فأبرقت أسرة البرنس سناء الدين وقال: لا، لا أريد أن أزاحم، وإنما أود أن يتقرر أمر الأسرة تقريرا نهائيا ولا يكون موضوع مساومة بين عبد المجيد وعصمت ومصطفى. - كل شيء ممكن يا سمو البرنس إذا كان الأمراء يتكاتفون. فلماذا لا تزور رجاء باشا وتتباحث معه في الأمر وتبدي له رأيك، فهو يقيم في منزل فخم.
لماذا لا تدعوه إلى هنا؟ - الأفضل ألا يأتي لئلا يشتبهوا بمؤامرة، وأما زيارة الأمراء له فتقصر الشبهة عليه، وهو محتاط لكل مسئولية. والظاهر أنه مسلح بحمايات دولته. - إذن زرته؟ - نعم، فقد انتدبني فريد باشا الداماد لمقابلته لأجل مسألة بهذا الموضوع؛ لأن فريد باشا يتجنب أن يتردد عليه كثيرا، ولا يخفى عليك أن فريد باشا يثق بي كما تثقون سموكم. وتعلمون أني كنت سكرتيره في سفارة ... - نعم لا أنسى، وإذا كان رجاء باشا هذا حاصل على حماية دولية قوية فلا خطر من تداخله. وإنما هل هو أهل؟ - يلوح لي يا سمو البرنس أنه داهية عظيم يعرف أمورا كثيرة، وله نظر صائب في الأمور. فحبذا أن تزوره. - لا بأس أن أزوره، متى؟ غدا؟ ألا يوافق غدا؟ - حسنا، أنا اليوم أبلغه أنك مشرف غدا بعد الظهر. وسأقابل البرنس عثمان اليوم وفي جلسة واحدة ينتهي الأمر معه، وأفهمه أنه أخطأ بقبول خطاب وسخ كهذا على علاته. وكان يجب أن يفهم من نفسه أن كل الحكاية مفتعلة بسوء قصد. - أي نعم. ولا تعلق أهمية كبرى على كلام البرنسيس سنية هانم. فهي من شدة غيظها ... - أي نعم. إني أعرف مزاجها وطبعها، وقد عذرتها، وسأبذل جهدي بإقناع البرنس عثمان أن يعيد مياه الود إلى مجاريها. - نعم. نعم. هذا ما يهمني جدا يا عزيزي نامق. أود أن يتم الأمر عاجلا. إذا أمكن أن نكتب الكتاب في هذا الأسبوع كان أفضل؛ تجنبا لمثل هذه السعايات الدنيئة.
فتلمظ نامق بك لعابه، ثم قال: إني أود أن أكون مسلحا بكل السلاح يا سمو البرنس حتى أستطيع النصر. هب أن البرنس عثمان فاجأني بحكاية أخرى كهذه أو بتفاصيل عن هذه الحكاية كان علمه بها سببا لإحجامه هذا، فيجب أن أكون عارفا بكل شيء حتى أعلم كيف أجاوبه. فاسمح لي أن أسأل بحرية سؤال صديق مخلص: هل كان بين سمو الأميرة نميقة وذلك الوغد أمل الدين رغبت شيء من التودد؟
فتمهل سناء الدين باشا، وقال: كان ذلك الزنيم كاتبا عندي، وكنت أكل إليه كثيرا من أشغالي، فكان يقضيها كالواجب لأنه ذكي . ولذلك كنت أعامله كخادم أمين وأقربه، حتى أصبح ذا دلال علي. وكان يأتي أحيانا إلى المنزل لقضاء أشغال الأميرتين، فصارت له علاقة معرفة بهما، كمعرفة الخادم بالسيد. وما خطر لي أن تسامحنا معه يجرئه أن يتواقح ذات يوم ويطلب مني أن أزوجه نميقة. فلطمته على وجهه وشتمته وحذرته أن يفوه ثانية بمثل هذا الكلام. فأجاب بكل قحة أنه ليس تحت السماء من قوة تمنعه أن يفوه بمثل هذا الكلام وبأعظم منه، لأنه يحب نميقة ولا يكف عن طلبها. فغضبت عليه غضبا شديدا وقلت له: من أنت يا هذا حتى تتجاسر على طلب يد أميرة لا تستطيع أن تنال منها موطئ نعلها. ونهضت لكي أضربه ففر من أمامي. ثم انتهز فرصة وقصد إلى الأميرة سنية وطلب منها نفس الطلب، وقال لها إنه يحب نميقة ويجب أن يتزوجها. فما تمالكت الأميرة سنية أن أوسعته ضربا بالشبشب حتى خرج خروج الكلب المطرود. لهذا السبب هو يحاول أن ينتقم بمثل هذه السعايات الدنيئة. - لعنة الله عليه وألف لعنة. ولكن سعاياته لا تؤثر قط في مقام لا يستطيع أن يناله. على أني أود أن تسمح لي يا سيدي بسؤال آخر: هل كانت سمو البرنسيسة نميقة توده أو تمازحه حتى تجرأ هذه الجرأة؟ - لا أعتقد قط. وإنما هو وقح يسوغ لنفسه ما لا يسوغ. وقد خاطبت نميقة فماذا قالت لك؟
قالت إنها طوع لإرادة والديها. ولكن الفتاة المرباة لا تقول إلا هكذا وتكتم كل ما في ضميرها. فأخاف أن يكون بينها وبين البرنس عثمان جفاء حقيقي.
فتبرم البرنس سناء الدين وقال: لا لا، لا تخف. اجتهد في إقناع البرنس أن يكتب الكتاب في هذا الأسبوع ونحن كفيلون برضى نميقة. لا تستغرب يا عزيزي نامق بك إلحاحي هذا. فإن ابنتي هذه سيئة الحظ، ولطالما عرض لها في حياتها مثل هذه الحوادث. قبلما كنت سفير الدولة في روسيا كانت في أول صباها وكاد يحدث لها مثل هذا الحادث هناك، إذ إن موظفا روسيا حدثته نفسه أن يخطبها، إذ كان قبلا يدرسها قواعد اللغة الروسية وقد برعت بها. وأعجب بها ذلك الموظف الروسي وطمع أن يتزوجها. فانظر سخافة هؤلاء المغرورين. يكونون مستخدمين عندنا فنعاملهم بكل حسنى فيتطاولون علينا. لذلك اضطررت في الحال أن أعزل ذلك المترجم الروسي من السفارة اتقاء لتماديه في غروره، ولذلك صرت تراني أود أن أزوج نميقة عاجلا حتى لا تبقى تطمح أنظار المغرورين، ولا يخفى عليك أن نميقة جميلة، والجمال يعرض صاحبه للأخطار. فأرجو أن ... - اطمأن يا سيدي البرنس. سآتيك بالخبر السار عاجلا إن شاء الله. إلى الملتقى غدا.
ثم ودع نامق بك البرنس ومضى مفكرا.
الفصل الخامس
ففراق يكون فيه دواء ... أو فراق يكون فيه الداء
ننتقل بالقارئ الآن إلى منزل فخم أحاطت به حديقة غناء صغيرة وامتلأ رياشا فاخرا، تعنى به مدبرة أوروبية على جانب من التبرج والأبهة تليق بأن تستقبل الزائرين في خير فنادق باريس. وفي بابه خادم يفتح للطارقين، حسن المرأة أيضا مشرق الطلعة. وبالإجمال يقال: إن منزل رجاء باشا كان مضارعا قصور الأمراء ولائقا لاستقبالهم.
Unknown page