وكانت تقول لنفسها في نفسها وهي عائدة بالصبي إلى دارها: بعدا لهذه الحياة التي لا يرحم الإنسان فيها الإنسان،
200
ولا يرأف القوي فيها بالضعيف، ولا ترق فيها القلوب للأم حين تفقد صبيها، وللصبي حين ينشأ لا يعرف لنفسه أما ولا أبا ولا فصيلة يأوي إليها.
وكانت تقول لنفسها في نفسها وهي عائدة بالصبي إلى دارها: لو أن لي صبيا مثله فعدا عليه العادون ومضوا به في غير مذهب من الأرض
201
كيف كنت ألقى ذلك؟ وكيف كنت أحتمله أو أصبر عليه؟ وهل كنت أسلو عن صبي آخر الدهر؟! هيهات! لو كان لي صبي مثله وعدا عليه العادون، وذهبوا به في غير مذهب من الأرض لذكرته مصبحة وممسية، ولذكرته يقظى ونائمة، ولتبعته نفسي وذهبت في تصور حاله المذاهب، ولما اطمأننت للعيش ولا نعمت بالحياة ولا استمتعت بطيبات هذه الدنيا. وكانت ترى أم الصبي وقد انتزع منها ابنها وهي تشهد انتزاعه، أو اختطف ابنها وهي لا ترى اختطافه، وكانت ترى توله
202
تلك الأم وتفجعها وحسرتها التي لا تخمد ولوعتها التي لا تنطفئ ودموعها التي لا تغيض.
وكانت تقول لنفسها في نفسها وهي عائدة بالصبي إلى دارها: هذا غلام قد اختطف من ملك كسرى، لم يستطع جند كسرى أن يحموه ولا أن يردوا عنه العاديات، فكيف بنا نحن في يثرب، هذه المدينة الخائفة التي يحيط بها اليهود والأغراب من جميع أقطارها، والتي يسل بعض أهلها السيف على بعض، والتي لا يأمن أهلها أن تدور عليهم دائرة، أو تنوبهم نائبة، أو يلم بهم خطب من الخطوب؟! فلما بلغت الدار واستقرت فيها، وعنيت بالصبي حتى أمن بعد خوف، وأنس بعد وحشة، وطعم بعد جوع، قالت لنفسها في نفسها: هيهات أن أتخذ الأزواج أو أن يكون لي من الولد من يصيبه مثل ما أصاب هذا الصبي، ومن أذوق فيه من الحزن والثكل مثل ما ذاقت في هذا الصبي أمه تلك الفارسية ونساء أمثالها كثير! ولو استجابت الحياة لثبيتة لأنفقت أيامها معنية بهذا الصبي الفارسي، ولاتخذته لنفسها ولدا أو شيئا يشبه الولد، ولكن الناس يقدرون ويدبرون، والأيام تجري على غير ما قدروا ودبروا.
فقد عنيت ثبيتة بسالم حتى ربا جسمه ونما عقله، وأصبح غلاما ذكي القلب، سريع الحس، حديد اللسان، كما قدر اليهودي - أو أكثر مما قدر - وكانت ثبيتة له محبة وبه مغتبطة وعنه راضية، وقد خطبها الرجال من الأوس والخزرج ومن أشراف البادية حول يثرب، فامتنعت عليهم، واعتلت على أهلها في ذلك حتى أعيتهم، ولكن وفد قريش يمرون بيثرب منصرفهم من الشام ذات عام، فيمكثون فيها أياما، ويسمع أبو حذيفة هشيم بن عتبة بن ربيعة بحديث ثبيتة هذه وقصة غلامها ذاك، فيعجبه ما يسمع، ثم يحب أن يتزيد من أخبارها فيلم بقومها، ويقول لهم ويسمع منهم، فتقع ثبيتة من نفسه موقعا حسنا، مع أنه لم يرها ولم يسمع لها، وإنما سمع عنها فرضي. وإذا هو يخطب هذه الفتاة الأبية، فتمتنع عليه أول الأمر، حتى إذا علمت بمكانه من قريش وبأنه من أشرافها وذوي المنزلة الرفيعة فيها، وبأنه من أصحاب البيت وأهل الحرم الذي رد عنه أصحاب الفيل، والذي لا يعدو عليه إلا الفجرة الآثمون، شكت يوما ويوما، ثم أصبحت مستجيبة لخطبة هذا المكي.
Unknown page