36
فإنها ظلت تحظى بلقب الزهرة الشائع «البتول العذراء»! (5) الزهرة بين اليهود والعرب
ومن الرافدين إلى بلاد العرب، انتقلت المعارف الفلكية وعلم التنجيم، حتى إننا نجد لدى العرب تقسيمات للبروج والأجرام والكواكب، لم تزل أسماؤها العربية معمولا بها حتى اليوم، ومع هذه المعارف الفلكية انتقلت أيضا معرفة الأجرام والكواكب السبعة «الشمس، القمر، عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل»، وبينما اعتبروا الشمس والقمر النيرين الكبيرين، فقد عرفوا أن الكواكب الأخرى ليست كالشمس والقمر، وإنما هي كواكب سيارة؛ لذلك أطلقوا على الكواكب الخمسة اسم «الخنس الكنس»، والاسم «خنس» يعود لكونهم لاحظوها تسير في البروج والمنازل الفلكية سير النيرين الكبيرين، لكنها ترجع، وترجع هي «تخنس»، أما «كنس» فتعود لكونها تستتر كما تستتر الظباء في كناسها بالجبال، وتستر الظباء هو «كنس الظباء». وهي تعابير تعكس طبيعة البيئة العربية وتتسق معها، ويذهب الباحث «محمود الحوت» إلى احتمال أن يكون انتقال هذه العلوم إلى جزيرة العرب قد جاء على يد الصابئة، ومن المعروف أن صائبة الجزيرة كانوا تلامذة للكلدانيين من أهل الرافدين، وقد انتهى بعض الباحثين مؤخرا إلى أن مذهب صابئة الجزيرة كان من مذهب أهل الرافدين الكلدانيين القدماء؛ مما يرجح هذا الاحتمال.
37
ويبدو أن الزهرة عندما انتقلت مع «الخنس الجواري الكنس» إلى جزيرة العرب، أخذت معها أيضا صفاتها وخصائصها، ولربما بعض طقوس عباداتها، وفي هذا يقول «د. خليل أحمد»: «ومن أبرز الكواكب التي حظيت بالاحتفالية الأسطورية عند العرب: الزهرة: وهي إلهة الجمال والحب التي قدسها بعض العرب في البداية، ثم شملت عرب الشمال بأجمعهم. هذا وقد أطلق عليها المنجمون اسم السعد الأصغر ... وأضفى عليها العرب صفات مجتمعهم القبلي الترفيهية، كالطرب واللهو والسرور ... كما اعتقدوا أنها تهيج الغريزة الجنسية عند الضجاع بين المتآلفين من شدة الحب.»
38
ويضيف «د. الجوزو» أن العرب عبدوا الزهرة وصاغوا حولها الأساطير، وأهمها أسطورة تقول: «إنها كانت امرأة حسناء أغرت ملكين، وتعلمت منهما الكلمة التي يصعدان بها في السماء، إلى حيث ارتقت ومسخت هناك كوكبا.»
39
ويحتمل - فيما نرى - أن تكون قصتها مع الإله التعس «تموز» قد وصلت إلى الجزيرة فيما وصل، ولربما تكون قصة هذين الملكين هي تكرار أو صورة أخرى لما حدث مع «تموز»، خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان أن الأسطورة العربية تنتهي بالملاكين للنهاية التعسة نفسها، فبعد أن أغوتهما الزهرة، ونالت منهما مشتهاها، أودت بها، فقد نكسا في بئر في بابل، وهو ما يشبه إلى حد كبير مصير «تموز» ونزوله من بئر بلاد بابل إلى عالم الموتى السفلي. أما التغيرات الطفيفة التي لحقت بالأسطورة فمن الممكن عزوها إلى عامل الزمن ودوره في تطور المعتقدات، أما كون الأسطورة العربية تعتبر من وقع أسير فتنة الزهرة ملاكا (أو ملاكين) وليس إلها كما هو حال «تموز»، فيعود فيما نعتقد إلى نزوع العقل البشري خلال هذه القرون الطويلة نحو التوحيد، كما نعتقد أنه كان للشعب العبري دور لا يغفل في هذا الأمر، فاليهود أو العبريون قد عاشوا في الأسر البابلي حوالي أربعة قرون أو يزيد ، ولا جدال أنهم نقلوا - فيما يرى معظم الباحثين - جل آلهة الرافدين معهم إلى فلسطين، وعلى رأسهم الإله الجبار «إيل»، وأضافوا إليها عددا من الآلهة الفرعونية والكنعانية.
ويبدو أنه مع اتجاههم نحو إلههم القومي «يهوه» وتفضيله دون غيره على بقية الآلهة، عز عليهم أن يتركوا هذا الجم الغفير من الآلهة باعتباره ثروة وتراثا قوميا بدوره، فحولوها من آلهة إلى أتباع للإله القومي «يهوه». واعتبروها أقل منه شأنا. لكن هذه الآلهة العديدة ظلت تحمل الطابع الإلهي هو هو لم يتغير، فهي مثل الإله نورانية التكوين، وهي مثله خالدة، ولها قدرات كقدراته، ولها أجنحة كأجنحة آلهة الرافدين، التي ما يزال بعض تماثيلها المجنحة قائما في العراق إلى اليوم، وبما أنها أصبحت تابعة للإله الأكبر أو من أملاكه، فقد أطلق عليها اللسان العبري - معبرا عن هذا المعنى - اسمها الجديد «الملائكة»، ولما كان الإله الجبار «إيل» هو من أعظم الآلهة القديمة شأنا لدى جميع الشعوب السامية الأصل، ولدى اليهود بوجه خاص، فقد أخذ وضعه اللائق به بين الآلهة المساعدة أو الملائكة، فأصبح كبير الملائكة وسيدها، باسمه القديم الإله الجبار «جبرا إيل» أو «جبريل» وقد تخلفت الكلمة «جبرا» بمعنى الجبروت والقوة في كل اللغات السامية عن النطق الرافدي، بما في ذلك اللغة العربية.
Unknown page