وكان أمام القسمين حديقة واسعة الجوانب مزروعة بالنباتات والأزهار والشجيرات المختلفة، وفي وسطها قاعة المائدة، وهي قسمان أيضا: واحد للرجال، وواحد للنساء.
وكان البرد في ذلك اليوم شديدا، والغيوم متلبدة في السماء تنذر بالمطر، والهواء يهب من الجهة الجنوبية الغربية هبوبا عنيفا، ومع ذلك فقد كان في الحديقة في جهة قسم الرجال رجل يتمشى وفي يده كتاب خطي، وهو تارة يقرأ وطورا يتأمل، وربما يظن القارئ أن ذلك الكتاب كان نسخة من كتاب ديني، ولكن إذا دنونا من الرجل وجدنا على غلاف كتابه هذه الكلمات: «كتاب في النفس - تأليف أرسطو».
وكان الوقت مساء، وصاحب الكتاب يقرأ في كتابه على ذرات ضوء النهار الأخيرة بين مداعبة الريح وقرص البرد وقهقهة الرجال والنساء خارجة من داخل الفندق، بينما صراخ الناس في الشوارع أمام الكنيسة، وأصوات الباعة وضوضاء المغنيين تصم الآذان، وكان هذا الرجل القارئ كلما زادت تلك القهقهة والضوضاء الداخلية والخارجية ينظر باشمئزاز وأنفة إلى الجانب التي خرجت منه، ويقرن اشمئزازه بابتسام الاحتقار. إلا أنه في ذات مرة اشتدت القهقهة والصياح من داخل ومن خارج، فمد يده إلى جيبه وتناول دفترا، وكتب فيه ما يأتي:
الطبقات العالية لا هم لها إلا ملاذها. فهي تفرح وتطرب لأن الإمبراطور يترك لها حرية التمتع بها. فكأن الدنيا كلها عندها أكل وشرب ولذة، والطبقات الواطئة ترضى بأقل شيء، ولذلك يلهونها بأصغر الأمور، ويعملون على ظهرها كل الأعمال. فهل تنفتح عيونها يا ترى يوما من الأيام؟
وما أتى صاحب الكتاب على هذه العبارة حتى اندفع من قسم النساء في الفندق نحو عشرين سيدة ضاحكات مقهقهات وتفرقن في الحديقة. فألقى صاحب الكتاب إليهن نظرة، ثم عاد إلى كتابه بأنفة وكبرياء. أما السيدات: فلم يصرفن أنظارهن عنه، بل أخذن يتأملن فيه. فقالت إحداهن: من هو هذا البارد الذي يقرأ في هذا الظلام والبرد يا أخواتي؟ أظنه راهبا من رهبان دير إيليا. فضحكت رفيقاتها، وأجابت سيدة أخرى: وحياة العذراء يا أخواتي إنني نظرت هذا الرجل قبل اليوم. فإنه في كل مساء يخرج من باب يافا وفي يده كتاب فينحدر إلى الوادي ويغيب فيه.
فرسمت إحداهن علامة الصليب على صدرها، وقالت: «كيريالايسون» (يارب ارحم) أظنه يختلي ببعلزبول. فصاحت بعض رفيقاتها: باسم الصليب الكريم يا تيوفانا إنك تذكرين بعلزبول دائما، فيظهر أنه بينك وبينه شيء من الصحبة. فضحكت السيدات، وأما تيوفانا فإنها رسمت علامة الصليب على صدرها وبصقت على الأرض موجهة هذه البصقة إلى بعلزبول.
أما صاحب الكتاب فإنه لم يسمع من حديث السيدات سوى هذه الكلمة «دير إيليا» فظن أنهن يقلن «اسمه إيليا» فقال في نفسه: من أين يعرفنني هؤلاء السيدات؟
ومن البديهي أنه لا يخرج النساء إلى الحديقة، ويبقى الرجال في الداخل. فخرج الرجال على صوت النساء، وتفرقوا في الحديقة محيين السيدات برءوسهم، وما زالوا يتمشون حتى التقت طلائع الفريقين فتبادلوا التحيات والابتسامات، وتداعوا إلى الجلوس على مقاعد الحديقة مع شدة البرد. فجلس النساء فى صفوف والرجال في صفوف، ودار الحديث بين الفريقين، وصاحب الكتاب في زاوية يصغي ويعي.
فقالت إحدى السيدات: متى يصل مولانا البطريرك؟ فأجابها أحدهم: سيصل في الليل. فقالت أخرى: الظاهر أن هذا العيد سيكون بهيجا؛ لكثرة الحجاج والوافدين. فهز أحد الرجال رأسه وقال: إن أكثر هذه الجماهير فروا من وجه العرب * ولم يقدموا للعيد. فقالت تيوفانا: إذا قصدتم الكلام في السياسة فاخفضوا أصواتكم وانظروا إلى ما حولكم. فرفع حينئذ أحد الرجال صوته وصاح: مم نخاف لقد أضاعوا الإمبراطورية بطياشتهم، وها إن العرب قد صاروا على أبواب المدينة * فبغتت النساء، وصاحت تيوفانا: وهل انكسر مانويلس، فهز الرجل رأسه، وقال: إن قائدنا مانويلس الظريف قد انكسر في «اليرموك» شر كسرة * وهذه الواقعة فتحت سوريا كلها للعرب، كما فتحت لهم واقعة القادسية بلاد الفرس * ومن ذلك يظهر أن الإمبراطور كان مصيبا في ما فعل. قال الرجل ذلك، ثم نظر إلى ما حوله. فقالت إحدى السيدات: ولكن يظهر أن مولانا البطريرك مستاء جدا من صنعه هذا. فقال ذلك الرجل: ولكن ما الحيلة، إنه لم يكن يستطيع أن يعمل غير ما عمل. فإنه بعد أن فتح العرب دمشق لانكسار أخيه تيودوروس أمامهم في أجنادين
3
Unknown page