسا خاليا من المحسنات، وكان أسلوبي مثقلا بالصور البلاغية والشعر، ومع ذلك كنت أجد في كتابته سحرا لا أقدر على محاكاته. وكان (وما يزال) من عشاق عباس محمود العقاد، فطفق يحدثني عن مذهب العقاد في الكتابة، وعن مغبة الميل إلى «الإنشاء» إذ يكتنف المعنى ضباب من الألفاظ التي تفتقر إلى الدقة والوضوح وتشتت ذهن القارئ. وقال إن سلامة موسى يدعو إلى الأسلوب «التلغرافي»؛ أي الذي يوصل المعنى بأقل الكلمات! وسألته ما بال المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي؟ فقال «أناشين» - أي من أرباب الإنشاء! وذكرت كتب الرافعي لدى والدي - «وحي القلم» و«السحاب الأحمر» و«رسائل الأحزان» وعجبت كيف لا يرضى العقاد بهذا الإبداع؟
وفاتحت أستاذ اللغة الإنجليزية في الموضوع فقال لي إن الأمر يتوقف على من تخاطب، وماذا تكتب، ولماذا تكتب! المسألة إذن معقدة وليست بالبساطة التي كنت أتصورها! وشارك بعض الحاضرين في غرفة الأساتذة في الحديث، فقال أحدهم واسمه جلال جابر (الدكتور فيما بعد)، وكان أصغرهم سنا، إنك إن كنت تخاطب العامة فيجب أن تستعمل لغتهم؛ فلكل مقام مقال! فأضاف (الدكتور) جرجس: ولكن المسألة تتوقف على الهدف من الكتابة ونوعها؛ فالكتابة الناجحة هي التي تحقق الهدف منها، سواء كان توصيل المعاني؛ أي الأفكار، أو التعبير عن المشاعر. وسألتهما فلماذا تخلو الإنجليزية من البلاغة؟ وضحكا، وقال آخر واسمه «سامي» (لا أذكر اسمه الآخر): بل إن اللغة الإنجليزية حافلة بالبلاغة، وسوف تعرف ذلك حين تدرس الشعر الإنجليزي.
Unknown page