وصل الركب إلى أسبرطة بعد أن غور في وهادها وأنجد، وانطلق تليماك وصاحبه من فورهما إلى باب منلوس الملك حيث وجدا - لحسن الطالع - وجوها مسفرة، وجماهير مستبشرة، وموسيقى تصدح، ومنشدين يرددون أناشيدهم ويرسلون أغنياتهم، ووليمة ملكية حافلة اجتمع لها الملك وأبناؤه وخلصاؤه ونداماه، يأكلون ويشربون ويسمرون ويتطربون ... ماذا؟ لقد اجتمع القوم من كل حدب وأقبلوا من كل صوب، يحتفلون بابني الملك؛ بابنه الذي زوجه أبوه من أجمل غادات أسبرطة وأكثرهن وسامة وقسامة وفتنة، ابنة ألكتور العظيم، ثم بابنته المفتان اللعوب الطروب التي رزقها على كبر من هيلين، والتي نافست بجمالها ودلها هرميون ابنة فينوس.
وما كادا يجاوزان الوصيد حتى لمحهما أتيون كبير أمناء الملك، فانطلق إلى مولاه وحدثه عنهما: «إن لهما لمهابة وإن عليهما لرواء، فهل يأذن لهما مولاي أو يأمر فنردهما من حيث أقبلا؟»
وأومأ الملك برأسه الكبير الذي يزيد في وقاره وحسن سمته شعره الذهبي، وأمر أتيون أن يذهب إليهما، فيسير بين أيديهما إليه؛ «إذ كيف يرد عن طعامي الغرباء وقد طعمنا طويلا زاد الغرباء؟»
ودعا إليه أتيون طائفة من الخدم وذهب إلى الوافدين الكريمين فحيا وسلم، وحل اللحم وأناخ البهم، ومضى بهما إلى داخل القصر من طريق يشرف على مكان الحقل وترى منه الجدران التي ازدانت بأحسن زينة، وقبة العرش التي تلألأت في الأنوار الوضاءة والسرج الوهاجة ، ثم لقيتهما فتيات من عذارى القصر فقدنهما إلى الحمامات المرمرية الباذخة، فاغتسلا وتضمخا ولبسا ثيابا ملكية، ثم ذهبا للقاء رب هذه الدار.
وهش الملك لهما وبش، وأجلسهما إلى جانبه على مقعدين وثيرين، وهما في دهش من ذاك المنظر العجب. وأقبلت فتاة فصبت على أيديهما الماء، وذهبت فأحضرت مائدة رائعة منسقة عليها قدر غير قليل من أفخر الأشربات وأشهى الآكال، ووقف خادم آخر يقدم طبقا بعد طبق، وكأسا من ذهب بعد كأس من ذهب، والملك فيما بين ذلك يبالغ في إيناسه لهما والحفاوة بهما، وينظرهما حتى يفرغا من طعامهما فيخبراه عن أمرهما، وكان يتلطف فيقدم لهما قطعا من شوائه بيده. «بيزستراتوس يا صديقي، ما أجمل وما أفخم وما أروع هذا الحفل الباهر، يتألق في الذهب والفضة والعاج والكهرمان ودروع النحاس! أبدا ما ترى العين مثل ذلك، ولا تسمع الأذن إلا عن قصر سيد الأولمب في شعاف جبل أيدا، أية ثروة وأي كنز؟»
وسمعه منلوس الملك فقال: «بني، لا تقرن قصر أحد منا - نحن بني الموتى - إلى قصر سيد الأولمب، وأنت على حق حين ترى أن لا أحد يملك ما أملك أنا من أذخار وكنوز؛ فقد سحت في أقصى الأرض سنين عددا، وجمعت الدرر الغوالي من كل فج؛ من كريت وقبرص، وفينيقية ومصر، ومن أثيوبيا وأيرمبي، ومن صيدا ولوبيه، ورءوس الشاء والوعل هذه؛ الوعل الوحشي السائم، والشاء التي تمدنا بخيرها بغير حساب ... لقد طوفت في الآفاق وتركت في كل منها ذكرى. ولا غرو؛ فقد نبأكم آباؤكم أنباء منلوس الملك الذي دك المعاقل وهدم القصور. ما أنسى لا أنسى هذا القصر العتيد الذي جعلت عاليه سافله بما فيه من أذخار وقنى، وددت لو كان في قصري شيء منها، وود الإغريق لو حصلوا في بلادهم جميعا على بعضها، هناك! هناك تحت أسوار طروادة يا صاح، يا ويح نفسي! يا رحمتا للأصدقاء الأحباء الأعزاء الذين ناموا ثمة! لشد ما أسلي النفس عنهم بالتأسي! لشد ما يندلع الأسى في قلبي عليهم جميعا، ولا سيما صفيي وخليلي وأعز أودائي علي؛ أوديسيوس، أوديسيوس الكريم! ليت شعري يا صديقي فيم شطت بك النوى وطال عليك الأمد؟ أحي ترزق؟ أم ثويت في بطحاء بلقع؟ يا ويح لك ولأبيك الشيخ وزوجك الملتاعة وابنك المحزون اليتيم تليماك، الذي غادرته في المهد ما بلغ الفطام إلى حومة الوغى وحلبة الحمام.»
ولم يملك الفتى دموعه حين سمع هذا الهتاف باسم والده، فنشج نشيجا مؤلما، ثم استخرط في البكاء، وطفق يذري شئونه في طرف ثوبه، بين دهشة منلوس وحيرته وذهول الحاضرين. وانعقد لسان الملك فلم يسأل الشاب عن حاله حتى أقبلت هيلين فجأة، فتلفت القوم ينظرون إلى هذا الرشأ الذي يتثنى مياسا في ظلال من الفتنة كأنه ديانا ربة القوس الذهبية.
واستوت على عرشها المنضد الذي أصلحته يدا أدرستا وعناية أكليب، ثم أحضرت الطرف والهدايا واللهى؛ فهذه سلة من الفضة المزخرفة بالتصاوير هدية من ألكندرا زوج بوليت أمير طيبة عروس المدائن المصرية، وتلك عشر بدر من النضار الخالص، وطستان من الذهب ودنان من الإبريز؛ يقدمها كلها ملك أسبرطة إلى زوجه البارعة الرائعة الهيفاء، ونظرت هيلين إلى الضيفين الغريبين، وسألت زوجها: «ملكي، نشدتك الآلهة أن تخبرني من هذان؟ إن أحدهما شديد الشبه بطفل أوديسيوس، الصغير تليماك، الذي تركه أبوه صبيا في المهد من جراء حرب إليوم المشئومة.»
وقال الملك: «وأنا مثلك يا هيلين، لقد دار بخلدي ما دار بخلدك من أمر هذا الفتى، ألا ما أشبه الساقين والساعدين وتفتير العينين واسترسال اللمتين
1
Unknown page