ورأى الدرويش صندوقا صغيرا من الخشب فأخذه ثم سارا معا إلى مفترق الطريق، فتعانقا بشوق شديد، وأخذ كل منهما أربعين جملا وسار في طريقة، ولم يكد الرجل يبتعد قليلا حتى وسوس له شيطان الطمع فقال في نفسه: «ترى لو طلبت من ذلك الدرويش عشرة جمال أكان يرفض طلبي؟» ولم يكد يمر بذهنه هذا حتى أسرع يجري إلى الدرويش ويناديه بأعلى صوته ويلوح له بيديه: «يا درويش! يا درويش!» فعاد إليه الدرويش وسأله: ما الخبر؟ فقال له: «ماذا عليك إذا أعطيتني عشرة جمال من جمالك وأنت رجل زاهد لا يعنيك من أمور الدنيا شيء؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت.»
ففرح الرجل بذلك، وأخذ الجمال العشرة مغتبطا، ثم ودع صاحبه وعاد إلى طريقه.
ولكنه لم يكد يسير قليلا حتى وسوس له شيطان الطمع مرة ثانية، فقال في نفسه: «إنه رجل طيب القلب لين العريكة، وما أحسبه يرفض أن يعطيني عشرة جمال أخرى إذا طلبتها منه.»
وما كاد يستقر في نفسه هذا الهاجس حتى أسرع يعدو نحو الدرويش ويناديه بأعلى صوته: «يا درويش! يا درويش!» فلما عاد إليه الدرويش وسأله عما يريد، قال له: «ألا تسمح لي بعشرة جمال أخرى أيها الرجل الكريم؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت يا أخي.»
ففرح وأخذ منه الجمال العشرة، ولم يكد يودعه ويسير بضع خطوات، حتى عاوده الطمع فقال: «إن الجمال جمالي، ولولاها لما استطاع أن يحمل هذه النفائس الكثيرة، ثم إن هذا الدرويش زاهد في الدنيا، وأحسب أن عشرة جمال محملة نفائس وذخائر ثمينة تكفيه وتغنيه طول حياته.» وثمة أسرع يجري نحو الدرويش ويناديه: «يا درويش! يا درويش!» فعاد إليه الدرويش مستفسرا عما يريده فقال له الرجل: «إنك قد غمرتني بفضلك وكرمك، وأحسبني إذا طلبت منك عشرة جمال أخرى، لم تخيب رجائي.» فقال له الدرويش: «خذ ما شئت.» فأخذها وودعه، ثم عاوده الطمع مرة ثالثة في نفسه: «وما فائدة هذه الجمال العشرة لهذا الزاهد المشتغل بعبادة الله، إنه رجل متقشف وربما شغلته عن دينه، هذا إلى أنه رجل ضعيف وليس في قدرته أن يمنعني ما أطلب، وما أجدرني أن أنتهز هذه الفرصة النادرة فآخد منه بقية جمالي؛ فإذا أبى أن يعطنيها قتلته أو أخذتها منه قسرا.»
وثمة أسرع إلى الدرويش، وقال له: «أنت رجل زاهد متقشف، ولست في حاجة إلى هذه الجمال العشرة، فماذا عليك إذا سمحت لي بها وأضفت إلى إفضالك فضلا آخر لا أنساه لك ما حييت؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت.» فشكره وودعه وأخذها وانصرف، ولكنه لم يكد يبتعد عنه قليلا حتى ذكر الصندوق الصغير الذي أخذه الدرويش من الكنز، فقال في نفسه: «لولا أن لهذا الصندوق الصغير قيمة أثمن من كل هذه النفائس لما سمح لي الدرويش بها جميعا راضيا مغتبطا!»
وما كاد يطيف بذهنه هذا الخاطر حتى أسرع يجري نحو الدرويش، فلما أدركه قال له: «لقد رأيتك تأخذ صندوقا صغيرا من الكنز، وأحب أن أعرف فائدة هذا الصندوق!»
فقال له الدرويش: «فائدة هذا الصندوق أن من يكحل به إحدى عينيه يرى كنوز الأرض قاطبة؛ فإذا كحل عينه الأخرى عميت عيناه جميعا.» فقال له الرجل: «إذن فاكحل عيني.» ولم يكد الدرويش يفعل حتى رأى الرجل كنوز الأرض كلها أمام عينيه، فقال في نفسه: «إذا كان من يكحل عينا واحدة يرى كل هذه الكنوز، فكيف بمن يكحل عينيه جميعا! لا شك أن هذا الدرويش يخدعني ويحرص على أن يحرمني فوائد عظيمة!»
ثم التفت إلى الدرويش وقال له: «اكحل لي عيني الأخرى.»
فحذره الدرويش من عاقبة هذا الشطط؛ فلم يزده التحذير إلا إلحاحا وعنادا، وبعد لجاجة طويلة أذعن له الدرويش وكحل له عينه الأخرى؛ فعميت عيناه جميعا، فأخذ الدرويش جماله الثمانين وسار بها إلى حيث شاء وترك صاحبنا يلقى جزاء طمعه وأنانيته. •••
Unknown page