الوعد الحق
الوعد الحق
الوعد الحق
الوعد الحق
تأليف
طه حسين
الوعد الحق
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (صدق الله العظيم).
1
قال ياسر بن عامر لأخويه مالك والحارث: عودا إن شئتما إلى أرض اليمن، أو اضربا إن شئتما في الأرض العريضة؛ فأما أنا فمقيم، قد أعجبتني هذه الأرض فلست أعدل بها أرضا أخرى، ورضيت بهذه الدار فلست أبغي بها بديلا، وما رحيلي عن أرض وجدت فيها الأمن بعد الخوف، والقوة بعد الضعف، والسعة بعد الضيق. قال أخوه مالك: بل قل ما رحيلي عن أرض فيها هذه الفتاة السوداء التي لا تملك من أمرها شيئا، ولكنها تملك من أمرك كل شيء. قال ياسر: فظنا بي ما شئتما من الظنون، ولكني مقيم لن أبرح هذه الأرض، ولن أتحول عن هذه الدار.
قال الحارث: بعدا لك من فتى يؤثر الغربة على قرب الدار، ومضر على قحطان، وقريشا على عنس، ويحك؛ إنك لا تأمن أن تسام الخسف
1
وتحمل على ما تكره، ثم تلتمس العون فلا تجده، وتبتغي النصير فلا يجيبك إلا من يخذلك ويعين عليك.
قال مالك: وإن فتاتك هذه السوداء لم تنجم
2
من أرض مكة ولم تنزل من سمائها، وإنما جلبت إليها فيما يجلب إليها من الرقيق، وإن شئت وجدت أمثالها في كل منزل تنزل فيه، وإن شئت احتلنا لك فيها حتى نخطفها وتعيش معها آمنا بين بني أبيك وذوي مودتك.
قال ياسر: ضعا هذا الأمر كيف شئتما؛ فإني مقيم لن أبرح هذه الأرض، ولن أتحول عن هذه الدار، ولن أجزي أبا حذيفة عن الحسنة بالسيئة، ولا عن المعروف بالمنكر، ولن أرزأه شيئا في ماله وهو الذي قد آوانا وقرانا وأحسن مثوانا.
3
عودا إن شئتما إلى أرض اليمن، واضربا إن شئتما في الأرض العريضة، فأما أنا فمقيم، وما أرى إلا أن لي في هذه الدار شأنا.
قال الحارث: شأن الرقيق الذي لا يستكره على الرق، وإنما يسعى إليه سعيا، ويمعن فيه إمعانا!
4
فإن رفق القوم بك وآثروك بالخير فشأن الحليف الذي يعال ولا يعول.
قال ياسر: عودا إن شئتما فإني مقيم.
قال الحارث لأخيه مالك: دعه، فما علمته إلا نكدا لا خير فيه. •••
ورأى الصبح حين أسفر من الغد غلامين يخرجان من مكة يقودان راحلة قد وهبها لهما أبو حذيفة بن المغيرة، ويسعى معهما أخوهما ياسر سعي المودع لا سعي من أزمع الرحيل،
5
وكان هؤلاء الفتية الثلاثة قد خرجوا من دارهم بتهامة اليمن يلتمسون أخا لهم فقدوه، فطوفوا في الأرض ما طوفوا، وبحثوا عن أخيهم ما بحثوا، فلما استيأسوا منه عادوا إلى أرضهم، ومروا بمكة أثناء عودتهم، وقد بلغ منهم الجهد، وأضناهم سفر غير قاصد.
6
فقال بعضهم لبعض: نأوي إلى هذه القرية فنلم ببيتها، ونسأل آلهتها، ونصيب فيها حظا من راحة، ونسأل أهلها معونة على ما بقي لنا من الطريق.
وأووا إلى مكة، وطافوا بالبيت، وسألوا الآلهة فلم يجدوا عندها شيئا، ثم أقاموا في المسجد ينتظرون أن تغدو قريش إلى أنديتها. فيمر بهم، حين يرتفع الضحى، أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي، فيرى ما أصابهم من الضر، فيضمهم إليه ويكرمهم، كما تعودت قريش أن تكرم الضيف.
وكان أبو حذيفة قد وكل بخدمة هؤلاء الضيف سمية بنت خياط، أمة سوداء، في أول الشباب، عليها من الجمال نضرة قاتمة بعض الشيء، وفيها من الشباب خفة ومرح ونشاط، وفي لسانها المستعرب عذوبة حسنة الموقع في الآذان والقلوب.
فكانت تغدو على هؤلاء الفتية بطعامهم أول النهار، وتروح عليهم بطعامهم إذا أقبل الليل، وتعمل في خدمتهم بين ذلك، وتتحدث إليهم، وتسمع منهم بين حين وحين، وكأنها قد وقعت في نفس هذا الفتى فحببت إليه الإقامة بمكة. ومن يدري؟! لعله أن يكون قد تحدث إليها في شيء من ذلك فأحس منها مثل ما أحس من نفسه: ميل الغريب المستوحش إلى الغريب المستوحش.
وقد هم الفتى أن يحمل نفسه على ما تكره، ويعود مع أخويه إلى حيث ينتظرهما أب شيخ حزين وأم شيخة ملتاعة،
7
ولكن الفتى لم يستطع أن يحمل نفسه على ما أراد. وحياة الناس ليست رهنا بما يريدون، وليست مستجيبة لما يقدرون، وإنما هي أمور خفية يجريها القضاء، لا يؤامر
8
فيها أحدا، ثم يكون لها في حياة الناس من الآثار ما لم يكن ليخطر لهم على بال. والشيء الذي ليس فيه شك هو أن الأخوين قد خرجا من مكة يقودان راحلتهما ييممان
9
تهامة اليمن، فضاعا في الدنيا وفي التاريخ، ولم يعرف أحد عنهما شيئا، كما لم يعرف أحد عن أخيهما الضائع وأبويهما الشيخين شيئا.
وعاد الفتى ياسر بعد أن ودعهما إلى مكة، فأقام فيها ضيفا على أبي حذيفة أول الأمر، ثم حليفا لأبي حذيفة بعد ذلك، ثم زوجا لسمية أمته السوداء تلك، ومنذ ذلك الوقت عرفته الدنيا وحفظه التاريخ.
2
وذلك أن أبا حذيفة انصرف من ناديه ذات يوم، فلقي وهو رائح إلى داره ياسرا غير بعيد من المسجد، فقال له مبتسما: ما فعل أخواك يا فتى عنس؟ فقال الفتى: آثرا
10
قرب الدار على بعدها، فعادا إلى قومهما. قال أبو حذيفة: وآثرت بعد الدار على قربها، فأقمت في مكة! قال الفتى: بل آثرت هذا الحرم الآمن على غيره من مواطن الخوف، وآثرت جوار هذا البيت العتيق على ما في اليمن من ضلال وغي.
11
قال أبو حذيفة: وماذا تريد أن تصنع في مكة؟ قال الفتى: ألتمس القوت من مصادره. قال أبو حذيفة: فإن القوت ميسر لك ما بقيت لي جارا. قال الفتى: بأبي أنت من سيد كريم تزهى به مخزوم وتزدان به قريش وتعز به البطحاء! إنك والله ما علمت لسخي النفس رضي السيرة، تحفظ الضائع وتطعم الجائع، وتعطي السائل وتغني العائل، وتحمي الجار وتغيث الملهوف.
12
قال أبو حذيفة: حسبك يا فتى! لقد جزيت فأربيت،
13
وإني لأرى فيك ذكاء ولسنا.
14
فأنت جار لي ما أقمت في هذه القرية. قال الفتى: لا وعداك ذم،
15
ولكني أدعوك إلى خطة سواء بيني وبينك لا تشق عليك ولا تخفف عني: تحميني مما تحمي منه نفسك وأهلك، وأكون حربا على من حاربت، وسلما لمن سالمت، ووقاء
16
لك ولأهلك من العاديات ما استطعت إلى ذلك سبيلا. قال أبو حذيفة: فهو الحلف إذن؟ قال الفتى: نعم، إن طابت نفسك به. قال أبو حذيفة: فقد طابت به نفسي، واطمأن إليه قلبي! فإذا كان الغد فموعدنا المسجد. قال الفتى: فإنك من المسجد غير بعيد، وما أحب أن نرجئ إلى غد ما نستطيع أن نأتيه اليوم. قال أبو حذيفة: فهلم إذن.
وأخذ بيد الفتى، ورجع أدراجه خطوات، فلما بلغ المسجد قصد الكعبة. قال الفتى: إلى أين تريد؟ قال أبو حذيفة: أريد أن أشهد الآلهة على حلفنا. قال الفتى متضاحكا: فأشهد عليه قومك قبل أن يتفرقوا؛ فإن الآلهة مقيمة حيث هي لا تريم.
17
قال أبو حذيفة: ما رأيت كاليوم فتى ذكيا أريبا.
18
ثم مضى به إلى أندية قريش، فجعل لا يمر بناد منها إلا قال: يا معشر قريش، اشهدوا علي أني قد حالفت ياسر بن عامر هذا العنسي. وجعل لا يقول ذلك لناد من أندية قريش إلا قالوا له: سعيت غير مذموم، وحالفت غير ملوم.
فلما طوف به على أندية قريش كلها قصد به قصد الكعبة. قال الفتى: إلى أين تريد؟ قال أبو حذيفة: إلى حيث أشهد الآلهة على حلفنا. قال الفتى متضاحكا: ويحك أبا حذيفة!
19
أتظن أن الآلهة لم تسمعك وأنت تشهد الناس؟! فهي قد سمعت وشهدت ورضيت، أم تراها لا تسمع إلا إذا دنوت منها كما يدنو الرجل من الرجل حين يريد أن يناجيه؟!
قال أبو حذيفة: ما أرى إلا أني قد حالفت اليوم شيطانا! ويحك يا فتى عنس! فإنا قد ألفنا أن نقف من آلهتنا موقف المتحدث إليها المناجي لها.
قال الفتى: فقف منها هذا الموقف حيث شئت؛ فإنها ينبغي أن تكون معك في كل مكان.
قال أبو حذيفة، وقد أخذه شيء من وجوم، كأن الفتى قد رد إليه شيئا غاب عنه، أو رده إلى شيء غاب عنه: فلا أقل من أن نطوف بالكعبة؛ ليتم لهذا الحلف حقه من الحرمة والتقديس.
قال الفتى: أما هذا فنعم. ثم مضيا فطوفا بالكعبة ما شاء الله أن يطوفا بها، وراحا
20
إلى دار أبي حذيفة حليفين، ولكن بينهما من الأمر أكثر مما يكون بين الحليف والحليف. •••
يقول أبو حذيفة للفتى في طريقهما إلى الدار: ويحك يا عنسي! إني لأرى فيك استخفافا بآلهتنا وازورارا عنها.
21
أفتراك لم تنس آلهة عنس بعد، ولم ترد أن يخلص قلبك لغيرها؟
فيقول الفتى: بأبي أنت يا أبا حذيفة! والله ما ذكرت آلهة عنس قط؛ فأنساها اليوم أو أستبقي ذكرها في قلبي! وما أعرف أني غدوت عليها مصبحا أو رحت إليها ممسيا، أو آمنت لها بسلطان.
قال أبو حذيفة: فقد صبوت
22
إذن عن آلهة آبائك إلى إله النصارى أو اليهود؟
قال الفتى: لقد لقيت أولئك وهؤلاء وسمعت منهم، ولم أفهم عنهم ولم أحاول لأحاديثهم فهما.
قال أبو حذيفة: فليس لك إله إذن؟
قال الفتى: لو كنت متخذا إلها لعبدت البحر الذي يروعني ويروعني،
23
أو الشمس التي تضيء لي أثناء النهار، أو النجوم التي تهديني أثناء الليل، أو السحاب الذي يطعمني ويسقيني، ولكن شيئا من ذلك لا يبلغ نفسي، ولا يتحدث إلى قلبي، ولا يثير حاجتي إلى العبادة والطاعة والإذعان. فأنا حائر جائر عن القصد،
24
ألتمس الهدى فلا أجد إليه سبيلا، فأعيش مع الناس مشاركا لهم في الدنيا مفارقا لهم في الدين.
قال أبو حذيفة: إن لك لشأنا يا فتى عنس.
قال الفتى: كغيري من الناس، إلا أني أفكر في هذا كثيرا ولا يفكرون فيه إلا قليلا. •••
وبلغا دار أبي حذيفة، فأنفقا فيها سائر النهار وشطرا من الليل يخوضان في أحاديث الدين والدنيا وفي أحاديث تهامة ونجد والحجاز.
وقد وقع حب الفتى في قلب أبي حذيفة موقعا غريبا، حتى قال لنفسه ولأهله حين خلا إلى أهله: ما أحببت غريبا قط كما أحببت هذا الفتى، ولو كنت متخذا ولدا لاتخذته ولدا.
3
وأقام ياسر ما شاء الله أن يقيم ضيفا على حليفه أبي حذيفة، يغدو إلى المسجد مصبحا فيقول لقريش ويسمع منهم، ويروح إلى الدار بعد أن تزول الشمس، فلا يقيم فيها إلا ريثما يصيب شيئا من طعام وراحة، ثم يخرج فيمشي في الأسواق، ويتعرف أمر الناس، ويلتمس أسباب الرزق؛ حتى إذا يسرت له الوسائل للعمل والكسب أراد أن يتحول إلى دار له، وآذن
25
أبا حذيفة بذلك، فلم ير أبو حذيفة بذلك بأسا، ولكنه رأى الفتى مترددا في نفسه، لا يقدم قلبه إلا ليحجم، وهو يجيل طرفه في الدار فعل من يجد في التحول عنها مشقة وحزنا، قال أبو حذيفة: إني لأراك مترددا محزونا يا فتى، وما أعرف أن داري قد ضاقت بك أو أن أحدا من أهلها قد نالك بمكروه، فما يمنعك أن تقيم فيها كما أقمت إلى الآن، حتى يتسع لك العيش وتتصل بك أسبابه متينة مطمئنة؟
قال الفتى: لا والله يا أبا حذيفة ما أنكرتني دارك ولا أنكرتها، وما لقيت من ضيافتك إلا خيرا، ولكن لي في دارك أربا
26
قد كنت أظن أني أستطيع السلو عنه، ثم تبين لي أن ليس لي إلى هذا السلو سبيل.
قال أبو حذيفة وقد أخذه العجب: لك في هذه الدار أرب؟! وما عسى أن يكون؟
فأطرق الفتى قليلا، وغشيت وجهه سحابة رقيقة عمراء،
27
ثم رفع رأسه وكأنه قد أجمع أمره على شيء عظيم، وقال - وعلى ثغره ابتسامة فيها كثير من الجراءة، وفيها كثير من الحياء: أمتك هذه السوداء التي تسمونها سمية، قد وقع حبها في قلبي يا أبا حذيفة، ولا والله ما كانت مني إليها ريبة في نظر أو حديث.
قال أبو حذيفة: فتريد أن أهبها لك؟
قال الفتى: لا والله لا أرزؤك في مالك.
28
قال أبو حذيفة: فإنك لا ترزؤني في مالي شيئا، وإنما هي أمة والإماء في الدار كثير.
قال ياسر: لا والله لا أرزؤك في مالك، وما آثرت الحلف على الجوار إلا لتخف مئونتي عليك، وما أحب أن تقول مخزوم: أقام في الدار مقام الضيف، ثم لم يتحول عنها كما أقبل عليها.
قال أبو حذيفة: فإن شئت زوجتك منها.
قال الفتى - وقد أغرق في ضحك متصل: هيهات يا أبا حذيفة!
29
أتريد أن ألد لك الإماء والعبيد؟!
قال أبو حذيفة - وقد ضرب على كتف الفتى بيده: ويلك! لقد عنيتني منذ اليوم، تزوجها وما ولدت لك من ولد فهو حر.
قال ياسر: بأبي أنت من سيد كريم! ألم أقل إنك فخر مخزوم وزينة قريش وعز البطحاء؟!
قال أبو حذيفة: حسبك؛
30
فقد أسرفت في الثناء، أقبل علي إذا كان المساء فتزوج، ثم تحول بأهلك إلى دارك الجديدة، وعسى ألا ترى فيها إلا خيرا. •••
ولم يكد ياسر يتحول بسمية إلى داره حتى غفل عنه التاريخ دهرا طويلا، كما تعود أن يغفل عن الدهماء
31
حين تحيا وحين تموت وحين تلم بها الأحداث وتختلف عليها الخطوب. وماذا عسى أن يصنع التاريخ بفتى من عامة الناس ودهمائها، ليس له خطر في مكة ولا مكانة في قريش، وإنما هو غلام أجنبي حليف، يعيش كأمثاله من هذه الأخلاط التي كانت تعيش في مكة ساعية إلى رزقها أيسر السعي، تكسب القوت ما وجدت إليه سبيلا، فإن أعياها كسبه وجدت حاجتها عند أحلافها من سادة قريش. وهي مع ذلك آمنة على أنفسها وعلى ما أتيح لها من مال، لا يعدو عليها عاد ولا يسعى إليها مكروه.
وكان التاريخ في ذلك الوقت، كما كان في أكثر الأوقات، أرستقراطيا لا يحفل إلا بالسادة، ولا يلتفت إلا إلى القادة. وكان التاريخ في ذلك الوقت، كما كان في أكثر الأوقات، ضنينا
32
بخيلا ومستكبرا متعاليا، يحفل بالسادة في تحفظ ويلتفت إلى القادة في كثير من الاحتياط، لا يسجل من أمرهم إلا ما كان له شأن أو خطر. وآية ذلك أنه لم يسجل من أمر قريش في تلك العصور إلا أطرافا يسيرة ضئيلة لا تكاد تظهرنا من أمرهم على شيء؛ كأن التاريخ كان يراها أهون شأنا وأيسر خطرا من أن يمنحها عنايته، وكأنه كان يرى قياصرة الروم وأكاسرة الفرس وقادة أولئك وهؤلاء وسادتهم أحق بعنايته وأجدر برعايته وأحرى أن يقف عندهم ويبلو
33
أعمالهم ويسجل أخبارهم. فأما سادة قريش وقادتها وذوو المكانة في هذه الأحياء العربية التي لا تحسن كتابا ولا حسابا، ولا تسخر الزمان والمكان لأمرها، وإنما تختلس حياتها من الزمان والمكان والأحداث والخطوب اختلاسا، فلم يكونوا أحرياء
34
أن ينظر التاريخ إليهم إلا شزرا،
35
وأن يسجل من أمرهم إلا ما فيه تفكهة للأجيال المقبلة وترويح عليها وتسلية لها عن بعض ما يشغلها من الهم، فكيف بالدهماء التي لا تملك المال ولا تصرف التجارة ولا تقوم بأمر الآلهة ولا تدبر السلطان، وإنما تتسقط حياتها تسقطا وتتلقطها تلقطا، وتعيش مما يلقي إليها الأغنياء والسراة من الفتات.
36
وكان ياسر من هذه الدهماء؛ فلم يحفل به التاريخ، ولم يلتفت إليه، ولم يصحبه في حياته الطويلة، ولم يسجل غدوه على التماس الرزق، ولا رواحه على أهله بما اكتسب منه، حتى كان يوم أكره التاريخ فيه على أن يلتفت إلى الدهماء أكثر مما يلتفت إلى السادة والقادة، وعلى أن يسجل من أمر ياسر وأمثاله من عامة الناس أكثر مما يسجل من أمر حلفائه من بني مخزوم وأمثالهم من الملأ والسادة في قريش.
في ذلك اليوم نظر التاريخ فإذا أحداث ضئيلة تحدث لا يكاد الناس يأبهون
37
لها ولا يعنون بها، ولكنها لا تكاد تحدث حتى تخفق لها القلوب وتتفتح لها العقول وتضطرب لها الضمائر، وحتى تعرف الدهماء نفسها، وتشعر بحقها، وتطمح إلى هذا الحق، وتسعى إليه جادة لا وانية
38
ولا فاترة، وحتى ينكر الملأ
39
من قريش كل شيء: يرون المستضعفين في الأرض وقد سمت نفوسهم إلى أشياء لم تكن تسمو إليها، وطمعت قلوبهم في أشياء لم تكن تطمع فيها، وانطلقت ألسنتهم بأشياء لم تكن تنطلق بها، ويرون الرقيق وقد طمحوا إلى الحرية واشتاقوا إليها وهاموا بها، وجعلوا يتحدثون فيها بينهم كأنهم ليسوا أقل من سادتهم استحقاقا للحياة، ولا استئهالا
40
للكرامة، ولا ارتفاعا عما ينقص، ولا تنزها عما يشين
41
كل قد خلق جسمه من تراب، وكل يصير جسمه إلى تراب، لا تتمايز أجسامهم حين تولد، ولا تتمايز أجسامهم حين تموت، وإنما تتمايز نفوسهم وقلوبهم وضمائرهم بين ذلك، بما تقدم من الخير، وما تتجنب من الشر، وبما تتقي من الإثم، وما تصطنع من البر والمعروف. ثم يتحدثون بأن نفوسهم وقلوبهم وضمائرهم تتمايز بعد الموت بما تلقى من جزاء أعمالها؛ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، وممن يعمل مثقال ذرة شرا يره. ثم يتحدثون فيما بينهم بأن حرية الحر لا تفضله على غيره من الناس إلا إذا آمن واتقى وعمل عملا صالحا ولم يؤذ الناس بيده ولا بلسانه ولا بقلبه، وأن رق الرقيق لا يخسه
42
عن غيره من الناس ما دام يؤمن ويتقي ويحسن في القول والعمل، ويبرئ قلبه من الإثم وضميره من السوء، ويتحدثون فيما بينهم بأن الحرية والرق، والغنى والفقر، والقوة والضعف أعراض تعرض وتزول، ليس من شأنها أن تميز بعض الناس من بعض، ولا أن تسود
43
بعضهم على بعض، ولا أن تحكم بعضهم في بعض. وإنما يمتاز الناس بالخير والمعروف والتقوى، ويسود الناس بالسلطان الذي لا يأتيهم من مولد ولا من ثراء، وإنما يأتيهم من رضا الناس عنهم وثقة الناس بهم وإيمان الناس لهم، ويحكم الناس بأمر يأتيهم من السماء قد فصل لهم الخير والشر، وبين لهم العرف والنكر، وميز لهم الحلال والحرام، لا بهذه التقاليد التي توارثوها عن آبائهم، ولا بهذه السنن التي حفظوها عن قديمهم.
بهذا كله كان الرقيق والمستضعفون في الأرض يتحدثون إذا لقي بعضهم بعضا أو خلا بعضهم إلى بعض. وبهذا كله جعل الرقيق والمستضعفون في الأرض يتسامعون، ثم يتداعون ثم يتواصون، وبهذا كله روع الملأ من قريش ذات يوم، فثار ثائره، وفار فائره، وأجمع أمره أن يطفئ هذه الجذوة قبل أن ينتشر لهبها فلا يبقي ولا يذر،
44
ونظر التاريخ ذات يوم إلى مكة فرأى فيها هذه الأحداث الصغار الكبار، وسمع فيها هذه الأحاديث التي كانت تهمس بها الأفواه وتصيح بها الضمائر والقلوب والنفوس. ورأى التاريخ فيما رأى ياسرا، ذلك الفتى قد تقدمت به وبزوجه السن، وقد مات حليفه أبو حذيفة، وقد رزق من سمية ثلاثة أبناء، قتل أحدهم في خطوب مجهولة، وبقي الآخران يعيشان كما كان أبوهما يعيش.
ويجب أن نسجل أن التاريخ لم يبحث عن ياسر ولا عن بنيه، وإنما أقبل ذات يوم على مكة؛ ليرى بعض ما يجري فيها من الأحداث، فلم يكد يبلغ المسجد حتى رأى أندية قريش هائجة مائجة تتحدث عن محمد وعن دعوته، وعمن تبعه من المستضعفين والرقيق، وقد تذكر دار الأرقم ابن أبي الأرقم التي اتخذها محمد لنفسه ولأصحابه ناديا ينشر منه دعوته هذه الرائعة المروعة، فتحول التاريخ عن هذه الأندية الصاخبة إلى دار ابن أبي الأرقم ليرى محمدا وأصحابه ويسمع منهم. ولم يكد يبلغ هذه الدار حتى رأى على بابها رجلين: أحدهما أسود طوال ترتفع قامته في السماء، والآخر أصهب ربعة،
45
وهما يتحاوران، يقول الأسود لصاحبه الأصهب: ما تصنع هنا؟
فيقول له الأصهب: وأنت ماذا تصنع؟
فيجيب الأسود: أريد أن أدخل على محمد؛ فأسمع منه وأعلم علمه.
فيقول الأصهب: وأنا أيضا أريد ذلك. ثم يدخل الرجلان فيسمعان ويسلمان، ويعرف التاريخ أن الأسود الطوال هو عمار بن ياسر، وأن الأصهب الربعة هو صهيب بن سنان، ومنذ ذلك الوقت يذكر التاريخ ياسرا، ذاك الفتى العنسي، ويتتبع خطوات ابنه عمار.
4
أصبح ياسر ذاهلا واجما مشرد اللب، قد أنكر نفسه وأنكرته زوجه سمية؛ فقد تعود أن يفيق من نومه قبل أن تنشر الشمس ضوءها على بطحاء مكة وجبالها، فلا يريح ولا يستريح، وإنما يضطرب في الدار ذاهبا جائيا، كثير الحركة موفور النشاط، يتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع حتى يوقظ النائمين من أهله وولده، وهم ينكرون نشاطه وحديثه في أنفسهم، وربما أنكروا حركته ونشاطه بألسنتهم، وطلبوا إليه شيئا من سكون وسكوت، فكان يعبث بهم ويسخر منهم، ويلح عليهم بحديثه وحركته، ويؤنبهم
46
مداعبا لهم حتى يصدهم عن النوم أو يصد عنهم النوم.
وكانت زوجه سمية أشد أهل الدار ضيقا بهذه الحركة وإنكارا لهذا النشاط، فلم يكن شيء أحب إليها من أن تستأخر في نومها ما وسعها ذلك، كأنها كانت تتصور ما ينتظرها في الدار من عمل ستجد فيه من الجهد ما يضنيها ويشق عليها، فكانت تحب أن ترجئ ذلك ما وجدت إلى إرجائه سبيلا. ولكن الشيخ الثرثار المكثار النشيط لم يكن يكره شيئا كما كان يكره أن يستيقظ والناس من حوله نيام، فلم يكن يستقر له قرار ولا يهدأ له بال حتى يثور أهل الدار جميعا من نومهم، ويأخذوا معه في حديثه الذي لا ينقضي، يسمعون له كثيرا ويقولون له قليلا.
وكانت أحاديث ياسر مختلفة أشد الاختلاف، تروع بغرابتها وطرافتها وإثارتها للشوق إلى الاستزادة والرغبة في الاستطلاع؛ فقد كان ياسر لا ينفك يروي غرائب الأخبار وطرائف الأحداث عن موطنه ذلك البعيد في تهامة اليمن، وعن أسفاره تلك الكثيرة في تجارة مخزوم إلى الشام حينا، وإلى العراق حينا، وإلى ما وراء الشام والعراق أحيانا.
ولم يكن أحد أعلم من ياسر بمناقب قريش ومثالبها،
47
ولم يكن أحد أشد منه تعلقا بالتحدث عن سادة قريش وقادتها، يثني عليهم، ولا يعفيهم من نقده اللاذع
48
الذي كان يصادف هوى في نفوس السامعين له من أهله وبنيه. وأي شيء أحب إلى دهماء الناس من التحدث عن السادة والقادة بما يسر وما يسوء، وبما يرضي وما يسخط! وكان ياسر إذا أخذ في الحديث عن قريش أمعن فيه، واستهوى أفئدة سامعيه.
واستيقنت سمية أنه لن يخرج من الدار إلا حين يرتفع الضحى وتوشك الشمس أن تزول، ولكنه أفاق من نومه ذلك اليوم فلم يثر من مضجعه، ولم يتحرك لسانه في فمه، وإنما ظل مستلقيا مكانه لا ينشط ولا يقول، ولا يدعو غيره إلى نشاط أو قول. وأخذت سمية حظها من نوم الصباح كما لم تتعود أن تأخذه قط، ولكنها مع ذلك أنكرت هدوء هذا الذي لم يتعود هدوءا، وصمت هذا الذي لم يألف صمتا، فتقبل عليه وقد تكلف وجهها الابتسام والرضا، وأضمر قلبها العبوس والخوف، فتسأله ما خطبه؟ وهل يجد شيئا يكرهه؟ فيجيبها بصوت خافت: ليس بي بأس، ولست أجد ما أكره.
قالت سمية: فما لك لا تملأ الدار علينا ضجيجا وعجيجا؟
قال ياسر، وقد جعل صوته يمتلئ ويقوى شيئا فشيئا: ويحك يا سمية! كيف السبيل إلى إرضائك؟! إن أنشط قلت: هلا خليت بيني وبين النوم؟! وإن أسكن قلت: هلا ملأت الدار علينا ضجيجا وعجيجا؟!
49
أما إني لم أهدأ حبا في الهدوء، ولم أسكن إيثارا للسكون، وإنما رأيت رؤيا روعتني عن النشاط والقول.
قالت سمية وقد ثاب
50
الأمن إلى قلبها، وصرح وجهها الأسود المتجعد عن رضا لا تكلف فيه، قالت وهي متضاحكة: فهلا رأيت من آخر كل ليلة رؤيا تروعك وتشغلك عن النشاط والقول؟! ذلك أجدر أن يتيح لي من الراحة والدعة ما أنا في حاجة إليه.
قال ياسر - وقد هم ثغره أن يبتسم ووجهه أن يشرق ولكن الروع لم يلبث أن رده إلى الجد والصرامة - قال: ويحك يا سمية! إنها رؤيا ليست كالرؤى، وما أرى إلا أن لها شأنا! فما أكثر ما عرضت لي الأحلام! وما أكثر ما انصرفت عني حين أفيق! ولكن هذه الرؤيا قد تركت في قلبي وعقلي وأمام عيني صورة ملحة لا تريد أن تريم.
51
قالت: فقص رؤياك، لعل حديثك عنها أن يريحك منها.
قال ياسر: هيهات! ثم استوى جالسا في بطء، وأخذ يقص رؤياه مستأنيا، ولم يكد يمضي في حديثه قليلا حتى روعت زوجه، وهمت أن تكفه عن الحديث لولا بقية من شجاعة وفضل من حياء.
قال ياسر: لن أقص عليك رؤيا، ولكني سأصف لك صورة رأيتها نائما وما زلت أراها يقظان: واد ليس بالمسرف في السعة ولا بالمسرف في الضيق، وإنما هو وسط بين ذلك، يأخذ جانبيه جبلان عظيمان يرقى إليهما الطرف ولكنه لا يبلغ أعلاهما، وقد تشقق الجبلان عن فجوات عميقة أراها ولا أحصيها، والنار من هذه الفجوات يسعى بعضها إلى بعض، حتى تلتقي وحتى يسيل بها الوادي كما يسيل بالماء، وفي أقصى هذا الوادي من أمامي مروج خضر تجري فيها مياه عذاب لا تبلغها هذه النار، وإنما تقف قبل أن تنتهي إليها، وأنت قائمة في هذه المروج الخضر قد رد عليك شبابك وأشرق وجهك حتى كأنه الشمس، وأنت تبتسمين لي وتدعينني باللحظ واللفظ، وتشيرين إلي بالبنان، ومن ورائي عمار يحثني على أن أقتحم النار، ويقول في صوت يشيع فيه الحنان: أقدم يا أبت، فليس عليك بأس، إنما هي لفحة أو لفحات
52
ومن ورائها هذه الرياض الخضر! وسمية قد رد عليها شبابها، وشبابك ينتظرك إلى جانبها ليرد عليك. وأنا أسمع دعاءك، فأهم أن أقتحم النار، ولكن لفحها يوقظني، ثم يضرب الشيخ جبهته بيده صائحا: ويلاه! إني لأجد مس النار.
قالت سمية، وقد أقبلت عليه مرتاعة ملتاعة: ويحك! لا بأس عليك، قم فأصب شيئا من طعام، ثم اخرج فاقصص رؤياك هذه المروعة على بعض كهاننا، لعلهم أن يجدوا لها تأويلا.
ولم يقبل المساء من ذلك اليوم حتى كانت رؤيا ياسر قد عبرت نفسها، وحتى وجد ياسر مس النار.
5
أقبل ياسر يسعى إلى المسجد، حتى إذا بلغ نادي بني مخزوم ألقى التحية وجلس، ولكنه لاحظ أن وجوه القوم لم تهش له، وأن أصواتهم لم ترتفع بالسلام عليه، وإنما رد بعضهم عليه تحية فاترة، ومضى بعضهم في حديثه كأنه لم يلق إلى هذا الطارئ بالا، فأسر ياسر في نفسه بعض الموجدة،
53
ولكنه لم يطل عندها الوقوف؛ فهو يعلم أن في مخزوم صلفا
54
وأنفة وكبرياء، ولولا وفاؤه بحلفه لمكان أبي حذيفة من قلبه، لتحول عن مخزوم إلى حي آخر من أحياء قريش، ولكنه وفى لأبي حذيفة بعد موته كما وفى له أثناء حياته، ولم يكن له من هذا الوفاء بد؛ فأبو حذيفة قد حفظه بعد ضيعة، وآمنه من خوف، وزوجه سمية أحب الناس إليه وآثرهم عنده، وأعتق له ولده منها قبل أن يولدوا، ثم لم يمت حتى رد إلى سمية حريتها، فأصبحت دار ياسر دار حرية كاملة، بعد أن كانت دارا نصفها حر ونصفها رقيق.
وكان ياسر قد أقبل على نادي مخزوم وفي نفسه أن يقص عليهم رؤياه تلك التي أهمته وروعته، يطرفهم بها من جهة، ويلتمس عندهم لها تأويلا من جهة أخرى، فلما رأى منهم الفتور والإعراض أمسك لسانه في فمه، وجلس صامتا لا يقول شيئا. وكانت مخزوم قد عودت ياسرا ألا تراه في ناد من أنديتها أو دار من دورها إلا داعبته وأثارت نشاطه للحديث، ولكنها تلقته في هذا الضحى فاترة عنه تكاد تنكره، لا تسأله حديثا ولا تسوق إليه حديثا، ولولا أنه تعود أن يستأني
55
بهؤلاء المستكبرين حتى يثوبوا إليه، فيعبث بكبريائهم ويسمعهم ما لم يكونوا يحبون أن يسمعوا؛ لانصرف عنهم إلى ناد آخر من أندية قريش، ولكنه أقام صامتا مستانيا يدير في نفسه الانتقام من هذا الفتور. على أنه لم ينتظر طويلا قبل أن يساق إليه الحديث؛ فهذا عمرو بن هشام يسأله فجأة: ما أخرك اليوم عنا يا ياسر؟
قال ياسر مداعبا: فقد كنت في حاجة إلى إني
56
يا أبا الحكم؟
قال عمرو بن هشام، وهو يكتم الغيظ في نفسه: أجل، كنت في حاجة إليك لأسألك عن شيء عمي
57
علي من أمرك.
قال ياسر: وما ذاك؟
قال عمرو بن هشام: ذاك أني لم أرك قط تقرب
58
إلى آلهتنا، ولم أسمعك قد تذكرها بخير.
قال ياسر متضاحكا: فهل سمعتني قط أذكر آلهتكم بسوء؟ وهل رأيتني قط آتي من الأمر ما يؤذيها؟
قال عمرو بن هشام: فهي إذن آلهتنا نحن، وليست منك ولست منها في شيء!
قال ياسر: وما تريد إلى ذاك؟
قال عمرو بن هشام، وقد ظهر الغضب في وجهه وفي صوته جميعا: أريد أن أعرف من هو معنا ومن هو علينا؛ فقد آن لكل من أقام بمكة أن يصرح عن ذات نفسه، وأن يبدي دخيلة ضميره، ولقد عفونا لأحلافنا عن كثير، ولكنا لن نعفو لهم منذ الآن عن شيء.
قال ياسر: أمسك عليك نفسك أبا الحكم! فإنك لم تر مني ولم ير قومك مني سوءا منذ حالفت عمك أبا حذيفة على أن أكون سلما لمن سالمتم وحربا على من حاربتم، وإني لأسمع الآن منك حديثا لم أسمع مثله منذ أويت
59
إلى حرمكم هذا.
قال عمرو بن هشام، وقد اندفع في ضحك يصور الغيظ أكثر مما يصور الرضا: فأنت حرب على ابنك عمار إذن منذ اليوم؟!
قال ياسر: أبن أبا الحكم؛ فإني لا أفهم عنك منذ اليوم شيئا.
قال عمرو بن هشام: ألم تعلم أن ابنك قد صبأ
60
أمس وآمن لمحمد وأصحابه؟! هنالك صعق ياسر، فانعقد لسانه واصفر وجهه، وجعل جبينه يتفصد
61
عرقا، وهنالك جعل سادة مخزوم يتقارضون نظرات سراعا فيها من العجب أكثر مما فيها من السؤال، وهم عمرو بن هشام أن يتكلم، فقال له عمه الوليد بن المغيرة: حسبك يا ابن أخي! ارفق بهذا الشيخ؛ فإنك قد ترى ما نزل به، وليس عليه من جرائر
62
ابنه شيء، فقد جاوز ابنه سن الأربعين. •••
وجعل السادة من مخزوم يعيدون على عمرو بن هشام مقالة الوليد، وجعل رشد ياسر يثوب إليه في أثناء ذلك قليلا قليلا. فلما آنس من القوم صمتا قال لعمرو بن هشام: بئس ما لقيت به حليفك يا أبا الحكم! إني لم أر عمارا أمس، ولم أره اليوم، ولم أعرف ما كان من أمره منذ فارقته، وإنك لتضع العنف في غير موضعه وتلوم غير ملوم، فهلا عنفت بالأرقم بن أبي الأرقم، وهو مثلك سيد من سادات مخزوم، وهو قد صبأ قبل أن يصبأ عمار - إن كان عمار قد صبأ - وهو قد جعل داره ناديا لمحمد يلقى فيها أصحابه، وينشر منها دعوته، ويذكر فيها آلهتكم بما تكرهون؟! ولكنك خفت الأرقم بن أبي الأرقم؛ لأن بني أبيه يقومون دونه
63
إن أردته بمكروه، فأما حليف عمك أبي حذيفة فليس هناك! فلو قد كان أبو حذيفة حيا لفكرت وقدرت قبل أن تلقاني هذا اللقاء. قال ذلك ونهض متثاقلا حزينا منكسر النفس؛ فمضى إلى داره، وترك بني مخزوم يتلاومون.
6
ولم يكد يبلغ داره ويلج من بابها حتى أنكر من الدار ومن أهلها كل شيء؛ فقد رأى زوجه سمية فرحة مرحة، قد أشرق وجهها على رغم ظلمته، وابتسم ثغرها وهي تلقاه مبتهجة النفس منبسطة الأسارير، فلا يكاد يدنو منها حتى تثب إليه وتتعلق به، تلقي إليه في صوت مبتهج تشيع فيه الغبطة وتفيض منه البهجة: أبشر ياسر؛ فقد جاءنا عمار بخير الدنيا والآخرة!
قال ياسر دهشا: الآخرة! ما الآخرة؟! ماذا تقولين؟! إني لأعيش عيشة منكرة منذ اليوم، تروعني أحلام الليل، ولا أفهم ما يقال لي أثناء النهار.
قال عمار: أبشر يا أبت؛ فقد جئتك بخير الدنيا والآخرة.
قال ياسر: أمفصح أنت عما تريد؟ ألم أحدث أنك قد صبأت؟! ويلك!
64
ماذا جنيت على أبويك؟!
قال عمار، وهو يتضاحك رفيقا بأبيه: بل قل: ماذا جنيت لأبويك؟ فقد جنيت لكما خير الدنيا والآخرة، لقد حدثك من حدثك بأني صبأت، فإني لم أصبؤ، وإنما أسلمت لله الذي خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، وأرسل إلينا محمدا يهدينا سبلنا ويبصرنا بأمرنا، ويخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الجهالة والضلالة والغي إلى الحكمة والهدى والرشد، ويبشر من آمن واتقى بأن له رضا الله عنه ما عاش، وبأن له رضا الله عنه ومثوبته له بعد أن يموت، وينذر من كذب وعصى بأن عليه لعنة الله حيا، وبأن له نار جهنم يصلاها
65
خالدا فيها بعد أن يموت. •••
وسمع الشيخ هذا كله مصغيا له، وكأن كلمات ابنه كانت تنفذ إلى قلبه دون أن تمر بأذنيه، وقد جعل وجهه يشرق شيئا فشيئا حتى استحال كله نورا، وجعلت قوته تذهب عنه شيئا فشيئا حتى تهالك وكاد ينهار، لولا أن أسرع إليه ابنه وامرأته فأسنداه وأجلساه، وأقبلا عليه يرفقان به ويتلطفان له، يمسح عمار رأسه وتمر سمية يدها على وجهه، والشيخ واجم لا يتحرك لسانه في فمه إلا بهذه الكلمات: فهو ذاك إذن! فهو ذاك إذن!
قال عمار في صوت حلو: ماذا تقول يا أبت؟!
قال ياسر - وقد احتبست في حلقه عبرة لم يبن صوته منها إلا بعد جهد، وقد جعلت عيناه تسحان على وجهه دموعا غزارا - قال ياسر: هو ذاك إذن! لقد أذكرتني يا بني حديثا كان بيني وبين أبي حذيفة حين ألممت بمكة ولم أكد أجاوز العشرين. أراد أن يحالفني عند آلهته فأبيت عليه، فلما سألني عن ذلك ذكرت له أني لو كنت متخذا إلها لعبدت البحر الذي يخيفني، أو الشمس التي تضيء لي، أو النجوم التي تهديني، ولكن شيئا من ذلك لا يبلغ قلبي ولا يتحدث إلى نفسي ولا يثير فيها رغبا ولا رهبا. فقد أنبأك محمد إذن بأن لهذه الآيات كلها خالقا فطرها ودبر أمرها، هو ذاك إذن! ثم أطرق الشيخ إطراقة طويلة، ثم رفع رأسه والدموع تنهل من عينيه غزارا وهو يقول: هو ذاك إذن! ومن أجل هذا آثرت بعد الدار على قربها، واخترت أن أكون حليفا لبني مخزوم على أن أكون عزيزا في بني عنس، وتركت أخوي يعودان إلى تهامة، وأقمت أنا في هذه البطحاء. ثم يتحول إلى سمية، فيمسح رأسها بيده، وهو يقول: وكان حبك هو الذي دعاني إلى انتظار هذه الساعة. ثم يعود إلى إطراقه، ثم يرفع رأسه وقد كفت عيناه عن البكاء، وجعلت قطرات من دمعه تتلألأ في لحيته، وهو يقول لابنه عمار: متى تصحبنا إلى محمد لنسمع منه كلمة الحق؟
قال عمار: هلم الآن إن شئتما.
وأقبل المساء من ذلك اليوم، وإذا أبو جهل عمرو بن هشام قد أقبل في فتية من أحرار مخزوم ورقيقها، فوضعوا عمارا وأبويه في الحديد، وأشعلوا في دار ياسر النار. يقول ياسر لسمية والقوم يعتلونهم
66
إلى حيث يحبسون: انظري سمية، هذا أول النار التي عرضتها علي الأحلام.
فيقول عمار: ومن ورائها جنة فيها نعيم ورضوان للذين صدقوا محمدا، واستجابوا لما دعاهم إليه.
7
واجتمع الملأ من قريش في المسجد حين ارتفع الضحى من الغد، فلم يتحدثوا في تجارة ولا بيع، وإنما تحدثوا في هذا الحدث العظيم الذي ابتكره فتى مخزوم في هذا البلد الآمن الذي ليس لأهله عهد بتحريق الدور على أهلها، ووضع الرجال والنساء في الحديد وإذاقتهم ألوانا من العذاب، مع أنهم لم يقتلوا ولم يسرقوا ولم يقترفوا من الآثام والذنوب ما تعودت قريش أن تنكره وتعاقب عليه.
يقول الوليد بن المغيرة لأبي جهل عمرو بن هشام: ويحك يا ابن أخي! لقد أحدثت في هذا الحرم الآمن ما ليس لقريش به عهد، لم تؤامرنا فيما صنعت، ولم تصدر عن ذوي أحلامنا
67
ولا عن أولي الرأي من قومك، وإنما اتبعت هواك، واستخفك الغرور، وتبعك السفهاء من فتياننا والمحمقون من رقيقنا، وإني لأخشى أن يكون لهذا الحدث الذي أحدثته ما بعده؛ فإن لهذا الحرم في نفوس العرب مكانته؛ يأمنون فيه من خوف، ويطعمون فيه من جوع، ويلتمسون فيه ما لا يجدون في غيره من الدعة والسعة والطمأنينة والرخاء. فكيف إذا تسامعت العرب بأن الذين يأوون إلى هذا الحرم ويستظلون بظل هذا البيت لا يجدون دعة ولا سعة ولا ينعمون بأمن ولا عافية، وإنما تحرق عليهم دورهم، ويوضعون في الحديد، ويسامون سوء العذاب؟! وكيف إذا تسامعت العرب بأن فتيان قريش وسفهاءها قد بغوا وطغوا، وأصبحوا لا يحفلون بالملأ ولا بذوي الأحلام والرأي من قومهم، وإنما يركبون رءوسهم، ويستجيبون لشهواتهم، ويتبعون أهواءهم، لا يحفظون للجار عهدا، ولا يرعون للاجئ حرمة؟! أما إني مشير على مخزوم بأن تطلق هؤلاء الأسارى وبأن تنصفهم منك ومن أصحابك.
قال أبو جهل عمرو بن هشام وقد انتفخ سحره
68
وورم أنفه وصعد الدم إلى وجهه، وجعلت عيناه تقدحان شررا: هيهات! لا واللات والعزى لا تصلون إلى هؤلاء الأسارى وقائم هذا السيف في هذه اليد، وإني لأعلم أني أحدثت في هذا الحرم ما لا عهد لأهله به، ولكنك تعلم يا عم أن محمدا قد سبقني فأحدث في هذا الحرم ما لا عهد لأهله به.
قال الوليد في رفق: ويحك يا ابن أخي! فإن محمدا لم يحرق دارا، ولم يعنف بأحد، ولم يضع أحدا في الحديد.
قال أبو جهل: بل هو فعل شرا من ذلك، إنه أفسد علينا الرقيق، وأفسد علينا الدهماء،
69
يغريهم بآلهتنا، ثم لا يكفيه ذلك فيغريهم بأموالنا ومرافقنا، ويطمعهم في مراتبنا ومنازلنا التي توارثناها، ثم لم نخلد إليها، وإنما نبذل في الاحتفاظ بها ما نملك من قوة وجهد، ألم تر إلى هؤلاء الرقيق الذين اتبعوا محمدا يزعمون أنهم رجال أمثالنا، وأن لهم مثل ما لنا من الحق، وأن عليهم مثل ما علينا من التبعات، وأنهم أكرم منا عند الله منزلة وأرفع منا عنده مكانة؛ لأنهم يخلصون له قلوبهم، ويؤمنون به وحده لا يشركون معه اللات والعزى ومناة وهبل؟! فهم أولو الرأي والحلم، ونحن السفهاء والمحمقون! ويحك يا عم! إنكم إن تتركوا محمدا وأصحابه ينشرون دعوتهم هذه في أرض مكة لا تزيدوا على أن تجعلوا عاليها سافلها، وعلى أن تضيعوا ما أورثكم آباؤكم من العز والمجد ومن الثراء والسلطان. وأيهما شر، أن تتسامع العرب بأن الحلماء من أهل مكة يزجرون السفهاء ويردونهم إلى القصد، أم أن تتسامع العرب بأن الرقيق من أهل مكة قد أصبحوا سادة، وبأن السادة قد أصبحوا رقيقا، وبأن الآلهة التي يحجون إليها من أقصى الأرض قد أصبحت هزؤا وسخرية؟! لا والله، لا تصلون إلى هؤلاء الأسارى وقائم هذا السيف في هذه اليد.
قال أمية بن خلف: وصلتك رحم يا أبا الحكم! والله لقد سعيت فأحسنت السعي أمس، ولقد قلت فأحسنت القول اليوم، وإن أمر محمد وأصحابه لشوكة في جنب هذا الحي من قريش، ولن يستقيم لهذا الحي أمره حتى تنزع من جنبه هذه الشوكة، ولو قد بلا عمك من رقيقه وأحلافه مثل ما بلوت أنا من بعض أتباعي لما اشتط عليك في القول، ولما ألح عليك باللوم منذ اليوم، وإن الذي صنعت بأساراك من أحلاف مخزوم ورقيقها أمس قد صنعت مثله بقوم من أحلاف جمح ورقيقها. ولا والله يا معشر قريش ما لكم من أمركم خيرة، وإنما هي الحرب المنكرة قد حملت إليكم ونصبت عليكم في عقر داركم،
70
فإن أردتم أن يصبح مالكم نهبا لعبيدكم وإمائكم والطارئين عليكم من أوشاب العرب وأخلاط الناس، وإن أردتم أن يفقد هذا البيت حرمته، وتفقد هذه الآلهة ذكرها الطائر في الآفاق، وتصد العرب عن الحج إليكم واللياذ بكم، وتصبحوا أحدوثة في الأفواه وسمرا للسامرين، فخلوا بين محمد وأصحابه وما يريدون، وإن أردتم أن تمسكوا عليكم أموالكم، وتحفظوا على الآلهة سلطانها، وتكفلوا لهذا الحرم ذكره بين الناس، فشدوا على أيديكم،
71
وردوا على أنفسكم فضل أحلامكم، واستقبلوا أمركم بالحزم والجد، وكفوا هؤلاء السفهاء عما أمعنوا فيه من الفساد.
قال أبو سفيان صخر بن حرب: أما إني لا آمن أن أمضي بتجارتكم غدا إلى الشام أو إلى اليمن، وأن أعود إلى هذا البلد بعد أشهر فأرى أصحاب الأموال وقد شردوا وأزيلوا عن أماكنهم. يا معشر قريش إن التجارة خير، وإن فيها لربحا وسعة، ولكن التجارة ليست مربحة إذا لم يحم ظهرها، ويحكم! إنكم تصانعون العرب لتحموا طريق تجارتكم إلى الشام واليمن، فكيف إذا عجزتم عن حماية تجارتكم في مستقرها؟! أما إني لن أبرح الأرض بتجارتكم حتى أعلم أنكم ستحمون ظهري، وأني سأعود إلى مكة فأرى أهلي كما تركتهم آمنين وادعين لم يرزءوا
72
في أنفسهم ولا في أموالهم.
قال الوليد بن المغيرة متضاحكا: ويحكم! كأنما أطرت بما قلت لابن أخي طائرا كان في صدوركم!
73
ها أنتم هؤلاء قد أفسد الخوف عليكم أمركم، وأخرجكم الذعر عن أطواركم، فأكبرتم من أمر هذه العصبة صغيرا، وعظمتم من شأنها حقيرا، إنهم ما علمت لوادعون يتحدثون بأحاديثهم فيما بينهم، لم يبادوكم بشر، ولم يرزءوكم في مالكم قليلا ولا كثيرا.
قال أبو سفيان: فتريد أن ننظرهم
74
حتى يفعلوا؟
قال أبو جهل: فإني أريد أن أستأصل هذا الشر قبل أن يستفحل، امض أبا سفيان بتجارتنا حيث شئت، فإن علي أن أحمي ظهرك، وأن أحفظ لك مكة كما تحب أن تكون.
قال عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش، كلكم قال فأحسن القول، إنا والله ما نرضى أن تسفه أحلامنا ولا أن تعاب آلهتنا ولا أن تتعرض أموالنا لشر، ولكن لنا في القصد والعافية ما يغنينا عن العنف والبطش، فلنؤدب سفهاء
75
قومنا بالأناة واللين، ولنأخذ الرقيق والأحلاف بالشدة والعنف، فإنا إن نفعل ذلك نقر السلم في ذات بيننا، ونجعل من الرقيق والأحلاف مثلا وعبرة ونكالا.
قال أبو جهل: وهل فعلت غير هذا؟! إني واللات والعزى لو أطعت نفسي لقتلت الأرقم بن أبي الأرقم، ولحرقت داره على من فيها، ولوجدت في ذلك شفاء لنفسي أي شفاء! ولكني أوثر العافية في مخزوم، وأتخذ من هؤلاء الأخلاط والمستضعفين نكالا للصابئين
76
من قريش.
قال الوليد بن المغيرة وهو ينهض متثاقلا ويضحك ساخرا: بئس والله ما تصنع يا ابن أخي! إنما يقيس القوي قوته إلى الأضراب والنظراء،
77
فأما أن يقيسها إلى الأحلاف والرقيق والمستضعفين من الناس فهذا والله الجبن والخرق،
78
ولكن لا رأي لمن لا يطاع. •••
وتفرقت قريش فذهب أكثر الملأ إلى دورهم إلا أبا جهل، فإنه ذهب في عصبة من الفتية والرقيق، فاستخرج أساراه من محبسهم ذاك الذي أنفقوا فيه الليل، ومضى يدفعهم أمامه يتعجل خطوهم، وأنى للمقيد أن يسرع الخطو؟! ولكن أبا جهل وأصحابه كانوا يخزونهم بالرماح والخناجر وخزا
79
يؤذي ويدمي ويشق، ولكنه لا يبلغ الأنفس، وربما ألهبوهم ضربا بالسياط، وربما جذبوا لحية ياسر وعمار وشعر سمية وهم يتضاحكون ويتصايحون، والناس ينثالون
80
عليهم من كل بيت وينضمون إليهم من كل وجه، وكأن الأسارى قد تحدثت نفوسهم وسكتت ألسنتهم، فأجمعوا ألا يرفعوا صوتهم بشكاة وألا يظهروا ألما ولا ضجرا.
ومضوا كذلك، حتى إذا بلغوا مكانا في البطحاء وقف أبو جهل ووقف الناس معه، ثم تقدم حتى دنا من ياسر، فقال له ساخرا منه: أباق أنت على حلفك لمخزوم كما حدثتنا أمس؟
قال ياسر: فإنك قد أخرجتنا من هذا الحلف حين بغيت علينا،
81
فألقيت عنا عبئه ووزره.
82
قال أبو جهل: فقد برئت من حلفنا إذن؟
قال ياسر: كما أبرأ من الشر والنكر وما يخزي الرجل الكريم. ولم يمهله أبو جهل، وإنما ضرب وجهه حتى أدماه، وضرب القوم في وجه عمار وسمية حتى أدموهما، ثم تقدم
83
أبو جهل إلى أصحابه أن يطرحوا هؤلاء الأسارى أرضا، ففعلوا. ثم تقدم إليهم أن يأخذوهم بمكاوي النار
84
في جنوبهم وصدورهم، ففعلوا. ثم تقدم إليهم أن يضعوا على صدورهم الحجارة الثقال، ففعلوا. ثم تقدم إليهم أن يصبوا على وجوههم قرب الماء، ففعلوا. وأبو جهل ينتظر متحرق النفس أن يسمع من أحدهم صيحة أو أنة أو شكاة، ولكن نفوس الأسارى قد تحدث بعضها إلى بعض وفهم بعضها عن بعض، فعقدوا ألسنتهم وعمروا قلوبهم بذكر الله، وخلوا بين القوم وبين أجسامهم يصنعون بها ما يريدون.
وعبث أبو جهل وأصحابه بأجسام هؤلاء الثلاثة حتى ملوا العبث وضاقوا به، فتفرقوا عنهم بعد أن وكلوا بها حراسا يحفظونهم على حالهم تلك حتى يعودوا إليهم حين تجنح الشمس إلى الغروب.
8
قال حرب بن أمية لعبد الله بن جدعان: ما رأيت كغلامك الرومي هذا ذكاء قلب، ونفاذ بصيرة، وبراعة في التجارة، ومهارة في تثمير المال.
قال عبد الله بن جدعان: أما إذا قلت هذا فإني لا أدري أعربي هو سبته
85
الروم صبيا حين أغارت على أرض الفرس كما يقول، أم رومي هو سبته العرب حين أغارت مع الفرس على أرض الروم كما يقول الكلبيون الذين باعوه لي عام أول في الشام.
قال حرب بن أمية: إن فيه حمرة لا تعرفها العرب، وإن لسانه يرتضخ لهجة رومية طالما سمعت مثلها في كثير من أهل الشام، فليكن عربيا أو ليكن روميا فليس لذلك شيء من الخطر، ولكني لم أر مثله قط ذكاء قلب ونفاذ بصيرة وحسن نظر في التجارة وتثمير المال، لقد رأيته في رحلتنا تلك إلى اليمن وحين عبرنا البحر إلى بلاد الحبشة شيطانا من الجن يتنسم
86
مصادر الربح وموارد الكسب، وينبئنا غير مكذب بأنا إن ذهبنا إلى هذا الوجه أو أقمنا في هذه القرية بعنا كأحسن ما يكون البيع، وشرينا كأحسن ما يكون الشراء، ولست أدري كيف تنسم ريح الربح في بلاد النجاشي، فاتصل برجال أمثاله لا يحسنون لغتنا ولكنهم يتعاطون فيما بينهم رطانة رومية، فباعهم كل ما كان معنا، واشترى منهم ما لم نكن نطمع في شرائه ولا نقدر على حمله، واحتال حتى أعادنا إلى مكة في السفن التي تمخر البحر لا على ظهور الإبل التي تسبح في البر، وأشد من ذلك وأدنى غرابة من ذلك إلى العجب أنه ألقى في روع
87
أولئك الناس أنهم يستطيعون إن شاءوا أن يرسلوا رسلا منهم يحملون ما يحتاجون إليه من المال؛ ليشتروا منا إذا بلغنا أرضنا ما يملئون به سفنهم حتى لا تعود إلى مستقرها فارغة، فأغنانا في موسم واحد عن رحلتين، بل عن أكثر من رحلتين.
قال عبد الله بن جدعان: إنه ما علمت لغلام صنع
88
ميمون النقيبة، ولقد استكرهت على شرائه، ولكني لم أر منه إلا خيرا.
وخلا عبد الله بن جدعان مساء ذلك اليوم إلى غلامه ذاك الرومي الذي سبته العرب، أو العربي الذي سبته الروم، فقال له: لقد أحسنت البلاء يا صهيب في رحلتك هذه إلى اليمن وأرض الحبشة، ولو لم يثن عليك حرب بن أمية لأثني عليك هذا المال الكثير الذي رجعت به إلي، فهل كان لك بالتجارة من عهد؟
قال صهيب: هيهات! ما أعلم أني بعت أو اشتريت قبل رحلتي هذه إلا ما يبيع الناس ويشترون من حاجتهم التي تصلح أمرهم في كل يوم.
قال عبد الله بن جدعان: فهي الفطرة إذن؟
قال صهيب: هو ذاك. وأطرق عبد الله بن جدعان ساعة، وهم صهيب أن ينصرف، ولكن سيده استبقاه بالإشارة، فأقام ينتظر أن يرفع سيده إليه رأسه وأن يصدر إليه أمره. وطال إطراق السيد حتى مل الغلام أو كاد، ولكن عبد الله بن جدعان يرفع رأسه ويبسم للغلام، ويقول في تحفظ وهدوء: أضائق أنت بالرق يا صهيب؟ قال صهيب: ومن ذا الذي لا يضيق بالرق، ولا يتمنى أن يكون حرا؟!
قال عبد الله بن جدعان: فإني أريد أن أرد عليك حريتك، وأن أملكك أمر نفسك،
89
ولكن بعد أن أعرضك لمحنة ذات خطر.
قال صهيب: فأمسك عليك حريتك هذه التي تريد أن تردها علي؛ فإن الحرية لا تباع ولا تشترى.
قال عبد الله بن جدعان: ويحك يا صهيب! ماذا تقول؟! لقد اشتريتك من بني كلب، واشتراك بنو كلب من الروم أو من العرب لا أدري.
قال صهيب: فإنك لم تشترني، وإن بني كلب لم يشتروني من نفسي، وإنما عدا علي العادون فباعوني من بني كلب، وباعني بنو كلب منك على كره مني لا عن رضا ولا عن اختيار، فأنتم ترونني عبدا قنا وأنا أراني رجلا حرا، وأنتم تتسلطون على جسمي بما تملكون من قوة ومال وسلطان، ولكنكم لا تجدون لأنفسكم على نفسي سبيلا.
قال عبد الله بن جدعان: فما أكثر الرقيق الذين يكاتبون
90
على أنفسهم، ويشترون حريتهم بالأموال والأعمال!
قال صهيب: هم وما يصنعون، أما أنا فلن أكاتب ولن أشتري حريتي بمال أو عمل؛ لأني ما زلت أراني حرا في نفسي.
قال عبد الله بن جدعان: صدق حرب بن أمية، إنك لذكي القلب، جريء الجنان، ولكني أريد ...
قال صهيب: تريد أن تمتحنني؟! فإن سلطانك علي يبيح لك أن تعرضني لما شئت من محنة، فمرني بما شئت فستراني عند ما تحب، ولكن لا تعدني شيئا، فإني لا أكره شيئا كما أكره الأماني والوعود.
وهم عبد الله بن جدعان أن يرد عليه رجع حديثه، ولكن صهيبا لم يمهله، وإنما قال له متعجلا: وهل لك في أن أخفف عنك بعض هذا العبء الذي ينوء بك،
91
وأن أفصح لك عما يضيق به صدرك ولا ينطلق به لسان؟
قال عبد الله بن جدعان: وإنك لتعلم دخائل الصدور؟!
قال صهيب: لقد نجحت في رحلتي إلى اليمن وأرض النجاشي، وجلبت إليك مالا كثيرا، فأنت تود لو أرسلتني في تجارتك إلى الشام وأرض قيصر، وتظن أني سأجلب لك منها أكثر مما جلبت لك في رحلة الشتاء، وأنت تأمنني على مالك وتجارتك لا تخاف أن يصيبك فيهما ضير، ولكنك لا تأمنني على نفسي، وإنما تقدر أني قد نشأت حرا في بلاد الروم، وأني خليق إن رأيت هذه الأرض أن أقيم بها وألا أعود إليك، وعسى أن أحتجز فيها ما استودعتني من تجارة ومال.
قال عبد الله بن جدعان: أما هذا فلا، إنك عندي أمين على المال والتجارة.
قال صهيب: أولست تراني بعض مالك؟! فأمني على نفسي كما تأمنني على ما سترسل معي في العروض،
92
وبعد فأرح نفسك من هذا العناء، وانهض في تهيئة تجارتك إلى أرض قيصر، فسأرحل عنك، وسأعود إليك بمال لا عهد لك بمثله، فأنا أعلم الناس بما يحب الروم وما يكرهون، وليس لي في بلاد الروم أرب،
93
وليس لي بالإقامة فيها كلف، فقد علمت منذ آخر الصبا وأول الشباب أن بلاد الروم ليست لي بدار، وقد علمت منذ آخر الصبا وأول الشباب أن لي في قريتك هذه أربا أي أرب، ولولا ذلك لما قمت معك، ولما أذعنت لسلطانك، وأي شيء أيسر على مثلي من أن يفوتكم إن شاء الفوت، ولستم بذوي حرس ولا بأصحاب شرط؟! ولو قد شئت لخادعتكم فخدعتكم حتى أخرج من حرمكم هذا، ثم تطلبونني ما وسعكم الطلب فلا تجدون إلي سبيلا، ولو قد أدركتموني لم تقدروا علي.
قال عبد الله بن جدعان: لك في قريتنا هذه أرب؟! أي أرب؟! وما ذاك؟
قال صهيب: لو عرفته لأنبأتك به، ولكنني نبئت منذ آخر الصبا وأول الشباب أن محياي ومماتي في أرضكم هذه، أعيش في حرمكم هذا شطرا من عمري، وأعيش في حرم آخر شطره الذي يبقى لي، وأموت وأدفن في أرض الحجاز.
قال عبد الله بن جدعان: ويحك يا صهيب! إنك لتحدثني بالأحاجي
94
منذ اليوم، وإني لا أعرف في بلاد العرب حرما غير هذا الحرم.
قال صهيب: وأنا لا أعرف في بلاد العرب حرما غير هذا الحرم، ولكني أحدثك بما نبئت به في آخر الصبا وأول الشباب، وهو حديث سمعته من قس في بلاد الروم، فلم أفهمه ولم ألق إليه بالا حتى رأيتني أباع ذات يوم من بني كلب، وسمعت سادتي يتحدث بعضهم إلى بعض بأنهم يبيعونني بثمن ربيح حين يفد عليهم الوافدون من سكان الحرم من قريش، ولو قد شئت أن أفلت من بني كلب لما أعياني الإفلات، ولكني أردت أن أمتحن نبوءة القس فألفيتها صادقة إلى الآن، وما أرى إلا أنها ستصدق حتى تبلغ مداها، فأرسلني في تجارتك حيث شئت، فإني ناصح لك وعائد إليك، واردد إلي حريتي إن أحببت، فإني مقيم في أرضكم هذه لا أريم، وأخرجني منها إن أردت حين يصبح الصبح، فإني راجع إليها حين يمسي المساء فمقيم فيها حتى يكون ما لا بد من أن يكون.
قال عبد الله بن جدعان: ما رأيت كاليوم مغامرا مقامرا!
قال صهيب: هو ذاك.
قال عبد الله بن جدعان: فاصحبني إلى المسجد، فإني أريد أن أشهد قريشا على أنك حر.
قال صهيب: حسبك أن تشهد نفسك وتشهدني على أني حر، فليس لي في شهادة غيرنا على حريتي أرب. وأصبح عبد الله بن جدعان، فتحدث في أندية قريش بأنه قد أعتق غلامه الرومي صهيبا وحالفه، وجعله أمينا على ماله كله وعلى تجارته في رحلتي الشتاء والصيف، فسمعت قريش ولم تنكر لما تحدث إليها به حرب بن أمية مما كان لهذا الفتى من حسن البلاء في تجارة مولاه. •••
وأنفق صهيب زهرة شبابه تاجرا لعبد الله بن جدعان، يثمر ماله وينشر تجارته، فيبعد بها طورا في أرض النجاشي وطورا في أرض قيصر وتارة في أرض كسرى، حتى أصبح عبد الله بن جدعان أكثر قريش مالا وأوسعها ثراء وأعظمها عطاء وأسخاها يدا، وحتى قصد إليه الشعراء يبيعونه الثناء بالمال الكثير.
وكان عبد الله بن جدعان كلما سمع ثناء الناس عليه وأرضاه ذلك قال لصهيب: وإنما لك شطر هذا الثناء، فأنت الذي أتاح لي أسبابه ويسر لي وسائله. وكان عبد الله بن جدعان ربما سأل صهيبا بين حين وحين: ألا يزال لك في أرضنا هذه أرب؟
فيجيب صهيب: أرب، أي أرب!
يقول عبد الله بن جدعان: فهل تبينت أربك
95
يا صهيب؟
فيقول صهيب: لو تبينته لما أخفيته عليك. •••
وأدرك الموت عبد الله بن جدعان ذات يوم، وخلصت لصهيب نفسه كلها، وكثر ماله، وكان خليقا إن شاء أن يتحول إلى أرض قيصر حيث نشأ، أو إلى أرض كسرى في العراق حيث ولد، ولكنه أقام بمكة لا يبرحها، وجعل يثمر ماله مقتصدا في هذا التثمير، لا يغدو في التجارة ولا يبعد في الأرض، وجعل يحيي سنة عبد الله بن جدعان؛ فيطعم الجائع ويغني العائل ويعين المحتاج . وجعلت قريش تطمئن إليه وتثق به وتأنس إلى حديثه ذاك الذي لا يكاد يبين، حتى أصبح ذات يوم، فسمع قريشا تتحدث في أنديتها عن دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومن كان يجتمع فيها من الناس حول محمد بن عبد الله، وما كان يتلى فيها من القرآن، وما كان يدار فيها من الحديث، فيحس صهيب في نفسه كأن أربه ذاك الذي رافقه منذ آخر الصبا وأول الشباب إلى آخر الشباب وأول الكهولة، قد جعل يدنو منه قليلا قليلا، وقد أخذت نفسه تنازعه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، فيصدها ويردها ويستمسك بالبقايا
96
على ما كان بينه وبين سادة قريش من المودة والإلف، ولكن شوقه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم يملأ عليه يقظة النهار ونوم الليل، حتى أصبح ذات يوم وقد أخذ نفسه بما تكره، وخرج من داره يريد أن يمضي إلى المسجد، ولكنه يمضي ويمضي، ثم لا يبلغ المسجد، وإنما يجد نفسه أما دار الأرقم، ويرى غير بعيد منه عمار بن ياسر، فيكون بينهما ما قدمت من حديث، ويدخلان ويستمعان ويسلمان ويقيمان مع أصحابهما، حتى إذا أقبل المساء خرجوا جميعا مستخفين.
وافتقدت قريش صهيبا يومها ذاك، ثم افتقدته من غد، ثم تحسس أبو جهل أخباره، ثم أقبل ذات يوم وهو لا يمسك نفسه من الغضب، فلما رأته قريش قال قائلها: ثارت ثورة أبي الحكم. ووقف أبو جهل على نادي قومه فاتكأ على قوسه، ثم قال في صوت المحنق
97
المغيظ: اعلموا يا معشر قريش أن صهيبا قد صبأ، وأنه يشارك آل ياسر في عذابهم منذ اليوم.
9
لم تشهد خثعم يوما كذلك اليوم الذي انتصرت فيه على عدو غير محارب، والذي ملأت فيه أيديها من الغنيمة، لم تتكلف في ذلك عناء، ولم تبل فيه بلاء، ولم تبذل فيه جهدا ولم تلق فيه كيدا، وإنما كان الرجل منها يمد يده إلى ما يليه من المال ثم يردها وقد أصابت منه ما تريد وفوق ما تريد، كأنما أنهبت مال النجاشي إنهابا، وأمرت أن تأخذ منه حتى ترضى، ولم تكن ترضى بالقليل، ولا تقنع باليسير، ولو قد استطاعت لاحتوت في ذلك اليوم مال النجاشي كله، فقد كان جيش أبرهة يعود منهزما عن مكة، قد فقد حوله وطوله وقوته في غير حرب، وحمل أميره عليلا منهوكا يتراءى له الموت فيفظعه ويفزعه، ثم تتراءى له الحياة فترد إليه شيئا من روح وراحة، وبطانته مشغولة به جازعة عليه، تأمل وجه النهار وتيأس آخره، والجند الذين أعفاهم الموت وأبقت عليهم الطير الأبابيل
98
يسعون متخاذلين متضائلين يتحاملون على سوق
99
لا تكاد تحملهم، قد بلغ الجهد من أجسامهم، وعبث اليأس بنفوسهم، فهم ظلال تسوق المال، إلا أنها ظلال تخاف ولا تخيف. •••
وكانت خثعم قد رأت جيش أبرهة وهو يسعى إلى مكة في قوة أي قوة وعدة أي عدة ونشاط أي نشاط. فأما كرامها وذوو أحلامها فتنحوا لأبرهة عن طريقه،
100
وكرهوا مقاومته وأنكروا مساومته، ورأوا أنه مقدم على إثم عظيم، فربئوا بأنفسهم عن المشاركة فيه. وأما سفاؤهم وذوو الطيش والنزق منهم فتفرقوا شيعا واختلفوا أحزابا؛ فمنهم من قاوم حتى أعيته المقاومة فاستكان، ومنهم من ساوم فباع نفسه وأقبل على الإثم مستخفا به غير حافل بعواقبه، ومنهم من تنحى عن الطريق ولم يبعد، وإنما أقام رصدا
101
يرقب الجيش ويتربص به الدوائر وينتهز منه الغفلات، يقتل هنا ويخطف هناك، ويلوذ بين ذلك بشعاف الجبال وشعابها،
102
حتى اضطغن
103
عليهم أبرهة في نفسه وأقسم ليؤدبنهم منصرفه عن مكة أدبا تتسامع العرب به، فتعرف للنجاشي هيبته وسلطانه، ولكن أبرهة لم يدخل مكة ولم يمسس بيتها بسوء، ولم ينصرف عن مكة انصراف المنتصر ولا انصراف المخفق، وإنما انصرف عنها انصراف المنهزم المخذول الذي فعل الدهر به الأفاعيل، وإن لم ير جيشا محاربا ولا عدوا مناوئا، وإنما رأى طيرا أبابيل ترميه وترمي جيشه بحجارة من سجيل، فتجعله وتجعل جيشه كعصف مأكول،
104
وقد أسرع ذوو خاصته به إلى اليمن، وقد نهكته العلة حتى أشرف على الموت، ومروا في طريقهم بخثعم فلم يبطشوا بها ولم يصبوا عليها عقابا ولا عذابا، إنما بطشت بهم خثعم فصبت عليهم العقاب والعذاب، ولم يخلصوا منها إلا بشق الأنفس، ومضوا يحملون عليهم بين الموت والحياة، فلم يبلغوا به صنعاء إلا وقد انشق صدره عن قلبه، وأدركه الموت بعد أن برحت به العلة تبريحا.
في ذلك اليوم ملأت خثعم أيديها من ذائب النجاشي وجامده، فأخذت من الذهب والفضة، وأخذت من الإبل والخيل ما أغل عليها حين باعته مالا كثيرا، وأخذت فيما أخذت نساء وفتيات من حسان الحبشة وكرائمهم كن يصحبن الجيش يرين في صحبته لذة وبهجة ومتاعا، ويرى آباؤهن وأزواجهن في استصحابهن تفريجا عنهن وتسلية لهن، وإمتاعا لأنفسهم باستصحاب هؤلاء الحسان في هذا السفر الذي لن يجدوا فيه مشقة ولن يتكلفوا فيه جهدا، وإنما هو تسلية للنفوس وتسرية للهموم وتأديب لهذه الفئة الجاهلة الغليظة من أهل البادية بهدم ذلك البيت الذي يكبرونه
105
ويعكفون عليه، ويرون أنه وحده خليق بالإكبار، وأنه وحده جدير بالتقديس. •••
سفر قاصد
106
ممتع يجب أن تكمل فيه للرجال لذات أجسامهم وبهجة قلوبهم وقرة عيونهم. ومن أجل هذا استصحب قادة الجيش وأمراؤه زوجاتهم وبناتهم يمتعنهم بالحب والرحمة، ويؤنسنهم بالود والحنان، واستصحبوا القيان مغنيات وعازفات وراقصات يزدن بهجة السفر بهجة وجمال الرحلة جمالا. ولم يخطر لهم أنهم إنما كانوا يستصحبون الحرائر والإماء ليجعلوهن نهبا لأولئك العرب الجفاة الغلاظ البادين في طريقهم إلى البيت، ولأولئك العرب الجفاة الغلاظ الحاضرين من حول البيت.
107
ويخرج سحيم بن سهيل الخثعمي مع الخارجين ويعدو مع العادين، ويملأ يديه كما ملأ بنو أبيه أيديهم ذهبا وفضة ونعما وعرضا، ولكنه يرى فيما يرى ناقة تسعى يقودها حبشي غليظ جهم، يظهر عليه فضل من قوة وبأس، ولكنه متخاذل متواكل قد نهكه الجهد
108
وأضنته العلة، فهو يسعى مذعنا لأمر سادته. ولو استجاب لنفسه لاستراح في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الطريق، ولترك هذه الناقة تقود نفسها وتسعى إلى حيث تريد أو إلى حيث يريد لها القضاء. وينظر سحيم بن سهيل فيرى على هذه الناقة هودجا
109
نفيسا قد ألقيت عليه أستار من الحرير المطرز بالذهب المرصع بشيء من الجوهر، فيستهويه ما يرى، ويسرع إلى العبد ورمحه يضطرب في يده، فلا يكاد العبد يراه حتى يحول إليه زمام الناقة ويسعى بها بين يديه مستسلما صاغرا ذليلا.
قال سحيم بن سهيل للعبد: لمن تكون هذه الناقة؟ ولمن يكون هذا الهودج؟
قال العبد في لهجة عربية كدرة لا تكاد تبين: إنها ابنة أخت الأمير.
قال سحيم بن سهيل لنفسه وهو يدفع العبد والناقة إلى بيته: حسبي من الغنيمة هذا العبد وهذه الناقة وما تحمل من متاع نفيس، فأما ربة الهودج فليست مني ولست منها في شيء، ولأطرفن بها سيدا من سادات قريش.
ويسعى والعبد يسعى بالناقة بين يديه، حتى إذا بلغ مضارب الحي أومأ
110
إلى العبد فأناخ الناقة، ووقف غير بعيد مطرقا إلى الأرض كأنما يلتمس فيها شيئا. ولكن سحيما يومئ إليه فينزل الهودج عن مستقره على ظهر الراحلة، ويتنحى فيقف غير بعيد مطرقا إلى الأرض كأنما يلتمس فيها شيئا، ويدنو سحيم من الهودج مترفقا، ويرفع أحد أستاره متلطفا، ثم يمد بصره في الهودج، ثم يرده إلى نفسه وقد امتلأ وجهه ابتساما وإشراقا وهو يقول: حمامة رشيقة أنيقة ورب البيت! ذلك أنه رأى فتاة رائعة الحسن على سمرة بشرتها، بارعة الجمال، فاتنة اللحظ، ليست بالطويلة ولا بالبدينة، وإنما هي ضئيلة نحيلة، قد ملأها الذعر وملكها الروع، ولكنها على ذلك جلدة
111
متماسكة، يصدها الحياء والوقار عن أن تظهر ما يملأ قلبها من جزع وهلع ومن توله والتياع،
112
ويمد سحيم بن سهيل نظره إلى الفتاة، ثم يرده إلى نفسه ووجهه يزداد إشراقا وابتساما، ولسانه لا يزيد على أن يقول: حمامة رشيقة أنيقة ورب البيت! ثم يخرج الفتاة من هودجها حفيا بها
113
متلطفا لها يقول: لا تراعي، لا تراعي يا ابنتي، فلن أريد بك سوءا، ولن يمسك مني شيء تكرهينه. ثم يأخذ بيدها ويسعى بها مستأنيا،
114
والفتاة تطيعه، وكيف لها بغير الطاعة؟! حتى إذا دخل بها إلى أهله قال لامرأته في صوت حازم صارم: استوصي بهذه الحمامة خيرا؛ فإن دار خثعم ليست لها بدار، وإنما مكانها عند سيد من سادات قريش. ثم يخرج فيحرز الهودج والناقة والعبد، ويعدو ليدرك الناهبين من بني أبيه عسى أن يصيب من الغنيمة فوق ما أصاب.
ولم يمض شهر بعد ذلك اليوم حتى كان سحيم بن سهيل عند خلف بن وهب الجمحي في ضيعة له بالسراة، قد أقبل ومعه أميرته تلك الفتاة الحبشية حتى أناخ عند دار خلف، وتلقاه أهل الدار كما تعود العرب وكما تعودت قريش أن تتلقى ضيفها، ولكنه لم يكد يفرغ من تحيته حتى قال: لو تعلم بماذا أقبلت عليك يا سيد جمح!
قال خلف: بالخير، وما أقبلت قط إلا بخير.
قال سحيم: أقبلت عليك بابنة أخت الأمير، ذلك الذي أقبل غازيا للبيت فرده رب البيت مخذولا مدحورا.
115
قال خلف: ابنة أخت أبرهة؟
قال سحيم: نعم؛ ابنة أخت أبرهة.
قال خلف: ما اسمها؟
قال سحيم: ما أدري، ولكن لم أكد أرى جسمها الضئيل الرشيق الجميل حتى سميتها حمامة، وحتى رأيت أنها لا تصلح لأحد من خثعم ولا أحد من العرب إلا أن يكون سيدا من سادات قريش حماة البيت وسدنة
116
الآلهة، وأنت تعلم ما بيني وبينك من الحلف والود القديم.
وهم خلف أن يسأله عما يريد لها من ثمن، ولكن سحيما قال له عجلا: مهلا أبا أمية، إني لم آتك بهذه الأميرة تاجرا، وإنما أتيتك بها مطرفا لك هدية الصديق إلى الصديق.
قال خلف: وصلتك رحم! وأظهر الرضا والاستبشار والشكر، وعرف في دخيلة نفسه أن هدايا الأعراب تقبل وتجزى بخير منها. ثم أمر بالفتاة فحولت إلى حيث أهله، لم ينظر إليها ولم يحفل بالنظر إليها، ثم تحدث إلى سحيم فيما يتحدث فيه المضيف إلى الضيف ساعة، ثم أطرق إطراقة طويلة، ووقع في نفس سحيم أن طرفته لم تبلغ من نفس صديقه ما كان يريد، ولكن خلفا يرفع رأسه ويقول: هل تعلم يا سحيم أنك لم تسد إلي معروفا كهذا المعروف الذي أسديته إلي منذ اليوم؟ إنا لم نقاتل أبرهة، ولم نذد عن البيت ، وإنما أمرنا أن نتفرق عنه وأنت نترك حمايته لربه، وقد حمى صاحب البيت بيته ورد عنا أبرهة وفيله وأحباشه، ونحن ننظر إلى ذلك من قمم الجبال ومن ثنايا الطرق التي أوينا إليها وتفرقنا فيها، فلما ارتد عنا العدو ثبنا
117
إلى مكة وعدنا إلى بيوتنا، وفي نفوس كثيرة منا حسرات؛ لأنا لم نؤد لهذا البيت حقه علينا من الذود عنه والقيام دونه،
118
فأنت حين تحمل إلي هذه الأميرة إنما تتيح لي أن أشفي نفسي، فورب هذه البنية
119
التي لم أذد عنها لأذلن أميرتك هذه الحبشية ذلا لم تعرفه الحبشيات بعد، وأول ذلك أنها لن تدخل مكة ولن تطأ أرض الحرم، فقد رد صاحب الحرم هذا الرجس
120
عن أرضه وبيته.
قال سحيم: ويحك أبا أمية! لو عرفت أنك ستلقى هذ الحمامة الرشيقة الأنيقة هذا اللقاء السيئ لآثرت بها نفسي.
قال خلف متضاحكا: هيهات! إنما هو أمر قد دبره من هو أعظم منك ومني سلطانا، إن هذه الأميرة يجب أن تستذل قريبا من هذا الحرم الذي أراد قومها أن يستذلوه، وإنها ما عاشت لن تعرف الحرية ولن تلد الأحرار.
قال سحيم: فأنت إذن تربأ بنفسك عنها،
121
فارددها إلي.
قال خلف وقد أغرق في الضحك: هيهات! إني أربأ بك أنت عنها أيضا، فقد قلت إنها ما عشت لن تلد الأحرار، إن لي في هذه الضيعة إبلا وشاء يرعاها غلمان لي، فيهم الأسود والأصفر، فسترعى معهم هذه الإبل والشاء.
وهم سحيم أن يراجع صديقه في بعض ما قال، ولكن خلفا حول الحديث، وشغل صاحبه عنه بأنباء اليمن وأحداث تهامة والحجاز. •••
ودخل خلف على أهله بعد أن عشى الناس وتقدم الليل، فألفى امرأته محزونة كئيبا، فلما سألها عن أمرها لم ترد عليه جوابا، وإنما قالت له في لهجة حزينة: ماذا تريد أن تصنع بهذه الفتاة الحبشية الحسناء التي جلبها لك سحيم؟
قال خلف، وكأنه أراد أن يثير في نفسها شيئا من غيظ: استوصي بها خيرا أم أمية؛ فإنها ابنة أخت الأمير صاحب الفيل!
قالت أم أمية ، وقد أجهشت بالبكاء: لم يبق إلا أن نرفق بالذين غزوا دارنا وأرادوا أن يستبيحوا الحرم وأن يهدموا البيت! هنالك أقبل خلف على امرأته، فمسح رأسها وهو يقول: لا عليك أم أمية!
122
فما أردت إلا إلى الدعابة، إن هذه الفتاة لم تعرف في حياتها إلى الآن إلا العزة والكرامة، وإني قد أقسمت حين أهداها إلي سحيم ألا ترى منذ اليوم إلا الذلة والهون، إني لم أبل
123
في حماية الحرم شيئا من بلاء، فلا أقل من أن أذل الحبشة في أميرتهم هذه.
قالت أم أمية: فاجعلها لي خادما إذن.
قال خلف، وهو يضحك: هيهات! ليست خدمتك ذلة لها أم أمية.
قالت أم أمية: اجعلها لي خادما وسترى كيف أذيقها الذل.
قال خلف: قد فعلت، على أن تقيم في ضيعتنا هذه بالسراة، وعلى ألا تطأ الحرم ولا تدخل مكة؛ فإن رب هذا البيت قد رد هؤلاء الناس عن الحرم، وما أريد أن أخالف عن أمره ولا أن أوطئها الحرم، حتى ولو كانت أمة خادما، ولكني سأرعيها الإبل والشاء فيمن يرعى الإبل والشاء من عبيدنا وإمائنا.
قالت أم أمية: ما أجدرك أن تسود في قريش!
وكان لخلف غلام من مولدي الحبشة يقال له رباح قد نيف على العشرين، وكان ذكيا صناع اليد، حازم الرأي، قد أرضى سيده حتى أعتقه وجعله قيما
124
على ضيعته تلك في السراة. فلما أصبح خلف دعا إليه مولاه، وقال وهو يبتسم: إيه يا رباح! هذه أميرة من أمرائكم قد جلبت إلينا أمس، وقد علمت ما كان من قومك، وإني قد أزمعت
125
أن أرعيها الإبل والشاء، فهل أكلها إليك لتذيقها من الذل والهون ما أرى أنها أهل له؟!
قال رباح: وما يمنعك من ذلك وقد رأيت صنعي بغلمانك على اختلاف أجناسهم؟ ألست آخذهم بالحزم والصرامة حتى أحملهم على الجادة
126
في خدمتك؟
قال خلف: هو ذاك، فخذ هذه الفتاة فألبسها ثياب الرعيان وأرسلها مع أمثالها.
قال رباح: فإني لا أرى لها في هذا إذلالا ولا امتهانا، ولكن عندي خطة أعرضها عليك عسى أن تبلغ بها ما تريد.
قال خلف: هات.
قال رباح: فإني لست من أمراء الحبشة ولا من سادتها، وإنما أنا من دهمائها،
127
وفي من الزنج عرق، ولو لم أجلب إلى بلادكم هذه لما طمعت أن أكون خادما في قصر هذه الأميرة.
قال خلف، وقد ابتسم قلبه وثغره: فأنت تريد أن تتخذها لنفسك زوجا.
قال رباح: إن كنت إنما تريد إذلالها وامتهانها وإذلال سادة الحبشة وقادتها فاجعلها زوجا لغلام زنجي من غلمانك.
قال خلف: قد فعلت، فكن لها زوجا منذ الآن، وإذا ارتفع الضحى فاضمم أهلك إليك.
وكان الزنجي في خطته هذه ماهرا ماكرا، ولعله لم يمكر بسيده قبل يومه ذاك ولم يكذب عليه، فقد عرف من شأن الأميرة ما عرف، واستبان له أن سيده يريد أن يسومها الخسف،
128
وشق عليه ذلك، وقدر في نفسه أن يعمل ما استطاع لصيانتها مما يدبر لها من الهوان، فلم يهتد إلا إلى هذه الخطة. فلما رأى أن الأميرة قد أصبحت له زوجا طابت نفسه واطمأن قلبه ورضي ضميره، وعرف أنه سيضمها إليه، وسيتخذها لنفسه صنما يخلص له الحب، ويؤثره بالود، ويقدم له من آيات الإكبار والإجلال ما يستطيع مثله أن يقدم لمثلها في هذه الحال السيئة التي هما فيها، وعسى الأيام أن تحدث بعد ذلك أمرا.
وضم رباح زوجه الأميرة إليه، فأسكنها داره الفقيرة الحقيرة، وجد في إكرامها والرفق بها، واختصها بكل ما استطاع أن يخصها به من المحبة والمودة والتوقير، يغدو عليها بما تحب، ويروح عليها بما تحب، ويجنبها ما تكره
129
أثناء النهار، فإذا كان الليل وآن له أن يأوي إلى مضجعه ألقى وسادة من وراء باب البيت ورمى نفسه عليها، وأنفق الليل نائما أو يقظان يعنى بزوجه ويسهر عليها، لا يمسها ولا يدنو منها.
وقد أقبلت الفتاة على زوجها مذعنة مستكينة،
130
فلما رأت إكباره لها ورفقه بها اطمأنت إليه وأنست به واحتفظت بمكانتها منه، فجعلت تتحدث إليه حديث السيد إلى العبد، ولكن في شيء من التواضع والأناة وحسن التأتي، وجعل هو كلما رأى منها رفقا به وعطفا عليه ازداد لها حبا واشتد إكباره لها وتوقيره لمكانتها، وأنفقا على ذلك أشهرا وأشهرا، والفتى حفي
131
بزوجه، لا يدع شيئا يقدر عليه إلا أتاه ليجنبها ما تكره، وليجعل الرق أخف عليها حملا، ولييسر لها الصبر على محنتها، ولكن أمور الناس تجري على غير ما يقدرون ويدبرون.
فقد أزمع الفتى في نفسه أن يسير مع هذه الفتاة سيرة الخادم المهين مع السيدة الكريمة المستعلية التي تملك من أمره كل شيء، وأزمع في نفسه أن هذا الزواج ليس إلا خداعا لهذا السيد العربي الذي أراد أن يهين أميرة من أميرات الحبشة، وأي بأس عليه في أن ينصح لسيده ما وسعته النصيحة، ويخلص في خدمته ما وجد إلى الإخلاص فيها سبيلا، ويقوم على ماله أحسن قيام وأرفقه؛ يدبره ويثمره كأحسن ما يكون التدبير والتثمير، لا يستثني من ذلك كله إلا هذه الفتاة، فإنه لا ينصح فيها لمولاه، ولا يطيع فيها أمره، وإنما ينصح فيها لنفسه وقومه، فيؤثرها بالحب ويختصها بالإكبار والكرامة؛ رعاية لمنزلتها في بلادها تلك البعيدة النائية.
هي زوجه عند خلف وأضرابه من سادة قريش، وهي زوجه عند هؤلاء الغلمان الذين يسوسهم بالحزم ويأخذهم بالعنف، ولكنها مولاته وأميرته فيما بينها وبينه وفيما بينه وبين نفسه.
أضمر الفتى ذلك في قلبه، وفهمت عنه الفتاة ما أضمر، فقبلته راضية، واطمأنت إليه مغتبطة، واعتقدته في ضميرها مخلصة، وسارت معه سيرة الأميرة لا سيرة الزوج، ولكنه يغدو عليها بالطاعة والرضا، ويروح عليها بالطاعة والرضا، يقوم دونها
132
ما أضاء النهار، ويسهر عليها ما أظلم الليل، وهي ترى ذلك لها حقا أول الأمر، ثم تفكر وتقدر فتعلم أنها أمة
133
ليس لها حق على أحد، وإنما لسادتها عليها الحق كل الحق، ولهذا الغلام عليها نصيب من حق سادتها، فهم قد جعلوها له زوجا، وجعلوا له عليها حقا.
تفكر الفتاة في هذا فتنأى عنه بجانبها أول الأمر، ثم تعاود التفكير فيه وتعاود النأي عنه، ثم يتصل تفكيرها فيه، ويتصل بر الفتى لها ورفقه بها وإيثاره إياها بالطيب من نفسه وبالطيب من الحياة، إن كان في حياة الرقيق شيء من الطيبات، وإذا الفتاة تجد في نفسها عطفا على هذا الفتى، ثم ميلا إليه، ثم احتياجا إلى مكانه منها، ثم وحشة حين يغيب عنها فيطيل الغياب.
وتمضي أيام وأسابيع والفتى ماض في حبه الخالص وبره الصادق، والفتاة ماضية في هذا الاضطراب القلق المقلق، ثم تحس الفتاة حاجتها إلى أن تأنس إلى الفتى أكثر مما أنست إليه، وإلى أن يأنس الفتى إليها أكثر مما أنس أثناء هذه الشهور الطوال، تود له استطاعت أن تلغي ما بينها وبينه من الكلفة، وأن تتحدث إليه ويتحدث إليها حديث الرفيق إلى الرفيق، ولكنها لا تجد الوسيلة إلى ذلك قريبة ولا ميسرة، فقلبها يبسم للفتى، وثغرها يريد أن يبتسم فيرده عن الابتسام فضل من حياء، ولكنها مع ذلك تلحظ الفتى حين يقبل عليها أو حين يتحدث إليها في بعض الأمر لحظا فيه شيء من دعة ورفق وأنس، ويبلغ لحظها من الفتى أعماق نفسه فيملؤها غبطة وفرحا ورضا، ثم لا يزيد على ذلك.
فلم يحدث الفتى نفسه بأمل قريب أو بعيد، ولم يخطر الفتى على باله أن من الممكن أن تلغى المسافات والآماد بينه وبين أميرته، أو ينظر إليها ذات صباح أو ذات مساء نظرة الطامع أو الطامح، وإنما هي بالقياس إليه أميرة قد استقرت على عرش يمكن أن يرقى إليه الطرف ولا يمكن أن ترقى إليه النفس، فضلا عن أن ترقى إليه القدمان. وكذلك أصبح الأمر بين هذين الرفيقين أمرا عجبا؛ هما زوجان أمام الأحرار والرقيق، وهما زوجان أمام العرف الذي اصطلح الناس عليه، ولكن الفتى يكبر الفتاة عن أن تكون له زوجا، والفتاة لا تكبر نفسها عن ذلك، ولا تتمنى شيئا غيره، ولا تجد السبيل إليه، حتى استحالت الصلة بينهما إلى شيء غير مألوف، فالفتاة عاشقة وامقة،
134
ولكن الفتى يرى نفسه أقل من العشق وأصغر من الوموق. وربما ضاقت الفتاة بهذه الصلة التي جعلت تنكرها، وربما وجدت
135
على الفتى وظنت به الغرور والكبرياء، وإن لم يجد الفتى في نفسه إلا التواضع والهوان. ولولا حرص الفتى على أن يكون رفيقا رقيقا، وحرص الفتاة على أن تكون عارفة للجميل شاكرة للنعمة مقرة بالمعروف، لجاز أن يفسد الأمر بينهما. والفساد لا يسرع إلى شيء كما يسرع إلى صلة المحبين حين يبلغ بينهما أقصاه، وحين تثور الصعاب وتقوم العقاب
136
بينه وبين غايته. فقد جعل صدر الفتاة يضيق، وجعل السأم يسعى إلى نفسها، وجعلت لا تحس شيئا إلا أنكرته، وجعلت تشعر أن خلقها يريد أن يسوء، وأحس الفتى منها بعض ذلك، فغلا في الرفق،
137
وأمعن في التلطف، واشتد ضيق الفتاة بذلك حتى قال له ذات يوم: إنك لتغلو في الرفق بي والتلطف إلي، وإنك لتريد الإحسان فتخطئه إلى الإساءة، وإنك لتعلم أني محتاجة منك إلى شيء غير هذا التلطف والترفق.
قال الفتى في تواضع وتضاؤل: وما ذاك؟
قالت الفتاة في سخرية مرة لاذعة تمزق القلب: إنك لتعلم أنك حر وأني ...
قال الفتى: مهلا! إني حديث عهد بالحرية، فقد كنت قنا
138
منذ عامين.
قالت: قنا منذ عامين، وقد ردت إليك الحرية وانحط عنك الرق،
139
فأنت أرفع مني مكانا وأحسن مني حالا، فما تواضعك وتضاؤلك وإمعانك في العناية بما مضى من الدهر، وأنت خليق - لا أقول بأن تستكبر وتستعلي - وإنما أقول بأن تذكر ما نحن عليه اليوم، وما يمكن أن نصير إليه غدا، إنك لتذكر أني كنت أميرة، وتحفظ لي حق الإمرة، ولكنك أجدر أن تذكر أن الإمرة قد مضت مع الأيام التي مضت، وأني قد صرت إلى الرق حين عدت أنت إلى الحرية، وأنت بعد هذا كله قد اتخذتني زوجا.
قال الفتى: إنما اتخذتك زوجا لأرد عنك ما يراد بك من سوء.
قالت الفتاة: فقد فعلت، وإني لذلك لشاكرة، ولكنك اتخذتني لنفسك زوجا، فليكن الأمر بيننا كما يكون بين الأزواج. هنالك انهلت
140
دموع غزار من عيني الفتى، ولم يعرف أكانت دموع الحزن أم دموع السرور. وهنالك صعد الدم إلى وجه الفتاة فأسبغ عليه حمرة قانية لم تعرف أكانت حمرة الخجل أم حمرة الابتهاج بأنها قد اقتحمت ما كان بينها وبين زوجها وشقيق نفسها من العقاب.
أقبل خلف ذات يوم فألم بضيعته في السراة، وعرف من أمرها ما كان يريد أن يعرف، وسمع من قيمه رباح ما كان يحب أن يسمع، ورضي عما رأى وما سمع وما عرف، فأمور الضيعة تجري على خير ما كان يحب: مال كثير، وغلة غزيرة، وأمانة من رباح لا يرقى إليها الشك. وقد بلغ الرضا من نفس خلف أن تمنى أن يحسن إلى قيمه وأن يكافئه على ما بذل من جهد، فأهدى إليه إبلا وشاء، وفضلا مما تغله
141
الضيعة من ثمر الأرض، وتلقى منه شكره للجميل، فاغتبطت نفسه واطمأن قلبه، وهم القيم أن ينصرف راضيا موفورا، ولكن خلفا يستوقفه ويسأله في دعابة حلوة: إيه يا رباح! أيكما العقيم؟ فقد مضى دهر منذ أملكتك تلك الحمامة الحبشية ولم أر لكما ولدا. فوجم القيم شيئا، وهم أن يتكلم ولكن الحياء عقد لسانه، فغض بصره وأطرق إلى الأرض، وألح عليه خلف في السؤال وأعاد إليه مقالته متضاحكا: إيه يا رباح! أيكما العقيم؟
قال رباح وقد عاد إليه شيء من جراءة وشيء من حفاظ:
142
وما يعنيك أن نعقم أو أن يكون لنا الولد؟
قال خلف: على رسلك
143
يا رباح! إن تكن حرا فإن حمامتك أمة.
قال رباح مغضبا: فأنت إذن زوجتنيها لتستغلها وتستغلني كما تستغل الإبل والشاء!
قال خلف: إنك لغضوب يا رباح، إني لم أرد أن أسوءك، وإنما أردت أن أرفق بك وأن أعرف بعض أمرك.
قال رباح: فاعرف إذن من أمري ما تحب. ثم ضرب بيده على جبهته وهو يقول: ويلاه! لقد أنسيت أنها أمة، وأن ابنها سيكون قنا مثلها.
قال خلف: وإن لها لابنا يا رباح؟
قال رباح: نعم، ولو أطاعتني نفسي، ولو أطاعتني هي لوأدته
144
كما تئدون بناتكم، فليس مما يسر ولا يرضي أن يعرف الرجل أنه يستفحل كما تستفحل الإبل.
قال خلف، وقد بدا في صوته شيء من الأسى: ويحك يا رباح! إنك لتشق على نفسك وتشق علي في غير طائل، وايم الله ما أردت استغلالك ولا استفحالك! وإنك لتذكر كيف تقدمت إليك أن ترعي هذه الفتاة مع رعياننا، فتمنيت علي أن أجعلها لك زوجا، وزعمت لي أن ذلك أبلغ فيما كنت أريد لها من الذل، فما خطبك؟ وماذا عرض لك؟ ...
هنالك ثابت إلى رباح نفسه، وذكر احتياله في صيانة الأميرة مما كان يراد بها من سوء، وذكر أنه لم يخدع مولاه ولم يكذب عليه قط إلا هذه المرة، وحرص على أن يخفي خداعه وكذبه مخافة أن يصيبه ويصيب زوجه بعض الشر، فقال وهو يتكلف ضحكا خير منه البكاء: وماذا تريد أن أقول لك؟ لقد وقعت في نفسي، فأحببتها.
قال خلف: أحببتها وكنت تريد أن تذلها؟!
قال رباح: أميرة صارت إلى الرق وزوجت من عبد لم يكن ليطمع في خدمتها، فاحتملت ذلك مذعنة
145
له، ثم راضية عنه، ثم سعيدة به، فكيف تريد أن أذلها أو أهينها؟!
قال خلف في صوته الحزين: هو ذاك، هو ذاك! قد ألغى الرق ما كان بينكما من تفاوت الدرجة واختلاف المنزلة.
قال رباح متضاحكا: أليس غريبا أن يكون الرق هو الذي يسوي بين الناس، ويلغي ما بينهم من تفاوت الدرجة واختلاف المنزلة، وأن تكون الحرية هي التي تفرق بين الناس، فتجعل منهم الغني والفقير والقادر والعاجز والقوي والضعيف والسيد والمسود؟ متى ينقضي هذا الليل؟ ومتى يسفر عن الصبح المشرق الجميل؟
قال خلف: ويحك! ماذا تقول؟! أي ليل وأي صبح؟!
قال رباح: الليل هو هذا الدهر الذي نعيش فيه والذي يسوي فيه الرق بين الأرقاء، وتفرق فيه الحرية بين الأحرار والعبيد، ويتمايز الناس فيه بأعمالهم وبلائهم، لا بمنازلهم وحظوظهم من الثراء.
قال خلف، وقد أغرق في الضحك: لقد تكهنت يا رباح منذ اليوم، دع ليلك المظلم وصبحك المشرق، وحدثني عن صبيك هذا الذي كنت تريد أن تئده منذ حين، ما اسمه؟ وما شكله؟
قال رباح: إنك لتسخر من ليلي وصبحي، وإن ليلي لمنجل، وعسى أن ندرك انجلاءه، وإن صبحي لمسفر وعسى أن ندرك إسفاره؛ فإن لم ندركه نحن فسيدركه ابنك أمية وسيدركه ابني بلال.
فهز خلف رأسه ورفع كتفيه، وقال: حسبك يا رباح، تحدث بهذا إلى غيري، أما أنا فإني زائد في عطائك لمكان هذا الصبي من أسرتك، ولولا أن قسما عظيما قد سبق مني لرددت إلى زوجك حريتها ولجعلت ابنك حرا مثلك، ولكنك تعلم أنها أقبلت غازية لنا مستخفة بنا منتهكة لحرماتنا
146
فأمسك عليك أهلك،
147
وعيشا سعيدين بصبيكما، فلن يمسكم ما حييت سوء، ولكني أقدر لكم على أكثر من ذلك.
قال رباح وهو يهز رأسه ساخرا: أقبلت لكم غازية! أقبلت لكم غازية! وماذا كانت تعرف من أمر الغزو؟! لقد كانت فتاة غافلة لا تكاد تعقل نفسها، ولكن الكبار يأثمون فيؤخذ الصغار بآثامهم.
قال خلف: ما رأيت كاليوم حكيما، انصرف الآن عني واستقبل حياتك سعيدا موفورا، ولا تذع حكمتك هذه في الناس، فيصيبك منها بعض ما تكره.
وعاش رباح وحمامة ما شاء الله أن يعيشا، قد رضيا من الحياة بما قسم لهما، وفرغ لابنيهما بلال وأخيه - الذي نسي التاريخ اسمه وذكر بعض أمره - ينشئانهما كما تعود أمثالهما تنشئة أبنائهم في منزلة وسط بين منزلة الأحرار ومنزلة الرقيق. ثم انصرفا عن هذه الدنيا، وتركا فيها هذين الغلامين يعملان في ضيعة خلف، ويسعيان في خدمة جمح كلها.
وعاش خلف ما شاء الله أن يعيش، ثم انصرف عن هذه الدنيا وترك ابنه أمية فتى قويا جلدا، وارثا مع إخوته لما ترك من العروض والأرض ومن النعم والرقيق.
لم يشهد رباح ولم تشهد حمامة ولم يشهد خلف انحسار الليل المظلم، وإسفار الصبح المشرق، وإنما رأى بلال إسفار الصبح فامتلأ قلبه به نورا، ورأى أمية إسفار الصبح؛ فامتلأ قلبه به ظلمة.
وآل
148
أمر بلال إلى أن أصبح من أحب الناس إلى النبي وآثرهم عنده، وآل أمر أمية إلى أن أصبح من أبغض الناس إلى النبي حتى قتل يوم بدر، وأورث بغضه وعداءه للنبي أخاه أبيا؛ ذلك الذي هم أن يقتل النبي يوم أحد، ولكن النبي يمسه برمحه فيفتح له باب الموت.
ويقبل أمية ذات يوم ليشهد ما كان أبو جهل يصب على آل ياسر من العذاب، فيقف ثم ينظر ثم يرى ثم يهز رأسه ثم يقول لأبي جهل: إذا كان الغد فأقبل على دار جمح لترى كيف نعذب الصابئين من مستضعفينا، وكيف نعذب زعيمهم بلالا؟!
10
شد ما تعنفون الصبي وتشتطون عليه!
149
ما رأيت كاليوم رجالا قساة القلوب، جفاة الطباع، غلاظ الأكباد! ...
قالت ذلك أم أنمار، ثم ألقت بنفسها بين أولئك الرهط
150
من أعراب بني عامر، فجعلت تدفع في صدر أحدهم بقبضة يدها اليمنى، وتجذب ثوب أحدهم الآخر بيدها اليسرى، تريد أن تردهما عن ذلك الصبي الذي ألحوا عليه صفعا وتأنيبا،
151
وكان أولئك الرهط من بني عامر قد أقبلوا من نجد يسوقون بين أيديهم مطايا تحمل تجارة من حب العراق، فلما باعوا تجارتهم وباعوا الرواحل التي كانت تحمل هذه التجارة، أرادوا أن يبيعوا غلامهم ذاك، فعرضوه هنا وهناك، ولكنهم لم يجدوا طالبا له ولا راغبا فيه، فأحفظت
152
عليه نفوسهم وقست عليه قلوبهم، وهموا أن ينصرفوا به ليعرضوه على من يمرون بهم من أحياء العرب، لعلهم أن يجدوا له مشتريا. ولكن الغلام أظهر شيئا من التمنع والتأبي؛ كانت نفسه تكره أن ينقلب معهم لكثرة ما صبوا عليه من الأذى وما نالوه به من المساءة، فلما أظهر الامتناع عليهم جدوا في تأديبه وتأنيبه، وأدركتهم أم أنمار الخزاعية وهم يصنعون به هذا الصنيع، فرق له قلبها، ورحمته مما كان يلقى من الضر، فاندفعت تردهم عنه وتحميه.
قال أحد أولئك الرهط من بني عامر لأم أنمار: ما أنت وذاك؟! ما رأينا كاليوم امرأة سوء! ولو كنت في غير هذا الحرم لمسك منا بعض ما تكرهين.
قالت أم أنمار، وقد أخذ الغضب يسكت عنها وأخذ الابتسام يسعى في وجهها المتجعد: ولكني في هذا الحرم؛ فلن تصل إلي أيديكم، ألا تستحيون من أجسامكم هذه الطوال العراض؟! ومن لحاكم هذه التي وخطها
153
الشيب؟ ومن لممكم
154
هذه التي ترسلونها على أكتافكم أن تبطشوا بهذا الصبي النحيف الضعيف؟!
قال أحد العامريين: لو أهمك من طعامه ومؤنته ما يهمنا لما رحمته ولا رفقت به! إنه والله لغلام سوء، يكلفنا من المئونة ما يكلفنا ثم لا يغني عنا شيئا، ثم لا يكفيه ذلك حتى يخالف عن أمرنا ويأبى أن يتبعنا، كأنما أعجبته هذه القرية مع أنه لم يعجب من أهلها أحدا.
قالت أم أنمار: فإنه قد أعجبني.
قال العامري: فأدي إلينا ثمنه ثم خذيه، لا باركت الآلهة فيه. وكانت بينهم وبين أم أنمار مساومة طالت والتوت، وكثر فيها الأخذ والرد والجذب والشد، وانتهت بشراء أم أنمار للغلام بثمن بخس دراهم معدودة. وانصرف العامريون وقد ألقوا عن أنفسهم عبئا ثقيلا، وعادت أم أنمار إلى دارها في حي بني زهرة تجر بيدها هذا الغلام الضئيل النحيل الذي مسه الضر وبلغ منه الجهد وكاد يقتله الجوع، وكانت كلما مرت بجماعة من رجال بني زهرة أو نسائهم قال لها أولئك أو هؤلاء: ويحك أم أنمار! ما هذا الطفل الذي تجرينه؟! فتجيب: وما أنتم وذاك؟! غلام اشتريته لأؤمنه من خوف، وأطعمه من جوع، وأتخذه لي خادما، ولابني رفيقا. •••
وبلغت أم أنمار بالغلام دارها فأطعمته وسقته وكسته حتى رضي، وحتى ظهر في وجهه البائس الحزين شيء من رضا وأمن وابتسام. ثم آخت بينه وبين ابنها عبد العزى وتركتهما يلعبان، وانصرفت لشأنها، فطوفت في دور كثيرة من دور مكة ومعها أداتها التي كانت تكسب بها قوتها وقوت ابنها، وكانت خاتنة، وكانت تقول في نفسها منذ ذلك اليوم: ويحك أم أنمار! قد كنت تعولين نفسك وصبيا واحدا، فأصبحت تعولين نفسك وصبيين! ثم تقول لنفسها: لا تراعي أم أنمار، فإن هذا الصبي متى استرد شيئا من قوة وتقدمت به السن شيئا فقد ينفعك ويغل عليك
155
من المال ما يقيم أوده
156
ويعينك على نائبات الأيام.
وكانت أم أنمار هذه امرأة خزاعية قد ألمت بمكة، وتزوجت من بعض أحلاف زهرة فيها، وعاشت تسعى بأداتها في دور قريش، وكان الشباب قد انصرم عنها، وجعلت الشيخوخة تسعى إليها مبطئة ، وكانت كثيرة الصمت، إلا أن تثار إلى الكلام، وهناك لا تجد إلى السكوت ولا يجد إليها السكوت سبيلا.
فلما عادت مساء ذلك اليوم وجدت ابنها وغلامها قد تصرفا في فنون اللعب حتى أدركهما بعض الجهد، فأطعمتهما وسقتهما، ثم أخذت تتحدث إلى الغلام في دعة ورفق. قالت له: ما اسمك يا بني؟ قال الغلام: خباب.
قالت أم أنمار: خباب ابن من؟
قال الغلام: خباب بن الأرت. ولكنه لم ينطق الراء كما ينطقها الصبية حين يكمل خلقهم وتستقيم ألسنتهم، وإنما انحرف بها بين شيء إلى اللام والياء.
قالت أم أنمار: خباب بن الأرت! من أي أحياء العرب أنت يا بني؟
قال الغلام: أحياء العرب! أحياء العرب! لا أدري.
قالت أم أنمار: أأعجمي أنت؟
قال الصبي: أعجمي؟ أعجمي! لا أدري.
قالت أم أنمار: وما اسم أمك يا بني؟ هنالك انتحب الصبي حتى رق له قلب العجوز، فكفت عن سؤاله، وجعلت ترفق به وتكفكف دمعه حتى ثاب إليه شيء من طمأنينة وهدوء، ثم آوته إلى مضجعه، وما زالت تلطف به حتى أسلمته إلى النوم، وقد أرجأت تعرف قصته إلى غد أو بعد غد.
وقد حاولت أم أنمار من الغد ومن بعد الغد أن تستوفي قصة الصبي، فعرفت منه بعد لأي وبعد نحيب وشهيق وبعد رفق كثير به وعطف كثير عليه، أن هؤلاء الرهط من بني عامر أصابوا أسرته على غرة والحي خلوف،
157
فقاومهم أبوه ما استطاع، ولكنهم قتلوه على أعين امرأته وابنته الفتاة أسماء وابنه هذا الصبي، ثم استاقوا ماله وسبوا أهله،
158
وباعوا أمه في حي من أحياء العرب، وباعوا أخته في حي آخر من أحياء العرب، وأقبلوا به بمال أبيه، فباعوا المال في غير جهد، وكسد الصبي في أيديهم
159
حتى اشترته أم أنمار. ومنذ ذلك الوقت لم تسر أم أنمار مع هذا الصبي سيرة السيدة مع العبد، وإنما سارت معه سيرة الأم مع ابنها، ومضت الشهور والأعوام، وأنسي الفتى أو كاد ينسى أنه غلام أم أنمار، واستيقن الفتى أو كاد يستيقن أنه ابنها وأخو ابنها عبد العزى، وشب وقد وطن نفسه
160
على أنه تميمي حليف لبني زهرة، ولما استطاع العمل أسلمته أم أنمار إلى رجل قين
161
تعلم عنده صناعة الحديد والسلاح ولم ينيف على العشرين من عمره حتى كان قد كسب لأمه ولنفسه شيئا من مال، واشتغل بحانوت يتخذ فيه صناعة الحديد والسلاح.
وقد نشأ الغلام نشأة أمثاله من هؤلاء الأخلاط الذين يجلبون إلى مكة أو تلقي آباءهم إليها الأقدار. نشأ غلاما لا يحس ثقل الرق، ولكنه لا يذوق حلاوة الحرية، وإنما هو شيء بين ذلك، ليس كامل الرق وليس كامل الحرية، يرى من حوله شيوخا سادة وشبابا مترفين، ويرى من حوله شيوخا أذلة مستضعفين وشبابا تطمح نفوسهم وتقصر أيديهم وهممهم وأسبابهم عن بلوغ ما يطمحون إليه. وقد استقر في نفوس الشيوخ المستضعفين إذعان للقدر واستسلام للقضاء، وأظهروا لساداتهم الإكبار وأضمروا لهم البغض والشنآن،
162
واستقر في نفوس الشباب الطامحين غيظ لا تطفأ ناره، وحسد لا تكسر حدته،
163
يرون أنهم ليسوا أقل من الشباب المترفين ذكاء قلوب، وجلاء عقول، ونفاذ بصائر،
164
ولكنهم أقل منهم مالا وأضعف منهم قوة وأقصر منهم يدا، قد أمسكتهم الحياة في حال لا تلائمهم ولا يلائمونها، وحيل بينهم وبين الرقي إلى خير منها، وقضي عليهم أن يظلوا أتباعا، يحيون أتباعا ويموتون أتباعا، لا أمل لهم في سعة ولا في دعة
165
ولا في مجد ولا في ارتقاء، فهم كالجياد المشدودة التي تعلك
166
شكائمها، ويكاد المرح والنشاط يخرجها من جلودها. وكان هؤلاء الشباب إذا خلا بعضهم إلى بعض تحدثوا في حالتهم تلك فنونا من الأحاديث، كانت تنتهي بهم دائما إلى الحسرة الدفينة والغيظ المكظوم، كانوا يقلبون وجوههم فيما حولهم من القرى الحاضرة، ومن أحياء العرب البادية، فتتقطع بهم الآمال، ويردون إلى العجز واليأس، يرون أن الحياة في مكة خير ما يمكن أن يتاح لهم ولأمثالهم من ضروب العيش. في مكة الأمن والسلم، والقوت يكسب في غير مشقة شاقة ولا جهد عسير، وليس في مكة مغامرة بالنفس ولا بالمال. وفي مكة الموسم الذي يجلب إليها وإلى ما حولها قبائل العرب وتجارتها من كل فج؛ فالحياة فيها وادعة خصبة، ولكنها على ذلك مغلقة إلا على الذين يتيح لهم الغنى والمولد وشرف النسب أن يفتحوا أبوابها، ويخرجوا منها إلى آفاق الأرض البعيدة، ثم يعودون وقد ملئوا أيديهم بالمال، ومتعوا أنفسهم بالرحلة والتنقل في الأقطار. ولكن خبابا يلقى صديقا له ذات يوم، فلا يكاد يتحدث إليه ببعض ما كان يدور بينهما من حديث حتى يرى منه ازورارا
167
عن اليأس وانحرافا عن الحزن وتعلقا بأمل مشرق بعيد. يقول خباب لصاحبه: ما خطبك؟ إني لأرى من شأنك شيئا لم أعهده، وما أنكرت من صديقي أحدا كما أنكرك منذ اليوم. فلا يجيبه صديقه بما تعود أن يجيبه بمثله من رجع الحديث، وإنما يتلو عليه:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم * كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى .
168
فلا يكاد خباب يسمع هذا الكلام حتى تجري في بدنه رعدة تصطك لها أسنانه وركبتاه،
169
ويتركه صاحبه ساعة، حتى إذا هدأت رعدته وثاب إليه أمنه واستقر جسمه، قال لصاحبه: ويحك! أعد علي ما قلت؛ فإني أجد له في قلبي حرا ولا يكاد عقلي يفهمه. ويعيد عليه صاحبه تلك الآيات مرة ومرة.
وإذا خباب يرد على صاحبه فيتلو:
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى . ما هذا القول؟ إنه ليس من عندك، أين سمعته؟ أو ممن سمعته؟ وهل لي إلى أن أسمع مثله من سبيل؟
قال صاحبه: نعم، إن شئت فاصحبني إلى الأمين؛ فإنه يتلو علينا هذا القول الذي يتنزل عليه من السماء.
ويقبل أبو جهل ذات صباح على نادي قومه في المسجد، فيقول وهو يضحك ملء شدقيه
170
ويضرب فخذه بيده: يا معشر قريش، اغدوا إن شئتم على منظر عجب، إن ابن الخاتنة قد صبأ، وإنا محرقوه بالنار قبل أن ينتصف النهار.
11
أقبل مسعود بن غافل مع الحجيج من هذيل، فنزل في مكة على عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب، وكان بينهما صهر، فأقام مسعود عند أصهاره حتى انقضى الموسم، فلما هم بالرجوع إلى موطنه من أرض هذيل قال لمضيفه: ألست ترى أن عهدك بأرض هذيل بعيد، وأن لك عندنا ابنة لها عليك بعض الحق، وأن لابنتك هذه ابنة ليس حقها عليك بأقل من حق أمها؟
قال عبد بن الحارث: صدقت، إن عهدي بأرض هذيل لبعيد، وإن لابنتي هاتين علي لحقا عظيما، ولكنك تعلم أن تلك الحرب قد أفسدت ما بيننا وبين قيس من الأسباب. ومع أن تلك الحرب قد وضعت أوزارها
171
وجعلت أمورنا تستقيم قليلا قليلا، فإن قريشا لا تطرق نجدا إلا متحفظة محتاطة.
قال مسعود: ماذا تقول؟ إنكم معشر قريش أهل الحرم وحماة البيت، يأمن فيكم الخائف، ويأوي إليكم الضائع، ويجد الملهوف عندكم معونة وغوثا، فما ينبغي أن تكون الأرض كلها إلا حرما لكم تأمنون فيه من خوف، ولا تعدو عليكم فيه العاديات.
172
قال عبد بن الحارث: قد يكون ذلك كما قلت، ولكنك رأيت قيسا تغزونا في أرضنا، لا ترجو لبيتنا ولا لحرمنا وقارا
173
فمن يؤمن قريشيا أن تغوله من قيس وأحلافه غائلة؟
174
قال مسعود وقد أحفظه
175
ما سمع: وإنك أنت لتقول ذلك ولك في هذيل صهر، وتقول ذلك وابنتاك عندي؟!
قال عبد: وصلتك رحم! فإني لا أخاف شيئا في أرض هذيل، ولا يخاف غيري شيئا في أرض هذيل، ولكننا لا نبلغ أرضكم حتى نمر بحي من أحياء قيس أو أحلافها.
قال مسعود: ويحك! فإن شئت فاجعل بينك وبيني حلفا يحميك من العاديات في كل أرض تصل إليها يد هذيل، ويحميني من الغوائل في كل أرض تبلغها يد قريش.
قال عبد: قد فعلت. •••
ولم يعد مسعود إلى أرض هذيل وحده، وإنما ذهب معه إليها حليفه وذو صهره عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب، فزار عنده ابنته هند، وقد مات عنها زوجها ابن عبد ود، وزار بنتها أم عبد، وقبل طفلها الصغير عبد الله بن مسعود. وأقام ما أقام في أرض هذيل، ثم انحدر إلى مكة فلم يطل فيها مقامه حتى أدركه الموت، ونشأ الصبي الهذلي من قبل آبائه، القرشي من قبل أمه في أرض هذيل نشأة أمثاله من أهل البادية: حياة أدنى إلى الشظف
176
منها إلى اللين، وأقرب إلى العسر منها إلى اليسر، ولا يكاد الصبي يبلغ أول الشباب حتى يفقد أباه، وحتى تضيق به سبل العيش في أرض نجد، فيهبط مكة ليأوي إلى أخواله من بني زهرة، ويقيم ما شاء الله أن يقيم عزيزا بأخواله وبالحلف الذي كان بينهم وبين أبيه.
ولم يكن الشباب من أهل مكة يألفون حياة البطالة والترف إلا أن يكونوا من أبناء السادة والأغنياء، وإنما كان سبيل الفتى من أوساط الناس في قريش وأحلافها إذا بلغ السن التي يستطيع أن يكسب فيها القوت أن يسعى على رزقه كما يستطيع، لا يرى بذلك بأسا ولا يجد فيه جناحا
177
وإنما البأس كل البأس والجناح كل الجناح أن يعيش الفتى كلا
178
على آبائه أو أخواله.
وقد سعى عبد الله بن مسعود على رزقه، والتمس القوت من مصادره، فعرض نفسه على كثير من الناس، وجرب كثيرا من فنون العمل، ولكن شيئا واحدا راقه وأعجبه ولاءم طبيعته الهادئة ونفسه الراضية وقلبه المطمئن السليم، فأصبح راعيا لعقبة بن أبي معيط، يرعى عليه غنمات له في ظاهر مكة، يغدو بها مع الصبح ويروح بها مع الليل، وينفق نهاره معها راضيا وادعا، قد خلا إلى نفسه، فأمن غائلة الناس وأمن الناس غوائله.
وإنه لفي غنيماته تلك ذات يوم، وإذا رجلان يقفان عليه، وقد ظهر على وجهيهما شيء من خوف أخذ يذهب شيئا فشيئا، فيستريح الرجلان ساعة مما أدركهما من الجهد، وكأنهما قد اضطرا إلى كثير من العدو أمام قوم كانوا يجدون في آثارهم، وينظر الفتى إليهما صامتا لا يقول لهما شيئا. وما الذي يعنيه من أمرهما، وهو إنما خلا إلى غنيماته تلك ليصرف نفسه عن أمر الناس ويصرف الناس عن أمره؟! ولكن أحد الرجلين يسأله، فيقول: يا غلام، هل عندك من لبن تسقينا فإنا ظماء؟
قال الغلام: إني مؤتمن، ولن أسقيكما، ولو كانت هذه الغنيمات لي لما بخلت عليكما بما ينقع الغلة ويبل الصدى.
179
فينظر أحد الرجلين إلى صاحبه نظرة مطمئنة كأنه يقول له: لقد أصاب الغلام وآثر البر. ثم يحول الرجل نظره المطمئن إلى الغلام ويقول: فهل عندك من جذعة
180
لم ينز عليها الفحل؟
قال الغلام: أما هذا فنعم. ثم يمضي غير بعيد ويعود ومعه شاة، فيعتقلها الرجل ذو النظر المطمئن، ثم يمسح على ضرعها ويدعو بكلام يسمعه الغلام ولا يعقله، وينظر الغلام فإذا الضرع قد حفل، وإذا الرجل الآخر يأتي صاحبه بصخرة متقعرة فيحلب فيها ويسقيه، ثم يسقي الغلام، ثم يشرب هو، ثم يقول للضرع: اقلص.
181
فيعود الضرع كعهده قبل أن تعتقل الشاة.
هنالك يبهت
182
الفتى فينعقد لسانه فلا يقول شيئا، وإنما يقف واجما ذاهلا يردد طرفه الحائر بين الرجلين. ويظل الفتى كذلك، وقد انصرف عنه ذو النظر المطمئن وصاحبه ومضيا مستأنيين لا ينظران إليه ولا يقولان له شيئا، ولم يدر الفتى أطال وقوفه ذلك الحائر أم قصر، ولم يدر الفتى ماذا صنع ولا فيم فكر بقية يومه، وإنما يرى نفسه حين تنصرف الشمس إلى مغربها مجررة أذيالها تلك الشاحبة التي تتعلق بأعالي الربى ورءوس الجبال ريثما تسحبها الشمس أو يمحوها الليل - يرى نفسه في تلك الساعة رائحا إلى مكة وبين يديه غنيماته يهش
183
عليها بعصاه دون أن يفكر فيها أو يحفل بها، وقد امتلأت نفسه بخاطر يحسه ولا يتبينه، ثم يرى نفسه وقد آوى الغنيمات إلى حظيرتها، وأقبل يسعى هادئا مطمئن الخطو ذاهل النفس مع ذلك مشرد العقل يلتمس عقبة بن أبي معيط، فيراه قد جلس في صحن داره ومن حوله بنوه وبعض ذوي قرابته، فيسعى الفتى حتى يقف منه غير بعيد، ثم يقول: أي أبا الوليد، أغد
184
مع غنيماتك غيري من رقيقك وأحلافك؛ فإني عن رعيها راغب منذ اليوم.
قال عقبة: ويحك يا فتى هذيل! ماذا أنكرت منا أو منها؟!
قال الفتى: لم أنكر منكم ولا منها شيئا، ولكني رغبت عن رعي الغنم. ثم ولى لا يسمع لما كان يقال له، ولا يحفل
185
بما كان يظن به، ولم يعد إلى بيته، وإنما عاد إلى ذلك المكان الذي كان يرعى فيه غنيماته، واستحضر في نفسه ذينك الرجلين يعروهما بعض الروع
186
ويثوب إليهما الهدوء قليلا قليلا، ويستسقيانه فيأبى عليهما. واستحضر في نفسه الشاة الجذعة التي لا عهد لضرعها باللبن، ثم رأى ضرعها يحفل،
187
ورأى اللبن يشخب منه في تلك الصخرة الجوفاء. ثم استحضر ذوق ذلك اللبن الذي شربه، فلم يذكر أنه شرب مثله قط، وحاول أن يذكر ذلك الكلام الذي دعا به الرجل ذو النظر المطمئن وهو يمسح ضرع الشاة فلم يذكر منه شيئا؛ فهاله ذلك، ورابه من نفسه كلها ريب،
188
فلم يحرص قط على شيء حرصه على أن يحفظ ذلك الكلام، وكان عهده بنفسه ألا يسمع شيئا إلا استقر في قلبه كأنه نقش فيه نقشا، فيقول الفتى لنفسه: إن لهذا الرجل ذي النظر المطمئن وصاحبه وكلامه لشأنا.
وقد طال مكث الفتى بهذا المكان ساكتا ساكنا يدير طرفه من حوله، ثم يقلب طرفه في السماء لا يكاد يفكر في شيء، أو لا يكاد يحقق شيئا مما يفكر فيه، وإنما يرى في نفسه أول الأمر، ثم من حوله بعد ذلك، صورة الرجل المطمئن معتقلا شاته تلك ماسحا ضرعها متكلما بذلك الكلام الذي سمعه ولم يعقله، والذي يحاول أن يذكره فلا يجد إلى ذكره سبيلا.
وينصرف الفتى عن مكانه ذاك حين تقدم الليل، ولكنه لا يعود إلى مكة، وإنما يهيم فيما حوله من الأرض مستأنسا إلى وحشته حريصا على وحدته، لا يحس جهدا ولا تعبا ولا حاجة إلى النوم، ولا يحس ظمأ ولا جوعا، وإنما يجد في فمه ذوق اللبن، ويرى في عينه صورة ذلك الرجل المطمئن الوادع، ويسمع في أذنيه صوت ذلك الرجل ممتلئا عذبا يجري بكلامه ذاك الذي لا يذكره كما يجري الينبوع الرقيق الصافي بالعذب الزلال. وأنفق الفتى ليلته تلك لم يظله سقف ولم يئوه مضجع، حتى إذا تجلت شمس النهار عاد إلى مكة حين يغدو منها الرعيان. ولم يستقر قراره حتى عرف ذلك الرجل المطمئن وصاحبه، ومكانهما فيسعى حتى يجد محمدا رسول الله، فإذا دنا منه ألقى النبي إليه نظرة مطمئنة، وابتسم له، والفتى يدنو منه حتى يبلغه، ثم يجلس بين يديه، ثم يقول له في صوت رقيق يضطرب اضطرابا خفيا: علمني من هذا الكلام الذي سمعته منك أمس.
قال النبي مبتسما له: إنك غلام معلم. ومنذ ذلك الوقت، استقر في نفس الفتى أنه لم يخلق لنفسه ولا لأهله ولا لغنيمات عقبة بن أبي معيط، وإنما خلق ليلزم محمدا هذا الأمين، فيسمع منه ويحفظ عنه ويدعو بدعوته.
وكان الفتى خفيفا نحيفا، دقيق الجسم سريع الحركة عظيم النشاط، فلم يكد يلزم رسول الله أياما ويسمع منه ويحفظ ما قال حتى رأته قريش في أنحاء مكة متنقلا بذكر محمد وكلامه يذيعه في كل وجه، ويفشيه في كل مجلس، ويتحدث به في كل مكان. وكان لخفته وسرعته مصدر عناء لقريش، تراه في هذا المكان فلا تكاد تهم به حتى تنظر فإذا هو قد استخفى وانتقل إلى مكان آخر، لا يدرون كيف انتقل إليه، فكان المتتبعون للنبي وأصحابه يرون هذا الفتى في كل مكان، ولا يكادون يظفرون به مع ذلك في أي مكان! حتى قال أبو جهل ذات يوم: ما ضقت بأحد من أصحاب محمد كما أضيق بهذا الفتى الهذلي، أراه في كل وجه مذيعا دعوة محمد، مفسدا بها قلوب الناس، ولا أجد لي عليه سبيلا، ولو قد ظفرت به لما أبقيت عليه.
189
قال عتبة بن أبي ربيعة: مهلا أبا الحكم، لا تبطش بهذا الفتى الهذلي؛ فإن زهرة لن تسلمه، وإنك إن تنله بسوء تؤلب هذيلا كلها
190
على قريش وتقطع عليها طريقا لا تحرص على شيء كما تحرص على أمنه وسلمه.
قال أبو جهل: هو ذاك، ولكن أقسم مع ذلك لأذيقن هذا الفتى بعض ما يكره إن قدرت عليه. ولم يقدر عليه أبو جهل إلا بأخرة حين أذن النبي لأصحابه في الهجرة إلى أرض الحبشة. مر أبو جهل ذات يوم غير بعيد من المسجد، فرأى رهطا من الناس قد تحلقوا
191
حول رجل ضئيل نحيل، وخيل إليه من بعيد أنه يقول لهم وأنهم يسمعون له، فاستأنى
192
أبو جهل في مشيته، وضاءل من شخصه، وتمسح بالجدران، ومضى كذلك مستخفيا أو كالمستخفي، حتى فجأ القوم، فوقف منهم غير بعيد، يراهم ولا يرونه، وتسمع لصوت ذلك الرجل الضئيل النحيل، فإذا صوت عذب يتلو كلاما عذبا، فيصغي أبو جهل بنفسه كلها ليسمع ما يجري به هذا الصوت العذب من هذا الكلام العذب، وإذا ابن مسعود يتلو على من حوله هذه الآيات الروائع من سورة الفرقان:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما * والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما * والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما * إنها ساءت مستقرا ومقاما * والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما * والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما * ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا * والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما .
وكان أبو جهل يسمع لهذا الذكر فيخفق له قلبه وتخشع له نفسه، ولو قد أرسل طبعه على سجيته لقال كما سمع بعض أولئك الرهط يقول لعبد الله بن مسعود في صوت تحتبس فيه الزفرات: إني والله لأحب أن أكون من هؤلاء. ولكن أبا جهل لا يرسل طبعه على سجيته، وإنما يدعو حسده وكبرياءه وأنفته، ثم ينصب على أولئك الرهط كما ينصب الصقر على فريسته وهو يصيح: بؤسا لكم من رهط سوء! ما رأيت كاليوم جراءة، إنكم لتجتمعون حول هذا الرجل وتستمعون له وليست أندية قريش منكم ببعيد، فما يمنعكم أن تقتحموا علينا المسجد وأن تتحلقوا فيه؟! ولم يكد أولئك الرهط يرون ذلك الشخص البشع، ويسمعون ذلك الصوت المنكر حتى تفرقوا سراعا. وظل ابن مسعود قائما مكانه لا يريم،
193
فيدنو منه أبو جهل مغضبا وهو يقول: ويلك يا ابن أم عبد! ما تزال تفسد علينا أحلافنا ورقيقنا، وما أراك منتهيا حتى تصيبك مني بائقة.
194
وهم ابن مسعود أن يرد عليه مقالته، ولكن أبا جهل لا يمهله، وإنما يعلوه بالقوس فيشجه، وقد أخذ الدم يتحدر على وجهه، ولكنه لم يحفل بذلك، وإنما يسرع في خفة إلى أبي جهل وهو يقول: فأما إذا فعلت ما فعلت فخذها وأنا فتى هذيل! ثم يدفع في صدر أبي جهل بإحدى يديه ويلطم وجهه بيده الأخرى، ثم ينصرف عنه مستأنيا متمهلا، ويتركه قائما واجما قد أخذه الذهول. لم يكن يقدر أن حليفا من أحلاف قريش يستطيع أن يدفع في صدره ويلطم حر وجهه، ثم تثوب إلى أبي جهل نفسه، فيصيح بابن مسعود: لن تفلت بها يا راعي الغنم.
قال ابن مسعود: ولن تفلت بما فعلت يا عدو الله.
ويمضي كلا الرجلين إلى أصحابه، فأما ابن مسعود فيلقى رهطا من أصحاب النبي، فيقول لهم وعلى ثغره ابتسامة وفي عينيه دمعتان تترقرقان: لا مقام لي بمكة منذ اليوم؛ فقد لطمت وجه أبي جهل، والله إني بالهجرة لفرح، وإني بها لمحزون: فيها ثواب الله ومغفرته، وفيها فراق رسول الله دهرا لا أدري أيقصر أم يطول. وأما أبو جهل، فيعود إلى نادي قومه وقد انكسرت نفسه واستخذى ضميره، ولكنه على ذلك يظهر الغضب والكبرياء ويقول لأهل ناديه: ويحكم يا بني مخزوم! إن كانت لكم بقية من عزة فأمكنوني من ابن أم عبد؛ فإنه قد أتى إلي ذنبا لا يغسله إلا دمه. ويلتمس القوم عبد الله بن مسعود في مكة وما حولها فلا يظفرون به ولا يقدرون عليه، ولا يرى أبو جهل خصمه إلا يوم بدر.
12
أقبل سلام بن حبير القرظي من الشام - كعهده في كل عام - بتجارة عظيمة فيها فنون من العروض وضروب من المتاع، بعضه مما تخرج الشام، وبعضه مما يصنع أهل الجزيرة، وبعضه مما تحمله الروم إلى دمشق وبصرى وتبيعه من قوافل العرب واليهود ليحملوه إلى الأرض البعيدة التي لا تصل إليها يد قيصر ولا يبلغها سلطانه في نجد والحجاز وفي تهامة واليمن. ولم يكد سلام بن حبير يستقر في بني قريظة ويريح نفسه من سفر شاق طويل حتى عرض متاعه ذاك المختلف للناس، فأقبل عليه أهل يثرب من الأوس والخزرج، وأقبل عليه من حول يثرب من يهود ينظرون ويشترون. ولم تمض أيام حتى كان سلام بن حبير قد باع تجارته وأفاد منها مالا كثيرا، ولولا هذا الصبي الذي عرضه سلام على العرب فرغبوا عنه، وعلى اليهود فزهدوا فيه، لرضيت نفس سلام كل الرضا، ولأنفق الأشهر المقبلة مطمئنا مغتبطا مجولا في أحياء يثرب مرسلا رقيقه وأحلافه فيما حول يثرب من أحياء العرب واليهود وفي أعماق البادية، يجلبون له من المتاع الذي يحمله إلى الشام متى أقبل فصل الرحلة إلى الشام. ولكن هذا الصبي كان غصة
195
في حلقه وحسرة في قلبه، قد اشتراه في بصرى من بعض الكلبيين بثمن بخس زهيد، وقدر في نفسه أنه سيبيعه من بعض أهل يثرب، فيربح في ثمنه ذاك الذي أداه مثليه أو أمثاله. ولكن أهل يثرب من العرب واليهود لم يعهدوا سلاما جالبا للرقيق أو متجرا فيه، فلما رأوه يعرض عليهم هذا الصبي، ويلح في عرضه ويرغب في شرائه؛ أنكروا منه ذلك وظنوا به الظنون. وقال قائلهم: إنما اشترى سلام هذا الغلام لنفسه، فلا نأمن أن يكون قد رأى فيه من العيب أو الآفة ما زهده فيه، فهو يبيعنا ما ليس له فيه أرب. وكان الصبي بادي السقم، ظاهر الضر، كأنه قد لقي من الذين اتجروا فيه شرا ونكرا، ولم يكن يحسن العربية، بل لم يكن يستطيع أن يفصح عن ذات نفسه، ولم يكن يحسن الرومية، بل لم يكن ينطق منها حرفا، وإنما كان إذا كلمه سيده أو غير سيده من الناس التوى لسانه بألفاظ فارسية لا يفهمها عنه أحد.
وكان سلام يزعم للناس أن هذا الصبي ذكي الفؤاد، صناع اليد،
196
موفور النشاط إذا صلحت حاله ووجد من الطعام ما يقيم أوده. وكان يزعم لهم أنه سليل أسرة فارسية شريفة أقبلت من إضطخر حتى استقرت في الأبلة فملكت أرضا واسعة وزارعت فيها النبط، وملكت تجارة عريضة كانت تصرفها في أطراف العراق، فإذا سئل من أنباء هذه الأسرة عن أكثر من ذلك لم يحر جوابا،
197
وإنما يقول: زعم لي من باعني هذا الصبي أن العرب اختطفوه حين أغاروا مع الروم على الأبلة، فباعوه من بني كلب، وتعرض به بنو كلب في بصرى يريدون أن يبيعوه لبعض تجار العرب أو اليهود، وقد رأيته فرق له قلبي ومالت إليه نفسي، وقدرت أن سيكون له شأن أي شأن، فاشتريته فيما اشتريت من المتاع والعروض ...
هنالك كان الناس يقولون له: فلم لا تمسكه عليك
198
إذن؟!
فيقول: إن ما أنفقت من المال فيه أحب إلي وآثر عندي منه، وماذا أصنع بصبي لا أحسن القيام عليه ولا يحسن هو أن يقوم على نفسه، وليس لي أهل أكله إليهم؟! والصبي مع ذلك ذكي القلب، صناع اليد، موفور النشاط إن صلحت حاله وأصاب من الطعام ما يقيم أوده. انظروا إلى عينيه كيف تدوران ولا تكادان تستقران على شيء، إنه سريع الحس يخطف ما يرى دون أن يثبته،
199
وانظروا إليهما كيف تتوقدان كأنهما جذوتان، ولكن الناس كانوا يسمعون ويضحكون وينصرفون، ويتركون سلاما وفي قلبه حسرة على ما أنفق من مال وعلى ما كان يرجو من ربح.
وتمر ثبيتة بنت يعار الأوسية بسلام ذات ضحى وهو يعرض صبيه هذا في بعض أسواق يثرب، فلا تكاد تنظر إلى الصبي حتى ترحمه، ثم لا تكاد تطيل النظر إليه حتى تقع في قلبها الرغبة في شرائه.
قالت ثبيتة: ما اسم صبيك هذا يا ابن حبير؟
قال سلام: زعم من باعه لي من بني كلب أن اسمه سالم.
قالت: سالم ابن من؟
قال سلام: لا أدري، ولكني اشتريته من كلبي يسمى معقلا ، وزعم لي أن أسرته أسرة شريفة أقبلت ...
قالت ثبيتة: أقبلت من إصطخر فنزلت الأبلة، وزارعت النبط، وصرفت تجارتها في أطراف العراق، قد حفظنا ذلك عن ظهر قلب؛ فإني له مشترية، فبكم تبيعه مني؟
قال سلام وقد ابتسم قلبه ورضيت نفسه، ولكنه استبقى في وجهه الجد والحزم: فإني لا أريد إلا ما أديت من ثمن وما أنفقت عليه منذ اشتريته. وتتصل المساومة بينها وبينه، وتعود إلى دارها بالصبي، وقد ربح اليهودي فأحسن الربح، وربحت هي بشراء هذا الصبي ربحا لا يقوم بالدراهم ولا بالدنانير.
ذلك أنها لم تشتره متجرة ولا مبتغية كسبا، وإنما آثرت بشرائه الخير والبر والمعروف، لم ترد إلى شيء آخر.
وكانت تقول لنفسها في نفسها وهي عائدة بالصبي إلى دارها: بعدا لهذه الحياة التي لا يرحم الإنسان فيها الإنسان،
200
ولا يرأف القوي فيها بالضعيف، ولا ترق فيها القلوب للأم حين تفقد صبيها، وللصبي حين ينشأ لا يعرف لنفسه أما ولا أبا ولا فصيلة يأوي إليها.
وكانت تقول لنفسها في نفسها وهي عائدة بالصبي إلى دارها: لو أن لي صبيا مثله فعدا عليه العادون ومضوا به في غير مذهب من الأرض
201
كيف كنت ألقى ذلك؟ وكيف كنت أحتمله أو أصبر عليه؟ وهل كنت أسلو عن صبي آخر الدهر؟! هيهات! لو كان لي صبي مثله وعدا عليه العادون، وذهبوا به في غير مذهب من الأرض لذكرته مصبحة وممسية، ولذكرته يقظى ونائمة، ولتبعته نفسي وذهبت في تصور حاله المذاهب، ولما اطمأننت للعيش ولا نعمت بالحياة ولا استمتعت بطيبات هذه الدنيا. وكانت ترى أم الصبي وقد انتزع منها ابنها وهي تشهد انتزاعه، أو اختطف ابنها وهي لا ترى اختطافه، وكانت ترى توله
202
تلك الأم وتفجعها وحسرتها التي لا تخمد ولوعتها التي لا تنطفئ ودموعها التي لا تغيض.
وكانت تقول لنفسها في نفسها وهي عائدة بالصبي إلى دارها: هذا غلام قد اختطف من ملك كسرى، لم يستطع جند كسرى أن يحموه ولا أن يردوا عنه العاديات، فكيف بنا نحن في يثرب، هذه المدينة الخائفة التي يحيط بها اليهود والأغراب من جميع أقطارها، والتي يسل بعض أهلها السيف على بعض، والتي لا يأمن أهلها أن تدور عليهم دائرة، أو تنوبهم نائبة، أو يلم بهم خطب من الخطوب؟! فلما بلغت الدار واستقرت فيها، وعنيت بالصبي حتى أمن بعد خوف، وأنس بعد وحشة، وطعم بعد جوع، قالت لنفسها في نفسها: هيهات أن أتخذ الأزواج أو أن يكون لي من الولد من يصيبه مثل ما أصاب هذا الصبي، ومن أذوق فيه من الحزن والثكل مثل ما ذاقت في هذا الصبي أمه تلك الفارسية ونساء أمثالها كثير! ولو استجابت الحياة لثبيتة لأنفقت أيامها معنية بهذا الصبي الفارسي، ولاتخذته لنفسها ولدا أو شيئا يشبه الولد، ولكن الناس يقدرون ويدبرون، والأيام تجري على غير ما قدروا ودبروا.
فقد عنيت ثبيتة بسالم حتى ربا جسمه ونما عقله، وأصبح غلاما ذكي القلب، سريع الحس، حديد اللسان، كما قدر اليهودي - أو أكثر مما قدر - وكانت ثبيتة له محبة وبه مغتبطة وعنه راضية، وقد خطبها الرجال من الأوس والخزرج ومن أشراف البادية حول يثرب، فامتنعت عليهم، واعتلت على أهلها في ذلك حتى أعيتهم، ولكن وفد قريش يمرون بيثرب منصرفهم من الشام ذات عام، فيمكثون فيها أياما، ويسمع أبو حذيفة هشيم بن عتبة بن ربيعة بحديث ثبيتة هذه وقصة غلامها ذاك، فيعجبه ما يسمع، ثم يحب أن يتزيد من أخبارها فيلم بقومها، ويقول لهم ويسمع منهم، فتقع ثبيتة من نفسه موقعا حسنا، مع أنه لم يرها ولم يسمع لها، وإنما سمع عنها فرضي. وإذا هو يخطب هذه الفتاة الأبية، فتمتنع عليه أول الأمر، حتى إذا علمت بمكانه من قريش وبأنه من أشرافها وذوي المنزلة الرفيعة فيها، وبأنه من أصحاب البيت وأهل الحرم الذي رد عنه أصحاب الفيل، والذي لا يعدو عليه إلا الفجرة الآثمون، شكت يوما ويوما، ثم أصبحت مستجيبة لخطبة هذا المكي.
ويعود أبو حذيفة بأهله وبسالم إلى مكة في وفد قريش، فلا يكاد يستقر فيها حتى ينكر من أمرها بعض الشيء. لقد أصبح فغدا على أندية قريش، ثم أمسى فراح إلى أندية قريش، ولكنه يعرف من أمر هذه الأندية كثيرا، وينكر من أمرها كثيرا، تريد نفسه أن تطمئن وأن تأمن وأن ترضى، كما تعودت من قبل، ولكنها لا تجد إلى الطمأنينة ولا إلى الأمن ولا إلى الرضا سبيلا. يحس أبو حذيفة كأن شيئا ينقص هذه الأندية، وكأن حدثا قد حدث في مكة لا يدري أيسير هو أم خطير، ولكن شيئا قد حدث فتغير من أمر قومه تغييرا يحسه ولا يحققه. ثم يتلمس بعض صديقه في أندية قريش فلا يجدهم، يسأل: أين عثمان بن عفان الأموي؟ وأين طلحة بن عبيد الله التيمي؟ وأين فلان وفلان من ذوي مودته؟ فلا يجيبه قومه بالتصريح، وإنما يؤثر بعضهم الصمت، ويذهب بعضهم مذهب التورية، ويلوي بعضهم ألسنتهم بأحاديث لا تفصح ولا تبين.
ويرى أبو حذيفة ويسمع، فيبعد الأمد بينه وبين الطمأنينة والأمن والرضا، ثم يصبح ذات يوم وقد انجلت له بصيرته، ووضح له وجه الحزم من أمره. إن صديقه أولئك بمكة لم يفارقوها ولم يبرحوا أرض الحرم، فما له يسأل عنهم ولا يلم بهم؟! ولا يكاد هذا الخاطر يخطر له حتى يقصد قصد فلان أو فلان من أولئك الصديق.
وقد ألم بعثمان بن عفان وكان له خليلا على ما كان بينهما من تفاوت في السن، كان عثمان قد تخطى الأربعين أو كاد، وكان أبو حذيفة لم يبلغ الثلاثين بعد، ولكن الود كان بينهما قديما متينا، زادته الصحبة في الأسفار قوة وأيدا، فلما بلغ أبو حذيفة دار عثمان ودخل عليه تلقاه صديقه بما تعود أن يتلقاه به من البشر والبشاشة ومن الرفق واللين، ولكن أبا حذيفة آنس من صديقه على ذلك كله شيئا من تحفظ واحتشام.
قال أبو حذيفة: لقد التمستك
203
أبا عمرو في أندية قريش منذ عاد الوفد إلى مكة فلم أجدك، فما عسى أن يكون قد حبسك عن قومك؟
قال عثمان: لم أنشط لهذه الأندية، ولا لما يدور فيها من حديث.
قال أبو حذيفة: فهل أنكرت من قومك شيئا؟ وهنا سكت عثمان ولم يجب. فأعاد عليه أبو حذيفة مقالته، فأمعن عثمان في الصمت.
قال أبو حذيفة: إن لك أبا عمرو لشأنا ولا واللات والعزى، ولكن عثمان لم يكد يسمع قسمه هذا حتى لوى وجهه.
204
وينظر أبو حذيفة فإذا وجه صاحبه قد اربد وظهر فيه غضب لم يألفه منه قط. قال أبو حذيفة: ويحك أبا عمرو! إنك لتعرف ما بينك وبيني من الود، وإنك لي لخليل وفي أمين، فأظهرني على ذات نفسك.
قال عثمان في صوت وادع لين: فإن شئت أن تستبقي ما بيننا من الود فلا تذكر اللات والعزى وهذه الآلهة التي لا تغني عنكم شيئا.
هنالك وجم
205
أبو حذيفة وجمة قصيرة، ثم قال: ويحك أبا عمرو! فإنك إذن قد صبأت؟
قال عثمان في صوت أشد دعة وأعظم لينا: لم أصبؤ أبا حذيفة، وإنما اهتديت؛ إنك فتى حازم رشيد لم تتقدم بك السن بعد، ولكن رأيت الدنيا وطوفت في أقطار الأرض وبلوت أخبار الناس وجربت الأحداث والخطوب، أفترى من الرشد أن يؤمن مثلك ومثلي لأنصاب
206
من خشب وصخر صورها الناس بأيديهم، ويستطيع من شاء منهم أن يجعلها جذاذا؟
207
قال أبو حذيفة: ما أراك أبا عمرو إلا رشيدا، ولكني لم أفكر في هذه الأشياء قط، وإنما وجدت قومنا يعبدون هذه الأنصاب فصنعت صنيعهم.
قال عثمان: وإذا أسفر الهدى وحصحص الحق؟
208
قال أبو حذيفة: فقد وجب علينا أن نهتدي ونتبع الحق، متى تستصحبني إلى محمد؟
قال عثمان: الآن إن شئت.
وأمسى أبو حذيفة مسلما، ودخل بإسلامه على ثبيتة، فلم تكد تسمع له حتى آمنت بمحمد وما جاء به. وسمع الغلام سالم حديثهما فمالت إليه نفسه، وإذا هو يؤمن كما آمنا، ولم يتقدم الليل حتى زادت بيوت الإسلام في مكة بيتا.
وتمضي أيام قليلة وإذا ثبيتة تعلم أن محمدا يدعو إلى إعتاق الرقيق، ويعد الذين يفكون الرقاب مغفرة من الله ورحمة ورضوانا، فتدعو إليها غلامها ذاك الفارسي وتقول له: اذهب سالم؛ فإني قد سيبتك لله عز وجل، فوال من شئت .
قال سالم لأبي حذيفة: فهل لك في أن تكون لي وليا؟
قال أبو حذيفة: هيهات! لن أتخذك مولى، وإنما أنت ابن لي منذ اليوم.
13
دخل عبد الله بن سهيل بن عمرو على أخته سهلة بنت سهيل زائرا عند زوجها أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فرأى منها إقبالا عليه أكثر مما تعود أن يرى منها منذ حين، ووقع ذلك من نفسه موقعا حسنا، فجعل يحدث أخته بما شاء من أحاديث قومه، يريد أن يسرها ويفكهها؛ يعبث بالشيوخ وذوي الأسنان من قريش طورا، ويتندر بمرح الشباب من قريش طورا آخر، وأخته تسمع له فتضحك وتعجب، وتهم أن تشاركه في بعض حديثه وأن تذكر معه أيام الصبا، ولكنها لا تلبث أن تكف نفسها عن ذلك وأن تؤثر الصمت، وتدعوه إلى أن يقول. وقد لاحظ عبد الله أن أخته على نشاطها له وإقبالها عليه ربما عرض لها شيء من ذهول بين حين وحين، كأنما كانت تغيب عنه ثم تثوب إليه.
وقد أنكر الفتى من أخته نشاطها وذهولها جميعا، ولكنه أسر ذلك في نفسه ولم يبده لها، ومضى فيما كان يسوق من حديث ضاحكا مضحكا، حتى إذا أنفق معها ساعة غير قصيرة هم أن ينصرف، وقامت أخته تريد أن تسعى معه مشيعة إلى فناء الدار، ولكن عبد الله ينحني على أخته يريد أن يضمها إليه وأن يقبلها، فتذعر سهلة وتتراجع شيئا، وينظر إليها عبد الله في شيء من حيرة ودهش، وتنظر هي إلى عبد الله في دهش وحيرة، ثم يعود عبد الله إلى مكانه فيجلس، وتظل سهلة قائمة واجمة كأنها لا تدري ماذا تصنع ولا تعرف كيف تقول.
قال عبد الله بعد هنيهة: إن أمرك لعجيب منذ اليوم يا سهلة، أليس قد أزمعتم الهجرة من غد؟!
قالت سهلة وقد ظهر عليها الروع: أي هجرة؟! هنالك أغرق عبد الله في الضحك، ثم قال: ما رأيت كاليوم فتاة غرة
209
تريد أن تمكر بأخيها، إن هجرة أصحاب محمد إلى أرض الحبشة ليست سرا مكتوما، وإنما هو حديث الناس في مجالسهم وحديث الملأ
210
من قريش في أنديتهم، وإن قريشا لو شاءت لأخذت على أصحاب محمد طرق هجرتهم،
211
ولكنها لا تشاء، ولعلها لا تكره هذه الهجرة، فقد جعلت قريش تسأم محمدا وأصحابه، وتسأم الكيد لهم والمكر بهم والإلحاح على المستضعفين منهم بالفتنة والعذاب، وقد فرحت قريش بهجرتهم هذه، وقال الملأ منها شر يصرف عنا وراحة تهدى إلينا، وإن أعين قريش ليقظة ساهرة على محمد ونفر من أصحابه، فهؤلاء رهائن قريش لا تخلي بينهم وبين الطريق إن أرادوا أن يدفعوا أنفسهم إلى الطريق، فأما المستضعفون وأشباه المستضعفين فليس لقريش فيهم أرب.
وكانت سهلة تسمع لهذا الحديث وآيات الروع والحزن والرضا تختلف على وجهها، وهي مع ذلك قائمة تسمع من أخيها ولا ترد عليه جوابا.
قال عبد الله: وقد ظننت إذن وظن زوجك أن قريشا عنكما غافلة، هيهات! إن عتبة والوليد بن عتبة ليعلمان من أمر أبي حذيفة مثل ما يعلم سهيل وعبد الله من أمر سهلة، وإن قريشا لتعلم من أمركما مثل ما يعلم أبواكما، ولكن قريشا لا تحبسكما؛ لأن لها في أبويكما وأخويكما أربا، ولكننا نحن لا نحبسكما أيضا؛ لأنا نؤثركما بالحب في أعماق نفوسنا ودخائل قلوبنا، ونكره لكما حياة التستر والاستخفاء هذه التي تحتملانها في مشقة أي مشقة، وعناء أي عناء، ولا نضيق بأن تجدا في هجرتكما هذه أمنا بعد خوف وفرجا بعد حرج، ولولا أن تقول قريش: ضعف سهيل فلم يطق على فراق ابنته صبرا لما زرتك الآن وحدي ولزارك أبوك فنظر إليك قبل فراق ليس يدري ولست تدرين أيطول أم يقصر، ولكنه يرى كما أنك ترين أوله، ولا يعرف كما أنك لا تعرفين آخره، وليس يعنيني ما تقول قريش في، وعسى أن أجد في مقت قريش لي رضا، وفي استخفافها بي حبورا. أسمعت الآن عني؟
قالت سهلة: ألم تر أنك منذ دخلت علي إنما تتحدث وحدك وأنا أسمع ولا أرد عليك؟!
قال عبد الله: بلى! وهذا بعض ما أثار في نفسي ما ترين من العجب، ولكني لم أفهم هذا الذعر الذي اشتمل عليك حين أردت أن أضمك وأن أقبلك مودعا.
قالت سهلة ولم تستطع أن تمنع ابتسامة حلوة ارتسمت على ثغرها وضحكة عذبة جرت في صوتها: فإنك مشرك، وما أحب مس المشركين.
قال عبد الله وقد ظهر في وجهه الحزم: أوقد بلغ بكم حب محمد والاستجابة لدينه أن تصدوا عن إخوانكم؟!
قالت سهلة، وقد زالت ابتسامتها عن ثغرها وجرى في صوتها حزم صارم لم يثبت له قلب الفتى وإنما اتصل له خفقانه: لو قد أحببت محمدا واستجبت لدينه لعرفت أن الصد عن الإخوان والآباء في سبيله ليس شيئا، تعلم
212
يا أخي أنا نحب الله ورسوله أكثر مما نحب آباءنا وأمهاتنا وإخواننا، وأكثر مما نحب الدنيا كلها وما فيها من كل شيء، وأكثر مما نحب أنفسنا، ولقد حدثتني آنفا بأن قريشا راضية عن هجرتنا، فتعلم أنا نحن عنها غير راضين، ولولا أن أذن لنا فيها محمد ودعانا إليها لآثرنا الفتنة والعذاب والموت قريبا منه على الدعة والسعة والراحة والروح والأمن والرضا بعيدا عنه في أي قطر من أقطار الأرض.
قال عبد الله، وقد أطرق مفكرا: هو ذاك إذن! محمد أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم ومن الدنيا كلها ومما فيها من كل شيء! ومحمد أحب إليكم من أنفسكم!
قالت سهلة: ولو قد أحببت محمدا كما نحبه لعرف قلبك الحب الذي يعطي ولا يريد أن يأخذ، والذي لا يبتغي لنفسه ثمنا من لذة الجسم أو نعيم النفس.
ويدخل أبو حذيفة فيرى عبد الله مطرقا مغرقا في التفكير، ويرى امرأته سهلة قائمة تنظر إليه نظرات حازمة قوية، ولكن فيها شيئا من أمل وشيئا من حنان. فينظر أبو حذيفة إلى امرأته، ثم ينظر إلى عبد الله، ثم يقول في صوت عميق: هل تنبئينني يا سهلة بأن الله قد أنزل السكينة على قلب أخيك؟
وهمت سهلة أن تجيب، ولكن عبد الله يرفع رأسه ويسبق أخته إلى الحديث فيقول: السكينة! السكينة! ... ما عسى أن تكون هذه السكينة؟
إن لكم لألفاظا تديرونها في أفواهكم وتقرعون بها آذاننا، ولكنا لا نحصل لها معنى، هذه تزعم أنكم تحبون محمدا أكثر مما تحبون آباءكم وإخوانكم وأنفسكم، وأنت تسألها هل أنزل الله على قلبي السكينة، ما عسى أن تكون هذه السكينة؟! وما عسى أن يكون محمد قد صنع بقلوبكم حتى استأثر بها من دون آبائكم وإخوانكم وأنفسكم؟!
قال أبو حذيفة في صوت رفيق: لم يصنع محمد بقلوبنا إلا أنه نقاها من الغي، وجلاها من الضلال، واستنزل عليها السكينة التي ملأتها أمنا ورضا وثقة وأملا، وحالت بينها وبين الخوف والشك والقنوط، ثم يتلو قول الله عز وجل:
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ، ولا يكاد الفتى يسمع هاتين الآيتين حتى تأخذه رعدة عنيفة ويتفصد
213
جبينه عرقا، ويمضي أبو حذيفة في تلاوته، فيقرأ:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين . •••
ولا يبلغ أبو حذيفة آخر هذه الآيات حتى يهدأ روع الفتى ويثوب إلى قلبه الأمن، وينظر إلى أبي حذيفة مبتسما، ويقول في صوت تشيع فيه دعابة حلوة: ويحك! إني أحس كأن سكينتكم هذه تسعى إلى قلبي، أذاهب أنت بي أبا حذيفة إلى محمد لأتلقاها منه؟
وأمسى عبد الله مسلما قد عاد إلى أخته، وجلس إليها وإلى أبي حذيفة، وسالم يسمع منهم القرآن. تقول له سهلة حين منصرفه عنها حين تقدم الليل: أمهاجر أنت معنا يا أخي؟
قال عبد الله: عزيز علي أن تنأى بكم الدار، ولكني لم أسمع من رسول الله القرآن وحديثه إلا اليوم، وإني لأوثر أن ألزمه ما وسعني لزومه، فاذهبوا راشدين.
وأصبح أبو حذيفة فانطلق بامرأته وابنه سالم فيمن انطلق إلى أرض الحبشة من المسلمين، حتى إذا كانت الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة كان عبد الله بن سهيل أحد المشاركين فيها، وقد جلس سهيل في داره محزونا كئيبا، وافتقدته قريش حين رأت تخلفه عن أنديتها أياما، فأقبل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل عمرو بن هشام فاستأذنوا عليه، ولو قد أطاع نفسه لمنعهم الإذن، ولكن للسادة من قريش حقوقا لا يلتوى بها، فيدخل القوم على سهيل ولا يكادون يتحدثون إليه حتى يروا حزنه وضيق صدره.
يقول عتبة بن ربيعة: ويحك أبا عبد الله! لقد هاجر ابني فما ساءتني هجرته، فيقول سهيل: وهل جر علينا الشر كله إلا ابنك؟! لم يكفه أن يصبئ ابنتي حتى أصبأ أخاها وانصرف بهما جميعا إلى أرض النجاشي.
قال أبو جهل: لو عرفت قريش كيف تؤدب سفهاءها لما أصابكما ما تريان، ولو استجابت لي قريش لاجتثثت الشجرة من أصلها.
214
فيقول شيبة بن ربيعة: على رسلك
215
أبا الحكم! أما هذه فلم يأت إبانها
216
بعد.
وما زال القوم بسهيل حتى يخرجوه ويردوه إلى ما ألف منهم وألفوا منه، ويمضي من الأيام والأشهر ما شاء الله أن يمضي، وهؤلاء نفر من مهاجرة الحبشة يعودون إلى مكة، منهم من يعلن عودته ومنهم من يستخفي بها، وعاد في هؤلاء النفر عبد الله بن سهيل؛ فيلقاه أبوه أحسن لقاء، ويتحدث إليه حديث البشاشة والبشر، والفتى متحفظ متأثم، كأنه يرى في الاستماع لحديث أبيه بأسا، ولكن سهيلا يضرب إحدى يديه بالأخرى، فما هي إلا أن يستجيب له أعبد شداد يحيطون بعبد الله، فيوثقونه، ثم يحملونه سجينا إلى أعماق الدار، ومنذ اليوم يذيقه أبوه من الفتنة شيئا عظيما.
14
لم تعرف مكة في تاريخها الطويل القديم يوما كذلك اليوم المشهود، وإن كانت قد عرفت بعده أياما مشهودة ليست أقل منه شدة ونكرا.
كانت بلدا آمنا، لا يعرف أهله كيدا ولا مكرا ولا بغضا ولا عداء، وإنما يستقبلون أمورهم راضين عنها مبتهجين بها مطمئنين إليها، يكون بينهم التنافس في المال والاستباق إلى المجد، ولكنهم على ذلك لا يبغي بعضهم على بعض، ولا يبطش بعضهم ببعض، وإنما تجري أمورهم على الدعة والإسماح، وأقصى ما يبلغ الشر بينهم أن يقول بعضهم لبعض قليلا أو كثيرا مما يكره من القول، ثم لا يلبثون أن يعود بعضهم على بعض بالعافية، وأن يهدي بعضهم إلى بعض ألوان البر والمعروف. وقد عرفت العرب القاصية والدانية ذلك من أمرهم، فهوت
217
إليهم الأفئدة، وعطفت عليهم القلوب، واتصلت بهم الآمال، وتعلقت بهم النفوس، حتى أصبح بلدهم وما حوله من الأرض حرما آمنا يأوي إليه الخائف ويلوذ به الملهوف،
218
ولكن مكة تصبح في ذلك اليوم وقد أظهرت لها السماء ابتساما، فملأت بطاحها وجبالها ورباها بأشعة الشمس المشرقة الرائعة، ولكنها أضمرت لها عبوسا أي عبوس، فملأت قلوب نفر من أبنائها بالظلمة المظلمة والكيد المفضي بأهله إلى شر ما ينتهي إليه الناس.
أصبحت قريش في ذلك اليوم، فغدا الملأ منها إلى أنديتهم في المسجد، وأخذوا فيما كانوا يأخذون فيه من حديث، إلا نفر منهم لم يذهبوا إلى المسجد ولم يحضروا أندية قومهم، ولم يشغلوا أنفسهم ببيع أو شراء، ولم يسروا
219
عن أنفسهم بصيد أو طرد أو مجون. وإنما شغلوا بشيء غير ذلك كله؛ شغلوا بتهيئة العذاب وجه النهار، وشغلوا بشهود العذاب وسط النهار، وشغلوا بالتحدث عن العذاب آخر النهار، ولكنهم لم يتحدثوا عنه وحدهم، وإنما تحدثت عنه قريش كلها، ولم تبق في مكة دار إلا ذكر فيها أمر ياسر وامرأته وابنه، وأمر صهيب، وأمر خباب، وأمر بلال. وكانت أحاديث قريش عما صب على هؤلاء الرهط من العذاب مختلفة أشد الاختلاف: فأما شيوخ قريش وذوو أحلامها، فكانوا يجدون في سيرة أبي جهل وأضرابه غلوا في الشر وإسرافا في القسوة، ولكنهم على ذلك كانوا يعللون أنفسهم بأن هذه الشدة قد تخوف محمدا وأصحابه وتردهم إلى شيء من القصد والأناة، وإلى أنها قد تردع
220
الرقيق والمستضعفين وتريهم ما ينتظر الذين يصبون منهم إلى محمد وأصحابه من البأس والضر والعذاب، فكانت ضمائرهم تنكر، وقلوبهم تسكت، وألسنتهم تعرف. وأما الشباب من قريش، فكان أكثرهم يرى في هذا البدع لونا مستحدثا من التسلية والتسرية والاشتغال عن النفس وعما تعودت أن تتلهى به من ألوان العبث والمجون، وفي غرائز الناس ميل إلى الشر، واستحباب للنكر، واستعذاب للعذاب حين يمس غيرهم ويدفعهم إلى فنون من الألم وضروب من الحركات التي يثيرها الألم، وإلى ألوان من الشكاة التي يبتعثها الألم.
وفي قلوب الشباب قسوة وخفة، وفي أحلامهم نزق وطيش.
221
فهم ينظرون إلى من يمتحن في بدنه، ويأتي من الحركة والقول ما يسليهم ويلهيهم، على أنه متاع لأبصارهم ونفوسهم، ولا يقدرون أن هذا العذاب يمكن أن يصب عليهم، وأن هذه الحركات والشكاة يمكن أن تصدر عنهم، فتضحك منهم قوما آخرين، ولو قد وضع الإنسان نفسه موضع الذين يصب عليهم العذاب لجنب الناس شرا كثيرا. فكان أولئك الشباب من قريش يتحدثون ببراعة أبي جهل فيما كان يخترع من ألوان الفتنة والمحنة راضين عنها معجبين بها، وكانوا يتحدثون عن احتمال أولئك الرهط للفتنة في أنفسهم بالجلد والصبر والأناة في كثير من الإعجاب، كما كانوا يتحدثون في عبث وسخرية بما كانت أجسام أولئك الرهط تأتي من الحركات حين يمسها العذاب.
قال الحارث بن هشام لابن أخيه عكرمة بن أبي جهل: ألم تر إلى سمية كيف كان جسمها يتلوى حين كانت السياط تلهبه بغير حساب، دون أن يفتر فمها عن صيحة أو أنة أو شهيق، وهي التي كنا نثيرها إلى الخوف أو نثير الخوف إليها بأيسر ما كنا نأتي من الحركات، نعبث بها ونسخر منها حين نراها تثور كأنما دفعت من الأرض بلولب خفي؟! قال عكرمة: لم أعجب لشيء كما عجبت لزوجها الشيخ الذي مزق جسمه بالسياط وحرق بالنار ليذكر الآلهة بخير، فلم يظفر منه أبي إلا بشتم الآلهة والاستهزاء بها.
أما ابنه عمار فقد سكت صوته، وسكن جسمه للعذاب، وارتسمت على ثغره ابتسامة حلوة مرة، ما أدري أكانت تصور الرضا أم كانت تصور الغيظ! ولكنها ارتسمت في نفسي أشد مما ارتسمت على ثغره، وما أرى أنها ستغيب عني آخر الدهر.
قال صفوان بن أمية: فكيف لو رأيتما بلالا، ذلك الحبشي والفتية من الأحرار والرقيق يتنازعون جسمه يأخذ كل منهم بطرف، كأنما كانوا يريدون أن يقتسموه بينهم، وهو في أثناء ذلك لا يئن ولا يشكو، وإنما يثني على محمد، ويذكر إلهه ذاك بالخير.
قال خالد بن الوليد: أما أنا فقد رأيت من صهيب عجبا، رأيت القوم يعذبونه بالنار وينوشونه
222
بالرماح ويلهبون جسمه بالسياط، وهو على ذلك يتحدث إليهم حديث من لا يحفل بما كانوا ينالونه به من الأذى، وربما اشتد عليه البأس فعقد لسانه عن القول برهة، وأجرى على جبينه شيئا من عرق، ثم لا يلبث أن تثوب إليه نفسه، ويعود إلى التحدث إلى معذبيه في بعض أمرهم، كأنهم لم ينالوه بمكروه، وما يزالون به يعذبونه بالحديد والنار والسياط، وما يزال بهم يعذبهم بهدوئه وثباته وتحدثه إليهم في أيسر أمورهم، حتى إذا أملهم أو كاد يملهم ضاعفوا له العذاب، وخرجوا في ذلك عن أطوارهم، فيسعى إلى صهيب شيء من ذهول، ثم يأخذه شيء يشبه السكر، فيمضي في حديثه، ولكنه يقول للقوم غير الصواب، ويعرف القوم أنهم قد بلغوا منه بعض ما كانوا يريدون فيكفون
223
عنه مكاويهم ورماحهم وسياطهم، وأشهد لقد انصرفت عن هؤلاء القوم وإني لبعض أمرهم لكاره.
قال الحارث بن هشام: اسكت لا يسمعك ابن عمك فيصيبك منه بعض ما تكره.
كذلك كان الشباب من قريش يعجبون بأولئك الرهط
224
المعذبين ويعجبون منهم، يستهزئون بهم طورا ويعطفون عليهم طورا آخر.
وأما المستضعفون والرقيق، فكانوا يرون الشر ويعينون عليه حين يطلب إليهم أن يعينوا عليه، تكرهه نفوسهم وترضى عنه ألسنتهم؛ قد ملأ الخوف أكثرهم، وتسرب الحب والإشفاق إلى قلوب فريق منهم، فهم ينتهزون الفرص ويتربصون بقريش الدوائر،
225
ويتحدثون إلى أنفسهم، وربما تحدث بعضهم إلى بعض - إذا خلا بعضهم إلى بعض - بأن الخير كل الخير عند محمد وأصحابه، وبأن الخير كل الخير في أن ينحازوا إليهم، فالضعف إلى الضعف قوة، ومن يدري؟! لعل الله أن ينتصف لهم ولأمثالهم بمحمد وأصحابه من أولئك البغاة الظالمين.
وأما المسلمون الذين صرف عنهم العذاب ونحيت عنهم الفتنة، فكانوا يشهدون وفي نفوسهم ألم وأمل، وفي قلوبهم حزن وثقة، قد اطمأنوا إلى أن العاقبة لهم، واستيقنوا بأن الله منجز وعده، ولكنهم على ذلك يرحمون إخوانهم، وربما تمنوا لو كانوا مكانهم فاحتملوا عنهم بعض ما يحتملون من الأذى.
وربما كان أصدق وصف لمكة حين أمسى المساء من ذلك اليوم أن أكثر أهلها كانوا حائرين، يرون الفتنة ولا يدرون أيعرفونها أو ينكرونها؛ لأنهم لا يعرفون أخير هي أم شر! وأن أقل أهلها كانوا قد صدقوا الله ما عاهدوا عليه، فرضيت نفوسهم واطمأنت قلوبهم واستيقنوا أن العاقبة للمتقين، ولو كشف الغطاء عن أهل مكة لرأوا حين تقدم الليل من ذلك اليوم أن من حول مكة أعيادا يحفل بها الشياطين، وقد استخفهم الفرح واستهواهم الطرب، ورأوا أصحاب محمد يعذبون أشد العذاب وأقساه، فغرهم بالله وبأنفسهم الغرور، وظنوا أن فتنة هؤلاء الرهط ستحفظ لهم سلطانهم على مكة، وستمكن لهم في قلوب قريش.
وأصبح أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
فتحدثوا إليه من أمر الفتنة بما علموا، ولكنه تحدث إليهم من أمرها بما لم يعلموا، لا لأنه شهد الفتنة، أو رأى كيف كان تصب على المستضعفين من أصحابه، بل لأن أمر الفتنة كله قد أوحي إليه.
وخرج النبي وأصحابه فتفرقوا في أحياء مكة يسعى بعضهم هنا ويسعى بعضهم هناك، يلتمسون فضلا من ربهم، ويريدون في أكبر الظن مواساة لهؤلاء المستضعفين الذين كانوا يفتنون عن دينهم ويعذبون في الله، ويمشي النبي
صلى الله عليه وسلم
في بعض بطحاء مكة، وقد وضع يده في يد عثمان بن عفان، وما يزالان يتماشيان حتى يبلغا آل ياسر وقد سطحوا على الأرض موثقين، ووضعت على صدورهم الصخور الثقال، وجعل المشركون يمسونهم بالنار حينا بعد حين، وربما وخزوهم بالخناجر والحراب، وثلاثتهم سكوت لا ينطقون حرفا، والمشركون قد ملأ قلوبهم الغيظ؛ لأنهم لا يبلغون منهم شيئا، وقد أنكروا صمتهم الذي اتصل منذ أخذ في تعذيبهم مع الضحى، حتى جعلوا يشتطون عليهم في البأس
226
ليستخرجوا منهم أنة أو شكاة، ولكنهم ماضون في الصمت، قد ثبت الله قلوبهم، وصرف عن نفوسهم الجزع والهلع، فإذا مر النبي وصاحبه بهؤلاء الرهط المعذبين سمع المشركون صوت ياسر لأول مرة من يومهم ذاك، سمعوا صوت ياسر لا يتجه إليهم وإنما يتجه إلى النبي، فيقول: الدهر هكذا يا رسول الله، قال رسول الله: «أبشروا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة.» هنالك يسمع المشركون صوت سمية لأول مرة من يومهم ذاك، يسمعون صوت سمية لا يتجه إليهم وإنما يتجه إلى النبي، فيقول: أشهد أنك رسول الله، وأشهد أن وعدك الحق. وهنالك يسمع المشركون صوت عمار لأول مرة من يومهم ذاك، يسمعونه لا يتجه إلى أبويه، ولا يتجه إلى النبي وصاحبه، وإنما يتجه إليهم هم، فيقول: عذبونا يا أعداء الله ما شئتم؛ فإن موعدنا الجنة وأنوفكم راغمة.
هنالك يخرج المشركون عن أطوارهم
227
ويصبون على أولئك الرهط من العذاب ما ليس إلى وصفه سبيل.
ويمضي أبو بكر في بعض بطحاء مكة فيرى بلالا وقد عذب حتى ملت قريش تعذيبه، عذبوه بالنار والماء، وعذبوه بالحديد والسياط، طرحوه على الأرض في الرمضاء،
228
وأثقلوه بالصخر، يريدونه على أن يذكر آلهتهم بخير فلا يسمعون منه إلا: أحد، أحد. يقول له أمية بن خلف: اذكر آلهتنا يا بلال يرفع عنك العذاب. فيجيب: إن لساني لا يطاوعني. ثم يمضي في ذكره قائلا: أحد، أحد. فيمل أمية بن خلف وأصحابه، فيضعون عنه أثقاله ثم يقيمونه، ثم يضعون الحبال: حبلا في إحدى ذراعيه، وحبلا في ذراعه الأخرى، وحبلا في إحدى ساقيه، وحبلا في ساقه الأخرى، ثم يدعون الصبية ويلقون إليهم الحبال، ويأمرونهم أن يعدوا ببلال حتى يجهدوا أنفسهم ويجهدوه، ويفعل الصبية ما أمروا، فيعدون به إلى اليمين، ويعدون به إلى شمال، ويعدون به إلى أمام، ويعدون به إلى وراء، وهم يتصايحون ويتضاحكون، وأمية بن خلف وأصحابه ينظرون ويتعابثون، وبلال لا يحفل بشيء من ذلك، وإنما هو يتبع العادين به حيث يعدون، لا يقاوم ولا يتمنع ولا ينفك لسانه عما أخذ فيه من ذكر: أحد، أحد، أحد، أحد. وقد بلغ الجهد من الصبية حتى جعلوا يلهثون، ثم تراخت أيديهم وألقوا بحبالهم إلى الأرض، وظل بلال قائما ماضيا في ذكره: أحد ، أحد. حتى يبلغ الغيظ من أمية وأصحابه، فيدفع بعضهم في صدر بلال حتى يلقوه على الأرض إلى ظهره، فيسقط ويسمع لسقوطه صوت مروع، ولكن ذكره متصل: أحد، أحد. ويهم أمية أن يبطش به ليسكت هذا الصوت ويقطع هذا الذكر، ولكن أبا بكر يعرض له قائلا: ويحكم! فيم تعذبون هذا الرجل؟!
قال أمية: وما أنت وذاك يا ابن أبي قحافة؟! عبد لنا، نصنع به ما نشاء.
قال أبو بكر: هو عبد الله قبل أن يكون عبدك يا أمية، إنك إن تأت على نفسه تأثم وتضيع مالك، فهل لك في شيء خير من ذلك؟
قال أمية: وما ذاك؟
قال أبو بكر: أشتري منك هذا الرجل، واحتكم في ثمنه.
قال أمية وقد ضجر ببلال وتأديبه وتعذيبه: قد فعلت، فأد إلي ثمنه سبع أواق.
قال أبو بكر: فخل سبيله ورح معي حيث أؤدي إليك مالك.
قال أمية: أد إلي مالي أخل عنه.
قال أبو بكر: ويحك يا أمية! متى عهدتني ألتوي عليك بالدين؟!
قال أمية وقد استحيا: صدقت، خذ غلامك وأرسل إلي ثمنه متى شئت.
قال أبو بكر: إنما هي روحتي إلى أهلي، ثم يؤدى مالك إليك.
وأخذ أبو بكر بلالا من يده فانطلق به إلى داره، وهنالك رفق به وخفف عنه بعض ما وجد من الضر، وأرسل إلى أمية ماله، وتلبث في داره يرفق ببلال ويتحدث إليه، ويقرأ عليه من آيات الذكر، حتى إذا عاد رسوله، وعرف أبو بكر أن أمية قد قبض ماله التفت إلى بلال وابتسم له وقال: انطلق بلال، فأنت حر.
وأمسى أبو بكر، فلقي رسول الله وأنبأه بما رأى من فتنة بلال، وبأنه لم يستطع أن يستنقذه حتى اشتراه. قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «الشركة يا أبا بكر.»
قال أبو بكر: فإني قد أعتقته يا رسول الله!
ومر قوم آخرون من أصحاب النبي بحي آخر من أحياء قريش فيرون - ويا هول ما يرون! - نارا عظيمة قد أججت، ويرون رجلا قد شد وثاقه،
229
ويرون قوما يحملونه ويدنونه من النار حتى توشك أن تحيط به، ثم يختطفونه اختطافا فيبعدون به عن النار، ثم يقيمونه أمامهم مشدودا مقيدا، ثم يتقدم أحدهم فيدفع برجله في صدره دفعة تسقطه إلى ظهره وهم يتضاحكون، ثم يعودون فيفعلون به مثل فعلهم الأول. يقول له قائلهم: اذكر آلهتنا بخير، وقع
230
في محمد ودينه أو لتميتنك هذه النار وهذه الأرض! فلا يسمعون منه إلا: أشهد أن محمدا رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق. وما يزالون يقدمونه إلى النار، ويؤخرونه عنها، ويدفعونه إلى الأرض، ثم يردونه قائما حتى يغشى عليه.
هنالك يقول بعضهم لبعض: أبقوا عليه يا معشر قريش، لا تأتوا على نفسه، فيسألكم عنه حلفاؤه من زهرة.
ويعود أصحاب النبي فينبئون إخوانهم بما رأوا من أمر خباب بن الأرت، وتمضي أمور قريش والمستضعفين من المسلمين على هذا النحو الأيام ثم الأشهر ثم السنين، لا تبلغ قريش من هؤلاء المستضعفين شيئا في دينهم، إلا أن تكون كلمة الله قد حقت على بعضهم فيفتن عن دينه ويكفر بعد إسلام، أو أن يكون الله قد آثر بعضهم بالحسنى فيختاره لجواره، ويجعل له عنده مقاما محمودا.
اجتمعت قريش ذات يوم لأمر عظيم حين انتصف النهار، زعم لها أبو جهل أنه بالغ من ياسر وأهله ما يريد، فقد عذبهم حتى أشفوا على الموت، ولن يتركهم حتى يذكروا آلهة قريش بخير، ويقعوا
231
في محمد بما يكره.
قال عتبة بن ربيعة: هيهات أبا الحكم، إن ياسرا رجل جلد،
232
وإنه ما علمت ليؤثر الموت على أن يبلغك ما ترضى.
قال أبو جهل: فإن ذكر آلهتنا بخير وذكر محمدا بسوء؟
قال عتبة بن ربيعة: هيهات يا أبا الحكم! إنما هي أماني، وما أرى إلا أنك قد أزمعت أن تأتي على نفس هذا الشيخ.
قال أبو جهل: فإن ذكر آلهتنا بخير وذكر محمدا بسوء؟
قال عتبة: فلك عشرون من الإبل.
قال شيبة بن ربيعة: ولك مني مثلها.
قال أبو جهل: إن مالكما عليكما لهين.
قال عتبة: فإن أتيت على نفس ياسر ...
قال شيبة: دون أن تبلغ منه ما تريد ونريد؟
قال أبو جهل: فاحتكما إذن.
قال عتبة: لن نحتكم ولن نرزأك
233
في مالك شيئا، وحسبنا أن تظهر من نفسك على عنادها، وأقبل الذين استخفتهم هذه المخاطرة، فشهدوا عذاب ياسر وسمية وعمار.
ولم تر قريش من العذاب في مكة مثل ما رأت ذلك اليوم، ولكنها على ذلك لم تظفر بشيء مما أملت. أقبل أبو جهل ومعه أصحابه، فرأى الناس أنطاعا من أدم
234
يسع كل نطع منها رجلا وقد ملئت ماء، ورأوا نارا مؤججة ومكاوي قد أحمي عليها، ورأوا تلك الأسرة قد شد وثاق كل منها، وألقي ثلاثتهم في جانب من الطريق كما يلقى المتاع غير ذي الخطر.
فلما بلغ أبو جهل وأصحابه مكان العذاب أمر غلمانه فوضعوا بين يديه ياسرا وسمية وعمارا، وألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله. فألهب أجسامهم بالسياط، ثم أذاقها مس النار، ثم صب عليها قرب الماء، ثم عاد فيهم سيرته مرة ومرة، ثم أمر فغطوا في الأنطاع التي ملئت ماء حتى انقطعت أنفاسهم أو كادت، ثم ردهم إلى الهواء، وانتظر بهم حتى أفاقوا، وتسمع لما ينطقون به بعد أن ثاب إليهم شيء من قوة، فإذا هم يذكرون الله ويثنون على محمد.
قال أبو جهل لسمية وقد بلغ منه الغيظ أقصاه: لتذكرن آلهتنا بخير ولتذكرن محمدا بسوء أو لتموتن، تعلمي أنك لن تري مساء هذا اليوم إلا أن تكفري بمحمد وربه.
قالت سمية بصوت هادئ متقطع قليلا: بؤسا لك ولآلهتك! وهل شيء أحب إلي من الموت الذي يريحني من النظر إلى وجهك هذا القبيح؟!
هنالك تضاحك عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأخرج الحنق أبا جهل عن طوره فجعل يضرب في بطن سمية برجله وهي تقول له في صوتها الهادئ المتقطع: بؤسا لك ولآلهتك! ويجن جنون أبي جهل، فيطعن سمية بحربة كانت في يده، فتشهق شهقة خفيفة ثم تكون أول شهيد في الإسلام.
يقول ياسر: قتلتها يا عدو الله؟! بؤسا لك ولآلهتك! ويقول عمار: قتلتها يا عدو الله! بؤسا لك ولآلهتك! ليمتلئ قلبك غيظا وحنقا! فإن رسول الله قد ضرب لها موعدا في الجنة.
قال ياسر: أشهد أن وعد الله حق.
ولكن أبا جهل لم يمهله، وإنما يضرب في بطنه برجله فيشهق ياسر شهقة، ثم يصبح ثاني شهيد في الإسلام.
قال عتبة وشيبة ابنا ربيعة: ألم تحكمنا إن لم تبلغ من ياسر وامرأته شيئا؟ فسكت أبو جهل، وقال الملأ من قريش: بلى! نحن على ذلك شهداء. قال عتبة: فينبغي أن تطلق هذا الرجل وأن تخلي بينه وبين الحرية ليواري أبويه.
وراح أبو جهل من يومه ذاك إلى أهله مغيظا محنقا منكسر النفس، لا يدري أغاظه أن أفلت منه هذان الشهيدان دون أن يبلغ منهما ما أحب، أم غاظه أن صبرهما وثباتهما وإقدامهما على الموت في غير جزع ولا هلع ولا اضطراب إنما هو انتصار لمحمد ودينه الجديد على قريش ودينها القديم، فأصحاب محمد يموتون في سبيله وفي سبيل دينه، وضعفاء قريش وأشرافها وأحلافها يسعون إلى محمد فيؤمنون له، يستخفي بذلك أكثرهم ويعلن ذلك أقلهم، ولكنهم يسعون إليه ويؤمنون له على كل حال، وهؤلاء المستضعفون وهؤلاء الرقيق الذين كانوا يؤمنون لأشراف قريش بالسيادة ويدينون لهم بالطاعة ويرهبونهم غائبين وشاهدين، قد أخذوا يتمردون عليهم ويثورون بهم وينكرون سيادتهم وسلطانهم، يبادونهم بذلك أحيانا، ويخفون ذلك عليهم أحيانا أخرى، فإذا أخذت منهم قريش هذا الحر أو ذاك الرقيق لم يهابا ولم يرهبا ولم يذعنا ولم يستكينا، وإنما استقبلا العذاب والفتنة وقلوبهما راضية، ونفوسهما مطمئنة، وعلى ثغريهما ابتسامات تحفظ وتملأ النفوس حنقا.
235
أغاظ أبا جهل هذا كله، أم غاظه أن محمدا يسمع ويرى ويعلم من أنباء الفتنة والعذاب ما تعلمه قريش كلها، فلا يهاب ولا يرهب ولا يترك شيئا مما هو فيه من نشر دينه الجديد والدعوة إليه، ثم هو لا يكتفي بذلك وإنما يخرج مع بعض أصحابه فيواسي من يعذبون من أتباعه بما يقول له من هذا الكلام الذي يلتهمونه التهاما، والذي يزيدهم على الفتنة والمحنة صبرا وتثبيتا، وأي سخر من قريش أشد من هذا السخر؟! وأي استفزاز لقريش أشد من هذا الاستفزاز؟! وأي ازدراء لسلطانها أشد من هذا الازدراء؟! وأي استهزاء بالملأ
236
من أشرافها أشد من هذا الاستهزاء؟! وما عسى أن تقول العرب في أقصى الأرض وأدناها حين تعلم أن في جنب قريش شوكة أعيت سادتها وقادتها وذوي أحلامها، فلم يستطيعوا لها انتزاعا، وإنما ثبتت لكيدهم ومكرهم، ثم جعلت تنبت من حولها شوكا صغارا، إن لم تكن مثلها قوة وحدة وأيدا فهي تنشر الأذى وتشيع الألم، وتوشك أن تجعل جسم قريش كله عليلا لا أمل له في برء أو شفاء؟!
أغاظ هذا كله أبا جهل، أم غاظه أن الملأ من قريش رأوا أن شدته لم تغن عنهم ولا عن آلهتهم شيئا، وإنما انتهت إلى القتل الذي لا تحبه قريش، والذي لا يزيد محمدا وأصحابه إلا استمساكا بدينهم وصبرا فيه؟ أم غاظه أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة قد ظفرا به وظهرا عليه وشمتا بما كان يظهر من حزم وصرامة وجد، ويوشكان بعد هذا الإخفاق أن يستأثرا بسمع قريش وقلبها وحبها وقيادها؟
أم غاظ أبا جهل كل هذا مجتمعا؟ لست أدري، ولكني أعلم أنه راح إلى أهله مغيظا محنقا يظهر الغضب ويخفي انكسار النفس، وقد ساء لذلك خلقه، فلم يستطع أحد من أهله أن يقول له شيئا أو يسمع منه شيئا. لم يجلس إلى طعام ولم يسمع لحديث، وإنما خلا إلى نفسه فأنفق ليلة ثائرة حزينة كئيبا لم يذق فيها النوم إلا غرارا.
237
كذلك راح أبو جهل إلى داره، وأنفق ليلته فيها. فأما عمار، فقد حمل إلى داره، وحمل معه أبواه، حملهم قوم من قريش فيهم المسلم وفيهم غير المسلم، قد نسوا أو تناسوا ما بينهم من خصومة، وذكروا أن بينهم مكروبا يجب أن يواسى، وميتين يجب أن يواريا في التراب، وقد نهضوا بهذا كله متعاونين كأحسن ما يكون التعاون؛ فرفقوا بعمار، ولم يكن في حاجة إلى الرفق، وأعانوه على دفن أبويه، وكان إلى معونتهم على ذلك محتاجا.
وعاد عمار بعد أن وارى أبويه إلى داره، وقد تفرق عنه المشركون ، والتأمت حوله جماعة من المسلمين، وكان عمار يجد في جسمه ألم العذاب، ويجد في قلبه حلاوة الإيمان، ويجد في نفسه لذع الحزن على أبويه، يقول له عثمان بن عفان: ما يحزنك عليهما وقد استوفيا نصيبهما من الدنيا، وسبقاك إلى نعيم الله ورضوانه؟ ألم تسمع نبي الله وهو يضرب لكم موعدا في الجنة مرة، ويدعوكم إلى الصبر مرة أخرى، وهو يقول: «اللهم اغفر لآل ياسر.» وقد فعلت؟! قال عمار: صدقت أبا عمرو، ما ينبغي أن أحزن عليهما، وإنما ينبغي أن أستبشر لهما وقد سبقا إلى الجنة، وعدهما بذلك رسول الله، ووعد الله حق.
قال عثمان: فإن رسول الله قد وعدك بما وعدهما به!
قال عمار: هيهات أبا عمرو! لو مت معهما لكنت خليقا أن أرضى، ولكنهما ذهبا وبقيت، وفي الحياة فتنة وفي النفس ضعف، وإنه ليحزنني أن فاتني بهما الموت فأصبحت معرضا لما يتعرض الناس له من الإثم الذي يحبط العمل،
238
ومن السيئات التي تمحو الحسنات.
قال عثمان: ما ينبغي أن تيأس من روح الله ولا أن تقنط من رحمته، وإنك معرض للإثم كما أنك معرض للعمل الصالح، وإنك معرض للسيئات كما أنك معرض للحسنات، وما ينبغي أن تكره الحياة وفيها رسول الله.
قال عمار: أما هذا فنعم، ثم نهض كأنه لا يجد ألما ولا سقما ولا عناء، وكأنما ردت إليه قوته كأقوى ما تكون قوة الرجال، نهض وهو يقول لعثمان وأصحابه: ويحكم! ما يحبسنا عن رسول الله؟! ومضوا إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، فجلسوا مع غيرهم من جماعة المسلمين إلى النبي يسمعون له وهو يعظهم ويزكيهم ويتلو عليهم القرآن.
قال أبو جهل لعتبة بن أبي ربيعة وأخيه شيبة: أما إنكما قد استنقذتما حشاشة عمار من الموت! ولو قد خليتما بيني وبينه لووري في التراب ثلاثة لا اثنان.
قال عتبة: فقد خففنا عنك الوزر أبا الحكم.
قال أبو جهل، وقد ابتسم ثغره عن نية منكرة ورأي بشع: إني لا أحب لعدوي أن يموت؛ لأن ذلك يريحه ويكف عنه بأسي ويرد على قلبي ما فيه من الغل،
239
وإنما أحب له أن يحيا لأذيقه البأس مجددا، ولأجرعه غصص العذاب شيئا بعد شيء، ولا واللات والعزى لا تعرضان بيني وبين عمار منذ اليوم إلا أن تريدا إثارة الشر بين حيكما وبين مخزوم كلها، فقد كان ياسر لنا حليفا، وكانت سمية لنا أمة، وما زلنا نرى عمارا لنا عبدا.
قال شيبة: فإن عمك أبا حذيفة قد أعتق عمارا وأخويه.
قال أبو جهل: فإن لنا ولاءهم على كل حال.
قال عتبة: هو ذاك.
وأضمر أبو جهل في نفسه ما أضمر، وادخر الله لعمار من الكرامة ما ادخر؛ فقد اتصلت فتنة عمار ما أقام بمكة، وافتن أبو جهل في هذه الفتنة حتى جعلها أحاديث. وأول ما قدر من ذلك أن يحفظ على عمار حياته وحريته فلا يأتي على نفسه ولا يلقيه في غيابات السجن، وإنما يجعله لمحمد وأصحابه نكالا، يفتنه كلما أحس الحاجة إلى أن يفتنه، ويعذبه كلما أحس الشوق إلى أن يشهد مشهد العذاب، وكأنه حالف الشيطان على أن يوفي عمارا من العذاب ما لم يستطع أن يصب على أبويه، وأن يظفر منه بما لم يظفر به من ياسر وسمية، فيضطره إلى أن يذكر آلهته بخير وأن ينال من محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأعانه الشيطان على ذلك كله، وأعانه عليه قوم آخرون من سفهاء قريش، فترك عمارا آمنا معافى في نفسه وبدنه ودينه، لم ينله بأذى، ولم يعرض له بسوء، حتى استراح عمار من محنته، وظن أنه قد أمن الفتنة، فكان يغدو على دار الأرقم بن أبي الأرقم، فيسمع من النبي ويتحدث إليه، ثم يروح إلى داره وقد اتخذ فيها ما لم يتخذه مسلم قبله في داره، اتخذ فيها مسجدا يعبد الله فيه أكثر الليل، حتى أنزل الله في ذلك قرآنا:
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب
فيما تحدث به ابن عباس.
ولكن أصحاب النبي يجتمعون ذات يوم في دار الأرقم بن أبي الأرقم حتى إذا ارتفع الضحى افتقدوا عمارا بينهم فلم يجدوه، فإذا ذكروا ذلك أنبأهم النبي
صلى الله عليه وسلم
بأن عمارا يعذب في الله. ثم يمر النبي بعد أن يتقدم النهار بمكان في بطحاء مكة فيرى أبا جهل وقد عاد في عمار سيرته الأولى: نار مؤججة، وماء مجتمع في نطع من الأدم، وعمار قد ألقي بينهما، وجعل السفهاء من قريش ينوشونه بالرماح ويحرقونه بالنار، وعمار صابر صامت يذكر الله في قلبه ويكف لسانه عن القول، فإذا رأى النبي ذلك قال: «يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم.» وقد سلط أبو جهل من النار على عمار أثناء فتنته الطويلة له ما كان خليقا أن يأتي على نفسه، ولكن الله يقول لعباده:
ادعوني أستجب لكم ، وقد دعاه في عمار أحب عباده إليه وأرضاهم عنده، ولله حكمة بالغة، ولكل أجل كتاب.
وقد احتمل عمار من ذلك العذاب ما يطيقه الرجال وما لا يطيقونه، حتى إذا جنحت الشمس لمغربها كف عنه العذاب ورد إلى داره، وأمهله أبو جهل بعد ذلك أياما طوالا حتى ظن عمار أنه لن يفتن مرة أخرى، ولكن أبا جهل لم يمهله إلا ليشتد عليه في الفتنة ويضاعف له العذاب.
ويراه النبي ذات يوم وقد بلغ الحزن من نفسه وقلبه ما لم يبلغه منهما قط، وعيناه تنهلان بدموع غزار، فيدنو النبي منه رفيقا به، فيكفكف دمعه ويمسح عينيه ويقول: ويحك ابن سمية! أخذك الكفار فغطوك في الماء حتى قلت كذا وكذا، فإن عادوا فعد! ولكنهم لم يعودوا من فورهم، وإنما انتظروا بعمار حتى أطعموه في العافية، ثم أخذوه فعذبوه وفتنوه، ثم تركوه. وأقبل عمار على النبي خزيان أسفا تنهل دموعه غزارا على وجه مربد كئيب، فلما رآه النبي قال: «ما وراءك؟» قال عمار وهو ينتحب: شر يا رسول الله، والله ما تركوني حتى ذكرت آلهتهم بخير وذكرتك بما تكره ويحبون. قال رسول الله: «فكيف تجد قلبك؟» قال عمار : أجده مطمئنا بالإيمان، قال رسول الله: «فإن عادوا فعد.» وأنزل الله في ذلك قرآنا:
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .
ولم يخلص عمار من هذه الفتنة المنكرة التي كانت تتلاحق طورا وتتقطع طورا آخر إلا حين أذن الله للمسلمين في الهجرة إلى أرض الحبشة، فهاجر عمار الهجرة الثانية ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة، فعاش مع رسول الله آمنا سالما موفورا.
15
استوثق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لدعوته ولأصحابه ولنفسه من حيي يثرب: الأوس والخزرج، وعاهدهم أن يؤووه وينصروه ويحموا ظهره ويقاتلوا من دونه من بغى عليه أو أراده بسوء حتى يبلغ رسالات ربه، وبايعه على هذا العهد نقباء
240
هذين الحيين: الأوس والخزرج، ثم أذن الله بعد ذلك لرسوله وللمسلمين في الهجرة إلى مستقرهم الجديد، وكان الإسلام قد سبقهم إلى يثرب، بشر به من أرسله رسول الله ليبشر به، فكانت الهجرة إلى دار استقر فيها الإسلام قبل أن يستقر فيها المهاجرون، وقد أذن رسول الله لأصحابه في الهجرة إلى المدينة فجعلوا يذهبون إليها أرسالا، وهو
صلى الله عليه وسلم
مقيم بمكة ينتظر أن يأذن الله له في الخروج، واجتمعت جماعة المسلمين المهاجرين إلى إخوانهم من الأنصار في قباء، وجعلوا ينتظرون أن يقدم عليهم رسول الله، وكانوا في أثناء ذلك يقيمون الصلاة كما كانوا يقيمونها بمكة، وينظر المسلمون فإذا أقرؤهم للقرآن وأحفظهم عن النبي سالم ابن أبي حذيفة، فيقدمونه ليؤمهم
241
في الصلاة، وفيهم أعلام من المهاجرين، منهم عمر بن الخطاب الذي كان إسلامه فتحا، وهجرته نصرا، وخلافته رحمة. كما قال فيما بعد عبد الله بن مسعود.
وينظر المشركون والمنافقون من الأوس والخزرج فيرون هذه الجماعة من المهاجرين والأنصار يقدمون سالما ليؤمهم في الصلاة. فيكبرون من أمر سالم هذا بادئ الرأي، ثم لا يلبثون أن يذكروه ويعرفوه. يقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هذا الرجل الذي يصلي بهذه الناجمة من أصحاب محمد من هاجر منهم إلى المدينة ومن كان من أهلها؟ إنه سالم. ألا تذكرون سالما؟! فيجهد القوم أنفسهم ليذكروه، ولكن بعضهم يعيد عليهم قصة ذلك اليهودي الذي كان يعرض على العرب واليهود صبيا حدثا لا يحسن العربية ولا يفهمها، وما هي إلا أن يسمعوا بدء هذه القصة حتى يستحضروا سائرها، وحتى يروا ذلك الصبي الذي مسه الضر، وظهر عليه البؤس، وزهد فيه العرب واليهود جميعا، واشترته ثبيتة بنت يعار، لا رغبة فيه بل عطفا عليه. ثم يقول بعضهم لبعض: لو عاش سلام بن حبير لرأى من صبيه ذاك عجبا. ثم يقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هذه الناجمة من أصحاب محمد يؤمهم فارسي قد كان بالأمس عبدا؟! ثم يرد بعضهم على بعض رجع هذا الحديث، فيقول: إن لهؤلاء الناس لشأنا، إنهم يسودون العبيد، ويلغون ما بين الأحرار والرقيق من الفروق، وإنا لنرحم قريشا مما ألم بها، وإنا لنعذر قريشا مما فعلت بمحمد وأصحابه، ولو استطعنا لفتناهم كما فتنتهم قريش، ولنفيناهم عن أرضنا كما نفتهم قريش، ولكن هل إلى هذا من سبيل؟
فيقول قائلهم: هيهات! لقد آمن لهم أولو البأس والقوة من قومنا، ولكن فريقا من هؤلاء المتحدثين يسمعون، ثم ينكرون، ثم يؤثرون الصمت، ثم يخلو بعضهم إلى بعض فيستأنفون بينهم حديثا جديدا يعجبون فيه من أمر هذا الذي كان عبدا بالأمس، ثم هو يؤم الأحرار في صلاتهم اليوم. ثم يتتبعون المهاجرين فيرون فيهم نفرا غير قليل من الرقيق الذين أعتقوا، أعتقهم إسلامهم. ثم يتتبعون سيرة الأحرار الأشراف من المسلمين مع هؤلاء الذين ردت عليهم الحرية بعد أن نشئوا في الرق، فيرونها تقوم على الإخاء والعدل والنصفة والمساواة. ثم يتحدثون في ذلك إلى المسلمين من قومهم، فيقول لهم هؤلاء: إن الإسلام لا يفرق بين الحر والرقيق، ولا بين الناس إلا بالتقوى، وبما يقدمون بين أيديهم من البر والخير وعمل الصالحات. هنالك تطمح قلوبهم إلى هذه المساواة التي لم يسمعوا بها من قبل، وإلى هذا العدل الذي لم يألفوه، وإذا هم يميلون إلى الإسلام ثم يسرعون إليه، ثم يحرصون على أن يؤمهم سالم بن أبي حذيفة ذلك الذي كان عبدا بالأمس، فأصبح يؤم الأشراف من قريش ومن الأوس والخزرج حين يقومون بصلاتهم بين يدي الله.
16
بلغ النبي وصاحبه أبو بكر قباء، ونزلا فيها بين جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار، وقد فرح النبي بهجرته إلى المدينة، وفرحت المدينة بهجرته إليها؛ فهي في عيد متصل، والأنصار يستبقون إلى بر النبي وأصحابه من المهاجرين؛ يؤوونهم، ويقومون بحاجاتهم، ويطرفونهم بما يستطيعون أن يطرفوهم به من الطيبات. وقد تقدم النهار وصليت الظهر، وأقبل رجل من الأنصار فوضع بين يدي النبي رطبا، وجعل النبي وصاحباه أبو بكر وعمر يصيبون من هذا الرطب، وإنهم لفي ذلك وإذا شخص يرفع لهم،
242
ثم يدنو منهم، ثم يسلم عليهم، ثم يجلس إليهم، وإذا هو صهيب سابق الروم إلى الإسلام، كما قال فيه رسول الله.
وقد أقبل صهيب مجهودا مكدودا قد بلغ منه الإعياء، وكاد يأتي عليه الجوع، وقد أصابه في طريقه رمد، فهو لا يكاد يرى إلا في مشقة أي مشقة، وقد ألقى تحية إلى أصحابه، ثم ألقى نفسه على الأرض، ثم نظر فرأى الرطب فانكب عليه وجعل يأكل منه أكلا غير رفيق. يقول عمر بن الخطاب للنبي
صلى الله عليه وسلم : ألا ترى يا رسول الله إلى صهيب يأكل الرطب وهو رمد؟ فيقول له النبي: «أتأكل الرطب وأنت رمد؟!» فيقول صهيب وهو يمعن في الأكل: إنما آكله بشق عيني الذي لم يرمد؛ فيبتسم رسول الله ويضحك القوم.
ويمضي صهيب في أكل غير رفيق، حتى إذا أرضى حاجته إلى الطعام جعل يعاتب أبا بكر، فيقول: وعدتني الصحبة ثم تركتني. ثم يعاتب النبي فيقول: ووعدتني يا رسول الله الصحبة ثم تركتني، والله ما خلصت إليك حتى اشتريت نفسي من قريش بمالي أجمع، وما تركت مكة إلا بمد من دقيق عجنته بالأبواء وعشت عليه حتى انتهيت إليك. فيجيبه رسول الله: «ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع!» وينزل الله هذه الآية الكريمة:
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد ، وقد أوجز صهيب قصة هذا البيع الرابح.
وقد كان من أخلاق المسلمين الصادقين ألا يتكبروا ولا يمنوا بإسلامهم، وقد ثابت قريش بعض الشيء إلى نفسها بعد أن فاتها محمد وأبو بكر، وجعلت تتتبع من بقي من أصحاب محمد، تحبسهم عن الهجرة، وتمسكهم في العذاب، وتفتنهم في دينهم، وتصدهم عن سبيل الله، وكان صهيب من الذين حبستهم قريش، يقول له أبو جهل وقد ورم أنفه وذهب به الغيظ كل مذهب: أتيتنا صعلوكا حقيرا لا تملك من الدنيا شيئا، فأثريت عندنا وأصبحت ذا مال، ثم أنت تريد أن تفوتنا بمالك ونفسك إلى محمد وأصحابه؛ قال صهيب: فإن خليت بينكم وبين مالي أتخلون بيني وبين ما أريد من الهجرة؟ قالوا: نعم. وقال أبو جهل: هيهات! إن حاجتنا إلى مالك ليست أقل من حاجتنا إلى نفسك، فلنمسكنك في العذاب حتى نأخذ مالك، ثم نأتي على نفسك، أو تعود من ديننا إلى ما كنت عليه.
قال صهيب وفي صوته حزن مر: لو عاش عبد الله بن جدعان لما بلغت مني ما ترى.
قال أبو جهل: سنلحقك بعبد الله بن جدعان فاشكنا إليه إن شئت، ألستم تزعمون أن الناس يحيون حياة ثانية بعد حياتهم هذه الأولى؟! فالق عبد الله بن جدعان هناك إن شئت فاشكنا إليه.
قال صهيب: هيهات! لن ألقاه، قد وعدني رسول الله الجنة، وهو في النار.
قال أبو جهل، وقد استأثر به الغيظ فسطا على صهيب وضرب في وجهه ضربا عنيفا: ألا تسمعون يا معشر تيم؟! إن سيدكم عبد الله بن جدعان في النار، وإن عبده هذا الرومي سيصير إلى الجنة! ما رأيت كاليوم حمقا ولا خرقا.
ولبث صهيب في حبسه أياما لا يرزق من الطعام إلا ما يعصمه من الموت، ولكن الإسلام كان في ذلك الوقت قد فشا في أحرار مكة ورقيقها، فيحتال بعض أولئك وهؤلاء، وإذا صهيب قد انسل من محبسه، وركب راحلته، وأخذ طريقه إلى المدينة.
وعلمت قريش بأن صهيبا قد انسل من محبسه ، وبأنه يوشك أن يفوتها، فترسل في أثره الخيل، ويدرك القوم صهيبا، ولم يمض في طريقه إلا قليلا، فلما رآهم قد أقبلوا، وعلم أنهم يوشكون أن يأخذوه، وأن يردوه إلى الفتنة والعذاب، وقف لهم، ونثر ما في كنانته من السهام، وقال لهم في صوت الحازم المصمم: علمتم يا معشر قريش أني من أرماكم رجلا، وإنكم والله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل ما بين يدي من سهم، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه شيء في يدي، فاختاروا بين الموت وبين مالي أدلكم عليه، فتأخذونه وتخلون بيني وبين الطريق.
ولم يطل تفكير قريش ولا ائتمارها، وإنما آثروا العافية والسلامة والمال، فقالوا: قد رضينا، فدلنا على مالك. فأنبأهم بمكانه وانصرفوا عنه، ومضى هو في طريقه حتى بلغ رسول الله وقد أدركه من الجهد والكد ومن الظمأ والجوع ما كاد يأتي عليه.
17
هاجر عبد الله بن مسعود إلى المدينة، كما هاجر إليها غيره من المهاجرين، فنزل على معاذ بن جبل أو على سعد بن خيثمة، يختلف رواة السيرة في ذلك، وأقام عبد الله عند مضيفه حتى خط رسول الله للناس دورهم في المدينة، فخط لبني زهرة في مؤخر المسجد، وقال حي منهم للنبي: نكب عنا ابن أم عبد. كأنهم كرهوا نزوله بينهم. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «فلم يبعثني الله إذن؟! إن الله لا يقدس قوما لا يعطى الضعيف منهم حقه.» ثم أنزله منزله بينهم كريما.
ولم يكد عبد الله يستقر في المدينة حتى كان ألزم الناس للنبي، وأشدهم اتصالا به في حياته العامة والخاصة، يحجبه
243
إذا دخل داره، ويسعى بين يديه إذا خرج منها، وكان أصحاب الحديث يقولون: إن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله ووساده ونعليه وطهوره.
كان أثناء الإقامة يقوم على حجرته حاجبا، لا يخفي النبي عليه من سر إلا ما يؤمر بإخفائه، فإذا هم النبي أن يخرج ألبسه نعليه، ومشى بين يديه بالعصا، حتى إذا جلس نزع نعليه فأدخلهما في ذراعه وأعطاه العصا، فإذا أراد أن يقوم ألبسه نعليه وأخذ منه العصا فمشى بها بين يديه حتى يبلغ الحجرة فينحي ستارها ويدخل قبل النبي، حتى إذا دخلها النبي نزع نعليه وخرج فقام أمام الستر حاجبا، فإذا خرج النبي في السفر فابن مسعود صاحب وساده إذا نام، وصاحب طهوره كلما أراد الوضوء، وكان النبي إذا أراد أن يغتسل في بعض سفره قام ابن مسعود من دونه يستره، حتى لم يشك كثير من أصحاب النبي أن ابن مسعود كان من أهل بيته، فليس غريبا إذن أن يكون أحفظ الناس للقرآن وأكثرهم سماعا عن النبي. ثم أصبح بعد النبي أكثر الناس تعليما للقرآن وأقلهم رواية لحديث النبي، يتألم من ذلك ويخافه أشد الخوف. وكان النبي يؤثره ويكبره ويدافع عنه ويشيد به، حتى قال ذات يوم: لو كنت مؤمرا أحدا دون شورى المسلمين لأمرت ابن أم عبد.
وأمره ذات يوم أن يصعد في شجرة فيجني له من ثمرها، فلما جعل يصعد في الشجرة نظر أصحاب النبي إلى دقة ساقه وحموشتها
244
فضحكوا، قال رسول الله: مم تضحكون؟! قالوا: من دقة ساقه. قال رسول الله: لهي أثقل في الميزان من أحد.
وظل صاحب سر النبي ووساده وطهوره، حتى إذا اختار الله النبي لجواره وخرجت جيوش المسلمين غازية إلى الشام خرج فيها غازيا، كأن مقامه بالمدينة قد شق عليه بعد أن توفي خليله، وأقام بحمص ما شاء الله أن يقيم، حتى حدره
245
عمر إلى الكوفة.
18
أقبل النذير فملأ قلوب قريش ذعرا حين أنبأها بأن أبا سفيان يستغيثها ويستنفرها
246
ويعلمها أن محمدا قد خرج بأصحابه من المدينة يستعرض العير. ولم يتقدم النهار حتى كانت قريش قد نفرت، وجعلت تجهز جهازها للحرب، يتنافس أشرافها في ذلك أي تنافس، ويستبقون
247
إليه أي استباق. واستيقن أبو جهل أن قد جاء الوقت الذي كان ينتظره منذ أعوام طوال، وأن قريشا لن تخرج لتحمي العير فحسب، وإنما تخرج لتسحق محمدا وأصحابه، وتريح منهم مكة ويثرب جميعا. وقد جاء النبأ بعد أن خرجت قريش بأن أبا سفيان قد ساحل بالعير
248
حتى أحرزها
249
من محمد وأصحابه، وأن قريشا تستطيع أن تعود إلى مكة، فتنعم فيها بالسلم والعافية، ولكن قريشا أبت أن تعود كما خرجت، وزين لها الشيطان بلسان أبي جهل أن تمضي حتى تأتي بدرا فتنزل بها منتصرة مظهرة للعرب أنها ما زالت قريشا صاحبة العز والمجد والسؤدد، ثم تنحر فتطعم وتشرب وتطرب وتشرك العرب في طعامها وشرابها وطربها ولهوها، ويعلم محمد وأصحابه أن كلمة هبل
250
ما زالت عالية، وأن عز قريش لا يرام.
وخرج سهيل بن عمرو فيمن خرج من أشراف قريش، وقد جعل إلى ابنه عبد الله ماله وحملانه
251
يسعى بها بين يديه، وكان سهيل قد فتن في دينه حين عاد من هجرته إلى أرض الحبشة، أخذه أبوه فأوثقه وحبسه وفتنه حتى استيقن أنه قد عاد إلى دين آبائه وآثر قريشا على محمد، فلما خرج مع الملأ من قريش قدم ابنه بين يديه فخورا به معتمدا عليه. وتراءى الجمعان ببدر، ونظرت قريش فإذا محمد في قلة من أصحابه، فامتلأت عجبا وتيها، ونظر النبي فإذا قريش قد أقبلت بقضها وقضيضها،
252
فاستنجز الله وعده، واستنزل نصره، وتضرع إليه في أن يثبت قلوب المؤمنين. وتدانى الجمعان.
ولكن قريشا تنظر فترى عجبا، ولكن المسلمين ينظرون فيرون عجبا؛ ترى قريش فتى من أقوى شبابها قوة وأنضرهم نضرة وأشدهم بأسا يخرج من صفها وينحاز إلى محمد، ويرى المسلمون - والمهاجرون منهم خاصة - صديقا لهم قد عرفوه وأحبوه، ثم حزنوا عليه حين ظنوا - كما ظنت قريش - أنه قد عاد إلى دين آبائه. وتتساءل قريش عن هذا الفتى، وتتساءل كثرة المسلمين عن هذا الفتى، ثم يعرف أولئك وهؤلاء أنه عبد الله بن سهيل بن عمرو، خدع المشركين عن أنفسهم وعن نفسه، وانتفع بما أنزل الله في أمر عمار بن ياسر:
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .
فهو لم يكفر بقلبه، ولم يشرح بالكفر صدرا، ولكنه وجد قلبه كما وجد عمار قلبه حين فتنته قريش مطمئنا بالإيمان، وقد قال النبي لعمار: إن عادوا فعد. وفهم عبد الله بن سهيل آية القرآن وحديث النبي على وجهيهما، فلما أحس الفتنة من أبيه أظهر له ولقريش ما أرضاهم وأخفى عليه وعلى قريش ما أرضى الله، وها هو ذا يخرج من صفوف قومه وينحاز إلى صف المسلمين، ثم يسعى حتى يبلغ النبي فيهدي إليه سلامه، ويتلقى منه بركته، ثم يخرج إلى أصحابه من المهاجرين فيزحف معهم لقتال قريش وفيهم أبوه.
ويلقى أثناء الزحف أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، زوج أخته سهلة، فإذا قص عليه قصته أثنى أبو حذيفة عليه وقال خيرا، ولم يزد على ذلك شيئا. وقد تدانى الجمعان، حتى لم يبق إلى تدانيهما سبيل إلا بسيف أو رمح، ولكن قريشا تنظر فترى عجبا، والمسلمون ينظرون فيرون عجبا: يرون فتى يصول في الميدان بين الصفين يدعو عتبة بن ربيعة للمبارزة، ويخرج عتبة للفتى، ولكنه لا يكاد يراه حتى ينصرف عنه وقد ملأ الغيظ قلوب قريش وملأ الإعجاب قلوب المسلمين: رأى أولئك وهؤلاء أبا حذيفة يدعو أباه للمبارزة، ويبلغ هند بنت عتبة وزوج أبي سفيان أن أباها وأخاها الوليد وعمها شيبة قتلوا، وأن أخاها أبا حذيفة قد دعا أباه للقتال، فتقول في هذا كله فتكثر القول، وتهجو أخاها أبا حذيفة بهذين البيتين:
الأحول الأثعل المشئوم طائره
253
أبو حذيفة شر الناس في الدين
أما شكرت أبا رباك من صغر
حتى شببت شبابا غير محجون
254
وشهد الوقعة فيمن شهدها من المهاجرين: عبد الله بن مسعود، وكان خفيفا نحيفا ضئيل الشخص، قليل اللحم، موفور النشاط، سريع الحركة، لا يكاد يرى في مكان حتى يرى في مكان غيره، شأنه في قريش المحاربة كشأنه في قريش بمكة حين كانت تفتن المسلمين، وهو يعدو هنا ويعدو هناك، ويطير في الميدان من مكان إلى مكان. وإنه لفي بعض ذلك وإذا هو يرى ابني عفراء قد صرعا أبا جهل وأثبتاه،
255
فيسرع إليه ابن مسعود ويدركه وفيه رمق يتيح له أن يرى وأن يسمع وأن يعقل، ويتيح له أن يتكلم في بعض الجهد، فيجلس ابن مسعود على صدره وهو يقول: ها قد أخزاك الله يا عدو الله!
قال أبو جهل في صوته المتهالك المتقطع: ها أنت ذا يا راعي الغنم! لقد ارتقيت مرتقى صعبا.
قال ابن مسعود: لقد أخزاك الله بما قدمت إلى المسلمين من شر، فذق عذاب الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد بأسا وأعظم تنكيلا. ثم يحتز رأسه، ثم يمضي خفيفا مسرعا، فينبئ النبي بمقتل أبي جهل. قال النبي: الله الذي لا إله غيره؟! قال ابن مسعود: الله الذي لا إله غيره. فكبر النبي وكبر من حوله من المسلمين، ووقف النبي بعد ساعة على صرعى قريش وقد ألقوا في القليب فقال: «يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.» قال بعض أصحاب النبي: إنهم موتى يا رسول الله! قال: «إنهم ليسمعون كما تسمعون إلا أنهم لا ينطقون.»
19
كان بلال من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان أول من أذن في الإسلام، وقد جعل النبي الأذان إليه حين نظمت جماعة المسلمين، وليس من شك في أن قد كان بين العرب من المهاجرين والأنصار من كان أندى صوتا من بلال، وربما كان بينهم كذلك من كان أفصح منه لغة وأنصع منه منطقا! ولكن الله يؤتي فضله من يشاء.
وقد عرف رسول الله لبلال سبقه إلى الإسلام وسبقه إلى الأذان، فجعله صاحب أذانه ما أقام في المدينة، فإذا غاب عنها أذن مكانه أبو محذورة، فإذا غاب أبو محذورة وبلال أذن مكانهما عمرو بن أم مكتوم. وكان بلال يتحرى الوقت بالأذان فلا يؤخره، فإذا فرغ من أذانه أقبل حتى وقف على باب رسول الله ليؤذنه، وقال: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يا رسول الله. ثم تنحى وقام ينظر، حتى إذا خرج رسول الله ورآه بلال أخذ في الإقامة، وكان بلال يسعى بالعنزة
256
بين يدي رسول الله في العيدين وفي الاستسقاء، حتى إذا بلغ المصلى ركز العنزة بين يدي رسول الله فصلى إليها.
وكان النبي يحب بلالا أشد الحب ويكبر من شأنه، ويريد أن يكبر الناس من شأنه. جاءته أسرة عربية تطلب إليه أن يزوج ابنتها من رجل عربي سمته، فقال لهم النبي: فأين أنتم عن بلال؟ فانصرف القوم من يومهم ذاك ولم يقولوا شيئا، ثم أقبلوا من غد على النبي، فطلبوا إليه ما طلبوا أمس، فقال لهم مثل ما قال أمس: أين أنتم عن بلال؟ فانصرف القوم ولم يقولوا شيئا. ثم أقبلوا من الغد فطلبوا إليه ما طلبوا إليه أمس وأول من أمس، فقال لهم مثل ما قال في المرة الأولى وفي الثانية: أين أنتم عن بلال؟ ثم زاد: أين أنتم عن رجل من أهل الجنة؟ فزوجوه.
وعرف الناس أن رسول الله لا يمايز بين المسلمين إلا بالتقوى والعمل الصالح وما يقدمون بين أيديهم من الحسنات. وأكبر الناس بلالا كما أكبره رسول الله، حتى كان عمر بن الخطاب يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا - يريد بلالا. وكان هذا كله خليقا أن يرضي بلالا عن نفسه شيئا، ولكن بلالا لم يرض عن نفسه قط، وإنما كان صادق التواضع مستصغرا لنفسه مهما يفعل. أقبل مرة يريد الأذان، فأحس شيئا من رضا عن نفسه، فغاظه ذلك وأنطقه بكلام كان يريد أن يكون شعرا فلم يستطع، أصاب الوزن وأخطأ القافية:
ما لبلال ثكلته أمه
وابتل من نضح دم جبينه
وكان الناس من المسلمين يأتون فيتحدثون إليه، ويذكرون ما آتاه الله من الفضل، وما اختصه به من الكرامة، فلا يزيد على أن يقول: إنما أنا حبشي، وقد كنت بالأمس عبدا.
وأقبل المسلمون يوم الفتح فدخلوا مكة ظافرين، وثابت قريش إلى الإسلام طوعا أو كرها، وعفا رسول الله عن مسيئيها، وقال لهم ما قاله يوسف لإخوته:
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
وحطم الأصنام، وطهر الكعبة، وأخلصها لله عز وجل، ثم قال لبلال: اصعد فأذن على ظهر الكعبة، وصعد بلال فأذن على ظهر الكعبة والحارث بن هشام وصفوان بن أمية قاعدان، يقول الحارث بن هشام لنفسه في أعماق نفسه: كيف لو رأى أخي عمرو بن هشام بلالا هذا قائما على ظهر الكعبة؟ ويقول صفوان بن أمية لضميره في أعماق ضميره: كيف لو رأى أبي أمية بن خلف هذا العبد الذي طالما عذبه وأدبه قائما على ظهر الكعبة؟ ولو استطاع الرجلان لاكتفى كل منهما بالحديث إلى نفسه، ولكنهما يريان الكعبة وقد زال عنها هبل، وزالت اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وقام على ظهرها حبشي يعلن دين محمد إلى قوم طالما حاربوا محمدا وأصحابه، وليس منهم الآن إلا من يستجيب لدعوة محمد راضيا أو كارها.
ينظر الرجلان إلى الكعبة وقد طهرت من الأوثان، وإلى هذا الحبشي القائم على ظهرها، فلا يملك أحدهما إلا أن يهمس في أذن صاحبه: ألا ترى إلى هذا الحبشي؟! قال ذلك في صوت تملؤه الحسرة، ويجيبه صاحبه في صوت خافت تشيع فيه السخرية المرة: إن يكرهه الله يغيره. وبلال قائم على ظهر الكعبة يرفع صوته الندي قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
وأذن بلال في المدينة للمسلمين، فاستجابت له قلوبهم محزونة، وأغرقت جماعتهم في نحيب مر ارتج له المسجد حين قال بلال، وصوته يكاد يحتبس في حلقه: «وأشهد أن محمدا رسول الله.» وذلك أن النبي كان روحه قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وكان جسمه لم يقبر بعد. فلما دفن
صلى الله عليه وسلم
وتمت البيعة لأبي بكر، قام إليه بلال، فقال: أي خليفة رسول الله! إن كنت قد اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت قد اشتريتني لله فذرني وعملي لله.
قال أبو بكر: ما تشاء يا بلال؟
قال بلال: إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يذكر أن أفضل عمل العبد جهاده في سبيل الله، فخل بيني وبين الجهاد.
وأراد أبو بكر أن يرده عن نيته تلك فلم يستطع، وانصرف بلال إلى الشام فرابط
257
فيها غازيا حتى توفي في دمشق عام عشرين.
20
وأقبل عمار بن ياسر إلى المدينة مهاجرا فنزل على مبشر بن عبد المنذر، وآخى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بينه وبين حذيفة بن اليمان، وأقام عمار عند مضيفه مبشر حتى أقطعه رسول الله موضع داره، وحتى بناها ثم انتقل إليها. وكان عطف النبي على عمار شديدا وحبه له قويا عميقا، وكان عمار يحس هذا الحب وذلك العطف، فيدفعه هذا الإحساس إلى تحمس في الإسلام كان يمتاز به من أكثر المسلمين، حتى كانت الأنظار تتجه إليه، وكانت النفوس كثيرا ما تفكر فيه، وربما لهجت به بعض الألسنة أحيانا، وكان عمار يتحامل على نفسه ويأخذها من الجهد في سبيل الله بأكثر مما كانت عامة المسلمين تأخذ به أنفسها.
أخذ رسول الله في بناء مسجده، واشترك المسلمون في هذا البناء، يرون اشتراكهم فيه خيرا لأنفسهم وبرا بها، ولم يكن رسول الله أقلهم جهدا ولا أيسرهم عناء في هذا البناء، فكان يحمل معهم اللبن
258
حتى يغبر وجهه الكريم وحتى يكثر عليه التراب. وكان المسلمون يحملون اللبن لبنة لبنة إلا عمارا فكان يحمل لبنتين لبنتين، وكان ينفق في ذلك من النشاط والمرح والرضا ما كان يملأ قلوب المسلمين إعجابا به، وقلوب المنافقين حقدا عليه، وكان يحمل لبناته وهو يتغنى: «نحن المسلمين نبتني المساجدا.» وربما رق قلب رسول الله لعمار، فيقبل عليه ويرفق به ويتلطف له، ويمسح عن وجهه وصدره التراب، حتى قال له ذات يوم وهو يمسح التراب عن وجهه: «ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.» ووقعت هذه الكلمة من قلوب المسلمين موقعا غريبا، فنقشت في ضمائرهم وملأت نفوسهم هيبة لعمار وإكبارا له، ولم يقل النبي هذه الكلمة لعمار مرة واحدة، وإنما قالها له فيما يظهر غير مرة؛ قالها له في أثناء بناء المسجد، وقالها له بعد سنتين حين احتفر الخندق، وكان بلاء عمار في حفر الخندق مضاعفا كبلائه في بناء المسجد، وكان النبي يعمل مع أصحابه في حفر الخندق كأحد منهم، يحمل التراب والحجارة ويتغنى وهم يردون عليه:
لاهم
259
إن العيش عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة.
وأقبل مقبل فزعم أن حائطا سقط على عمار فمات، فقال النبي : لم يمت عمار. ثم لقي عمارا، فقال له: «ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.» وملأت هذه الكلمة قلب عمار يقينا وثقة وحرصا على أن يعمل صالحا ما وسعه العمل، وعلى أن يجتنب الفتنة ما وسعه اجتنابها، وكان يطيل الصمت ولا يتكلم إلا حين لا يكون من الكلام بد، وكان كثيرا ما يقطع صمته بهذه الكلمات: عائذ بالله من فتنة! ثم يعود إلى صمته العميق.
وأقبل خالد بن الوليد ذات يوم بعد أن أسلم، فكان بينه وبين عمار شيء من خصومة، فأغلظ خالد لعمار في القول - وكأنه ذكر سمية التي كانت أمة لعمه أبي حذيفة، وياسر الذي كان حليفا لعمه أبي حذيفة، وكأنه ذكر عمارا بأنه عتيق عمه أبي حذيفة، وكانت في خالد بقية من كبرياء مخزوم، وكان فيه فضل من صلف
260
قريش - فجاء عمار إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
يشكو خالدا، وأقبل خالد أثناء ذلك فجعل يقول لعمار وعمار ساكت والنبي مطرق، ثم رفع النبي رأسه وقال في صوته الوادع العذب الذي ينفذ إلى القلوب: «من عادى عمارا فقد عاداني.» فخرج عمار كأرضى ما يخرج الناس، وخرج خالد مهموما مغتما كئيب النفس، فلم يسترح حتى أرضى عمارا، ووثق بأنه عفا له عما أسلف إليه من سوء.
21
عادت العرب إلى كفرها بعد وفاة النبي، وجد أبو بكر وجد معه الأنصار والمهاجرون في ردهم إلى الإسلام طائعين أو كارهين، وخرج خالد بن الوليد بجيش أبي بكر إلى اليمامة يقاتل مسيلمة، ويرد بني حنيفة إلى الإسلام. والتقى المسلمون وأهل الردة، فكانت بينهم موقعة من أشد ما عرف المسلمون من المواقع، وكان في الجيش أربعة نفر كلهم شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله: عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وابنه قديما ومولاه حديثا سالم بن سالم، وأخو امرأته عبد الله بن سهيل بن عمرو. وقد انكشف المسلمون وكادت الدائرة تدور عليهم، ولكن الناس يرون هؤلاء النفر قد ثبتوا في أماكنهم لا يريمون. فأما سالم فجعل يصيح بالناس: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله! ثم احتفر حفرة فأثبت فيها قدميه، وصنع أبو حذيفة وعبد الله بن سهيل صنيعه فاستشهدوا جميعا في أماكنهم.
وأما عمار فقد رآه الناس قائما على صخرة وقد قطعت أذنه فهي تتذبذب، وهو يصيح بالمسلمين: إلي أيها المسلمون أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟! وما زال بهم يدعوهم وقد ثبت على صخرته لا يزول حتى ثاب إليه المسلمون، وأنزل الله عليهم نصره.
ويبلغ أبا بكر موت سالم، فيدفع تراثه إلى صاحبة ولائه ثبيتة، فترده وتقول: سيبته لله عز وجل. فإذا ولي عمر الخلافة دفع تراث سالم مرة أخرى إلى ثبيتة صاحبة ولائه، فترده وتقول: سيبته لله عز وجل. ويضعه عمر في بيت المال.
وأقبل أبو بكر في أثناء خلافته حاجا، فلما دخل مكة جاءه سهيل بن عمرو مسلما، فعزاه أبو بكر بابنه عبد الله الذي قتل في اليمامة شهيدا. قال سهيل: لقد بلغني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: يشفع الشهيد لسبعين من أهله؛ فأنا أرجو ألا يبدأ ابني بأحد قبلي.
22
لم يكد عمر ينهض بأمور المسلمين بعد صاحبه حتى مضى في سياسة الفتح التي ابتدأها من قبله. لم يهن ولم يضعف، ولم يتح لأحد من الناس أن يهن أو يضعف، وإنما رمى العالم القديم المتحضر بثقل العرب، فلم يثبت له العالم المتحضر إلا ريثما تداعى ثم انهار. وكان عمر لا ينام ولا ينيم، وإنما كان يقظا دائما، موقظا دائما، عاملا دائما، دافعا غيره إلى العمل، وقد فتح عمر للذين أسلموا بأخرة من عامة العرب ومن خاصة قريش أبواب الجهاد على مصاريعها، وألقى في روعهم جميعا أن من فاته ثواب الغزو مع النبي
صلى الله عليه وسلم
فلم يشهد معه بدرا ولا أحدا ولا الخندق ولا غيرها من المشاهد، فإن أمامه ملك الروم وفارس يستطيع أن يستدرك فيهما ما فاته من حسن البلاء. وأي بلاء أحسن من أن يكون الرجل قد تقدمت به السن، والرجل لم يكد يخرج من شبابه، والفتى لم يكد ينضو عنه ثوب الصبا، وسيلة إلى تحقيق وعد الله - عز وجل - وتصديق قوله:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ؟!
لقد اندفعت العرب حين دفعها عمر، فلم تجد أمامها صعوبة إلا قهرتها، ولا عقبة إلا ذللتها، ولا مقاومة إلا جعلتها هباء.
ولم يكن أصحاب رسول الله والذين شهدوا معه المشاهد منهم خاصة أقل اندفاعا إلى الجهاد واستباقا إلى الغزو من الذين أسلموا بأخرة، ولم يكن عمر يصدهم عن ذلك أو يردهم عنه، وإنما كان يخلي بينهم وبين ثواب الله يطلبونه ما وجدوا إليه سبيلا، إلا أولئك الأشراف من قريش، فإنه أمسكهم في المدينة ولم يأذن لهم بالخروج، خاف من عامتهم على الناس، وخاف على خاصتهم من الفتنة، وكان أشراف الصحابة من قريش إذا أراد أحدهم أن يخرج للجهاد أبى عليه عمر، وقال: قد غزوت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما يجزئك.
أما المستضعفون من أصحاب النبي من قريش ومن غير قريش فلم يخف عمر منهم، ولم يخف عليهم فتنة، فخلى بينهم وبين ما أرادوا من الجهاد وما ابتغوا من فضل الله. وكذلك انطلق بلال وأبو ذر وابن مسعود إلى الشام، وانطلق غيرهم إلى العراق، وأقام في المدينة من أمسكه ضعف الجسم أو أمسكته سياسة عمر، وأقبل خباب بن الأرت ذات يوم مسلما على عمر ومستأذنا في أكبر الظن في اللحاق بجيش من جيوش العراق، فيهش له عمر ويستدنيه، ويجلسه على متكئه، ويقول: ما على الأرض أحد أحق منك بهذا المجلس إلا رجلا واحدا.
فيقول خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟
قال عمر: بلال. وروى بعضهم أنه قال: عمار بن ياسر.
قال خباب: ما هو بأحق مني، لقد كان له من قريش من يمنعه ويقوم دونه، فأما أنا فلم يكن لي أحد، ولقد رأيتهم ذات يوم أخذوني، ثم أوقدوا لي نارا فسلقوني فيها، ثم يقبل رجل فيضع رجله على صدري، فوالله ما اتقيت برد الأرض إلا بظهري، ثم يرفع رداءه ليرى عمر ما بقي في ظهره من آثار العذاب، وينظر عمر وينظر من حضر من المسلمين، فيرون شرا مروعا؛ يرون أن ظهره قد برص.
لم تمنعه الفتنة من أن يشهد مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها، ثم لم يكفه ذلك حتى أبى إلا أن يجاهد، كأنه رأى أنه لم يلق في سبيل الله مع هذا كله ما ينبغي أن يلقى من الجهد والمشقة والعناء. وقد انحدر إلى العراق فغزا مع الغازين، وجاهد مع المجاهدين، ورابط في الكوفة حتى أدركته الشيخوخة واشتد عليه الداء، وأقبل نفر من أصحاب رسول الله يعودونه، وقد اكتوى في بطنه سبع كيات وبرح به الألم كل تبريح، فلما دخلوا عليه رأوا رجلا مروعا قد ملك الخوف والحزن عليه أمره، يقول لعواده من أصحاب النبي: لولا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نهانا أن نتمنى الموت لتمنيته، ثم يسكت صوته، ويسكن جسمه، وتنهل دموعه على وجهه غزارا.
فيعزيه عواده من أصحاب النبي يقولون له: أبشر أبا عبد الله، إخوانك فلان وفلان وفلان، تقدم عليهم غدا. فيغرق في البكاء حتى ما يستطيع كلاما، ثم يثوب إليه شيء من هدوء، فيقول في صوته الضعيف النحيف المتقطع: أما إنه ليس بي جزع، ولكن ذكرتموني أقواما وسميتموهم لي إخوانا، وإن أولئك مضوا بأجورهم كما هي، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم. ثم تأخذه غشية تكف لسانه عن النطق حتى يظن أنه قد قضى أو كاد، ثم يرد إليه شيء من حياة فينظر فإذا كفنه قد أحضر، وإذا هو من قباطي، فيبكي ويقول: لكن حمزة عم النبي
صلى الله عليه وسلم
كفن في بردة، فإذا مدت على قدميه قلصت
261
عن رأسه، وإذا مدت على رأسه قلصت عن قدميه، حتى جعل عليه إذخر،
262
ولقد رأيتني مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما أملك دينارا ولا درهما ، وإن في ناحية بيتي في تابوتي
263
لأربعين ألف واف، ولقد خشيت أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا.
يقول بعض أولئك الرهط لبعض حين انصرفوا عنه: ألا ترون إلى خباب على كثرة ما احتمل وعلى كثرة ما عمل يخشى أن يلقى الله فقيرا ليس له كبير حظ من الصالحات!
فيقول قائلهم: وما يريبكم من ذلك؟! ألم تعلموا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال للمرأة التي زعمت أن الله قد أكرم عثمان بن مظعون بعد موته: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟! إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي!»
ولم يمنع المرض الموجع ولا الحزن اللاذع ولا الخوف من لقاء الله خبابا من أن يكون معلما ناصحا للمسلمين حتى في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، كان الناس يدفنون موتاهم في جبابينهم قريبا من دورهم، فيقول خباب لابنه حين أحس الموت: يا بني إذا أنا مت فادفني بهذا الظهر؛ فإن الناس إن رأوا ذلك قالوا: صاحب من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يدفن بظهر الكوفة، ثم دفنوا موتاهم خارج المدينة.
ومات خباب وصلى عليه علي رحمه الله، ودفن بظاهر الكوفة، فدفن الناس موتاهم حول قبره.
23
مضى صهيب بعد الإسلام على ما كان يمضي عليه من سيرته في الجود والكرم قبل أن يسلم، وكثر المال عنده بعد الفتوح، فكثر عطاؤه وسخاؤه، حتى تحدث بأمره الناس، وكان لا يستقبل ليله إلا جمع خلقا من الناس كثيرا حول طعام كثير، فجعل الناس يذكرون كرم أبي يحيى وسخاء أبي يحيى وبر أبي يحيى، وسمع ذلك عمر فقال: من أبو يحيى هذا الذي يذكرون؟ قالوا: صهيب.
قال: لصهيب ابن يكنى به؟!
قال الناس: إنه يكنى أبا يحيى، وإنه يطعم الطعام الكثير، كما كان أجواد العرب من قومه يفعلون.
قال عمر: وإن صهيبا لمن العرب؟
قالوا: بذلك يحدثنا. فسكت عمر ولم يقل شيئا، حتى إذا كان ذات يوم في المسجد والناس من حوله كثير وفيهم صهيب، دعاه إليه وقال له: ما لك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد، وتقول إنك من العرب وأنت رجل من الروم، وتطعم الطعام الكثير وذلك سرف في المال؟!
فقال صهيب: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كناني أبا يحيى، وأما قولك في النسب وادعائي إلى العرب فإني رجل من النمر بن قاسط من أهل الموصل، ولكن سبيت، سبتني الروم غلاما صغيرا بعد أن عقلت أهلي وقومي وعرفت نسبي، وأما قولك في الطعام وإسرافي فيه؛ فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يقول: «إن خياركم من أطعم الطعام ورد السلام.» فذلك الذي حملني على أن أطعم الطعام. فسكت عنه عمر.
وعاش صهيب ما عاش خير مثل للمسلم كما صوره رسول الله حين قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده.» ولم يكن يعطي الناس من نفسه إلا خيرا، كان يجود عليهم بماله وعلمه جميعا، لا يتحفظ في الجود بالمال، ولا يتحفظ في الجود بالعلم، إلا بواحدة، كان شأنه فيها شأن الخيار
264
من أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم : لم يكن يحب أن يتحدث عن النبي مخافة أن يخطئ الحديث، وكان يقول للناس: هلموا أحدثكم عن مغازينا، فأما أن أقول: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فلا.
ولم يكن لصهيب أيام أبي بكر وعمر إلا شأن الرجل الخير الكريم من المهاجرين، ولكن عمر - رحمه الله - يطعن ذات صباح، وينظم أمر الشورى حين أحس الموت، ويأمر فيما يأمر به أن تكون صلاة المسلمين إلى صهيب ثلاثا حتى يختار أهل الشورى للمسلمين إماما.
وينظر المهاجرون والأنصار، فإذا صهيب يصلي بهم المكتوبات بأمر عمر، فإذا حضرت جنازة عمر قدموا صهيبا فصلى بهم عليه.
فقد كان صهيب إذن إماما للمسلمين حتى فرغ أهل الشورى من تشاورهم، لم ينكر المهاجرون والأنصار من ذلك شيئا، ولكن نفرا من شباب قريش جعلوا يتحدثون بذلك فيما بينهم، ولم يكن شباب قريش يألفون عمر ولا يطمئنون إلى سيرته؛ لشدته على قريش ولشدته في الحق عامة، ويقول بعض أولئك الشباب لبعض: ألم تروا إلى عمر يقدم هذا الرومي ليصلي بالمهاجرين والأنصار، وقد كان صهيب عبدا لرجل من قريش؟!
فيقول آخر: الحمد لله على أنه لم يزد على أن يجعل إليه الصلاة حتى يختار هؤلاء الرهط منهم إماما! فقد كان خليقا أن يستخلفه وأن يجعل إليه إمرة المؤمنين.
قال آخر: ويحك! إنك لتسرف في الظن، وإن بعض الظن إثم. ما كان عمر ليستخلف على المسلمين مولى لعبد الله بن جدعان من سبي العرب أو من سبي الروم، قال صاحبه وهو يضحك ضحكة ساخرة: ألم يبلغك أن عمر قال: لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته؟! وهل كان سالم مولى أبي حذيفة إلا رقيقا فارسيا من أهل إصطخر، فإذا تمنى عمر أن يستخلف على المسلمين عبدا فارسيا فما يمنعه أن يستخلف عليهم عبدا روميا؟!
قال أحدهم وقد ثار مغضبا: ما رأيت كاليوم رجوعا إلى الجاهلية الأولى، ويلكم! أمسلمون أنتم صادقون في إسلامكم أم منافقون؟! رحم الله عمر! والله ما عرفناه إلا برا صادق النصح لله ورسوله وللمؤمنين. ألم تقرءوا قول الله عز وجل:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ؟!
وتفرق أولئك الفتية وقد ثاب بعضهم إلى الحق والهدى، وأسر بعضهم الآخر في نفسه أن السلطان عربي لا ينبغي لأحد - ولو كان عمر - أن يصرفه عن العرب وعن قريش خاصة إلى الفرس أو الروم. وكان تفكير هؤلاء الفتية وقوم كثير أمثالهم مصدر شر عظيم للمسلمين.
24
أقام عبد الله بن مسعود بحمص بعد أن فتحت على المسلمين ما شاء الله أن يقيم، مرابطا في سبيل الله، ولكن المهاجرين والأنصار ممن أقام في المدينة ينظرون ذات يوم فإذا هو بين أظهرهم في المسجد، فيستبقون إليه مسلمين عليه، ويسألونه عن مقدمه، فيقول: ما أدري، وإنما دعاني أمير المؤمنين فقدمت. ثم يلقى عمر عبد الله بن مسعود فيخلو إليه، ويخلو من بعده إلى عمار بن ياسر، ويخلو من بعدهما إلى عثمان بن حنيف ثم يعلن إلى المسلمين في أعقاب صلاة من الصلوات أنه قد جعل صلاة الكوفة وحربها إلى عمار بن ياسر، وأنه قد جعل بيت مال الكوفة وتعليم أهلها إلى عبد الله بن مسعود، وأنه قد جعل سواد الكوفة إلى عثمان بن حنيف. فأما أصحاب السابقة من المهاجرين والأنصار فيسمعون ويعرفون في سرائر نفوسهم وفي ظاهر سيرتهم، وأما الذين أسلموا بأخرة من أشراف قريش فيسمعون ويطيعون وينصرفون وفي نفوسهم شيء.
يقول أحدهم لصاحبه: «غفر الله لعمر! ماذا صنع بقريش؟! ألا ترى إليه يجعل إمرة الكوفة لابن سمية، ويجعل بيت مالها وتعليم أهلها لابن أم عبد! وأين هو عن أشراف قريش وعن السابقين الأولين من المهاجرين؟!» فيقول له صاحبه: «أمسك عليك نفسك، لا يبلغ عمر من حديث هذا شيء فيظن بك النفاق ويؤدبك أدبا لا تحبه، إنك لحديث عهد بالإسلام، وما أراك قرأت من القرآن إلا قليلا، ألم تسمع قول الله عز وجل:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ؟! فإن عمر لم يزد على أن أنجز بعض وعد الله - عز وجل - لبعض هؤلاء المستضعفين في الأرض.» قال صاحبه وقد أظهر الرضا: هو ذاك.
وانتهى عمار بن ياسر وابن مسعود وعثمان بن حنيف إلى الكوفة، واجتمع أهلها في المسجد، فقرئ عليهم كتاب عمر، فإذا فيه: «أما بعد، فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا، وابن مسعود معلما ووزيرا، وقد جعلت ابن مسعود على بيت مالكم، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر، فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بابن أم عبد على نفسي، وبعثت عثمان بن حنيف على السواد، ورزقتهم كل يوم شاة، فاجعلوا شطرها وبطنها لعمار، والشطر الباقي بين هذين الرجلين.» وقد سمع أهل الكوفة ورضوا وأطاعوا فأحسنوا الطاعة، وأحسن أمراؤهم السياسة.
ونظر عمار بن ياسر فإذا هو أمير لمصر عظيم من أمصار المسلمين وجيش عظيم من جيوشهم، وأكبر الظن أنه استحضر في نفسه ما لقي من الجهد والمحنة قبل أن يهاجر إلى المدينة، وما لقي من الشدة والبأساء مع النبي بعد أن هاجر إلى المدينة، فلم يقع هذا كله من نفسه موقعا غريبا، وإنما آمن بأن وعد الله حق، ولم يدفعه هذا كله إلى تكبر أو تجبر أو استعلاء؛ لأنه استيقن كما استيقن نظراؤه من أصحاب النبي أن هذه الحياة الدنيا غرور، وأنها فتنة يمتحن بها أولو الحزم والعزم في أنفسهم، فمن خلص منها كريما نقيا سليم القلب فهو من الناجين، ومن رتع فيها حتى أرضى غرائزه وشهواته فهو من الذين حبطت أعمالهم وظل سعيهم
265
وعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا.
واستحضر ابن مسعود في أكبر الظن حياته تلك حين كان راعيا لغنيمات عقبة بن أبي معيط، قد أدبرت عنه الدنيا بسعيها ودعتها وثرائها ونعيمها، وذكر أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد رضي عن أمانته حين أبى أن يسقيه ويسقي صاحبه من لبن غنم ابن أبي معيط، وذكر أن النبي ائتمنه على سره وضمه إليه وجعله من خاصته، وذكر أن النبي قال فيه ذات يوم: «إن ساقه لأثقل في الميزان يوم القيامة من أحد.» فلم يزده هذا إلا إيمانا وتثبيتا وحبا للأمانة واستمساكا بها، ووفاء لخليله ونصحا لأمته.
وقد أقام عمار ما شاء الله أن يقيم أميرا على الكوفة، فكان يسيرا سمحا لم يتغير من أمره شيء: صمت كثير، وكلام قليل، واختلاط بالناس كأنه رجل من عامتهم، وإقامة للعدل، وحكم بالقسط، ونصح في الدين لا تكلف فيه ولا تزيد. سئل ذات يوم في بعض ما يشكل من أمور الناس، فقال: أكان هذا بعد؟! قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون، فإذا كان تجشمناها
266
لكم.
وكان يخرج في حاجات بيته وأهله كما يخرج غيره من عامة الناس.
تحدث من رآه وهو أمير الكوفة يشتري قتا بدرهم، ثم يستزيد البائع حبلا فيأبى عليه البائع، فيجاذبه عمار حبله وينازعه حتى يأخذ نصفه، ثم يحمل قته على ظهره ويمضي به إلى داره وهو الأمير، لا ينكر من ذلك شيئا، ولا يرى أن شيئا من ذلك يغض من قدره أو يحط من مكانته، ولا ينكر الناس من ذلك شيئا ولا يرون أنه يخسه
267
عن المنزلة التي تنبغي للأمير، وكان عمار لا يغضب لنفسه مهما يؤذ، فإذا تعرض أحد لحق الله أو لحق الناس غضب عمار حتى يأخذ بالحق ويرد الأمر إلى نصابه. عرف أن رجلا وشى به إلى عمر، فلم يزد على أن قال: اللهم إن كان قد كذب علي فابسط له في الدنيا واجعله موطأ العقب.
268
وأقبل بجيش من أهل الكوفة مددا لأهل البصرة في بعض المواقع، فلما أظفر الله المسلمين قال له بعض أهل البصرة: يا أجدع، أتريد أن تشاركنا في غنائمنا؟! فلم يزد عمار على أن قال وهو يضحك: خير أذني سببت. وكانت أذنه تلك قد أصيبت في سبيل الله يوم اليمامة، وقد أبى أهل البصرة أن يشركوا عمارا وأصحابه في الغنيمة، وأبى عمار إلا أن يأخذ لأصحابه حقهم منها. فكتبوا في ذلك إلى عمر، فكتب إليهم عمر: إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة. وأخذ عمار وأصحابه حقهم، وكان عمر يخالف بين ولاته على الأمصار، لا يكاد يمد لأحدهم في الولاية. فلما عزل عمارا ولقيه بعد ذلك في المدينة قال له: أساءك عزلنا إياك؟ فأجابه عمار: أما إذا قلت ذاك فقد ساءني حين استعملتني وساءني حين عزلتني، ثم فرغ عمار للعبادة والطاعة والأمر بالمعروف وتأديب الناس في دينهم ما بقي من أيام عمر وصدرا من أيام عثمان، ولكن عمارا يعلم ذات يوم أن عثمان قد أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح على مصر، فيحضره خاطر مؤلم يمره في نفسه، ثم يلقيه في أعماق ضميره لا يحدث به نفسه بعد ذلك ولا يحدث به الناس، ويذكر أن آية في القرآن قد أنزلت أشير فيها إليه وإلى عبد الله بن أبي سرح هذا الذي أمر على مصر، وهي قول الله عز وجل:
من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم .
وكان المسلمون يرون أن عبد الله بن أبي سرح هو الذي أشير إليه في قول الله عز وجل:
من شرح بالكفر صدرا .
يقول عمار لنفسه: إن عبد الله بن أبي سرح قد عاد بأخرة إلى الإسلام، فعسى أن يكون قد تاب وأصلح، وعسى الله أن يكون قد حط عنه ثقل الكفر بعد الإيمان. ولكن سيرة عبد الله بن أبي سرح في مصر تصبح موضع الشكوى بين المصريين كسيرة غيره من ولاة عثمان في الكوفة والبصرة، ثم تكثر الشكوى ويشيع النكير حتى يغضب المهاجرون والأنصار في المدينة ويتكلمون في ذلك، ثم يجتمعون ويتشاورون، ويذهب عمار إلى عثمان عن نفسه أو عمن وراءه من المسلمين ليحدثه برأي الناس في ولاته، فلا يرضي قوله عثمان، ويعظم الأمر بينهما، حتى يأمر عثمان بإخراجه، فيخرجه غلمانه ويضربونه حتى يغشى عليه، وحتى يظن الناس أنه الموت، ولكن عمارا يفيق ويقول: طالما عذبنا في الله من قبل. ويصبح منذ ذلك اليوم زعيما من زعماء المعارضة لعثمان.
25
لبث عبد الله بن مسعود في الكوفة بعد أن عزل عنها عمار بن ياسر، لم يعد إلى المدينة، ولم ينح عن عمله، وإنما ظل أمينا على بيت مال الكوفة معلما لأهلها مشيرا على ولاتها. وقد علم الناس فأحسن تعليمهم، فملأ قلوبهم حبا له وإعجابا به، وترك في نفوسهم أقوى الأثر وأبقاه.
ولم يكن ذلك غريبا، فقد لزم ابن مسعود رسول الله فأطال لزومه، حتى ظن بعض أصحابه أنه من أهل البيت، وأخذ من فم النبي سبعين سورة من القرآن لم ينازعه فيهن أحد، وكان النبي يحب قراءته للقرآن، ويحببها إلى الناس، ويقول: «من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد.»
وكان عبد الله شديد التأثر
269
للنبي في قوله وعمله وفي حركته وسكونه وفي تحدثه إلى الناس واستماعه لهم، وفي تأتيه للأمور
270
حين تعرض، وثباته للخطوب حين تشتد، وكان شديد الاقتداء به في هذا كله، حتى اتفق الذين عرفوه من أصحاب النبي أنه كان أشبه الناس برسول الله
صلى الله عليه وسلم
في هديه وسمته ودله،
271
وكان حذيفة بن اليمان يقول: ابن مسعود أشبه الناس برسول الله
صلى الله عليه وسلم
هديا وسمتا ودلا حتى يواريه جدار بيته.
وكان ابن مسعود يقرئ الناس القرآن في أثناء إقامته في الكوفة، ويعظهم عشية كل خميس، يقوم فيهم خطيبا معتمدا على عصا، فيتكلم ما شاء الله أن يتكلم ثم يسكت، وأحب شيء إلى سامعيه أن يمضي فيما كان فيه من حديث. ولم يكن ابن مسعود يخاف شيئا كما كان يخاف الرواية عن النبي، شأنه في ذلك شأن المتحفظين الذين سمعوا النبي يقول: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.» فأشفقوا أن يتحدثوا عنه فيخطئوا صدق الحديث وهم لا يشعرون. وجرى مرة على لسان ابن مسعود وهو يعظ الناس قوله: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فلم يكد هذا القول يجري على لسانه حتى أخذته رعدة عنيفة اضطرب لها جسمه كله، وتزعزعت لها العصا التي كان يعتمد عليها، وتصبب العرق على جبهته، فقال: أو فوق هذا، أو نحو هذا، أو دون هذا. ولم يرض أهل الكوفة على أحد من ولاتهم كما رضوا عن عبد الله بن مسعود وعن أبي موسى الأشعري.
وقد توفي عمر - رضي الله عنه - وابن مسعود أمير على بيت المال في الكوفة، فأقره عثمان على عمله، حتى إذا كانت ولاية الوليد بن عقبة للكوفة حدثت أحداث حولت ابن مسعود إلى المعارضة، وكان ابن مسعود قبل هذه الأحداث من أرضى الناس عن عثمان، وأحسنهم ذكرا له، ودعاء إليه.
26
وقد حدث بعض هذه الأحداث في الكوفة، وحدث بعضها الآخر في المدينة، فأما ما حدث منها في الكوفة فسياسة جديدة في بيت المال لم يألفها عبد الله بن مسعود، ولم يكن ليطمئن إليها أو يرضاها، فقد كان الوليد يتوسع في النفقة، ويرى أن له أن يصنع بمال المسلمين ما يشاء. وكان ابن مسعود قد ألف منذ أيام عمر أن أموال بيت المال ملك للمسلمين لا للأمراء، وأن الأمراء لا ينبغي أن ينفقوها إلا بحقها، وفي الوجوه التي تنفع عامة المسلمين.
وإلى جانب هذه السياسة المالية الجديدة كان للوليد بن عقبة سيرة لم يرض عنها خيار أهل الكوفة، وقد أنكر ابن مسعود ما أنكر الناس، وكره الوليد منه هذا الإنكار، واشتد الخلاف بينهما، وكان الناس إلى ابن مسعود أميل، وله أحب، ولقوله أكثر استماعا.
وأما ما حدث في المدينة فانتداب
272
عثمان لجمع القرآن في مصحف واحد وقراءة واحدة.
وقد ألف عثمان لهذا العمل الخطير لجنة من حفاظ المسلمين، وجعل رياستها لزيد بن ثابت. وليس من شك في أن عثمان قد نصح للمسلمين في هذا العمل، وكره لهم أن يختلفوا في قراءة كتاب الله، ولما تم له جمع المصحف أذاعه في الأمصار، وحظر القراءة على غير ما كتب فيه، وتقدم في تحريق غيره من الصحف التي كتب فيها القرآن قبل أن يجمع المصحف الإمام، فكره ابن مسعود ذلك، وكان من أقرأ الناس وأحفظهم، وأبى أن يذعن لأمر عثمان. ثم لم يكتف بذلك، وإنما جعل يلهج بنقد ما تقدم فيه عثمان وبنقد سيرة الوليد في الكوفة، وكان إذا خطب الناس يوم الخميس من كل أسبوع قال لهم فيما كان يقول: إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ورأى الوليد في هذا الكلام تعريضا به وبعثمان، فتقدم إلى ابن مسعود في ألا يعيده، فلم يحفل به ابن مسعود ولم يلتفت إليه.
فكتب فيه إلى عثمان يأمره بإخراج ابن مسعود من الكوفة وإرساله إلى المدينة ففعل، وخرج الناس يشيعون ابن مسعود إلى ظاهر الكوفة محزونين يلحون عليه في أن يبقى بينهم، ويخافون عليه من عثمان أن يبطش به أو يناله بمكروه، ويعاهدونه على أن يحموه فلا تصل إليه يد بسوء، ولكنه أبى عليهم قائلا: إن هذا أمر سيكون، وما أحب أن أكون أول من فتحه.
ودخل المدينة ذات ليلة، فلما أصبح غدا على المسجد، وكان ذلك اليوم يوم جمعة، فلما رآه عثمان قال قولا غليظا وعابه من أعلى المنبر، فرد عليه ابن مسعود قائلا: لست كما تقول، ولكني صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق ويوم بيعة الرضوان. ونادت عائشة - رحمها الله - من وراء الستر: ويحك يا عثمان! أتقول هذا لصاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟! فقال لها عثمان: اسكتي. ثم أمر بعض غلمانه بإخراجه من المسجد، فأقبل غلام أسود طوال، فاحتمل ابن مسعود وأخرجه من المسجد إخراجا عنيفا، وابن مسعود يحاول أن يفلت منه ورجلاه تختلفان على كتفيه وهو يصيح بعثمان: أنشدك الله لا تخرجني من مسجد خليلي
صلى الله عليه وسلم ، ولكن الغلام يمضي به، حتى إذا بلغ باب المسجد ضرب به الأرض فكسرت إحدى أضلاعه، وحمل إلى بيته مكروبا.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما حرمه عثمان عطاءه سنتين. فأقام ابن مسعود في المدينة مغضوبا عليه من الإمام، يواده على رغم ذلك صديقه من أصحاب النبي، حتى إذا أدركه المرض الذي مات فيه عرف عثمان أنه مشرف على الموت. وهنا يختلف الرواة، فأما الناقمون من عثمان، فيقولون إنه سعى إلى ابن مسعود واعتذر إليه وعرض عليه عطاءه وسأله أن يستغفر له، فلم يقبل منه ابن مسعود شيئا، ووسط عثمان أم حبيبة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم
عند ابن مسعود فلم يقبل لها وساطة، ومات ابن مسعود والأمر بينه وبين عثمان على شر ما يكون. وقد يغلو الناقمون على عثمان، فيزعمون أن ابن مسعود أوصى ألا يصلي عليه عثمان، وأن عمار بن ياسر تلقى هذه الوصية وأنفذها، فكان هذا مما زاد غضب عثمان على عمار.
وأما الذين يتولون عثمان، ويحسنون الظن بهؤلاء النفر من المهاجرين، فيقولون: إن عثمان عاد ابن مسعود في مرضه واعتذر إليه، فقبل منه واستغفر كلا الرجلين لصاحبه، ومات ابن مسعود فصلى عليه عثمان وقام على قبره وأحسن الثناء عليه. وهذا أشبه بسيرة الرجلين جميعا.
ويدخل الزبير بن العوام على عثمان، وكان ابن مسعود قد أوصى إليه، فيقول له: ادفع إلي عطاء ابن مسعود؛ فإن عياله أحق به من بيت المال.
قال عثمان: نعم؛ ثم أدى إلى الزبير عطاء ابن مسعود ومثله معه، وأمر خازن بيت المال، فدفع للزبير خمسة وعشرين ألفا.
ويجتمع أهل الكوفة بعد ذلك بسنتين حول علي رضي الله عنه، ويذكر ابن مسعود، فيقولون لعلي: يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا، ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبد الله بن مسعود.
فقال علي: نشدتكم الله، إنه لصدق من قلوبكم؟
قالوا: نعم.
فقال: «اللهم إني أشهدك، اللهم إني أقول فيه مثل ما قالوا أو أفضل.»
27
لم يشتد أحد من أهل المدينة في معارضة عثمان حين ظهرت الفتنة كما اشتد عمار بن ياسر، كان على الفطرة كما وصفه النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان يكره التأول ويكره المتأولين، وكان يحب من القول أصرحه، ومن العمل أوضحه، ومن السيرة أشدها استقامة وأبعدها عن العوج والالتواء، وكان الدين الخالص قطعة من طبعه وعنصرا مقوما لمزاجه، وكان أزهد الناس في الدنيا وأقلهم احتفالا بمنافعها، وأشدهم خوفا من الفتنة، وأكثرهم انصرافا عن تعقيد السياسة والتوائها، وكان يحب الحق ويسعى إليه، ولا يحب إلا الحق ولا يسعى إلا إليه. وقد رأى من سيرة النبي وصاحبيه استقامة لا عوج فيها، وصراحة بريئة من الغموض، فاستقر في نفسه أن أمر السلطان يجب أن يستقيم دائما كما استقام للنبي وصاحبيه. فلما رأى اختلاط الأمر واشتباك المنافع واختلاف الأهواء أيام عثمان شق عليه هذا كله، فلم يستطع قلبه أن يسيغه، ولم تستطع فطرته أن تطمئن إليه، فأنكر فيما بينه وبين نفسه، ولاذ بصمته الطويل، واستعاذ بالله من الفتنة كأشد ما يستعيذ الإنسان بالله منها. ثم رأى الناس وسمعهم ينكرون، فلم يكد يفكر ويقدر ويستقصي حتى أنكر كما أنكروا وعارض كما عارضوا، ولكنه على ذلك استمسك بالصمت واستعاذ بالله من الفتنة، حتى رأى وسمع أولئك الشيوخ من أصحاب رسول الله - ومن المهاجرين بينهم خاصة - ينكرون، فجعل اليقين يستبين له.
وتحدث الناس في المدينة ذات يوم أن عثمان أخذ شيئا من جوهر كان في بيت المال فحلى به بعض أهله، وجعل المهاجرون والأنصار يقولون في ذلك حتى أكثروا، وتكلم عثمان على المنبر ذات يوم، فقال: لنأخذن حاجتنا من هذا المال وإن رغمت أنوف أقوام.
قال علي: إذن تمنع من ذلك، وقال عمار: أشهد الله إن أنفي أول راغم.
وقد سكت عثمان لقول علي وغضب لمقالة عمار فشتمه، وكان هذا في بعض ما يروى أول الشر الذي انتهى إلى ضرب عثمان لعمار حتى أصابه الفتق، وغشي عليه، وفاتته صلوات الظهر والعصر والمغرب. ثم أفاق فتوضأ وصلاهن، وذكر فتنة قريش له وتعذيبها إياه في الإسلام، ومنذ ذلك اليوم خرج من صمته، وجعل يقوم ويقعد بنقد عثمان، حتى إذا أقبل الثائرون من الأمصار لم ينكر عليهم ولم يحاول ردهم، ثم قتل عثمان فلم يأس
273
على قتله، وربما جادل في أن عثمان قد قتل مؤمنا أو كافرا، وقد خاصم الحسن بن علي في ذلك. كان الحسن يرى أن عثمان مات مؤمنا، وكان عمار يزعم أنه مات كافرا، واشتد الجدال بينهما حتى ارتفعا فيه إلى علي رحمه الله، فكف علي عمارا عن مثل هذا الجدل في رفق.
ولم يشتد عمار في شيء بعد قتل عثمان كما اشتد في مناصرة علي، ولا سيما حين ثارت الحرب بينه وبين معاوية. في ذلك الوقت استبان الحق لنفس عمار وقلبه وضميره، ولم يشك لحظة في أن عليا وأصحابه كانوا على الحق، وفي أن معاوية وأصحابه كانوا على الباطل، ولم يقبل عمار على حرب خالص النية فيها لله ورسوله بعد وفاة النبي كما أقبل على حرب صفين. كانت مقالة النبي له: «تقتلك الفئة الباغية.» قد استقرت في أعماق نفسه، وكأنها ظهرت له جلية نقية ناصعة ساطعة حين خرج مع علي وأصحابه يقصدون قصد صفين. هنالك لم يشك عمار في أن معاوية وأصحابه هم الفئة الباغية، وفي أن هذه الحرب التي كانوا ينصبونها لابن عم النبي إنما كانت تشبه غيرها من الحروب التي كانت قريش تنصبها للنبي نفسه يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق، فخرج عمار إذن إلى حرب صفين على بصيرة من أمره، قد أخلص قلبه لله، ووهب نفسه لله، وابتغى الشهادة في صفين كما كان يبتغيها في المشاهد التي شهدها مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وقد سمعه من سمعه وهو يقول ذات يوم في أثناء مسيره إلى صفين على شط الفرات: اللهم إنه لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت، اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، فإني لا أقاتل إلا أريد وجهك، وأنا أرجو ألا تخيبني وأنا أريد وجهك. •••
وكان عمار في ذلك الوقت قد جاوز التسعين، ولكن الناس ينظرون إليه فإذا هو قد استرد من القوة والشباب والنشاط ما لم يكن لهم عهد به من قبل. كان أسرعهم إلى الحرب وأكرههم للقعود، وأحبهم للموت، وأبغضهم للحياة، وكان مستيقنا يقينا لا يعرض له الشك أنه على حق، وأنه يقاتل في سبيل الله. وقد اشتدت الحرب بين الفريقين بصفين يوما ويوما، فلما كان اليوم الثالث قال معاوية: هذا يوم تتفانى فيه العرب إلا أن تدركهم خفة العبد. يريد بالعبد عمارا، ويريد بخفته شدة نشاطه في الحرب واستخفافه بما تحتاج إليه من مكر وكيد وأناة.
وفي هذا اليوم قاتل عمار نهاره كله حتى ملأ قلوب الناس عجبا وإعجابا، وكانوا يرونه شيخا طويلا آدم،
274
ترعد الحربة في يده، وهو خفيف الحركة موفور النشاط، يسعى هنا وهناك، يحرض هذا وذاك، وفريق من المسلمين يرقبونه ويتحدثون ببلائه، بعضهم يصحب جيش علي ولكنه لا يقاتل كخزيمة بن ثابت الأنصاري الذي سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول لعمار: «تقتلك الفئة الباغية.» ورأى عمارا يقاتل مع علي فهو يرقب عمارا ليرى آخرته. وبعضهم مع معاوية يشهد الحرب ولا يشارك فيها، بلغته مقالة النبي في عمار فهو يرقب عمارا وينتظر آخرته، ومن هؤلاء هني مولى عمر بن الخطاب رحمه الله. في ذلك اليوم قاتل عمار وهو على رأس كتيبته حتى كانت العصر، فلما جعل الأصيل ينشر أشعته الشاحبة الحزينة على المقتتلين اشتد نشاط عمار وأخذه شيء يشبه أن يكون شغفا بالموت، فجعل يحث من حوله على القتال ويصيح: الجنة تحت أطراف العوالي. اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه، وكان صائما. فلما وجبت الشمس قال: اسقوني. فجيء بشربة من لبن، فلما رآها ضحك وشرب، ثم قال: قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «آخر زادك من الدنيا لبن حتى تموت.» ثم جعل يحرض الناس ويعيد مقالته: الجنة تحت أطراف العوالي، الظمآن يرد الماء، الماء مورود، اليوم ألقى الأحبة: محمدا وحزبه.
وقد انكشف أصحاب علي شيئا، فلم يوهن ذلك من نفس عمار، ولم يبلغ من يقينه شيئا، وإنما جعل يقول: والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمت أنا على حق وأنهم على ضلالة.
وكانت راية معاوية مع عمرو بن العاص، فجعل عمار ينظر إليها ويقول: لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات وهذه الرابعة. وكانت راية علي مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان هاشم أعور، فكان عمار يحثه، يغلظ عليه مرة فيقول: تقدم يا أعور. ويرفق به مرة أخرى، فيقول: تقدم يا هاشم فداك أبي وأمي، وكان هاشم يقول له: رحمك الله يا عمار، إني إنما أزحف باللواء وأرجو أن يفتح الله علي ويبلغني ما أريد، وإن في العجلة الهلكة. فيقول له: تقدم فداك أبي وأمي. وما يزال به حتى يتقدم، فإذا رأى عمار صاحب الراية يتقدم بها صاح بمن حوله: من رائح إلى الله؟ من رائح إلى الجنة؟ ثم اندفع فقاتل حتى قتل.
وقد رأى خزيمة بن ثابت مصرع عمار، فقال: الآن استبانت لي الضلالة، ثم دخل فسطاطه فاغتسل، ثم لبس سلاحه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.
وأما هني مولى عمر بن الخطاب، فقد عرف عمارا حين أسفر الصبح، فأقبل حتى دخل على عمرو بن العاص وهو جالس على سريره ومن حوله نفر يتحدث إليهم، فقال هني: أبا عبد الله. قال عمرو: ما تشاء؟ قال هني: انظر أكلمك. فقام عمرو حتى خلا إليه.
قال هني: عمار بن ياسر، ماذا سمعت فيه؟
قال عمرو: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: تقتله الفئة الباغية.
قال هني: ها هو ذا مقتول.
قال عمرو: هذا باطل.
قال هني: بصرت عيني به مقتولا.
قال عمرو: هلم أرنيه. فذهب به حتى رآه بين القتلى، فلما رآه امتقع لونه، ثم أعرض في شق، وقال: إنما قتله من أخرجه.
وكان عمار قد قال لأصحابه مساء ذلك اليوم: لا تغسلوني ولا تحثوا علي ترابا فإني مخاصم. فلما قتل أقبل علي فصلى عليه ولم يغسله، وقال: «إن امرأ من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر وتدخل به عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد، رحم الله عمارا يوم أسلم، ورحم الله عمارا يوم قتل، ورحم الله عمارا يوم يبعث حيا، لقد رأيت عمارا وما يذكر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أربعة إلا كان رابعا، ولا خمسة إلا كان خامسا، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشك أن عمارا قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين، فهنيئا لعمار بالجنة.» ولقد قيل: إن عمارا مع الحق والحق معه يدور، عمار مع الحق أينما دار، وقاتل عمار في النار.
28
أقبل رجلان من أصحاب معاوية حتى دخلا عليه فسطاطه ومعه عمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو ونفر من أصحابه، فجعلا يختصمان في قتل عمار، كلهم يزعم أنه قاتله. قال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه؛ فإنما تختصمان في النار؛ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «تقتل عمارا الفئة الباغية، وقاتله وسالبه في النار.» قال معاوية لعمرو: ألا تكف عنا مجنونك يا عمرو؟! ثم التفت إلى عبد الله بن عمرو ، وقال: إن كان هذا رأيك فما لك معنا؟! قال عبد الله: إن أبي شكاني لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأمرني أن أطيعه ما دام حيا، فأنا معكم ولست أقاتل.
قال معاوية: لم نقتله، إنما قتله من جاء به.
جلس عمرو بن العاص إلى جماعة من أصحابه يسمر معهم بعد أن خلص الأمر كله لمعاوية، فقال له بعض القوم: إنا نرى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان يحبك وكان يستعملك أبا عبد الله.
قال عمرو: أما إنه كان يستعملني، وما أدري أكان يحبني أم كان يتألفني،
275
ولكنا نرى أن رجلين من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، توفي رسول الله وهو لهما محب وعنهما راض.
قال القوم: من هما؟
قال عمرو: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر.
قال القوم: عمار بن ياسر! فذاك قتيلكم يوم صفين؟!
قال عمرو: صدقتم والله لقد قتلناه.
كان عمار على رأس كتيبته يوم قتل، وكان ذو الكلاع الحميري من أصحاب معاوية على رأس الكتيبة المواجهة لعمار، فقتلا كلاهما. وتحدث ابن سعد عن أصحابه أن عمرو بن شرحبيل أبا ميسرة - كان رجلا من أصحاب عبد الله بن مسعود ومن خيرهم - قال: رأيت في المنام روضة خضراء فيها قباب مضروبة فيها عمار، وقباب مضروبة فيها ذو الكلاع. فقلت: كيف هذا وقد اقتتلوا؟! فقيل: وجدوا ربا واسع المغفرة.
29
وأطرق القاص حين بلغ هذا الموضع من حديثه إطراقة طويلة، حتى ظن سامعوه أنه لن يقول شيئا فهموا أن يتفرقوا، ولكنه رفع إليهم رأسه وتلا عليهم قول الله عز وجل:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون . ثم قال بعد أن سكت سكتة قصيرة: صدق الله وعده! لقد أورث هؤلاء المستضعفين أرضه، وأدال لهم من قيصر وكسرى،
276
وجعلهم أئمة للناس ما عاشوا، حتى إذا اختارهم لجواره وآثرهم بنعيمه جعل ذكرهم خالدا، وسيرتهم رضا، وحياتهم قدوة صالحة وأسوة حسنة، فهم أئمة للمسلمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
سبتمبر سنة 1949
بيراكافا - مولان
Unknown page