مُقَدّمَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْأَجَل الزَّاهِد شمس الْأَئِمَّة أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي سهل السَّرخسِيّ إملاء فِي يَوْم السبت سلخ شَوَّال سنة تسع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة فِي زَاوِيَة من حِصَار أوزجند الْحَمد لله الحميد الْمجِيد المبدىء المعيد الفعال لما يُرِيد ذِي الْبَطْش الشَّديد وَالْأَمر الحميد وَالْحكم الرشيد والوعد والوعيد
نحمده على مَا أكرمنا بِهِ من مِيرَاث النُّبُوَّة ونشكره على مَا هدَانَا إِلَيْهِ بِمَا هُوَ أصل فِي الدّين والمروة وَهُوَ الْعلم الَّذِي هُوَ أنفس الأعلاق وَأجل مكتسب فِي الْآفَاق
فَهُوَ أعز عِنْد الْكَرِيم من الكبريت الْأَحْمَر والزمرد الْأَخْضَر ونثارة الدّرّ والعنبر ونفيس الْيَاقُوت والجوهر من جمعه فقد جمع الْعِزّ والشرف وَمن عَدمه فقد عدم مجامع الْخَيْر واللطف يُقَوي الضَّعِيف وَيزِيد عز الشريف يرفع الخامل الحقير ويمول العائل الْفَقِير بِهِ يطْلب رضَا الرَّحْمَن وتستفتح أَبْوَاب الْجنان وينال الْعِزّ فِي الدّين وَالدُّنْيَا والمحمدة فِي البدء والعقبى لأَجله بعث الله النَّبِيين وختمهم بِسَيِّد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ مُحَمَّد ﷺ وعَلى آله الطيبين
وَبعد فَإِن من أفضل الْأُمُور وَأَشْرَفهَا عِنْد الْجُمْهُور بعد معرفَة أصل الدّين الِاقْتِدَاء بالأئمة الْمُتَقَدِّمين فِي بذل المجهود لمعْرِفَة الْأَحْكَام فبها يَتَأَتَّى الْفَصْل بَين الْحَلَال وَالْحرَام وَقد سمي الله تَعَالَى ذَلِك فِي مُحكم تَنْزِيله الْخَيْر الْكثير فَقَالَ ﴿وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا﴾ فسر ابْن عَبَّاس ﵄ وَغَيره الْحِكْمَة بِعلم الْفِقْه وَهُوَ المُرَاد بقوله ﷿ ﴿ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة﴾ أَي بِبَيَان الْفِقْه ومحاسن الشَّرِيعَة فَقَالَ ﷺ بِرِوَايَة ابْن عَبَّاس ﵄ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وَقَالَ ﵇ خياركم فِي الْجَاهِلِيَّة خياركم فِي الْإِسْلَام إِذا تفقهوا وَإِلَى ذَلِك دَعَا الله الصَّحَابَة الَّذين هم
1 / 9
أَعْلَام الدّين وقدوة الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ ﴿فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُم يحذرون﴾ وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة ﵁ عَن النَّبِي ﷺ مَا عبد الله بِشَيْء أفضل من الْفِقْه فِي الدّين ولفقيه وَاحِد أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَقَالَ ﷺ قَلِيل من الْفِقْه خير من كثير من الْعَمَل
غير أَن تَمام الْفِقْه لَا يكون إِلَّا باجتماع ثَلَاثَة أَشْيَاء الْعلم بالمشروبات والإتقان فِي معرفَة ذَلِك بِالْوُقُوفِ على النُّصُوص بمعانيها وَضبط الْأُصُول بفروعها ثمَّ الْعَمَل بذلك
فتمام الْمَقْصُود لَا يكون إِلَّا بعد الْعَمَل بِالْعلمِ وَمن كَانَ حَافِظًا للمشروبات من غير إتقان فِي الْمعرفَة فَهُوَ من جملَة الروَاة وَبعد الإتقان إِذا لم يكن عَاملا بِمَا يعلم فَهُوَ فَقِيه من وَجه دون وَجه فَأَما إِذا كَانَ عَاملا بِمَا يعلم فَهُوَ الْفَقِيه الْمُطلق الَّذِي أَرَادَهُ رَسُول الله ﷺ وَقَالَ هُوَ أَشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَهُوَ صفة المقدمين من أَئِمَّتنَا أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد ﵃ وَلَا يخفى ذَلِك على من يتَأَمَّل فِي أَقْوَالهم وأحوالهم عَن إنصاف
فَذَلِك الَّذِي دَعَاني إِلَى إملاء شرح فِي الْكتب الَّتِي صنفها مُحَمَّد بن الْحسن ﵀ بآكد إِشَارَة وأسهل عبارَة
وَلما انْتهى الْمَقْصُود من ذَلِك رَأَيْت من الصَّوَاب أَن أبين للمقتسبين أصُول مَا بنيت عَلَيْهَا شرح الْكتب ليَكُون الْوُقُوف على الْأُصُول معينا لَهُم على فهم مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِي الْفُرُوع ومرشدا لَهُم إِلَى مَا وَقع الْإِخْلَال بِهِ فِي بَيَان الْفُرُوع
فالأصول مَعْدُودَة والحوادث ممدودة والمجموعات فِي هَذَا الْبَاب كَثِيرَة للْمُتَقَدِّمين والمتأخرين وَإِنَّا فِيمَا قصدته بهم من المقتدين رَجَاء أَن أكون من الْأَشْبَاه فَخير الْأُمُور الِاتِّبَاع وشرها الابتداع
1 / 10
وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ أتكل وَإِلَيْهِ أبتهل وَبِه أَعْتَصِم وَله أستسلم وبحوله أعتضد وإياه أعْتَمد فَمن اعْتصمَ بِهِ فَازَ بالخيرات سَهْمه ولاح فِي الصعُود نجمه
فأحق مَا يبْدَأ بِهِ فِي الْبَيَان الْأَمر والنهى لِأَن مُعظم الِابْتِلَاء بهما وبمعرفتهما تتمّ معرفَة الْأَحْكَام ويتميز الْحَلَال من الْحَرَام
ﷺ َ - بَاب الْأَمر ﷺ َ - قَالَ ﵁ اعْلَم أَن الْأَمر أحد أَقسَام الْكَلَام بِمَنْزِلَة الْخَبَر والاستخبار وَهُوَ عِنْد أهل اللِّسَان قَول الْمَرْء لغيره افْعَل وَلَكِن الْفُقَهَاء قَالُوا هَذِه الْكَلِمَة إِذا خَاطب الْمَرْء بهَا من هُوَ مثله أَو دونه فَهُوَ أَمر وَإِذا خَاطب بهَا من هُوَ فَوْقه لَا يكون أمرا لِأَن الْأَمر يتَعَلَّق بالمأمور
فَإِن كَانَ الْمُخَاطب مِمَّن يجوز أَن يكون مَأْمُور الْمُخَاطب كَانَ أمرا وَإِن كَانَ مِمَّن لَا يجوز أَن يكون مأموره لَا يكون أمرا كَقَوْل الدَّاعِي اللَّهُمَّ اغْفِر لي وارحمني يكون سؤالا وَدُعَاء لَا أمرا
ثمَّ المُرَاد بِالْأَمر يعرف بِهَذِهِ الصِّيغَة فَقَط وَلَا يعرف حَقِيقَة الْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة فِي قَول الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء
وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ يعرف حَقِيقَة المُرَاد بِالْأَمر بِدُونِ هَذِه الصِّيغَة
وعَلى هَذَا يبتني الْخلاف فِي أَفعَال رَسُول الله ﷺ أَنَّهَا مُوجبَة أم لَا وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بقوله تَعَالَى ﴿فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره﴾ أَي عَن سمته وطريقته فِي أَفعاله وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا أَمر فِرْعَوْن برشيد﴾ وَالْمرَاد فعله وطريقته وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأمرهمْ شُورَى بَينهم﴾ أَي أفعالهم وَقَالَ تَعَالَى ﴿وتنازعتم فِي الْأَمر﴾ أَي فِيمَا تقدمون عَلَيْهِ من الْفِعْل وَقَالَ تَعَالَى ﴿قل إِن الْأَمر كُله لله﴾
1 / 11
المُرَاد الشَّأْن وَالْفِعْل وَالْعرب تَقول أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم أَي حَاله وأفعاله وَإِذا ثَبت أَن الْأَمر يعبر بِهِ عَن الْفِعْل كَانَ حَقِيقَة فِيهِ يُوضحهُ أَن الْعَرَب تفرق بَين جمع الْأَمر الَّذِي هُوَ القَوْل فَقَالُوا فِيهِ أوَامِر وَالْأَمر الَّذِي هُوَ الْفِعْل فَقَالُوا فِي جمعه أُمُور فَفِي التَّفْرِيق بَين الجمعين دلَالَة على أَن كل وَاحِد مِنْهُ حَقِيقَة وَمن يَقُول إِن اسْتِعْمَال الْأَمر فِي الْفِعْل بطرِيق الْمجَاز والاتساع فَلَا بُد لَهُ من بَيَان الْوَجْه الَّذِي اتَّسع فِيهِ لأَجله لِأَن الاتساع وَالْمجَاز لَا يكون إِلَّا بطرِيق مَعْلُوم يستعار اللَّفْظ بذلك الطَّرِيق لغير حَقِيقَته مجَازًا
وَفِي قَوْله ﷺ خُذُوا عني مَنَاسِككُم وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي تنصيص على وجوب اتِّبَاعه فِي أَفعاله
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن المُرَاد بِالْأَمر من أعظم الْمَقَاصِد فَلَا بُد من أَن يكون لَهُ لفظ مَوْضُوع هُوَ حَقِيقَة يعرف بِهِ اعْتِبَارا بِسَائِر الْمَقَاصِد من الْمَاضِي والمستقبل وَالْحَال وَهَذَا لِأَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمَقَاصِد وَلَا يتَحَقَّق انْتِفَاء الْقُصُور إِلَّا بعد أَن يكون لكل مَقْصُود عبارَة هُوَ مَخْصُوص بهَا ثمَّ قد تسْتَعْمل تِلْكَ الْعبارَة لغيره مجَازًا بِمَنْزِلَة أَسمَاء الْأَعْيَان فَكل عين مُخْتَصّ باسم هُوَ مَوْضُوع لَهُ وَقد يسْتَعْمل فِي غَيره مجَازًا نَحْو أَسد فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة اسْم لعين وَإِن كَانَ يسْتَعْمل فِي غَيره مجَازًا يُوضحهُ أَن قَوْلنَا أَمر مصدر والمصادر لَا بُد أَن تُوجد عَن فعل أَو يُوجد عَنْهَا فعل على حسب اخْتِلَاف أهل اللِّسَان فِي ذَلِك ثمَّ لَا تَجِد أحدا من أهل اللِّسَان يُسَمِّي الْفَاعِل للشَّيْء آمرا أَلا ترى أَنهم لَا يَقُولُونَ للآكل والشارب آمرا فَبِهَذَا تبين أَن اسْم الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْفِعْل حَقِيقَة وَلَا يُقَال الْأَمر اسْم عَام يدْخل تَحْتَهُ الْمُشْتَقّ وَغَيره لِأَن الْأَمر مُشْتَقّ فِي الأَصْل فَإِنَّهُ يُقَال أَمر يَأْمر أمرا فَهُوَ آمُر وَمَا كَانَ مشتقا فِي الأَصْل لَا يُقَال إِنَّه يتَنَاوَل الْمُشْتَقّ وَغَيره حَقِيقَة وَإِنَّمَا يُقَال ذَلِك فِيمَا هُوَ غير مُشْتَقّ فِي الأَصْل
1 / 12
كاللسان وَنَحْوه وَفِي قَول الْقَائِل رَأَيْت فلَانا يَأْمر بِكَذَا وَيفْعل بِخِلَافِهِ دَلِيل ظَاهر على أَن الْفِعْل غير الْأَمر حَقِيقَة
فَأَما مَا تلوا من الْآيَات فَنحْن لَا ننكر اسْتِعْمَال الْأَمر فِي غير مَا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ لِأَن ذَلِك فِي الْقُرْآن على وُجُوه مِنْهَا الْقَضَاء قَالَ الله تَعَالَى ﴿يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿أَلا لَهُ الْخلق وَالْأَمر﴾ وَمِنْهَا الدّين قَالَ الله تَعَالَى ﴿حَتَّى جَاءَ الْحق وَظهر أَمر الله﴾ وَمِنْهَا القَوْل قَالَ الله تَعَالَى ﴿يتنازعون بَينهم أَمرهم﴾ وَمِنْهَا الْوَحْي قَالَ الله تَعَالَى ﴿يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ﴾ وَمِنْهَا الْقِيَامَة قَالَ تَعَالَى ﴿أَتَى أَمر الله﴾ وَمِنْهَا الْعَذَاب قَالَ الله تَعَالَى ﴿فَمَا أغنت عَنْهُم آلِهَتهم الَّتِي يدعونَ من دون الله من شَيْء لما جَاءَ أَمر رَبك وَمَا زادوهم غير تتبيب﴾ وَمِنْهَا الذَّنب قَالَ الله تَعَالَى ﴿فذاقت وبال أمرهَا﴾ فإمَّا أَن نقُول كل ذَلِك يرجع إِلَى شَيْء وَاحِد وَهُوَ أَن تَمام ذَلِك كُله بِاللَّه تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿قل إِن الْأَمر كُله لله﴾ ثمَّ فهمنا ذَلِك بِمَا هُوَ صِيغَة الْأَمر حَقِيقَة فَقَالَ ﴿إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾ وكما قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون﴾ أَو نقُول مَا كَانَ حَقِيقَة لشَيْء لَا يجوز نَفْيه عَنهُ بِحَال وَمَا كَانَ مُسْتَعْملا بطرِيق الْمجَاز لشَيْء يجوز نَفْيه عَنهُ كاسم الْأَب فَهُوَ حَقِيقَة للْأَب الْأَدْنَى فَلَا يجوز نَفْيه عَنهُ ومجاز للْجدّ فَيجوز نَفْيه عَنهُ بِإِثْبَات غَيره ثمَّ يجوز نفي هَذِه الْعبارَة عَن الْفِعْل وَغَيره مِمَّا لَا يُوجد فِيهِ هَذِه الصِّيغَة فَإِن الْإِنْسَان إِذا قَالَ مَا أمرت الْيَوْم بِشَيْء كَانَ صَادِقا وَإِن كَانَ قد فعل أفعالا فَعرفنَا أَن الِاسْتِعْمَال فِيهِ مجَاز وَطَرِيق هَذَا الْمجَاز أَنهم فِي قَوْلهم أَمر فلَان سديد مُسْتَقِيم أجروا اسْم الْمصدر على الْمَفْعُول بِهِ كَقَوْلِهِم هَذَا الدِّرْهَم ضرب الْأَمِير وَهَذَا الثَّوْب نسج الْيمن وأيد مَا قُلْنَا مَا رُوِيَ أَن النَّبِي ﷺ لما خلع نَعْلَيْه فِي الصَّلَاة خلع النَّاس نعَالهمْ فَلَمَّا فرغ قَالَ ﵇ مَا حملكم على مَا صَنَعْتُم وَلَو كَانَ فعله يُوجب الِاتِّبَاع مُطلقًا لم يكن لهَذَا السُّؤَال مِنْهُ معنى
وَلما وَاصل ﷺ وَاصل أَصْحَابه فَأنْكر عَلَيْهِم وَقَالَ إِنِّي لست
1 / 13
كأحدكم إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني وَفِي اسْتِعْمَال صِيغَة الْأَمر فِي قَوْله خُذُوا عني مَنَاسِككُم وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي بَيَان أَن نفس الْفِعْل لَا يُوجب الِاتِّبَاع لَا محَالة فقد كَانُوا مشاهدين لذَلِك وَلَو ثَبت بِهِ وجوب الِاتِّبَاع خلا هَذَا اللَّفْظ عَن فَائِدَة وَذَلِكَ لَا يجوز اعْتِقَاده فِي كَلَام صَاحب الشَّرْع فِيمَا يرجع إِلَى إحكام الْبَيَان
فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر الَّذِي يذكر فِي مُقَدّمَة هَذَا الْفَصْل
اعْلَم أَن صِيغَة الْأَمر تسْتَعْمل على سَبْعَة أوجه على الْإِلْزَام كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ﴿آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ وعَلى النّدب كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿وافعلوا الْخَيْر﴾ وَقَوله تَعَالَى ﴿وأحسنوا﴾ وعَلى الْإِبَاحَة كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم﴾ وعَلى الْإِرْشَاد إِلَى مَا هُوَ الأوثق كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿وَأشْهدُوا إِذا تبايعتم﴾ وعَلى التقريع كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿فَأتوا بِسُورَة من مثله﴾ وعَلى التوبيخ كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم بصوتك﴾ وعَلى السُّؤَال كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿رَبنَا تقبل منا﴾
وَلَا خلاف أَن السُّؤَال والتوبيخ والتقريع لَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر وَإِن كَانَ فِي صُورَة الْأَمر وَلَا خلاف أَن اسْم الْأَمر يتَنَاوَل مَا هُوَ للإلزام حَقِيقَة ويختلفون فِيمَا هُوَ للْإِبَاحَة أَو الْإِرْشَاد أَو النّدب فَذكر الْكَرْخِي والجصاص رحمهمَا الله أَن هَذَا لَا يُسمى أمرا حَقِيقَة وَإِن كَانَ الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا وَاخْتلف فِيهِ أَصْحَاب الشَّافِعِي فَمنهمْ من يَقُول اسْم الْأَمر يتَنَاوَل ذَلِك كُله حَقِيقَة وَمِنْهُم من يَقُول مَا كَانَ للنَّدْب يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر حَقِيقَة لِأَنَّهُ يُثَاب على فعله ونيل الثَّوَاب يكون بِالطَّاعَةِ وَالطَّاعَة فِي الائتمار بِالْأَمر وَهَذَا لَيْسَ بِقَوي فَإِن نيل الثَّوَاب بِفعل النَّوَافِل من الصَّوْم
1 / 14
وَالصَّلَاة لِأَنَّهُ عمل بِخِلَاف هوى النَّفس الأمارة بالسوء على قصد ابْتِغَاء مرضاة الله تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى﴾ وَلَيْسَ من ضَرُورَة هَذَا كَون الْعَمَل مَأْمُورا بِهِ
والفريق الثَّانِي يَقُولُونَ مَا يُفِيد الْإِبَاحَة وَالنَّدْب فموجبه بعض مُوجب مَا هُوَ الْإِيجَاب لِأَن بِالْإِيجَابِ هَذَا وَزِيَادَة فَيكون هَذَا قاصرا لَا مغايرا وَالْمجَاز مَا جَاوز أَصله وتعداه
وَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن الِاسْم فِيهِ حَقِيقَة وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِن مُوجب الْأَمر حَقِيقَة الْإِيجَاب وَقطع التَّخْيِير لِأَن ذَلِك من ضَرُورَة الْإِيجَاب وبالإباحة وَالنَّدْب لَا يَنْقَطِع التَّخْيِير
عرفنَا أَن مُوجبه غير مُوجب الْأَمر حَقِيقَة وَإِنَّمَا يتَنَاوَلهُ اسْم الْأَمر مجَازًا
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْعَرَب تسمي تَارِك الْأَمر عَاصِيا وَبِه ورد الْكتاب قَالَ الله تَعَالَى ﴿أفعصيت أَمْرِي﴾ وَقَالَ الْقَائِل أَمرتك أمرا جَازِمًا فعصيتني وَكَانَ من التَّوْفِيق قتل ابْن هَاشم وَقَالَ دُرَيْد بن الصمَّة أَمرتهم أَمْرِي بمنعرج اللوى فَلم يستبينوا الرشد إِلَّا ضحى الْغَد فَلَمَّا عصوني كنت فيهم وَقد أرى غوايتهم فِي أنني غير مهتدي وتارك الْمُبَاح وَالْمَنْدُوب إِلَيْهِ لَا يكون عاصبا فَعرفنَا أَن الِاسْم لَا يتَنَاوَلهُ حَقِيقَة ثمَّ حد الْحَقِيقَة فِي الْأَسَامِي مَا لَا يجوز نَفْيه عَمَّا هُوَ حَقِيقَة فِيهِ ورأينا أَن الْإِنْسَان لَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَوْم سِتَّة من شَوَّال كَانَ صَادِقا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَوْم رَمَضَان كَانَ كَاذِبًا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الضُّحَى كَانَ صَادِقا وَلَو قَالَ مَا أَمرنِي الله بِصَلَاة الظّهْر كَانَ كَاذِبًا
فَفِي تَجْوِيز نفي صِيغَة الْأَمر عَن الْمَنْدُوب دَلِيل ظَاهر على أَن الِاسْم يتَنَاوَلهُ مجَازًا لَا حَقِيقَة
فَأَما الْكَلَام فِي مُوجب الْأَمر فَالْمَذْهَب عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء أَن مُوجب مطلقه الْإِلْزَام إِلَّا بِدَلِيل
وَزعم ابْن سُرَيج من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَن مُوجبه الْوَقْف حَتَّى يتَبَيَّن المُرَاد بِالدَّلِيلِ وَادّعى أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي فقد ذكر فِي أَحْكَام الْقُرْآن فِي قَوْله ﴿فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء﴾ أَنه يحْتَمل أَمريْن
وَأنكر هَذَا أَكثر أَصْحَابه وَقَالُوا مُرَاده أَنه يحْتَمل أَن يكون بِخِلَاف الْإِطْلَاق وَهَكَذَا قَالَ فِي الْعُمُوم إِنَّه يحْتَمل الْخُصُوص بِأَن يرد دَلِيل يَخُصُّهُ وَإِن كَانَ الظَّاهِر عِنْده الْعُمُوم
1 / 15
وَزَعَمُوا أَنه جزم على أَن الْأَمر للْوُجُوب فِي سَائِر كتبه
وَقَالَ بعض أَصْحَاب مَالك إِن مُوجب مطلقه الْإِبَاحَة وَقَالَ بَعضهم مُوجبه النّدب
أما الواقفون فَيَقُولُونَ قد صَحَّ اسْتِعْمَال هَذِه الصِّيغَة لمعان مُخْتَلفَة كَمَا بَينا فَلَا يتَعَيَّن شَيْء مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيل لتحَقّق الْمُعَارضَة فِي الِاحْتِمَال وَهَذَا فَاسد جدا فَإِن الصَّحَابَة امتثلوا أَمر رَسُول الله ﷺ كَمَا سمعُوا مِنْهُ صِيغَة الْأَمر من غير أَن اشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَو لم يكن مُوجب هَذِه الصِّيغَة مَعْلُوما بهَا لاشتغلوا بِطَلَب دَلِيل آخر للْعَمَل وَلَا يُقَال إِنَّمَا عرفُوا ذَلِك بِمَا شاهدوا من الْأَحْوَال لَا بِصِيغَة الْأَمر لِأَن من كَانَ غَائِبا مِنْهُم عَن مَجْلِسه اشْتغل بِهِ كَمَا بلغه صِيغَة الْأَمر حسب مَا اشْتغل بِهِ من كَانَ حَاضرا ومشاهدة الْحَال لَا تُوجد فِي حق من كَانَ غَائِبا وَحين دَعَا رَسُول الله ﷺ أبي بن كَعْب ﵁ فَأخر الْمَجِيء لكَونه فِي الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ أما سَمِعت الله يَقُول ﴿اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ﴾ فاستدل عَلَيْهِ بِصِيغَة الْأَمر فَقَط وَعرف النَّاس كلهم دَلِيل على مَا قُلْنَا فَإِن من أَمر من تلْزمهُ طَاعَته بِهَذِهِ الصِّيغَة فَامْتنعَ كَانَ ملاما معاتبا وَلَو كَانَ الْمَقْصُود لَا يصير مَعْلُوما بهَا للاحتمال لم يكن معاتبا
ثمَّ كَمَا أَن الْعبارَات لَا تقصر عَن الْمعَانِي فَكَذَلِك كل عبارَة تكون لِمَعْنى خَاص بِاعْتِبَار أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض وَصِيغَة الْأَمر أحد تصاريف الْكَلَام فَلَا بُد من أَن يكون لِمَعْنى خَاص فِي أصل الْوَضع وَلَا يثبت الِاشْتِرَاك فِيهِ إِلَّا بِعَارِض مغير لَهُ بِمَنْزِلَة دَلِيل الْخُصُوص فِي الْعَام
وَمن يَقُول بِأَن مُوجب مُطلق الْأَمر الْوَقْف لَا يجد بدا من أَن يَقُول مُوجب مُطلق النَّهْي الْوَقْف أَيْضا للاحتمال فَيكون هَذَا قولا باتحاد موجبهما وَهُوَ بَاطِل وَفِي القَوْل بِأَن مُوجب الْأَمر الْوَقْف إبِْطَال حقائق الْأَشْيَاء وَلَا وَجه للمصير إِلَيْهِ وَالِاحْتِمَال الَّذِي ذَكرُوهُ نعتبره فِي أَن لَا نجعله محكما بِمُجَرَّد الصِّيغَة لَا فِي أَن لَا يثبت مُوجبه أصلا أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره إِن شِئْت فافعل كَذَا وَإِن شِئْت فافعل كَذَا كَانَ مُوجب كَلَامه التَّخْيِير عِنْد الْعُقَلَاء وَاحْتِمَال غَيره وَهُوَ الزّجر قَائِم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ﴿فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر﴾
1 / 16
وَأما الَّذين قَالُوا مُوجبه الْإِبَاحَة اعتبروا الِاحْتِمَال لكِنهمْ قَالُوا من ضَرُورَة الْأَمر ثُبُوت صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ فَإِن الْحَكِيم لَا يَأْمر بالقبيح فَيثبت بمطلقه مَا هُوَ من ضَرُورَة هَذِه الصِّيغَة وَهُوَ التَّمْكِين من الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَالْإِبَاحَة وَهَذَا فَاسد أَيْضا فصفة الْحسن بِمُجَرَّدِهِ تثبت بِالْإِذْنِ وَالْإِبَاحَة وَهَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لِمَعْنى خَاص فَلَا بُد أَن تثبت بمطلقها حسنا بِصفة وَيعْتَبر الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن مُطلق النَّهْي يُوجب قبح الْمنْهِي عَنهُ على وَجه يجب الِانْتِهَاء عَنهُ فَكَذَلِك مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ على وَجه يجب الائتمار
وَالَّذين قَالُوا بالندب ذَهَبُوا إِلَى أَن الْأَمر لطلب الْمَأْمُور بِهِ من الْمُخَاطب وَذَلِكَ يرجح جَانب الْإِقْدَام عَلَيْهِ ضَرُورَة
وَهَذَا التَّرْجِيح قد يكون بالإلزام وَقد يكون بالندب فَيثبت أقل الْأَمريْنِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقن بِهِ حَتَّى يقوم الدَّلِيل على الزِّيَادَة وَهَذَا ضَعِيف فَإِن الْأَمر لما كَانَ لطلب الْمَأْمُور بِهِ اقْتضى مطلقه الْكَامِل من الطّلب إِذْ لَا قُصُور فِي الصِّيغَة وَلَا فِي ولَايَة الْمُتَكَلّم فَإِنَّهُ مفترض الطَّاعَة بِملك الْإِلْزَام
ثمَّ إِمَّا أَن يكون الْأَمر حَقِيقَة فِي الْإِيجَاب خَاصَّة فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يحمل على حَقِيقَة أَو يكون حَقِيقَة فِي الْإِيجَاب وَالنَّدْب جَمِيعًا فَيثبت بمطلقه الْإِيجَاب لتَضَمّنه النّدب وَالزِّيَادَة لَا يجوز أَن يُقَال هُوَ للنَّدْب حَقِيقَة وللإيجاب مجَازًا لِأَن هَذَا يُؤَدِّي إِلَى تصويب قَول من قَالَ إِن الله لم يَأْمر بِالْإِيمَان وَلَا بِالصَّلَاةِ وَبطلَان هَذَا لَا يخفى على ذِي لب
وَمَا قَالُوا يبطل بِلَفْظ الْعَام فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الثَّلَاثَة فَمَا فَوق ذَلِك ثمَّ عِنْد الْإِطْلَاق لَا يحمل على الْمُتَيَقن وَهُوَ الْأَقَل وَإِنَّمَا يحمل على الْجِنْس لتكثير الْفَائِدَة بِهِ
وَكَذَا صِيغَة الْأَمر وَلَو لم يكن فِي القَوْل بِمَا قَالُوا إِلَّا ترك الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ لَكَانَ ذَلِك كَافِيا فِي وجوب الْمصير إِلَى مَا قُلْنَا فَإِن الْمَنْدُوب بِفِعْلِهِ يسْتَحق الثَّوَاب وَلَا يسْتَحق بِتَرْكِهِ الْعقَاب وَالْوَاجِب يسْتَحق بِفِعْلِهِ الثَّوَاب وَيسْتَحق بِتَرْكِهِ الْعقَاب فَالْقَوْل بِأَن مُقْتَضى مُطلق الْأَمر الْإِيجَاب وَفِيه معنى الِاحْتِيَاط من كل وَجه أولى
1 / 17
ثمَّ الدَّلِيل على صِحَة قَوْلنَا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم﴾ فَفِي نفي التَّخْيِير بَيَان أَن مُوجب الْأَمر الْإِلْزَام ثمَّ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمن يعْص الله وَرَسُوله﴾ وَلَا يكون عَاصِيا بترك الِامْتِثَال إِلَّا أَن يكون مُوجبه الْإِلْزَام وَقَالَ ﴿مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك﴾ أَي أَن تسْجد فقد ذمه على الِامْتِنَاع من الِامْتِثَال والذم بترك الْوَاجِب وَقَالَ تَعَالَى ﴿فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة﴾ وَخَوف الْعقُوبَة فِي ترك الْوَاجِب وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول ترك الائتمار لَا يكون خلافًا فَإِن الْمَأْمُور فِي الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك وَلَا شكّ فِي أَن ترك الائتمار بِالْفطرِ من غير عذر يكون خلافًا فِيمَا هُوَ الْمَأْمُور بِهِ
ثمَّ الْأَمر يطْلب الْمَأْمُور بآكد الْوُجُوه يشْهد بِهِ الْكتاب وَالْإِجْمَاع والمعقول
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى ﴿وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره﴾ فإضافة الْوُجُود وَالْقِيَام إِلَى الْأَمر ظَاهره يدل على أَن الإيجاد يتَّصل بِالْأَمر وَكَذَلِكَ قَوْله ﴿إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون﴾ فَالْمُرَاد حَقِيقَة هَذِه الْكَلِمَة عندنَا لَا أَن يكون مجَازًا عَن التكوين كَمَا زعم بَعضهم فَإنَّا نستدل بِهِ على أَن كَلَام الله غير مُحدث وَلَا مَخْلُوق لِأَنَّهُ سَابق على المحدثات أجمع وحرف الْفَاء للتعقيب
فَبِهَذَا يتَبَيَّن أَن هَذِه الصِّيغَة لطلب الْمَأْمُور بآكد الْوُجُوه وَالْإِجْمَاع دَلِيل عَلَيْهِ فَإِن من أَرَادَ أَن يطْلب عملا من غَيره لَا يجد لفظا مَوْضُوعا لإِظْهَار مَقْصُوده سوى قَوْله افْعَل وَبِهَذَا يثبت أَن هَذِه الصِّيغَة مَوْضُوعَة لهَذَا الْمَعْنى خَاصَّة كَمَا أَن اللَّفْظ الْمَاضِي مَوْضُوع للمضي والمستقبل للاستقبال وَكَذَلِكَ الْحَال
ثمَّ سَائِر الْمعَانِي الَّتِي وضعت
1 / 18
الْأَلْفَاظ لَهَا كَانَت لَازِمَة لمطلقها إِلَّا أَن يقوم الدَّلِيل بِخِلَافِهِ فَكَذَلِك معنى طلب الْمَأْمُور بِهَذِهِ الصِّيغَة وَلِأَن قَوْلنَا أَمر فعل مُتَعَدٍّ لَازمه ائتمر والمتعدي لَا يتَحَقَّق بِدُونِ اللَّازِم فَهَذَا يَقْتَضِي أَن لَا يكون أمرا بِدُونِ الائتمار كَمَا لَا يكون كسرا بِدُونِ الانكسار وَحَقِيقَة الائتمار بِوُجُود الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا أَن الْوُجُود لَو اتَّصل بِالْأَمر وَلَا صنع للمخاطب فِيهِ سقط التَّكْلِيف وَهَذَا لَا وَجه لَهُ لِأَن فِي الائتمار للمخاطب ضرب اخْتِيَار بِقدر مَا يَنْتَفِي بِهِ الْجَبْر وَيسْتَحق الثَّوَاب بالإقدام على الائتمار وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق إِذا اتَّصل الْوُجُود بِصِيغَة الْأَمر فَلم تثبت حَقِيقَة الْوُجُود بِهَذِهِ الصِّيغَة تَحَرُّزًا عَن القَوْل بالجبر فأثبتنا بِهِ آكِد مَا يكون من وُجُوه الطّلب وَهُوَ الْإِلْزَام أَلا ترى أَن بِمُطلق النَّهْي يثبت آكِد مَا يكون من طلب الإعدام وَهُوَ وجوب الِانْتِهَاء وَلَا يثبت الانعدام بِمُطلق النَّهْي وَكَذَلِكَ بِالْأَمر لِأَن إِحْدَى الصيغتين لطلب الإيجاد وَالْأُخْرَى لطلب الإعدام
وَمن فروع هَذَا الْفَصْل الْأَمر بعد الْحَظْر فَالصَّحِيح عندنَا أَن مطلقه للْإِيجَاب أَيْضا لما قَررنَا أَن الْإِلْزَام مُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة عِنْد الْإِمْكَان إِلَّا أَن يقوم دَلِيل مَانع
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُولُونَ مُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَة لِأَنَّهُ لإِزَالَة الْحَظْر وَمن ضَرُورَته الْإِبَاحَة فَقَط فَكَأَن الْآمِر قَالَ كنت منعتك عَن هَذَا فَرفعت ذَلِك الْمَنْع وأذنت لَك فِيهِ
فاستدلوا على هَذَا بقوله تَعَالَى ﴿فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض وابتغوا من فضل الله﴾
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِذا حللتم فاصطادوا﴾ وَلَكنَّا نقُول إِبَاحَة الِاصْطِيَاد للْحَلَال بقوله ﴿أحل لكم الطَّيِّبَات﴾ الْآيَة لَا بِصِيغَة الْأَمر مَقْصُودا بِهِ وَكَذَلِكَ إِبَاحَة البيع بعد الْفَرَاغ من الْجُمُعَة بقوله ﴿وَأحل الله البيع﴾ لَا بِصِيغَة الْأَمر ثمَّ صِيغَة الْأَمر لَيست لإِزَالَة الْحَظْر وَلَا لرفع الْمَنْع بل لطلب الْمَأْمُور بِهِ وارتفاع الْحَظْر وَزَوَال الْمَنْع من ضَرُورَة هَذَا الطّلب فَإِنَّمَا يعْمل مُطلق اللَّفْظ فِيمَا يكون مَوْضُوعا لَهُ حَقِيقَة
1 / 19
فصل فِي بَيَان مُقْتَضى مُطلق الْأَمر فِي حكم التّكْرَار
الصَّحِيح من مَذْهَب عُلَمَائِنَا أَن صِيغَة الْأَمر لَا توجب التّكْرَار وَلَا تحتمله وَلَكِن الْأَمر بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي أدنى مَا يكون من جنسه على احْتِمَال الْكل وَلَا يكون مُوجبا للْكُلّ إِلَّا بِدَلِيل
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا هَذَا إِذا لم يكن مُعَلّقا بِشَرْط وَلَا مُقَيّدا بِوَصْف فَإِن كَانَ فمقتضاه التّكْرَار بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِي مطلقه لَا يُوجب التّكْرَار وَلَكِن يحْتَملهُ وَالْعدَد أَيْضا إِذا اقْترن بِهِ دَلِيل
وَقَالَ بَعضهم مطلقه يُوجب التّكْرَار إِلَّا أَن يقوم دَلِيل يمْنَع مِنْهُ ويحكى هَذَا عَن الْمُزنِيّ وَاحْتج صَاحب هَذَا الْمَذْهَب بِحَدِيث أَقرع بن حَابِس ﵁ حَيْثُ سَأَلَ رَسُول الله ﷺ عَن الْحَج أَفِي كل عَام أم مرّة فَقَالَ بل مرّة وَلَو قلت فِي كل عَام لَوَجَبَتْ وَلَو وَجَبت مَا قُمْتُم بهَا فَلَو لم تكن صِيغَة الْأَمر فِي قَوْله حجُّوا مُحْتملا التّكْرَار أَو مُوجبا لَهُ لما أشكل عَلَيْهِ ذَلِك فقد كَانَ من أهل اللِّسَان ولكان يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله ﷺ سُؤَاله عَمَّا لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ فحين اشْتغل بِبَيَان معنى دفع الْحَرج فِي الِاكْتِفَاء بِمرَّة وَاحِدَة عرفنَا أَن مُوجب هَذِه الصِّيغَة التّكْرَار
ثمَّ الْمرة من التّكْرَار بِمَنْزِلَة الْخَاص من الْعَام وَمُوجب الْعَام الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص
وَبَيَان هَذَا أَن قَول الْقَائِل افْعَل طلب الْفِعْل بِمَا هُوَ مُخْتَصر من الْمصدر الَّذِي هُوَ نِسْبَة الِاسْم وَهُوَ الْفِعْل وَحكم الْمُخْتَصر مَا هُوَ حكم المطول وَالِاسْم يُوجب إِطْلَاقه الْعُمُوم حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص فَكَذَلِك الْفِعْل لِأَن للْفِعْل كلا وبعضا كَمَا للْمَفْعُول فمطلقه يُوجب الْكل ويحتمله ثمَّ الْكل لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالتكرار
واعتبروا الْأَمر بِالنَّهْي فَكَمَا أَن النَّهْي يُوجب إعدام الْمنْهِي عَنهُ عَاما فَكَذَلِك الْأَمر يُوجب إيجاده تَمامًا حَتَّى يقوم دَلِيل الْخُصُوص وَذَلِكَ يُوجب التّكْرَار لَا محَالة
1 / 20
وَأما الشَّافِعِي ﵀ فاحتج بِنَحْوِ هَذَا أَيْضا وَلَكِن على وَجه يتَبَيَّن بِهِ الْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي وَيثبت بِهِ الِاحْتِمَال دون الْإِيجَاب وَذَلِكَ أَن قَوْله افْعَل يَقْتَضِي مصدرا على سَبِيل التنكير أَي افْعَل فعلا
بَيَانه فِي قَوْله طلق أَي طلق طَلَاقا وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ على سَبِيل التنكير لِأَن ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء للْحَاجة إِلَى تَصْحِيح الْكَلَام وبالمنكر يحصل هَذَا الْمَقْصُود فَيكون الثَّابِت بِمُقْتَضى هَذِه الصِّيغَة مَا هُوَ نكرَة فِي الْإِثْبَات والنكرة فِي الْإِثْبَات تخص كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿فَتَحْرِير رَقَبَة﴾ وَلَكِن احْتِمَال التّكْرَار وَالْعدَد فِيهِ لَا يشكل لِأَن ذَلِك الْمُنكر مُتَعَدد فِي نَفسه
أَلا ترى أَنه يَسْتَقِيم أَن يقرن بِهِ على وَجه التَّفْسِير وَتقول طَلقهَا اثْنَتَيْنِ أَو مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَيكون ذَلِك نصبا على التَّفْسِير وَلَو لم يكن اللَّفْظ مُحْتملا لَهُ لم يستقم تَفْسِيره بِهِ بِخِلَاف النَّهْي فصيغة النَّهْي عَن الْفِعْل تَقْتَضِي أَيْضا مصدرا على سَبِيل التنكير أَي لَا تفعل فعلا وَلَكِن النكرَة فِي النَّفْي تعم
قَالَ الله تَعَالَى ﴿وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا﴾ وَمن قَالَ لغيره لَا تَتَصَدَّق من مَالِي يتَنَاوَل النَّهْي كل دِرْهَم من مَاله بِخِلَاف قَوْله تصدق من مَالِي فَإِنَّهُ لَا يتَنَاوَل الْأَمر إِلَّا الْأَقَل على احْتِمَال أَن يكون مُرَاده كل مَاله وَلِهَذَا قَالَ إِن مُطلق الصِّيغَة لَا توجب التّكْرَار لِأَن ثُبُوت الْمصدر فِيهِ بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا عُمُوم للمقتضى يُوضحهُ أَن هَذِه الصِّيغَة أحد أَقسَام الْكَلَام فَتعْتَبر بِسَائِر الْأَقْسَام
وَقَول الْقَائِل دخل فلَان الدَّار إِخْبَار عَن دُخُوله على احْتِمَال أَن يكون دخل مرّة أَو مرَّتَيْنِ أَو مرَارًا فَكَذَلِك قَوْله ادخل يكون طلب الدُّخُول مِنْهُ على احْتِمَال أَن يكون المُرَاد مرّة أَو مرَارًا ثمَّ الْمُوجب مَا هُوَ الْمُتَيَقن بِهِ دون الْمُحْتَمل
وَأما الَّذين قَالُوا فِي الْمُعَلق بِالشّرطِ أَو الْمُقَيد بِالْوَصْفِ إِنَّه يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الشَّرْط وَالْوَصْف استدلوا بالعبادات الَّتِي أَمر الشَّرْع بهَا مُقَيّدا بِوَقْت أَو حَال وبالعقوبات الَّتِي أَمر الشَّرْع بإقامتها مُقَيّدا بِوَصْف أَن ذَلِك يتَكَرَّر بِتَكَرُّر مَا قيد بِهِ
قَالَ ﵁ وَالصَّحِيح عِنْدِي أَن هَذَا لَيْسَ بِمذهب عُلَمَائِنَا ﵏ فَإِن من قَالَ لامْرَأَته إِذا دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق لم تطلق بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا مرّة وَإِن تكَرر مِنْهَا الدُّخُول
1 / 21
وَلم تطلق إِلَّا وَاحِدَة وَإِن نوى أَكثر من ذَلِك وَهَذَا لِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ عِنْد وجود الشَّرْط كالمنجز وَهَذِه الصِّيغَة لَا تحْتَمل الْعدَد والتكرار عِنْد التَّنْجِيز فَكَذَلِك عِنْد التَّعْلِيق بِالشّرطِ إِذا وجد الشَّرْط وَإِنَّمَا يحْكى هَذَا الْكَلَام عَن الشَّافِعِي ﵀ فَإِنَّهُ أوجب التَّيَمُّم لكل صَلَاة وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى ﴿إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة﴾ إِلَى قَوْله ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ وَقَالَ ظَاهر هَذَا الشَّرْط يُوجب الطَّهَارَة عِنْد الْقيام إِلَى كل صَلَاة غير أَن النَّبِي ﷺ لما صلى صلوَات بِوضُوء وَاحِد ترك هَذَا فِي الطَّهَارَة بِالْمَاءِ لقِيَام الدَّلِيل فَبَقيَ حكم التَّيَمُّم على مَا اقْتَضَاهُ أصل الْكَلَام
وَهَذَا سَهْو فَالْمُرَاد بقوله ﴿إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة﴾ أَي وَأَنْتُم محدثون عَلَيْهِ اتّفق أهل التَّفْسِير وَبِاعْتِبَار إِضْمَار هَذَا السَّبَب يَسْتَوِي حكم الطَّهَارَة بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّم وَهَذَا هُوَ الْجَواب عَمَّا يستدلون بِهِ من الْعِبَادَات والعقوبات فَإِن تكررها لَيْسَ بِصِيغَة مُطلق الْأَمر وَلَا بِتَكَرُّر الشَّرْط بل بتجدد السَّبَب الَّذِي جعله الشَّرْع سَببا مُوجبا لَهُ فَفِي قَوْله تَعَالَى ﴿أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس﴾ أَمر بِالْأَدَاءِ وَبَيَان للسبب الْمُوجب وَهُوَ دلوك الشَّمْس فقد جعل الشَّرْع ذَلِك الْوَقْت سَببا مُوجبا للصَّلَاة إِظْهَارًا لفضيلة ذَلِك الْوَقْت بِمَنْزِلَة قَول الْقَائِل أد الثّمن للشراء وَالنَّفقَة للنِّكَاح يفهم مِنْهُ الْأَمر بِالْأَدَاءِ وَالْإِشَارَة إِلَى السَّبَب الْمُوجب لما طُولِبَ بِأَدَائِهِ
وَلما أشكل على الْأَقْرَع بن حَابِس ﵁ حكم الْحَج حَتَّى سَأَلَ فقد كَانَ من الْمُحْتَمل أَن يكون وَقت الْحَج هُوَ السَّبَب الْمُوجب لَهُ بِجعْل الشَّرْع إِيَّاه لذَلِك بِمَنْزِلَة الصَّوْم وَالصَّلَاة وَمن الْمُحْتَمل أَن يكون السَّبَب مَا هُوَ غير متكرر وَهُوَ الْبَيْت وَالْوَقْت شَرط الْأَدَاء وَالنَّبِيّ ﵇ بَين لَهُ بقوله بل مرّة أَن السَّبَب هُوَ الْبَيْت وَفِي قَوْله ﵇ وَلَو قلت فِي كل عَام لَوَجَبَتْ دَلِيل على أَن مُطلق الْأَمر لَا يُوجب التّكْرَار لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُوجبا لَهُ كَانَ الْوُجُوب فِي كل عَام بِصِيغَة الْأَمر لَا بِهَذَا القَوْل مِنْهُ وَقد نَص على أَنَّهَا كَانَت تجب بقوله لَو قلت فِي كل عَام
ثمَّ الْحجَّة لنا فِي أَن هَذِه الصِّيغَة لَا توجب التّكْرَار وَلَا تحتمله أَن قَوْله افْعَل
1 / 22
لطلب فعل مَعْلُوم بحركات تُوجد مِنْهُ وتنقضي وَتلك الحركات لَا تبقى وَلَا يتَصَوَّر عودهَا إِنَّمَا المتصور تجدّد مثلهَا وَلِهَذَا يُسمى تَكْرَارا مجَازًا من غير أَن يشكل على أحد أَن الثَّانِي غير الأول
وَبِهَذَا تبين أَنه لَيْسَ فِي هَذِه الصِّيغَة احْتِمَال الْعدَد وَلَا احْتِمَال التّكْرَار أَلا ترى أَن من يَقُول لغيره اشْتَرِ لي عبدا لَا يتَنَاوَل هَذَا أَكثر من عبد وَاحِد وَلَا يحْتَمل الشِّرَاء مرّة بعد مرّة أَيْضا وَكَذَلِكَ قَوْله زَوجنِي امْرَأَة لَا يحْتَمل إِلَّا امْرَأَة وَاحِدَة وَلَا يحْتَمل تزويجا بعد تَزْوِيج إِلَّا أَن مَا بِهِ يتم فعله عِنْد الحركات الَّتِي تُوجد مِنْهُ لَهُ كل وَبَعض فَيثبت بالصيغة الْيَقِين الَّذِي هُوَ الْأَقَل للتيقن بِهِ وَيحْتَمل الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه عملت نِيَّته فِيهِ وَلَيْسَ فِيهِ احْتِمَال الْعدَد أصلا فَلَا تعْمل نِيَّته فِي الْعدَد وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ لامْرَأَته طَلِّقِي نَفسك أَو لأَجْنَبِيّ طَلقهَا إِنَّه يتَنَاوَل الْوَاحِد إِلَّا أَن يَنْوِي الثَّلَاث فتعمل نِيَّته لِأَن ذَلِك كل فِيمَا يتم بِهِ فعل الطَّلَاق وَلَو نوى اثْنَتَيْنِ لم تعْمل نِيَّته لِأَنَّهُ مُجَرّد نِيَّة الْعدَد إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة أمة فَتكون نِيَّته الثِّنْتَيْنِ فِي حَقّهَا نِيَّة كل الطَّلَاق وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لعَبْدِهِ تزوج يتَنَاوَل امْرَأَة وَاحِدَة إِلَّا أَن يَنْوِي اثْنَتَيْنِ فتعمل نِيَّته لِأَنَّهُ كل النِّكَاح فِي حق العَبْد لَا لِأَنَّهُ نوى الْعدَد وَلَا معنى لما قَالُوا إِن صِحَة اقتران الْعدَد والمرات بِهَذِهِ الصِّيغَة على سَبِيل التَّفْسِير لَهَا دَلِيل على أَن الصِّيغَة تحْتَمل ذَلِك لِأَن هَذَا الْقرَان عمله فِي تَغْيِير مُقْتَضى الصِّيغَة لَا فِي التَّفْسِير لما هُوَ من محتملات تِلْكَ الصِّيغَة بِمَنْزِلَة اقتران الشَّرْط وَالْبدل بِهَذِهِ الصِّيغَة
أَلا ترى أَن قَول الْقَائِل لامْرَأَته أَنْت طَالِق ثَلَاثًا لَا يحْتَمل وُقُوع الثِّنْتَيْنِ بِهِ مَعَ قيام الثَّلَاث فِي ملكه وَلَا التَّأْخِير إِلَى مُدَّة وَلَو قرن بِهِ إِلَّا وَاحِدَة إِلَى شهر أَو اثْنَتَيْنِ كَانَ صَحِيحا وَكَانَ عَاملا فِي تَغْيِير مُقْتَضى الصِّيغَة لَا أَن يكون مُفَسرًا لَهَا وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا قرن بالصيغة ذكر الْعدَد فِي الْإِيقَاع يكون الْوُقُوع بِلَفْظ الْعدَد لَا بِأَصْل الصِّيغَة حَتَّى لَو قَالَ لامْرَأَته طَلقتك ثَلَاثًا أَو قَالَ وَاحِدَة فَمَاتَتْ الْمَرْأَة قبل ذكر الْعدَد لم يَقع شَيْء
1 / 23
فَبِهَذَا تبين أَن عمل هَذَا الْقرَان فِي التَّغْيِير وَالتَّفْسِير يكون مقررا للْحكم الْمُفَسّر لَا مغيرا يُحَقّق مَا ذَكرْنَاهُ أَن قَول الْقَائِل اضْرِب أَي اكْتسب ضربا وَقَوله طلق أَي أوقع طَلَاقا وَهَذِه صِيغَة فَرد فَلَا تحْتَمل الْجمع وَلَا توجبه وَفِي التّكْرَار وَالْعدَد جمع لَا محَالة والمغايرة بَين الْجمع والفرد على سَبِيل المضادة فَكَمَا أَن صِيغَة الْجمع لَا تحْتَمل الْفَرد حَقِيقَة فَكَذَا صِيغَة الْفَرد لَا تحْتَمل الْجمع حَقِيقَة بِمَنْزِلَة الِاسْم الْفَرد نَحْو قَوْلنَا زيد لَا يحْتَمل الْجمع وَالْعدَد فالبعض مِمَّا تتناوله هَذِه الصِّيغَة فَرد صُورَة وَمعنى وكل فَرد من حَيْثُ الْجِنْس معنى فَإنَّك إِذا قابلت هَذَا الْجِنْس بِسَائِر الْأَجْنَاس كَانَ جِنْسا وَاحِدًا وَهُوَ جمع صُورَة فَعِنْدَ عدم النِّيَّة لَا يتَنَاوَل إِلَّا الْفَرد صُورَة وَمعنى وَلَكِن فِيهِ احْتِمَال الْكل لكَون ذَلِك فَردا معنى بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان فَإِنَّهُ فَرد لَهُ أَجزَاء وأبعاض وَالطَّلَاق أَيْضا فَرد جِنْسا وَله أَجزَاء وأبعاض فتعمل نِيَّة الْكل فِي الْإِيقَاع وَلَا تعْمل نِيَّة الثِّنْتَيْنِ أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ معنى الفردية صُورَة وَلَا معنى فَلم يكن من محتملات الْكَلَام أصلا وعَلى هَذَا الأَصْل تخرج أَسمَاء الْأَجْنَاس مَا يكون مِنْهَا فَردا صُورَة أَو حكما
أما الصُّورَة فكالماء وَالطَّعَام إِذا حلف لَا يشرب مَاء أَو لَا يَأْكُل طَعَاما يَحْنَث بِأَدْنَى مَا يتَنَاوَلهُ الِاسْم على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نوى ذَلِك لم يَحْنَث أصلا
وَلَو نوى مِقْدَارًا من ذَلِك لم تعْمل نِيَّته لخلو الْمَنوِي عَن صِيغَة الفردية صُورَة وَمعنى والفرد حكما كاسم النِّسَاء إِذا حلف لَا يتَزَوَّج النِّسَاء فَهَذِهِ صِيغَة الْجمع وَلَكِن جعلت عبارَة عَن الْجِنْس مجَازًا لأَنا لَو جعلناها جمعا لم يبْق لحرف اللَّام الَّذِي هُوَ للمعهود فِيهِ فَائِدَة وَلَو جَعَلْنَاهُ جِنْسا كَانَ حرف الْعَهْد فِيهِ مُعْتَبرا فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الْمَعْهُود من ذَلِك الْجِنْس وَيبقى معنى الْجمع مُعْتَبرا فِيهِ أَيْضا بِاعْتِبَار الْجِنْس فَيتَنَاوَل أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْجِنْس على احْتِمَال الْكل حَتَّى إِذا نَوَاه لم يَحْنَث قطّ وعَلى هَذَا لَو حلف لَا يَشْتَرِي العبيد أَو لَا يكلم بني آدم أَو وكل وَكيلا بِأَن يَشْتَرِي لَهُ الثِّيَاب فَإِن التَّوْكِيل صَحِيح بِخِلَاف مَا لَو وَكله بِأَن يَشْتَرِي لَهُ أثوابا على مَا بَيناهُ فِي الزِّيَادَات
1 / 24
وَحكي عَن عِيسَى بن أبان ﵀ أَنه كَانَ يَقُول صِيغَة مُطلق الْأَمر فِيمَا لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة تحْتَمل التّكْرَار وَإِن كَانَ لَا يُوَجه إِلَّا بِالدَّلِيلِ وَفِيمَا لَيست لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة لَا تحْتَمل التّكْرَار لِأَن فِيمَا لَا نِهَايَة لَهُ يعلم يَقِينا أَن الْمُخَاطب لم يرد الْكل فَإِن ذَلِك لَيْسَ فِي وسع الْمُخَاطب وَلَا طَرِيق لَهُ إِلَى مَعْرفَته وَهَذَا نَحْو قَوْله صم وصل فَلَيْسَ لهَذَا الْجِنْس من الْفِعْل نِهَايَة مَعْلُومَة وَإِنَّمَا يعجز العَبْد عَن إِقَامَته بِمَوْتِهِ فَعرفنَا يَقِينا أَن المُرَاد بِهَذَا الْخطاب الْفَرد مِنْهُ خَاصَّة وَأما فِيمَا لَهُ نِهَايَة مَعْلُومَة كَالطَّلَاقِ وَالْعدة فَالْكل من محتملات الْخطاب وَذَلِكَ تَارَة يكون بتكرار التَّطْلِيق وَتارَة يكون بِالْجمعِ بَين التطليقات فِي اللَّفْظ فَيكون صِيغَة الْكَلَام مُحْتملا لَهُ كُله
وَخرج على هَذَا الأَصْل قَول الرجل لامْرَأَته أَنْت طَالِق للسّنة أَو للعدة فَإِنَّهُ يحْتَمل نِيَّة الثَّلَاث فِي الْإِيقَاع جملَة وَاحِدَة وَنِيَّة التّكْرَار فِي أَن يَنْوِي وُقُوع كل تَطْلِيقَة فِي طهر على حِدة
وَفِيمَا قَرَّرْنَاهُ من الْكَلَام دَلِيل على ضعف مَا ذهب إِلَيْهِ إِذا تَأَمَّلت
وَالْكَلَام فِي مُقْتَضى صِيغَة الْفَرد دون مَا إِذا قرن بِهِ مَا يدل على التَّغْيِير من قَوْله للسّنة أَو للعدة
وَاسْتدلَّ الْجَصَّاص ﵀ على بطلَان قَول من يَقُول إِن مُطلق صِيغَة الْأَمر تَقْتَضِي التّكْرَار فَقَالَ بالامتثال مرّة وَاحِدَة يستجيز كل أحد أَن يَقُول إِنَّه أَتَى بالمأمور بِهِ وَخرج عَن مُوجب الْأَمر وَكَانَ مصيبا فِي ذَلِك فَلَو كَانَ مُوجبه التّكْرَار لَكَانَ آتِيَا بِبَعْض الْمَأْمُور بِهِ وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول فَإِذا أَتَى بِهِ ثَانِيًا وثالثا يُقَال أَيْضا فِي الْعَادة أَتَى بالمأمور بِهِ لِأَن قَائِل هَذَا لَا يكون مصيبا فِي ذَلِك فِي الْحَقِيقَة فَإِن الْمُخَاطب فِي الْمرة الثَّانِيَة مُتَطَوّع من عِنْده بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ لَا أَن يكون آتِيَا بالمأمور بِهِ بِمَنْزِلَة الْمُصَلِّي أَربع رَكْعَات فِي الْوَقْت بعد صَلَاة الظّهْر يكون مُتَطَوعا بِمثل مَا كَانَ مَأْمُورا بِهِ إِلَّا أَن الَّذِي يُسَمِّيه آتِيَا بالمأمور بِهِ إِنَّمَا يُسَمِّيه بذلك توسعا ومجازا فَلهَذَا لَا نُسَمِّيه كَاذِبًا وَالله أعلم
1 / 25
فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حكم الْوَقْت
الْأَمر نَوْعَانِ مُطلق عَن الْوَقْت ومقيد بِهِ فنبدأ بِبَيَان الْمُطلق قَالَ ﵁ وَالَّذِي يَصح عِنْدِي فِيهِ من مَذْهَب عُلَمَائِنَا ﵏ أَنه على التَّرَاخِي فَلَا يثبت حكم وجوب الْأَدَاء على الْفَوْر بِمُطلق الْأَمر نَص عَلَيْهِ فِي الْجَامِع فَقَالَ فِيمَن نذر أَن يعْتَكف شهرا يعْتَكف أَي شهر شَاءَ وَكَذَلِكَ لَو نذر أَن يَصُوم شهرا
وَالْوَفَاء بِالنذرِ وَاجِب بِمُطلق الْأَمر
وَفِي كتاب الصَّوْم أَشَارَ فِي قَضَاء رَمَضَان إِلَى أَنه يقْضِي مَتى شَاءَ وَفِي الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر وَالْعشر الْمَذْهَب مَعْلُوم فِي أَنه لَا يصير مفرطا بِتَأْخِير الْأَدَاء وَأَن لَهُ أَن يبْعَث بهَا إِلَى فُقَرَاء قرَابَته فِي بَلْدَة أُخْرَى
وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي ﵀ يَقُول مُطلق الْأَمر يُوجب الْأَدَاء على الْفَوْر وَهُوَ الظَّاهِر من مَذْهَب الشَّافِعِي ﵀ فقد ذكر فِي كِتَابه إِنَّا استدللنا بِتَأْخِير رَسُول الله ﷺ الْحَج مَعَ الْإِمْكَان على أَن وقته موسع وَهَذَا مِنْهُ إِشَارَة إِلَى أَن مُوجب مُطلق الْأَمر على الْفَوْر حَتَّى يقوم الدَّلِيل
وَبَعض أَصْحَاب الشَّافِعِي يَقُول هُوَ مَوْقُوف على الْبَيَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا ينبىء عَن الْوَقْت فَيكون مُجملا فِي حَقه وَهَذَا فَاسد جدا فَإِنَّهُم يوافقونا على ثُبُوت أصل الْوَاجِب بِمُطلق الْأَمر وَذَلِكَ يُوجب الْأَدَاء عِنْد الْإِمْكَان وَلَا إِمْكَان إِلَّا بِوَقْت فَثَبت بِدَلِيل الْإِشَارَة إِلَى الْوَقْت بِهَذَا الطَّرِيق
ثمَّ بِهَذَا الْكَلَام يسْتَدلّ الْكَرْخِي فَيَقُول وَقت الْأَدَاء ثَابت بِمُقْتَضى الْحَال وَمُقْتَضى الْحَال دون مُقْتَضى اللَّفْظ وَلَا عُمُوم لمقْتَضى اللَّفْظ فَكَذَلِك لَا عُمُوم لما ثَبت بِمُقْتَضى الْحَال وَأول أَوْقَات إِمْكَان الْأَدَاء مُرَاد بالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَو أدّى فِيهِ كَانَ ممتثلا لِلْأَمْرِ فَلَا يثبت مَا بعده مرَادا إِلَّا بِدَلِيل يُوضحهُ أَن التَّخْيِير يَنْتَفِي بِمُطلق الْأَمر بَين الْأَدَاء وَالتّرْك
1 / 26
فَيثبت هَذَا الحكم وَهُوَ انْتِفَاء التَّخْيِير فِي أول أَوْقَات إِمْكَان الْأَدَاء كَمَا ثَبت حكم الْوُجُوب والتفويت حرَام بالِاتِّفَاقِ وَفِي هَذَا التَّأْخِير تَفْوِيت لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أيقدر على الْأَدَاء فِي الْوَقْت الثَّانِي أَو لَا يقدر وبالاحتمال الثَّانِي لَا يثبت التَّمَكُّن من الْأَدَاء على وَجه يكون مُعَارضا للمتيقن بِهِ فَيكون تَأْخِيره عَن أول أَوْقَات الْإِمْكَان تفويتا وَلِهَذَا اسْتحْسنَ ذمه على ذَلِك إِذا عجز عَن الْأَدَاء وَلِأَن الْأَمر بِالْأَدَاءِ يفيدنا الْعلم بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْأَدَاء وَتلك الْمصلحَة تخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات وَلِهَذَا جَازَ النّسخ فِي الْأَمر وَالنَّهْي وبمطلق الْأَمر يثبت الْعلم بِالْمَصْلَحَةِ فِي الْأَدَاء فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان وَلَا يثبت الْمُتَيَقن بِهِ فِيمَا بعده
ثمَّ الْمُتَعَلّق بِالْأَمر اعْتِقَاد الْوُجُوب وَأَدَاء الْوَاجِب وَأَحَدهمَا وَهُوَ الِاعْتِقَاد يثبت بِمُطلق الْأَمر للْحَال فَكَذَلِك الثَّانِي وَاعْتبر الْأَمر بِالنَّهْي والانتهاء الْوَاجِب بِالنَّهْي يثبت على الْفَوْر فَكَذَلِك الائتمار الْوَاجِب بِالْأَمر
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن قَول الْقَائِل لعَبْدِهِ افْعَل كَذَا السَّاعَة يُوجب الائتمار على الْفَوْر وَهَذَا أَمر مُقَيّد وَقَوله افْعَل مُطلق وَبَين الْمُطلق والمقيد مُغَايرَة على سَبِيل الْمُنَافَاة فَلَا يجوز أَن يكون حكم الْمُطلق مَا هُوَ حكم الْمُقَيد فِيمَا يثبت التَّقْيِيد بِهِ لِأَن فِي ذَلِك إِلْغَاء صفة الْإِطْلَاق وَإِثْبَات التَّقْيِيد من غير دَلِيل فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الصِّيغَة مَا يدل على التَّقْيِيد فِي وَقت الْأَدَاء فإثباته يكون زِيَادَة وَهُوَ نَظِير تَقْيِيد الْمحل فَإِن من قَالَ لعَبْدِهِ تصدق بِهَذَا الدِّرْهَم على أول فَقير يدْخل يلْزمه أَن يتَصَدَّق على أول من يدْخل إِذا كَانَ فَقِيرا وَلَو قَالَ تصدق بِهَذَا الدِّرْهَم لم يلْزمه أَن يتَصَدَّق بِهِ على أول فَقير يدْخل وَكَانَ لَهُ أَن يتَصَدَّق بِهِ على أَي فَقير شَاءَ لِأَن الْأَمر مُطلق فتعيين الْمحل فِيهِ يكون زِيَادَة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه يتَحَقَّق الِامْتِثَال بِالْأَدَاءِ فِي أَي جُزْء عينه من أَوْقَات الْإِمْكَان فِي عمره وَلَو تعين للْأَدَاء الْجُزْء الأول لم يكن ممتثلا بِالْأَدَاءِ بعده وَفِي اتِّفَاق الْكل
1 / 27
على أَنه مؤدي الْوَاجِب مَتى أَدَّاهُ إِيضَاح لما قُلْنَا
وَبِهَذَا تبين فَسَاد مَا قَالَ إِن الْمصلحَة فِي الْأَدَاء غير مَعْلُوم إِلَّا فِي أول أَوْقَات الْإِمْكَان فَإِن الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ وامتثال الْأَمر لَا يحصل إِلَّا بِهِ أَلا ترى أَن بعد الانتساخ لَا يبْقى ذَلِك فَعرفنَا أَن بِمُطلق الْأَمر يصير معنى الْمصلحَة فِي الْأَدَاء مَعْلُوما لَهُ فِي أَي جُزْء أَدَّاهُ من عمره مَا لم يظْهر ناسخه والتفويت حرَام كَمَا قَالَ إِلَّا أَن الْفَوات لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِمَوْتِهِ وَلَيْسَ فِي مُجَرّد التَّأْخِير تَفْوِيت لِأَنَّهُ مُتَمَكن من الْأَدَاء فِي كل جُزْء يُدْرِكهُ من الْوَقْت بعد الْجُزْء الأول حسب تمكنه فِي الْجُزْء الأول وَمَوْت الْفجأَة نَادِر وَبِنَاء الْأَحْكَام على الظَّاهِر دون النَّادِر
فَإِن قيل فوقت الْمَوْت غير مَعْلُوم لَهُ وبالإجماع بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء إِذا لم يؤد حَتَّى مَاتَ يكون مفرطا مفوتا آثِما فِيمَا صنع فبه يتَبَيَّن أَنه لَا يَسعهُ التَّأْخِير
قُلْنَا الْوُجُوب ثَابت بعد الْأَمر وَالتَّأْخِير فِي الْأَدَاء مُبَاح لَهُ بِشَرْط أَن لَا يكون تفويتا وَتَقْيِيد الْمُبَاح بِشَرْط فِيهِ خطر مُسْتَقِيم فِي الشَّرْع كالرمي إِلَى الصَّيْد مُبَاح بِشَرْط أَن لَا يُصِيب آدَمِيًّا وَهَذَا لِأَنَّهُ مُتَمَكن من ترك هَذَا التَّرَخُّص بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يُنكر كَونه مَنْدُوبًا للمسارعة إِلَى الْأَدَاء
قَالَ الله تَعَالَى ﴿فاستبقوا الْخيرَات﴾ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يتَمَكَّن من الْبناء على الظَّاهِر من التَّأْخِير مَا دَامَ يَرْجُو أَن يبْقى حَيا عَادَة وَإِن مَاتَ كَانَ مفرطا لتمكنه من ترك التَّرَخُّص بِالتَّأْخِيرِ
ثمَّ هَذَا الحكم إِنَّمَا يثبت فِيمَا لَا يكون مُسْتَغْرقا لجَمِيع الْعُمر فَأَما مَا يكون مُسْتَغْرقا لَهُ فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ هَذَا الْمَعْنى واعتقاد الْوُجُوب مُسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر وَكَذَلِكَ الِانْتِهَاء الَّذِي هُوَ مُوجب النَّهْي يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر
فَأَما أَدَاء الْوَاجِب فَلَا يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر فَلَا يتَعَيَّن للْأَدَاء جُزْء من الْعُمر إِلَّا بِدَلِيل فَإِن جَمِيع الْعُمر فِي أَدَاء هَذَا الْوَاجِب كجميع وَقت الصَّلَاة لأَدَاء الصَّلَاة وَهُنَاكَ لَا يتَعَيَّن الْجُزْء الأول من الْوَقْت للْأَدَاء فِيهِ على وَجه لَا يَسعهُ التَّأْخِير عَنهُ فَكَذَلِك هَهُنَا
وَمن أَصْحَابنَا من جعل هَذَا الْفَصْل على الْخلاف الْمَشْهُور بَين أَصْحَابنَا فِي الْحَج
1 / 28