كلمة لا بد منها
مولد هوميروس
القيمة الأدبية للملاحم الهومرية
أدب ما قبل العصر الهومري
تحليل الإلياذة
الأوديسة
تحليل الأوديسة
الأنشودة الأولى
الأنشودة الثانية
الأنشودة الثالثة
الأنشودة الرابعة
الأنشودة الخامسة
الأنشودة السادسة
الأنشودة السابعة
الأنشودة الثامنة
الأنشودة التاسعة
الأنشودة العاشرة
الأنشودة الحادية عشرة
الأنشودة الثانية عشرة
الأنشودة الثالثة عشرة
الأنشودة الرابعة عشرة
الأنشودة الخامسة عشرة
الأنشودة السادسة عشرة
الأنشودة السابعة عشرة
الأنشودة الثامنة عشرة
الأنشودة التاسعة عشرة
الأنشودة العشرون
الأنشودة الحادية والعشرون
الأنشودة الثانية والعشرون
الأنشودة الثالثة والعشرون
الأنشودة الرابعة والعشرون
كلمة لا بد منها
مولد هوميروس
القيمة الأدبية للملاحم الهومرية
أدب ما قبل العصر الهومري
تحليل الإلياذة
الأوديسة
تحليل الأوديسة
الأنشودة الأولى
الأنشودة الثانية
الأنشودة الثالثة
الأنشودة الرابعة
الأنشودة الخامسة
الأنشودة السادسة
الأنشودة السابعة
الأنشودة الثامنة
الأنشودة التاسعة
الأنشودة العاشرة
الأنشودة الحادية عشرة
الأنشودة الثانية عشرة
الأنشودة الثالثة عشرة
الأنشودة الرابعة عشرة
الأنشودة الخامسة عشرة
الأنشودة السادسة عشرة
الأنشودة السابعة عشرة
الأنشودة الثامنة عشرة
الأنشودة التاسعة عشرة
الأنشودة العشرون
الأنشودة الحادية والعشرون
الأنشودة الثانية والعشرون
الأنشودة الثالثة والعشرون
الأنشودة الرابعة والعشرون
الأوديسة
الأوديسة
تأليف
هوميروس
ترجمة
أمين سلامة
شمس «أبولو» تشرق بأشعتها على أناشيد الأوديسة.
كلمة لا بد منها
لأول مرة أحس بأنني أقدم شيئا نفيسا للقارئ العربي.
ولأول مرة أجدني فخورا بتقديم هذا السفر الثمين الرائع.
ولعل القارئ يدرك لأول وهلة مقدار الجهد الذي بذلته في نقل هذا التراث الخالد من لغته الأصلية نقلا لا يرقى إليه الشك، في ثوب لا يقل عن ثوبه الأصيل جمالا وروعة.
ولكم يسعدني أن أكون أول مصري، بل أول عربي، قد أوفى هوميروس، ذلك الشاعر الفريد، حقه علينا، بأن ترجمت له ملحمتيه الأزليتين السرمديتين!
ومما لا شك فيه أن كل من سبق له أن قرأ «الإلياذة» مترجمة عن النص اليوناني ضمن «مطبوعات كتابي» المشهورة، ليتحرق شوقا إلى قراءة «الأوديسة» أيضا مترجمة عن مصادرها الأصلية وعن اللغة التي كتبها بها هوميروس، فلتة زمانه وكل زمان حتى هذا الأوان.
ولست مكبرا أو معظما هذا المجهود بدون وجه حق أو استحقاق، ولكنني أدرك ما أقول، وأستبين خطورة ما أجاهر به من أن ترجمتي لإلياذة هوميروس فيما مضى، ثم ترجمتي اليوم للأوديسة لنفس هذا الشاعر الجبار لتعد في حد ذاتها ووحدها، في تاريخ المكتبة العربية والنهضة الفكرية الشرقية، حدثا جللا خطيرا لا يمكن لأحد أن يغض الطرف عنه أو أن يدعه يمر عليه مر الكرام.
وليس هوميروس الشاعر، كسائر الشعراء، ولا هو كأي من الأدباء أو القصصيين، بل يفوقهم الكثير، ويفوقهم بما هو أكثر من الكثير.
ولئن كان هوميروس يحتل بين الشعراء المكانة الأولى منذ الأزل حتى اليوم، فإن ملحمتيه «الإلياذة» و«الأوديسة» لتحتلان كذلك الصدارة من دون ما وصلنا حتى عصرنا من ملاحم وقصص رائعة.
هذه إذن «أوديسة» هوميروس، ملحمة هذا الشاعر الفطحل، وهي قصة شعرية بل ملحمة قصصية راسخة متينة البنيان، مكينة الأركان، تصور لنا أمورا لها العجب العجاب، وترسم لنا أحداثا يشيب لهولها الولدان، وتحمل إلينا أجواء مفعمة بالعجائب والغرائب تبهرنا بروعتها، فتزهق أرواحنا حينا، وتبعث الأنفاس فينا طورا.
البطل أوديسيوس
أوديسيوس.
طوفان من الوقائع والروائع في خضم من الأحداث الممتعة الشيقة يقوم بها بطل من أمجد أبطال الإغريق، ومن أكثرهم براعة في الأعمال وجسارة في القتال ومهارة في الخداع والاحتيال.
هذا هو «أوديسيوس»
Odysseus
أو «أولوسيس»
Ulysseus
أو «أوليكسيس»
Ulyxes
أو «أوليكسيس»
Ulixes ، ابن لايرتيس
Laertes
ملك «إيثاكا»
Ithaka
و«أنتيكليا»
Anticlea
الذي تزوج بينيلوبي
وأنجب منها ابنا اسمه تيليماخوس
Telemachus .
نعم، هذا هو أوديسيوس - كما كان يحب الأغارقة أن يسموه - أشهر أبطال الإغريق الصناديد؛ لأنه كان يفوقهم في الصيت وبعد الشهرة.
إصابة أوديسيوس
ولأوديسيوس هذا - في شبابه - حكاية؛ فقد حدث أن التقى بخنزير بري أثناء الصيد الذي اشترك فيه ذات يوم عند زيارة جديه في بارناسوس
فجرحه الخنزير في ركبته أثناء صراعه معه، فترك هذا أثرا في جسمه.
قوس أوديسيوس
أوديسيوس يحمل قوسه المشهور.
واشتهر أوديسيوس أيضا بقوس له قصة، كان أبوه قد أرسله إلى لاكيدايمون
Lecedaemon
في سفارة، فأهداه صديقه المضيف «إيفيتوس»
Iphitus
قوس «يوروتوس»
Eurytus
المشهور الذي ساعده في مناسبات طيبة. وبعد مضي عدة سنوات قام أوديسيوس برحلة ثانية ليحصل من ورائها على سم لسهامه، طاف فيها حتى وصل «بافوس»
لأن صديقا له يدعى «إلوس»
Ilus
كان يسكن عن قرب، رفض الظعن خوفا من الآلهة.
دور أوديسيوس في زواج هيلينا
وكان أدويسيوس في ذلك الحين، أو قبيل ذلك، قد انضم إلى جماعة خطاب «هيلينا»
Helen
الذين وافقوا جميعا على فكرة أوديسيوس بأن يتركوا لهيلينا، أفتن نساء عصرها، حرية اختيار زوجها، وأن يحموها في المستقبل وقت الحاجة.
ولكم تمنى أوديسيوس أن يتزوج هيلينا هذه؛ فقد كانت في عيونه حلوة كالشهد، بيد أنه لم يوفق كما لم يوفق غيره من المتقدمين للزواج منها، ولكنه عزى نفسه بزواجه السابق من بينيلوبي اللبيبة الغنية. وإلى هذا كان عليه أن يجنح إلى حياة سهلة خالية من الهموم، فكان سعيدا وملكا قادرا شهيرا معروفا بكرمه واحترامه للآلهة وخاصة زوس، كبير الآلهة، وأثينا، ربة الحكمة.
زوجة أوديسوس
كانت بينيلوبي، إذن زوجة أوديسيوس بطل الأبطال، فمن هي بينيلوبي هذه؟!
كانت بينيلوبي ابنة «إيكاريوس»
Icarius
والحورية «بيريبويا»
، أنجبت بعد زواجها من أوديسيوس ولدا اسمه «تيليماخوس».
كان قد تقدم الكثيرون إلى بينيلوبي وهي عذراء يطلبون يدها، ولكن والدها رفض أن يزوجها إلا لمن يفوز في سباق على الأقدام، ففاز أوديسيوس إلا أن إيكاريوس أراد أن يحنث في وعده، فاقترح أوديسيوس أن يترك الأمر لبينيلوبي تفصل فيه، فأبدت رغبتها في أن تذهب معه بعد أن أخفت حمرة الخجل تحت النصيف.
وعندما سافر أوديسيوس إلى الحرب الطروادية كانت بينيلوبي لا تزال فتاة في ريعان الصبا، كما كان تيليماخوس طفلا، فانتظرته عشرين عاما استغرقت الحرب منها عشر سنين، وكان يتجول أوديسيوس في العشر سنين الأخرى.
العشاق ينهبون وبينيلوبي تخدعهم
وليس غريبا أن يكون قد التف حول منزل بينيلوبي، إبان غياب بعلها، كثير من طالبي يدها وراغبي الزواج منها، ثم راحوا يجردونها من أملاكها، وينغصون عليها عيشتها، قائمين في منزلها ليل نهار آكلين وشاربين، ينتظرون كلمتها ورضوخها للزواج من أحدهم.
تيليماخوس مع أمه بينيلوبي بجوار المنسج.
وقد أفلحت بينيلوبي، المخلصة في مراوغتهم ثلاث سنوات بأن احتجت بأنها لا بد وأن تنسج كفنا للايرتيس والد أوديسيوس العجوز، ثم تفصل في الأمر بعد أن يتم، ولكنها كانت تحل بالليل ما تنسجه بالنهار. وأخيرا وشى بها خدامها وأطلعوا راغبي الزواج على حيلتها، وتحرجت الحال لآخر درجة، حتى عاد أوديسيوس في ثوب سائل، فتعرفت عليه زوجته مستعينة بعدة علامات، وابتهجت بعودة أوديسيوس ورجوع سعادتها وهنائها.
كيف صور الشاعر زوجة البطل؟
كانت بينيلوبي إذن تعتبر مثال الزوجة المخلصة التقية، الصالحة الوفية التي صورها هوميروس في الأوديسة كامرأة رائعة الجمال حميدة الخصال، كريمة ذكية فطنة وفية، محبة لزوجها وابنها محترمة في بيتها، ماهرة في الفنون التربيبية، تتحمل المصائب بجلد وروية، رقيقة الإحساس موقرة بين الناس.
أوديسيوس يتظاهر بالجنون
هيلينا وباريس.
نعود الآن إلى المغوار أوديسيوس لنذكر لك شيئا عن مغامراته وأحاييله.
لما خطف «باريس»
«هيلينا» من زوجها «مينيلاوس»
Menelaus ، قامت الحرب الطروادية. وبالرغم من محاولات أوديسيوس السابقة لحماية مصالح هيلينا وزوجها، كان غير راغب في الذهاب إلى الحرب، فتظاهر بالجنون وصار يحرث مع الحيوانات التي لا يمكن وضع النير فوق أعناقها، وأخذ يبذر الملح كأنه يبذر بذورا، ولكن «بالاميديس»
أحد أبطال الإغريق، أدرك هذه الحيلة واتهم أوديسيوس بادعاء الجنون، وبرهن على صحة قوله بأن وضع تيليماخوس - ابنه الوحيد - في طريق المحراث ليرى هل سيتفادى أوديسيوس ابنه. وترتب على ذلك أن ذهب أوديسيوس إلى الحرب تطن في آذانه النبوءة المحزنة القائلة بأنه سوف لا يرجع إلى بلده إلا بعد عشرين عاما، ويكون وحيدا معوزا مجهول الشخصية فاقدا جميع سفنه ورفاقه.
حرب طروادة
والآن، ما الدور الذي لعبه أوديسيوس في تلك الحرب الضروس التي قامت في «طروادة»
Troy
واستمرت عشر سنوات من أجل الملعونة هيلينا؟!
عندما احتشدت السفن بالقرب من طروادة كانت سفن أوديسيوس الاثنتا عشرة في وسط الصف عند الشاطئ حيث كان مركز القيادة العامة. وكان أوديسيوس أحد الرؤساء العظام في هذه الحرب الذين اتصفوا بالقوة والإقدام وسرعة العدو. وكان أشهر رجل في استخدام القوس بعد «فيلوكتيتيس»
، وكان هو المسئول عن النصر والدفاع العنيف ساعة اليأس، وبالأخص في المشورة؛ إذ كان أحكم الجميع في وضع الخطط، وأكثرهم فصاحة وقوة إقناع؛ ولذا كان سفيرا جديرا ورجلا عظيما يقضي على الخلافات ويسوي الأمور التي تنشب بين الإغريق بدهائه وقوة تفكيره؛ فهو الذي أعاد خروسايس
Chryseis
ثانية إلى أبيها بناء على رغبة «أجاممنون»
Agammemnon
أكبر قادة الإغريق.
أوديسيوس يتدثر في ملابس النساء
وقبل أن ينضم «أخيل»
Achilles
إلى قوات طروادة كان من مهام أوديسيوس البحث عن أخيل وحثه على المجيء بعد أن كان مختفيا في قصر «اللوكوميديس»
Lycomedes
متنكرا في ملابس النساء تبعا للخطة التي دبرتها أمه كي تحول بينه وبين الموت الذي ينتظره في طروادة، فاخترق أوديسيوس باب القصر في زي بائع وعرض على السيدات أسلحة بين السلع الأخرى التي تجذب رغبة النساء، فأعجب أخيل بالأسلحة، وبذا كشف عن شخصه، واضطر إلى مصاحبة أوديسيوس مع «أجاكس التيلاموني»
Ajax the Telamonian
للحصول على درع أخيل ففاز به.
البطل هرقل.
كما أحضر «نيوبتوليموس»
Neoptolemus
بن أخيل إلى الحرب ليعمل محل أبيه، وأقنع «فيلوكتيتيس» أن يدخل الحرب بعد أن صار معلوما أنه لا يمكن الاستيلاء على طروادة إلا بسهام هرقل
Hercules
التي في حوزته، فتنكر أوديسيوس في ثوب بال لأحد العبيد، ودخل طروادة مع ديوميديس
Diomedes
كجاسوس، ونجح في حمل البالاديوم
، وكان تمثالا لأثينا.
حصان طروادة
حصان طروادة.
وإلى أوديسيوس يرجع الفضل في بقاء المدينة يخيم عليها السلام طول مدة إقامته فيها. كما يرجع إليه الفضل أيضا في سقوط المدينة أخيرا؛ إذ هو الذي وضع خطة الحصان الخشبي، وقاد بنفسه جماعة المحاربين المختبئين داخله، وساعد في الاستيلاء على هيلينا وأفلح في إرجاعها دون أن يلحقها أدنى ضرر، إلى مينيلاوس.
عودة أوديسيوس من حرب طروادة
بولوفيموس العملاق وحيد العين.
أوديسيوس أسفل الكبش.
وهكذا انقضت عشر سنين على غياب أوديسيوس عن وطنه، وبعد ذلك ابتدأت العودة إلى إيثاكا
Ithaka
التي اتخذها هوميروس موضوعا لأوديسته
Odyssey ، فكانت أعظم وأول الأشعار الحماسية مكانة.
رسا أسطول أوديسيوس في أول الأمر تكتنفه الرياح والأعاصير عند «إسماروس»
Ismarus
مدينة «الكيكونيين»
Ciconians
الذين قتلوا عددا من رجاله دفاعا عن أنفسهم من النهب والسلب. وبعد ذلك هبت ريح شمالية عاتية استمرت عدة أيام، فدفعت الأسطول بعيدا إلى بلاد قوم يأكلون اللوتس، وبمجرد رسوهم أرسل أوديسيوس إلى السكان ثلاثة سفراء من رجاله. فاستقبلوهم بكل حفاوة وقدموا إليهم طعاما من اللوتس كان تأثيره عليهم أن أفقدهم كل حنين إلى الأهل والوطن، فلما لاحظ أوديسيوس الخطر المحدق به وبرجاله أمرهم أن يتعلقوا بالسفن ثانية، فأبحروا حيث وصلوا إلى بلاد «الكوكلوبيس»
Cyclopes ، وهم عمالقة ليس لهم إلا عين واحدة، يقطنون المغارات ويرعون الأغنام، فرسا على شاطئهم وخرج هو واثنا عشر رجلا من زملائه الأشداء يجوسون خلال البلاد، فوجدوا كهفا لأحد الكوكلوبيس يدعى بولوفيموس
الذي عندما رآهم في كهفه أمسك باثنين منهم، وطرحهما أرضا وابتلعهما، وحبس البقية في الكهف، ووضع حجرا ضخما على مدخله ليمنع خروجهم، ولكن أوديسيوس تغلب عليه بدهائه، فأعطاه جرعات كبيرة من خمر شديدة التأثير كان قد أحضرها معه. ولما نام من فعل الخمر وضع أوديسيوس قضيبا هائلا في النار حتى استعر، وفقأ به عين بولوفيموس الذي هام على وجهه يصرخ داخل الكهف وهو في سكرة الموت مناديا زملاءه لنجدته، فلما لبوا نداءه وسألوه عما أصابه أجابهم أن نومان
Noman
يقتله (ومعنى نومان «لا أحد») إذ كان أوديسيوس أخبره بأن اسمه «نومان» فتركوه وانصرفوا قائلين إذا كان لا أحد يقتلك فلا بد وأن يكون ذلك فعل الآلهة، وهذه هي النهاية آتية من عند زوس.
ولما قاد بولوفيموس الأعمى أغنامه في الصباح، ربط أوديسيوس زملاءه تحت بطونها وهرب هو شخصيا بأن اختبأ تحت جسم كبش كبير، وبذلك أفلت هو وزملاؤه من العملاق الذي كان يتحسس ظهور جميع الأغنام وهي خارجة من باب الكهف.
ولما ركبوا سفنهم أخذوا يجدفون بسرعة، ولكن أوديسيوس لم يطق كتمان شخصيته عن العملاق فنادى بأعلى صوته وأعلن اسمه الحقيقي للعملاق، فتميز الكوكلوب من شدة الغيظ، وألقى بصخرة هائلة نحو السفينة فأخطأها.
لعنة الكوكلوب تنزل على أوديسيوس
بوسايدون (إله البحر).
الساحرة كيركي والخنازير.
هيرميس (رسول الآلهة ).
السيرينيس.
فصلى الكوكلوب الأعمى إلى أبيه بوسايدون
، رب البحر، أن يعاقب أوديسيوس فلا يعيده إلى وطنه، وإن سمح له بالرجوع إلى وطنه، فليصل وحده وبعد كل مشقة وعناء، وتلاقيه صعاب هناك.
اقترب أوديسيوس بأسطوله من جزيرة أيولوس
Aeolus ، ملك الرياح، الذي أكرمهم عنده شهرا. وعند رحيلهم سلط عليهم ريحا مواتية لتشق طريقهم إلى الوطن، بينما حجز جميع الرياح والزوابع المضادة في حقيبة من الجلد، وأعطاها لأوديسيوس ليحتفظ بها حتى يصل إلى وطنه. ولما صاروا قاب قوسين أو أدنى من أرض الوطن فتح البحارة الحقيبة في أثناء نوم أوديسيوس، فجرفتهم الأعاصير إلى أيولوس ثانية، فلم يستقبلهم هذه المرة.
فأبحروا بصعوبة حتى وصلوا إلى بلاد اللايستروجونيين
Laestrygonians
التي جذب ميناؤها إحدى عشرة سفينة فولجته. أما أوديسيوس فقد ظل خارج الميناء، وكان حرصه هذا سببا في نجاته؛ لأن السكان المتوحشين آكلي لحوم البشر أغرقوا جميع السفن الأخرى، وقتلوا رجالها، فنجا أوديسيوس بسفينته.
فلما وصل إلى جزيرة إيايا
Aeaea
حيث كانت تحكم الساحرة كيركي
Circe
أرسل أوديسيوس رجاله لاستكشاف الجزيرة، فحولتهم كيركي إلى خنازير، ولكن قائدهم يورولوخوس
Eurolochus
شك في أمرها فلم يذق طعامها السحري، وبذا نجا وأخبر أوديسيوس بالأمر، فخف في الحال لنجدة رفقائه، فقابله هيرميس
Hermes ، رسول الآلهة، في الطريق وأعطاه نباتا واقيا من السحر، فتحصن به وذهب لمقابلة كيركي شاهرا سيفه وهددها بالموت إن لم تطلق سراح رجاله، ففعلت ذلك وما هو أكثر من ذلك؛ إذ استقبلتهم جميعا. وبهذا استمالت أوديسيوس فظل بجوارها عاما.
وأخيرا حضه زملاؤه على الرحيل أولا لزيارة بلاد الكيمبريين
Cimbri
وهي جزء من مملكة بلوتو
، رب الجحيم، لاستشارة النبي تيريسياس
Teirisias
عن مستقبله. وكان عليه أن يركب البحر كي يقوم بهذا، وأن يترك سفينته تحت رحمة الرياح تسوقها أينما شاءت.
فعل ذلك وحط رحاله، وحفر خندقا يجري فيه دم الحيوانات التي نحرها ذبيحة للآلهة، فتجمعت أرواح الموتى لتشرب من الماء، فسمح أوديسيوس لتيريسياس أن يشرب فاسترجع قدرته على الحديث وتفوه بالنصائح والمعلومات المطلوبة، ثم شربت والدة أوديسيوس حتى صارت قادرة على إطلاعه على حالة الوطن السيئة، كما تكلم معه كثير من أولئك القواد الأبطال الذين ماتوا في حرب طروادة؛ ومن ثم عاد أوديسيوس إلى كيركي، وأقلع إلى وطنه هو وجميع رفاقه، فسار بمركبه حذاء الساحل حيث غنت السيرينيس
Serines
تغوي الرجال إلى هلاكهم، فأراد أن يستمع إلى أغنياتهن رغم تحذير كيركي جميع رجاله، إلا أن أوديسيوس أغلق آذانهم بالشمع وأمرهم أن يجدفوا عبر السيرينيس، ورغم أنها جذبته كثيرا كما جذبت الرجال الآخرين إلا أنه نجا.
أوديسيوس وسط وحوش البحر
أوديسيوس وسكولا.
هيليوس (إله الشمس).
بلوتو (رب الجحيم).
أما المغامرة التالية فقد أودت به خلال مضيق يقوم على أحد جانبيه حيوان مخيف يسمى خاروبديس
Charybdes ، غاطسا في البحر ثلاثة أيام بالقرب منه وفوق ظهره جميع السفن. كما تقوم على الجانب الآخر سكولا
Scylla
التي لا تقل بشاعة عن الوحش، وكانت تبتلع كل من يصل إليها برءوسها الكثيرة، فتتبع أوديسيوس تعليمات كيركي، وبذلك صان مركبته من خاروبديس، ولكنه أبحر بالقرب من سكولا كثيرا، ففقد ستة من رجاله استطاع الوحش أن يمسك بهم أمام عيني رأسه. ووصلوا بعد ذلك إلى ثريناكيا
Thrinacia
حيث كانت تحجز ماشية هيليوس
Helius
الشمس. وكان أوديسيوس على وشك الرحيل لو لم تحذره كيركي وتيريسياس بأنه إذا قتل هذه الحيوانات المقدسة يجلب على نفسه عقابا قاسيا، ولكن رجاله طلبوا أن يستريحوا فترة؛ إذ كانوا في حالة يرثى لها من شدة الإعياء والتعب، ووعدوه ألا يمسوا شيئا منها، فوافق أوديسيوس. غير أن الرياح المضادة حالت بينهم وبين الإبحار مدة طويلة حتى نفدت مئونتهم، فانتهزوا فرصة نوم أوديسيوس ذات يوم وذبحوا بعضا من الماشية وأقاموا وليمة، فتألم هيليوس من هذا التصرف واشتكى إلى زوس أمام الآلهة وطلب إنزال العقوبة بهم، فلما ظعن أوديسيوس في النهاية، أرسل زوس عليهم ريحا صرصرا عاتية حطمت المركب، وأغرقت جميع الرجال ما خلا أوديسيوس لبراءته، فأمسك بحطام السفينة وحملته الأمواج إلى خاروبديس مرة ثانية، غير أنه استطاع النجاة من شره بصعوبة بأن تعلق بشجرة عند حافة الماء ثم جدف بيديه مستندا إلى كتلة خشبية، وبعد أيام قذفته الأمواج إلى ساحل أوجوجيا
Ogygia
جزيرة كالوبسو
Calypso ، فاستقبلته الحورية بكل ترحاب، ثم هامت بحبه وأبقته معها مدة تزيد على سبع سنوات، ثم اشتاق إلى وطنه وكانت تنقصه السفينة والملاحون، فحاولت هي أن تثنيه عن عزمه بأن وعدته الخلود والشباب الأبدي إن بقي معها، ولكن لم يجد ذلك فتيلا. وأخيرا تشفعت له أثينا عند زوس فأرسل هيرميس يأمر كالوبسو بمساعدته في الرحيل، فاشتركت معه في بناء زورق سطحي، وأمدته بالمؤن اللازمة للرحلة، فظل يبحر عدة أيام حتى لمحه بوسايدون من بعيد وأحدث زوبعة هشمت زورقه. وفي هذه المحنة قدمت إليه ليوكوثيا
Leocothea
حورية البحر، وشاحا لفه حول وسطه فساعده كثيرا؛ إذ استطاع أن يسبح به ثلاثة أيام تقريبا حتى وصل أخيرا إلى شواطئ سخوريا
Schyria ، أرض الفياكيس
. وكان هذا الشعب المسالم القريب الوصول إلى الآلهة، شعبا مهنته الإبحار وديدنه فنون البحر، وكانت لسفنه سرعة الطيور ولا تحتاج إلى مرشد يقودها؛ إذ إن السفن نفسها لم تنقصها الفطنة.
ناوسيكا تنقذ أوديسيوس
استلقى أوديسيوس منهوك القوى من جراء كفاحه العنيف مع الأمواج، فوق كومة من أوراق الأشجار بين الأعشاب، فجاءت في ذلك الوقت ناوسيكا
Nausica
ابنة الملك إلى الشاطئ تصحبها خادمتها كي تغسل ملابسها، وكانت أثينا قد أمرتها في حلم أن تذهب هناك؛ لأنها أرادت منها مساعدة أوديسيوس، فأقلق حديثهن أوديسيوس وتقدم إليهن يطلب المساعدة، فأزعجهن منظره، ولكن توسلاته حركت ناوسيكا فوعدته بحماية والدها، وأعطته ملابس جديدة استقبله بها الملك ألكينوس
Alcinous ، وبعد أن عرض أمام الملك شجاعته الرياضية في المباريات، عاد إلى القصر ثانية واستمع إلى أنشودة ديمودوكوس
Demodocus
المغني الأعمى الذي ظل يتغنى بحصان طروادة الخشبي، فحركت الأغنية مشاعر أوديسيوس، فبكى أوديسيوس وأطلعهم على اسمه الذي كان معروفا لهم منذ زمن طويل، وبناء على رغبة الملك أعاد أوديسيوس على مسامعه ذكريات مغامراته، وتحقيقا لتوسلاته الملحة أرسل إلى وطنه على ظهر سفينة وقفت به عند إيثاكا ثم أبحرت، ولكن بوسايدون في ثورة غضبه حولها إلى حجر وثبتها في البحر كجزيرة صخرية.
عودة أوديسيوس إلى وطنه
يوروكليا تغسل قدمي أوديسيوس.
وهكذا بعد مرور عشرين عاما عاد أوديسيوس ثانية إلى وطنه الأصلي، بيد أن مخاطراته لم تكن قد انتهت بعد، فلما استيقظ جاءت إليه أثينا وحذرته بأن كثيرا من شبان الوطن المتقدمين للزواج من بينيلوبي، يقومون بإدارة الوطن في بيته بدلا من بينيلوبي نفسها وابنها تيليماخوس، ثم حولت الربة شكله إلى شحاذ يلبس أسمالا بالية لكي تحميه، فذهب في زيه هذا إلى كوخ يومايوس
Eumaeus
راعي خنازيره الأمين، فاستقبله ولو أنه لم يتعرف عليه. وعند ذلك جاء تيليماخوس عائدا من رحلته الطويلة التي كان يبحث فيها عن معلومات عن والده، فكشف أوديسيوس القناع عن حقيقة شخصه، ووضعا معا الخطة التي يمكن بها استرجاع الحكم. وفي اليوم التالي ذهب في حلته البالية إلى بيته حيث لم يتعرف عليه أحد غير كلبه العجوز «أرجوس»
Argos
الذي مات من الفرح عند مقابلة سيده. أما المتقدمون للزواج من بينيلوبي فسخروا منه، ولكن بينيلوبي أحسنت استقباله، وأمرت خادمتها المسنة يوروكليا
Euryclia
أن تغسل قدمي الغريب. وفي أثناء قيامها بغسل قدميه اكتشفت العلامة القديمة التي كان الخنزير الوحشي قد تركها فيه منذ عدة سنوات، وبذلك تعرفت عليه.
مباراة تنقلب إلى مذبحة
يوروكليا تتعرف على أوديسيوس.
وبأمر من أثينا اقترحت بينيلوبي إقامة مباراة بين طالبي الزواج منها، وجعلت من حق الفائز أن يتزوجها؛ لأنها ظنت كما ظن الناس جميعا أن أوديسيوس قد لقي حتفه؛ لأنها حتى هذه الآونة كانت تنحيهم بنسيجها؛ إذ اتفقت أن تتزوج بعد أن تنتهي من ذلك النسيج. وكانت تنسج بالنهار قليلا ثم تعود بالليل فتحل ما نسجته. وفي النهاية اكتشف المتقدمون للزواج منها حيلتها، فاقترحت عليهم أخيرا أن يحاول كل واحد منهم شد وتر قوس أوديسيوس الشهيرة ثم يطلق به سهما خلال اثنتي عشرة حلقة متراصة في صف واحد، فوافق الجميع إلا أنه لم يتمكن أحد من تركيب الوتر للقوس، فأعطى تيليماخوس الشحاذ فرصة كي يجرب حظه وسط ضحك وسخرية المتقدمين للزواج، فإذا بأوديسيوس يركب الوتر بمنتهى السهولة إلى قوسه ويقذف بالسهم خلال الحلقات، ثم انتقى سريعا هدفا آخر وسدد سهما إلى أكثر المتقدمين للزواج سفاهة فأرداه قتيلا، فأسرع الجميع يبحثون عن أقواسهم وعدتهم التي سبق أن أخفاها تيليماخوس، ثم حاولوا الهروب، بيد أن الأبواب كانت مغلقة. وبذلك تمكن أوديسيوس وتيليماخوس وراعي الخنازير بمساعدة أثينا من قتل جميع المتقدمين للزواج، ولكن بينيلوبي حتى هذه اللحظة لم تكن تثق بأنه هو أوديسيوس حتى تبينت شخصيته تماما عندما قص عليها أسرارا كانت تعرفها هي وحدها. وواجه أوديسيوس حربا أخرى عندما جاء أقارب المتقدمين للزواج كي ينتقموا منه فهزمهم وأقام صرح السلام. ولو كان لنا أن نؤمن بقول تيريسياس فإن أوديسيوس عمر طويلا، ومات أخيرا في وطنه في هدوء وسلام. •••
هذه كلمة جامعة لهذا العمل الذي بين يديك، وعجالة تكشف لك دعامات القصة التي أنت بصدد قراءتها، مع تصوير لأبرز أحداثها. •••
بيد أنه لا تثريب علي لو وجدتني أنتقل من هذه العجالة إلى موضوع آخر، إلى هوميروس نفسه، إلى الشاعر الذي ترجمنا لك أشعاره في لذة تفوق الوصف؛ فمما لا شك فيه أنه جدير بعنايتنا وبالغ اهتمامنا.
مولد هوميروس
تواجهنا صعوبة في تحديد التاريخ والعصر اللذين عاش فيهما هوميروس. وفي الواقع ليست هناك أية تواريخ محددة لمولده أو لمماته. والسبب في ذلك يرجع إلى افتقارنا الشديد إلى تاريخ ثابت حقيقي جاء ذكره في أي من ملحمتيه أو في أي مؤلف من مؤلفات معاصريه، ولأن باحثي الآثار كذلك لم يتركوا لنا ما يشير إلى هذه التواريخ؛ إذ أغفلوا ذكر البيانات الزمنية التي يمكننا أن نستند إليها؛ ولذا فأية محاولة منا لتحديد العصر الذي عاش فيه هوميروس لا بد وأن تكون محاولة قائمة على عنصر التخمين والحدس لا تعطي القارئ نتيجة حتمية بل نتيجة تقريبية.
هوميروس.
ومع ذلك فهناك حقيقة سافرة وهي أن تاريخ هوميروس يمكننا أن نربطه بتاريخ شاعر آخر يدعى هسيود
Hesiod
يقول البعض إنه عاش قبل هوميروس، كما يقول فريق آخر مثل هيرودتس
Herodotus
المؤرخ اليوناني الشهير إنه وهوميروس عاشا في عصر واحد؛ أي إنهما متعاصران. بيد أن هناك من يقول إن هسيود عاش في عصر يلي عصر هوميروس. وأصحاب هذا الرأي الأخير من أمثال فيلوخوروس
وإكسينيفون
Xenephon
وبوسيدونيوس
يؤيدون رأي النقاد الإسكندريين، فأيهم يحق لنا أن نصدق؟
أما الذين يعتقدون بأن هسيود عاش في عصر سابق لعصر هوميروس فيؤيدون وجهة نظرهم قائلين إن هسيود عاش في بداية حكم الملك أركسيبوس
Arxippos
في حين أن هوميروس عاش في نهاية حكم هذا الملك، وبذا يضعون هسيود قبل هوميروس بثلاثين عاما تقريبا، ولكن هناك دليلا قاطعا يثبت خطأ رأي هذا الفريق؛ إذ كيف يحدثنا هسيود في منظومته «الأعمال والأيام»
Works and Days
عن عصر الأبطال، ذلك العصر الذي جاء ذكره فقط في منظومتي هوميروس؟ كيف تأتى له أن يذكر لنا ذلك العصر بالتفصيل فيشوه بذلك حلقة العصور كما حاول أن يصورها هو لنا، فيحدثنا عن عصر الأبطال الذي أبدع هوميروس في الحديث عنه؟
أما الذين يميلون إلى الاعتقاد بأن هوميروس عاش في عصر سبق عصر هسيود فمنهم من يرى أنه عاش قبله بقرن واحد من الزمان، وبذا يحدد له عام 850 إلى 835ق.م.، ويؤيد هذا الرأي العالم كروازيه
Croiset
بقوله: إنه من المستحيل أن يكون هوميروس قد عاش بعد عام 850ق.م. ويدعم رأيه قائلا: إن أثر الأشعار الهومرية كان واسعا شاسعا، وشهرتها كانت قد وصلت الآفاق البعيدة في الوقت الذي كانت فيه المنظومات الهسيودية لا تزال في دور الوضع أو قد شارفت النهاية؛ ولذا لا يمكن إزاء هذا أن يكون هسيود قد عاش بأية حال قبل نهاية العصر الهومري.
ولئن أخذنا برأي الذين يخبرون بمعاصرة هسيود لهوميروس، لاستطعنا أن نحدد لكليهما تاريخا معينا، فهيرودتس أحد الذين يدينون بهذا الرأي يقول: إن هوميروس وهسيود عاشا في عصر يسبق عصره بأربعمائة سنة تماما. ولما كان هيرودتس قد ولد عام 484ق.م.، ومات عام 430ق.م.، إذن فلا بد وأن شاعرينا قد عاشا في الفترة بين 884 و830ق.م.؛ أي ما يمكن لنا أن نحدده بعام 850ق.م. تقريبا. وهذا تاريخ ينسب عادة إلى هوميروس ويعضده الأديبان الإنجليزيان ألن
Allen
وبيرن
Burn .
موقف هوميروس الأدبي
لعب هوميروس دورا عظيما في تسجيل أحداث زمانه، والترنم بشجاعة رجاله وأبطاله، والإشادة بجسارة المحاربين الذين تفانوا في الدفاع عن سمعة وطنهم وشرف نسائهم.
وكان هوميروس يعتبر معلما ولكنه - بخلاف هسيود، وريث عرش الشعر من بعده - معلم غير مباشر؛ إذ كان دائما خياليا في فنه وتصويره، حتى لنصدق إن قلنا إنه علم الشعراء الآخرين كيف يتقنون فن الأكاذيب كما يجب، فضلا عن أنه راح يعلم بني جنسه الشئون الحربية.
إذن كان الإغريق القدماء يعتبرون هوميروس شاعرهم التربوي، وملقنهم الأوحد، ورائدهم الأعظم؛ ولذلك انتشرت أشعاره في نطاق واسع.
ورغم اعتبار كل من هوميروس وهسيود معلمي العصور القديمة، ورغم استعمالهما لهجة واحدة وأسلوبا واحدا، إلا أن هوميروس غير هسيود، ومعلومات الأول غير معلومات الثاني، فالفرق بينهما شاسع بلا شك؛ إذ لا يخاطب هوميروس غير الأشراف وطبقة الأرستقراطيين، ولا يكترث بطبقات العوام ولا يلتفت إليها، بينما لم يهتم هسيود لغير طبقة العوام، فالأخير بلا شك لسان حال هذه الطبقة.
الصخرة التي لم تستطع أمواج الزمان أن تحطمها.
فلا تكرم إلياذة هوميروس وأوديسته غير طبقة الأشراف ولم يوجه صاحبهما نظره قط إلى طبقة العامة؛ إذ يرى المرء أن هذه الطبقة لا تتطلب من المرء أي اهتمام لما يصدر منها من نشاط، فلم يحفل بها ولم يعبأ بشئونها، فليس من شئون الفلاح أو الجندي العادي الذي حارب أمام أسوار طروادة أن يتدخل في العلاقة بين الآلهة والبشر.
كان هوميروس فوق ذلك أشبه بالخيال أو الطيف، يكتنفه الغموض وتتضارب حول شخصه الأقوال، لا يحاول قط أن يحدثك عن أية شخصية، ولا حتى عن شخصيته هو، فلم يذكر اسمه إطلاقا في أي سطر من سطور منظومتيه الشهيرتين.
ويتناول هوميروس في أشعاره الروايات التاريخية والمغامرات والمواضيع المسلية، كما أنه يتغلغل في نفوس النساء فيحاول أن يصور ما ينتابهن من مشاعر وإحساسات، فبدت أشعاره صورة رائعة تعج فيها الجاذبية ويسبح بين سطورها الغرام.
كان هوميروس مغرما بالأبطال، فأمراؤه أبطال وكذا زعماؤه وقواده وإلا لما ابتكر عصر الأبطال الذي تشبه أبطاله أنصاف الآلهة .
ونلمس في هوميروس إحساسات مملوءة بالعاطفة واختلاجات مفعمة بالمشاعر، هي سندنا في حكمنا عليه بأنه شاعر متفائل.
وتتجلى عظمة هوميروس فيما بلغ إليه من صيت عريض، لدرجة أن سبع مدن كانت تتنازع عليه كل تريد أن تستأثر به لنفسها دون غيرها. ومن أشهر المدن التي تنافست على شخصية هوميروس هما مدينتا خيوس
Chios
وسمورنا
Smyrna ؛ إذ دأبت كلتاهما على الادعاء بأن هوميروس هذا ملكها، وقد ولد في ربوعها ونشأ في أحضانها وتربى على خيراتها.
أما المدن الأخرى التي ادعت بانتماء هوميروس إليها فهي رودوس
Rhodus
وكولوفون
Colophon
وسلاميس
Salamis
وأرجوس
Argos
وأثينا
Athenae .
ومما لا يرقى إليه الشك أن أشعار هوميروس كانت الأساس المكين الذي نهضت عليه الآداب والتعاليم الإغريقية.
ويرجع الفضل أيضا إلى المنشدين في المحافظة على أشعار هذا الشاعر الفطحل؛ فمن المعروف أن هوميروس عاش في عصر لم تكن الكتابة تزاول فيه إلا قليلا جدا إن لم يكن نادرا.
وصولون
Solon
هو أول من لفت نظر مواطنيه إلى ما في ملحمتي هوميروس من وحدة وترابط، أما بيزستراتوس
فأول من جمع أشعار هوميروس المشتتة وأمر بتدوينها كتابة.
هذا وينسب الأقدمون إلى هوميروس أشعارا أخرى - عدا الإلياذة والأوديسة.
ولعل أشهر هذه المنظومات الهومرية المنظومة المسماة «معركة الضفادع والفيران»
Batrachom yomachia
وهي موجودة، وكذلك «المارجيتيس»
Margites
وهذه مفقودة، وتسخر من رجل قيل إنه يعرف أشياء كثيرة ولكن بطريقة سيئة لا تدل على أنه يعرف شيئا.
وكما حاول الكثيرون الطعن في هوميروس كمؤلف لملحمتي الإلياذة والأوديسة، طعنوا فيه أيضا كمؤلف لأي منظومات شعرية أخرى.
فقد بدت هذه الأعمال الأدبية في نظرهم فوق مقدور رجل واحد وعقل واحد، ولكن مما لا شك فيه أن هوميروس بن مايون
Maeon ، الشاعر الضرير هو ذلك العملاق الذي كتب بملحمتيه صفحات الخلود بحروف من نار ونور، فكان الشاعر الخالد والصخرة التي لم تستطع أمواج الزمان أن تحطمها ولا معاول القدر أن تفتتها، ولا حتى عقول البشر أن تسمو إليها، أو إلى سماكها الأعلى.
القيمة الأدبية للملاحم الهومرية
نفوذ الإلياذة والأوديسة
يبدأ الأدب اليوناني بالإلياذة والأوديسة للشاعر هوميروس الذي كان له تأثير بالغ في التربية والتعليم عند اليونانيين جميعا، والذي استمر أثره حتى العصر البيزنطي، فكان الأغارقة المثقفون يحفظون أجزاء كثيرة من الإلياذة والأوديسة، ثم انتقل الميل إلى الرومان ومنهم إلى بلاد الغرب في أوروبا. وبذلك لا تزال المسألة الهومرية باقية على حالها حتى الوقت الحاضر، ونعني بها أصل هذه القصائد الهومرية وتكوينها بحيث تعد من أعقد المسائل التي يهتم المثقفون بحلها والإحاطة بها، والصوت الذي انبعث ليؤدي رسالة حضارة البحر الأبيض المتوسط هو صوت الشاعر هوميروس؛ لأن الشعوب التي تسكن وادي النيل وما بين النهرين لم تكن شعوبا بحرية، أما كريت فلدينا عنها نصوص كثيرة لم تحل طلاسمها بعد، وكذلك لم يترك لنا أي أثر يدل على رحلات الإغريق التي قاموا بها في البحر الأبيض أو في خارجه، إلا إذا اعتقدنا أنه كان للأوديسة أساس يرتكز على قصة روت وقائع رحلة فينيقية، كما يفترض هذا الفرض العالم الفرنسي فكتور بيرار
Victor Berard . بيد أن هذا الفرض بعيد الاحتمال، وحتى في هذه الحالة تكون أخبار هذه الرحلة قد وصلتنا عن الشعر القصصي عند الأغارقة.
تعتبر القصائد الهومرية قصائد قومية لها الصبغة القومية عند اليونان؛ القدماء منهم والمحدثون، ولكنها لا تذكر لفظ «الإغريق» ولا نعثر على كلمة تدل عليها، وبصفة خاصة لا نجد كلمة
Hellas
التي تسمى بها اليونان إلا في القصائد التي يعتبرها النقاد المحدثون مضافة إلى الإلياذة والأوديسة. أما هوميروس فلا يتحدث إلا عن أجداد اليونان وأسلافهم وهم الآخيون، فهي بذلك تغوص بأصولها في الماضي البعيد؛ لذلك يجب أن ننظر إليها كأنها بداية للأدب اليوناني، كما يجب اعتبارها نهاية لتقاليد مجيدة وخاتمة لمجهود عظيم يرمي إلى التغيير والتحوير والتنظيم.
أسلوب الإلياذة والأوديسة
واللغة هي التي توقفنا على ما تتميز به هذه القصائد. إن أهم صفة لهذه القصائد هي كونها على جانب كبير من الروعة في الفن والجمال والأسلوب؛ فهي ليست قصائد بدائية أو أولية وإنما اللغة فيها لغة الأدباء والمثقفين أو من أخذوا بجانب كبير من الأدب والثقافة، هذا فضلا عن أنه لا يمكن لأحد أن يكتب بهذه اللغة إلا العلماء أو الأدباء أو الشعراء؛ فهي لغة الخاصة لا لغة العامة. إنها مزيج من لهجات مختلفة تغلب عليها اللهجة الأيونية التي ترتكز على أساس من اللهجة الأيولية. كما أن الوزن فيها هو المسمى بالوزن السداسي
Hexameter Dactylic ، وهو الذي يحتوي فيه بيت الشعر على ستة أقدام بكل قدم حركة طويلة وحركتان قصيرتان. وليس هذا الوزن من مستلزمات اللغة اليونانية كما برهن على ذلك العلامة اللغوي الفرنسي المشهور ميلي
Meillee
في كتابه عن تاريخ اللغة اليونانية. وليس هذا الوزن أيضا من مستلزمات اللغة اللاتينية؛ فقد استعاره الرومان أنفسهم من اليونان، وذلك في القرن الثالث قبل الميلاد. ومن المحتمل أن يكون اليونان أنفسهم قد أخذوه عن لغة تسمى اللغة الإيجية التي كانت سائدة في بحر إيجة.
لهذا السبب احتفظت اللهجة الأيونية التي استعملها هوميروس في قصائده بالحرف «ديجاما
Y » الذي زال من اللغة اليونانية فيما بعد، ولكن بقي لهذا الحرف تأثيره على بقية بيت الشعر الذي كان يستعمل فيه من حيث الوزن، فوجدوه مثلا يؤدي إلى حذف أحرف أخرى أو إدغام حروف أخرى غيرها.
ولقد احتفظت هذه القصائد أيضا بأشكال عتيقة وكلمات قديمة افتقدنا معناها الأصلي، وكذلك احتفظت بهذا الأسلوب الذي يغلب عليه ميله إلى استعمال الألفاظ الفخمة والرنانة. وكان هناك ميل في القرن التاسع عشر في أوروبا؛ أي في الوقت الذي ساد فيه المذهب الرومانتيكي في الأدب الأوروبي إلى إيجاد نوع من المقارنة بين هذه القصائد وبين القصائد الشعبية الجرمانية أو الاسكندنافية. وقد ظهر هذا الرأي على الأخص عند علماء اللغة من الألمان. وتبع الألمان بعض العلماء من الفرنسيين، وعلى الأخص العالم الفرنسي فكتور بيرار. ونلاحظ نفس الملاحظة عندما نقبل على دراسة الوقائع والحوادث التي تشتمل عليها هذه القصائد وعلى الأخص الإلياذة كالأدوات التي يستعملها الإنسان أو المساكن التي يقطن فيها، وبالجملة مظاهر الحياة أو الحياة نفسها. وإذا كان علماء اليونان الذين قاموا بحفائر في موكيناي وكورينث وطروادة قد كشفوا عن آثار دلت على أنه كانت هناك حضارة ميسينية
Missenian Civilization
قبل الغزوات التي قامت بها القبائل الدورية
Dorians ؛ من أجل ذلك مال الناس في ذلك الوقت؛ أي في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي عملت فيه هذه الحفائر، إلى الأخذ بالرأي القائل بأن هذه القصائد احتوت على وصف شامل لمظاهر تلك الحضارة الميسينية الباهرة. ويبدو هذا الرأي واضحا جدا فيما كتبه العالمان الألمانيان هلبنج
Helbing
وولف
Wolf . وفي كتب هذين المؤلفين ملاحظات هامة دقيقة. أما في الوقت الحاضر فقد قل أتباع هذا الرأي، وأصبح المؤرخون لا يميلون إليه كلية، كما يدل على ذلك ما كتبه المؤرخ الألماني شميدت. وبالرغم من هذا الرأي الذي ينكر كل أثر من آثار الحضارة الميسينية في قصائد هوميروس، فما زال هناك نفر من المؤرخين يقول بأنه في الإمكان العثور على آثار كثيرة تدل على هذه الحضارة في قصائد هوميروس. وهي تلك الحضارة التي كانت مزدهرة قبلها بوقت طويل أو قصير.
أما المؤرخ الألماني إدوارد ماير
Edward Meyer
فيقول في كتابه «عن تاريخ العالم القديم»
Histoire de l Antiquié
إن هوميروس حينما يتكلم في قصائده عن مدينة طيبة
Thebes
إنما يعني بها تلك المدينة التي كانت مزدهرة في عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، ولا يقصد بها في رأيه تلك المدينة التي كانت في عهد الملك شيشونج
Scheshong
وهي التي كانت تعاصر هوميروس، والتي قال عنها هوميروس في الإلياذة في الأنشودة التاسعة في الأبيات 381-382 ما يأتي:
طيبة ذات الأبواب المائة التي يهجم من كل باب منها مائتا محارب بالجياد والعربات.
وهذا الوصف في رأي ماير وصف لمدينة طيبة في عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، وهي التي عرفها أحد اليونان وهم الآخيون. وكان بين هؤلاء الآخيين وبين ملوك هاتين الأسرتين صلات وعلاقات وثيقة جدا، كما دلت على ذلك الهدايا المختلفة التي تبودلت بين ملوك مصر وملوك الميسينيين أو الآخيين. وحقيقة الأمر أن أحدا لم يذكر شيئا عن حفر السور العظيم المحيط بمدينة طيبة الذي به مائة باب؛ لذلك فإن الأبيات التي أوردها هوميروس عن طيبة لا تدل على شيء، ولا تدل على أنه يقصد بها طيبة في الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين أو في عهد شيشونج، وإنما هي من نوع أدب اليونان، فيقال طيبة ذات الأبواب المائة، دون تحديد على وجه الدقة.
أدب ما قبل العصر الهومري
ولا تشتمل القصائد الهومرية على الناحية المادية فقط، وإنما تتحدث عما ورثته من الحضارة الإنسانية عن الآخيين؛ فهي تحدثنا مثلا عن العادات والأخلاق التي كانت سائدة بين أجداد اليونان، كالعادات المتبعة في حفلات عقد الزواج. ومن كل هذا نستنتج أن هذا الشعر الهومري قد سبقه شعر آخر؛ لذلك يجب أن نفترض وجود أدب سابق على الأدب الهومري، ولكن ما هو هذا الأدب؟ من العسير علينا معرفة ماهية هذا الأدب من الناحية الإيجابية، ولكن من السهل معرفته من الناحية السلبية؛ فقد تصور العالم القديم وجود أدب قبل العصر الهومري. وليس هذا التصور من التاريخ في شيء وإنما يدخل في باب الخرافات؛ فمثلا الخرافة التي حيكت حول الشاعر أورفيوس
Orpheus
إنما نبتت في عهد متأخر وظهرت في أثينا في القرن السادس قبل الميلاد في عهد بيزستراتوس، وهي تمثل رد الفعل الذي حدث في ذلك العهد ضد شعر هوميروس الذي كان يرى الأثينيون في ذلك الوقت أنه شعر مخالف للأخلاق لسبب بسيط جدا، وهو أن الآلهة التي ورد ذكرها في الإلياذة والأوديسة لم تهتم كثيرا بالأخلاق؛ لذلك تصوروا هذه الخرافة التي ترتكز على أساس كبير من الأخلاق. وكان أول من بدأ ذلك الميل الأخلاقي هو الشاعر الإغريقي هسيود الذي عاش في ذلك الوقت تقريبا أو بعده بقليل. وقد كان حول الطاغية بيزستراتوس طائفة كبيرة من الشعراء والأدباء منهم الشاعر المشهور أونوما كريت
Onomacrite
الذي قام بدور يشبه الدور الذي يقوم به وزير الثقافة أو وزير التربية والتعليم في عصرنا الحاضر، في الإشراف على الأدب والثقافة العامة وكل ما يمت إلى الأدب بصلة قريبة أو بعيدة. إذن فقد انتشرت الخرافة التي حيكت حول أورفيوس، وكثر أتباع هذا المذهب الأخلاقي. وكان هذا الانتشار عظيما جدا في القرن السادس في جنوب إيطاليا وبلاد اليونان، وكان له تأثير عظيم جدا في شعراء القرن الخامس قبل الميلاد. •••
نعود فنتساءل عن ماهية الأدب الذي كان يسبق أدب هوميروس.
يحدثنا هوميروس عن الشعراء «المنشدين» الذين ينشدون الأشعار في قصور الملوك وهم يقطنون فيها، ويغنون على الموائد التي تقيمها تلك الشخصيات الكبيرة، منشدين لهم الكثير من أعمال البطولة التي قام بها أبطال اليونان السابقون، وذلك على نغمات القيثارة. ومن هؤلاء الشعراء المنشدين الذين اتخذوا قصور الملوك مسكنا لهم الشاعر الذي تركه وراءه الملك أجاممنون كي يرفه عن زوجته كلومينيسترا
Clymenestra ، ويوحي إليها بالعواطف السامية إبان غياب زوجها، وكذلك الشاعر الذي كان في جزيرة إيثاكا ويدعى فيميوس
، والذي كان ينشد أشعارا جميلة يطيب بها خاطر الشخص الذي كان يطالب بعرش هذه الجزيرة، والذي عفا عنه أوديسيوس عند عودته من رحلته التي ضل فيها. ومن هؤلاء الشعراء من كان يهيم على وجهه متنقلا من قصر إلى آخر ينشد في المناسبات والفرص والأعياد. ومنهم من جمع بين هذا وذاك كالشاعر ديمودوكوس
Demodocus
الذي كان يغني في قصر الملك ألكينوس، ولكن هذا الشاعر لم يقطن في هذا القصر دائما، بل كان يخرج من قصر ألكينوس ليتنقل من مكان إلى مكان؛ ومن ثم فهو وسط بين الشاعر المقيم والشاعر الرحال.
الشعر الغنائي
ما الذي كان يغنيه هؤلاء الشعراء؟ كانوا يغنون شعرا غنائيا شعبيا. ولا شك في هذا لأن جميع الآداب القديمة ابتدأت أولا بهذا الشعر الغنائي الذي يغنى للشعب ويفهمه الشعب. كانوا يغنون بصفة خاصة أشعارا تمجد أعمال الفروسية التي قام بها أبطال اليونان، فالشاعر ديمودوكوس كان يبدأ إنشاده عادة بالأشعار التي تقص الحب الذي كان بين أريس
Ares
وأفروديتي
Aphrodite
وتفاصيل هذا الحب، من تدخل الإله هيفايستوس
Hephaestus
بينهما وإخضاعه لهما وحبسه إياهما وتقييدهما بالأغلال. وكان تغلب على هذه الأشعار روح السخرية والتهكم كما كان ذلك غالبا على جميع القصص الواردة في الأدب الأيوني، كما ورد ذلك في كلام هيرودتس في القرن الخامس.
ومن المحقق أيضا أن هذه الأشعار لم تكن طويلة كالإلياذة والأوديسة ؛ لأنها لو كانت طويلة لما اتسعت لها تلك المآدب التي كانت تنشد فيها. وهنا يخطر على بالنا السؤال: «هل كانت القصائد مستقلة، أو تكون وحدة خاصة بذاتها، أو تكون جزءا من كل يقتطع ويغنى وينشد في الفرص والمناسبات المختلفة، كما كان يفعل أولئك المغنون المسمون
Rhapsodes
والذين كانوا يغنون أجزاء من الإلياذة والأوديسة؟»
أدب بلاد ما بين النهرين
وللإجابة على هذا السؤال، يجب أولا أن نلقي نظرة على الآداب القديمة الأخرى التي أنتجت هي الأخرى أشعارا قصصية طويلة كالقصائد التي وصلتنا مما أنتجته بلاد ما بين النهرين. ومن بين هذه قصيدة تشبه الإلياذة تسمى الجلجانيش
Gilganesch
ويرجع عهد هذه الخرافة إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ولكنها تضخمت بمرور الزمن بإضافة قصص جديدة عليها تقص حوادث جديدة؛ لذلك كانت هناك ثلاثة أنواع؛ النوع الأول وينتمي إلى الألف الثالث قبل الميلاد. والنوع الثاني وينتمي إلى العهد السومري. والنوع الثالث وينتمي إلى عهد آشور بانيبال وهو ملك آشور من 667-626ق.م. وهذا النوع الثالث أحدثها، وكان في مكتبة هذا الملك منقوشا على اثنتي عشرة لوحة، فهل حدث شيء يقارب ذلك فيما يتعلق بالعهد الذي سبق عصر الإلياذة والأوديسة.
وللإجابة على هذا السؤال يجب تحقيق مسألتين هامتين؛ أولاهما، ما هذا الذي نسميه الإلياذة والأوديسة، أو ما هي ماهية هذه القصائد وما طبيعتها، ومن أي شيء تتكون؟ فإذا أوضحنا هذه النقطة وحددنا طبيعتها وعرفنا ما هي، تعرضنا للمسألة الثانية وهي كيف نقلت إلينا هذه القصائد.
وللإجابة على هاتين المسألتين أيضا يجب الرجوع إلى الإلياذة والأوديسة كما نقلتا إلينا كي نحللهما ونفهم أولا مضمونهما.
تحليل الإلياذة
الأنشودة الأولى
تدور الأشعار فيها حول فكرة معينة وثيقة الاتصال بغضب أخيل، وهذه الفكرة هي التي تكون وحدة هذه الأنشودة وتربط بين أجزائها؛ ذلك أنه كان قد عرض أجاممنون أن يعطي ابنته خروسايس إلى كاهن أبولو
Apolo
ويدعى خروسيس
Chryses
غير أنه في مقابل ذلك يطالب أجاممنون بأن يعطي بريسايس
Briseis
إحدى أسيرات أخيل، إلا أن أخيل يعتبر هذا الطلب مسبة وعارا له فيغضب ويرفض الاشتراك في القتال، ثم يذهب إلى خيمته ويقبع فيها، يؤيده في ذلك الرب زوس الذي كان يشجعه على هذا المسلك.
الأنشودة الثانية
وفيها يأتي زوس إلى أجاممنون في نومه، ويخبره بأن هناك أحداثا جساما ستقع؛ ومن ثم يعقد أجاممنون العزم على القتال ويجمع الملوك والرؤساء للتشاور في هذا الأمر. وبعد هذا المجلس الصغير يعقد المجلس الكبير الذي هو مجلس الشعب المكون من جميع المحاربين البالغين سنا معينة لا تقل عن العشرين.
يتظاهر أجاممنون بادئ ذي بدء برغبته في الرحيل، ويؤيده الجميع في هذه الرغبة ويبدون استعدادهم لذلك ويعدون العدة للرحيل. وبينما هم على هذا العزم إذ يجيئهم أوديسيوس فيشد من عزائمهم ويشجعهم ويقدم لهم النصائح، ويحثهم على القتال فيغير من رأيهم ويحملهم على مواصلة القتال. وفي هذه الأنشودة يسرد الشاعر أسماء الزعماء والملوك والرؤساء من اليونان، وكذلك الشعوب اليونانية المختلفة. كما أنه يسرد أسماء ملوك الطرف الثاني الذي مع طروادة.
الأنشودة الثالثة
وفيها يستفز باريس الآخيين ويحملهم على القتال، ولكنه يفر أمام مينيلاوس ملك إسبرطة فيؤنبه هكتور
Hector
ويوجه إليه اللوم على هروبه، فيتفقان على أن تكون هيلينا من نصيب المنتصر، وتتقدم هيلينا على حصون طروادة، وهوميروس في وصفه لها وهي تتقدم فوق الحصون قد وصفها وصفا بليغا بلغ في ذلك آية كبيرة من الفن، وتشرع هيلينا في عد أسماء الملوك والزعماء والرؤساء اليونانيين لبريام
والد باريس وهكتور. ويبدأ القتال، ولكن ربة الجمال أفروديتي تأتي وتخطف باريس من بين براثن الموت مؤنبة امرأته هيلينا على ذلك. غير أنها من فرط حبها له تنسى هذا التوبيخ وترضى عنه، وتعود إلى الوفاق معه. أما أجاممنون فيطالب بتنفيذ المعاهدة.
الأنشودة الرابعة
وفيها يذكر الشاعر أن الربة هيرا
Hera
تحصل على موافقة زوجها زوس برجوع حالة الحرب بين اليونان وطروادة، وتقترح الربة أثينا على بنداروس
أن يصوب سهما نحو ديوميديس
Diomedes
ملك إسبرطة، فيصيبه السهم ويجرحه ولكنه لا يموت من آثار الجرح. أما أجاممنون فيحض جنوده على القتال الذي يعود إلى ما كان عليه.
الأنشودة الخامسة
يقص الشاعر فيها أعمال البطولة التي قام بها ديوميديس بن توديوس
Tydeus ، وبالرغم من جراحه التي أصيب بها فإنه يواصل القتال في حماس عظيم بفضل مساعدة أثينا، ويتمكن من قتل بنداروس ويجرح إنيوس
Eneus
فتأتي أفروديتي وتنقذ ابنها إنيوس، بيد أنها تجرح هي الأخرى فتصعد إلى جبل أوليمبوس، وعندئذ يظهر أبولو وينقذ إنيوس ويشفيه من جراحه.
أما ديوميديس فإن أثينا تحثه على القتال حتى يتمكن من جرح أريس.
الأنشودة السادسة
فيها يأخذ أهل طروادة في التقهقر والتراجع، ويترك هكتور ميدان القتال بعد أن ينصحه بذلك هيلينوس
Hellenus ، ثم يذهب هيكتور لينصح أمه هيكوبي
Hecupe
ويتوسل إليها أن تذهب إلى الربة أثينا للحصول على مساعدتها، ثم يحرض هيكتور باريس ويدفعه إلى ميدان القتال ليحارب هناك، ثم يودع هكتور زوجته أندروماخي
Andromache
الوداع الأخير. وفي هذه الأنشودة فضلا عن ذلك قطع جميلة جدا منها وصف المحادثات التي دارت بين هكتور وأمه هيكوبي، وكذلك بين هكتور وباريس، ثم بينه وبين زوجته أندروماخي.
الأنشودة السابعة
فيها يستفز هكتور أشجع شجعان اليونان ويدعى أجاكس
Ajax
فتنشأ بينهما معركة لا تنتهي إلى النتيجة، ولكن على أثرها يعقد الطرفان هدنة لدفن الموتى، ثم يأخذ اليونان في تحصين معسكرهم فيحصنونه بسور وخندق، ثم يأتي الليل مصطحبا معه حوادث جساما.
الأنشودة الثامنة
فيها يهزم الآخيون؛ ذلك أن زوس أكبر آلهة اليونان يحرض الآلهة جميعا على عدم التدخل بين الطرفين المتعاركين، ويدعوهم إلى التزام الحياد في هذا القتال. أو هو يعود إلى مكانه فوق جبل إيدا
Ida
ويصعد إليه ليرى من فوقه الجيشين المتحاربين. وكان القتال بينهما سجالا في بادئ الأمر، ثم انتهى بنتيجة إيجابية وهي انتصار جيش طروادة، فاضطر اليونان بعد هزيمتهم إلى التراجع نحو تحصيناتهم، كما حاول أجاممنون إلى أن يشد من أزر جنوده وتقوية روحهم المعنوية، بيد أن هكتور ظل منتصرا؛ ومن ثم حاولت الربة هيرا والربة أثينا التدخل في القتال فمنعهما زوس، ولما أقبل الليل فصل بين المتحاربين وعسكر الطرواديون في السهل.
الأنشودة التاسعة
يجمع أجاممنون الزعماء ويعقد مجلسا ليأخذ رأيهم، ثم يقترح عليهم الرحيل ومغادرة أرض طروادة، ولكن يعارضه في هذا الرأي كل من ديوميديس وأوديسيوس، ثم يقترح نسطور
Nestor
أن تبذل الجهود لعقد الصلح مع أخيل، فيقبل أجاممنون هذا الاقتراح ويعلن استعداده إلى رد بريسايس التي كان قد أخذها من أخيل على أن يعطيه بعض التعويضات لإرضائه. ويقرر المجلس إرسال سفراء إلى أخيل فأحسن مقابلتهم، ولكنه رفض الاشتراك في القتال في جانب الأغارقة.
الأنشودة العاشرة
تعتبر هذه الأنشودة عند معظم النقاد من الأناشيد المضافة إلى الإلياذة، وهناك بعض المؤرخين القدامى يأخذون بهذا الرأي أيضا.
يظهر الخوف بصورة واضحة من جانب زعماء اليونان ورؤسائهم في هذه الأنشودة؛ لذلك يعقدون مجلسا جديدا ويقترح البطلان ديوميديس وأوديسيوس في هذا المجلس أن يأخذا على عاتقهما مهمة الذهاب إلى معسكر جيش الطرواديين للتجسس على ما يقوم به ذلك الجيش من استعدادات حربية، ولكن هذين البطلين يقابلان رجلا من جيش طروادة اسمه دولون
Dolon
أرسله هكتور للتجسس على جيش اليونان ونقل أخباره إلى الطرواديين، فيخاف هذا الجاسوس على حياته عند مقابلته للبطلين اليونانيين؛ ومن ثم يكشف عن أسرار جيش طروادة أملا في النجاة بحياته من الخطر المحدق به، ومع ذلك يقتله ديوميديس ثم يعود البطلان إلى معسكر اليونان.
الأنشودة الحادية عشرة
وهي عبارة عن سرد لمخاطرات أجاممنون. وتدور كلها حول الفكرة الرئيسية المسيطرة على الإلياذة؛ لذلك فإن مكانها الحقيقي بعد الغناء الأول؛ لأن نقادا كثيرين يقولون بأن الأناشيد الواقعة ما بين الأنشودة الأولى والحادية عشرة كلها مضافة إلى الإلياذة. كما أن موضوع هذه الأنشودة متصل جد الاتصال بموضوع الأنشودة الأولى، ولكن لا يجب علينا أن نأخذ بهذه النظرية القائلة بأن الأناشيد السابقة مضافة إلى الإلياذة.
يحاول هوميروس في هذه الأنشودة أن يعطينا صورة واضحة عن الهزيمة التي مني بها الآخيون. ولهذا نراه يسرد الهزائم المتتابعة التي لحقت بالبطل اليوناني مينيلاوس، وكذلك أجاكس وديوميديس، كما يسرد لنا الهزيمة التي لحقت حاليا بالزعيم الأكبر أجاممنون.
وتدور المعركة من جديد بين الجيشين. وفي هذه المعركة يظهر أجاممنون كثيرا من الشجاعة حتى يضطر أهل طروادة إلى التراجع إلى تحصيناتهم، ولكن أجاممنون يجرح ويصبح غير قادر على مواصلة القتال؛ لذلك ينتصر أهل طروادة من جديد ويجرح أوديسيوس وديوميديس. وأخيرا يرسل الملك نسطور بتروكلوس
أعز أصدقاء أخيل إلى هذا الأخير ليوقفه على الهزائم التي نزلت باليونانيين، آملا من وراء ذلك أن تأخذه الشفقة باليونانيين، فيعطف عليهم ويعود إليهم ليناصرهم ويساعدهم في هذا القتال العنيف.
الأنشودة الثانية عشرة
وكلها عن الموقعة الحربية التي وقعت بجوار أسوار المدينة. يقترب الجيش الطروادي من تحصينات الجيش اليوناني، ويستعد لعبور الخندق، ولكنه يفشل في أول الأمر، ثم يتمكن أخيرا من فتح ثغرة في الأسوار، بالرغم من دفاع اليونانيين المستميت، وخصوصا دفاع البطلين أجاكس وأوديسيوس. وكان يقود الطرواديين ساربيدون
Sarpedon
وجلاوكوس
Glaucus
ثم يتمكن البطل العظيم هكتور من اختراق معكسر اليونانيين، ويتبعه الطرواديون حتى يصلوا إلى داخل معسكر الأغارقة نفسه.
الأنشودة الثالثة عشرة
كلها سرد للمعركة التي نشبت بجانب الأسطول، وفي هذه الأنشودة ينصرف الرب زوس انصرافا مؤقتا عن الحرب؛ لذلك ينتهز الرب بوسايدون هذه الفرصة، ويهبط من أعلى قمم جبال أوليمبوس لمساعدة اليونانيين في محنتهم هذه. وبعدئذ تدور معركة بحرية كان فيها الجناح الأيسر للأسطول اليوناني تحت قيادة إيدومينيوس
Idomeneus
والقلب بقيادة أجاكس. وتدور رحى موقعة بحرية عنيفة تسيل فيها دماء الطرفين. وأخيرا يتقهقر الجيش الطروادي قليلا، ولكن هكتور يجمع الرؤساء والزعماء ويستشيرهم في هذا الموقف العصيب، ويقرر بعد أخذ رأيهم مواصلة القتال ثم يتحدى أجاكس هكتور، وتبدأ المعركة من جديد أشد هولا مما كانت عليه.
الأنشودة الرابعة عشرة
تدور حوادثها الرئيسية حول الحب الذي بين كبير الآلهة وهيرا، ومن الجائز حذف هذا الغناء من الإلياذة دون أن يصيب وحدة الموضوع أدنى ضرر. وعلى كل حال فإن وجوده لا يضر مطلقا. في هذه الأنشودة أيضا يوافق اليونانيون على رأي ديوميديس القاضي بمتابعة القتال، ولكن هيرا تأخذ في تجميل نفسها؛ لأنها تريد أن تفتن كبير الآلهة فتستعير من أفروديتي ربة الجمال الزنار الذي تربط به خصرها وتستدعي إله النوم من جزيرة ليمنوس
Lemnos ، وتقترح عليه تنويم كبير الآلهة، فينام زوس ويغفل عن الحرب ، فينتهز بوسايدون هذه الفرصة ويساعد اليونانيين مساعدة جدية حتى ينقلب الموقف في صالحهم، ويتمكن أجاكس من جرح هكتور. أما الطرواديون فيتقهقرون ويدفعهم اليونانيون بعيدا عن الأسطول بقيادة البطل أجاكس.
الأنشودة الخامسة عشرة
فيها يستيقظ زوس من نومه، ويحتد على هيرا، ويرسل أيريس
Iris
وأبولو لمساعدة جيش طروادة؛ عندئذ يترك الإله بوسايدون ميدان القتال فيخلو الجو أمام أبولو ويتمكن من شفاء هكتور وبث روح الثقة بين الطرواديين، وإدخال الرعب والفزع في قلوب اليونان، وتشجيع جيش طروادة حتى يتمكن من الوصول إلى داخل المعسكر اليوناني، ثم يذهب بتروكلوس لمقابلة أخيل كي يرجوه أن يساعد إخوانه في الجنس واللغة والدين، ثم يدافع اليونانيون عن معسكرهم دفاع المستميت، وفي هذه الأثناء يستعد هكتور لإيقاد النيران في سفينة بروتيسيلاوس
.
الأنشودة السادسة عشرة
فيها يعطي أخيل بتروكلوس حلته الحربية لإدخال الرعب والفزع في قلب جيش طروادة بشرط ألا يستخدمها في المعركة، بل يكتفي بالظهور بها لبث الرعب والخوف، ولكن بتروكلوس ينسى وعده في أثناء المعمعة، ويقدم على مهاجمة الطرواديين هجوما بالغ العنف، فيتقهقر جيش طروادة على أثره، وينجح بتروكلوس في قتل ساربيدون، ثم يغريه هذا النجاح على التقدم في الهجوم آملا في أن يستولي على طروادة، ولكن أبولو ينتزع منه السلاح الذي كان قد أعطاه إياه أخيل، فيتمكن يوفوربوس
Euphorbus
من جرح بتروكلوس، ثم يتقدم هكتور ويجهز عليه تماما.
الأنشودة السابعة عشرة
يرغب يوفوربوس في الاستيلاء على أسلحة بتروكلوس، ولكن مينيلاوس يدافع عن جثة بتروكلوس ويستدعي أجاكس ليساعده في هذه المهمة. يتراجع هكتور في بادئ الأمر ثم يعود بعد ذلك، وتستمر المعركة سجالا بين الطرفين، ثم تفزع خيول أخيل، ولكن زوس يهدئ من روعها ويعود بها إلى ميدان القتال. وعندئذ يحاول هكتور ومعه إنيوس الاستيلاء على هذه الخيول، وتستمر الحرب في صالح جيش طروادة، ثم يضطر مينيلاوس إلى أن يبعث رسولا إلى أخيل ليبلغه نبأ موت صديقه بتروكلوس والهزيمة التي لحقت باليونانيين، ثم يتمكن مينيلاوس وميريونيس
Meriones
من حمل الجثة، ويتراجعان في حماية البطل أجاكس.
الأنشودة الثامنة عشرة
ييأس أخيل عندما يعلم بخبر موت بتروكلوس، ولكن أمه ثيتيس
Thetis
تعزيه في مصابه وتعده أن تحضر له أسلحة جديدة تعوضه بها عن الأسلحة التي سبق أن أعطاها لبتروكلوس، كما تعده بأنها ستساعده على خصمه العنيد هكتور على أن يتم ذلك بعد يوم، ثم تذهب إلى جبل أوليمبوس وترجو هيفايستوس أن يصنع لها هذه الأسلحة، ثم يخرج أخيل من خيمته وهو يصيح عاليا ومنظره غاية في الرعب حتى خاف أهل طروادة على أنفسهم فولوا الأدبار، ثم يقضي اليونانيون تلك الليلة في معسكرهم باكين نائحين حول جثة بتروكلوس. ويلي ذلك وصف الشاعر لدرع أخيل التي بلغت درجة عظيمة جدا من الإتقان الفني، ثم تنتهي هذه الأنشودة بوصول ثيتيس من جبل أوليمبوس ومعها الأسلحة التي وعدت بها ابنها أخيل.
الأنشودة التاسعة عشرة
تدول حول صلح أخيل مع اليونانيين، فيعقدون مجلس الشعب وهو عبارة عن جميع رجال الجيش في ذلك الوقت، ثم يقف أمامه أخيل ويعلن على أسماع جميع أعضاء هذا المجلس نياته الطيبة وحسن استعداده لخدمة إخوانه الآخيين، ثم يخلفه في دور الخطابة أجاممنون الزعيم الأكبر، ويعترف الأخير علانية بالأخطاء والذنوب التي سبق أن ارتكبها في بادئ هذه الحملة، ثم يتقدم نحو أخيل ويربت على كتفيه، ويعرض عليه هدايا ثمينة جدا، ولكن أخيل يرفضها رفضا باتا في إباء وشمم. وعندئذ يتقدم إليه أوديسيوس ويلح عليه بشدة في أن يقبلها، فيضطر أخيل إلى أن يقبلها، ثم نرى بريسايس تعود إلى سفينة أخيل باكية، ويشاركها في هذا البكاء صديقها أخيل، وكلاهما يبكي على هذا المصاب الفادح بفقدهما العزيز بتروكلوس، ثم تعلن إلى أخيل نبوءة بأنه سيموت قريبا غير أنه لا يهتم بهذه النبوءة؛ لأنه كان قد صمم على الانتقام لصديقه بتروكلوس ويريد إشباع نهم هذه الرغبة وهي تحتم عليه أن يقتل أشد خصومه البطل هكتور، مع علمه بأنه سيموت يقينيا في القريب العاجل.
الأنشودة العشرون
وفيها يسمح زوس للآلهة بالاشتراك في هذه الحرب فتنقسم الآلهة قسمين؛ فريق مع اليونانيين وفريق مع الطرواديين. كان مع الآخيين هيرا وأثينا وهيرميس، وكان مع الطرواديين أريس وأرتيميس
Artemes
وأبولو وأفروديتي.
يتقدم أبولو بالنصيحة إلى أهل طروادة ويشجع إنيوس على مبارزة أخيل، كما أنه ينصح هكتور بعدم مبارزة أخيل أو مقاتلته، فيركن هكتور إلى نوع ما من الهدوء، ولكن أخيل يقتل أصغر إخوته واسمه بولودوروس
أصغر أبناء بريام ملك طروادة، فيتحمس هكتور من جديد ويريد أن يثأر لأخيه، وبينما هو يستعد يسرع إليه أبولو أملا في إنقاذه من الخطر الذي يكاد يتعرض له هكتور، ثم يمعن أخيل في قتل عدد كبير جدا من جيش طروادة.
الأنشودة الحادية والعشرون
تتجلى فيها هزيمة الطرواديين، وتأخذ الربة أثينا في تشجيع البطل أخيل غير أن الخطر يحدق به، فتتقدم هيرا وترسل هيفايستوس لإنقاذه من براثن الموت، ثم تأخذ الآلهة في محاربة بعضها البعض الآخر، وبعد ذلك تعود جميعها إلى جبل أوليمبوس، وتترك أبولو وحده، فيتمكن الأخير بمكره وخداعه من مساعدة أهل طروادة وإنقاذهم من الخطر الذي أشرفوا عليه. والظاهر أن هذه الأنشودة قد أضيفت إلى الإلياذة؛ ومن ثم فمن المستطاع حذفها دون أن يؤدي ذلك إلى الإخلال بوحدة الإلياذة أو توازنها أو إنقاص أي شيء مهم عن الشخصيات البارزة المختلفة.
الأنشودة الثانية والعشرون
وهي عن موت البطل هكتور. فيها يعود أخيل ويقترب من أسوار مدينة طروادة، ويتقابل مع البطل هكتور الذي يعتمل في دخيلة نفسه حب منافسة البطل أخيل، ثم يقترب أخيل من هكتور ويظل يقترب رويدا رويدا، إلا أن منظر أخيل كان غاية في الهول والرعب، فيخاف هكتور على نفسه عندما يرى غريمه ويهرب مسرعا، ولكن أخيل يعود وراءه، ويستمر الاثنان في هذا العدو حول أسوار المدينة ثلاث مرات. وأخيرا يزن الإله زوس مصير البطل هكتور في كفة من كفتي الميزان ومصير أخيل في الكفة الأخرى ويوازن بين الكفتين. وأخيرا يصمم زوس على التخلي عن هكتور، ويلقي به إلى الربة أثينا؛ لذلك يفلح أخيل بعد تخلي زوس عن هكتور من قتل هذا الأخير، ونزع الملابس التي كان يرتديها ، ويبدأ في جر الجثة حتى يصل بها إلى الأسطول. أما أهل طروادة وخصوصا أسرة هكتور وهم أبوه بريام وأمه هيكوبا وزوجته أندروماخي فإنهم يبكون عليه بكاء مرا.
الأنشودة الثالثة والعشرون
فيها يحتفل الآخيون بجنازة بتروكلوس، فيشعلون النيران، ويضعون فوقها جثة بتروكلوس، ثم يذبحون الذبائح ويقدمونها للآلهة. وفي هذه الساعة المحزنة الرهيبة يتقدم أخيل ويودع جثة صديقه العزيز الوداع الأخير، وينتظر برهة حتى تنطفئ النار، فيستخرج منها بعد ذلك البقية الباقية لصديقه العزيز، ثم يقيم الشعب الذي ينتمي إليه بتروكلوس وهم جماعة المورميدون
Myrmidones
مقبرة لبتروكلوس مكان النيران المشتعلة، وبعد ذلك تقام المباريات الرياضية وتعين الجوائز الكثيرة للفائزين في هذه الألعاب؛ كسباق العربات، والملاكمة، والمصارعة، والعدو على الأقدام، والنزال بين الجنود المسلحين وبين رماة السهام والأقواس والأقراص.
الأنشودة الرابعة والعشرون
يخيم اليأس على أخيل من فرط حزنه على فقد صديقه العزيز الذي كان يحبه حبا جما؛ لذلك كان يريد أن يشبع غريزة الانتقام المتولدة فيه، فلا يكتفي بقتل هكتور بل يريد أن يمثل بجثته تمثيلا شنيعا؛ لذلك نراه يجر جثة هكتور ويطوف بها مرارا حول مقبرة بتروكلوس، ولكن كبير الآلهة زوس يتدخل من جديد في صالح أهل طروادة، ويأمر أخيل بإعادة جثة هكتور إلى أهله وأبناء عشيرته وإرجاعها إلى أبيه بريام، ثم يبعث الرسل إلى بريام ليبلغه الخبر ويطلب الرسل منه أن يذهب لشراء ما بقي من جثة ابنه، فيذهب بريام متنكرا إلى أخيل دون أن يعلم أهله وعشيرته شيئا عن هذا السعي؛ إذ يذهب بريام بإرشاد هيرميس فيتقابل مع أخيل الذي يوافق أخيرا على أن يسلم الأب جثة ابنه هكتور ويعود بها إلى طروادة. يلي هذا ذلك المنظر المحزن الذي تبكي فيه أسرة هكتور عليه بكاء مرا، فإذا بالنساء وزوجته المخلصة وأمه هيلينا يبكينه بكاء يفتت الأكباد، ثم وصف جنازة هكتور والاحتفال بدفنه احتفالا رهيبا جدا.
إلى هنا تنتهي الإلياذة وينتهي تحليل الإلياذة؛ ولذلك يحسن أن نقف قليلا لنسترجع ما علق بأذهاننا من قراءة الإلياذة.
جلي أن الإلياذة تغلب عليها الوحدة ، وأنها كتبت حسب خطة موضوعة سبق للشاعر أن درسها وفكر فيها تفكيرا عميقا جدا، ولكن هذا لا يمنع من القول بأن هناك بعض الأغاني يشعر المرء حين قراءتها بأنها أضيفت إلى الإلياذة؛ مثل القائمة التي سردت أسماء السفن المحاربة، ومثل الغناء الذي وصف فيه الشاعر نزاع الآلهة، بحيث يمكننا أن نتصور هذه القصائد كأنها أدراج الصوان إذا أخرج درج فهذا لا يؤثر عليه في قليل أو كثير؛ ذلك أن فكرة الإلياذة نبتت حين جال بخاطر الشاعر أن يجمع كل هذه القصص حول فكرة أساسية هي غضب البطل أخيل، ولكن من ذا الذي جال بخاطره هذه الفكرة؟ هل هو شاعر كتب في هذا الموضوع قصيدة طويلة، ثم أضيفت إليها قصص أخرى فيما بعد عن أحداث جديدة أم هو رجل من الأجيال المتأخرة بعد جيل الإلياذة، له موهبة التنظيم والترتيب عمل على أن يجمع قصائد منفصلة حول فكرة واحدة؟ أم هو شاعر استعار هذه الحوادث من خرافات قديمة أخرى؟ هذه كلها فروض تجول بخاطر الناقد، ولكن لا يجد لها جوابا شافيا. •••
يجدر بنا الآن الاتجاه إلى الأوديسة لنأخذ فكرة عنها:
عندما نبدأ في قراءة الأوديسة في أولى أشعارها يتبادر إلى ذهننا أن هذه الأشعار والقصائد لا تختلف كثيرا عن أشعار الإلياذة من حيث الأسلوب والفن الشعري؛ فكلها من مرتبة شعرية واحدة، الفن الشعري فيها واحد، وكذا الأسلوب واحد؛ أي إن كل ما يتصل بالشعر في الأوديسة لا يختلف في أصله عن شعر الإلياذة، ولا أدل على ذلك من أن القصيدة في الأوديسة تبتدئ بالتوسل إلى ربة الشعر كالإلياذة تماما، ولكن بالرغم من هذه الوحدة الفنية الأدبية تلاحظ بعد مواصلة القراءة في الأوديسة أننا نجد أنفسنا في عالم جديد يختلف كل الاختلاف عن عالم الإلياذة، وذلك لأن موضوع الأوديسة يختلف تمام الاختلاف عن موضوع الإلياذة.
كانت فكرة الإلياذة الأساسية هي غضب البطل أخيل وخلافه مع كبير ملوك اليونان أجاممنون. أما الأوديسة فتدور فكرتها حول عودة البطل أوديسيوس من حرب طروادة، فهي تسرد مخاطراته التي قابلته أثناء رحلته في عودته إلى بلاده، فالأوديسة عبارة عن قصيدة طويلة أنشدت حول البحر، وما أعظم القصائد التي أنشدت عن البحر! ولربما كانت أهم فضائل العالم الفرنسي فكتور إبرازه لنا هذه الفكرة وتوضيحه إياها وكشفه عنها. وحقيقة الأمر أن فكتور لم يكشفها لأن أي قارئ عادي مجرد من الثقافة الكلاسيكية يستطيع أن يلاحظ منذ البداية أن القصة تدور كلها حول البحر، ولكن فكتور بيرار ترجم الأوديسة ترجمة شائقة وعلق عليها تعليقات مهمة واضحة كل الوضوح. وكل ذلك بأسلوب فني رائع جعلنا نشعر معه بأن البحر هو الموضوع الأساسي الذي دارت حوله الأوديسة، والبحر المقصود هنا هو البحر الأبيض المتوسط؛ إذ لا يمكن فصل البحر الأبيض المتوسط عن الأوديسة ولا فصل الأوديسة عنه، كما فعل بعض العلماء والنقاد الذين ذهب بعضهم إلى القول بأن المقصود بالبحر هنا هو الخليج الفارسي، وبعضهم الآخر بأنه البحر الأسود. وهذا كله غير صحيح لأننا نشتم رائحة البحر الأبيض في ثنايا هذه الأشعار من أولها إلى آخرها ولا نستنشق غير عبيره منذ بداية الأوديسة؛ لذلك حاول بعض العلماء البحث عن الأماكن والبلاد التي تكلمت عنها الأوديسة وتحقيق مواضعها في الوقت الحاضر. وقد سار النقاد في هذا السبيل أثر فكتور بيرار الذي طاف حول البحر الأبيض المتوسط وأخذ يجوب أطرافه المختلفة باحثا ومنقبا عن الطريق الذي سلكه البطل أوديسيوس في قديم الزمان. ولقد تهكم عليه الناس وسخروا منه كل السخرية، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا كل الخطأ؛ إذ من الجائز أن يكون فكتور قد بالغ في تحقيقاته الجغرافية؛ فهناك من المؤرخين الألمان مثل شميدت الذي يقول بأن جغرافية الأوديسة ترتكز في كثير من الأحيان على جزء عظيم من الخرافات والأباطيل والخيالات والأوهام. ومن الجائز أن يكون في قولهم هذا شيء من الصحة؛ لأننا نرى فكتور بيرار يخطئ عندما يقول إن بلاد الكوكلوبيس (أي أصحاب العيون المستديرة) هي البلاد الواقعة عند خليج نابولي، وإن بلاد اللايستروجونيين توجد في جزيرة سردينيا أو على ساحل شبه جزيرة سيبيريا ، ولكن فكتور بيرار لم يخطئ دائما إذ نجد في كلامه وتحقيقاته الجغرافية كثيرا من الصحة؛ إذ ليس هناك شك في أن الشاعر كان يتكلم عن علم ودراية، وفي أن خيال الشاعر هوميروس كان يدور حول بلاد حقيقية ومراكز تاريخية صحيحة. وليس هناك شك في أن الكثير من معلوماته الجغرافية كانت دقيقة كل الدقة بحيث تدعو إلى الإعجاب. وهذا لا يناقض القول القائل بأن في شعره كثيرا من الخرافات التي لا تقوم على أساس صحيح. وليست هذه المناظر وحدها أو الوصف البديع لهذه المناظر الطبيعية هي التي تجعل الأوديسة تختلف كل الاختلاف عن الإلياذة في الموضوع. وليست أيضا هذه المناظر فحسب هي التي تجعلنا نقول بأن البحر الأبيض المتوسط هو المقصود في الأوديسة. أما الخرافات الشعبية
folk-lore
الموجودة في الأوديسة فإنما هي خرافات لشعوب بحرية تسكن حول البحر الأبيض المتوسط. والأوديسة مملوءة بهذه الخرافات، كخرافة الكوكلوبيس وكالوبسو وكيركي وسكولا. كل هذه تنتمي إلى خرافات شعبية أقدم بكثير من حرب طروادة؛ إذ تجد لها آثارا فيما تبقى من آثار الحضارة المينوية.
وتختلف الأوديسة عن الإلياذة في العادات التي توصف فيها؛ ذلك أن الآراء قد تهذبت وأصبحت تتعلق بالجنس البشري بحيث لم نعد نرى أبطالا يتصفون بالقوة والوحشية وحب إراقة الدماء. نرى هذه التغيرات في أفكار الناس عن الآلهة؛ فالآلهة في الأوديسة تعتبر كالبشر لها عواطف ونوازع، كما أن الناس ابتدءوا ينظرون إليهم كحماة يدافعون عن هذه القوانين السائدة في المجتمع، كما يدل على هذا الكثير من الفقرات المتعلقة بهذا الموضوع.
الأوديسة
من تحليل الأوديسة نجد أنها تتشابه مع الإلياذة في الوحدة إذا استثنينا آخر الأنشودة الثالة والعشرين والأنشودة الرابعة والعشرين كلها. غير أن هذا لا يمنعنا من أن نقول إن هناك قطعا كبيرة قد أضيفت إلى الأوديسة؛ لأنها في الواقع تختلف عن باقي الأوديسة. وهذه نقطة الاختلاف؛ ذلك أن القطع المضافة إلى الأوديسة أكثر منها في الإلياذة، ومن الثابت أنها أضيفت إلى الأوديسة في زمن متأخر، وبتأليف من بعض الشعراء المتوسطين الذين لا يملكون موهبة الشاعر الأصلي. وهكذا اختلط الأدب المتوسط بالأدب الرفيع الذي بالأوديسة في عدة مواضع مختلفة.
تبدأ الأوديسة بأربعة أناشيد تعود النقاد تسميتها بالأناشيد التيليماخية؛ لأن البطل الذي يرد اسمه في معظمها هو تيليماخوس بن أوديسيوس. وهذا موضوع أساسي في القصة لا يمكن للشاعر أن يغفله أو يهمله؛ لأن موضوع القصة مكون من فكرتين مرتبطتين سويا هما فكرة عودة أوديسيوس إلى وطنه وتعرف أفراد أسرته عليه، والثانية هي فكرة الانتقام من مختلف الأمراء الذين حالوا في أثناء غيابه أن يفصلوا زوجته بينيلوبي عنه؛ إذ إن كلا من هؤلاء الأمراء قد حاول الزواج من بينيلوبي، بينما كانت الأخيرة تخدع كل واحد منهم. وقد نجحت في هذا إلى حد كبير؛ لأنها كانت لا تزال على إخلاصها الشديد لزوجها الذي غاب عنها سنين طويلة، ولأنه كان هناك في فؤادها شيء يقول لها إن زوجها لا شك عائد إليها بعد غيابه الطويل عنها. وهذا لون من القصص المعروف باسم عودة الأبطال. والأوديسة تسرد لنا الخطوات التي خطاها البطل أوديسيوس في طريق عودته إلى بلاده؛ ومن ثم فإنها ترتبط ارتباطا وثيقا بسلسلة الشعر القصصي أو القصص الشعري الذي يدور حول طروادة؛ ذلك لأن هناك سلاسل أخرى من أهمها سلسلة القصص الذي يدور حول مدينة طيبة عاصمة مقاطعة بيوشيا
Beotia
بجوار مقاطعة أتيكا. وهذا القصص يدور حول أسرة حكمت في طيبة تسمى «اللبداكيون»
Les Labdacedes . ولقد تناول الشعراء الدراماتيكيون الأثينيون حكام هذه الأسرة بالنقد والتحليل في مختلف المسرحيات التي ألفوها، ومن أهمهم الملك أوديبوس
Oedipus
وذلك في القرن الخامس ق.م.، قبل عصر بركليس
وإبان عصره وبعد عصره بقليل.
إن وجود شخصية تيليماخوس في الأوديسة ضروري جدا؛ لأن في الأوديسة أفكارا رئيسية ثلاثا هي:
أولا:
عودة أوديسيوس.
ثانيا:
تعرف أفراد أسرته عليه.
ثالثا:
انتقام أوديسيوس من الأمراء الذين تجرءوا على الاقتراب من زوجته إبان غيابه.
ولقد حاول الشاعر أن يربط بين هذه الأفكار الرئيسية ربطا مكينا حتى خرجت الأوديسة محكمة إحكاما رائعا لا يمكن لشاعر آخر أن يجاريه في هذا المضمار.
يمكن تلخيص هذه الأفكار الثلاث مرة أخرى هكذا:
الفكرة الأولى:
بحث تيليماخوس عن أبيه ورحلته إلى بلاد مختلفة لهذا الغرض.
الفكرة الثانية:
مخاطرات أوديسيوس في أثناء رحلته في طريقه إلى بلاده عائدا بعد انتهاء حرب طروادة، ثم عودته إلى وطنه وتعرف أفراد أسرته عليه.
الفكرة الثالثة:
هي انتقام هذا البطل من أعدائه الذين نهبوا منزله، وأراد كل واحد منهم أن يتزوج من زوجته في أثناء غيابه.
تحليل الأوديسة
الأنشودة الأولى
حول مجلس الآلهة، فيها يجتمع الآلهة ويعقدون مجلسا فيما بينهم يقررون فيه ضرورة عودة أوديسيوس إلى أهل عشيرته. وكان أوديسيوس في ذلك الوقت عند كالوبسو ربة البحر محجوزا في جزيرتها ترغمه على عدم مبارحة البلاد؛ لأنها كلفت به وأحبته حبا جما؛ وبناء على هذا القرار ترسل الآلهة الربة أثينا إلى تيليماخوس غير أنها تخاف لو ذهبت كما هي أن يتعرف عليها تيليماخوس؛ ومن ثم تتنكر وتذهب في صورة مينتيس
Mentes
حاكم جزيرة تافوس وتقابله في الجزيرة التي كان أبوه ملكا عليها وهي إيثاكا، وتتحدث معه حديثا وديا للغاية يظهر خلاله تيليماخوس ما اتصف به من أدب جم ولطف كثير. كانت هذه المحادثة تصطبغ بحسن الأدب والذوق والتربية العالية من الطرفين.
استقبل تليماخوس الربة أثينا استقبالا وديا. وأشارت عليه بأن يذهب للبحث عن أبيه، ووضع حد لعبث هؤلاء الأمراء والزعماء الذين أسرفوا في النهب والسلب والذين تمادوا في جسارتهم حتى تقدموا بطلب يد أمه بينيلوبي، وبعدئذ تطير أثينا كأحد طيور البحر وتختفي.
يستريح تيليماخوس لهذه النصيحة ويتشجع ويذهب إلى مجلس الأمراء وكانوا يمدون أمامهم سماطا عظيما عليه كل ما لذ وطاب من مأكل ومشرب ويتمتعون بغناء شاعر منشد اسمه فيميوس
؛ عندئذ يوجه إليهم تيليماخوس كلاما شديدا بلهجة الآمر الناهي صاحب السلطة والسيادة في الجزيرة والقصر؛ لأنه ابن البطل أوديسيوس، فيتهجم عليه شخص اسمه أنتينوس
Antinous ، ويتعرض له وينكر عليه الحق في أن يكون ملكا على جزيرة إيثاكا، كما ينكر عليه أية مقدرة في الاضطلاع بمهام الملك؛ لأنه طفل صغير، ولكن تيليماخوس لا يهتم بهذا الكلام الذي كله قحة وخروج عن الأدب والذوق السليم، ثم ينذرهم إنذارا فيه سلطة شخص يريد أن يظهر شخصيته، ومضمون هذا الإنذار ذلك أنه سيواجههم في اليوم التالي، وسيطلب منهم مطلبا عادلا في نظره وذلك أمام المجلس الذي سيعقده الشعب، سيطلب منهم مغادرة قصر أبيه.
إن ذكرى أوديسيوس تملأ هذه الأنشودة من أولها إلى آخرها.
إن الشاعر هنا يتحدث عن أوديسيوس وذكراه ورحلاته، ولكنه لا يذكر اسمه. إن تركيب هذا الغناء بسيط، عبارة عن مجموعة من الصور الفنية الرائعة التي قدم الشاعر لنا عنها وصفا جميلا للغاية. ولقد أخذت هذه الصور في قصر من قصور أحد الملوك الميسينيين الذي قد خيم عليه الحزن بسبب غياب الملك عنه.
الأنشودة الثانية
عن مجلس الشعب في جزيرة إيثاكا؛ حيث يجتمع فيتقدم إليه تيليماخوس بشكوى ضد هؤلاء الذين يطالبون بالزواج من أمه، فيجيبه أنتينوس إجابة فيها شيء كبير من الإهانة، ثم يسرد على الحاضرين قصة بينيلوبي وقصة الثوب الذي تحيكه، وفي ذلك الوقت تدور حول المجلس نسور ظهرت فجأة. وإذ كان بالمجلس عراف فقد فسر هذه الأعجوبة بقوله بأنها تنم عن فأل حسن، وذلك أن أوديسيوس سيعود إلى وطنه قريبا، ثم ينفض المجلس دون الوصول إلى نتيجة معينة، ويخرج تيليماخوس من المجلس متجها صوب ساحر البحر، وهو يبكي بكاء مرا؛ لأن هؤلاء الأمراء قد أهانوه وأذلوه دون أن يمكنه الرد عليهم أو يصدهم كما يجب. وبينما هو حزين بهذا الشكل تنزل إليه الربة أثينا من عليائها، وتتنكر هذه المرة في زي مينتور
Mentor
صديق أوديسيوس الحميم. وكان تيليماخوس يعرف عنه أنه من خير أصدقاء أبيه الأوفياء، ومرشد من خير المرشدين، فتحاول أثينا في هذه المرة أن تعزيه في حزنه وتعده وعدا أكيدا بأنها ستصحبه إلى مدينة بولوس
كما تعده أيضا بأنها ستعيده إلى إسبرطة. ويعد تيليماخوس كل ما سيحتاج إليه من طعام ومؤن لهذه الرحلة الطويلة المضنية دون أن يطلع أمه على شيء من هذا. وما إن يتم إعداد السفينة بالقرب من الشاطئ حتى يعتليها تيليماخوس، وأقبلت الربة أثينا في زي مينتور تساعده في كل هذا.
الأنشودة الثالثة
لقد نظمت هذه الأنشودة لتمجيد ذكرى أسرة حكمت في مدينة بآسيا الصغرى هي أسرة نيلياديس
Neleiades ؛ لذلك تغلب على هذه الأنشودة الصبغة الخاصة بهذه المدينة. يصل تيليماخوس إلى جزيرة بولوس فيستقبله ملكها نسطور استقبالا حسنا.
ولنسطور هذا ابن يسمى بيزستراتوس
على اسم طاغية أثينا في القرن السادس. ويرى بعض النقاد في ذكر هذا تحريفا مقصودا، كما يقولون إن هذه الأنشودة قد أضيفت إلى الأوديسة للتودد إلى بيزستراتوس الذي كان مشهورا في القرن السادس.
في هذه الأنشودة يولم نسطور مأدبة لضيوفه. وبعد ذلك يسأل تيليماخوس نسطور عما حدث له في أثناء عودته، فيحكي له أخبارا أخرى كثيرة، ويصور له كيف ساءت العلاقة أخيرا بين أجاممنون ومينيلاوس كما يخبره بموت أجاممنون. وهنا يشير نسطور إلى ابن أجاممنون المسمى أوريستيس
Orestes
ويمدحه مدحا عظيما جدا لأنه انتقم لأبيه، ثم يسرد على تيليماخوس رحلات مينيلاوس ومنها رحلته إلى مصر، وهو بذلك يشير على تيليماخوس بالذهاب إلى إسبرطة حيث يمكنه مقابلة مينيلاوس هذا وسؤاله عن أبيه، ثم يقضي تيليماخوس الليلة في القصر وعند الصباح يرحل إلى إسبرطة وفي صحبته بيزستراتوس.
الأنشودة الرابعة
يذهب تيليماخوس إلى إسبرطة وهناك يجد مينيلاوس وقد أقام مأدبة هائلة لزواج أبنائه. كانت المأدبة غاية في الفخامة وكذا القصر؛ لذلك ينصرف تيليماخوس عن المأدبة ليشبع إعجابه بالتطلع إلى القصر ويشاركه الشاعر إعجابه هذا؛ ومن ثم ترد أبيات كثيرة في وصف القصر الذي كان يملكه أحد ملوك ذلك الوقت، ثم يشترك الضيفان في المأدبة ويبدآن في تناول الطعام. وبعد أن يأكلا ملء بطنيهما يبدأ تيليماخوس بسؤال مينيلاوس عن أبيه، فيرد عليه مينيلاوس ردا غامضا يذكر فيه اسم أوديسيوس عرضا، فيبكي تيليماخوس بكاء مرا ظنا منه أن أباه قد مات، وعندئذ تدخل هيلينا زوجة مينيلاوس فتحزن لحزن تيليماخوس، وتود لو تسري عن هذا الطفل الذي يبكي على أبيه فكيف السبيل إلى ذلك؟ تصنع هيلينا الكأس التي كان يشرب منها تيليماخوس مخدرا كانت قد أحضرته معها من مصر من سيدة مصرية اسمها بولودامي. وكان الغرض من هذا المخدر هو أن ينسي تيليماخوس الحزن الذي يكتنف حياته، ثم تأخذ في تلاوة مغامرات أوديسيوس وتقص عليه الشجاعة الفائقة والجسارة الممتازة التي أظهرها هذا البطل عندما أرسل في مهمة استكشافية في حرب طروادة للتجسس على الأعداء، ثم يحكي مينيلاوس بدوره قصة حصار طروادة، ويصف ليتليماخوس كل ما يعرفه عن مقدرة أبيه الحربية وقدرته على تحمل النكبات والمصائب. وفي اليوم التالي يخبره بنبوءة تنبأ بها عجوز البحر برويتوس
بالقرب من جزيرة فاروس
pharus
عند الإسكندرية؛ إذ تنبأ بأن أوديسيوس موجود عند كالوبسو التي أحبته ومنعته من مبارحة المدينة.
وفي هذه الأنشودة أيضا يعرف الأمراء في أتيكا خبر رحيل تيليماخوس للبحث عن أبيه، فتثور ثائرتهم ويفكرون في مؤامرة لقتل تيليماخوس يتزعمهم في ذلك أنتينوس فيبحث عن سفينة لكي يذهب إلى مكمن يختبئ فيه في البحر حيث ينتظر عودة تيليماخوس لينقض عليه ويقتله، ثم يصل نبأ هذه المؤامرة إلى بينيلوبي فتجزع ويتعذر عليها النوم الهانئ، فتأتيها الربة أثينا في المنام وتواسيها كي تتحمل وتصبر.
هذه هي الأناشيد الأربعة الأولى الخاصة بتيليماخوس، والتي أطلق عليها الأناشيد التيليماخية.
ينقلنا الشاعر بعد ذلك إلى الجزيرة التي تعيش فيها كالوبسو. وهنا تبدأ الأنشودة الخامسة.
الأنشودة الخامسة
يعتقد البعض أنها أضيفت لتذكير القارئ بالأنشودة الأولى، ويقول هذا البعض بأن الأناشيد الأربعة التيليماخية أضيفت فيما بعد للأوديسة حيث إن أوائل القرن الخامس ق.م. يجعل هذا الغرض محتملا جدا.
في هذه الأناشيد يأمر زوس، كبير الآلهة، هيرميس بالذهاب إلى كالوبسو ليطلعها على رغبته في أن يعود أوديسيوس إلى وطنه. ولقد كشف زوس لهيرميس عن وجود أوديسيوس هناك عند كالوبسو، وأنه لا يزال أمامه عشرون يوما يقاسي فيها الشيء الكثير قبل أن يصل إلى شعب الفياكيين
في ألبانيا، فتستقبل كالوبسو هيرميس في احتفال عظيم، ثم يبلغها الأخير رسالة كبير الآلهة، ويرجوها أن تطلق سراح أوديسيوس، فتغضب كالوبسو وتثور ضد ظلم الآلهة الذين يريدون أن ينتزعوا من بين أحضانها أوديسيوس حبيبها، وتدعي بأن الآلهة تحقد عليها. غير أنها بالرغم من هذه الثورة تخضع لأمر كبير الآلهة، وتذهب بعد ذلك إلى شاطئ البحر حيث يوجد أوديسيوس وتخبره بأنها لم تعد تعارض في رحيله. وهنا تحدثه كالوبسو حديثا كله رقة ودعة، حديث الحبيبة إلى حبيبها؛ ولذلك يجدر أن نلاحظ ما يتصف به سيدات البحر من أدب جم، ومن هؤلاء السيدات كالوبسو وكيركي، ثم تعود كالوبسو إلى كهفها ومعها أوديسيوس، وهناك يتبادلان من جديد عواطف الحب. وهنا يهتم الشاعر بوصف هذا المنظر فيرينا كيف يتبادلان القبلات، ثم كيف يحتضن كل منهما الآخر. بعد ذلك يبرح أوديسيوس الجزيرة فوق رمث أعده لهذا الغرض. بيد أن بوسايدون - عدوه - يثير عاصفة شديدة تهدد أوديسيوس بالغرق فتنقذه الآلهة من الغرق، ويصل بعد هذا إلى البر بعد جهود عنيفة ثم يلجأ إلى مخبأ قريب.
الأنشودة السادسة
حول جزيرة الفياكيين وهم شعب بحارة وأغلبهم ملاحون، وكان ملكهم يسمى ألكينوس، وكانت له ابنة اسمها ناوسيكا حضرت إليها الربة أثينا في صورة ابنة تاجر أسلحة يسمى دوماس
Dumas
وأوحت إليها في نومها بأن تذهب لتغسل ملابسها عند شاطئ النهر استعدادا للاحتفال بزواجها القريب. وفي الصباح تستيقظ الفتاة وتذهب إلى النهر وهناك تجد البنات مجتمعات يغسلن ملابسهن فتشرف ناوسيكا عليهن. وبينما هن كذلك إذ ترمي الربة أثينا بحجر في النهر فتصيح البنات، ويكون هذا داعيا لإيقاظ أوديسيوس من نومه، وكان نائما بين الأعشاب بالقرب من النهر، فلما يرى هؤلاء الفتيات يتردد أولا ولا يعرف ما هو مقدم عليه، فيخرج من وسط الأعشاب وينزع عنه ملابسه وينزل إلى النهر ليستحم، فتراه البنات بهذه الصورة فيستولي عليهن الحياء، ثم ينتهي هذا المنظر الذي كله روعة وجمال، ويتبعه منظر آخر فيه يتقدم أوديسيوس إلى البنت ناوسيكا متضرعا متوسلا لتستمع إليه وترأف بحاله وتعطف عليه عطفا كبيرا، وتقول إنها اشتمت فيه رائحة الملوك. وتشير عليه بما يجب عمله فيتبعها مترجلا حتى أبواب المدينة. وهناك ينتظر حتى تعود إليه، وعندئذ يدخل أوديسيوس المدينة ويسأل عن الطريق، وتأمر ناوسيكا خادماتها بمعاملته معاملة الضيف ، ثم يعرج أوديسيوس إلى معبد الربة أثينا ويقوم بفروض العبادة لها.
الأنشودة السابعة
تتقدم الربة أثينا من أوديسيوس متنكرة في زي إحدى بنات شعب الفياكيين، وتأخذ بيد أوديسيوس وتقوده إلى قصر الملك الحاكم على الجزيرة، ويطلب إليه أن يستضيفه فيجيبه إلى طلبه. وبعد ذلك يقص أوديسيوس على مسامع الملك مخاطراته إبان رحلاته، فيعده ألكينوس بالعمل على عوده إلى وطنه.
الأنشودة الثامنة
يجتمع مجلس الشعب ويعرض الملك ألكينوس عليه موضوع أوديسيوس، ويوافق المجلس على عودته إلى جزيرة إيثاكا، ثم تقام مأدبة عند الملك ألكينوس يغني فيها الشاعر ديمودوكوس قصة النزاع الذي وقع بين أوديسيوس وأخيل، فلما سمع أوديسيوس هذا الغناء راح يبكي، فلاحظه ألكينوس ولكنه لم يقل شيئا، ثم يأمر الناس بالانتقال إلى سوق المدينة لإقامة الألعاب والمباريات والمسابقات الرياضية المختلفة. وهنا يسأل الملك أوديسيوس عن نوع المباريات التي يميل إليها، وعندئذ يتقدم شخص ويتهكم على أوديسيوس ويسخر منه ويقول إنه يشك في قدرة أوديسيوس على القيام بأية لعبة. غير أن أوديسيوس يجيب في سكون أنه يفضل لعبة القرص، ويتقدم إلى الميدان ويحرز قصب السبق. يتلو ذلك الرقص، وبعد هذا ينشد ديمودوكوس قصة الحب بين أريس وأفروديتي. ويتبع هذا تقديم الهدايا لأوديسيوس بمناسبة رحيله، وتتقدم ناوسيكا إليه بهداياها العظيمة.
هذه الأنشودة مفككة وضعيفة ينتقل فيها المرء من قصة إلى قصة؛ ولذا فمن المحتمل جدا أنها أضيفت إلى الأوديسة.
الأنشودة التاسعة
فيما تمد مأدبة يحدث فيها ما حدث في المأدبة السابقة. وفي هذه الأنشودة يرمي أوديسيوس قطعة من اللحم إلى الشاعر المغني ديمودوكوس، ويطلب منه أن يغني قصة حصار طروادة فيجيبه المنشد إلى مطلبه، وعندما يسمع أوديسيوس الغناء يأخذ في البكاء، ثم يسرد بعد ذلك قصة مخاطراته، قصة رحيله من طروادة أولا، ثم وصولا إلى جماعة الكوكونيس؛ حيث دارت بينه وبينهم رحى معركة فقد فيها أوديسيوس ستة أشخاص من رفاقه، ثم تهب زوبعة تجعلهم يرسون في أرض مجهولة ويبقون فيها يومين، ثم يذهبون بعد ذلك إلى شبه جزيرة البلوبونيز، وهناك تهب عاصفة أخرى شديدة تجعل من المستحيل عليهم أن يطوقوا شبه الجزيرة، فتذهب بهم الرياح إلى بلد يحب أهلها أكل اللوتس. ويرحل أوديسيوس بعد ذلك من هذه البلاد إلى بلاد الكوكلوبيس. وهناك يستولي أوديسيوس وأصدقاؤه على عدد من الماعز يأخذ أوديسيوس لنفسه منها عشرة ويعطي كلا من أصدقائه تسعة ثم يقيمون مأدبة وينامون حتى الصباح. وفي الصباح يركب هو وأصحابه سفينة صغيرة لاكتشاف بلاد الكوكلوبيس. ويهتم في هذه الرحلة بأخذ النبيذ الذي أعطاه له مارون
Maron
قسيس الإله أبولو، ثم يدخل بعد ذلك كهف بولوفيموس، وبعد ذلك يتمكن من الهرب من هذا الكهف هو وأصدقاؤه، ويعود إلى جزيرة قبرص حيث يقيمون مأدبة عظيمة.
الأنشودة العاشرة
يذهب أوديسيوس إلى جزيرة تابعة لإيون
Ion ، ويعطي إيون أوديسيوس قربة تحتوي على رياح مختلفة ولكن أصدقاءه يفتحون القربة لظنهم أنها تحتوي على ثروة عظيمة، فإذا بها تجر عليهم عاصفة هوجاء، ويغضب إيون لفتح القربة غضبا شديدا ويطردهم جميعا، فيذهبون بعد ذلك إلى بلاد اللايستروجونيين عند ساحل جزيرة سردينيا، ويعرف أنهم يأكلون لحم البشر. ويأخذ هؤلاء في قتل عدد كبير من أصدقاء أوديسيوس، ومن تبقى منهم يذهبون إلى جزيرة كيركي. وهناك تتمكن هذه الساحرة من تغيير أصدقاء أوديسيوس وتحويلهم إلى خنازير صغيرة ما عدا أوديسيوس الذي ينجو من هذا المصير، وينجح في إقناع هذه الساحرة بإرجاع أصدقائه إلى شكلهم الأول فتجيبه إلى طلبه، وبعد ذلك تنصح أوديسيوس وأصدقاءه بالذهاب إلى عالم الأموات.
الأنشودة الحادية عشرة
يذهب أوديسيوس إلى بلاد الأموات عند الكيميريين
Cimmerians
في شمال البحر الأسود، وهناك يقوم أوديسيوس بالمراسيم التي نصحته كيركي بأن يقوم بها فتظهر له أشباح مختلفة منها أشباح إلبينور
Elpinor
وتيريسياس، ويخبره الأخير بالحوادث التي ستحدث له في مستقل حياته. ويظهر له أيضا شبح أمه أنتيكليا
Anticlea
فيوقفه على ما حدث في جزيرة إيثاكا بعد رحيله منها، كما تظهر له أيضا أشباح أصدقائه أجاممنون وأخيل وبتروكلوس وأنتيلوخوس وأجاكس، ثم يرى أوديسيوس القاضي مينوس والصياد أوريون
Orion
ويعود بعد ذلك إلى سفينته ، ويغادر بلاد الأموات.
الأنشودة الثانية عشرة
تقدم كيركي بعض النصائح والتوصيات لأوديسيوس، وبفضلها يفلح أوديسيوس في التخلص من السيرينيس، وكذا المرور بين خاروبديس وسكولا في سلام. يصل أوديسيوس بعد ذلك إلى جزيرة ثريناكيا
Thrainacia
حيث يهجم أصدقاؤه على أغنام الشمس فيعاقبهم الإله زوس على أعمالهم هذه. وفوق قطعة باقية من سفينته يحمل أوديسيوس إلى جزيرة أوجوجيا، ثم يعود إلى خاروبديس ويصل منها إلى كالوبسو بعد تسعة أيام، وهو المكان المعروف بجبل طارق.
الأنشودة الثالثة عشرة
بعد ذلك يصل أوديسيوس إلى جزيرة إيثاكا بمساعدة الفياكيين الذين سيعاقبهم الرب بوسايدون لأن الأخير عدو أوديسيوس. ويضعونه على الساحل وهو نائم، وعندما يستيقظ يستولي عليه اليأس؛ لأنه لا يعرف في أي مكان هو، وتأتي إليه الربة أثينا وتخبره وهي متنكرة بأنه موجود الآن في جزيرة إثياكا، وأن الهدايا التي معه هي ما تبقى له من الأسلاب والمغانم التي اكتسبها في حرب طروادة. يلي ذلك منظر بديع يظهر فيه الإنسان في منظر كله ثقة وود وصداقة، ثم يتفقان على أن يتنكر هو أيضا في صورة شحاذ حتى لا يعرفه أصدقاؤه أنفسهم، ثم يذهب إلى راعي خنازير يدعى يومايوس
Eumaeus
وفي الوقت نفسه تذهب أثينا لمقابلة ابنه تيليماخوس.
الأنشودة الرابعة عشرة
يستقبل راعي الخنازير أوديسيوس ويعد له الطعام ويذبح له خنزيرا رغم أنه لا يعرفه. ويسأله الراعي عن شخصه فيسرد عليه أوديسيوس قصة كلها أكاذيب وخرافات، فيقول له إنه من جزيرة كريت وقد أخذه ملك الجزيرة إلى طروادة ليشترك في الحرب ويعينه أميرالا للأسطول، ثم يعود إلى وطنه بعد انتهاء الحرب، وبينما هو كذلك يذهب على رأس حملة للنهب والسلب متجها إلى مصر في صحبة رجل فينيقى. ويذهب الاثنان بعد ذلك إلى ليبيا حيث يستولي عليه الفينيقي ويبيعه كعبد، وبعدئذ تهب عاصفة هوجاء يغرق فيها البعض. وبعد هذه الحادثة يجد أوديسيوس نفسه في مكان لا يعرفه، وهناك يتحدث مع ابن الملك فيطرده الملك بعد ذلك، ويعهد به إلى بحارة يأتون به إلى جزيرة إيثاكا، فيهرب منهم ويجيء إلى راعي الخنازير.
ولكن يومايوس لا يصدق شيئا من هذا الذي قاله الغريب. ومع ذلك يأمر بذبح خنزير ليأكلوه، كما يعد لأوديسيوس المتنكر فراشا للنوم، ويخرج بعد ذلك مسلحا لحراسة الخنازير.
الأنشودة الخامسة عشرة
تصل أثينا إلى إسبرطة وتظهر لتيليماخوس في منامه، وتأمره بأن يرجع إلى أثينا والذهاب رأسا إلى يومايوس، فما إن يستيقظ حتى يترك قصر الملك مينيلاوس محملا بالهدايا الكثيرة التي جاد بها عليه وزوجته هيلينا. ويعود تيليماخوس إلى بولوس، ومن هناك يبحر على سفينته مصطحبا معه رجلا اسمه ثيوكلومينوس
Theoclymenus
كان قد نفي من أرجوس؛ لأنه قتل رجلا، ثم يعود إلى إيثاكا في سرعة عجيبة وقد بيت العزم على تجنب رؤية المتآمرين عليه فيتحاشاهم ويسلك طريقا آخر حتى يصل إلى إيثاكا، في الوقت الذي كادت تنتهي فيه الوليمة التي أقامها يومايوس لأوديسيوس.
الأنشودة السادسة عشرة
يرسل تيليماخوس يومايوس كي يخبر أمه بأنه قد عاد إلى الوطن، فيبقى بمفرده مع أوديسيوس حيث يتمكن من التعرف عليه، وعندئذ يتفق الأب والابن على الخطة التي يجب عليهما اتباعها، فيتفقان على ألا يذكر تيليماخوس شيئا عن أبيه. وفي هذا الوقت يصل إلى المتآمرين نبأ عودة تيليماخوس إلى إسبرطة فيغضبون غضبا شديدا، ويظهر أنتينوس رغبته في قتل تيليماخوس وفي إعداد مؤامرة لقتله، فيعارضه في ذلك بعض الأشخاص. ويصل خبر كل هذا إلى بينيلوبي فتنزل إلى المتآمرين، وتوجه اللوم إلى أنتينوس لرغبته في قتل ابنها.
أما عند يومايوس فتنتهي الوليمة وينام الجميع.
الأنشودة السابعة عشرة
فيها يخرج تيليماخوس في صحبة الراعي، ويذهب أوديسيوس متنكرا في هيئة شحاذ. وهناك يحدث نزاع بينه وبين أنتينوس يظهر فيه الأخير كثيرا من القسوة والعنف، ولكن بينيلوبي تهبط من مقصورتها وتهتم بهذا الرجل الشحاذ، وتبدي رغبتها في التحدث إليه حديثا خاصا.
الأنشودة الثامنة عشرة
فيها يحدث شجار بين أوديسيوس المتنكر في صورة شحاذ وبين شحاذ آخر يدعى إيروس
Irus ، فيسر المتآمرون كل السرور لهذا المنظر، ولكن الشحاذ أوديسيوس يتغلب على الشحاذ الآخر بضربة قاضية ويلقي به في الخارج. بعد ذلك ترغب بينيلوبي في النزول إلى ساحة القصر بحجة التحدث إلى تيليماخوس، ولكن أثينا تجعلها تنام وتخلع عليها ثوبا من الجمال، ثم تنزل أخيرا وتوجه اللوم إلى تيليماخوس للمعاملة القاسية التي عومل بها الضيف، وتقصد بذلك أوديسيوس.
ثم تصعد بينيلوبي إلى جناحها الخاص، ثم ينشب شجار في الدور الأول من القصر بين أوديسيوس وبين الخادمة ميلانثو
Melantho
تسب فيه الأخيرة أوديسيوس، وتوجه إليه قارع القول، فيتدخل يورونومي
Eurynome
حبيب ميلانثو، ويؤيد الخادمة ضد أوديسيوس ويلوح له بيده.
يحدث عقب ذلك هرج ومرج ثم منظر آخر فيه يأمر أوديسيوس ابنه تيليماخوس بإدخال الأسلحة وحبس الخادم، ثم ينتهي اليوم بسلام بالرغم من الحوادث السابقة.
الأنشودة التاسعة عشرة
يبقى أوديسيوس في الساحة ومعه تيليماخوس، ثم يخفي أوديسيوس الأسلحة في القصر. وتنزل بينيلوبي من جناحها للتحدث مع هذا الضيف، وتسأله عن شخصه فيجيبها إجابة كاذبة؛ إذ يقول لها إنه شقيق الملك إيدومينيوس الذي يحكم في جزيرة كريت، والذي استقبله في كريت وكان قد ذهب إلى هذه الجزيرة لرؤية إيدومينيوس، وكان الأخير على وشك السفر إلى حرب طروادة. وتبكي بينيلوبي بكاء مرا وتسأله عن أوديسيوس، ثم تأمر بإعداد حمام ساخن لغسل قدمي هذا الشحاذ. وبينما خادمتها يوروكليا تقوم بغسل قدمي أوديسيوس، تعثر على آثار جروح كان يعرف بها أوديسيوس، فتتعرف الخادمة عليه بواسطة هذه الجروح، وتخبر سيدتها بأن هذا الشخص الجالس أمامها هو أوديسيوس بعينه، فتفرح بينيلوبي فرحا جما، ثم يقترح أوديسيوس على زوجته الخطة الواجب اتباعها، ويعدان العدة في اليوم التالي، ويتفقان على إقامة مسابقة بين المتآمرين.
الأنشودة العشرون
فيها تمد مأدبة عظيمة، ويعلن العراف ثيوكلومينوس نبوءة تقول بأنه يرى أشباحا تدور حول المطالبين بالزواج من بينيلوبي، فيضحك هؤلاء ويسخرون من النبوءة ويطردونه شر طردة.
الأنشودة الحادية والعشرون
تظهر بينيلوبي وتعد بأنها ستتزوج من الشخص الذي يستطيع إحراز قصب السبق في المسابقة التي تود إقامتها، وهي رمي السهام بالقوس، وتشترط كذلك استخدام قوس أوديسيوس نفسه، ولكن لا أحد ينجح في هذه المسابقة، ولا يتمكن أحد من استخدام هذا القوس، فيتقدم أوديسيوس ويطلب الاشتراك في المسابقة فيسخر منه المتآمرون، ولكن تيليماخوس يعطيه القوس وينجح أوديسيوس في استخدامها نجاحا عظيما.
الأنشودة الثانية والعشرون
عندئذ يعلن أوديسيوس عن نفسه، ويقتل جميع المتآمرين، ولا يستثني منهم غير الشاعر فيميوس والبطل ميدون.
الأنشودة الثالثة والعشرون
تقف بينيلوبي على جميع هذه الحوادث، ويتخذ أوديسيوس جميع التدابير اللازمة.
الأنشودة الرابعة والعشرون
هي ختام الأوديسة وهي أنشودة ضعيفة، وأغلب الظن أنها أضيفت إلى الأوديسة، وبذا تتم الأناشيد ويصبح عددها معادلا لأناشيد الإلياذة تماما. •••
من هذا يتبين أن الأوديسة عبارة عن التأليف والتنسيق المحكم بين ثلاث أفكار تتلخص في التليماخية، وفيها لا يظهر البطل أوديسيوس ولا يتحدث ولا يتكلم، وإنما يذكر عرضا بحيث تكون ذكراه هي السائدة في الأغاني الأربعة الأولى، وفي مخاطرات أوديسيوس، ثم في انتقام الأخير من مغازلي زوجته.
وكل ما يمكننا استنتاجه من تحليل كل من الإلياذة والأوديسة هو:
أولا:
وحدة الموضوع واحدة في المنظومتين.
ثانيا:
وجود قطع طويلة شيقة ممتعة أحيانا، وغير ذلك في حين آخر، ويمكن حذفها دون أن يؤثر هذا الحذف على وحدة الموضوع في الكثير أو القليل. بل ربما كان هذا الحذف مفيدا جدا، ومما لا شك فيه أن عددا من هذه القطع قد أضيف إلى الأوديسة بصورة أكثر منها في الإلياذة.
ومن ثم فإن هذه القطع غير ضرورية في الإلياذة والأوديسة.
ثالثا:
نستطيع أن نميز في الإلياذة والأوديسة وخصوصا في الأولى بين العصور المختلفة. وهذا التمييز يظهر جليا في اللغة ووصف الشخصيات والحقائق التاريخية.
إذن كيف يمكن تفسير جميع هذه الحوادث المختلفة حول الفكرة الأساسية للإلياذة، وهي فكرة غضب أخيل، وحول الفكرة الأساسية للأوديسة، وهي فكرة عودة أوديسيوس وانتقامه لنفسه؟
يفترض العلماء المحققون فرضين أساسيين؛ أحدهما يقول بوجود نواة أولية، وهذا الفرض يسمى
Monyan
، ومعنى ذلك أن شاعرا عبقريا ألف نوعا من الإلياذة والأوديسة، ثم حدثت بعض التغييرات، وأضيفت إليهما بعض الإضافات إبان العصور التالية. ولقد ظهر هذا الفرض على الأخص منذ عام 1824م. وممن أخذ بهذا الفرض من العلماء هيرمون
Hermonn
عام 1831م، وكايسر
Kayser
عام 1835-1845م، وجروت
Grote
عام 1849م. والأخير يقول بوجود قصة أصلية تدور حول أخيل تسمى
L’Achilléide
ثم أخذ الشاعر نفسه الذي ألف القصة البسيطة في بادئ الأمر يضيف إليها حتى أصبحت طويلة جدا.
ومما يؤيد هذا الفرض في زعم هؤلاء العلماء ما حدث في القصائد التي ظهرت فيما بين النهرين، ولكن الإضافات والتغييرات التي حدثت بالإلياذة والأوديسة أقل بكثير من التي حدثت في قصائد
Gilganesch
ومن المستحيل أن تكون هذه النواة الأصلية قد وجدت قبل هجرات الآخيين، ومن المستحيل أن تكون الإلياذة قد ألفت هي والأوديسة قبل حرب طروادة.
والآن من هم أبطال حرب طروادة؟ هناك النظرية الألمانية، وهي تقول إن هؤلاء الأبطال كانوا آلهة في أول الأمر، ثم أصبحوا بشرا بمرور الزمن. وقد عارض هذه النظرية العالم الفرنسي بول فوكار
في رسالة ألفها عن عبادة الأبطال عند اليونان.
إذن كان أجاممنون وأخيل ومينيلاوس آلهة تعبد في بلاد اليونان، ثم مر زمن طويل حتى أصبحوا بشرا جمعتهم الخرافات حول حصار طروادة. والذي يجب أن نتذكره أن أهمية طروادة القصصية لم تزد إلا في أوساط آسيا الصغرى حتى جاءت إليها سلالة أولئك الأبطال يقيمون بها.
أما النظرية العكسية فهي نظرية بول فوكار التي تقول إن هؤلاء الأبطال كانوا بشرا في أول الأمر ثم ارتفعوا بعد ذلك إلى درجة الآلهة؛ فإن أجاممنون وأخيل ومينيلاوس كانوا رجالا وربما كانوا من رجال الخرافات الذين ابتدعتهم الخرافات، وربما كانوا أيضا شخصيات تاريخية لها وجود تاريخي صحيح.
وهذا الاعتبار الأخير أميل إلى الصحة؛ لأن مكتشفات الحفائر في البلاد الشرقية تدعونا إلى أن نأخذ بالرأي القائل بأن هذه الشخصيات وجدت حقا وعاشت حقا، وكان لها ما كان من الأثر في حرب طروادة، وهم أبطال آخيون ما عدا البطل أوديسيوس الذي اسمه يوناني. كان هذا الاسم هو أوليكسيس
Olixces
أو
Ulixces
وقد وصل هذا الاسم إلى إيطاليا بهذه الصورة قبل أن يكون هناك أوديسة ثم أصبح أوديسيوس
Odysseus
ومعناه «الرجل الذي يتحمل غضب الآلهة» وهو مشتق من الفعل اليوناني
Odussomai . وكان ذلك جاريا في التقاليد بين شعوب البحر الأبيض المتوسط، ثم نقل بعد ذلك إلى القصائد الهومرية. ومن المحتمل جدا أن تكون هناك قصائد إيجية مينوية تابعة للحضارة الكريتية اعتمد عليها الشعراء من الآخيين، واقتبسوا منها الشيء الكثير، ولكننا لا نستطيع أن نعرف هذه القصائد الإيجية بأية حال فهي مجهولة لنا تماما؛ لأنه لم يبق منها آثار تدل عليها بالنسبة إلى أن اللهجات الآخية انعدمت، ولم يبق منها إلا بعض الكلمات البسيطة.
هذا ما عندنا عن الفرض الأول.
أما الفرض الثاني فهو القائل بوجود أغان بسيطة في أول الأمر منفصلة الواحدة عن الأخرى وتسمى بالألمانية «ليدر
Lieder ».
وتقول هذه النظرية الألمانية بأن هذه الأغاني المنفصلة تتحدث كل منها عن حوادث خاصة من حوادث الخرافات وينشدها الشعراء المغنون. ومن المحتمل جدا أن يكون هناك شاعر عبقري قد حاول أن يختار من هذه الأغاني، وأن يجمع منها كل ما يتصل بفكرة واحدة، كالفكرة التي تدور حول غضب أخيل أو عودة أوديسيوس وانتقامه. هذا ما أخذ به القس الفرنسي
D’Aubignac
في القرن السابع عشر. وجاء بعده بمدة العالم الألماني وولف
Wolf
الذي أخذ بهذه النظرية أيضا في مؤلفه المشهور المسمى
. وقد انتهى وولف إلى مثل ما انتهى إليه العالم الفرنسي بعد دراساته الطويلة بالحوادث التي كانت في مخطوط يسمى
Veenetus
ونشرها عالم فرنسي اسمه
De Villoisin
عام 1788م. وقد أيد هذه النظرية مع بعض الاختلاف البسيط لأخمان
Lachmann
وهين
Heyne
وكيرشوف
Kirchhoff
الذي يقول إن الإلياذة والأوديسة ليستا عبارة عن أغان صغيرة بسيطة، إنما قصائد طويلة من الشعر القصصي. وقد أيد كيرشوف فيما يخص بالإلياذة عالم آخر مشهور جدا اسمه فيلاموفتس
Wilamowtz .
هذه بيداء من الآراء المختلفة، من الجائز أن يضل الإنسان فيها؛ لذلك نكتفي ببعض الملاحظات لتحديد أوجه هذه المشكلة، ولكن قبل أن نبدأ في ذكره هذه الملاحظات يجب علينا أولا أن نذكر كيف نشرت هذه الأشعار الهومرية، ونتكلم أولا عن كيفية انتقال هذه القصائد إلى أيونيا في آسيا الصغرى.
نستطيع ان نقول إن الشعر كانت له مكانة عظيمة في المجتمع الآخي والأيوني والأيولي؛ إذ كان الشعراء والمغنون ينشدون في المآدب التي يقيمها كبار القوم مثل فيميوس وديمودوكوس وألكينوس. كانت الأغاني التي يختارها هؤلاء الشعراء المغنون تدور حول حوادث خاصة بحياة الأبطال. يظهر لنا من أول وهلة أن هذه الأغاني كانت أغاني قصيرة؛ لأنه من المستحيل على الشاعر أن يغني أغاني طويلة كالإلياذة والأوديسة، خصوصا إذا أخذنا أن الكتابة لم تكن قد ظهرت بعد. بناء على هذه النظرية يمكن استنتاج أن هذه القصائد لم تكن طويلة، وأنها نقلت عن طريق الحفظ والسماع إلى أيونيا، ولكننا نشك في هذا الكلام لوجود فكرة في هوميروس تثبت وجود كتابة في هذه الفترة. كان من الجائز أن نأخذ بهذه الفكرة لو لم توجد الحفائر. أما الآن فإننا نعرف عن طريق الحفائر أن اليونان لم يأخذوا الحروف الهجائية عن الفينيقيين في القرن الثامن أو التاسع؛ لأن الكتابة كانت معروفة منذ زمن طويل في قرن أقدم من القرنين الثامن والتاسع، وكانت الكتابة معروفة في العالم الذي وصل إليه الآخيون؛ لذلك يمكننا أن نأخذ بالرأي القائل بأنه كان هناك نوع من الإلياذة والأوديسة موجود ومكتوب باللغة اليونانية وفي هذا العصر القديم بالذات؛ لأن علم اللغات قد أثبت لنا بطريقة قاطعة أن هناك فاصلا بين القصائد الهومرية وبين الأدب الآخي الذي سبق هذه القصائد والحروب.
ليس هناك من شك في أن هذا مهم من الناحية التاريخية والأدبية؛ لأنه يثبت لنا الأهمية العظمى للشعوب المتكلمة باللغة اليونانية مثل الأيونيون والأيوليون وهم متصلون بالآخيين بصلة القرابة، وبالذين جاءوا إلى بلاد اليونان بعد هجرات الآخيين وقبل هجرات الدوريين.
ثم صارت لهم السيادة بعد أن استتبوا ببلاد اليونان أو بعد هجراتهم إلى آسيا الصغرى، وكانت هذه الهجرات نتيجة للغزوات الدورية.
ولقد سارت القصائد الهومرية في نفس الطريق الذي سارت فيه القصائد الأيونية ثم انتقلت إلى أيونيا بواسطة الكتابة. أما الآخيون فلم يقبلوا أن يكون لهم آداب، فقلدوا الأدب الفريجي المينوي، ثم كان هناك فن ميسيني قلدوه من الأسلحة والأواني الفخارية.
فالقصائد الهومرية إذن قصائد هومرية بحتة لا نجد فيها كلمات إيجية إلا عددا قليلا جدا يكاد لا يذكر، وهي قصائد تسير على نهج القصائد الأيولية، ولكنها اتخذت الشكل الأيوني.
والآن نتحدث عن الكيفية التي نقلت بها هذه القصائد إلى بلاد اليونان. لقد انتقلت بإحدى هاتين الطريقتين أو بالاثنين معا.
أولا:
بالطريقة الشفوية، وذلك بواسطة المنشدين المغنين الذين كان من عادتهم الانتقال من مدينة إلى أخرى، والتقدم إلى المسابقات العامة لنيل الجوائز الكبرى كتاج من الذهب مكافأة على إنشادهم أشعار هوميروس. وكان من عادتهم أن يصعدوا فوق منبر عال ويأخذوا في إلقاء هذه القصائد بصوت جهوري واضح النبرات. وكانوا يعقدون جلسات طويلة على أيام متتالية كي تكفي هذه الجلسات الطويلة لإنشاد الإلياذة والأوديسة كلها. وكان هؤلاء المنشدون يلبسون ملابس فاخرة ذات ألوان زاهية باهرة حمراء عندما ينشدون الإلياذة وأخرى أرجوانية متى ينشدون الأوديسة، وذلك حسب ما قال به كل من الخطيبين سقراط وأفلاطون؛ فقد قال كلاهما إن هؤلاء المنشدين كانوا يذهبون إلى الأعياد التي تقام فيها المسابقات العامة كالأعياد البانأثينية الكبرى
Grandes Panathéneés
ويحدثنا الشاعر بندار
أيضا عن وجود جماعة تسمى
Les Homérides
وهؤلاء الهومريون ينشدون هذه القصائد. والمرجح أنهم كانوا في بادئ الأمر عبارة عن جمعية تضم جميع مغني الإلياذة والأوديسة. كانوا يدعون لأنفسهم حق الانتساب إلى هوميروس ويقولون إنهم من سلالة هوميروس. وكان من بين الهومريين كثيرون في جزيرة خيوس
Chios
نسب إليهم فكتور بيرار جمع الأغاني المختلفة التي تتكون منها الأوديسة، وذلك في بداية القرن السابع قبل الميلاد. وهذه الأغاني مجتمعة قد وصلت إلينا اليوم كما كانت عليه في ذلك القرن. وهذا ما يأخذ به أصحاب الأغاني المستقلة المسماة «ليدر» الذين يقولون بوجود شعراء عباقرة جمعوا هذه الأناشيد في إلياذة عامة أو أوديسة عامة.
ثانيا:
بالطريقة الكتابية؛ لأنه كان بين أيدي المنشدين نسخ مكتوبة. ولقد قال المؤرخ إيفور
Ephore
في القرن الرابع قبل الميلاد في إحدى رواياته إن المشرع الإسبرطي لوكورجوس
Lycurgus
قد عمل على استحضار نسخة من جزيرة ساموس أو خيوس أو من كريت إلى إسبرطة، ولكن حقيقة الأمر أن هذا المشرع خرافي ولا وجود له في التاريخ.
ولكن هناك رواية أخرى تقول إن الطاغية بيزستراتوس الذي حكم في أثينا إبان القرن السادس قبل الميلاد قد عمل على جمع هذه الأناشيد الهومرية، وكانت حتى عصره مشتتة مبعثرة، كما أنه يجب ألا يغيب عنا أنه في عصر بيزستراتوس هذا تقرر إنشاد القصائد الهومرية في الأعياد البانأثينية الكبرى في أثينا. وقد استغل هذه الرواية أصحاب نظرية الأغاني المستقلة ابتداء من وولف؛ ففي رأي القائلين بهذه النظرية أن أثينا لعبت دورا مهما في تكوين الإلياذة والأوديسة. ومن رأيهم أيضا أن الشعراء العباقرة الذين عملوا على وضع الإلياذة والأوديسة في صورتها الأخيرة هم أعضاء اللجنة التي ألفها بيزستراتوس للإشراف على أمور التعليم والثقافة والعلوم المختلفة في أثينا في القرن السادس قبل الميلاد. وتتألف هذه اللجنة من الأشخاص الثلاثة الآتية أسماؤهم
Zopyres d’Héraclée, Onomaci d’Athènes, Orphée de Grotone ، ولكن الرواية الأخيرة بعيدة عن الصحة؛ إذ إنها لا تتعدى القرن الأول قبل الميلاد، والذي رواها هو أسكليبياديس؛
Asclépiades
ومن ثم فهي ليست قديمة.
والمؤرخون الذين ظهروا في نيجارا هم أول من نسب إلى بيزستراتوس إدخال بيتين من الشعر لإثبات حقوق أثينا على جزيرة سلاميس؛ ومن هنا نشأت الخرافة القائلة بوجود اللجنة التي عينها بيزستراتوس والتي تكلمنا عنها. وهي الخرافة التي وصلت النحوي أسكاليبياديس ومنه إلى شيشترون
Cicero
وعن الأخير عرفها المحدثون. وواقع الأمر أنه كانت هناك نسخ لهوميروس تسمى «نسخ المدن» وهي النسخ الحكومية التي تضعها الدولة للمدارس والأعياد العامة. وقد وجد كثير من هذه النسخ في أثينا وغيرها. ومن المحتمل أن تكون هذه النسخ الحكومية هي كل ما يمكن نسبته إلى صولون وبيزستراتوس. وقد تحدث البعض فقال إن أشعار هوميروس كتبت في أثينا بلهجة أتيكية. واستندوا في ذلك على الإضافات التي زجت في النسخة الأصلية كالبيتين المتعلقين بجزيرة سلاميس وكالأشعار المتعلقة بالأبطال الأثينيين كالبطل مينيسثيوس
Menestheus
وأريخثيوس
Erectheus
وهم في هذا غير محقين؛ لأنه لا يوجد ما يدعو إلى افتراض وجود هذه الفروض ونسبتها إلى الساسة الأثينيين لشرح الدور الذي قام به الأبطال الإثينيون في الإلياذة؛ لأن علم الآثار أثبت لنا بطريقة قاطعة أنه كانت هناك أثينا وأتيكا أيام الحضارة الميسينية.
بيد أن هناك آخرين يقولون إن النص الأصلي كان باللهجة الأيونية ثم نقل إلى الأتيكية القديمة وذلك بعد عام 405ق.م. وهذا الرأي بعيد عن الصحة؛ لأن الإلياذة والأوديسة وصلتا إلى أثينا باللهجة الأيونية، ومن غير المعقول أن تستبعد هذه اللهجة الحسنة وتفضل عليها اللهجة الأتيكية.
إذن فلا يحتمل العقل هذه الفروض بل ما يصدقه هو أن بلاد اليونان في القرن الخامس والرابع (أي في العصر الكلاسيكي) كانت تقرأ هوميروس كما نقرؤه اليوم. ويكاد النص يكون هو النص الذي بين أيدينا. وطبيعي أن تكون الطبقات المختلفة في هوميروس متباينة فيما بينها؛ ومن ثم لا يجب أن نعنى بالإضافات والتغييرات إلا لمجرد حب التغير والإضافة، أو بقصد الكسب والمنفعة.
والواقع أن الإلياذة والأوديسة اللتين وصلتا إلى علماء فقه اللغة من السكندريين لا تختلفان عن الإلياذة والأوديسة اللتين بين أيدينا، صحيح أن بين هؤلاء العلماء من غير فيهما مثل زينودوت
Zenodote
الذي بلغت به الجرأة فحذف الكثير من الأشعار التي لا تتفق مع الإلياذة والأوديسة.
الواقع إذن أن جميع هذه الاعتبارات لا تحل هذه المشكلة حلا مقنعا؛ لأننا نتردد بين الفرض الأول القائل بوجود نواة أولية، والفرض الثاني القائل بوجود أغان بسيطة تسمى «ليدر»، ولا ندري أيهما نفضل على الآخر. وربما كان أفضل شيء هو أن نبدي رأينا الشخصي بهذا الصدد.
إن الإلياذة تتناسب مع الفرض الأول؛ إذ يمكن شرح الإلياذة بهذه النظرية؛ فالإلياذة لا تخلو من قطع كثيرة أضيفت إليها، ويمكن حذفها دون أن يؤدي هذا الحذف إلى أدنى تغيير في الهيكل الأساسي الذي تتركب منه؛ مثل تعداد السفن، أو القائمة التي أتت بتعداد السفن
Catalegue des Vaisseaux
في الأنشودة الثانية؛ إذ واضح جدا أن هذه القائمة بأسماء السفن قد أضيفت إلى الإلياذة رغم أن هذه القائمة تناسب العصر؛ إذ تعطينا فكرة عن جغرافية البلاد إبان الحضارة الميسينية. ولقد أخذ النقاد بهذا الرأي وأجمعوا عليه. كما أن الإلياذة لا تخلو من قطع مكررة حتى تكاد تكون متشابهة، ولكن رغم هذه الإضافة وهذا التشابه لا تزال توجد سلسلة من الحوادث الأساسية هي التي تكون الهيكل الأساسي للإلياذة كغضب أخيل، وكالمعركة التي خسرها اليونانيون، والوفد الذي ذهب إلى أخيل ليعود به إلى القتال، والمعركة التي دارت رحاها بجوار الأسطول، وكالأناشيد التي تدور حول باتروكلوس وتسمى
، ومثل عودة أخيل إلى الحرب، وموت البطل هكتور في نهاية القصة.
أما إذا أخذنا بالفرض الثاني المسمى «ليدر» فثابت أنه يمكن الاعتراض عليه بعدة اعتراضات، منها الاعتراض الخاص بالتساؤل عن الزمن الذي حدث فيه الجمع والتصنيف بين هذه الأغاني؛ إذ لا يمكن أن يكون قد تم الجمع والتصنيف في عهد الشعراء المنشدين؛ لأن طبيعة مهنتهم لا تساعدهم على ذلك. كما أنه لا يمكن أن يكون هذا العمل قد تم في عهد الطاغية بيزستراتوس؛ لأن العمل المنسوب إليه يفترض وجود إلياذة؛ ومن ثم فإن هذه النظرية بعيدة الاحتمال والصواب.
الراجح إذن أنه كانت توجد قبل إلياذة هوميروس إلياذة أيولية أخرى ولكنها أقل رقيا وتقدما من إلياذة هوميروس؛ إذ يغلب عليها نوع من التأخر والوحشية في العادات تتناسب مع العصور البدائية التي كانت في ذلك الوقت، ثم تغيرت اللهجة الأيولية إلى الأيونية، وفي الوقت نفسه تلطفت وتهذبت وتحسنت وأضيفت إليها بعض حوادث جديدة. والأوديسة هي الأخرى تقبل مثل هذا التفسير كما تقبل النظرية الأولى التي نفضلها؛ فهيكلها الأساسي واضح كل الوضوح؛ لأنها تتألف من ثلاثة أقسام واضحة متميزة بعضها عن بعض، ولكنها مرتبطة فيما بينها برباط متين وثيق. ومع هذا فإن الأناشيد التي أضيفت إلى الأوديسة أكثر بكثير من الأناشيد التي أضيفت إلى الإلياذة. وليس هناك سبيل إلى القول بوجود أوديسة أيولية كالإلياذة الأيولية؛ ذلك لأن البطل أوديسيوس ليس أيوليا بل من أبطال شعوب البحر الأبيض المتوسط.
وبالرغم من هذه الوحدة الغالبة على كل من القصيدتين الكبيرتين لا نستطيع أن نقول إن لهما تاريخا محددا؛ لأن هذه القصائد تصور لنا سلسلة طويلة متصلة من القرون والعصور. كما يجب أن يغيب عن بالنا أنهما ليستا من الآداب الشعبية بل هما مثل الشعر الراقي الرفيع الذي ألفه شاعر مثقف على جانب كبير من العلم والثقافة أراد أن يصور لنا عصر الأبطال القديم. ونستطيع أن نقول أيضا إن في كل من الإلياذة والأوديسة أجزاء قديمة وأخرى أحدث منها. ونقول أيضا إنهما انتهتا جميعا في القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد في عصر انتقال بدأ فيه المجتمع ينتقل من الحكم الملكي إلى الحكم الأرستقراطي الذي كانت مظاهره آخذة في النمو والازدهار بسرعة.
الأنشودة الأولى
قاد أثينا نفسها، وأجلسها فوق مقعد، وعند أسفله كرسي صغير للأقدام ...
دعاء إلى ابنة زوس
حدثيني، أيتها الربة، عن الرجل الكثير الحيل الذي أخذ يجول في كثير من مناكب الأرض بعد أن دمر قلعة طروادة المقدسة؛ فقد شاهد بلاد رجال كثيرين وتعلم آراءهم. نعم، وكثيرة هي الويلات التي عاناها في قلبه وسط البحار، ساعيا إلى النجاة بحياته وعودة رفقائه. بيد أنه مع هذا لم ينقذ أولئك الرفاق، رغم شدة لهفته إلى ذلك؛ إذ هلكوا بسبب حماقتهم العمياء - فما أحمق من أكلوا أبقار! هيليوس هوبيريون
Helios Hyperion ؛
1
إذ حرمهم سلامة عودتهم. تحدثي إلينا، أيتها الربة، يا ابنة زوس،
2
عن هذه الأمور، وابدئي من حيث يحلو لك أن تبدئي.
بوسايدون ثائر ضد أوديسيوس
والآن، أصبح في أوطانهم جميع الآخرين، الذين نجوا من الهلاك المحقق، سالمين من أذى الحرب والبحر، ولكن أوديسيوس
3
وحده، الشديد اللهفة إلى الرجوع لوطنه، وإلى زوجته، قد احتجزته الحورية الجليلة والربة البراقة كالوبسو
Calypso ،
4
في كهوفها الواسعة، أملا في أن تتخذه زوجا. غير أنه، ما إن أهل - بمرور الفصول - ذلك العام الذي حددته الآلهة لكي يعود فيه وأوديسيوس إلى وطنه إيثاكا
Ithaca ، حتى كان هناك، ولكنه لم يكن خاليا من المهام، حتى بين قومه. وقد أشفقت عليه جميع الآلهة خلا بوسايدون
،
5
الذي مضى في ثورته المستمرة ضد أوديسيوس، شبيه الإله، حتى وصل أخيرا إلى أرضه.
بيد أن بوسايدون انطلق إلى الإثيوبيين
Ethiopians
البعيدين؛ الإثيوبيين، الذين يقطنون بمنأى عن البشر، في شطرين منفصلين ، بعضهم حيث يغرب هوبيريون، والبعض الآخر حيث يشرق ليتلقى ذبيحة مئوية من الثيران والكباش. وكان يتمتع هناك بملذاته، جالسا أمام الوليمة، بينما كان الآلهة الآخرون مجتمعين في ساحات زوس الأوليمبي
Olympian Zous ، وقد كان أبو الآلهة والبشر هو أول من تكلم بينهم؛ إذ كان يفكر في قرارة قلبه في أيجيسثوس
Aegisthus
6
النبيل، الذي قتله أوريستيس
Orestes ،
7
الذائع الصيت، ابن أجاممنون
Agamemnon
8
فتكلم وسط الخالدين وهو يفكر فيه، فقال: «اسمعوا يا هؤلاء، الآن سأبين لكم كيف أن البشر مستعدون لينحوا على الآلهة باللوم. إنهم ليقولون: إن الشرور تأتي منا. غير أنهم ينالون أحزانا تفوق ما قدر لهم، بسبب حماقتهم العمياء؛ فقد تخطى أيجيسثوس ما قدر له، فاغتصب لنفسه زوجة ابن أتريوس
Atreus ،
9
وقتله عند عودته، رغم أنه كان على يقين من الهلاك المحقق؛ إذ سبق أن تحدثنا إليه، وأرسلنا هيرميس
Hermes ،
10
أرجايفونتيس
Argeiphontes
11
الثاقب البصر، ينهاه عن قتل الرجل وعن مغازلة زوجته؛ لأن الانتقام لابن أتريوس، سوف يأتي من أوريستيس يوم يبلغ هذا مبالغ الرجال، ويتوق إلى وطنه، فأخبره هيرميس بهذا، ولكنه رغم حسن نيته، لم يوفق في التغلب على قلب أيجيسثوس، والآن ها هو قد دفع ثمن كل شيء.»
عندئذ ردت عليه الربة، البراقة العينين،
12
قائلة: «أبانا كلنا، يا ابن كرونوس،
13
يا أسمى جميع السادة. حقا، إن ذلك الرجل ليعيش ذليلا في تهلكة يستحقها، كما نرجو أن يلقى مثل هذا المصير، كل شخص آخر يفعل مثل تلك الفعال، ولكن قلبي يتمزق من أجل أوديسيوس الحكيم، ذلك الرجل التعيس، الذي ظل بعيدا عن أصدقائه، يقاسي الأهوال طويلا، في جزيرة وسط البحر تحوطها المياه من كل صوب. إنها لجزيرة كثيرة الغابات، حيث تعيش ربة هي ابنة أطلس
Atlas ،
14
ذي العقل الفتاك، الذي يعرف أعماق كل بحر، ويحمل هو نفسه، العمد الطويلة التي تفصل السماء عن الأرض. إن ابنته هذه هي التي تحتفظ بذلك الرجل التعيس، الحزين، وتدأب في خداعه بمعسول الألفاظ كي ينسى إيثاكا، ولكن أوديسيوس، من فرط شوقه إلى رؤية، ولو الدخان المتصاعد من بلاده، يتوق إلى الموت. ومع ذلك ، فإن قلبك لا يهتم بهذا، أيها الأوليمبي.
15
ألم يقدم لك أوديسيوس ذبيحة لا حصر لها، بجوار سفن الأرجوسيين
Argives ، في أرض طروادة الفسيحة؟ لماذا تكن إذن، مثل هذا الغضب ضده، يا زوس؟»
زوس يحرض الآلهة ضد بوسايدون
فأجاب زوس، جامع السحب، بقوله: «طفلتي، ما هذه الكلمة التي فلتت من بين شفتيك؟ كيف أستطيع، إذن نسيان أوديسيوس، شبيه الإله، الذي يفوق سائر البشر حكمة، والذي قدم للآلهة الخالدين الذين يحتلون السماء الفسيحة، ذبيحة أعظم مما قدمه الجميع؟ كلا، فإن بوسايدون، مطوق الأرض، هو الذي يتملكه على الدوام غضب عنيد ضده، بسبب بولوفيموس
16
الذي أعمى أوديسيوس عينه، ذلك الكوكلوب
Cyclops ، شبيه الإله، أعظم جميع الكوكلوبيس
Cyclopes
قوة، والذي أنجبته ثئوسا
Thoosa ، ابنة فوركوس
، المسيطر على البحر الدائم الحركة؛ إذ اضطجعت هذه مع بوسايدون في الكهوف الفسيحة، فمنذ تلك اللحظة بالضبط، عول بوسايدون، مزلزل الأرض، على ألا يقتل أوديسيوس، بل يشرده عن وطنه. والآن هلم بنا جميعا، نحن الحاضرين هنا، نفكر في أمر عودته إلى وطنه، وعندئذ يضطر بوسايدون إلى أن يصرف غضبه؛ لأنه لن يستطيع المضي في الصراع وحده، بأية حال من الأحوال، رغم معارضة جميع الآلهة الخالدين.»
وأحضرت ربة البيت الخبز وكميات وافرة من الأطعمة اللذيذة ...
أثينا تذهب إلى إيثاكا
فردت عليه الربة، أثينا البراقة العينين، بقولها: «أبانا جميعا، يا ابن كرونوس، يا أسمى جميع السادة، إن كان مما يسر الآلهة المباركين الآن، أن يعود أوديسيوس الحكيم إلى وطنه، فهيا نبعث هيرميس، الرسول، أرجايفونتيس، إلى جزيرة أوجوجيا، حتى يمكنه الانطلاق بأقصى سرعة، ويعلن الحورية ذات الغدائر الفاتنة، بأننا قررنا نهائيا، أن يعود أوديسيوس، الثابت القلب، إلى وطنه. أما أنا، فسأذهب إلى إيثاكا، عسى أن أتمكن من إثارة حماس ابنه، وأبث الشجاعة في قلبه، كي يدعو الآخيين
Achaeans
الآخيين الطويلي الشعور إلى اجتماع، ويعلن كلمته إلى جميع العشاق، الذين ينحرون باستمرار، خرافه المجتمعة، وأبقاره الملساء
17
ذات المشية المتثاقلة. ولسوف أقوده إلى إسبرطة
Sparta ، وإلى بولوس
الرملية ليتسمع أنباء عودة أبيه العزيز؛ فلو ساعده الحظ في أن يحظى بها ، ربما كانت هناك أنباء طيبة بين الرجال.»
أثينا تتنكر في صورة قائد
هكذا تكلمت، ثم ربطت في قدميها صندليها الجميلين، الخالدين الذهبيين، اللذين اعتادا أن يحملاها فوق مياه البحر، وفوق الأرض الشاسعة، في سرعة الريح. وتناولت رمحها القوي المدبب بالبرونز الحاد، الثقيل، الضخم، المتين، الذي تفني به صفوف المحاربين من الرجال، الجديرة بهم، بصفتها ابنة السيد الأعظم. وبعد ذلك، انقضت هابطة من مرتفعات أوليمبوس
Olympus
واتخذت وقفتها في أرض إيثاكا عند باب أوديسيوس الخارجي، عند عتبة الساحة، ممسكة في يديها رمحها البرونزي، متخذة صورة أحد الغرباء، مينتيس
Mentes
18
قائد التافيين
Taphians ، فوجدت هناك العشاق المتغطرسين يتسلون بلعبة الضامة، وقد جلسوا أمام الأبواب فوق جلود الثيران التي ذبحوها هم أنفسهم. أما الرسل،
19
والأتباع المشغولون، فكان بعضهم يمزج لهم الخمر بالماء في الطاسات، والبعض الآخر يغسل من جديد الأخونة بالإسفنج الكثير المسام، ويعدونها، بينما يقسم آخرون اللحم في كميات وافرة.
تيليماخوس يرحب بأثينا
كان تيليماخوس
Telemachus ،
20
الشبيه بالإله، هو أول من رآها؛ فقد كان جالسا وسط العشاق، حزين القلب، يفكر مليا في أبيه النبيل، عسى أن يعود من مكان ما، بمحض الصدفة، فيغرق أولئك العشاق الرابضين في القصر، فيفوز هو نفسه بالمجد، ويسوس بيته؛ فبينما كان يفكر في تلك الأمور، وهو جالس بين العشاق؛ إذ وقع بصره على أثينا
Athene ، فانطلق من توه إلى الباب الخارجي؛ إذ كان في قرارة نفسه يعتبر من العار أن يترك الغريب ينتظر طويلا عند الأبواب فلما اقترب منها أمسك يدها اليمنى، وتناول منه الرمح البرونزي، وخاطبها بكلمات مجنحة
21
قائلا: «مرحبا بك، أيها الغريب، سوف تحظى في بيتنا بكرم الضيافة. وبعد ذلك، عندما تذوق طعامنا، تخبرنا بما أنت في حاجة إليه.»
ما إن قال هذا حتى قاد الطريق، وتبعته بالاس أثينا
،
22
فلما صار داخل القصر المنيف، حمل الرمح وأسنده إلى عمود مرتفع في حامل الرماح مصقول، حيث أسندت عدة رماح حتى تلك الخاصة بأوديسيوس الجريء القلب. قاد أثينا نفسها، وأجلسها فوق مقعد، بعد أن فرش لها قطعة من منسوج الكتان. لقد كان مقعدا جميلا، فاخر الصنعة، وعند أسفله كرسي صغير للأقدام. وإلى جواره وضع مقعدا لنفسه، مطعما، بعيدا عن الآخرين، العشاق، خشية أن يستاء الغريب من ضوضائهم، فيعاف الطعام عندما يرى نفسه بين قوم متعجرفين، وكذلك لكي يستطيع أن يسأله عن أبيه الغائب، ثم جاءت أمه بماء لغسيل الأيدي، في جرة جميلة من الذهب، وسكبته لهما فوق طست من الفضة، لكي يغتسلا، وسحبت إلى جوارهما خوانا لامعا، وأحضرت ربة البيت الموقرة الخبز، فوضعته أمامها، ومعه كميات وفيرة من الأطعمة اللذيذة، وكانت سخية في إخراجها من مخزنها. وكان نادل
23
يرفع الصحاف ويضع غيرها مليئة بسائر أنواع اللحوم، ووضع إلى جوارهما كئوسا ذهبية، بينما كان الساقي يذرع المكان جيئة وذهابا، يسكب لهما الخمر.
بعد ذلك، دخل العشاق المتغطرسون، وجلسوا صفوفا فوق الكراسي والمقاعد العالية. وراحوا الخدم يصبون الماء فوق أيديهم، وأخذت الإماء يكومن الخبز أمامهم في أسفاط، والشبان يملئون الطاسات بالشراب حتى الثمالة، فمدوا أيديهم إلى المباهج الطيبة الموضوعة أمامهم. والآن بعد أن أشبع العشاق رغبتهم من الطعام والشراب، تحولت قلوبهم إلى أمور أخرى، إلى الغناء وإلى الرقص؛ إذ إن هذه الأشياء هي ما يتوج الوليمة. وجاء خادم فوضع القيثارة الجميلة في يدي فيميوس
،
24
الذي راح يغني على كره منه وسط العشاق، وأخذ يضرب الأوتار بما يتفق ونغمة أناشيده وصوته العذب.
تيليماخوس والغريب ... في حديث
أما تيليماخوس، فتحدث إلى أثينا، ذات العينين اللامعتين، وقد اقترب منها برأسه، حتى لا يسمعه الآخرون، فقال: «أيها الغريب العزيز، هل تغضب مني بسبب ما سأقوله لك؟ يهتم هؤلاء الرجال بمثل هذه الأشياء، القيثارة والغناء، اهتماما بالغا، طالما أنهم يلتهمون طعام غيرهم سحتا، طعام رجل، ربما كانت عظامه البيضاء متعفنة في الأمطار، وهي ملقاة فوق اليابسة، أو تدحرجها الأمواج في البحر. ولو أبصروا به عائدا إلى إيثاكا، لتمنى كل واحد منهم أن يكون أكثر سرعة في الهرب، منه في الثراء بالذهب واللباس. بيد أنه ها قد هلك الآن بقدر مشئوم، ولا سبيل لنا إلى أية راحة. كلا، حتى ولو قال رجل ما، على ظهر الأرض، إنه سيحضر، لقد فات يوم عودته. أما الآن، فتعال، أخبرني، وصارحني الصدق في القول، من من الناس أنت، ومن أين قدمت؟ أين بلدك، وأين أبوك؟ على أية سفينة حضرت، وكيف جاء بك الملاحون إلى إيثاكا؟ ماذا أخبروك عن أنفسهم؟ فما أظنك، قد أتيت إلى هنا ماشيا على قدميك بحال ما. وأخبرني بالصدق عن هذا أيضا، كي أعلم يقينا، هل هذا هو أول مجيء لك إلى هنا، أم أنك، بحق، صديق قديم لبيت أبي؟ فإن أغرابا كثيرين قد جاءوا إلى بيتنا؛ لأن أبي كذلك كان قد ذهب إلى هنا وإلى هناك بين الناس.»
عندئذ ردت عليه الربة، أثينا ذات العينين النجلاوين، بقولها: «إذن بالحق سأخبرك صراحة بكل شيء. إنني مينتيس بن أنخيالوس
Anchialus
الحكيم، وإنني سيد على التافيين
Taphians
محبي المجاذيف. ها أنا ذا قد جئت الآن إلى هنا، كما ترى، بسفينة وملاحين، وإبان سفري عبر البحر القاتم كالخمر، مررت بقوم غريبي اللغة، وأنا في طريقي إلى تيميسي
Temese
بحثا عن النحاس، وها أنا ذا أحمل معي بعض الحديد البراق. إن سفينتي راسية هناك بجانب الحقول بعيدا عن المدينة، في ميناء رايثرون
Rheithron ، أسفل نايون
Neion
الكثيقة الغابات. إننا لنعتبر أنفسنا صديقين، كما كان آباؤنا أصدقاء منذ القدم. نعم، ولو أردت، فاذهب واسأل المحارب العجوز، لايرتيس
Laertes ،
25
الذي يقولون إنه لن يأتي بعد الآن إلى المدينة، بل يظل بعيدا في الحقول يقاسي الآلام، وتخدمه كأمة عجوز شمطاء، تقدم له الطعام والشراب، بعد أن يتملك التعب من أطرافه، وهو يحبو خلال أرض كرومه. والآن، ها أنا ذا قد جئت؛ إذ يقول الناس بصدق إن أباك كان بين قومه، ولكن للأسف، إن الآلهة هي التي تقف في طريق عودته؛ لأن أوديسيوس العظيم لم يهلك بعد على سطح الأرض، ولكنه، كما أعتقد، لا يزال حيا محجوزا فوق البحر الفسيح في جزيرة يحوطها البحر، ويحتجزه قوم قساة، متوحشون، ويمنعونه من المجيء، ربما ضد رغبته الشديدة. بيد أنني أتنبأ لك الآن، حيث قد وضع الخالدون النبوءة في قلبي، وكما أعتقد أنه سيحدث، رغم كوني لست قطعا بعراف ولست خبيرا في التطير، أن أباك لن يغيب طويلا عن وطنه العزيز، حتى لو قيد بأصفاد من الحديد. إنه سيدبر طريق عودته؛ إذ إنه كثير الحيل، ولكن تعال، أخبرني بما سأسألك عنه، وكن صادقا في قولك، كما أنت طويل هذا الطول الفارع. هل أنت حقيقة ابن أوديسيوس نفسه؟ إن هناك شبها عجيبا بين رأسك وعينيك الجميلتين، وبين والدك؛ فقد كنا نلتقي سويا، كثيرا، قبل رحيله إلى بلاد طروادة، التي ذهب إليها أيضا، أشجع الأرجوسيين في سفنهم الواسعة. غير أنني لم أر أوديسيوس منذ ذلك اليوم، كما أنه لم يرني أيضا.»
فأجابها تيليماخوس الحكيم، بقوله: «إذن، بالحق سأصارحك القول بكل شيء، أيها الغريب. تقول أمي إنني ابنه، ولكني لست أعرف هذا، فما من إنسان، حتى الآن، قد عرف سلسلة نسبه من تلقاء نفسه. آه، يا سيدي، ليتني كنت ابن رجل ما مبارك، قد وافته الشيخوخة ضمن ممتلكاته الخاصة، ولكن حيث إنك تسألني الآن عن نسبي، فإنني تبعا لما يقول الناس، قد انحدرت من أتعس رجل بين البشر.»
فقالت الربة، أثينا ذات العينين المتألقتين: «إذن، فمن المؤكد أن الآلهة قد عينت لك نسبا غير خامل لتنحدر منه؛ إذ أرى أن بينيلوبي
penelope
26
قد ولدتك بهذه الصورة التي أنت عليها، ولكن تعال، أخبرني عن هذا، وكن صادقا في قولك، أي وليمة هذه؟ وأي حشد هؤلاء؟ ما حاجتك إلى هذا كله، أهو حفل شراب، أم وليمة عرس؟ لأنه من الجلي أن هذه ليست وليمة قد اشترك فيها كل فرد بنصيب، يبدو لي أنهم يولمون في ساحاتك بعربدة وعجرفة بالغتين. لا بد أن المرء يغضب إذ يرى كل هذه الأعمال المخجلة، وكذلك كل رجل ذي شعور يجد نفسه وسط هؤلاء.»
فأجابها تيليماخوس العاقل، قائلا: «أيها الغريب، بما أنك تسألني حقيقة عن هذا الأمر، فاعلم أن منزلنا كان يوما ما واسع الثراء والمجد، طيلة مدة وجود ذلك الرجل بين أهله. أما الآن فإن الآلهة قد أرادت شيئا آخر بتدبيرها الشرير؛ حيث قد أرغمته على الاختفاء عن الأنظار، وحده من دون الرجال أجمعين؛ فما كنت أحزن لموته، لو أنه قتل وسط رفاقه في بلاد الطرواديين، أو لو أنه مات بين أيدي أصدقائه، عندما أشعل نار الحرب؛ عندئذ، كان جميع جيش الآخيين قد أقام له قبرا، وكان أيضا قد كسب مجدا لابنه يشرفه في الأيام المقبلة، ولكن الواقع، أن أرواح العاصفة
27
قد اكتسحته بعيدا ولم تترك أية أخبار. لقد اختفى عن البصر، وعن السمع، تاركا لي العذاب والبكاء، ولكني لست، بحال ما، أبكيه وحده؛ إذ جلبت علي الآلهة متاعب أليمة أخرى؛ فإن جميع الأمراء الذي يتولون مقاليد الحكم في الجزر - ودوليخيوم
Dulichium
وسامي
Same
وزاكونثوس
Zacynthus
الكثيرة الغابات - والذين يحكمون إيثاكا الصخرية، كل هؤلاء يغازلون أمي ويعيثون فسادا في بيتي، وإنها لا تستطيع رفض الزواج البغيض، ولا تقدر أن تضع حدا لهذا. أما هؤلاء فإنهم بالولائم يستهلكون مواردي، ولن يمضي وقت طويل حتى يجروا الخراب علي أيضا.»
فثارت ثائرة بالاس أثينا، وتحدثت إليه بقولها: «ويحهم! ما أحوجك، حقا، إلى أوديسيوس الذي رحل، كي يقبض بيديه على العشاق الصفقاء! ليته يأتي الآن، ويقف عند الباب الخارجي للمنزل، بخوذة وترس ورمحين، بصورته التي كان عليها عندما رأيته لأول مرة في منزلنا يشرب ويمرح، عند عودته من إفوري
Ephyre ، من بيت إيلوس
Ilus ، ابن ميرميروس
Mermerus ؛ فقد ذهب أوديسيوس إلى هناك أيضا في سفينته السريعة، بحثا عن عقار مميت، كي يدهن به سهامه البرونزية الأطراف، بيد أن إيلوس لم يعطه ذلك العقار؛ إذ كان يخاف الآلهة الخالدين، ولكن أبي أعطاه؛ إذ كان عزيزا لديه بصورة عجيبة. وإنني أقول، ليت أوديسيوس يحضر في مثل تلك القوة، ويقف بين هؤلاء المغازلين، وعندئذ يجدون جميعا في مغازلتهم هلاكا سريعا، ومرارة. وعلى أية حال، فإن هذه الأمور تقع حقا على عاتق الآلهة، سواء أكان سيعود ويصب جام نقمته في ساحاته، أو أنه لن يعود. أما أنت يا بني، فإني آمرك أن تفكر في طريقة تطرد بها أولئك العشاق من الساحة. هيا الآن، هبني أذنك، واستمع إلى كلماتي. ادع سادة الآخيين، إلى الاجتماع غدا، وأعلن كلمتك للجميع، ودع الآلهة تكون شهودك. أما العشاق، فمرهم أن يتفرقوا، كل واحد إلى بيته. وأما والدتك، فإن كان قلبها يأمرها بالزواج، فدعها تعود ثانية إلى ساحة قصر أبيها العتيد؛ حيث يمكنهم هناك إعداد وليمة العرس، ويجهزون الهدايا العديدة
28 - كما يفعل كل من يجري وراء ابنة يهيم بها غاية الهيام. إنني أقدم لك نصيحتي الحكيمة، لو أصغيت إلي، جهز خير سفينة لديك بعشرين مجدفا، واذهب وابحث عن أنباء أبيك، الذي رحل منذ أمد بعيد؛ فقد تشاء الصدف أن يستطيع إنسان ما أن يخبرك عنه شيئا، أو تسمع صوتا من زوس، الذي كثيرا ما يجلب الأنباء إلى البشر. ابدأ أولا بالذهاب إلى بولوس
زوس، واستجوب نسطور
Nestor
29
العظيم، ثم اذهب من هناك إلى إسبرطة، إلى مينيلاوس
30
الجميل الشعر؛ لأنه كان آخر من وصل إلى وطن الآخيين المتدثرين بالبرونز، فلو قيض لك أن تسمع أن أباك لا يزال حيا، وأنه في طريقه إلى الوطن، فعندئذ حقا، رغم كدرك الشديد، لن تستطيع احتمال عام آخر. أما إذا سمعت أنه مات ومضى، فعد إلى وطنك العزيز، واصنع له كومة، وأقم فوقها المراسيم الجنائزية، الكثيرة كما يجب، ثم هب أمك لزوج، وبعد أن تنجز كل هذا وتنتهي منه، فكر مليا في عقلك وقلبك في كيفية قتل أولئك المغازلين في ساحاتك، سواء بالخديعة أو علنا؛ لأنه لا يليق بك الالتجاء إلى الأعمال الصبيانية، ما دمت لست في سن الطفولة. ألم تسمع عن الصيت الذي ناله أوريستيس العظيم بين سائر البشر عندما أخذ بالثأر من قاتل أبيه، أيجيسثوس الغادر، الذي قتل أباه المجيد؟ هكذا أنت أيضا، يا صديقي؛ لأنني أراك لطيفا وفارع الطول. كن شجاعا، كي يتغنى بالثناء عليك كل واحد من الجيل القادم. أما الآن، فإنني ذاهب إلى سفينتي السريعة وإلى زملائي، الذين - على ما أعتقد - هم غاضبون أشد الغضب من انتظارهم إياي. وأما أنت، فاهتم بما قلته لك، وأصغ إليه جيدا.»
عندئذ رد عليها تيليماخوس الحكيم، قائلا: «أيها الغريب، حقا إنك تسدي إلي هذا النصح بنفس طيبة، كوالد لابنه، ولن أنساه قط، ولكن تعال الآن، تمهل، رغم لهفتك إلى الانصراف حتى إذا ما استحممت وأشبعت قلبك حتى نهاية رغبته، تستطيع أن تذهب إلى سفينتك مسرور الفؤاد، وحاملا هدية ثمينة في غاية الروعة، ستكون لك مني متاعا موروثا، أشبه بهدية صديق عزيز إلى صديق عزيز.»
فأجابته الربة أثينا البراقة الناظرين، قائلة: «لا تبقيني الآن أكثر من هذا، عندما أكون تواقا إلى الرحيل، وأية هدية يأمرك قلبك بأن تعطيني إياها، فأعطنيها عندما أعود، كي أحملها إلى بيتي، متخيرا الهدية اللائقة الجميلة، وإنها لسوف تعود عليك بما تستحقه قيمتها.»
انصراف أثينا
هكذا قالت الربة أثينا ذات العينين النجلاوين، وانصرفت طائرة إلى أعلى كما لو كانت طائرا، وقد بثت في قلبه القوة والجرأة، وجعلته يفكر في أبيه أكثر من أي وقت مضى، فلاحظها تيليماخوس في عقله، وتعجب إذ خالها إلها، وفي الحال انطلق بين المغازلين، رجلا شبيها بالآلهة.
أنشودة طروادة لا تروق بينيلوبي
كان المغني المشهور يغني لهم، وهم جالسون صامتين يصغون إليه، وكان يغني أنشودة عودة الآخيين - العودة المؤلمة من طروادة، التي فرضتها عليهم بالاس أثينا. سمعت بينيلوبي العاقلة، ابنة إيكاريوس
Icarius ، الأغنية الرائعة من غرفتها العليا، فهبطت من مقصورتها، نازلة من الدرجات المرتفعة، ولم تكن وحدها، بل كان معها أمتان، تخدمانها، فلما وصلت السيدة الفاتنة إلى العشاق، وقفت بجانب مدخل الساحة المتينة البناء، وقد أسدلت خمارها اللامع على وجهها، ووقفت أمة مخلصة على كل جانب من جانبيها، ثم انخرطت في البكاء، وخاطبت المغني المقدس قائلة: «أي فيميوس، إنك تعرف أغاني أخرى كثيرة تسحر بها أفئدة البشر، عن أعمال الآلهة والبشر التي يتغنى بذكرها المغنون، أنشدهم إحداها وأنت جالس هنا، ودعهم يشربون خمرهم في صمت. أما هذه الأغنية المحزنة، التي تذيب قلبي في صدري، فكف عنها؛ إذ حل بي دون سائر النساء حزن لا يمكن نسيانه. إنه لرأس عزيز جدا ذلك الذي أتذكره بشوق، إنه زوجي، الذي طبقت شهرته الواسعة أرجاء هيلاس
Hellas ،
31
وخلال أرجوس
Argos .»
32
تيليماخوس ينهر أمه
فرد عليها تيليماخوس الحكيم بقوله: «أماه، لم تنهرين المغني الطيب على تقديمه البهجة بالطريقة التي يتأثر بها قلبه؟ لا يقع اللوم على المغنين، ولكني أعتقد أن زوس هو الملوم؛ إذ هو الذي يعطي كل فرد من البشر الذين يعيشون بعرق جبينهم، ما يشاء. ليس في مقدور أحد أن يغضب من هذا الرجل إذا تغنى بما لاقاه الدانيون
Danaans ،
33
من مصير مشئوم؛ فإن البشر يتلذذون أكثر لسماع الأغاني الجديدة على آذانهم كل الجدة. أما أنت، فدعي قلبك وروحك تتحملان الإصغاء، فليس أوديسيوس وحده هو الذي فقد في طروادة يوم عودته، وإنما هلك كثيرون غيره مثله. هيا، اذهبي إلى مقصورتك، وأشغلي نفسك بأعمالك، المنوال والمغزل. وأصدري أمرك إلى خادمتيك بالمثابرة على أعمالهما. أما الكلام فهو من شأن الرجال، لهم جميعا، وبصفة خاصة لي أنا، طالما لي السلطة في البيت.»
بينيلوبي تبكي وابنها يخاطب العشاق
أما وقد تملكها العجب، فقد عادت إلى مقصورتها؛ إذ أدركت في قرارة نفسها القول الحكيم الذي تفوه به ابنها، فصعدت إلى مقصورتها العليا مع أمتيها، ثم أخذت تبكي أوديسيوس، زوجها العزيز، إلى أن ألقت أثينا، المتألقة العينين، النوم اللذيذ فوق جفنيها.
بيد أن المغازلين انفجروا في صخب خلال الساحات الظليلة، وصلى كل واحد منهم، جميعا، أنه يرقد إلى جوار تلك السيدة، ولكن تيليماخوس العاقل كان هو البادئ بالكلام فقال: «أيا عشاق أمي، أيها المنغمسون في وقاحتكم، دعونا نتمتع الآن بلذة الوليمة، ولا حاجة إلى النزاع؛ فإن سماع مغن كهذا الرجل الشبيه بالآلهة في صوته لشيء عظيم، فإذا ما انبلج الصبح، هيا بنا إلى الاجتماع حيث نتبوأ مقاعدنا، كل فرد منا، كي أعلن لكم كلمتي، لترحلوا فورا من هذه الساحات. أعدوا لأنفسكم ولائم أخرى وكلوا من أطعمتكم، وانتقلوا من بيت إلى بيت. أما إذا راق عيونكم، ووجدتكم من الأفضل والأعظم ربحا لكم أن تبددوا موارد رجل آخر دون رادع، فأسرفوا في تبديدها، ولكني سأستنجد بالآلهة الخالدين، عسى أن يتفضل زوس بالانتقام لهذه الأفعال، وعندئذ تهلكون داخل ساحاتي دون كفارة.»
هكذا تكلم، وعض الجميع على شفاههم، ودهشوا لجرأة تيليماخوس في قوله ذاك.
معركة كلامية بين تيليماخوس وعشاق أمه
فرد عليه أنتينوس
Antinous ، ابن يوبايثيس
Eupeithes
قائلا: «أي تيليماخوس، حقا، إن الآلهة أنفسهم يعلمونك كيف تكون رجلا سليط اللسان، وأن تتكلم بجرأة. ليت ابن كرونوس لا يسمح قط بأن يجعلك ملكا على إيثاكا المحاطة بالبحر، الأمر الذي ترثه بحق مولدك.»
فقال تيليماخوس العاقل ردا على قوله: «أي أنتينوس، أيمكن أن تغضب مني لهذه الكلمة التي سأقولها؟ فإني أقبل، حتى هذا بنفس راضية، من يد زوس. أتعتقد حقا أن هذا أسوأ مصير بين البشر؟ كلا. ليس بسيئ، أن تكون ملكا؛ فما أسرع ما يثري بيت المرء، ويحظى بمجد أعظم! وعلى أية حال، هناك كثير جدا من الملوك الآخرين الآخيين، في إيثاكا المحاطة بالبحر، شبان وشيوخ؛ فربما نال هذا المكان أحد هؤلاء، طالما قد مات أوديسيوس العظيم. أما أنا فسأكون سيدا على بيتي وعلى العبيد الذين ربحهم لي أوديسيوس العظيم.»
عندئذ أجابه يوروماخوس
Eurymachus ، ابن بولوبوس
، بقوله: «هيا تيليماخوس، حقا، إن هذا الأمر ليقع على كاهل الآلهة؛ فهم الذين سيقررون من من الآخيين سوف يصبح ملكا على إيثاكا التي يطوقها البحر. أما ممتلكاتك، فلك أن تحتفظ بها لنفسك، ولك أن تكون سيدا في بيتك. ليته لا يأتي ذلك الرجل، الذي يغتصب منك ممتلكاتك بالقوة ورغما منك، بينما لا يزال هناك رجال يعيشون في إيثاكا، ولكني، يا سيدي العزيز، أتوق إلى سؤالك عن ذلك الغريب، ومتى أتى، وما هو البلد الذي قال إنه ينتمي إليه؟ أين يوجد أقاربه وحقول وطنه؟ هل آتي بنبأ عن مجيء أبيك، أم حضر إلى هنا لقاء أمر خاص به؟ كيف نهض، وانصرف فورا؟! إنه لم ينتظر حتى يعرفه أحد، ومع ذلك فلا يبدو عليه أنه كان رجلا زري المنظر.»
فقال تيليماخوس العاقل: «أيا يوروماخوس، لا شك أن الأمل في مجيء أبي إلى الوطن قد ضاع وانقضى. لن أصدق بعد الآن أية أخبار، مهما كان مصدرها، ولن أكترث لأية نبوءة قد تعلمها أمي مصادفة من عراف عندما تستدعيه إلى الساحة. أما هذا الغريب، فصديق لبيت أبي من تافوس
Taphos ؛ فهو يقول إنه مينتيس، ابن أنخيالوس
Anchialus
الحكيم، وهو سيد على التافيين المغرمين بالتجذيف.»
هكذا تكلم تيليماخوس، ولكنه في قرارة نفسه، كان يعرف الربة الخالدة.
العشاق يرقصون وتيليماخوس ينام
انبرى العشاق الآن إلى الرقص وإلى الغناء المرح، وانغمسوا في سرورهم منتظرين مجيء المساء، وبينما هم في مرحهم، إذ حل عليهم المساء الداجي، وعندئذ انصرف كل رجل إلى بيته، ليستريح. أما تيليماخوس، فلما كان مخدعه مشيدا في الساحة الجميلة، في مكان مرتفع يطل على موضع فسيح، فقد ذهب إلى هناك، إلى فراشه، يفكر في جملة أمور شغل بها عقله، وذهبت معه يوروكليا
Eurycleia
34
المخلصة، ابنة أوبس
Ops ، ابن بايسينور
، تحمل مشعلا مضيئا. وكان لايرتيس قد اشتراها بأمواله منذ أمد بعيد، وكانت وقتذاك في مقتبل شبابها، فدفع فيها ما يعادل عشرين ثورا، ويجلها تماما في الساحات كما يبجل زوجته المخلصة، ولكنه لم يضطجع معها قط في حب؛ إذ كان يتحاشى غضب زوجته. كانت هذه هي التي تحمل المشاعل المضيئة لتيليماخوس؛ إذ كانت من دون سائر الإماء، تحبه حبا جما، وكانت تخدمه منذ أن كان طفلا. فتح أبواب مخدعه المتين البناء، وجلس على سريره، وخلع عنه عبايته الناعمة، ووضعها في يدي السيدة العجوز الحكيمة، فطوت هذه العباءة، ومرت عليها بيديها، وعلقتها على مشجب بجانب السرير المثبت بالحبال،
35
ثم خرجت من الحجرة، وأغلقت الباب وراءها بأن جذبته من مقبضه الفضي، ودفعت المزلاج إلى موضعه بالسير، فبات الليل بطوله هناك، وهو ملتف بجرة من الصوف، يفكر في عقله، في الرحلة التي رسمتها له أثينا.
الأنشودة الثانية
تيليماخوس يحتل مقعد أبيه
ما إن لاح الفجر الوردي الأنامل مبكرا، حتى نهض ابن أوديسيوس العزيز من فراشه، وارتدى ملابسه، فعلق حسامه البتار حول كتفه، وربط صندليه الجميلين في قدميه البراقتين، وخرج من مقصورته أشبه بالإله للناظرين. وفي الحال أمر الرسل الجهوريي الأصوات بأن يدعوا الآخيين الطويلي الشعور إلى الاجتماع. وقام الرسل بالنداءات، وسرعان ما احتشد الآخيون، فلما اجتمعوا معا، سار تيليماخوس في طريقه إلى مكان الاجتماع، ممسكا في يده رمحا من البرونز. ولم يكن بمفرده؛ إذ كان يتبعه كلبان سريعان، وكان الجمال الذي أضفته أثينا عليه رائعا، فلما حضر تعجب سائر الحاضرين منه. أما هو فجلس في مقعد أبيه، وأفسح له الشيوخ مكانا.
فاقتربت منه أثينا في صورة مينتور، هيئة وصوتا.
أيجوبتيوس الحزين يتكلم
وعندئذ كان أول من تكلم بينهم هو السيد أيجوبتيوس
Aegyptius ، ذلك الرجل الذي قوست الشيخوخة ظهره وكان على مبلغ من الحكمة لا يمكن وصفها. قام يتكلم الآن؛ لأن ابنه العزيز، المحارب أنتيفوس
Antiphus ، كان قد ذهب إلى إليوس،
1
المشهورة بجيادها، في السفن الواسعة مع أوديسيوس الشبيه بالإله، ولكن الكوكلوب المتوحش قتله في كهفه الفسيح، جاعلا منه وجبته الأخيرة. وكان له ثلاثة أولاد آخرون، أحدهم يورنوموس
Eurynomus ، تحالف مع المغازلين، والاثنان الآخران ظلا يرعيان حقل أبيهما. بيد أنه بالرغم من هؤلاء، لم يستطع نسيان ذلك الابن، فأخذ يخاطب الجمع، وهو يبكيه وقد بخع الحزن نفسه، فقال وسطهم: «أصغوا إلي الآن، يا رجال إيثاكا، واسمعوا الكلمة التي سأقولها منذ اليوم الذي رحل فيه أوديسيوس العظيم، في سفنه الواسعة، لم نعقد اجتماعا قط. والآن من ذا الذي جمعنا معا، من هذا الذي اضطرته الحاجة إلى جمعنا، أهو من الشبان أم من الأكبر سنا؟ هل بلغه خبر ما عن عودة
2
الجيش، فربما سيذيعه علينا جهارا؛ إذ كان أول من علم به؟ أم أن هناك موضوعا عاما آخر يريد أن يتكلم عنه ويخاطبنا فيه؟ إنه يبدو لعيني رجلا طيبا، رجلا مباركا، ليت زوس يحقق له بعض الخير، كل ما يبتغيه في قلبه.»
تيليماخوس يبث المجتمعين شكواه
هكذا تكلم، فسر أوديسيوس العزيز من كلمة الفأل الحسن، ولم يطق الجلوس بعد ذلك، بل تاق إلى الحديث، فاتخذ وقفته بين الجمع، ووضع الرسول بايسينور
، ذو المشورة الحكيمة، الصولجان في يديه، ثم تكلم، مخاطبا الرجل العجوز أولا فقال: «أيها السيد العجوز، ليس ذلك الرجل الذي دعا الجميع سويا ببعيد، كما ستعلم حالا بنفسك. إنه أنا؛ إذ قد خصني الحزن البالغ دون سائر الآخرين، فما سمعت خبرا ما عن عودة الجيش حتى أذيعه جهارا، بصفتي أول من علم به شخصيا، وليس ثمة أي موضوع عام أريد أن أتحدث فيه وأكلمكم عنه. كلا، ليس هناك سوى حاجتي أنا؛ فقد حل الشر بمنزلي بصورة مضاعفة؛ إذ فقدت أولا سيدي
3
الشريف الذي كان ملكا وسطكم يوما ما هنا، وكان لطيف كوالد. والآن يحيق بي شر أعظم بكثير، شر سيخرب بيتي تماما، في الوقت الحاضر، ويحطم حياتي. إن هناك عشاقا يغازلون أمي ضد رغبتها. إنهم أبناء هؤلاء الرجال الذي هم هنا أشرف الناس. إنهم يمتنعون عن الذهاب إلى بيت أبيها إيكاريوس،
4
حتى يمكنه أن يأخذ منهم هدايا الزواج لابنته، ويعطيها لمن يشاء منهم، لمن ينال الحظوة لديه، بل يزحمون منزلنا يوما بعد يوم، ويذبحون ثيراننا وخرافنا وعنزاتنا السمينة. ويعربدون، ويحتسون الخمر الصهباء بطيش، فيحل الخراب بكل هذه الثروة؛ لأنه لا يوجد هنا رجل، يعادل أوديسيوس، ليدرأ الخراب عن المنزل. أما أنا شخصيا فلست مثله كي أدرأه. كلا، قط، فلو حاولت منع الخراب لألفيتموني ضعيفا، وشخصا لا يعرف الشجاعة إطلاقا. ومع كل، فسأدافع عن نفسي حقا، إن كانت لي القوة، فما عادت هذه الأعمال سهلة الاحتمال بحال، وحطم منزلي فوق ما يطيق المرء. ألا تخجلون من أنفسكم، وتراعون جيرانكم الذين يقطنون حولكم، وتخافون غضب الآلهة، لئلا ينقلبوا عليكم، غاضبين من شروركم؟
5
إنني أستحلفكم بزوس الأوليمبي، وبثيميس
Themis ،
6
التي تفض جموع البشر وتجمعهم، احتملوا، يا أصدقائي،
7
واتركوني وشأني، أعاني أحزاني المريرة. إلا إذا كان أبي، أوديسيوس العظيم، قد اقترف الأذى حقدا على الآخيين المدرعين جيدا؛ ولذا أنتم تنتقمون مني، حقدا علي، بإغراء من هؤلاء الرجال. أما أنا فكنت أفضل أن تأكلوا، أنتم أنفسكم، قطعاني وأموالي، فلو كنتم أنتم الذين أكلتموها، لطمعت في التعويض عنها يوما ما، ولطفت بالمدينة هنا وهناك، مطالبا، وملحا في الطب برد ممتلكاتي، حتى أستعيد كل شيء. أما الآن، فلا سبيل إلى علاج الكوارث التي تثقلون بها قلبي.»
أنتينوس يواجه تيليماخوس بخديعة أمه
هكذا تكلم في غضب، ثم ألقى عصاه على الأرض، وانخرط في البكاء، فتحركت الشفقة في قلوب جميع الناس. ولزم سائر الآخرين الصمت، ولم يكن لدى أيهم الجرأة ليرد على تيليماخوس بكلمات حانقة. بيد أن أنتينوس
Antinous
وحده قام يرد عليه، فقال: «أي تيليماخوس، أيها المتبجح، أيها المغالي في جرأته، أي شيء هذا الذي تحدثت به، جالبا العار علينا، ومنتحيا علينا باللائمة؟! كلا، دعني أقول لك، إن العشاق الآخيين ليسوا مخطئين بأية حال من الأحوال. إنما المخطئ أمك العزيزة؛ إذ تفوق سائر النسوة دهاء؛ فهذه هي السنة الثالثة، وسرعان ما ستنقضي الرابعة، منذ أن بدأت تخدع قلوب الآخيين في صدورهم. إنها تمني الجميع بالآمال، وتمد كل رجل بالوعود وترسل لهم الرسل، بينما يهتم عقلها بأشياء أخرى. وقد حاكت تلك الخديعة أيضا بقلبها؛ فقد أقامت في ساحاتها نسيجا كبيرا وانهمكت في النسج، كان النسيج من الخيط الرفيع، وكان غاية في الاتساع، وعندئذ تحدثت إلينا قائلة: «أيها الشبان، يا من تهيمون بي حبا، بما أن أوديسيوس العظيم قد مات، فاصبروا، رغم لهفتكم على الزواج بي حتى أنتهي من نسج هذا الثوب - فلست أريد أن يسفر نسجي عن لا شيء - إنه كفن للسيد لايرتيس، استعدادا لليوم الذي يوافيه فيه أجله المفجع لئلا تغضب مني في البلاد إحدى السيدات الآخيات، لو أنه رقد رقدته الأخيرة بدون كفن، وهو الذي كسب الممتلكات العظيمة.»
هكذا قالت، فوافقت قلوبنا المزهوة. وبعد ذلك، كانت تدأب كل يوم على نسج الرداء العظيم، حتى إذا ما أرخى الليل سدوله، انبرت تفك ما نسجته بالنهار، بعد أن تضع المشاعل إلى جوارها. وهكذا ظلت الحال ثلاث سنوات، استطاعت خلالها، بدهائها، أن تحرم الآخيين معرفة جلية الأمر، وخدعتهم. بيد أنه ما إن تعاقبت الفصول وحلت السنة الرابعة، حتى أخبرتنا إحدى نسائها، وكانت على علم بكل شيء، فقبضنا عليها وهي متلبسة بفك النسيج الرائع؛ ومن ثم أتمته على كره منها، بالقوة؛ لذلك يجيب عليك العشاق هكذا، كي تستطيع إدراك الأمر في نفسك، ويعلمه سائر الآخيين. اطرد أمك، ومرها بالزواج ممن ينشده لها والدها، ومن ترتاح نفسها إليه. أما إذا ظلت لمدة طويلة، تثير حفيظة أبناء الآخيين، وتعلم بهذا في قلبها، حيث إن أثينا قد حبتها وحدها دون سائر النسوة الأخريات، بمعرفة الأشغال اليدوية البديعة، وبالذكاء المفرط، وبالحيل، مما لم يسبق أن عرفنا أن أية امرأة في الزمان الخالي قد علمته، من أولئك الآخيات الجميلات الغدائر، منذ وقت بعيد، أمثال - تورو
Tyro ، وألكميني
Alcmene ، وموكيني
Mycene ، ذات التاج البديع - أولئك اللواتي لم تبلغ إحداهن ما بلغته بينيلوبي من الخديعة والدهاء. ومع كل فإنها لم تحكم تدبير هذا على الأقل؛ إذ سيظل الرجال يلتهمون زادك وممتلكاتك، ما ظلت هي في احتفاظها بالمشورة التي وضعتها الآلهة الآن في قلبها. إنها تجلب لنفسها صيتا عظيما، أما أنت فوا أسفا على ثروتك الطائلة! وأما نحن، فإننا لن ننصرف إلى أراضينا، ولا إلى أي مكان آخر، إلا بعد أن تتزوج من الآخيين ذلك الرجل الذي سترضى به.»
ولاء تيليماخوس لأمه
فأجابه تيليماخوس العاقل بقوله: «أي أنتينوس، لا يمكنني بأية حال من الأحول أن أطرد من أنجبتني وربتني، من البيت. أما أبي، فهو في بلد آخر، سواء أكان حيا أو ميتا. إنه ليشق على نفسي أن أدفع ذلك الثمن العظيم لإيكاريوس، كما يتحتم علي، لو أنني طردت أمي، بمحض إرادتي؛ عندئذ يلحقني شر بالغ على يد أبيها، وتصب علي السماء لعنات أخر؛ لأن أمي وهي تغادر البيت ستتضرع إلى ربات الانتقام المفزعات، كما أن البشر سوف ينحون علي باللائمة؛ وعلى ذلك فلن تخرج من شفتي مثل هذه الألفاظ. أما أنتم فإن أغضبكم هذا، فلتخرجوا من ساحاتي، وتعدوا لأنفسكم ولائم أخرى، آكلين أطعمتكم، ومنتقلين من بيت إلى بيت. وإذا بدا لناظركم أنه من الأفضل والأجدى أن تحطموا حياة شخص دون رادع، فدونكم وما أنت فاعلون، ولكني سأستنجد بالآلهة الخالدين، عسى أن يوافق زوس على الأخذ بالثأر ومجازاتكم بما فعلتم. وعندئذ فلا بد أنكم هالكون داخل ساحاتي بلا كفارة.»
زوس يعضد تيليماخوس بطريقته الخاصة
هذا ما قاله تيليماخوس ، وكرد على قوله، أرسل زوس، الذي يحمل صوته بعيدا،
8
صقرين يطيران من ارتفاع شاهق، من فوق قمة جبل، فانطلقا بسرعة الريح يطيران جنبا إلى جنب، لفترة من الوقت، باسطين أجنحتهما، غير أنهما ما إن صارا فوق قلب الحشد الصاخب، حتى أخذا يدوران هنا وهناك، يرفرفان بأجنحتهما بعنف وسرعة، وراحا يحدجان رءوس الحشد بنظرات يتجلى فيها الموت. وبعد ذلك شرع كل منهما يمزق وجنات وعنق الآخر بمخالبه، ثم انطلقا بعيدا جهة اليمين وسط البيوت ومدينة الرجال، فدهش القوم من ذينك الطائرين بمجرد أن أبصروهما، وأخذوا يفكرون في قلوبهم فيما يتوقعون حدوثه، ثم نهض السيد العجوز هاليثيرسيس
Halitherses ، ابن ماستور
Mastor ، وتكلم وسطهم؛ لأنه كان يفوق رجال عصره أجمعين في معرفة الطيور، وتفسير معاني الحظ، فقام بنية حسنة وخاطب حشدهم قائلا: «يا رجال إيثاكا، أصغوا الآن إلي، واسمعوا ما سوف أقوله لكم، ولا سيما إلى العشاق، أعلن وأذيع هذه العبارات؛ إذ ستقبل عليهم نائبة عظمى؛ لأن أوديسيوس لن يغيب طويلا عن أصدقائه، وعلى ما أعتقد إنه الآن قريب، وسوف يبذر الموت والقدر لهؤلاء الرجال أجمعين. نعم، وأيضا لكثيرين منا غيرهم، ممن يقطنون في إيثاكا الواضحة المعالم، سيكون وبالا بالغا، ولكن قبل أن يحدث هذا بوقت طويل، دعونا نفكر في الكيفية التي نضع بها حدا لهذه الأمور، أو على الأصح، ندعهم هم أنفسهم، يضعون حدا لها؛ إذ هذا هو أفضل طريق لهم الآن. إنني لا أتنبأ كرجل غير مجرب، وإنما بمعرفة أكيدة؛ فإن جميع ما أعلنته لأوديسيوس سيتحقق تماما كما أخبرته عندما أبحر الأرجوسيون إلى إليوس يصحبهم أوديسيوس الكثير الحيل. لقد أعلنت أنه بعد أن يتحمل أوديسيوس متاعب جمة، ويفقد جميع رفقائه، سيعود إلى الوطن في العام العشرين، مجهولا لكل فرد، وللعجب، هذا كله يتحقق الآن.»
يوروماخوس يتحدى ويتنبأ
وعندئذ أجابه يوروماخوس بن بولوبوس، قائلا: «أيها العجوز، قم الآن، وانصرف إلى بيتك وتنبأ لأولادك، حتى لا يعانوا المتاعب في المستقبل. إنني في هذا المضمار أفوقك في التنبؤ. هناك طيور كثيرة، تطير تحت أشعة الشمس جيئة وذهابا، وليست كلها علامة نحس. أما أوديسيوس، فقد هلك في مكان قصي، كما أتمنى لو أنك مثله هلكت معه، فهل لك ألا تثرثر هكذا كثيرا عند إنشادك الأغاني، أو تحث تيليماخوس وهو غاضب، عله يعطيك هدية ما لبيتك. بيد أنني سأصارحك القول، وسأنفذ ما أقول حقيقة. إذا كنت حكيما في حكمة الشيوخ، وخدعت بقولك رجلا أصغر منك سنا، ودفعته إلى الغضب، فإن الأمر بالنسبة له سيكون جد مفجع. ولن يستطيع بحال ما، أن يفعل شيئا بسبب وجود هؤلاء الرجال هنا. أما أنت، أيها العجوز، فسنفرض عليك غرامة يؤلمك أن تدفعها، وعندئذ سيكون حزنك مريرا. وإني لأتقدم بنفسي بهذه النصيحة إلى تيليماخوس، أمام سائر الجمع. عليه أن يأمر والدته بالعودة إلى منزل أبيها، حيث سوف يعدون وليمة زواج، ويجهزون الهدايا العديدة. نعم، كل هذا يجب أن يحدث من أجل ابنة يهيم بها الناس غاية الهيام. وفي اعتقادي أن أبناء الآخيين، قبل هذا، لن يكفوا عن مغازلهم المؤلمة، طالما أننا لا نخاف أي رجل مهما كانت الظروف - كلا، ولا تيليماخوس رغم كل ما قاله - كما أننا لن نلقي بالا إلى أي تنبؤ تعلنه أيها الرجل العجوز، فلن يتحقق منه شيء. وسوف تغدو مكروها أكثر من ذي قبل. نعم، وسوف تلتهم ممتلكات هذا الشاب بطريقة شريرة، ولن يكون لها تعويض قط، حيث إنها تقف حائلا أما الآخيين في موضوع الزواج من تلك السيدة. أما نحن، المنتظرين هنا، يوما بعد يوم فنتنافس بدورنا من جراء ما هي عليه من تفوق، ولا نجري وراء سيدات أخريات، من اللواتي يلقن للزواج بنا.»
تيليماخوس يطالب بالبحث عن أبيه
عندئذ رد عليه تيليماخوس العاقل بقوله: «أيا يوروماخوس، ويا هؤلاء المغازلون الآخرون الأماجد، لن أتوسل إليكم بعد ذلك بخصوص هذا الأمر، ولن أحدثكم عنه بعد الآن؛ لأن الآلهة تعلمه الآن، وكذا جميع الآخيين. وإنما أريد منكم أن تعطوني سفينة سريعة وعشرين رفيقا يقومون بالرحلة من أجلي ، ذهابا وإيابا؛ لأنني سأذهب إلى إسبرطة وإلى بولوس
الرملية، لكي أتنسم الأخبار عن عودة أبي الذي رحل منذ أمد بعيد؛ فقد يكون هناك شخص ما يستطيع أن يخبرني عنه شيئا، أو قد أسمع صوتا من زوس، الذي كثيرا جدا ما يجلب الأخبار للبشر، فإذا سمعت أن أبي لا يزال حيا، وأنه في طريقه إلى الوطن، حق لي إذن، رغم عذابي الشديد، أن أتحمل سنة أخرى. أما إذا بلغني أنه لقي حتفه ومضى، عدت إلى وطني العزيز، وأقمت له كومة، وأديت فوقها الطقوس الجنائزية الكثيرة التي تليق به، ثم أعطيت والدتي لزوج.»
مينتور يهاجم العشاق والمجلس
ما إن أتم حديثه هذا حتى جلس، ونهض في وسطهم مينتور
Mentor
الذي كان زميلا لأوديسيوس النبيل، وعندما رحل بسفنه، عهد إليه بمنزله كله، لكي يطيع الجميع هذا الرجل العجوز، وأن يحافظ على كل شيء سليما، فخاطب حشدهم بحسن نية، وتكلم وسطهم قائلا: «اسمعوا الآن، يا رجال إيثاكا، وأصغوا إلي وإلى كلمتي التي سأتحدث إليكم بها. من الآن فصاعدا، إياكم أن تجعلوا أي ملك ذي صولجان، أن يكون رحيما ورقيقا بقلب مستعد، ولا تجعلوه يهتم بالعدالة في قلبه، بل دعوه يكون صارما باستمرار، وينشر الظلم والجور، طالما لا يوجد بينكم من يتذكر أوديسيوس، الذي كانت تقدسه رعيته كسيدها؛ إذ كان لهم كأب رحيم. وإنني والحق يقال، لا أحقد على العشاق المتغطرسين، لقيامهم بالأعمال العنيفة التي توحي بها عقولهم المملوءة بالشرور، فإنهم يعرضون أرواحهم للخطر؛ إذ يلتهمون بنهم موارد بيت أوديسيوس، الذي كما يقولون، لن يعود بعد الآن. نعم إن ما أغضب له أكثر من أي شيء آخر هو بقية القوم الذي يلزمون الصمت وهم جالسون هكذا، ولا ينطقون بكلمة لوم واحدة تجعل العشاق يكفون، رغم كثرتهم، وقلة عدد هؤلاء.»
ليوكريتوس يفض المجلس
فأجاب ليوكريتوس
Leocritus ، ابن يوينور
Euenor ، يقول: «هيا مينتور، أيها المغموس في شروره، يا من تجول بأفكارك إلى مدى بعيد، هذا الذي قلت؛ لتأمر القوم بأن يوقفونا؟ نعم، صعب عليك أن تخوض معركة حول وليمة مع أناس أكثر منك عددا، فلو جاء أوديسيوس الإيثاكي
9
نفسه، وتاقت روحه أن يطرد السادة العشاق من ساحته، هؤلاء الذين يولمون في بيته، لما أحست زوجته بالسرور لمقدمه، رغم لهفتها الشديدة إليه، ولكنه سيلاقي هنا ميتة بشعة، لو حدثته نفسه بمقاتلة رجال يفوقونه عددا. ما قلت صوابا يا هذا. والآن هيا، أيها الرجال، فليتفرق كل واحد منكم إلى أرضه. أما هذا الشاب فإن مينتور وهاليثيرسيس سيعجلان برحلته؛ لأنهما صديقا منزل أبيه من قديم الزمان. غير أنني أعتقد أنه لن يقوم بهذه الرحلة، بل سيبقى هنا مدة طويلة، ويتلقى الأنباء في إيثاكا.»
هكذا تكلم، وفض الاجتماع بسرعة، فتفرق الجمع، كل واحد إلى بيته، وذهب العشاق إلى منزل أوديسيوس المبجل.
أثينا تسجيب لصلاة تيليماخوس
أما تيليماخوس، فذهب بمفرده إلى شاطئ البحر، وما إن غسل يديه في مياه البحر السنجابية، حتى صلى لأثينا قائلا: «أصغي إلي، يا من جئت أمس إلى منزلنا كإله، وأمرتني بالإبحار في سفينة عبر اليم الكثير الضباب بحثا عن أخبار عودة أبي، الذي رحل منذ زمن بعيد. إن الآخيين يحولون دون كل هذا، ولا سيما المغازلون منهم في وقاحة شريرة.»
إنني من أوفى أصدقاء بيت أبيك، وسأجهز لك بنفسي سفينة سريعة، كما سأذهب معك أنا بنفسي.
قال هذا متوسلا، فاقتربت منه أثينا، في صورة مينتور، هيئة وصوتا، وخاطبته بألفاظ مجنحة، فقالت: «أي تيليماخوس، لن تغدو بعد الآن رجلا وضيعا أو خامل الذهن، لو أن شيئا من روح أبيك المجيدة قد غرس في دمك؛ إذ كان رجل قول وعمل؛ وعلى ذلك، لن تكون رحلتك هذه دون جدوى، ولا دون أن تتحقق. أما إذا لم تكن ابنه، ولا ابن بينيلوبي، فلا آمل قط في أنك ستحقق رغبتك. حقا، إن القليل من الأبناء يشبهون آباءهم. كثيرون هم الأسوأ من آبائهم، أما الأفضل فقليلون، ولكن بما أنك، من الآن فصاعدا، لن تكون رجلا وضيعا أو خامل الذهن، كما أنه لن تنقصك حكمة أوديسيوس كلية، فلا بد أن يكون هناك أمل في إنجازك هذا العمل . والآن، فلتكن إرادة ومشورة العشاق، أولئك الحمقى؛ لأنهم ليسوا، بحال ما، حكماء أو عادلين، كما أنهم لا يعرفون شيئا عن الموت أو الحتف القاتم، القريب منهم حقا، ولا عن أنهم سيهلكون جميعا في يوم واحد. أما أنت، فإن الرحلة التي تنوي القيام بها، لن تتأخر طويلا. إنني من أوفى أصدقاء بيت أبيك، وسأجهز لك بنفسي سفينة سريعة، كما سأذهب معك أنا نفسي. أما الآن فانطلق إلى بيتك، وانضم إلى زمرة المغازلين، وجهز الخزين، وضع كل شيء في أوعية - الخمر في قدور، ودقيق الشعير، الذي هو أهم شيء للبشر في أكياس متينة من الجلد - أما أنا، فسأجوس خلال المدينة، وأجمع بسرعة الرفاق الذين يصحبونك بمحض إرادتهم. وأما السفن فهي كثيرة جدا في إيثاكا المحاطة بالبحر، جديدة وعتيقة، وسأنتقي لك أحسنها، ولسوف نعدها بسرعة، وننزلها إلى الخضم الفسيح.»
أنتينوس يسخر من تيليماخوس
ما إن أتمت أثينا، ابنة زوس، حديثها، حتى هرع تيليماخوس، بعد أن سمع صوت الربة، وسار في طريقه إلى البيت وقد أثقلت الهموم قلبه في صدره، فألفى المغازلين المتعجرفين هناك، يملئون الساحات، يسلخون الماعز ويشوون الخنازير في القاعة. وما هي إلا هنيهة حتى أقبل أنتينوس، يضحك إلى تيليماخوس، وأمسك بيده، وتحدث إليه مخاطبا إياه قائلا: «هيا تيليماخوس، أيها المتبجح، أيها المنطلق في جسارته، اصرف من قلبك كل عمل أو كلام شرير، وإني لآمرك أن تأكل وتشرب كما كنت قبلا تماما. إن الآخيين سوف يمدونك، حقا، بكل هذه الأشياء - السفينة، والمجدفين المنتقين - كي تستطيع الإبحار إلى بولوس المقدسة، لتستطلع أخبار والدك النبيل.»
تيليماخوس يتوعد العشاق
عندئذ أجابه تيليماخوس العاقل بقوله: «أي أنتينوس، لا تظنن أنني سأجلس بحال إلى المائدة وسط زمرتك السكعاء، كي أتناول الطعام بهدوء، وأبتهج مرتاح البال. ألا يكفيكم، أيها المغازلون، أنكم بددتم فيما مضى ممتلكاتي الكثيرة العظيمة، وقت أن كنت صبيا؟ أما الآن، وقد بلغت مبالغ الرجال، واكتسبت المعرفة من وصايا ونصائح غيري، ونمت روحي في داخل جسدي، فإنني سأحاول أن ألقي عليكم حتوفا شريرة، سواء ذهبت إلى بولوس، أو بقيت هنا في هذه الأراضي، فها أنا ذا راحل، ولن تكون الرحلة التي أتحدث عنها عبثا، رغم إبحاري في سفينة رجل آخر، فلا يمكنني أن أكون صاحب سفينة أو مجدفين. وهكذا، أعتقد أنه بدا لك أن الأمر قد أصبح في صالحك أكثر.»
العشاق يولمون ويتهكمون
قال تيليماخوس هذا، وجذب يده من يد أنتينوس دون كبير عناء، بينما كان العشاق مشغولين بالوليمة في شتى أنحاء القاعة، كانوا يسخرون منه ويتهكمون عليه في حديثهم، فقد كان أحد الشبان المتغطرسين يقول: «حقا، إن تيليماخوس ليضع الخطط لقتلنا. إنه سيحضر رجالا من بولوس الرملية، أو حتى من إسبرطة، لمساعدته. إنه يصر على ذلك إصرارا، أو لعله يزمع الذهاب إلى إفوري
Ephyre ، تلك الأرض الغنية، ليحضر العقاقير القاتلة من هناك؛ ليضعها في طاس الخمر، فيقضي علينا جميعا.»
ثم انبرى شاب غر آخر يقول: «لا يدري أحد سواه، أنه ربما وهو في سفينته الواسعة، يمخر عباب اليم، يهلك في تجواله بعيدا عن أصدقائه، كما فعل أوديسيوس تماما؛ ومن ثم يسبب لنا متاعب أكثر؛ إذ سيكون علينا القيام بتقسيم جميع ممتلكاته، فنعطي بيته لأمه ليصبح ملكا لها ولمن سيتزوجها.»
تيليماخوس يتفقد خزائن أبيه
هكذا كانوا يقولون، أما تيليماخوس فهبط إلى خزانة أبيه العالية السقف، وهي حجرة فسيحة بها أكوام من الذهب والبرونز، وصناديق مملوءة بالثياب، وخزين من الزيت ذي النكهة العطرة. كما كانت بها قدور ضخمة من الخمر، المعتقة الحلوة، بها شراب مقدس غير ممزوج، ومرتبة في نظام بطول الحائط، معدة لمقدم أوديسيوس؛ إذ قيض له أن يعود إلى بيته بعد إنجاز مهامه العديدة المحزنة. وقد كانت الأبواب المزدوجة، مقفلة بإحكام، وكانت تقيم هناك، ليل نهار، خادمة تحرس كل شيء بحكمة عقلها، هي يوروكليا
Eurycleia ، ابنة أوبس بن بايسينور
، فاستدعاها تيليماخوس في الحال إلى الخزانة، وكلمها قائلا: «يا مربيتي، أخرجي لي خمرا في قدور، خمرا حلوة منتقاة، من أفضل صنف يلي ما تحفظينه، وأنت دائمة التفكير، لمقدم ذلك الرجل المنكود الحظ، عسى أن يأتي أوديسيوس، سليل زوس ، ولست أدري متى، ناجيا من الموت والأقدار. املئي اثنتي عشرة قدرا، وأحكمي سدها ، جميعا، بالأغطية وعبئي لي دقيق الشعير، في أكياس من الجلد مخيطة جيدا، ولتكن عشرين مكيالا من طحين الشعير، وليكن علم ذلك لك وحدك. وأعدي هذه الأشياء كلها سويا؛ لأنني سآتي لآخذها عندما يقبل المساء، عندما تذهب أمي إلى مقصورتها العليا، وتفكر في الراحة، فإنني ذاهب إلى إسبرطة وإلى بولوس الرملية؛ لأبحث عن أخبار عودة والدي العزيز، عسى أن أتمكن من سماع أي نبأ.»
محاولة يوروكليا إثناء سيدها عن الرحيل
هكذا تكلم، وأرسلت المربية العزيزة يوروكليا، صرخة حادة، وتحدثت إليه بكلمات مجنحة، والدموع تنحدر من مقلتيها، فقالت: «آه يا طفلي العزيز، كيف خطرت هذه الفكرة إلى بالك؟ إلى أين تزمع الذهاب عبر الأرض الفسيحة، يا من لست غير ابن وحيد محبوب غاية الحب؟ لقد هلك أوديسيوس، سليل زوس بعيدا عن وطنه في أرض غريبة، وبمجرد أن ترحل، سيحيك هؤلاء الرجال الشر لك، كي تهلك بالخديعة، ويقسمون كل هذه الممتلكات فيما بينهم. كلا، لا تذهب. ابق هنا وارع ما هو لك؛ لا حاجة بك إلى احتمال المشاق بالتجول عبر البحر المضطرب.»
والدة تيليماخوس لن تعلم
فرد عليها تيليماخوس الحكيم بقوله: «تشجعي يا مربيتي؛ فليست خطتي هذه بغير إذن إله. والآن أقسمي ألا تتفوهي بشيء من هذا إلى والدتي العزيزة، حتى يأتي اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر، أو بعد أن تفتقدني هي شخصيا وتعلم أنني رحلت؛ لئلا تشوه بشرتها الجميلة بالبكاء.»
قال هذا، فأقسمت السيدة العجوز بالآلهة، قسما لا حنث فيه، ألا تقول شيئا. وبعد أن أقسمت وانتهت من القسم أخرجت له في الحال خمرا في جرار، وعبأت دقيق الشعير في أكياس من الجلد محكمة الخياطة، وبعد ذلك، ذهب تيليماخوس إلى الساحة وانضم إلى جماعة المغازلين.
أثينا تنمسخ تيليماخوس
بعد ذلك، قامت الربة، أثينا ذات العينين النجلاوين، بعمل آخر، فذهبت في صورة تيليماخوس، إلى كل مكان بالمدينة، وأخذت تقترب من كل رجل وتقول كلمتها، فتأمره بالاجتماع مع غيره في هدوء بجانب السفينة السريعة. وزيادة على ذلك فقد طلبت من نويمون
Noemon
ابن فرونيوس
المجيد، سفينة سريعة، فوعدها بها بنفس راضية.
والآن غربت الشمس، وخيم الظلام على جميع الطرقات، فسحبت السفينة السريعة إلى البحر، ووضعت فيها سائر المعدات التي تحملها السفن المؤثثة جيدا بالمقاعد، وربطتها عند مدخل الميناء، فاحتشد حولها الجمع العظيم، وراحت الربة تشجع كل رجل.
ثم مينتور أيضا
بعد ذلك قامت الربة، أثينا اللامعة العينين، بعمل آخر، انطلقت في طريقها إلى بيت أوديسيوس المقدس حيث بدأت تسكب النوم اللذيذ على عيون المغازلين، وجعلتهم يتعثرون في سكرهم، ثم راحت تسقط الكئوس من أيديهم، فلم يسعهم إلا أن ينهضوا وينصرفوا إلى مضاجعهم في أنحاء المدينة، ولم يستطيعوا البقاء هناك مدة طويلة؛ إذ كان النعاس يداعب جفونهم. وعندئذ تكلمت أثينا اللامة العينين إلى تيليماخوس، واستدعته إلى القاعة الملكية، بعد أن اتخذت صورة مينتور، هيئة وصوتا، فقالت له: «أي تيليماخوس، إن زملاءك المدرعين جيدا، ليجلسون بجانب المجاذيف، انتظارا لإقلاعك. هلم بنا نذهب إليهم، حتى لا نؤخر رحلتهم كثيرا.»
ما إن قالت بالاس أثينا هذا حتى قادت الطريق بسرعة، وتبعها تيليماخوس خطوة خطوة، فلما هبطا إلى السفينة وإلى البحر، وجدا الرفاق الطويلي الشعور، عند الشاطئ، فتحدث إليهم تيليماخوس القوي
10
العتيد قائلا: «هيا بنا، أيها الأصدقاء، نحضر المؤن؛ إذ كلها معدة الآن في الساحة. وإن والدتي لا تعلم عنها شيئا، ولا حتى الخادمات، ما عدا واحدة فقط هي التي سمعت كلامي.»
تيليماخوس يركب البحر في رحلته الغامضة
ما إن قال هذا، حتى قاد الطريق، وذهب الجميع معه، فأحضروا المؤن، وخزنوا كل شيء في السفينة المكينة المقاعد، كما أمرهم ابن أوديسيوس العزيز، ثم اعتلى تيليماخوس ظهر السفينة، وذهبت أثينا أمامه وجلست في كوثل المركب. وجلس تيليماخوس إلى جانبها، بينما انبرى الرجال يحلون الحبال عن كوثل السفينة، ثم ذهبوا إلى ظهرها، وجلسوا فوق مقاعدها. وعندئذ أرسلت لهم أثينا البراقة العينين، ريحا مواتية، أرسلت ريحا غربية شديدة الهبوب، راحت تزمجر فوق البحر القاتم كالخمر. ونادى تيليماخوس رجاله، وأمرهم بأن يمسكوا حبال السفينة، فلبوا أمره، فرفعوا الصاري المصنوع من خشب الصفصاف، وثبتوه في الفتحة الواسعة، بدعامات أمامية، وعلقوا الشراع الأبيض بحبال مجدولة من جلود الثيران، فملأت الرياح بطن الشراع، وزمجرت اللجة القائمة عاليا حول جؤجؤ السفينة وهي تمضي، فأسرعت السفينة تشق طريقها. وبعد أن انتهوا من تثبيت الحبال في السفينة السوداء السريعة، وضعوا الطاسات مملوءة حتى حافاتها بالصهباء، وسكبوا السكائب للآلهة الخالدين السرمديين، وفي مقدمتهم ابنة زوس النجلاء العينين؛ ومن ثم أخذت السفينة تسير في طريقها الليل بطوله، وطول الفجر.
الأنشودة الثالثة
تيليماخوس يصل إلى بولوس
ما إن تركت الشمس الأفق البديع، حتى ارتفعت في السماء البرونزية، لتهب الضوء للخالدين والبشر على سطح الأرض، مانحة الحب، فوصلوا إلى بولوس، قلعة نيليوس
Neleus
المتينة البناء. وهنا كان القوم فوق شاطئ البحر يقدمون ذبيحة من الثيران السوداء إلى مزلزل الأرض
1
الأدكن الشعور. كان هناك تسع جماعات، يجلس في كل جماعة خمسمائة رجل، وتمسك كل منها بتسعة ثيران معدة للذبح. وعندما فرغوا من تذوق الأجزاء الداخلية، وكانوا يحرقون قطع الأفخاذ للإله، نزل الآخرون فورا إلى البر، ورفعوا شراع السفينة الجميلة وطووه، وأرسوها، ثم غادروها. كذلك خرج تيليماخوس من السفينة، وقادت أثينا الطريق، وتكلمت إليه الربة، أثينا ذات العينين البراقتين، أولا، فقالت: «أي تيليماخوس، لا داعي بعد الآن إلى الخجل قط؛ فقد أقلعت عبر البحر بقصد البحث عن أخبار أبيك، أين طوته الأرض، وأي مصير لاقى. هلم الآن، وانطلق فورا إلى نسطور مستأنس الجياد. دعنا نسأله عن الأخبار التي يحتفظ بها في مكنون صدره. عليك أن تتوسل إليه بنفسك كي يخبرك عن الحقيقة كلها. إنه لا يقول كذبا على الإطلاق؛ لأنه رجل عاقل حقا.»
وألبسته بولوكاستي عباءة جميلة ومعطفا.
فأجابها تيليماخوس بقوله: «أي مينتور، كيف أذهب إليه، وكيف أذهب إليه، وكيف أبدؤه بالتحية؟ إنني ما زلت حتى الآن غير فصيح في عذب الألفاظ. وفضلا عن هذا، فإن الشاب اليافع ليخجل من سؤال من يكبره.»
عندئذ ردت عليه الربة أثينا ذات العينين المتألقتين، قائلة: «يا تيليماخوس، إن بعض الكلام ستتدبره أنت بنفسك، والبعض الآخر ستلقنك إياه السماء؛ لأنك ، كما أعتقد لم تولد وتنشأ بغير مساعدة الآلهة.»
ابن نسطور يرحب بالغريبين
هكذا تكلمت بالاس أثينا، وقادت الطريق بسرعة، ومشى تيليماخوس في أعقاب الربة، حتى بلغا حشد رجال بولوس، وكان نسطور جالسا هناك مع أبنائه، وشعبه حوله يعدون الوليمة، فيشوون بعض قطع اللحم، بينما يضعون قطعا أخرى في السفود. بيد أنهم ما إن أبصروا الغريبين، حتى التفوا جميعا حولهما وأمسكوا أيديهما يحيونهما، وطلبوا إليهما أن يجلسا، فقد اقترب أولا بيزستراتوس
، ابن نسطور، وأخذ كلا منهما من يديه، وأجلسهما إلى المائدة، فوق الفراء الناعمة على رمال البحر، بجانب شقيقه ثراسوميديس
Thrasymedes
وأبيه، وقدم لهما قطعا من اللحم الداخلي، وسكب خمرا في كأس ذهبية، وبعد أن شرب نخب بالاس أثينا ابنة زوس، حاملة الترس، تكلم بقوله: «والآن، هيا، صل أيها الغريب، للسيد بوسايدون؛ فهذا عيده الذي تصادف وقدمت فيه إلى هنا. وبعد أن تسكب السكائب، وتصلي، كما يجب، أعط صديقك أيضا كأس الخمر التي في حلاوة الشهد، حتى يستطيع أن يقدم سكيبة للخالدين؛ إذ إنه كما أعتقد، يصلي لهم أيضا؛ لأن جميع البشر محتاجون إلى الآلهة. ومع كل فهو أصغر منك سنا، نظيري في العمر، وعلى ذلك سأقدم لك الكأس الذهبية أولا.»
أثينا تصلي لبوسايدون
هكذا تكلم، ثم وضع في يدها كأس الخمر العذبة، أما بالاس أثينا، فقد سرت من حكمة الرجل وحسن حكمته، وفي الحال قدم لها الكأس الذهبية أولا، فقامت من فورها وصلت بحماس للسيد بوسايدون، قائلة: «أصغ إلي، يا بوسايدون، يا مطوق الأرض، ولا تتذمر من أن تجيب على صلاتنا بأن تخرج هذه الأعمال إلى حيز التنفيذ. امنح الشهرة لنسطور أولا، ولأبنائه، ثم امنح الباقين جزاء حسنا من أجل هذه الذبيحة المئوية المجيدة، لسائر رجال بولوس، ولتتفضل أيضا فتسمح بعودتي مع تيليماخوس، بعد أن تنجز جميع الأمور التي جئنا إلى هنا من أجلها بسفينتنا السوداء السريعة.»
وتيليماخوس أيضا يصلي
هكذا صلت أثينا، وكانت تحقق كل شيء بنفسها ، ثم قدمت الكأس الجميلة ذات المقبضين، إلى تيليماخوس، فقام ابن أوديسيوس العزيز هذا وصلى مثلها. وبعد أن انتهى الرجال من شواء اللحم الخارجي، وأخرجوه من السفود، قسموا الأنصبة، ثم أدبوا مأدبة فاخرة. وما إن فرغوا من تناول الطعام والشراب، حتى نهض الفارس، نسطور الجيريني
Nestor of Gerenia ،
2
وتكلم وسطهم أولا، فقال: «الآن ولا شك أنسب وقت يحق لنا فيه أن نسأل الغريبين عمن يكونان، طالما أنهما الآن قد نالا كفايتهما من الطعام، فمن أنتما إذن، أيهما الغريبان؟ ومن أين قدمتما عبر ذلك الخضم الواسع؟ أجئتما بمهمة معينة، أم أنكما تهيمان عبر البحر كيفما اتفق؟ أكقرصانين تتجولان مغامرين بحياتيكما، ومحدثين الأذى لأقوام البلاد الأخرى؟»
تيليماخوس يرد على أسئلة نسطور
عندئذ تشجع تيليماخوس العاقل، وأجاب على أسئلة نسطور؛ لأن أثينا نفثت الشجاعة في قلبه بنفسها، كي يسأل عن أبيه، الذي رحل، عسى أن يجد خبرا سارا لدى أولئك القوم، فقال: «أي نسطور، يا ابن نيليوس، يا مجد الآخيين العظيم، إنك تسألنا من أين قدمنا، ولا شك في أننا مخبروك. لقد جئنا من إيثاكا الواقعة خلف نايون
Neion ، ولكن الأمر الذي سأتكلم عنه، يعنيني دون سواي ولا علاقة للناس به. لقد أتيت أتتبع صيت أبي الواسع الانتشار، علني أسمع شيئا عن أوديسيوس العظيم الثابت القلب، الذي كما يقول القوم، قاتل إلى جانبك يوما ما، ونهب مدينة الطرواديين
Trojans ؛ لأننا نعلم أين مات كل رجل ممن حاربوا الطرواديين، ميتته التعيسة، كلهم، ما عدا أوديسيوس، الذي جعل ابن كرونوس ميتته وراء العلم؛ إذ ما من شخص يستطيع أن يحدد بالتأكيد أين مات، هل قهره الأعداء فوق اليابسة، أم في البحر وسط أمواج أمفيتريتي
Amphitrite ؟
3
ومن ثم أجيء أنا الآن، عند ركبتيك، عسى أن تتفضل بإخباري عن ميتته التعيسة، سواء كنت قد شاهدتها عيانا، أو سمعت من شخص آخر عن قصة تجوالاته؛ فإنه دون سائر الرجال قد أنجبته أمه للأحزان. كما أرجو ألا تأخذنك الشفقة بي، بحال ما، فتطمئنني ببعض الألفاظ، بل أريد أن تخبرني بالحقيقة، كيف تصادف لك أن شاهدته. إنني أتوسل إليك، لو أن أبي أوديسيوس النبيل، كان قد عهد إليك ببعض الكلام أو العمل وحققته في أرض الطرواديين، حيث قد قاسيتم الآلام، أيها الآخيون، فلتتذكره بربك الآن. وقل لي الحقيقة بعينها.»
نسطور يستعيد ذكرى ويلات حرب طروادة
عندئذ أجابه الفارس، نسطور الجيريني، قائلا:
تقدمت بولوكاستي الفاتنة، وغسلت تيليماخوس ودهنت جسمه بزيت الزيتون. «أي صديقي، لقد أعدت إلى ذهني الهموم والآلام التي كابدناها، نحن أبناء الآخيين، في تلك البلاد، مع فرط جرأتنا - كل ذلك قاسيناه على ظهر السفينة ونحن نسعى وراء الغنائم عبر اليم الكثيف الضباب، حيث كان يقودنا أخيل، وجميع معاركنا حول مدينة الملك بريام
4
العظيمة - إن الاسف ليملأ الفؤاد؛ فهناك قتل أفضلنا كلنا. هناك يرقد أياس
Aias
5
المحارب، وهناك أخيل
6
وباتروكلوس
7
نظير الآلهة في المشورة، وهناك ابني العزيز، الذي يعادله في القوة، والمنقطع النظير، أنتيلوخوس
Antilochus ،
8
المبرز في سرعة القدم وكمقاتل، كما قاسينا شرورا أخرى علاوة على هذه، من من البشر الفانين يستطيع أن يرويها كلها؟ لا أحد؛ فلو بقيت هنا خمس سنوات أو ستا، وسألت عن جميع الآلام التي عاناها الآخيون الأمجاد هناك، لسئمت قبل أن ننتهي من سردها، ورجعت ثانية إلى وطنك. ظللنا مدة تسع سنوات مشغولين في تدبير خطط خرابهم بشتى ألوان الحيل، ولكن ابن كرونوس لم يكتب لها التوفيق. ولم يجرؤ أي رجل على أن يتحداه في الرأي؛ إذ كان أوديسيوس العظيم يبذ الجميع في شتى صنوف الحيل - إنه أبوك، لو كنت ابنه حقا. إن الدهشة لتتملكني وأنا أنظر إليك؛ لأن حديثك، والحق يقال، يشبه حديثه، وما كان أحد يتصور أن شابا قد يتكلم أمام المجلس هكذا مثله. وإن طيلة المدة التي كنا فيها هناك، لم يتكلم أوديسيوس العظيم بكلام يخالف ما تكلمت به، كما أنه لم يختلف عني في الرأي أو في المشورة؛ إذ كنا ذوي عقل واحد، وكنا ننصح الأرجوسيين
Argives
بالحكمة والمشورة الحازمة، في الكيفية التي يتم بها كل شيء على خير وجه. بيد أنه بعد أن خربنا مدينة بريام الشامخة، ورحلنا في سفننا بعيدا، وجاء إله وشتت شمل الآخيين؛ عندئذ، وعندئذ فقط، دبر زوس في قلبه عودة مؤلمة للأرجوسيين؛ لأن الجميع لم يكونوا كلهم حازمين ولا عادلين؛ ولذلك لقي كثيرون منهم مصيرا مشئوما من جراء غضب الربة، ذات العينين البراقتين، ابنة السيد
9
القوي؛ لأنها تسببت في الشجار بين ولدي أتريوس
Atreus . وعندئذ طلب هذان الاثنان اجتماع سائر الآخيين، دون روية ولا نظام، وقت غروب الشمس - فجاء أبناء الآخيين مثقلين بالخمر - وقالوا كلمتهم، وقالوا لماذا جمعوا الجيش سويا. بعد ذلك أمر مينيلاوس جميع الآخيين أن يفكروا في عودتهم عبر ظهر البحر الفسيح، بيد أنه لم يسر أجاممنون بأيه حال من الأحوال؛ لأنه كان يتوق إلى تأخير الجيش كي يقدم الذبائح المئوية المقدسة، حتى يهدئ من غضب أثينا البالغ، فما أحمقه! إذ لم يكن يعلم أنها لن تتنازل عن غضبها؛ فليس من السهل تحويل عقل الآلهة الخالدين بسرعة؛ ومن ثم وقف هذان يتراشقان بالألفاظ الجافة. غير أن الآخيين المدرعين جيدا قفزوا بصخب عجيب، وراقهما خطط مزدوجة الفعل، فخلدنا تلك الليلة إلى الراحة، وأخذ كل فريق يفكر بدهاء في أذى الفريق الآخر؛ لأن زوس كان يجلب علينا مصيرا مشئوما. ولما أصبح الصباح، أنزل بعضنا سفننا إلى البحر المتألق، ووضعوا فوق ظهورها الأمتعة والنساء ذوات الحزام المنخفض. والحقيقة أن نصف الجيش امتنع وبقي هناك مع أجاممنون بن أتريوس، راعي الجيش، بينما ركب النصف الآخر السفن وجدف مبتعدا، فسرعان ما أبحرت السفن؛ لأن إلها ما هدأ البحر المضطرب. وعندما بلغنا تينيدوس
Tenedos
قدمنا ذبيحة للآلهة، متلهفين إلى بلوغ منازلنا، ولكن مع ذلك، لم يزمع زوس عودتنا، فيا له من رب عنيد، ذلك الذي أثار الصراع الشرير للمرة الثانية. بعد ذلك استدار بعضهم بسفنهم المقوسة ورحلوا، وكذلك السيد أوديسيوس الراجح العقل، الحكيم، مع جماعته، أظهروا تأييدهم لأجاممنون بن أتريوس مرة أخرى، غير أنني هربت مع سائر حشد السفن التي تبعتني؛ إذ كنت أعلم أن الرب يدبر شرا. كذلك هرب ابن توديوس
Tydeus
10
المحب للقتال وحث رجاله. وبعد فترة جاء مينيلاوس، الجميل الشعور ، متأخرا، يقتفي أثرنا، فلحق بنا في ليسبوس
Lesbos ، بينما كنا نتناقش في الرحلة الطويلة ، هل نرحل صوب بحر خيوس
Chios
الوعرة إلى جزيرة بسوريا
، جاعلين خيوس نفسها
11
على يسارنا، أو صوب أرض خيوس عبر ميماس
Mimas
الكثيرة الرياح؛ ومن ثم طلبنا من الرب أن يرينا علامة، فأرانا إياها، وأمرنا أن نشق طريقنا وسط البحر إلى يوبويا
Euboea ، حتى يمكننا النجاة بأقصى سرعة من البلاء. وبدأت ريح عاتية تهب، فجرت السفن بسرعة فوق الطرق المزدحمة، وعندما أقبل الليل، وصلت إلى جيرايستوس
Geraestus . وهناك وضعنا كثيرا من أفخاذ الثيران فوق مذبح بوسايدون، تعبيرا عن شكرنا لسلامة اجتيازنا البحر العظيم. ولم يكن إلا في اليوم الرابع، أن أوقف في أرجوس، جمع ديوميديس
Diomedes
12
ابن توديوس، مستأنس الجياد، سفنهم الجميلة، ولكني مضيت في طريقي صوب بولوس، ولم تكف الريح لحظة واحدة منذ أن بعث بها الرب أولا.»
هكذا جئت يا ولدي العزيز، بدون أنباء، ودون أن أعرف شيئا عن الآخرين؛ أي الآخيين نجا، وأيهم مات. غير أن هناك أنباء سمعتها وأنا في ساحاتنا، سوف تسمعها مني، كما يقتضي الواجب، ولن أخفيها عنك؛ إذ يقال إن المورميدون
Myrmidons ،
13
الذين يثورون بالرماح، جاءوا بسلام، أولئك الذين كان يقودهم البطل الشهير ابن أخيل العظيم الشجاعة، وسالما أيضا جاء فيلوكتيتيس المجيد
ابن بوياس
. كما أحضر إيدومينوس
Idomeneus
14
جميع رفاقه إلى كريت، جميع الذين نجوا من الحرب، ولم يسلبه البحر أحدا منهم. أما ابن أتريوس، فقد سمعت بنفسك، رغم أنك بعيد جدا، كيف جاء وكيف دبر له أيجيسثوس
Aegisthus
مصيرا مؤلما، ولكنه ولا ريب دفع الثمن فظيعا. إنه لجميل أن يترك الرجل ابنا عند وفاته، إذا كان ذلك الابن ينتقم لموت أبيه العظيم من قاتله الغادر، أيجيسثوس. هكذا أنت أيضا، يا صديقي فإنني أراك رجلا بمعنى الكلمة، فارع الطول، فكن شجاعا حتى يمتدحك كل من يولد من الرجال.»
رغبة تيليماخوس في الانتقام من العشاق
فأجاب تيليماخوس الحكيم بقوله: «أي نسطور، يا ابن نيليوس، يا مجد الآخيين العظيم، نعم لقد انتقم ذلك الابن حقا، ولسوف يطير الآخيون بشهرته بعيدا ، كي يعلم بها من سيأتي من البشر، ليت الآلهة تسربلني بمثل هذه القوة ، كي أستطيع الانتقام من أولئك العشاق جزاء إثمهم المشين، أولئك الذين بسبب طيشهم يدبرون لي شرا، غير أن الآلهة، والأسف ملء الفؤاد، لم تخلع علي مثل هذه السعادة، ولا حتى على أبي؛ وعلى ذلك ينبغي لي أن أحتمل مهما كانت الظروف.»
نسطور يشد أزر تيليماخوس
فقال الفارس، نسطور الجيريني: «يا صديقي، طالما أنك تعيد هذا إلى ذاكرتي، وتتكلم عنه، فإنهم يقولون إن هناك مغازلين عديدين يطلبون يد والدتك، وهؤلاء يحيكون الشرور في ساحاتك رغم إرادتك. أخبرني، هل تستباح ممتلكاتك بمحض إرادتك، أم أن القوم يكرهونك في كل مكان إطاعة لرغبة إله؟ من يدري، إذا كان أوديسيوس سيأتي ذات يوم وينتقم منهم على إهانتهم القاسية إما وحده، أو من الجائز مع سائر جموع الآخيين؟ ليت أثينا، الربة المتألقة العينين تختار أن توليك محبتها، كما اهتمت كثيرا، في ذلك الحين بأوديسيوس المجيد في بلاد الطرواديين، حيث قاسينا الآلام، نحن معشر الآخيين؛ لأنه لم يسبق لي أن رأيت الآلهة تبدي حبها سافرا بتلك الصورة، كما فعلت بالاس أثينا معه؛ إذ وقفت إلى جانبه علنا، فلو سرها أن تحبك بنفس الطريقة، واهتمت بك من كل قلبها، إذن لنسي كل فرد منهم الزواج كلية.»
إعجاب تيليماخوس بكلمات مضيفه
عندئذ قال تيليماخوس العاقل: «أيها السيد العجوز، لا أعتقد بأية حال أن كلمتك هذه ستتحقق. إن ما تقوله لشيء بالغ العظمة؛ لذا تتملكني الدهشة، ولا أمل عندي في أنه سيتحقق، حتى ولو أزمعت الآلهة ذلك.»
أثينا تذكر تيليماخوس بقدرة الآلهة على كل شيء
فتكلمت الربة، أثينا ذات العينين النجلاوين وقالت: «أي تيليماخوس، ما هذه العبارة التي أفلتت من بين شفتيك؟ من السهل على الإله الذي انتوى ذلك أن يعيد شخصا إلى وطنه سالما، مهما كانت بعيدا. أما أنا، فإنني أفضل شخصيا، أن أتحمل مشاق جمة عسيرة قبل أن أبلغ وطني وأتمتع بيوم عودتي، على أن أقتل إثر عودتي عند الوطيس، كما قتل أجاممنون بتدبير أيجيسثوس وزوجته. والحقيقة أن الآلهة أنفسهم، لا يستطيعون درء الموت، المقدر لكل فرد ، عن شخص يحبونه، متى حان للمنية المفجعة أن تصرعه.»
تيليماخوس يستجوب مضيفه عن مقتل أجاممنون
فرد عليها تيليماخوس العاقل بقوله: «أيا مينتور، فلتكف عن الحديث في هذه الأشياء رغم ما نحن عليه من حزن، فلا يمكن أن تتم له أي عودة على الإطلاق، كلا؛ فقبل هذا دبر له الخالدون ميتة ومصيرا أسودين. والآن يجب أن أتحرى فأستخير نسطور عن أمر آخر، طالما أنه يعرف الحكمة وكيف يحكم على الشيء، أكثر من جميع الآخرين؛ لأنه كما يقول الناس كان ملكا، ثلاث مرات، على جيل من البشر، وإنه ليتراءى لناظري أشبه بخالد. أي نسطور، يا ابن نيليوس، هل تتفضل بإخباري بالصدق: كيف قتل أجاممنون الواسع السلطان ابن أتريوس؟ أين كان مينيلاوس؟ وأي ميتة دبرها أيجيسثوس المخادع للملك، حيث إنه قتل رجلا يفوقه قوة بمراحل؟ ألم يكن مينيلاوس في أرجوس الآخية، أم أنه كان يتجول في مكان آخر وسط القوم، حتى إن أيجيسثوس تشجع ونفذ جريمة القتل؟»
نسطور يرد على ضيفه ردا شافيا
فأجاب الفارس، نسطور الجيريني قائلا: «إذن فسأخبرك بالحقيقة، يا طفلي. ها أنت ذا من تلقاء نفسك تخمن كيف حدث ذلك الأمر، فإذا كان ابن أتريوس مينيلاوس الجميل الشعور، قد وجد، عند عودته من طروادة، أيجيسثوس حيا في ساحاته، إذن لما كوموا له رابية، حتى لو كان قد مات، بل كانت الكلاب والطيور قد مزقته وهو راقد فوق السهل بعيدا عن المدينة، ولما بكته سيدة ما من الآخيات؛ إذ ما أبشع العمل الذي حاك خيوطه! أما نحن من جهتنا، فقد بقينا هناك في طروادة ننجز مهامنا العديدة، ولكنه دأب على خداع زوجة أجاممنون بمعسول الألفاظ، في مكان منعزل في أرجوس، مرعى الخيول؛ ففي أول الأمر تخلصت كلوتيمنيسترا
Clytemnestra
15
الفاتنة، من العمل غير اللائق؛ إذ كان لها قلب مدرك؛ وعلاوة على ذلك، فقد كان معها أحد المغنين، أحسن ابن أتريوس اختياره لحراسة زوجته، عندما أقلع إلى أرض طروادة. بيد أنه عندما جاء أخيرا قضاء الآلهة، أن تغلب على أمرها، صحب أيجيسثوس المغني إلى جزيرة مهجورة حيث تركه ليكون فريسة للطيور. أما هي، فكما كان قد بيت النية، أخذها إلى بيته. وأحرق كثيرا من قطع لحم الأفخاذ على مذابح الآلهة المقدسة، كما علق لهم كثيرا من التقدمات، من مصنوعات النسيج والأشياء الذهبية، لقيامه بعمل جريء يفوق كل ما كان يرجوه قلبه.
كنا نبحر سويا في طريقنا من طروادة، وكنت أنا وابن أتريوس صديقين حميمين، وعندما بلغنا سونيوم
Sunium
المقدسة، رأس مدينة أثينا، هاجمنا هناك فويبوس أبولو
16
بسهام الرقيقة،
17
وقتل حارس دفة مينيلاوس، وهو ممسك في يديه المجذاف الذي يوجه السفينة المسرعة، ذلك الحارس هو فرونتيس
، ابن أونيتور
Onetor ، الذي كان يبذ سائر قبائل البشر في قيادة السفن عندما يشتد هبوب الرياح العاصفة؛ وعلى ذلك بقي مينيلاوس هناك، رغم أنه كان متلهفا للرحيل؛ لكي يستطيع أن يدفن زميله ويقوم نحوه بالطقوس الجنائزية. بيد أنه عندما وصل بدوره، وهو يخترق البحر القاتم كالخمر، في السفن الواسعة، في مجرى سريع، إلى قمة ماليا
Malea
المنحدرة، حاك له زوس الذي يحمل صوته بعيدا، طريقا مقيتا، وأرسل عليه هبات عنيفات من الرياح العاتيات، فارتفعت اللجج كالطود الشامخ. وعندئذ قسم سفنه إلى قسمين، وأحضر بعضها إلى كريت حيث كان الكودونيون
Cydonians
يعيشون حول مجاري الإياردانوس
Iardanus ، وحيث يوجد الآن جرف أملس ينحدر رأسا نحو البحر، على حدود جورتون
Gortyn
في اليم الكثيف الضباب، حيث تدفع الريح الجنوبية الغربية الأمواج العاتية على الرأس البارز في البحر، على اليسار صوب فايستوس
، فتردها صخرة صغيرة على أعقابها، فإلى ذلك المكان وصلت بعض سفنه، وبعد عناء كبير، نجا الرجال من الهلاك. ومع كل فقد حطمت الرياح السفن على سلسلة الصخور، وتركتها أشلاء. أما الخمس سفن الأخرى القاتمة الحيزوم، فقد حملتها الرياح، وجاءت بها الأمواج إلى مصر؛ ومن ثم كان يهيم هناك بسفنه وسط قوم غرباء اللسان، وجمع رزقا عظيما وذهبا، غير أن أيجيسثوس دبر ذلك العمل المؤسف في نفس هذا الوقت، في وطنه. لقد حكم سبع سنوات على موكيناي
Mycenae
الغنية بالذهب بعد أن قتل ابن أتريوس، فخضع الناس لسلطانه. بيد أنه في السنة الثامنة، عاد أوريستيس
Orestes
العظيم من أثينا، وقتل قاتل أبيه، أيجيسثوس المخادع، الذي قتل أباه المجيد. وبعد أن قتله أقام وليمة جنائزية للأرجوسيين، على أمه المقيتة وأيجيسثوس الرعديد. وفي نفس اليوم قدم إليه مينيلاوس، الماهر في صيحة الحرب، جالبا مع كنوزا كثيرة، بقدر ما استطاعت جميع سفنه أن تحمل.
لذلك يا صديقي، لا تطوف طويلا بعيدا عن وطنك، تاركا ثروتك خلفك، وفي بيتك رجالا آنذاك بتلك الصورة؛ لئلا يقسموا ثروتك جميعها فيما بينهم، ويلتهموها، فتغدو رحلتك غير ذات جدوى، بيد أني أشير عليك بالتوجه إلى مينيلاوس؛ لأنه جاء أخيرا من بلد غريب، من لدن قوم لا يمكن لأحد أن يأمل في قلبه أن يعود من عندهم، أولئك الذين شردتهم الأعاصير ذات يوم في بحر عظيم الاتساع، لا تجتازه الطيور في مدة سنة، ذلك الخضم الواسع المروع، فاذهب الآن في طريقك، بسفينتك ورفقائك. أما إذا رغبت في الذهاب بطريق البر، فها هي عربات وجياد تحت أمرك، وهاك أبنائي في خدمتك، يرشدونك إلى لاكيدايمون
Lacedaemon
18
العظيمة، حيث يقطن مينيلاوس الجميل الشعور. وأنصحك أن تتوسل إليه بنفسك كي يروي لك الحقيقة بعينها. إنه لا يقول الكذب؛ لأنه عاقل حقا.»
أثينا تطالب بتقديم الذبائح
هكذا قال، وغربت الشمس، وأقبلت جحافل الظلام، فتحدثت وسطهم الربة، أثينا ذات العينين المتألقتين، فقالت: «أيها الرجل العجوز، ما أصدقك في رواية هذه القصة تماما! هلم اقطع ألسنة الذبائح، واخلط الخمر، حتى بعد أن تنتهي من سكب السكائب لبوسايدون والخالدين الآخرين، يمكننا أن نفكر في النوم؛ إذ قد حان وقته؛ فها هو النور اختفى الآن وراء الظلمة، وليس من اللائق أن نجلس طويلا في وليمة الآلهة، بل ننطلق في طريقنا.»
نسطور يمنع ضيفيه من الانصراف
ما إن أتمت ابنة زوس حديثها، وأصغى الجميع إلى صوتها، حتى سكب الخدم الماء فوق أيديهم، وراح الفتيان يملئون الطاسات بالشراب إلى حافاتها، وقدموا لسائر الموجودين ساكبين أولا بعض قطرات في الكئوس كسكيبة، ثم وضعوا الألسنة فوق النار، وقاموا يسكبون السكيبات فوقها، وبعد أن سكبوا السكائب، واحتسوا كفايتهم من الخمر، تاقت نفس كل من أثينا وتيليماخوس، الشبيه بالإله، إلى أن يعودا إلى السفينة الواسعة، بيد أن نسطور حاول أن يبقيهما، وتحدث إليهما قائلا: «هل لزوس أن يمنع هذا، وكذا غيره من الآلهة الخالدين، أن تنصرفا إلى سفينتكما السريعة كأنما تنصرفان من لدن شخص بلا أمتعة ومعدم غاية العدم، شخص ليس لديه كميات وافرة من العبايات والأغطية في منزله، حيث يستطيع أن ينام هو وضيوفه عليها بغاية الراحة؟ كلا، إن في بيتي لعباءات وأغطية كثيرة جميلة، يستحيل أن ينام ابن أوديسيوس العزيز هذا فوق سطح سفينة وأنا لا أزال على قيد الحياة، وهناك أطفال من بعدي يرحبون في ساحاتي بمن يأتي من الأغراب إلى منزلي.»
تيليماخوس ينام في ساحة نسطور
عندئذ ردت عليه الربة، أثينا البراقة العينين بقولها: «حسنا تحدثت في هذا، أيها الصديق العجوز، وكان يجدر بتيليماخوس أن يصغي إليك، طالما أن هذا أفضل شيء. غير أنه بينما يتبعك هو لينام في ساحاتك، سأذهب أنا إلى السفينة السوداء، كي أشجع رفاقي وأقص عليهم كل شيء؛ إذ أقر بأنني العجوز حقا بينهم، ومن يتبعون في الصداقة أصغر مني، جميعهم في سن تشبه سن تيليماخوس العظيم القلب. سأرقد هناك بجوار السفينة السوداء الواسعة، هذه الليلة، حتى إذا ما أصبح الصباح ذهبت إلى الكاوكونيين
Cauconians ، العظيمي الهمة، حيث يوجد لي دين مستحق، ليس بالجديد ولا بالقليل. وهل لك أن ترسل هذا الرجل إلى بغيته مع ابنك في عربة؛ حيث إنه قصد منزلك، وتعطيه جيادا، من أسرع جيادك في العدو، وأفضلها في القوة؟»
نسطور يتعرف على الربة أثينا
هكذا قالت الربة، أثينا ذات العينين اللامعتين، وانصرفت من الحضرة في صورة نسر بحري، فذهل الجميع، ودهشوا لهذا المنظر، وتعجب الرجل المسن عندما أبصرت عيناه ما حدث، فأمسك بيد تيليماخوس، وخاطبه بقوله: «هيا صديقي، لا أظن أنك ستبرهن على أنك رجل وضيع أو جبان؛ إذ وأنت لا تزال في صغر سنك تتبعك الآلهة كمرشد لك. الحق يقال، ليست هذه الربة، من سائر أولئك الذين يحتلون مواطنهم فوق أوليمبوس، غير ابنة زوس، تريتوجينيا
Tritogeneia ،
19
العذراء السامية الأمجاد، تلك التي بجلت كذلك أباك النبيل وسط الأرجوسيين. كلا أيتها الملكة، كوني رحيمة، وامنحيني الصيت الحسن، وامنحيه أيضا لأولادي، وزوجتي المبجلة، وفي مقابل ذلك سأذبح عجلة ملساء، عريضة الجبهة، سليمة، لم يسبق لرجل أن وضع على رقبتها النير حتى الآن. سأنحرها لك هنا، وأزين قرونها بالذهب.»
نسطور وأبناؤه يصلون للربة أثينا
هكذا تكلم نسطور الجيريني، في صلاته، وسمعته بالاس أثينا، ثم قام الفارس وقادهم إلى قصره الجميل، قاد أبناءه وأزواج بناته، إلى قصره الجميل، فلما بلغوا قصر الملك المنيف، اصطفوا فوق الكراسي والمقاعد العالية، وعند حضورهم خلط لهم الرجل المسن طاسا من الخمر الحلوة، المعتقة لمدة إحدى عشرة سنة بمعرفة ربة الدار، ففتحتها بأن فكت الرباط المثبت للغطاء، فأمر السيد العجوز بأن يملأ طاس من هذه الخمر، وصلى بحرارة، وهو يصب السكيبة لأثينا ابنة زوس، حامل الترس.
الضيف والمضيف ينامان
غير أنهم بعد أن صبوا السكائب، وشربوا قدر كفايتهم، انصرف كل واحد منهم إلى بيته، ليستريح. أما الفارس، نسطور الجيريني، فطلب من تيليماخوس العزيز، ابن أوديسيوس المقدس، أن ينام هناك على سرير من الحبال المجدولة أسفل البهو الفسيح، وإلى جواره بايسيستراتوس، ذو الرمح الدرداري المتين، وقائد البشر، وكان هو الوحيد في القصر أعزب دون سائر أبنائه. ونام نسطور نفسه في الغرفة الداخلية من القصر السامق، بجواره السيدة زوجته، التي كانت قد أعدت له الفراش.
نسطور يدلي بأوامره في الصباح
وعندما لمع الفجر، الوردي الأنامل، في أفق السماء، مبكرا، نهض الفارس، نسطور الجيريني، من فراشه، وخرج فجلس فوق الأحجار المصقولة أمام أبواب قصره الشامخ، تلك الأحجار الناصعة البياض، والشديدة اللمعان كأنما قد طليت بالزيت.
20
لقد اعتاد نيليوس، نظير الآلهة في المشورة، أن يجلس في قديم الزمان فوق هذه الأحجار، ولكنه قبل الآن أصابه حتفه، فذهب إلى بيت هاديس
Hades ،
21
فأصبح نسطور الجيريني، حامي حمى الآخيين ، يجلس الآن فوقها بدلا منه، ممسكا الصولجان في يده، وقد احتشد أبناؤه حوله في جماعة عندما خرجوا من حجراتهم؛ إخيفرون
Echephron ، وستراتيوس
Stratius ، وبيرسيوس
، وأريتوس
Aretus ، وثراسوميديس
Thrasymedes
شبيه الإله، ثم انضم إلى هؤلاء بعد ذلك السيد بايسيستراتوس، ليكون سادسهم. وصحبوا تيليماخوس الشبيه بالإله، وأجلسوه إلى جوارهم، وكان الفارس، نسطور الجيريني، هو أول من تكلم وسطهم، فقال: «يا أطفالي الأعزاء، هيا أسرعوا، وحققوا رغبتي، حتى يمكنني أن أسترضي أثينا قبل جميع الآلهة، هذه التي جاءت بنفسها واضحة جلية، وجلست إلى وليمة الإله الفاخرة. هلموا الآن، ليذهب أحدكم إلى السهل، ويبحث عن عجلة، كي يحضرها بسرعة، ويسوقها الراعي. وليذهب أحدنا إلى سفينة تيليماخوس الجريء القلب، هذه السفينة السوداء، ويدع سائر رفقائه، تاركا رجلين فقط. كما يذهب آخر إلى الصائغ لايركيس
Laerces ، ويأمره بالحضور إلى هنا، ليكسو قرون العجلة بالذهب. أما الآخرون فليبقوا هنا معنا، ومروا الإماء، داخل القصر بأن يعددن وليمة في ساحتنا المجيدة، ويحضرن المقاعد، وأخشابا لتوضع إلى جانبي المذبح، كما يحضرن ماء صافيا.»
نسطور يعد عجلة ذبيحة لأثينا
ما إن أتم نسطور الجيريني كلامه، حتى أذعن الجميع، كل واحد في العمل الذي وكل إليه، فأحضرت العجلة من السهل، وجاء زملاء تيليماخوس الجريء القلب من السفينة السريعة الجميلة، وأقبل الصائغ، يحمل في يديه عدته البرونزية، أدوات مهنته، وهي عبارة عن سندان ومطرقة وكتيفة متينة الصنع، وراح يصوغ بها الذهب. وأتت أثينا لتتقبل الذبيحة. وبعد ذلك جاء نسطور العجوز، سائق العربات، وأعطاه الذهب، فجهزه الصائغ وكسا به قرون العجلة، كي تبتهج الربة وهي ترى الذبيحة. وساق ستراتيوس وإخيفرون العظيم العجلة من قرونها، وأقبل أريتوس من الحجرة، وأحضر لهم الماء كي يغسلوا أيديهم، في حوض مزين بالأزهار، وكان يحمل في يده الأخرى سلة بها حبوب الشعير، ووقف ثراسوميديس، الثابت في القتال، قريبا منهم ممسكا في يديه فأسا حادة، لينحر العجلة، وحمل بيرسيوس الطاس لأجل الدم. بعد ذلك، بدأ الرجل العجوز، نسطور، سائق العربات، المراسيم الافتتاحية لغسل الأيدي ونثر حبات الشعير، وصلى لأثينا بحرارة، وقص الشعر من الرأس ، كتقدمة أولى، وألقاه في النار.
ابن نسطور ينحر العجلة
وبعد أن فرغوا من الصلاة، ونثر حبوب الشعير، قام في الحال ابن نسطور، ثراسوميديس، الجريء القلب، وذبح العجلة، بضربة من الفأس قطعت عروق العنق، وأرخت قوى العجلة ثم صرخت السيدات الصرخة المقدسة، بنات نسطور، وزوجات أبنائه وزوجته المبجلة يوروديكي
Eurydice ، كبرى بنات كلومينوس
Clymenus ، ورفع الرجال رأس العجلة من فوق الأرض الفسيحة الطرقات، وحملوها، وقطع بايسيستراتوس، قائد الرجال، حلقها. وبعد أن تدفق منها الدم الأسود، وغادرت الروح العظام، أسرع الرجال بتقطيع جسمها، ففصلوا قطع الأفخاذ كلها في ترتيب بديع، وغطوها بطبقتين من الدهن، ووضعوا فوقها لحما نيئا، ثم تقدم الرجل العجوز وأحرقها فوق قطع من الخشب، وسكب فوقها خمرا صهباء، وأمسك الفتيان حوله بشوكات خماسية الشعاب. وعندما نضجت الأفخاذ تماما، وتذوقوا الأجزاء الداخلية قطعوا بقية الأجزاء، ووضعوها في السفافيد وشووها، وهم يمسكون السفافيد المدببة الأطراف بأيديهم.
ابنة نسطور تغسل تيليماخوس وتدهنه بالزيوت
وفي نفس الوقت، تقدمت بولوكاستي
الفاتنة، صغرى بنات نسطور بن نيليوس، وغسلت تيليماخوس ودهنت جسمه بزيت الزيتون، وألبسته عباءة جميلة ومعطفا، وفي الحال خرج من الحمام في صورة أشبه بالخالدين، وذهب وجلس إلى جوار نسطور، راعي الشعب.
وبعد أن انتهوا من شواء اللحم الخارجي، وأخرجوه من السفافيد جلسوا وأولموا، فشرع رجال ذوو مكانة عالية يخدمونهم، ويصبون لهم الخمر في كئوس من الذهب. وعندما أكلوا كفايتهم من الطعام والشراب، قام الفارس، نسطور الجيريني، وتكلم أولا، فقال: «أبنائي، انهضوا الآن، وشدوا إلى العربة جيادا جميلة الأعراف، من أجل تيليماخوس، كي يستطيع القيام برحلته.»
نسطور يمنح ضيفه عربة وجيادا ومؤنا
عندئذ أذعن الأبناء لأمر أبيهم، وفي الحال أحضروا الجياد السريعة، وشدوها إلى نير العربة. وجاءت ربة البيت فوضعت في العربة خبزا وخمرا وطعاما طيبا، مما يأكله الملوك المنحدرون من زوس، ثم اعتلى تيليماخوس العربة الجميلة، وركب إلى جواره بايسيستراتوس بن نسطور، قائد الرجال، وأمسك الأعنة في يديه، وضرب الجوادين بالسوط، ليبدآ السير، فانطلقا يسرعان الجري إلى السهل، تاركين قلعة بولوس الشديدة الانحدار. وهكذا ظلا اليوم كله يجران العربة ويهزان النير الموضوع فوق رقبتيهما.
تيليماخوس يرحل بصحبة بايسيستراتوس
ولما آذنت الشمس بالمغيب، وبدأ الليل ينسكب في جميع الطرقات، وصل الركب إلى فيراي
. وبلغ بيت ديوكليس
Diocles
ابن أروتيلوخوس
Ortilochus ، المنحدر من ألفيوس
Alpheus ، حيث أمضيا الليل، وجلسا إلى وليمة تليق بالضيوف.
وما كاد الفجر يلمع في أفق السماء، حتى وضع النير فوق عنقي الجوادين، وركب الفتيان العربة المزخرفة، وانطلقا بها من الأبواب والرواق الفسيح. وأخذ بايسيستراتوس السوط ولمس به ظهري الجوادين ليحثهما على بدء السير، فأسرعا في طريقهما. وهكذا وصلا إلى السهل الزاخر بالقمح، وبعد ذلك بلغا خاتمة الرحلة وقد حملتهم جيادهم السريعة قدما على أتم وجه، ثم آذنت الشمس بالمغيب، وبدأ الليل ينسكب في جميع الطرقات.
الأنشودة الرابعة
وصول تيليماخوس إلى بيت مينيلاوس
وصل الفتيان إلى بلاد لاكيدايمون
Lacedaemon
الفسيحة، ذات الوديان العديدة الضيقة، وساقا جواديهما إلى قصر مينيلاوس المجيد فوجداه يقيم وليمة عرس لأقربائه الكثيرين من أجل ابنه النبيل وابنته، داخل قصره. أما ابنته فكان سيرسلها إلى ابن أخيل، محطم صفوف الرجال؛ إذ وعد وأقسم في أرض طروادة، أن يعطيها له، والآن كان الآلهة ينفذون زواجهما. وهكذا كان يرسلها بالجياد والعربات، في طريقها إلى مدينة المورميدون العظيمة، التي كان سيدها ملكا عليها. وأما ابنه فكان سيزوجه من ابنة أليكتور
Alector ، فكان يحضرها إلى بيته من إسبرطة؛ لأجل ابنه ميجابينثيس
Megapenthes
الجريء، وفلذة كبده الحبيب الذي أنجبته أمه؛ إذ لم تمنح الآلهة هيلينا، ذرية أكثر من هيرميوني
Hermione ، وليدتها الأولى الحسناء الفاتنة، التي كانت في جمال أفروديتي
1
الذهبية. وهكذا كانوا يولمون في البهو ذي السقف المرتفع، جيران مينيلاوس المجيد، وأقاربه، وكانوا يمرحون، ويغني وسطهم منشد مقدس، على قيثارة. بينما راح «بهلوانان» يتشقلبان وسط الحشد بمجرد أن بدأ المغني أناشيده.
ثم قامت فاغتسلت، وصعدت إلى غرفتها تصلي إلى أثينا.
خادم مينيلاوس يرى الضيفين
عندئذ تقدم الأمير تيليماخوس وابن نسطور المجيد، ووقفا كلاهما عند باب القصر، ومعهما جواداهما، فأقبل السيد إيتيونيوس
Eteoneus ، الخادم النشيط لمينيلاوس المجيد، ونظر إليهما، ثم دخل إلى القاعة يحمل الأنباء إلى راعي الشعب، فاقترب منه، وتحدث إليه بعبارات مجنحة،
2
قائلا: «أي مينيلاوس، يا ربيب زوس، بالباب رجلان غريبان، يشبهان نسل زوس العظيم، ولكن قل لي هل تسمح بأن نخلي عن جواديهما السريعين، أم نردهما ليذهبا إلى مضيف آخر، يستطيع إكرامهما؟»
مينيلاوس يرحب بالغريبين
استشاط مينيلاوس الجميل الشعر، غضبا، وثار في خادمه، قائلا: «ماذا دهاك يا إيتيونيوس؟ لم تكن فيما مضى بهذا الحمق، يا ابن بويثوس
Boethous . إنك لتتكلم الآن كما لو كنت طفلا ينطق حمقا. حقا، لقد أكلنا معا حتى الشبع، في ضيافة غيرنا، قبل أن نجيء إلى هنا، أملا في أن يهبنا زوس بعد ذلك راحة من أحزاننا. نعم، فك النير عن جوادي الغريبين، وأحضرهما بسرعة إلى القصر كي ينالا كفايتهما من الوليمة.»
مينيلاوس يبالغ في تكريم الغريبين
هكذا تكلم مينيلاوس، فأسرع خادمه عبر القاعة، وأمر غيره من الخدم، الذين كانوا مشغولين بأعمالهم، أن يتبعوه، فخلوا عن الجوادين المتفصدين عرقا، من تحت النير وربطوهما في حظيرة الجياد، ووضعوا أمامهما القرطم مخلوطا بالشعير الأبيض، ثم أسندوا العربة إلى حائط المدخل المتألق، وصحبوا الرجلين إلى القصر المقدس. وبينما كان الضيفان يمران وسط قصر الملك، ربيب زوس، ذهلا ودهشا؛ إذ كان هناك ضوء كضوء الشمس أو نور القمر، فوق منزل مينيلاوس المجيد، المرتفع السقف، فأخذا ينظران في عجب ويمتعان أنظارهما بذلك القصر البديع، ثم دخلا إلى الحمامات اللامعة، واغتسلا، وبعد أن غسلتهما الإماء، ودهن جسميهما بالزيت، وألبسنهما عبايتين ورداءين من الصوف، جلسا على مقعدين بجانب مينيلاوس بن أتريوس. بعد ذلك جاءت أمة بماء في جرة جميلة من الذهب ليغسلا أيديهما، وصبته في طست من الفضة، وأتت بخوان وضعته بجوارهما. وأحضرت ربة البيت الموفرة الخبز ووضعته أمامهما، ومعه الكثير من أطايب الأطعمة التي أحضرتها بسخاء من خزينتها. وجاء الخادم بصحاف عديدة مملوءة بشتى ألوان اللحوم وحطها أمامهما، كما وضع جوارهما كئوسا ذهبية، ثم حيا مينيلاوس ذو الشعر الجميل، ضيفيه، بقوله: «تناولا الطعام، وانشرحا صدرا. وبعد أن تنتهيا من العشاء، سنسألكما عن شخصيتكما، من من البشر أنتما؛ فلم يضع فيكما نسل آبائكما، بل أنتم نسل قوم، ملوك ذوي صوالجة، منحدرين من زوس؛ إذ لا يمكن للصعاليك أن ينجبوا أبناء مثلكما.»
قال هذا، وأمسك بيديه قطعا من الشواء، ووضعها أمامهما، حتى قطع سلسلة الظهر الدسمة التي كانوا قد وضعوها أمامه تبجيلا له، قدمها لهما. وهكذا أكل الضيفان من الطعام الشهي الموضوع أمامهما. وبعد أن أكلا وشربا كفايتهما، تكلم تيليماخوس، مخاطبا ابن نسطور، بعد أن قرب رأسه إليه حتى لا يسمع الآخرون حديثهما، فقال: «أيا ابن نسطور، يا أيها العزيز على قلبي، انظر إلى البرونز المتألق في سائر أنحاء هذه القاعات الفسيحة، وإلى لألاء الذهب، والإليكتروم،
3
واللجين، والعاج، لا أظن أن داخل ساحة زوس الأوليمبي إلا من هذه المواد. إني لأرى ثراء عريضا ليس في الإمكان وصفه. إن الدهشة والعجب ليسيطران على نفسي وأنا أقلب ناظري في هذا البذخ.»
4
مينيلاوس يستعرض مصادر ثرائه
بيد أن مينيلاوس، ذا الشعر الجميل، سمع ذلك الحديث، فخاطبهما بكلمات مجنحة قائلا: «أي أطفالي الأعزاء، حقا لا يستطيع أي مخلوق بشري أن ينحدر من زوس؛ إذ إن ساحاته وممتلكاته خالدة. أما البشر، فليس في مقدور أحد منهم أن يتحداني في الثروة أو قد يقدر؛ فإنني وايم الحق، ما حصلت على ثروتي هذه، إلا بعد رحلات وتجوالات طويلة، وآلام كثيرة، ثم أحضرتها في سفني عائدا إلى وطني في العام الثامن، عبر قبرص
Cyprus
وفينيقيا
، كما وتجولت خلال مصر، وذهبت إلى بلاد الإثيوبيين السيدونيين
Sidonians
والإيرمبيين
Erembi ، وإلى ليبيا
Libya
حيث الحملان تولد ولها قرون منذ أول يوم ترى فيه الدنيا؛
5
إذ تلد النعاج هناك ثلاث مرات كل عام؛ وعلى ذلك فما من سيد ولا راع هناك يشعر بأية حاجة إلى الجبن أو إلى اللحم، أو إلى اللبن الحلو؛ لأن القطعان تعطي ألبانها باستمرار، عندما يحلبونها خلال سائر أيام السنة. وبينما كنت أتجول في تلك البلاد، جامعا الكثير من الرزق، قتل رجل أخي غدرا، وعلى حين غرة، بتدبير من زوجته اللعينة. وهكذا يمكنكما أن تريا عدم بهجتي بكوني سيدا على جميع هذه الثروة، وربما تكونان قد سمعتما هذا من آبائكما، مهما كانوا ؛ فقد قاسيت كثيرا جدا، وأنزلت الدمار بمنزل فسيح كان مملوءا بكنوز كثيرة بالغة. كم كنت أتمنى أن أعيش في ساحاتي بثلث هذه الثروة، ولم يهلك أولئك الرجال الذين ماتوا في ذلك الوقت في أرض طروادة الواسعة الفلا، والنائية كثيرا عن أرجوس، مرعى الجياد. الحق أنني كثيرا ما جلست في ساحاتي هذه وبكيتهم وحزنت عليهم جميعا - وفي بعض الأحايين، حقا كنت أهدئ من روعي بالبكاء، ثم أعود فأكف عنه؛ لأن البشر سرعان ما سينالون نصيبهم من النحيب المثبت للعزائم - ومع ذلك فإن حزني عليهم جميعا لم يبلغ مبلغ كمدي على أحدهم؛ إذ يقض مضجعي ويجعلني أمقت الطعام والنوم وأنا أفكر فيه؛ إذ ما من أحد من الآخيين قد عانى ما عاناه أوديسيوس، ذلك البطل الذي لم يكن نصيبه، كما يبدو غير الهم والنصب، وإن حزني عليه لا يمكن نسيانه؛ حيث قد رحل منذ أمد بعيد، ولسنا نعرف عنه شيئا، هل هو لا يزال على قيد الحياة، أم هو في عداد الأموات. وإني لأعتقد أن هناك من يبكيه، العجوز لايرتيس، وبينيلوبي الوفية، وتيليماخوس الذي تركه طفلا حديث المولد في قصره.»
تيليماخوس يبكي ... ومينيلاوس يرمقه
ما أن قال هذا، حتى أثار رغبة تيليماخوس في البكاء حزنا على أبيه، فترك العبرات تتساقط من مآقيه إلى الأرض، عندما سمع اسم أبيه، فرفع طرف عبايته الأرجوانية بكلتا يديه ووضعه على عينيه، فلاحظ مينيلاوس ذلك، وفكر في عقله وقلبه، ما إذا كان يجب عليه أن يتركه يتكلم بنفسه عن أبيه، أو يبادره بالسؤال عنه. وفي كلتا الحالين لا بد له أن يعرف الحقيقة.
زوجة مينيلاوس تتعرف على تيليماخوس
وبينما هو يفكر في الأمر في عقله وقلبه، خرجت هيلينا من حجرتها العبجة العالية السقف، كأنها أرتيميس
Artemis
6
ذات السهام الذهبية وكان بصحبتها أدراستي
Adraste ، فوضعت لها مقعدا جميل الصنع، وأحضرت ألكيبي
Alcippe
طنفسة من الصوف الناعم، وجاءت فولو
phylo
بسفط من الفضة كانت ألكاندري
Alcandre
قد أعطته لها، وتلك هي زوجة بولوبوس
، الذي كان يعيش في طيبة بمصر حيث يوجد في منازل البشر كنوز لا حصر لها، مكدسة هناك تكديسا. لقد أهداها مينيلاوس حمامين من اللجين، وركيزتين وعشرة تالنتات من الذهب. وفوق كل ذلك قدمت لها زوجته هدايا ثمينة جميلة؛ قضيبا مذهبا للغزل، وسلة ذات عجلات من تحتها، وسلة من الفضة ذات حافات مطلية بالذهب، فأحضرتها الخادمة فولو، ووضعتها إلى جانبها، مملوءة بالصوف الناعم المغزول، وكان بها القضيب الذهبي، ملفوف عليه الصوف البنفسجي القاتم، فجلست هيلينا فوق المقعد، تضع قدميها على مسند للأقدام، وفي الحال سألت زوجها عن كل موضوع، ثم قالت: «هل تعرف، يا مينيلاوس، يا ربيب زوس، من يكون هذان الرجلان، هذان الضيفان اللذان شرفا منزلنا؟ هل أخفي ما يجول بخاطري أم أقول الحق؟ كلا، لن أسكت؛ فإن قلبي ليأمرني بالتكلم. لم يحدث قط أن رأيت شخصا شديد الشبه بآخر، سواء أكان رجلا أو امرأة - إن العجب ليتملكني، وأنا أمعن النظر - ما أعظم شبه هذا الرجل بابن أوديسيوس العظيم القلب! إنه دون شك تيليماخوس، الذي تركه ذلك المحارب طفلا حديث الولادة في بيته، عندما قدمتم، معشر الآخيين، من أجلي أنا السيد غير الحيية، أسفل حوائط طروادة، وقد انتويتم في قلوبكم إشعال نار الحرب الضروس.»
مينيلاوس يؤيد كلام زوجته
عندئذ أجابها مينيلاوس الجميل الشعر، قائلا: «وأنا نفسي أيضا، ألاحظ هذا الأمر الآن، يا زوجتي. ألاحظ الشبه الذي لاحظته أنت؛ فهكذا كانت قدماه، وهكذا كانت يداه، ونظرات عينيه، ورأسه بشعره ذاك. وزيادة على ذلك، فما إن ذكرت الآن أوديسيوس، وقصصت جميع المحن والمتاعب التي قاساها من أجلي، حتى ذرف هذا الشاب دموع الحزن من تحت حاجبيه، رافعا عباءته الأرجوانية أمام عينيه.»
بايسيستراتوس يكشف عن شخصية أوديسيوس
فقال بايسيستراتوس بن نسطور: «أي مينيلاوس، يا ابن أتريوس، وربيب زوس، يا قائد الجيوش، حقا إن هذا الشاب لهو ابنه حقا كما تقول. غير أنه شاب حصيف، ويخجله أن يبدأ الكلام عن نفسه في حضرتك ولا سيما في أول مقابلة. وإننا لنسر من صوته كما لو كان صوت إله. وقد أرسلني معه، الفارس، نسطور الجيريني، لأرشده في المجيء إلى هنا؛ لأنه كان مشتاقا لأن يراك، عسى أن تطمئنه بكلمة أو بعمل؛ فما أعظم أحزان الابن في ساحاته عندما يرحل والده، وعندما لا يجد له مساعدا آخر، كما هو الحال الآن مع تيليماخوس؛ فقد ذهب والده ولم يرجع، وليس هناك بين الناس من يمكنه أن يدفع عنه الخراب.»
مينيلاوس يظهر حبه لأوديسيوس
فرد عليه مينيلاوس، الجميل الشعر، بقوله: «يا لغرابة الصدف! فها قد شرف منزلي ابن أخ حبيب كل الحب، من تحمل من أجلي مشاق بالغة. وكنت أظن أنه لو عاد لأكرمته أكثر من سائر الأرجوسيين الآخرين، إن كان زوس الأوليمبي، الذي يحمل صوته نائيا، قد منحنا نحن الاثنين في سفننا السريعة، عبر البحر، ولأعطيته مدينة في أرجوس يقطن فيها، ولشيدت له قصرا، عندما أنقله من إيثاكا، هو وممتلكاته وابنه وجميع شعبه، طاردا سكان إحدى المدن القريبة التي تخضع لسلطاني هنا، ولالتقينا سويا، وعشنا معا هنا، لا يمكن لأي شيء أن يفرق بيننا، وكل منا يبدي محبته للآخر، ومتعته المتبادلة، إلى أن تطوينا سحابة الموت القاتمة. ومع ذلك، فلا بد حسب اعتقادي، أن يكون ذلك الإله، الذي أبى أن يمنح هذا الرجل المسكين دون سواه سلامة العودة، قد ألهبت الغيرة فؤاده، وتأجج الحقد في نفسه.»
7
ليس البكاء على الأموات عارا
ما إن قال هذا حتى تحركت الرغبة في سائر الحاضرين إلى البكاء، فبكت هيلينا الأرجوسية، ابنة زوس، وبكى تيليماخوس، ومينيلاوس بن أتريوس، ولم يستطع ابن نسطور أن يحبس دمعة ترقرقت في عينه؛ إذ كان يفكر في قلبه في أنتيلوخوس
Antilochus ، المنقطع النظير، الذي كان قد قتله ابن الفجر
8
اللامع، المجيد، وبينما هو يفكر فيه، تكلم بعبارات مجنحة، فقال: «يا ابن أتريوس، إن نسطور العجوز يقول دائما إنك تسمو على سائر البشر بحكمتك، ويكرر هذا كلما ورد ذكرك بيننا في ساحاته ونحن نتحدث، كل واحد إلى الآخر، ولكن مهما كان الأمر فأصغ إلي الآن؛ إذ لا يروقني البكاء في وقت العشاء،
9
وزيادة على هذا فإن الفجر الباكر سرعان ما سيكون هنا.
10
ولئن أردت الحق، فإني لا أعتبر البكاء على من مات من الأحياء ولقي حتفه عارا؛ لأن هذا هو الدين الوحيد الذي يجب أن ندفعه لأولئك البشر المساكين، فنقطع الشعر، وندع العبرات تتساقط من فوق الخدود؛ فقد مات أخ لي أيضا، فبكيته رغم أنه أحقر الأرجوسيين، ولربما كنت تعرفه حق المعرفة. أما أنا فلم أقابله قط، ولم أره، غير أن الناس يقولون إن أنتيلوخوس كان يفوق كل من سواه في سرعة القدم، وفي القتال.»
مينيلاوس يرجو الكف عن البكاء
فأجاب مينيلاوس، الجميل الشعر، بقوله: «حقا يا صديقي، لقد نطقت بكل ما يمكن الرجل العاقل أن يقول أو يفعل، وتكلمت بكلام من يكبرك سنا؛ لأنك نشأت من مثل ذلك الأب؛ ولذلك أراك تتكلم بحكمة، فما أسهل علينا أن نعرف نسل ذلك الرجل الذي يغزل له ابن كرونوس خيط الحظ السعيد عند الزواج وعند الميلاد! فهكذا قدر على نسطور في سائر أيام حياته وإلى الأبد، أن يصل هو نفسه إلى شيخوخة موفورة الصحة في ساحاته، وأن يصبح أبناؤه، حكماء وذوي جرأة في استخدام الرمح. والآن، هلم بنا نكف عن البكاء الذي لم يبدأ سوى الآن، وهيا بنا نعود ثانية فنفكر في عشائنا، وندعهم يصبون الماء على أيدينا، حتى إذا ما أصبح الصباح، أخذت أقص على تيليماخوس كثيرا من القصص، كما أنه سيروي لي ما فيه الكفاية.»
ما إن انتهى مينيلاوس من حديثه هذا، حتى تقدم أسفاليون
Asphalion ، وصب الماء على أيديهم، وهو خادم نشيط من خدم مينيلاوس المجيد. وبعد ذلك مدوا أيديهم يتناولون الطعام الشهي الموضوع أمامهم.
هيلينا تعدد مناقب أوديسيوس
عقب هذا، عمدت هيلينا ابنة زوس، إلى وسيلة أخرى؛ فقد قامت في الحال ووضعت عقارا في الخمر التي كانوا يشربونها، ليهدئ أعصابهم من كل ألم وتعب، ويجعلهم ينسون جميع أحزانهم. وبعد أن يمزج هذا في الطاس، فإن كل من يشربه إلى جوفه، لن يذرف دمعة قط على خديه طول ذلك اليوم. كلا لن يبكي حتى ولو مات أبوه وأمه، أو حتى إذا قتل الناس شقيقه أو ابنه العزيز بالسيف البتار أمام عينيه؛ فمثل هذه العقاقير الخادعة، كانت في حوزة ابنة زوس، العقاقير الشافية التي أعطتها إياها بولودامنا
، زوجة ثون
Thon ، وهي سيدة مصرية؛ إذ إن أرض مصر، واهبة الحب، تنبت أعظم كمية من العقاقير، إذا مزج الكثير منها كان شافيا، كما أن الكثير منها ضار، وكل رجل في مصر طبيب، حكيم يفوق سائر الجنس البشري؛ لأنهم من جنس بايون
. والآن، بعد أن وضعت العقار أصدرت أمرها بصب الخمر في الأقداح، وتكلمت ثانية، فقالت: «أي مينيلاوس يا ابن أتريوس، يا سليل زوس، وأنتم أيها الحاضرون هنا، يا أبناء النبلاء إن زوس يهب الخير والشر، تارة لهذا وطورا لذاك؛ لأنه يستطيع أن يفعل كل شيء. اجلسوا الآن في هذه الساحات، وأولموا، وتمتعوا برواية القصص؛ فإنني سأقص على مسامعكم ما يناسب المقام. ليس في مقدوري أن أحكي أو أروي كل شيء، جميع أعمال أوديسيوس، ذي القلب الجريء الراسخ، ولكن ما فعله ذلك الرجل العتيد وقاساه في أرض الطرواديين، حيث عانيتم، أنتم أيها الآخيون، الأهوال! فشوه جسمه بكدمات وحشية، وألقى حول كتفيه عباءة بالية، وعلى هذه الصورة دخل مدينة الأعداء الفسيحة الطرقات في هيئة عبد، ثم تنكر في صورة شخص آخر، شحاذ، ولم يكن هو بمثل تلك الصورة في سفن الآخيين. في مثل هذه الهيئة دخل مدينة الطرواديين، ولم يكونوا جميعا سوى أطفال. وكنت أنا الوحيدة، التي عرفته في ذلك التنكر، وسألته الخبر، بيد أنه حاول أن يتحاشاني بدهائه. ومع ذلك كنت أغسل جسمه وأدهنه بالزيت، وبعد أن ألبسته الرداء، وأقسمت يمينا لا حنث فيها ألا أكشف أمره بين الطرواديين على أنه أوديسيوس، قبل أن يصل إلى السفن السريعة والأكواخ، وعندئذ أخبرني أخيرا بغرض الآخيين كله. وبعد أن قتل كثيرا من الطرواديين بسيفه الطويل، عاد إلى حشد الأرجوسيين يحمل إليهم أنباء كثيرة. وبعد ذلك شرعت السيدات الطرواديات الأخريات ينتحبن ويولولن عاليا، غير أن روحي كانت سعيدة؛ إذ كان قلبي يتلهف إلى العودة إلى وطني، وتأوهت نادمة على العمى الذي أعطتنيه أفروديتي عندما قادتني من وطني العزيز إلى طروادة، تاركة طفلي، وهاجرة حجرة عرسي، وزوجي الذي لم ينقصه شيء، سواء في الحكمة أو في الجمال.»
مينيلاوس يدلي بمزيد من الأقوال الطيبة
عندئذ رد عليها مينيلاوس، ذو الشعر الجميل، بقوله: «حقا، إن كل ما قلته صحيح يا زوجتي؛ فمنذ حين حضرت لاستشارة كثير من المحاربين ومعرفة أفكارهم، ثم سافرت خلال تلك الأرض الواسعة الفلا، ورأيت الكثير من الرجال، إلا أنني لم يقع بصري على رجل قط مثل أوديسيوس، الراسخ القلب، ماذا فعل، وماذا قاسى، ذلك الرجل العتيد، في داخل الحصان المنحوت،
11
الذي كنا نجلس فيه، نحن جميع رؤساء الأرجوسيين، حاملين الموت وسوء المصير للطرواديين! وبعد ذلك جئت إلينا، ولا بد أن يكون ذلك بأمر إله ما، ممن أرادوا أن يمنحوا المجد للطرواديين، وكان دايفوبوس
Deiphobus ،
12
الشبيه بالإله، يتبعك في طريقك، فدرت ثلاث مرات حول الكمين الأجوف، وأخذت تعجمين عوده بلمستك، ورحت تنادين بصوت جهوري رؤساء الدانيين بأسمائهم، محاكية صوت زوجات جميع الأرجوسيين. وكنت جالسا أنا وابن توديوس وأوديسيوس العظيم في الوسط، وسمعنا نداءك، وكنا، نحن الاثنين، تواقين للنهوض والتقدم، أو بالأحرى لأن نجيب عليك فورا من الداخل، غير أن أوديسيوس منعنا وأوقفنا بالرغم من لهفتنا إلى ذلك؛ عندئذ لزم جميع الآخيين الآخرين الصمت، ما عدا أنتيكلوس
Anticlus
وحده؛ إذ كان يتوق إلى الكلام والرد عليك، ولكن أوديسيوس، أغلق فمه بشدة بيديه القويتين، وبذا أنقذ جميع الآخيين، وظل ممسكا به هكذا، إلى أن جاءت بالاس أثينا وأخذتك بعيدا.»
تيليماخوس يبدي رغبته في النوم
فقال تيليماخوس الحكيم: «أي مينيلاوس يا ابن أتريوس، ويا سليل زوس، وقائد الجيوش، إنه لأشد إيلاما، أن شيئا من هذا كله لم يمنع عنه الهلاك المحزن، بحال من الأحوال، رغم أن قلبه في داخل جسمه كان من حديد. والآن، هلم، ابعث بنا إلى الفراش، حتى إذا ما داعب النوم اللذيذ عيوننا، استطعنا أن نستريح ونأخذ متعتنا .»
هكذا تكلم، فأمرت هيلينا الأرجوسية خادماتها بأن يضعن أسرة تحت الشرفة، ويفرشنها بالملاءات الأرجوانية، ويبسطن فوقها الألحفة، ثم يضعن فوق هذه عبايات من الصوف كي يلبسها الضيفان، فانصرفت الإماء من القاعة، يحملن المشاعل في أيديهن، وأعددن الفراش، ثم قاد خادم الضيفين إلى مكان الفراش،
13
حيث ناما هناك في ساحة القصر الأمامية، الأمير تيليماخوس وابن نسطور المجيد. أما ابن أتريوس فقد رقد في الحجرة الداخلية من قصره المنيف، وإلى جواره رقدت هيلينا، ذات الرداء الطويل، والمنقطعة النظير بين النساء.
مينيلاوس يسأل تيليماخوس عما يطلب
ما إن لمع الفجر، الوردي الأنامل، مبكرا في أفق السماء، حتى استيقظ مينيلاوس، الماهر في صيحة الحرب، ونهض من فراشه، فارتدى ملابسه، وعلق حسامه البتار على كتفه، ولبس صندليه الجميلين في قدميه البراقتين، وخرج من حجرته يتلألأ أشبه بإله للناظرين، ثم أخذ مجلسه بجانب تيليماخوس، وبدأ الحديث، مخاطبا إياه بقوله: «أيها الأمير تيليماخوس، أي حاجة جاءت بك إلى هنا، إلى لاكيدايمون العظيمة، عبر ظهر البحر الفسيح؟ ألموضوع عام قدمت، أم لأمر خاص بك؟ صارحني القول وأخبرني بالحقيقة.»
تيليماخوس يسأل عن أبيه
عندئذ رد عليه تيليماخوس العاقل، قائلا: «أي مينيلاوس؛ يا ابن أتريوس، ويا سليل زوس، وقائد الجيوش، اعلم أنني قدمت إلى هنا، عسى أن تستطيع إخباري بما تعلمه من أنباء والدي. إن بيتي ليسلب، وضياعي الغنية لتخرب، وإن منزلي ليعج بجمع من الرجال الأعداء لا يكفون أبدا عن ذبح أغنامي الكثيرة، ونحر أبقاري السمينة، ذات المشية المتثاقلة. إنهم يغازلون والدتي بغطرسة وعجرفة وصفاقة؛ ومن ثم جئت الآن إليك، متوسلا إلى ركبتيك، علك تكون على استعداد لأن تنبئني عن مصيره المحزن، والميتة المشئومة التي لاقاها، سواء رأيتها مصادفة بعيني رأسك، أو تكون قد سمعت بها من شخص آخر، يعرف قصة تجوالاته؛ فقد حزنت عليه أمه حزنا لم تحزنه أم على ابنها من قبل. ولا تأخذنك شفقة ولا عطف فتلجأ إلى العبارات المطمئنة المهدئة، بل قل الحقيقة كيف استطعت أن تراه. إنني أتوسل إليك وأستحلفك بأبي أوديسيوس النبيل، عسى أن يكون قد وعدك بشيء، سواء كان قولا أو عملا، وبر بوعده لك في أرض الطرواديين حيث لقيتم الأحزان، أيها الآخيون، إلا ما قلت لي الحقيقة، متذكرا ذلك الشيء الذي حققه لك.»
مينيلاوس يدلي بمعلوماته
عندئذ تحدث إليه مينيلاوس، الجميل الشعر، وقد انتابته حالة من السخط الشديد، فقال: «تبا لهم؛ لأنهم يتوقون إلى الرقاد في فراش رجل جريء القلب حقا، وإنهم لجبناء رعاديد، شأنهم في ذلك شأن الظبية، تذهب إلى عرين الأسد في الغابة، لكي تتخذ منه فراشا لنوم صغارها الحديثي المولد، وتنطلق ترتفع فوق المنحدرات الجبلية الوديان المعشوشبة بحثا عن المرعى، فيعود الهزبر إلى عرينه ويفتك بصغيريها
14
شر فتك. هكذا أيضا سوف يفتك أوديسيوس بأولئك الرجال فتكا ذريعا. أتمنى، أيها الأب زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، أن يأتي أوديسيوس بمثل القوة التي كان عليها ذات مرة في ليسبوس البديعة التأسيس، عندما قام وصارع فيلوميلايديس
في مباراة، فطرحه أرضا في عنف بالغ فسر لذلك جميع الآخيين، فيقف وسط أولئك العشاق المغازلين، وعندئذ سوف يجدون هلاكا سريعا ومرارة في مغازلتهم. أما فيما يختص بالأمر الذي سألتني عنه وتوسلت إلي فيه، فلن أقول سوى الحق، ولن أحيد عنه، ولن أتحدث بغير الواقع، كما أنني لن أخدعك، بل سأخبرك بكل ما أخبرني به عجوز البحر، لا أخفي أو أخبئ عنك منه شيئا واحدا.
في مصر،
15
تلك البلاد التي أشتاق إلى الرحلة فيها، ولكن الآلهة منعتني الذهاب إليها؛ لأنني لم أقدم لها ذبائح مئوية تحقق الغرض، بينما ترغب الآلهة في أن يتذكر البشر مطالبهم دائما. هناك جزيرة في البحر الصاخب، تجاه مصر، يطلق عليها الناس اسم فاروس
، تبعد بقدر ما تسيره السفينة السريعة في يوم كامل، عندما تهب من خلفها ريح قوية. هناك في الداخل ميناء ذو مرسى بديع، منه ينزل الرجال السفن الرائعة الصنع إلى البحر، بعد أن يكونوا قد أخذوا مئونتهم من الماء الأسود.
16
هناك احتجزتني الآلهة مدة عشرين يوما، ولم تتحرك، بحال ما، الرياح التي تهب فوق ظهر البحر العريض. والآن كان لا بد من انتهاء جميع مؤنتي، وكذا قوة رجالي، لولا أن أحد الآلهة أشفق علي وأنقذني، ذلك الإله هو أيدوثيا
Eidothea ، ابنة عجوز البحر العتيد بروتيوس
؛
17
إذ تحركت الشفقة في قلبها نحوي، أكثر من أي إله آخر، فالتقت بي وأنا أتجول وحدي بعيدا عن رفاقي، الذين كانوا يهيمون على وجوههم باستمرار في الجزيرة يصطادون السمك بالصنانير المعقوفة؛ إذ برح الجوع ببطونهم، فاقتربت مني، وتحدثت إلي قائلة: «ألست، أيها الغريب غاية في الحمق، وخمول الفهم، أم أنك تتلكأ قصدا، بمحض إرادتك، وتجد لذة في مقاساة الآلام؟ إن لك مدة طويلة جدا، وأنت محجوز في هذه الجزيرة لا تستطيع أن تجد أي مخرج للخلاص،
18
بينما تزداد قلوب أصحابك وهنا على وهن.»
هكذا تكلمت، فأجبتها قائلا: سوف أفصح وأخبرك مهما كانت درجتك بين الربات؛ فإنني لست محبوسا هنا، بمحض رغبتي قط، بيد أنني لا بد أن أكون قد أخطأت في حق الخالدين، الذين يحتلون السماء الفسيحة الأجواز، ولكن هل يمكنك أن تخبريني؛ لأن الآلهة تعرف كل شيء من الآلهة يقيدني هنا، وقد منعني المضي في طريقي؟ وحدثيني عن عودتي، وكيف يمكنني أن أعبر ذلك الخضم الزاخر.
هكذا، قلت لها، وفي الحال أجابت الربة الفاتنة، بقولها: إذا كان الأمر كذلك، فحقا، سأخبرك، أيها الغريب، في صراحة، بكل شيء. هناك رغبة في أن يأتي إلى هنا عجوز البحر المعصوم من الخطأ، الخالد بروتيوس المصري، الذي يعرف قرار كل بحر، وخادم بوسايدون. إنه كما يقولون، أبي الذي أنجبني، فإذا أمكنك، بطريقة ما، أن تكمن له وتقبض عليه، فإنه سوف يخبرك عن طريقك، وعن طول المسافة التي ستقطعها في رحلتك، وعن عودتك، وكيف تستطيع الإبحار عبر الخضم الزاخر، كما أنه سوف يخبرك، يا سليل زوس، لو شئت، عما حدث في ساحاتك من خير أو شر، وأنت غائب في طريقك الطويل المفجع.
هكذا تكلمت الربة، فأجبتها بقولي: وهل تتفضلين الآن، بأن تضعي لي خطة أكمن بها في انتظار ذلك العجوز المقدس، خشية أن يراني قبل أن أمسك به ، أو ينتبه لغرضي فيتحاشاني؛ إذ من الصعب على إنسان أن يسيطر على إله .
ما إن قلت هذا، حتى قالت الربة الجميلة: إذن، حقا، أيها الغريب، أقول لك كل شيء في صراحة. عندما تصل الشمس إلى كبد السماء، يتلهف عجوز البحر، المعصوم من الخطأ، إلى الخروج من البحر عندما تهب الريح الغربية، مختفيا وسط الأمواج القائمة، وعندما يظهر، يستلقي في الكهوف الخاوية لينام، ومن حوله تنام عجول البحر، سلالة ابنة البحر الحسناء، في جموع كثيرة بعد أن تخرج من المياه السنجابية. وما أمر الرائحة التي تتنفسها هذه من أعماق البحر! فعندما يبزغ الفجر، سآتي وأقودكم إلى هنا، وأجعلكم ترقدون جميعا في صف؛ لأنه يجب عليك أن تختار ثلاثة من رفاقك، وتنتقيهم بعناية، من خيرة من تختارهم في سفنك المتينة المقاعد. وسوف أخبرك بجميع حيل ذلك العجوز السحرية. في أول نزوله إلى الجزيرة، سوف يعد العجول، ويحصيها، وعندما يأمرها بالانصراف جميعا، خمسة خمسة، ثم ينظر إليها وهي تأخذ أماكنها، يذهب وسطها ويرقد، كأنه راع وسط قطعان الأغنام، فما إن تبصرونه قد رقد ليستريح حتى تتشجعوا وتملئوا قلوبكم بالقوة والجرأة، فتنقضوا عليه، وتمسكوا به هناك، رغم مقاومته وما يبذله من جهد جهيد للفرار؛ لأنه سوف يحاول الإفلات منكم، وسوف يتشكل بهيئة جميع الأشياء التي تتحرك على ظهر البسيطة، وفي الماء، وبهيئة النار المستعرة العجيبة، ولكن بالرغم من كل ذلك، يجب عليكم أن تمسكوا به دون أي تراخ، وتضاعفوا من قبضتكم عليه أكثر فأكثر. وأخيرا، عندما يبدأ الكلام من تلقاء نفسه، وهو في الصورة التي رأيته عليها وهو راقد ليستريح، ويسألك ماذا تريد، عندئذ، أيها البطل، كف عن القبض عليه، وأطلق سراحه، واسأله عمن من الآلهة غاضب منك، وكذا عن طريق عودتك، وكيف يمكنك أن تبحر عبر اليم الفسيح.
ما أن انتهت الربة من حديثها ذاك حتى قفزت تحت أمواج البحر الصاخب، أما أنا فذهبت إلى حيث كانت تقف سفني فوق الرمال، وأخذ عقلي يفكر في أمور كثيرة غامضة، في أثناء ذهابي إلى هناك . غير أنه بعد أن هبطت إلى السفينة، وإلى البحر، وأعددنا عشاءنا، ولفنا الليل السرمدي، استلقينا لنستريح فوق شاطئ البحر، وما كاد الفجر المبكر الوردي الأنامل يهتك حجاب الظلام،
19
حتى انطلقت أسير بطول شاطئ البحر، الفسيح الطرقات، وأنا أصلي إلى الآلهة في حماس، وقد صحبت ثلاثة من رفاقي، كنت أثق بهم غاية الثقة في كل مغامرة.
في ذلك الوقت قفزت الربة الفاتنة من تحت البحر الفسيح، وأحضرت من الأعماق جلود أربعة عجول، وجميعها كانت حديثة السلخ، وأحكمت خطة ضد أبيها، وحفرت مكامن في رمل البحر، ثم جلست في الانتظار، فذهبنا بالقرب جدا منها، فجعلتنا نرقد في صف، وألقت فوق كل واحد منا أحد الجلود، وعندئذ ثبت لنا أن كميننا بالغ الروعة؛ لأن الرائحة الفظيعة، رائحة عجول البحر التي ربيت في الماء الملح، راحت تضايقنا أشد مضايقة - فمن يمكنه أن يرقد بجانب وحش بحري؟ - ولكنها أنقذتنا من تلك المضايقة، من تلقاء نفسها، ومنحتنا منحة عظيمة، فقد أحضرت أمبروسيا
20
ذات رائحة جميلة جدا، ووضعت جزءا منها تحت أنف كل رجل، وبذلك قضت على رائحة الوحش البحري؛ ومن ثم ظللنا طوال الصباح ننتظر بقلب مكين، حتى أقبلت العجول من البحر في جماعات، ثم رقدت في صفوف بحذاء ساحل البحر، وعند الظهيرة خرج الرجل العجوز من البحر، ووجد العجول السمينة ومر عليها جميعا وأحصى عددها. وأحصى عددنا أولا بين العجول، غير مدرك أن هناك خديعة ما، وبعد ذلك استلقى هو أيضا. وعندئذ هجمنا عليه صائحين، وطوقناه بسواعدنا القوية، ولم ينس ذلك العجوز حيلة الماكرة، فتحول أولا إلى صورة أسد ذي لبدة، ثم إلى هيئة ثعبان، وإلى نمر أرقط، ودب ضخم الجثة، ثم تحول إلى ماء متدفق، وإلى شجرة باسقة مورقة، ولكننا ظللنا ممسكين به بقوة دون تراخ. وأخيرا، عندما حل التعب بذلك الرجل العجوز، الماهر في أفانين السحر، سألني قائلا: «وأيا ابن أتريوس، من من الآلهة أشار عليك بأن تكمن في انتظاري، وتقبض علي ضد إرادتي؟ وما هي حاجتك؟»
هكذا قال عجوز البحر، فأجبته بقولي : إنك تعرف أيها العجوز - لماذا تحاول مماطلتي بهذا السؤال؟ - كم من مدة طويلة بقيت أنا محبوسا في هذه الجزيرة، ولا أجد دليلا قط على الخلاص، وظل قلبي يزداد ضعفا في جوفي، فهل لك أن تخبرني - لأن الآلهة تعرف كل شيء - من من الآلهة يقيدني هنا، وقد حال بيني وبين طريقي؟ كذا أريد أن تحدثني عن عودتي، وكيف أستطيع أن أجتاز ذلك الخضم المترامي الأطراف.
قلت هذا، وفي الحال رد علي قائلا: وكان يجب عليك حقا أن تقدم الذبائح الطيبة لزوس والآلهة الآخرين قبل الإقلاع بسفنك، فلو فعلت لكان في مقدورك أن تصل إلى بلدك بمنتهى السرعة، متخذا طريقك عبر البحر القاتم كالخمر؛ لأنه مكتوب لك ألا ترى أصدقاءك، أو تصل إلى منزلك المحكم البناء، أو إلى وطنك، إلا بعد أن تكون قد ذهبت مرة أخرى إلى مياه أيجوبتوس، ذلك النهر السماوي الغذاء، وتكون قد نحرت ذبائح مئوية مقدسة إلى الآلهة الخالدين، الذين يحتلون السماء الفسيحة؛ فبعدئذ فقط، سوف تمنحك الآلهة الرحلة التي تشتهيها.
هذا ما قاله، وعندئذ تحطمت روحي في داخل جسمي؛ لأنه أمرني بالذهاب مرة أخرى عبر اليم المظلم إلى أيجوبتوس، في طريق طويل شاق. ومع كل، فرغم ذلك أجبته قائلا:
سمعا وطاعة، أيها العجوز، سأقوم بكل هذا، كما تأمر، تماما. والآن هل لك أن تخبرني، وتصارحني القول بصدق، هل عاد الآخيون في سفنهم، دون أن يصيبهم أذى، جميع أولئك الذين تركتهم أنا ونسطور، عندما أقلعنا من طروادة؟ أم هل لاقى أحد منهم ميتة قاسية فوق ظهر سفينته، أو بين سواعد أصدقائه، بعد أن وضعت الحرب أوزارها؟
هكذا قلت له، فأجاب من فوره بقوله: يا ابن أتريوس، لم تسألني عن هذا؟ فما ينبغي بحال من الأحوال أن تعرف، أو تعلم مكنون صدري، وإني لأعتقد، أن الأحزان والبكاء سيحلان بك لفترة طويلة، إذا أخبرتك بكل شيء على حقيقته؛ إذ قتل كثير منهم وبقي الكثير أيضا، ولكن اثنين من رؤساء الآخيين المتدثرين بالبرونز هلكا وهما في طريقهما إلى الوطن، أما عن القتال، فقد كنت هناك أنت نفسك، وأظن أن هناك واحدا، لا يزال حيا ، ومحجوزا فوق سطح البحر البعيد الأجواز.
لقد هلك أياس
Aias ، حقا، وسط سفنه ذات المجاذيف الطويلة، على صخور جوراي
Gyrae
الضخمة؛ إذ دفعه بوسايدون، في بادئ الأمر، ولكنه أنقذه من البحر، وكاد أن ينجو من حتفه، رغم كراهية أثينا له، لو أنه لم ينطق بكلمة متغطرسة، لعمى قلبه البالغ. لقد أعلن أنه قد نجا من هوة البحر السحيقة، رغم أنف الآلهة، فسمع بوسايدون زهوه وعجرفته، وفي الحال، أمسك رمحه ذا الشعاب الثلاث، في يديه القويتين، وضرب به صخرة جواري، فشقها نصفين، فبقي جزء منها في مكانه، أما الجزء المفصول فسقط في البحر، وكان هذا هو الجزء الذي جلس عليه أياس في بادئ الأمر عندما أصيب قلبه بالعمى الشديد، فغاصت به الصخرة إلى اليم الصاخب، حيث هلك؛ إذ شرب الماء الملح.
أما أخوك فقد نجا من الهلاك حقا واجتنبه بسفنه الواسعة؛ إذ أنقذته هيرا الجليلة. بيد أنه عندما صار وشيك بلوغ قمة ماليا
Malea
الشديدة الانحدار، أمسكت به الريح العاصفة، وطوحت به فوق الخضم الزاخر وهو يئن بشدة، وحملته إلى حافة البلاد،
21
التي كان يقيم فيها من قبل ثويستيس
Thyestes ، والتي يقطن فيها الآن أيجيسثوس بن ثويستيس. غير أنه لما بدا له بريق أمل في العودة بسلام، وحولت الآلهة مجرى الريح، فأخذت تهب في رفق، حتى بلغ الوطن. والحق يقال، إن أجاممنون، وضع قدمه الآن فوق أرض وطنه، مسرورا، واحتضن التربة وقبلها، فانهمرت الدموع الحارة غزيرة من مقلتيه؛ إذ كان يتوق شغفا إلى رؤية بلاده؛ عندئذ من موضع المراقبة، أبصر به الحارس الذي كان أيجيسثوس الماكر قد وضعه هناك، ووعده بأن يمنحه تالنتين من الذهب جائزة له، فظل هذا الحارس في مكان المراقبة عاما كاملا، خشية أن يمر به أجاممنون دون أن يراه، ويتذكر قسوته البالغة. وعلى ذلك أسرع إلى القصر كي يحمل النبأ إلى راعي الشعب، وفي الحال وضع أيجيسثوس خطة غادرة، فاختار عشرين رجلا من خيرة رجالات البلاد، وأمرهم بأن يكمنوا في انتظاره، بينما أمر بإعداد وليمة كبيرة في أقصى جوانب الساحة، ثم انطلق في عربة تجرها الجياد، لكي يدعو أجاممنون، راعي الشعب، بينما يفكر عقله في العمل الخسيس. وهكذا استدرجه وهو غافل تماما عما يحيط به من خطر، وبعد أن تناول الطعام في تلك الوليمة، ذبحه كما يذبح المرء ثورا في الخطيرة. ولم يترك أحدا من رفاق ابن أتريوس، من جميع أولئك الذين تبعوه، ولا واحدا قط من رجال أيجيسثوس، بل قتلهم جميعا في الساحات.
ما إن قال ذلك القول، حتى تحطمت روحي في داخلي، وطفقت أبكي وأنا جالس فوق الرمال، ولم تعد لقلبي رغبة في البقاء على ظهر الدنيا ورؤية ضوء الشمس. وبعد أن بكيت كفايتي، وشبعت نحيبا، قال لي عجوز البحر المعصوم من الخطأ: «يا ابن أتريوس، لا تسترسلن في البكاء هكذا طويلا بغير انقطاع؛ إذ هذا لا يجدي بحال ما. كلا لا فائدة منه قط، بل الأجدر بك أن تكافح بكل ما يمكنك من سرعة، إلى أن تصل إلى وطنك؛ لأنك إما أن تجد أيجيسثوس على قيد الحياة، وإما أن يكون أوريستيس، قد سبقك إليه وقتله، وربما أدركت وليمة جنازته.»
هكذا تحدث العجوز، وإذا بقلبي وروحي ينشطان من جديد في صدري رغم جميع أحزاني، فتكلمت وخاطبته بكلمات مجنحة،
22
فقلت:
إنني أعرف هذين الرجلين، ولكن ألا يمكنك أن تسمى الثالث، ذلك الذي لا يزال حيا، والذي هو محجوز وراء البحر العريض؟ أم أنه مات؟ إنني لأتلهف إلى سماع خبره رغم أحزاني.
ما إن خاطبته هكذا، حتى أجاب من فوره قائلا: إنه ابن لايرتيس، الذي موطنه إيثاكا. لقد شاهدته في جزيرة يسكب الدموع السخينة الغزيرة، في ساحات الحورية كالوبسو، تلك التي تحتجزه عندها رغم كرهه البقاء هناك.
23
إنه لا يستطيع الذهاب إلى وطنه؛ إذ لا يملك سفنا ذات مجاذيف، ولا أي رفيق يبعث به عبر ظهر البحر الفسيح. أما أنت نفسك، يا مينيلاوس، يا سليل زوس، فليس مرسوما لك أن تموت وتلقى حتفك في أرجوس، مرعى الجياد، بل سوف يحملك الخالدون إلى السهل الإلوسي
Elysian plain
وإلى بطاح الأرض، حيث يقيم رادامانثوس
Rhadamanthus ،
24
ذو الشعر الجميل، وحيث الحياة هناك أسهل ما تكون للبشر، حيث لا جليد، ولا عواصف عاتية، ولا أي مطر، ولكن المحيط يرسل دائما لفحات عالية من هبات الريح الغربية العاتية، حتى تحمل البرد إلى البشر؛ لأنك تتخذ من هيلينا زوجة لك، وأنت في أعينهم زوج ابنة زوس.
ما إن قال هذا، حتى قفز وسط اللجج الصاخبة، أما أنا فذهبت إلى سفني مع رفقائي شبيهي الآلهة، بينما راح قلبي يفكر في أمور كثيرة، ولكن عندما نزلنا إلى السفينة وإلى البحر، وأعددنا طعام العشاء وتناولناه، وأقبل الليل السرمدي بدياجيره، رقدنا لنستريح فوق شاطئ البحر. وما إن لمع الفجر الوردي الأنامل مبكرا في دجى الظلام، حتى بدأنا ننزل سفننا إلى البحر اللامع، وأقمنا الصواري والأشرعة في السفن الجميلة، وذهب الرجال أيضا، فوق ظهور المراكب وجلسوا على المقاعد، واعتدلوا في أماكنهم استعدادا لأن يضربوا البحر السنجابي بمجاذيفهم، فأقلعوا عائدين من جديد إلى مياه أيجوبتوس، ذلك النهر الذي تغذيه السماء، وهناك ألقينا مراسي السفن، وقدمت الذبائح المئوية التي كنت أرجو ثمارها. وبعد أن أرضيت الآلهة الخالدين، واجتنبت غضبهم، صنعت كومة لأجاممنون تخلد شهرته خلودا لا تخمد جذوته. وعندما انتهيت من هذا، وهبني الخالدون ريحا مواتية، حملتني بسرعة إلى وطني العزيز. والآن، امكث عندنا في ساحاتي، إلى أن يأتي اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر، وعندئذ أرسلك موقرا، وأعطيك هدايا رائعة؛ ثلاثة جياد، وعربة بديعة الطلاء، فضلا عن كأس جميلة تستطيع أن تسكب منها السكائب للآلهة الخالدين، وتذكرني جميع أيام حياتك.»
تيليماخوس يقبل هدايا مينيلاوس ويسأله الرحيل
عندئذ رد عليه تيليماخوس الحكيم قائلا: «يا ابن أتريوس، لا تحجزني هنا مدة طويلة؛ فإنني، والحق يقال، أسر للبقاء في قصرك عاما دون أن أتوق إلى رؤية بيتي ووالدي؛ إذ أجد لذة عجيبة في سماع حكاياتك وحديثك، ولكن رفاقي ينتظرونني في بولوس المقدسة، بينما أنت تحجزني هنا مدة طويلة. أما الهدايا التي تزمع تقديمها لي، فلتكن كنوزا ، وأما الجياد فلن آخذها إلى إيثاكا، بل سأتركها لك هنا لتتمتع بها؛ فأنت سيد هذا السهل الفسيح، الزاخر باللوتس، والخلنجان والقمح والشوفان، والشعير الأبيض العريض السنابل، أما في إيثاكا، فليس هناك ممرات ولا طرق فسيحة تتسع لها، ولا أية مروج؛ فهي مرعى المعيز أكثر منها مرعى للجياد؛ فما من جزيرة وسط البحر تصلح لتربية الخيول، ولا يمكن أن تكون غنية بالمروج، ولا سيما إيثاكا التي هي أقلها جميعا.»
هكذا تكلم، فابتسم مينيلاوس، الماهر في صيحة الحرب، وربت عليه بيده، وخاطبه قائلا: «حقا إنك لمن دم نبيل، أيها الطفل العزيز؛ إذ أراك تتكلم بهذه الطريقة؛ وعلى ذلك سأغير هذه الهدايا التي سأعطيكها؛ فهذا في مقدوري؛ فمن بين سائر الهدايا المخزونة في بيتي ككنوز، سأعطيك أجملها وأغلاها، أعطيك طاسا لمزج الخمر، رائع الصنع. إنه من الفضة الخالصة، وحافاته مطلية بالذهب، صنعة هيفايستوس
Hepheastus ،
25
وأعطانيه المحارب فايديموس
، ...
Sidoniar
عندما آواني بمنزله لما جئت إلى هنا، والآن عقدت ...»
هكذا طفقا يتبادلان الحديث، وفي ذلك الوقت أقبل المدعوون إلى قصر الملك المبجل، يسوقون أمامهم خرافا، ويحضرون معهم خمرا مقوية، وأرسلت لهم زوجاتهم ذوات الخمار الجميلة، خبزا؛ وعلى ذلك كانوا ينعمون بالوليمة في ساحات القصر.
العشاق ينزعجون لرحيل تيليماخوس
أما العشاق المغازلون، فكانوا يمرحون أمام قصر أوديسيوس، يقذفون الجلة والرمح في مكان مستو، كما اعتادوا أن يفعلوا في سماجة وعجرفة نابعين من القلب. وكان بينهم أنتينوس ويوروماخوس، شبيها الآلهة، وزعيما أولئك العشاق، اللذان يفوقانهم شجاعة وإقداما، فاقترب منهما نويمون
Noemon ، ابن فرونيوس
، وسأل أنتينوس بقوله: «أيا أنتينوس، هل تعلم عن يقين أم تراك لا تعلم أبدا متى يعود تيليماخوس من بولوس الرملية؟ لقد رحل، في إحدى سفني، وأنا أحتاج إليها الآن لأعبر بها البحر إلى إليس
Elis
الفسيحة؛ حيث لي اثنتا عشر فرسا ولودا، ترضع أثداءها بغال قوية لم تستخدم بعد، فأريد أن أحضر واحدا منها إلى هنا وأستخدمه.»
ما إن قال هذا، حتى دهش الزعيمان في فؤاديهما؛ إذ لم يدر بخلدهما قط، أن تيليماخوس قد ذهب إلى بولوس النيلية
Neleian Pylos ، بل ظنا أنه بمكان ما في ضياعه، وسط القطعان، أو مع راعي الخنازير .
فقال أنتينوس بن يوبايثيس: «قل الحق يا هذا، متى رحل، وأي شبان ذهبوا معه؟ أهم من شباب إيثاكا المختارين، أم مأجورون، أم من عبيده؟ وهل استطاع أن يقوم حتى بهذا؟ وصارحني القول بصدق، كي أعرف كل شيء تماما، هل استطاع أن يأخذ سفينتك بالقوة وعلى غير إرادتك، تلك السفينة السوداء، أم أعطيتها له طائعا مختارا بمحض إرادتك عندما توسل إليك؟»
فأجاب نويمون بن فرونيوس، قائلا: «لقد أعطيتها له، بنفسي، طائعا مختارا، فهل يستطيع أحد أن يفعل غير ما فعلته عندما يرجوه رجل مثله، قد أثقلت الهموم قلبه؟ كان من العسير رفض الهدية. وإن الشبان الذين صحبوه في الرحلة لأنبل من في البلاد بعدنا، وقد لاحظت بينهم واحدا على ظهر السفينة، كقائد لهم، يشبه مينتور، أو كأنه إله يشبه مينتور تمام الشبه. وما أعجب له، هو أنني رأيت مينتور العظيم هنا في فجر أمس الباكر، ولكنه في ذلك الوقت ركب سفينته قاصدا بولوس.»
ما إن أتم حديثه ذاك، حتى انصرف إلى بيت أبيه. أما قلبا هذين الشامخين فقد استشاطا غضبا، وأمرا العشاق المغازلين في الحال، بأن يكفوا عن مبارياتهم ويجلسوا، وقام أنتينوس بن يوبايثيس، مستاء يتحدث وسطهم، وقد تملك الحنق من قلبه الأسود حتى الثمالة، والشرر يتطاير من عينيه، فقال: «ويل له، الحق أن تيليماخوس يزمع القيام بعمل من أعمال الوقاحة، في رحلته تلك، التي ما كنا نحسب أنه سيستطيع إتمامها؛ فرغم كوننا هنا جميعا، رحل ذلك الصبي في هدوء، منزلا السفينة إلى الماء، ومنتقيا خير ما في البلاد من رجال. لقد بدأ شيئا فشيئا، يكون مجلبة للشر، وإنني لأتمنى أن يحطم زوس قوته قبل أن يبلغ مبالغ الرجال. والآن هيا، أعطوني سفينة سريعة وعشرين رجلا، حتى يمكنني أن أكمن له وهو يمر في المضيق الواقع بين إيثاكا وساموس الوعرة، وبهذا تنتهي الرحلة التي قام بها بحثا عن أبيه شر نهاية.»
هكذا تكلم، فنالت كلماته تقريظ الجميع، الذين طلبوا منه أن ينجز فورا ما انتواه. وفي الحال نهضوا جميعا وذهبوا إلى منزل أوديسيوس.
بينيلوبي تعلم بخطة العشاق ضد ابنها
لم تمض مدة طويلة حتى علمت بينيلوبي بالخطط التي كان يحكيها العشاق في قرارة قلوبهم؛ فإن الرسول ميدون
Medon ، الذي كان يسمع مؤامراتهم وهو يقف خارج الساحة، وهم في داخلها يدبرون خطتهم، كان يسر إليها بكل شيء؛ ومن ثم ولج الساحة كي يحمل الأنباء إلى بينيلوبي، فما إن خطا عتبة الباب، حتى تحدثت إليه بقولها: «أيها الرسول، لم بعث بك المغازلون الأمجاد؟ هل لتأمر خادمات أوديسيوس الجليل بالكف عن أشغالهن، ويبدأن لهؤلاء بإعداد وليمة؟ لا مغازلة بعد ذلك، ولا أي زواج في مكان آخر، فهل لهم الآن أن يأدبوا هنا مأدبتهم الأخيرة، وحتى أنتم يا من تحتشدون هنا وتبددون أموالا طائلة، من ثروة تيليماخوس العاقل. لا شك أنكم لم تسمعوا أبدا، في سالف الأزمان، عندما كنتم أطفالا، وعندما كان يحكي آباؤكم أي لون من الرجال كان أوديسيوس بين أولئك الذين أنجبوكم، وأنه لم يقترف إثما أو خطأ قط في حق أي فرد من مواطني البلاد، سواء بالقول أو بالفعل، كما كانت عادة الملوك الأجلاء، يكرهون رجلا، ويحبون آخر، ولكنه لم يظلم أي رجل على الإطلاق، وإنما عقولكم وأفعالكم غير المشروعة، هي الواضحة كل الوضوح للعيان، ولن يقدم أي فرد ثناء على أية أعمال حسنة لكم.»
هدف الخطة قتل تيليماخوس
فأجابها ميدون، ذو القلب الحكيم، بقوله: «أرجو، أيتها الملكة، أن يكون هذا هو أقصى ما ابتليت به من شر؛ لأن هناك أمورا أخرى أمر وأدهى وأكثر إيلاما من هذه، يحيكها العشاق المغازلون، أمورا أتمنى ألا يكللها ابن كرونوس بالنجاح. لقد بيتوا النية على قتل تيليماخوس بحد السيف البتار وهو في طريق عودته إلى الوطن؛ لأنه ذهب يستقي الأخبار عن أبيه، إلى بولوس المقدسة، وإلى لاكيدايمون العظيمة.»
ما إن قال هذا، حتى وهنت ركبتاها وهي جالسة، وغاص قلبها، وصمتت مدة طويلة، وترقرقت الدموع في مقلتيها واحتبس صوتها، ثم تكلمت أخيرا قائلة: «أيها الرسول، لم ذهب ابني؟ لم تكن به حاجة للسفر فوق ظهور السفن العريضة السريعة، التي يستخدمها البشر مطية البحر، وتعبر اليم المترامي الأطراف. ألم يكن لاسمه أن يظل باقيا وسط الرجال؟»
فأجابها ميدون، الحكيم القلب، يقول: «لست أعلم، يا سيدتي، ما إذا كان قد اضطره إلى ذلك إله ما، أم أنه ذهب من تلقاء نفسه إلى بولوس، ليستطلع الأنباء عن عودة أبيه، أو عن المصير الذي لاقاه.»
بينيلوبي تلوم خادماتها
هكذا تكلم وانصرف من منزل أوديسيوس، فغمرها الحزن بلواعجه، ذلك الحزن الذي يفتك بالروح، ولم تستطع الجلوس بعد ذلك على أي من المقاعد الكثيرة بالحجرة، بل ارتمت خائرة القوى فوق عتبة حجرتها الجميلة البناء، وهي تتأوه كمدا، فراحت خادماتها ينتحبن حولها، كل من في البيت، من فتيات وعجائز، فقالت بينيلوبي وهي تبكي: «أي صديقاتي، اسمعن ما أقول؛ فقد قدر لي الأوليمبي أن أقاسي الأحزان أكثر من جميع لداتي، اللواتي ربين وولدن معي. منذ زمن بعيد فقدت زوجي النبيل، ذا قلب الأسد، المتفوق في كل ما يرفع من قيمة المرء بين الدانيين، زوجي النبيل، الذي طبقت شهرته أنحاء هيلاس، وخلال أرجوس. وها هي ذي الرياح العاتية تجرف ولدي الحبيب بعيدا عن قصرنا دون أن نعلم عنه شيئا أو عن رحيله. ما أقساكن! ألم تفكر واحدة منكن في أن توقظني من فراشي؛ حيث إنكن تعلمن حق العلم، متى رحل فوق ظهر السفينة السوداء الوسيعة؟ فلو علمت بإزماعه الرحيل، لما غادر هذا البيت مهما كان تلهفه إلى السفر، وإلا لتركني فاقدة الحياة في هذا القصر. والآن، لتسرع إحداكن فتستدعي إلي دوليوس
Dolius ، خادمي العجوز، الذي أعطانيه أبي يوم جئت إلى هنا، والذي يقوم بحراسة حديقتي الوافرة الأشجار، كي ينطلق من فوره إلى لايرتيس ويخبره بجميع هذه الأحداث؛ فربما استطاع لايرتيس أن يدبر في قلبه أمرا، ويتوسل باكيا إلى الشعب الذي ينتوي أن يقضي على جنسه، وعلى جنس أوديسيوس شبيه الإله.»
اعتراف يوروكليا بذنبها
عندئذ أجابتها المربية الجليلة يوروكليا بقولها: «سيدتي العزيزة، يحق لك أن تقتليني بالسيف، عديم الرحمة، أو تدعيني أبقى بالمنزل؛ فلن أخفي عنك شيئا. كنت أعرف كل هذا، وأعطيته كل ما أمرني به، من خبز وخمر حلوة، ولكنه أخذ علي عهودا ومواثيق شديدة، ألا أخبرك حتى يحل اليوم الثاني عشر على الأقل، أو إذا افتقدته أنت من تلقاء نفسك، أو سمعت برحيله، وذلك كيلا تشوهي بشرتك الناعمة بالبكاء. والآن، هيا استحمي والبسي رداء نظيفا، ثم اصعدي إلى غرفتك العليا مع خادماتك وصلي لأثينا، ابنة زوس، حامل الترس، لتنقذه من الموت. ولا تزعجي عجوزا مثقلا بالهموم؛ فعلى ما أظن، ليس معشر ابن أركايسيوس
Arceisius
ممقوتا لدى الآلهة المباركة، بل سيظل هناك واحد، يقبض على زمام القصور ذات السقوف المرتفعة، والحقول الغنية النائية.»
بينيلوبي تصلي والعشاق يصخبون
ما إن قالت هذا، حتى هدأت ثائرة بينيلوبي، وكفكفت دموعها، ثم قامت فاغتسلت، وتسربلت برداء نظيف، وصعدت إلى حجرتها العليا مع خادماتها، وبعد أن وضعت بعض حبات من الشعير في سفط، راحت تصلي إلى أثينا بقولها: «يا ابنة زوس، حامل الترس، أصغي إلى صلاتي، يا من لا يتطرق التعب إلى جسمك، بحق ما أحرقه لك أوديسيوس الكثير الحيل، في ساحاته، من قطع أفخاذ عجلة أو نعجة سمينة، أتوسل إليك أن تتذكري هذه الأشياء الآن، وتهبي لنجدة ولدي العزيز، وجنبيه شر مؤامرة المغازلين.»
هكذا تكلمت، وأرسلت الصيحة المقدسة، فسمعت الربة صلاتها. بيد أن العشاق انفجروا صاخبين في سائر أنحاء القاعات الظليلة، فقال أحد الشبان المتغطرسين: «حقا إن الملكة التي يغازلها الكثيرون، تتأهب لزواجنا، ولا تعرف على الإطلاق أن الموت في انتظار ولدها.»
وهكذا كان أحدهم يتكلم، غير أنهم لم يعرفوا كيف ستسير تلك الأمور، فخاطب أنتينوس جمعهم قائلا: «أيها السادة الأمجاد، كفوا عن عبارات الزهو، أيا كان نوعها، خشية أن ينقل شخص ما حديثكم إلى داخل البيت. هلموا ننطلق في صمت، ونقوم بتنفيذ خطتنا، التي أدخلت السرور إلى قلوبنا جميعا.»
العشاق يعدون سفينة وبينيلوبي في حجرتها حزينة
هكذا تكلم، واختار عشرين رجلا، من خيرة الجمع، وانطلقوا في طريقهم إلى شاطئ البحر حيث السفينة السريعة؛ فأول عمل قاموا به، هو أن سحبوا السفينة إلى اليم العميق، ورفعوا الصاري، وثبتوا الشراع في السفينة السوداء، وربطوا المجاذيف فيها بسيور من الجلد، في نظام بديع، ونشروا الشراع الأبيض. وأحضر لهم السادة المتغطرسون أسلحتهم، وأنزلوا السفينة وربطوها في المرسى ثم تركوها هم أنفسهم، وذهبوا يتناولون طعام العشاء، وانتظروا حتى أقبل المساء.
أما بينيلوبي الحكيمة، فرقدت في حجرتها العليا دون أن تذوق أي طعام، سواء أكان لحما أو شرابا، وكان جل فكرها منحصرا في ولدها، هل سينجو من الموت، أم سيقتله العشاق الوقحون، فكانت كأسد وقع في وسط جمع من الرجال فظل نهبا للخوف، وهم يضيقون عليه الخناق. هكذا كانت مبلبلة الأفكار عندما داعب النوم اللذيذ عينيها، فارتمت إلى الوراء ونامت، وارتخت جميع أطرافها.
أثينا تزور بينيلوبي في صورة طيف
بعد ذلك، انتقلت الربة، أثينا ذات العينين المتألقتين، إلى خطة أخرى، فصنعت طيفا في صورة امرأة كأنه إفثيمي
Iphthime ، ابنة إيكاريوس العظيم القلب، زوجة يوميلوس
Eumelus
الذي كان يسكن في فيراي، ثم أرسلت ذلك الطيف إلى قصر أوديسيوس، إلى بييلوبي وسط بكائها ونحيبها، ليأمرها بالكف عن البكاء وذرف الدموع، فدخل إلى الحجرة من ثقب المفتاح، ووقف إلى جانب رأسها، وتحدث إليها بقوله: «يا بينيلوبي، أتنامين حزينة القلب؟ كلا، إن الآلهة التي تعيش في رخاء، لن تحملك مشقة البكاء، ولن تجعلك تعيسة؛ لأن ابنك سيعود إليك؛ إذ هو بريء أمام الآلهة من كل إثم.»
بييلوبي تبدي مخاوفها للطيف
ثم أرسلت ذلك الطيف إلى قصر أوديسيوس، إلى بينيلوبي وسط بكائها ونحييها.
عندئذ ردت عليه بينيلوبي الحكيمة، وهي تنعم بنوم لذيذ جدا، على أبواب الأحلام، فقالت: «لم أتيت إلى هنا، يا أختاه؟ لم يسبق أن قدمت قبل الآن إلى منزلنا؛ لأنك تسكنين بعيدا عنا، وإنك لتأمرينني بأن أكف عن البكاء والأحزان وكل ما يكدر صفو عقلي وقلبي. لقد مضت مدة طويلة منذ أن فقدت زوجي النبيل، ذا قلب الأسد، المبرز في كل عمل يزين المرء وسط الدانيين، زوجي النبيل الذي بلغ صيته هيلاس، وأنحاء أرجوس. وها هو ذا ابني الحبيب، يرحل في سفينة واسعة، وهو لا يعدو أن يكون طفلا، لا يعرف شيئا عن مشاق السفر ولا ما يقاسيه الرجال؛ لذا تجدينني حزينة، أكثر من حزني على زوجي،
26
وإن قلبي لينفظر من أجله، وأخاف أن يصيبه مكروه، سواء في بلاد القوم الذين ذهب إليهم أو في عرض البحر؛ لأن هناك أعداء كثيرين يحيكون المؤامرات لاغتياله، ويتحرقون شوقا إلى قتله قبل أن يعود إلى وطنه.»
والطيف يشجعها ثم ينصرف
فأجاب الطيف القاتم، قائلا: «تشجعي ولا تفكري في أي خوف، طالما أن مرشدة كبالاس أثينا، تقف إلى جانبه، تلك التي كثيرا ما توسل الرجال إليها لكي تقف إلى جانبهم، وإنها لتشفق عليك من ذلك الحزن، فأرسلتني لأخبرك بهذا.»
فقالت بينيلوبي الحكيمة: «إن كنت حقا إلهة، وأصغيت إلى صوت إله، تعالي، خبريني، كذلك عن ذلك التعيس، ألا يزال حيا يرى ضوء الشمس، أم قد مات وذهب إلى بيت هاديس؟»
فأجابها الطيف القاتم، بقوله: «كلا، لن أحدثك عن هذا بكلمة واحدة، سواء أكان حيا أم في عداد الأموات. إنه لإثم أن أقول كلاما لا جدوى منه، كالريح.»
قال الطيف هذا وانسحب خارجا من ثقب الباب إلى مهب الرياح، فاستيقظت ابنة إيكاريوس من نومها، وقد هدأ قلبها مطمئنا؛ إذ رأت تلك الرؤيا الواضحة، وهي في ظلمة الليل.
27
العشاق يتربصون ليتليماخوس
أما العشاق فنزلوا إلى السفن، وأقلعوا فوق البحر، وهم يضمرون في قلبهم اغتيال تيليماخوس، فكمنوا له فوق جزيرة صخرية وسط البحر، في منتصف الطريق ما بين إيثاكا وساموس الوعرة المسالك، هي جزيرة أستيريس
Asteris ، الصغيرة الرقعة، حيث يوجد ميناء صالح لرسو السفن، له مدخل على كلتا ناحيتيه. في ذلك الميناء تلكأ الآخيون وكمنوا في انتظار تيليماخوس.
الأنشودة الخامسة
زوس والآلهة يتشاورون
لمع الفجر من مرقده بجوار تيثونوس
Tithonus
1
النبيل، لكي يحمل الضوء إلى الخالدين والبشر. وكان الآلهة جالسين يتشاورون فيما بينهم، وفي وسطهم زوس الذي يرعد عاليا، ذو القوة الفائقة. وكانت أثينا تحصي لهم محن أوديسيوس العديدة ، وهي تستعيدها في ذاكرتها؛ لأنه كان مما أزعجها، أنه يقيم في مسكن الحورية ، فقالت:
وكانت تنمو حول الكهف غابة جميلة، غنية بأشجار الحور والسرو الذكي الرائحة ... «أبي زوس، ويا أيها الآلهة الآخرون المباركون الخالدون، حذار، من الآن فصاعدا، أن تبثوا الشفقة والرحمة في قلب ملك ذي صولجان، إياكم أن تجعلوه يلزم جانب العدل في فؤاده، بل اجعلوه قاسي القلب، ظالما على الدوام؛ فما من رجل يتذكر أوديسيوس الجليل، من بين الشعب الذي كان سيدا عليه، رغم أنه كان لهم كوالد يعطف عليهم. إنه الآن يقيم في جزيرة، يقاسي آلاما مبرحة، في قصر الحورية كالوبسو، التي تحتجزه كرها، وهو لا يستطيع العودة إلى وطنه؛ لأنه لا يملك سفنا ذات مجاذيف، ولا زملاء يرافقونه في سفره فوق ظهر البحر الفسيح. والآن قد دبروا أمرهم على قتل ابنه الحبيب، وهو في طريقه إلى الوطن؛ لأنه ذهب إلى بولوس المقدسة، وإلى لاكيدايمون العظيمة، يستطلع الأخبار عن والده.»
فأجابها زوس، جامع السحب، قائلا: «طفلتي، ما هذه الكلمة التي أفلتت من بين شفتيك! ألم تتدبري، أنت نفسك، هذه الخطة، حتى يستطيع أوديسيوس أن ينتقم من أولئك الرجال عند عودته؟ أما تيليماخوس، فيمكنك إرشاده بحكمتك كي يصل سالما إلى وطنه، ويعود المغازلون في سفنهم مدحورين.»
هكذا تكلم ثم قال لهيرميس، ابنه العزيز: «أي هيرميس، بما أنك كنت رسولنا من قبل، فلتذهب الآن وتعلن قرارنا للحورية الجميلة الجدائل، ألا وهو عودة أوديسيوس ذي القلب الثابت، ليس بمعونة الآلهة أو البشر، بل على ظهر طوف متين، مقاسيا الأهوال، فيصل في اليوم العشرين إلى سخيريا
Scheria
الخصبة،
2
أرض الفياكيين
، أقرباء الآلهة. وسيبدي هؤلاء له كل تبجيل كما لو كان إلها. وسوف يبعثون به في سفينة إلى وطنه العزيز، بعد أن يعطوه كثيرا من البرونز والذهب والملابس، يفوق ما كان يغنمه أوديسيوس لنفسه من طروادة لو عاد سالما واحتفظ بنصيبه من الغنائم؛ فهكذا قدر له، أن يرى أصدقاءه، ويصل إلى بيته ذي السقف المرتفع، وإلى وطنه.»
هيرميس يطير إلى كالوبسو
ما إن قال هذا حتى لبى الرسول، أرجايفونتيس،
3
أمره، فلبس في الحال في قدميه صندليه الجميلين، الخالدين الذهبيين، اللذين طالما حملاه عبر مياه البحر، وخلال البلاد المترامية الأطراف، في سرعة دونها هبات الرياح. وتناول العصا التي ينيم بها عيون من يشاء، كما يوقظ بها آخرين من النوم أيضا، فطار أرجايفونتيس القوي، وهذه في يده، فوق بييريا
، هابطا من الفضاء العلوي، وانحدر هاويا إلى البحر، مسرعا فوق اللجج الصاخبة أشبه بغراب البحر، الذي يبلل ريشه السميك بالماء والملح وهو يبحث عن السمك فوق الدوامات الهائلة لليم الزاخر، فركب هيرميس الأمواج العديدة، في صورته هذه. ولما بلغ الجزيرة النائية، خرج لتوه من البحر البنفسجي إلى البر، وانطلق في سبيله حتى وصل إلى كهف كبير، كانت تقيم فيه الحورية الجميلة الغدائر، فوجدها في داخله تشعل نارا تتأجج في المدفأة، وكان يفوح من بعيد أريج نبات السدر والعرعر، المقطوعين وهما يحترقان. أما الحورية فكانت في داخل الكهف تغني بصوت رخيم، وهي تذرع المكان جيئة وذهابا أمام المنول، تنسج بمكوك ذهبي. وكانت تنمو حول الكهف غابة جميلة، غنية بأشجار الحور والسرو الذكي الرائحة، حيث اعتادت جوارح
4
الطير أن تبني عشاشها، من بوم وصقور، وغربان البحر ذات الألسنة الثرثارة، التي لا تنفك تعمل فوق البحر. وحول الكهف كرم كثيف محمل بالعناقيد الكثيرة في ريعان كبريائه. وكانت هناك أربع نافورات في صف واحد، واحدة بقرب الأخرى، ينبثق منها الماء صافيا. كما كانت هناك مروج ناضرة من النرجس والعرعر فوق ذلك الخالد، الذي تصادف مجيئه في تلك الآونة، مشدوها مدهوشا مبتهجا. هناك وقف الرسول أرجايفونتيس، يتعجب، وبعد أن أبدى تعجبه من كل شيء في قرارة نفسه خطا في الحال داخل الكهف الفسيح، ولم تعجز الربة الجميلة، كالوبسو عن معرفته عندما أبصرته وجها لوجه؛ لأن الآلهة تعرف بعضها البعض الآخر، مهما كان مسكن أحدهما قصيا، ولكنه لم يجد أوديسيوس، العظيم القلب بالداخل؛ لأنه كان جالسا يبكي فوق الشاطئ، كما كانت عادته، معذبا روحه بالدموع والأنين والأحزان، وكان يتطلع إلى البحر الصاخب وهو يذرف الدموع السواجم. وبعد أن أجلست كالوبسو، الربة الفاتنة، هيرميس فوق كرسي لامع براق، سألته قائلة: «أي هيرميس، يا ذا الصولجان الذهبي، ما سبب مجيئك، أيها الضيف النبيل الذي نرحب بمقدمه؟ فلم يسبق أن جئتنا من قبل، هات ما عندك؛ فإنني على استعداد لتنفيذه، إن كان في حدود مقدوري، وإذا كان أمرا ممكن التنفيذ. والآن هيا معي، حتى أقدم لك وليمة.»
كالوبسو تستضيف هيرميس
وصل أوديسيوس إلى كهف كبير كانت تقيم فيه الحورية الجميلة الغدائر.
قالت الربة هذا، ثم وضعت أمامه مائدة حافلة بالأمبروسيا، ومزجت النكتار
5
الوردي. وهكذا شرب الرسول أرجايفونتيس، وأكل. وبعد أن تناول كفايته من الطعام، رد عليها وخاطبها بقوله: «إنك أيتها الربة تسألينني، أنا الإله، عن سبب مجيئي إليك، وعلى ذلك سأقضي إليك بالحقيقة، وأكون صريحا معك، طالما قد طلبت مني ذلك. إنه زوس الذي أمرني بالمجيء إلى هنا ضد رغبتي؛ فمن ذا الذي يستطيع بمحض إرادته أن يسرع عبر هذا الخضم الفسيح من ماء البحر الملح، الذي يفوق الوصف؟ كما أنه ليست هناك مدينة قريبة للبشر، يقدمون فيها للآلهة الذبائح والنذور المئوية المنتقاة. غير أنه ليس لأي إله آخر أن يعصي أوامر زوس أو يخيب رجاءه، فيقول زوس، حامل الترس، إن لديك هنا رجلا بائسا أشد البؤس وأمضه، أكثر من أي محارب ممن قاتلوا لمدة تسع سنين حول مدينة بريام، وفي السنة العاشرة نهبوا المدينة ورحلوا عائدين إلى الوطن. بيد أنهم في أثناء الطريق، اقترفوا إثما ضد أثينا، فأرسلت ضدهم ريحا صرصرا عاتية، وأمواجا صاخبة،
6
فهلك بقية رفقائه العظام، أما هو فقد حملته الريح والأمواج وقذفت به إلى هنا. إن زوس يأمرك الآن بأن تخلي سبيله، وترسليه في طريقه بمنتهى السرعة؛ فليس مكتوبا له أن يهلك هنا بعيدا عن أصدقائه، ولكن ما زال من نصيبه أن يرى أصدقاءه، ويبلغ منزله ذا السقف المرتفع ويصل إلى وطنه.»
كالوبسو تعدد مثالب الآلهة
ما إن أفضى إليها بهذا الكلام، حتى ارتعدت، تلك الربة الفاتنة كالوبسو، وخاطبته بعبارات مجنحة ، قائلة: «ما أقساكم، أيها الآلهة، وما أسرع حسدكم أكثر من غيركم! حيث إنكم تحقدون على الربات عندما يرغبن في الزواج من البشر علانية، وعندما تتخذ إحداهن رجلا كرفيق لها في فراشها العزيز، فلما اتخذت ربة الفجر، الوردية الأنامل، أوريون
7
زوجا لها، حقدتم عليها، أنتم معشر الآلهة الذين تحيون في كامل الهناءة، فهاجمته أرتيميس في أروتوجيا
Ortygia ، تلك الربة ذات العرش الذهبي، بساهمها الرقيقة
8
وقتلته. كذلك عندما استسلمت ديميتير
Demeter ،
9
ذات الغدائر الفاتنة، لعواطفها، واضطجعت مع أياسيون
Iasion ،
10
في الأرض المحروثة ثلاث مرات، لم يمض وقت طويل حتى علم زوس بذلك، فضربه بصاعقته اللامعة وقتله. وهنا أنتم الآن، أيها الآلهة، من جديد تحقدون علي؛ لبقاء رجل من البشر في جزيرتي. لقد أنقذته عندما جرف من السفينة؛ إذ ضرب زوس سفينته السريعة بصاعقته المتألقة، فحطمها وسط ظلمة البحر القاتم كالخمر. هناك باد جميع زملائه العظام، أما هو فقد حملته الرياح والأمواج وجاءت به إلى هنا، فرحبت بمقدمه، وقدمت له الطعام، وقلت له إنني سأجعله خالدا، لا يعرف الشيخوخة طوال جميع أيامه. غير أنه طالما لا يستطيع قط أي إله أن يعصي أوامر زوس، الذي يحمل الترس، أو يخيب رجاءه، فلينصرف هذا الرجل في سبيله عبر البحر الصاخب، إذا كان زوس قد أمر بذلك، ولكني لست أنا، التي تقوم بحراسته؛ إذ لا أملك سفنا ذات مجاذيف، ولا رجالا يرسلونه في طريقه عبر ظهر البحر الفسيح. بيد أنني بنية خالصة، سأقدم له المشورة، ولن أخفي عنه شيئا، حتى يمكنه أن يعود إلى وطنه بسلام.»
عندئذ رد عليها الرسول، أرجايفونتيس، من جديد، بقوله: «إذن، فلترسليه الآن فورا، ولتحذري غضب زوس، لئلا يستشيط غيظا، وينفذ غضبه فيك فيما بعد.»
إفراج كالوبسو عن أوديسيوس
ما إن قال أجايفونتيس القوي هذا الكلام، حتى انصرف، فانطلقت الحورية الجليلة إلى أوديسيوس العظيم القلب، بعد أن علمت برسالة زوس، فوجدت أوديسيوس
11
جالسا على الشاطئ، يذرف الدموع من عينيه بلا انقطاع، وقد أخذت حياته الحلوة تذوي؛ إذ كان يتحرق شوقا للرجوع إلى وطنه؛ لأن الحورية ، لم تكن بأية حال موضع غبطة ناظريه. وكان عليه أن ينام بالليل إلى جوار الحورية الراغبة في الكهوف الفسيحة، رغما منه وضد إرادته، أما بالنهار فكان يجلس فوق الصخور والرمال، معذبا نفسه بالعبرات والأنين والهموم، وكان يتطلع إلى البحر الصاخب، ويتحسر
12
ذارفا الدموع؛ عندئذ اقتربت منه الربة الفاتنة، وقالت له: «يا هذا الرجل الشقي، ما عاد لك أن تغتم بعد الآن، بربك وما عاد لحياتك أن تذوي ههنا؛ لأنني سأبعث بك الآن، بقلب راض في سبيلك. تعال الآن، واقطع بالفأس كتلا خشبية طويلة، واصنع لك طوفا عريضا، وثبت عليه ألواحا خشبية بعرضه، كي تكون مطية قوية تحملك عبر البحر الداجي.
13
ولسوف أضع لك عليه خبزا وماء وخمرا صهباء تشبع قلبك، وتدرأ عنك غائلة الجوع. كما أنني سأمدك بالكساء، وأرسل لك ريحا هادئة تدفع الطوف
14
من خلف، ليمكنك العودة إلى وطنك سالما، كما هي إرادة الآلهة الذين يحتلون السماء المترامية الأجواز؛ لأنهم أقوى مني في كل من الغاية وتحقيقها.»
أوديسيوس ... في شك
هكذا قالت، فارتجف أوديسيوس العظيم، الذي يتحمل كثيرا، وخاطبها بألفاظ مجنحة، قائلا: «لا بد أن يكون هناك شيء آخر تدبرينه، أيتها الربة، وليس رحيلي؛ إذ أراك تأمرينني بعبور هوة البحر السحيق فوق طوف، ذلك الخضم الزاخر الصاخب، الذي لا تستطيع حتى السفن الجميلة، السريعة السير، أن تعبره بسرور في رياح زوس، ولكني لن أضع قدمي فوق طوف رغما منك، إلا إذا أقسمت أيتها الربة بأنك لن تدبري ضدي أية محن جديدة.»
وكالوبسو تطمئنه
بعد أن قال هذا، ابتسمت الربة الحسناء، كالوبسو، وربتت عليه بيدها، وقالت: «حقا، إنك لخبيث، ولست بحال ما عاجزا عن الفهم والإدراك؛ لأنني أراك قد فكرت في النطق بهذه العبارة. إذن فلتكن الأرض، والسماء الفسيحة في العلا، ومياه الستوكس
Styx
15
المتدفقة إلى أسفل، شهيدة على قولي، هذه التي هي أعظم وأرهب قسم للآلهة المباركين، بأنني لن أحيك ضدك أي سوء جديد فيه إيذاء لك. كلا؛ فليس في نيتي مثل هذه الأفكار، بل على عكس، سأمدك بالنصائح كما لو كانت لنفسي، إذا ما حاقت بي مثل هذه المصائب؛ إذ إنني ذات عقل راجح، وقلبي الكامن في صدري زاخر بالرحمة والشفقة، ولم يقد من حديد.»
عبارات الوداع بين الحبيبين
ما إن قالت الربة الحسناء هذا، حتى انطلقت في الطريق بسرعة وراح هو يتبع خطواتها، حتى وصلا إلى الكهف الفسيح، الربة والرجل، وجلسا فوق المقعد الذي غادره هيرميس، ثم وضعت الحورية أمامه جميع ألوان الطعام ليأكل ويشرب، من صنوف الأطعمة التي يأكل منها البشر. أما كالوبسو نفسها، فجلست قبالة أوديسيوس الجليل، وقدمت لها الإماء الأمبروسيا والنكتار. وهكذا مدا أيديهما إلى الطعام الشهي الموضوع أمامهما، وبعد أن تناولا كفايتهما من الطعام والشراب، كانت كالوبسو، الربة الفاتنة، هي البادئة بالحديث فقالت: «يا ابن لايرتيس، المنحدر من زوس، يا أوديسيوس الكثير الحيل، الآن قد آن لك أن تبحر فورا إلى بيتك، وإلى وطنك العزيز. وستبحر إلى هناك سالما. بيد أنه لو عرف قلبك ما ينتظرك من عذاب، مقدر لك أن تقاسيه قبل بلوغ وطنك، لآثرت البقاء هنا، ولزمت كهفي هذا معي، وأصبحت من الخالدين إلا أن رغبة جامحة ملحة تتملكك، لرؤيتك زوجتك التي تتوق إليها يوما بعد يوم. وإنني لأعلن عن نفسي، أنني لست بحال ما، دونها جمالا ولا قواما؛ إذ لا يليق قط أن تتحدى نساء البشر الخالدات في الهيئة والفتنة.»
عندئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أيتها الربة القوية، أرجو ألا تغضبي مني لأجل هذا؛ فإنني أنا نفسي أعرف تماما أن بينيلوبي الحكيمة أقل منك فتنة وقواما؛ لأنها من البشر وأنت خالدة لا تصيبك الشيخوخة، ولكني بالرغم من هذا، أتوق إلى بلوغ بيتي، ويوم عودتي، لحظة بعد لحظة. وإذا حدث أن إلها ما، ضربني وأنا في طريقي وسط البحر القاتم كالخمر، احتملت الضربة راضيا، طالما كان في صدري قلب يتحمل الآلام؛ فقد سبق أن قاسيت الكثير، وجاهدت وسط اللجج وفي ساحة القتال،
16
فلنضف ما سيحدث إلى ما سبق حدوثه.»
بعد أن قال هذا، غربت الشمس وخيمت الظلمة، فذهب كلاهما إلى أقصى مخبأ في الكهف الفسيح، وتمتعا بكئوس الحب مترعة، فرقد كل منهما بجانب الآخر .
خطة رحيل أوديسيوس
ما إن هتك الفجر المبكر الوردي الأنامل حجب الظلام، حتى أسرع أوديسيوس فارتدى قميصا وعباءة، وتسربلت الحورية في ثوب فضفاض أبيض أنيق قد أحكم نسجه، وشدت خصرها النحيل بحزام جميل من الذهب الإبريز، ووضعت على وجهها خمارا. بعد ذلك شرعت في وضع خطة رحيل أوديسيوس، العظيم القلب، فأعطته فأسا كبيرة تناسب يديه كل المناسبة، فأسا من البرونز، حادة الطرفين، ذات مقبض جميل من خشب الزيتون، قد ثبت إليها وثيقا، ثم أعطته كذلك معزقة مشحوذة لامعة. وبعدها، سارت في طريقها إلى تخوم الجزيرة، حيث تقوم الأشجار الباسقة، أشجار الحور والشربين، شامخة برءوسها نحو السماء، طويلة جافة، ومجففة من عصيرها الخلوي، وبذا يمكنها أن تطفو بخفة على سطح الماء،
17
من أجله. وما إن دلته كالوبسو، الربة الجميلة على موضع الأشجار السامقة، حتى عادت أدراجها إلى بيتها، بينما أخذ أوديسيوس يقطع الأخشاب، حتى تقدم في عمله هذا بسرعة، فقطع عشرين شجرة كاملة، وشذبها وسواها بالفأس. بعد ذلك راح يصقلها بمهارة، ويسويها حتى غدت مستقيمة تماما. وفي تلك الأثناء، أحضرت إليه الربة كالوبسو الحسناء أزاميل، شرع يحفر بها قطع الأخشاب ويثبت كل واحدة منها بالأخرى. كما راح يصلها ببعضها بواسطة الأسافين والتعشيق، وبالطرق كان يضمها سويا. وكالرجل الماهر في فن النجارة، الذي يحدد انحناء هيكل سفينة نقل، ذات اتساع عريض، أخذ أوديسيوس يصنع طوفه عريضا، ثم ثبت قوائم ظهر الطوف، معشقا إياها في الدعامات المتراصة المتقاربة. وهكذا طفق يشتغل بجد، حتى انتهى من الطوف الطويل الحافات. بعد ذلك ثبت في الطوف صاريا ودعامة مستعرضة تمسك الصاري، وزيادة على ذلك صنع لنفسه مجذافا موجها يستطيع بواسطته أن يقود الطوف. وبعد هذا أحاط الجميع من الجؤجؤ إلى المؤخرة، بحاجز من أغصان الصفصاف لتدرأ عنه الأمواج، وفرشه بكمية كبيرة من أوراق الأشجار.
18
كما أحضرت له كالوبسو، الربة الجميلة، منسوجا ليصنع لنفسه منه شراعا، فصنع هذا بمهارة أيضا، وثبت الطوف بالأربطة والحبال والألواح، ثم أنزله إلى البحر اللامع بواسطة الروافع.
19
أوديسيوس في البحر ثانية
أقبل اليوم الرابع، وقد أتم أوديسيوس عمله. وفي اليوم الخامس أرسلته كالوبسو الفاتنة في طريقه من الجزيرة، بعد أن غسلته وألبسته ثوبا عبق الرائحة، ووضعت الربة فوق الطوف قربة من الخمر الصهباء القاتمة، وقربة أخرى كبيرة من الماء القراح، وكيسا مملوءا بالزاد، به كمية وافرة من الأطعمة الشهية حتى لا يجوع، كما أرسلت خلفه ريحا رقيقة دافئة. وهكذا بسط أوديسيوس العظيم شراعه للنسيم مغتطبا، فجلس يقود طوفه بمهارة بمجذاف القيادة، ولم يداعب النوم جفنيه وهو يراقب البلاياديس
،
20
وبوتيس
Bootes ، التي تأفل متأخرا، والدب
Bear
الذي يطلق عليه الناس اسم الوين
Wain ، الدائم الدوران في مكانه وهو يراقب أوريون، والذي هو الوحيد، عديم النصيب في حمامات المحيط؛ فقد أخفت كالوبسو، الربة الحسناء، هذا النجم، ليلزم الجانب الأيسر، وأوديسيوس يشق طريقه وسط العباب، فظل سبعة عشر يوما يبحر فوق سطح اليم، حتى إذا كان اليوم الثامن عشر ظهرت أمامه الجبال الظليلة لبلاد الفياكيين؛ إذ كانت أقرب ما تكون منه، فبدت وسط البحر الكثيف الضباب، كأنها ترس.
بوسايدون يثير الأمواج ضده
بيد أن مزلزل الأرض المجيد، كان عائدا من لدن الإثيوبيين، فأبصره من بعيد، من جبال سولومي
Solymi ؛ إذ شاهد أوديسيوس وسط البحر،
21
فغلا مرجل غيظه في روحه أكثر وأكثر، وهز رأسه، وقال في قلبه: «تبا لهم، لا بد أن الآلهة قد غيرت رأيها بخصوص أوديسيوس، بينما كنت أنا عند الإثيوبيين، ويا للعجب! إنه قريب من جزيرة الفياكيين، حيث كتب له أن ينجو من القيود الضخمة للعنة التي نزلت به. كلا، فإنني على ما أظن سوف أقوده إلى طوفان من الشر.»
قال هذا وجمع السحب، وأمسك شوكته ذات الشعاب الثلاث في يديه، وعكر بها صفو البحر، وأثار جميع هبات مختلف الرياح جميعا، وبالسحب أخفى البر والبحر على السواء، فهجمت جحافل الليل هابطة من السماء، فانقضت الريح الشرقية والريح الجنوبية، والريح الغربية العاصفة الهبوب والريح الشمالية، المولودة في السماء اللامعة، وأخذت جميعها ترسل أمامه لجة عاتية ؛ عندئذ ارتخت ركبتا أوديسيوس وذاب قلبه، وإذ أثير حنقه إثارة بالغة، خاطب روحه القوية، فقال: «ويحي، أنا التعيس! ماذا عساه يقع لي أخيرا؟ إن أخوف ما أخافه حقا أن يكون جميع ما قالته الربة صحيحا؛ إذ أعلنت لي أنني سألاقي ذؤابة الأهوال في البحر قبل أن أصل إلى وطني، وللعجب، يتحقق كل ذلك الآن. بمثل هذه الطريقة، ملأ زوس السماء الفسيحة بالسحب، وأثار هياج البحر،
22
وهبات جميع أنواع الرياح ضدي، والآن لا مفر لي من هلاك شامل. لقد بورك الدانيون ثلاثة مرات، نعم بوركوا أربع مرات. أولئك الذين هلكوا من قبل في أرض طروادة الفسيحة، من أجل مسرة أبناء أتريوس. ليتني هلكت كذلك، ولقيت حتفي في ذلك اليوم الذي أمطرتني فيه حشود الطرواديين وابلا من الرماح البرونزية السنان، وهم يقاتلون حول جثة ابن بيليوس
؛
23
عندئذ كنت قد حظيت بالمراسم الجنائزية، وكان الآخيون قد طيروا صيتي في جميع الآفاق، أما الآن فقد كتب علي أن تكون نهايتي هذه الميتة البائسة.»
طوف أوديسيوس يتحطم
وبينما كان يقول لنفسه هذا، ضربته الموجة الضخمة من فوق، وانقضت عليه بعنف بالغ، فدار به الطوف، وارتمى من فوقه، وأسقط مجذاف القيادة من يده، ومن شدة هبات الرياح العاصفة العديدة، تحطم الصاري نصفين، وسقط الشراع والدعامة بعيدا في البحر. أما أوديسيوس نفسه،
24
فقد أبقته اللجة في الأعماق طويلا. ولم يستطع أن ينهض من فوره من تحت هجمة الموجة القوية؛ إذ كانت الملابس التي زودته بها كالوبس الفاتنة، ثقيلة تحمله إلى أسفل. وأخيرا ظهر إلى سطح البحر، وأخرج من فمه المياه الملحة المرة التي كانت تتدفق من رأسه في سيول، ولكنه مع ذلك لم ينس طوفه، رغم ما كان فيه من الأهوال، بل أسرع خلفه وسط الأمواج، وأمسك به، ووثب عليه وجلس في وسطه، محاولا النجاة من مصير الموت، بينما كانت لجة عاتية تحمل الطوف هنا وهناك، وكما تحمل الريح الشمالية، في الخريف، عناقيد الحسك وسط السهل، فيتعلق بعضها بالبعض الآخر، هكذا أيضا طفقت الرياح تحمل الطوف وتقذف به إلى هذا الجانب وذاك فوق رقعة البحر،
25
فتارة كانت الريح الجنوبية تطوح به إلى الريح الشمالية، قاذفة إياه إلى الأمام، وطورا تسلمه الريح الشرقية من جديد إلى الريح الغربية لتقذف به، وهكذا دواليك.
26
أوديسيوس ينجو بخمار
ولكن إينو
Ino .
27
ابنة كادموس
Cadmus ،
28
الجميلة العقبين، شاهدته، إنها ليوكوثيا
Leucothea ،
29
التي كانت فيما مضى من البشر وتنطق بكلامهم، أما الآن فقد ذهبت إلى أعماق البحر، وفازت من الآلهة بنصيب من المجد، فأحست بالشفقة نحو أوديسيوس وهو يناضل وسط اللجج بجهد جهيد، فخرجت من اليم في صورة طائر النورس البحري باسطا جناحيه، وجلست فوق الطوف المشدود القطع بإحكام، وخاطبته بقولها: «أيها الرجل التعيس، كيف أضمر بوسايدون، مزلزل الأرض، لك مثل هذا الحقد الدفين؛ إذ يبذر لك بذور شرور عديدة؟ ولكنه، وايم الحق، بالرغم من ذلك الحقد، لن يستطيع إهلاكك. كلا، اعمل ما سأخبرك به، وإنك على ما أظن لا ينقصك الفهم، اخلع عنك هذه الملابس، واترك طوفك تدفعه الأمواج، ثم اسبح بيديك مكافحا وسط الأمواج حتى تبلغ أرض الفياكيين، حيث كتبت لك النجاة. هاك هذا الخمار، خذه ثم ابسطه تحت صدرك. إنه خالد، ولا خوف عليك من المصائب أو الهلاك وهو معك. ومتى لمست البر بيديك، اخلعه عنك واقذف به في البحر القاتم كالخمر، بعيدا عن اليابسة، موليا ظهرك نحو المكان الذي تقذفه فيه.»
30
قالت الربة هذا، وأعطته الخمار، ثم وثبت هي نفسها إلى البحر الصاخب في هيئة النورس البحري، فلفتها الأمواج الدكناء بين طياتها،
31
فحار أوديسيوس العظيم كثير الاحتمال في أمره؛ إذ أثيرت روحه العتيدة بعنف، فتحدث إلى نفسه يقول: «ويحي! لم لا يكون أحد الخالدين يدبر لي من جديد مكيدة جديدة؟ فهي تأمرني بمغادرة الطوف. كلا لن أطيع قولها على الفور؛ فالبر الذي تأمرني بالسباحة إليه بعيد عن عيوني، قصي. وإني لأرى أنه من الأفضل التشبث بالطوف طالما كانت أجزاؤه متماسكة، حيث سأقاسي الآلام والعذاب، حتى إذا ما هشمته الموجة إربا، سبحت، طالما لا تكون ثمة طريقة أفضل.»
بوسايدون يمضي في المطاردة
وبينما هو في حيرته عقلا وقلبا، سلط عليه بوسايدون مزلزل الأرض، موجة عاتية، فارتفعت إلى أعلى، ثم هوت منقضة عليه. وكما تهب الريح العاتية على كومة القش الجاف فيتناثر بعضه هنا، والبعض الآخر هناك، هكذا أيضا، فرقت الموجة شمل ألواح الطوف الطويلة. بيد أن أوديسيوس اعتلى ظهر أحد الألواح كما لو كان يمتطي صهوة جواد، ونزع عن جسده الملابس التي كانت أعطته إياها كالوبسو الفاتنة، وفي الحال بسط الخمار تحت صدره، وقذف بنفسه وسط اللجج، ناشرا ذراعيه تأهبا للعوم، فأبصر به السيد مزلزل الأرض، وهز رأسه وخاطب نفسه قائلا: «طالما قد قاسيت الكثير من المتاعب، فلتذهب الآن هائما وسط هذا الخصم، حتى تصل إلى قوم يبجلهم زوس. ومع ذلك فلست أعتقد أنك ستسخر من آلامك بأية حال.»
ما إن قال هذا حتى ضرب بالسوط جياده ذات الأعراف الجميلة، فبلغ إيجاي
Aegae
حيث يوجد قصره الباذخ.
ظهور أثينا فجأة
أما أثينا ابنة زوس، فقد دبرت خطة أخرى، فعرقلت مسير الرياح الأخرى، وأمرتها جميعا بالكف عن الهبوب، وبالنوم لتستريح، ما عدا الريح الشمالية السريعة فقد أثارتها، فحطمت هذه الأمواج أمام أوديسيوس، سليل زوس كي يستطيع أن يصل إلى الفياكيين،
32
المغرمين بالتجذيف، وقد نجا من الموت ومن صروف المقادير.
ظل أوديسيوس يومين وليلتين مندفعا فوق سطح الأمواج العالية العاتية
33
وطالما توقع الهلاك في قرارة نفسه. غير أنه ما إن بزغ الفجر الجميل الجدائل منبئا بمولد اليوم الثالث، حتى هدأت الريح. وشمل البحر سكون رقيق، فوقع بصر أوديسيوس على الشاطئ قريبا، وهو يلقي نظرة عاجلة أمامه. وقد ارتفعت به موجة عالية إلى فوق. وكما يرحب الأطفال بنجاة أبيهم، الراقد في فراش المرض
34
يقاسي أشد الآلام، وقد أنهك المرض جسمه لمدة طويلة بسبب مهاجمة أحد الآلهة القساة له، غير أنه إكراما لخاطرهم تنقذه الآلهة من محنته. هكذا أيضا كانت اليابسة موضع ترحيب أوديسيوس وغبطته، فأخذ يجد في السباحة متلهفا إلى أن يطأ البر بقدمه. غير أنه ما إن صار على مدى الصوت من الشاطئ، عندما يصيح المرء ، وسمع دوي البحر وهو يرتطم بالصخور - إذ كانت الموجة العظيمة تزأر فوق اليابسة ، منقضة فوقها بصورة فظيعة مروعة، ولف زبد البحر كل شيء؛ إذ لم تكن هناك موانئ يمكن للسفن أن تلجها ولا طرق، بل مرتفعات ناتئة داخل البحر، وصخور وجروف - عندئذ وهنت ركبتا أوديسيوس وذاب قلبه، وإذ بلغت روحه التراقي، تكلم مخاطبا نفسه العتيدة بقوله: «ويل لي، ما أتعسني! أعندما يمن علي زوس أخيرا، بأن أرى اليابسة، بعد أن فقدت كل أمل، وتغلبت على جميع الصعاب، فشققت طريقي خارجا من تلك الهوة، لا يبدو لي في أي مكان، سبيل إلى الخروج من هذا البحر السنجابي؟ فمن الخارج الصخور حادة صلبة، ومن حولها تزأر اللجة وتزبد، وتقف الصخرة عمودية شامخة والمياه قريبة جدا من الشاطئ. حتى إنه ليتعذر عليك أن تقف ثابتا بكلتا قدميك ناجيا من الهلاك، فلو سعيت قاصدا البر، لأمسكت بي موجة عاتية وهشمتني فوق الصخور الحادة، فيضيع كفاحي هكذا أدراج الرياح، ولكني إذا سبحت إلى مسافة أبعد، أملا في العثور على شواطئ منحدرة،
35
وموانئ بحرية، خشيت أن تلحق بي الريح العاصفة ثانية، وتحملني وأنا أئن فوق اليم الزاخر أنينا شديدا، أو أن إلها ما قد يسلط علي وحشا ضخما من جوف البحر - وإن أمفيتريتي
Amphitrite
36
المجيدة لتلد كثيرا من أمثال هذه الوحوش - لأنني أعلم يقينا أن مزلزل الأرض المجيد، يحقد علي حقدا بالغا.»
أوديسيوس يتعلق بصخرة
وبينما هو متحير هكذا، في عقله وقلبه، حملته موجة هائلة نحو الشاطئ الوعر. هناك كاد جلده يتسلخ، وعظامه تتحطم، لولا أن الربة، أثينا ذات العينين النجلاوين، وجهت عقله وأملت عليه خطة، فأسرع إلى الأمام يمسك بالصخرة بكلتا يديه، متعلقا بها وهو يئن، إلى أن مرت الموجة العظيمة. وهكذا نجا من تلك اللجة، ولكنها وهي عائدة انقضت عليه مرة أخرى، وجرفته بعيدا إلى البحر. وكما يحدث إلى سمك السبيط عندما يجرف من جحره، يتعلق بممصاته كثير من الحصباء، هكذا أيضا تسلخت من يديه قطع من الجلد على الصخور، وغطته الموجة الهائلة. وعندئذ حقا كاد أوديسيوس يقضي نحبه قبل أوانه، لو لم تعطه أثينا المتألقة الناظرين سواء البصيرة، فشق طريقه بعيدا عن الموجة حيث تدفقت بقوة على الشاطئ، سابحا إلى الخارج، متجها ببصره نحو البحر أملا في أن يجد شواطئ منحدرة، وموانئ بحرية، فوصل إلى مصب نهر معتدل الجريان؛ إذ بدا له أنه خير مكان يناسبه؛ لأنه كان أملس الصخور، وبمنأى عن مهب الرياح، فعرف أوديسيوس النهر وهو يجري متدفقا، وصلى له في قلبه قائلا: «استمع إلي، أيها الملك، كائنا من كنت، فها أنا ذا أقصدك كمن أتلهف إلى لقائه،
37
ساعيا إلى النجاة من جوف البحر، من وعيد بوسايدون. وإن الرجل الذي يأتيك ضالا، لمحترم أيضا في عيون الآلهة الخالدين، كما أجيء إليك الآن، إلى مجراك وإلى ركبتيك، بعد أهوال عديدة ومشاق كثيرة. هيا، اعطف علي، أيها الملك، فها أنا ذا أعلن أنني أتضرع إليك.»
البحر يهدأ ... بالصلاة
هكذا قال أوديسيوس، وفي الحال أوقف ذلك الرب مجراه، وأمواجه، وجعل أمامه هدوءا، وبعث به إلى مصب النهر في سلام. كما جعل ركبتيه تنثنيان، ويديه القويتين ترتخيان؛ إذ كان البحر قد حطم روحه. وتورم جميع لحمه، وتدفقت مياه البحر غزيرة من فمه وفتحتي أنفه. وهكذا رقد أوديسيوس مبهور الأنفاس غير قادر على الكلام، لا يكاد يجد القوة على التحرك؛ إذ قد حل به تعب رهيب. بيد أنه عندما أحس بانتعاش روحه، وعادت أنفاسه إلى صدره، من جديد، خلع عن صدره خمار الربة، وتركه يسقط في النهر الذي كان يزمجر صوب البحر، فحملته الموجة العظيمة عائدة به إلى البحر. وفي الحال، تلقفته إينو بيديها. أما أوديسيوس، فبعد أن عاد من النهر، خرج واستلقى بين عيدان الغاب، وقبل التربة مانحة الغلال، وإذ اعتملت في نفسه العاطفة الشديدة، خاطب نفسه العتيدة بقوله: «ويحي! ويلي! ماذا سيحل بي بعد ذلك؟ ماذا عساه أن يصيبني في آخر الأمر؟ فإذا كان لي أن أبقى هنا، في مجرى النهر، متيقظا طوال الليل المتعب، فإنني أخشى أن يقهرني الصقيع القارس والندى الحديث، في نفس الوقت الذي استرددت فيه روحي من بين ذلك الضعف، والنسيم يهب باردا من النهر، في الصباح الباكر. أما إذا تسلقت المنحدر إلى الغابة الظليلة، واستلقيت لأستريح وسط الأحراش الكثيفة، عسى أن أنفض عني البرد والتعب، وحط علي النوم اللذيذ، فإنني أخاف أن أصبح فريسة ولقمة سائغة للوحوش الضارية.»
أوديسيوس يرقد ليستريح
وبينما هو في تفكيره، رأى من الأفق أن يشق طريقه إلى الغابة، فوجدها قريبة من الماء في الخلاء الفسيح، فأخذ يزحف تحت شجيرتين كانتا ناميتين في بقعة واحدة؛ إحداهما شجيرة حسك، والأخرى شجيرة زيتون. وخلال هاتين لم يكن في مقدور الرياح البليلة أن تهب، ولا أشعة الشمس أن تنفذ بينهما، ولا الأمطار أن تتسلل خلالهما؛ إذ كانتا متلاصقتين تماما، متشابكتي الأغصان، فزحف أوديسيوس تحت هاتين، وجمع بيديه في الحال فراشا عريضا؛ لأن الأوراق الساقطة كانت وفيرة هناك، تكفي لإيواء رجلين أو ثلاثة، في فصل الشتاء، مهما كان الطقس قاسيا، فأبصر بهما أوديسيوس، الكثير الاحتمال، واغتبط ورقد في الوسط، وغطى نفسه بالأوراق الساقطة. وكما يغطي المرء جذوة نار بالرماد القاتم في حقل منعزل، حيث لا يوجد حواليه جيران، فيدخر تلك الجذوة حتى لا يضطر إلى الحصول على النار من مصدر آخر، هكذا أيضا غطى أوديسيوس نفسه بالأوراق. وسكبت أثينا النوم فوق جفنيه لكي يستطيع إقفالهما، فيتخلص من تعبه المضني.
الأنشودة السادسة
بيد أن ابنة ألكينوس، هي وحدها التي بقيت ثابتة في مكانها لم تهرب.
أثينا تزور ناوسيكا في مخدعها
ومن ثم رقد أوديسيوس العظيم الكثير الاحتمال، وقد أنهكه التعب وغلبه النوم. أما أثينا فذهبت إلى أرض الفياكيين
1
ومدينتهم. وكان هؤلاء قد استوطنوا منذ القدم في هوبيريا
Hypereia
الفسيحة، بالقرب من الكوكلوبيس، أولئك القوم الذي بلغت بهم الغطرسة نهايتها، فكانوا يغيرون باستمرار على الفياكيين، ويسلبونهم أموالهم، وكانوا أعتى منهم، فقد نقلهم ناوسيثوس
Nausithous
2
شبيه الإله، وظل يقودهم حتى استقر بهم في سخيريا
Scheria
النائية عمن يعيشون بعرق جبينهم، فأقام حائطا حول المدينة، وشيد بيوتا ومعابد للآلهة، وقسم الحقول، غير أنه لقي حتفه، قبل الآن ، ورحل إلى بيت هاديس، فخلفه الملك ألكينوس
Alcinous ، وجعلته الآلهة حكيما سديد النصح والمشورة ، فذهبت الربة أثينا ذات العينين النجلاوين إلى بيته، لتدبر أمر عودة أوديسيوس الجريء القلب، فدخلت إلى حجرة بديعة البناء، حيث كانت ترقد العذراء ناوسيكا
Nausicaa
3
ذات الجمال البارع الفتان، ابنة ألكينوس الباسل، أشبه ما تكون بالربات الخالدات، هيئة وحسنا وروعة، وكانت تنام بالقرب منها خادمتان فاتنتان، وهبتهما الجمال ربات الحسن
Graces ؛ كل واحدة منهما إلى أحد جانبي قائم باب مخدع الأميرة، وكانت الأبواب المصقولة مغلقة.
بيد أن الربة نفذت إلى مخدع الأميرة العذراء، كهبة من الهواء، ووقفت إلى جانب رأسها من فوق، وتحدثت إليها في صورة ابنة دوماس
Dymas ،
4
الذائع الصيت بسفنه، وكانت ابنته فتاة في نفس سن ناوسيكا، ومن المقربات إلى قلبها. وبعد أن اتخذت الربة صورتها، تحدثت أثينا البراقة العينين، إليها بقولها: «يا ناوسيكا، كيف أنجبتك أمك فتاة مستهترة، عديمة الاكتراث بشيء؟ إن ثوبك البراق ملقى بإهمال، مع أنك على أبواب الزواج، وستجدين نفسك مضطرة إلى ارتداء أجمل ثيابك، كما يجب أن تلبسي تابعاتك ثيابا جميلة أيضا. إن مثل هذه الأمور، كما تعلمين، مصدر ذيوع الصيت الجميل بين الناس، كما تشرح صدر الأب والأم المبجلة. هيا يا فتاتي، تعالي، هلم بنا عند مطلع الفجر ننطلق لنغسل الملابس، وسأكون في صحبتك لأساعدك، حتى تستطيعي تجهيز نفسك بسرعة؛ فإنك لن تظلي عذراء طويلا. وها هم مغازلوك كثيرون في طول البلاد وعرضها، من أشرف سائر الفياكيين الذين تنحدر منهم سلسلة نسبك. هيا، أيقظي أباك النبيل مبكرا هذا الصباح، كي يعد لك العربة والبغال، لتحمل الأحزمة والأثواب والأغطية الزاهية. كما أنه لا يليق بك أن تذهبي ماشية على قدميك؛ لأن أحواض الغسيل نائية جدا عن المدينة.»
ما إن قالت الربة، أثينا البراقة العينين، ذلك الكلام، حتى انطلقت عائدة إلى أوليمبوس موطن الآلهة، الذي يقولون إنه راسخ في موضعه إلى الأبد، فلا تهزه الرياح، ولا تبلله الأمطار، ولا يسقط الثلج فوقه، بل يحيط به الهواء صافيا، خاليا من الغيوم والسحب، ويلفه سناء لآلاء ، يمرح فيه الآلهة المباركون طيلة أيامهم، فإلى هناك ذهبت الربة المتألقة العينين بعد أن أفضت إلى الفتاة بكامل أقوالها.
ناوسيكا تعمل بمشورة أثينا
سرعان ما انبثق الفجر الجميل العرش، وأيقظ ناوسيكا الجميلة الهندام، فتذكرت حلمها في الحال، وعجبت منه فانطلقت وسط القصر لتخبر أبويها؛ والدها العزيز وأمها، فوجدتهما هناك داخل البيت. كانت أمها جالسة أمام الوطيس مع خادماتها، تغزل صوفا أرجواني اللون. أما أبوها فقد التقت به وهو في طريقه إلى المجلس ليجتمع بالملوك الأمجاد، حيث قد استدعاه الفياكيون، فاقتربت من أبيها العزيز وابتدرته بقولها: «أبتاه العزيز، ألا يمكن أن تعد لي عربة، متينة، عالية العجلات، لأذهب إلى النهر كي أغسل ثوبي الملقى هنا قذرا؟ وإنه لأليق بك أيضا وأنت بين الأمراء في المجلس أن تكون ملابسك نظيفة، كما أن لك خمسة أبناء يعيشون في ساحاتك - منهما اثنان متزوجان، وثلاثة عزب أقوياء - فهؤلاء يرغبون دائما في ارتداء أنظف الثياب المغسولة حديثا، عندما يذهبون إلى المراقص. إذن وجب علي أن أفكر في إعداد كل ذلك.»
هكذا قالت الفتاة الحسناء؛
5
إذ خجلت من ذكر موضوع الزواج المفرح
6
لأبيها، بيد أنه فهم كل شيء، ورد عليها بقوله: «ليست البغال بعزيزة عليك، يا طفلتي، ولا أي شيء آخر. دونك وما أزمعت القيام به، فسيعد لك الخدم عربة، متينة العجلات عاليتها، مزودة بصندوق فوقها.»
ناوسيكا تغسل الملابس مع الوصيفات
ما إن قال الملك هذا،
7
حتى نادى الخدم، فلبوا النداء، وهرعوا إلى خارج القصر يعدون عربة تجرها بغال سريعة الجري، وجاءوا بالبغال فربطوها إلى العربة، وأحضرت الفتاة ثوبها المتألق من حجرتها، فوضعته فوق عربتها اللامعة، بينما أعدت أمها صندوقا ملأته بجميع صنوف الطعام حتى لا تشعر ابنتها بالجوع. لقد وضعت به أشهى وألذ الأطعمة، وملأت قربة من جلد الماعز بالخمر، وعندئذ صعدت العذراء إلى ظهر العربة. كما أعطتها أمها قارورة من الذهب مليئة بزيت الزيتون الخالص، كي تستعمله ابنتها وخادماتها في الاستحمام، فأمسكت ناوسيكا بالأعنة البراقة، وبالسوط، وألهبت به ظهور البغال، فانطلقت بالعربة، تعدو بأقصى سرعتها ، محدثة صليلا في أثناء عدوها، وهي تجر العربة التي تحمل الثوب والعذراء. ولم تكن الفتاة وحدها، بل كانت بصحبة خادماتها.
ظل الركب في طريقه حتى بلغ تيارات النهر الجميلة، حيث كانت أحواض الغسيل التي لم ينضب معينها قط - إذ كانت المياه الصافية الرقراقة تتدفق غزيرة، مندفعة إلى أعلى، فتعمل على نظافة الثياب، مهما كانت قذرة - هناك خلت الخادمات عن البغال، وسرن بحذاء النهر ذي الدوامات، حيث تركنها ترعى الحشائش المائية التي كانت كالعسل حلاوة، وأخذن الثوب من العربة في أيديهن، وحملنه إلى الماء القاتم، فغمسنه في الأخاديد، وقد انهمكت كل منهن تنافس الأخرى. وبعد أن فرغن من غسل الأثواب، ونظفنها من جميع الأوساخ، بسطنها في صفوف على شاطئ البحر، حيث كانت الأمواج ترتطم باليابسة فتجعل الحصى نظيفا غاية النظافة، ثم اغتسلن وتعطرن جيدا بالزيت، وبعد ذلك تناولن الطعام على ضفة النهار، وانتظرن حتى تجف الملابس في أشعة الشمس الساطعة. وبعد أن نلن قسطا وافرا من الطعام، الأميرة وخادماتها، خلعن عذارهن، وشرعن يلعبن بالكرة. وكانت ناوسيكا الناصعة الذراعيين، رائدتهن في الغناء.
8
وكانت أرتيميس القواسة تجوس خلال الجبال، بحذاء حافات تاوجيتوس
Taygetus
الشاهقة، أو إرومانثوس
Erymanthus ، مسرورة بمطاردة الخنازير البرية والظباء السريعة، وكان يصحبها في رياضتها هذه حوريات الغابة، بنات زوس، حامل الترس، وليتو
9
مسرورة القلب - وكانت هامة أرتيميس وجبينها يعلوان فوقهن جميعا؛ ولذا كان يمكن التعرف عليها في سهولة، رغم فرط جمالهن كلهن - ومن ثم وقفت العذراء، غير المتزوجة، تتلألأ بهاء وسط خادماتها.
أوديسيوس يستيقظ على صرخات الوصيفات
ما إن همت الفتاة تربط البغال إلى العربة، وتطوي الثوب الرائع، لتعود إلى قصرها، حتى فكرت الربة، أثينا ذات العينين الساطعتين، في خطة أخرى، وهي أن توقظ أوديسيوس، فيرى العذراء الفاتنة المحيا، التي ستقوده إلى مدينة الفياكيين. وعندئذ قذفت الأميرة الكرة إلى إحدى وصيفاتها، فإذا بها تخطئ طريقها، فلا تصل إلى الوصيفة، بل إلى الدوامة العميقة، فصرخت الفتيات جميعا بصوت مرتفع، فاستيفظ أوديسيوس العظيم، واعتدل جالسا، وحار في فكره وقلبه قائلا لنفسه: «ويحي! إلى بلاد من من البشر قد ساقتني المقادير؟ أهم قساة، متوحشون ظالمون؟ أم أنهم يحبون الأغراب ويخافون الآلهة في قرارة أنفسهم؟ لقد رنت في أذني صيحة، يخيل إلي أنها لعذارى، أو لحوريات من اللواتي يسكن قمم الجبال الشامخة، والينابيع التي تغذي الأنهار بمائها، والمروج المعشوشبة! أمن المعقول أنني في مكان قريب من قوم يتحدثون كما يتحدث البشر؟ كلا، فلأقومن بنفسي، وأحاول استطلاع الأمر.»
أول حديث لأوديسيوس مع ناوسيكا
خرج أوديسيوس من تحت الشجيرتين ثم خطا إلى الأمام أشبه بأسد.
ما إن قال أوديسيوس العظيم هذا لنفسه، حتى خرج من تحت الشجيرتين، وكسر بيده القوية غصنا من أغصان الغابة الكثيفة، غصنا كثير الأوراق، ليضعه حول وسطه ويستر به عورته، ثم خطا إلى الأمام أشبه بأسد جبلي المنبت، معتمد على قوته، يتقدم وسط هطول الأمطار وهبوب العواصف، غير عابئ بها، بل تقدح عيناه بالشرر، فيهجم على قطيع الأبقار أو الأغنام، أو على الغزال البري، ملبيا نداء بطنه، مقتحما حتى الحظيرة المتينة البناء ليغير على القطعان. هكذا كانت حال أوديسيوس، وهو يوشك على الدخول وسط جماعة العذارى ذوات الغدائر الجميلة، رغم عريه؛ إذ كان مدفوعا بباعث الحاجة. وكان منظره أمامهن مروعا، ملطخا بالماء الملح، فانكمشن مذعورات، واحدة هنا، وواحدة هناك، بجوار أكوام الرمال الناتئة. بيد أن ابنة ألكينوس، هي وحدها التي بقيت ثابتة في مكانها لم تهرب؛ لأن أثينا بثت الشجاعة في قلبها، ونزعت الخوف من أطرافها، فلم تطلق العنان لقدميها كغيرها
10
بل وقفت في مواجهته، فحار أدويسيوس ماذا يفعل! أيمسك بركبتي الفتاة الحسناء، ويتوسل إليها، أم يتوسل برقيق الألفاظ وهو واقف مكانه، عسى أن تدله على المدينة وتعطيه ثوبا. وبينما هو في تفكيره، رأى من الأفضل أن يقف بعيدا، ويتضرع إليها بعبارات لطيفة، لئلا يغضب عليه قلب الفتاة إذا أمسك بركبتيها، ولتوه خاطبها بعبارات رقيقة خداعة، فقال: «عفوا، سيدتي الملكة، أأنت ربة، أم أمن البشر؟ فإن كنت ربة من اللواتي مسكنهن السماء الفسيحة، فإني أشبهك بأرتيميس، ابنة زوس العظيم، فإنك تشبهينها تمام الشبه، جمالا وقدا واعتدالا. أما إذا كنت من البشر الذين يسكنون الأرض المترامية الأطراف، فمبارك أبوك ثلاث مرات، وكذا أمك الوقورة، ومبارك ثلاث مرات إخوتك؛ فإني لأعتقد أن هناك على الدوام قلوبا زاخرة بالسرور من أجلك، مغتبطة برؤيتك تدخلين حلقة الرقص، زهرة يانعة باهرة. غير أن المبارك أكثر من هؤلاء، هو ذلك الذي سيغلب بهداياه من الوصول إلى قلبك ويأخذك إلى بيته؛ فلم يسبق لعيني أن رأتا إنسانا مثلك رجلا كان أم امرأة، إن الدهشة لتتملكني وأنا أنظر إلى طلعتك البهية. ولئن أردت الحق، فإنني رأيت ذات مرة، في ديلوس
Delos ، شيئا كهذا، غصنا في نخلة، ينمو بجوار مذبح أبولو - فقد ذهبت إلى هناك، أيضا، وتبعني قوم كثير، في تلك الرحلة التي كتب لي فيها الشقاء الجم والمحن العصيبة - هكذا عندما رأيت ذلك الفنن، عجبت في قلبي فترة طويلة؛ إذ لم يسبق لي أن رأيت مثل ذلك النبت يخرج من الأرض. كذا يتملكني العجب من مرآك، يا سيدتي، وأخاف غاية الخوف أن ألمس ركبتيك. لقد انتابتني الأحزان والهموم البالغة؛ فأمس، في اليوم العشرين، هربت من البحر القاتم بلون الخمر، وحملتني الأمواج والرياح السريعة من جزيرة أوجوجيا
Ogygia ، فقذف بي القدر الآن إلى هذا الشاطئ، كي أقاسي الآلام هنا أيضا؛ فإنني أعتقد أن متاعبي لن تكف بعد، بل ستذيقني الآلهة مزيدا منها. أشفقي علي، أيتها المليكة، فقد جئت إليك الآن بعد متاعب جمة مرهقة؛ إذ لست أعرف أحدا ممن يملكون هذه المدينة والحقول. أريني المدينة، وأعطيني ثوبا ما، أستر به جسدي، إذا كان لديك ما يتدثر به المرء عندما جئت إلى هذا المكان. وإني لأتوسل إلى الآلهة أن تمنحك زوجا وبيتا، ووحدة في القلب - هدية عظيمة - فما من شيء أعظم من أن يعيش الرجل وزوجته في منزل متحدين متحابين، فيكون هذا كمدا لأعدائهما، وفرحا لأصدقائها، أما هما فيعرف كل منها صاحبه حق المعرفة.»
ناوسيكا تعطف على أوديسيوس
عندئذ ردت عليه ناوسيكا الناصعة الذراعين بقولها: «أيها الغريب، ما دمت لا تبدو رجلا شريرا، ولا جاهلا، وزوس الأوليمبي نفسه هو الذي يمنح السعادة للبشر، لكل من الأخيار والأشرار، فيمنح كل امرئ ما يشاء، وهكذا قد منحك أيضا هذا الحظ، إذن فلتتحمل ما قدر لك. أما الآن، فحيث إنك قد جئت إلى مدينتنا وإلى بلادنا، فلن تفتقر إلى اللباس أو إلى أي شيء مما يحتاجه المتضرع الذي لاقى المحن والتجارب في طريقه إلينا؛ فسأقودك إلى المدينة، وأخبرك باسم الشعب؛ فهذه المدينة يملكها الفياكيون، وكذا هذه البلاد. وإنني ابنة ألكينوس، العظيم القلب، الذي يتوقف عليه عضد وقوة الفياكيين.»
قالت ناوسيكا هذا، ونادت خادماتها الجميلات الغدائر، وأمرتهن بقولها: «قفن يا وصيفاتي، إلى أين فراركن عند رؤية رجل؟ لا شك أنكن خائفات من أن يكون عدوا! كلا، فلا يوجد ولن يعيش، من يأتي بلاد الفياكيين كعدو؛ لأننا أعزاء جدا على الخالدين، بمنأى عن سائر الدنيا، نقطن في البحر الصاخب، في أقصى بقعة عن البشر، ولا علاقة قط لأي فرد آخر بنا. أما هذا الرجل فضال مسكين، ساقته الأقدار إلى هذا المكان. علينا الآن أن نرعاه؛ لأن جميع أبناء السبيل والشحاذين، يرسلهم زوس، ويجب الترحيب بأية هدية مهما صغرت. هيا، إذن يا وصيفاتي، قدمن لهذا الغريب طعاما وشرابا، واغسلنه في النهر، في بقعة بها مأوى من الريح.»
أوديسيوس يغتسل بأمر ناوسيكا
ما إن قالت هذا، حتى وقفت الخادمات، ونادت كل منهن الأخرى، وصحبن أوديسيوس إلى مكان بعيد عن مهب الريح،
11
كما أمرتهن ناوسيكا ابنة ألكينوس العظيم القلب، ووضعن إلى جواره عباءة ورداء ليتدثر بهما، وأعطينه قارورة ذهبية بها زيت زيتون صاف، وأمرنه أن يستحم في مجرى النهر، فقال أوديسيوس العظيم وقد التفت حوله الخادمات: «أيتها الوصيفات، قفن هنا بعيدا عني، حتى أستطيع أن أزيل بنفسي، ما علق بمنكبي من الماء المالح، وأدهن نفسي بزيت الزيتون؛ لأنه بحق لم يمس الزيت جلدي منذ أمد بعيد. لا يمكنني أن أستحم في حضرتكن؛ إذ يخجلني أن أتعرى أمام العذراوات الجميلات الجدائل.»
هكذا قال، فانصرفت الخادمات، وأخبرن الأميرة، وعندئذ أزال أوديسيوس العظيم من فوق الجلد بماء النهر ما علق بظهره وكتفيه العريضتين من آثار الماء المالح، وغسل عن رأسه زبد البحر الصاخب. وبعد أن غسل سائر جسمه، ودهن جسده بالزيت، وارتدى الملابس التي جادت بها العذراء الفاتنة، جعلته أثينا، ابنة زوس، أطول في ناظر من يتطلع إليه، وأشد قوة، وجعلت خصل الشعر المتدلية من رأسه، أشبه بزهرة الأقحوان. وكما يجيد تلاميذ
12
هيفايستوس الماهرون، ومن علمتهم أثينا جميع أفانين المهن، تطعيم الفضة بالذهب، فيبدو عملهم رائعا جميلا. هكذا أيضا سكبت الربة حسنا وبهاء على رأسه وكتفيه بعد ذلك، ذهب أوديسيوس وجلس بعيدا على شاطئ البحر، يتألق حسنا وجمالا، فدهشت العذراء المرآة، وتحدثت إلى وصيفاتها ذوات الشعور الجميلة، بقولها: «أصغين، أيتها العذراوات، الناصعات الأذرع، كي أقول لكن شيئا. لم يأت هذا الرجل، إلى الفياكيين الشبيهي الآلهة، دون إرادة الأرباب الساكنين أوليمبوس؛ فقد كان يبدو لي أول ما رأيته، صعلوكا، أما الآن فإنه يشبه الآلهة، الذين يحتلون السماء الفسيحة. ليت رجلا مثله يتزوجني، ويسكن هنا، ويسره البقاء في بلادنا. هيا يا وصيفاتي، قدمن لهذا الغريب الطعام والشراب.»
هكذا قالت، فلبت الخادمات أمرها في الحال، وقدمن إلى أوديسيوس طعاما وشرابا. وعندئذ شرب أوديسيوس العظيم التحمل، ما طاب له أن يشرب، وأكل ملء بطنه؛ إذ كان قد مضى عليه وقت طويل، لم يذق فيه طعاما.
ناوسيكا ترشد أوديسيوس
أما ناوسيكا الناصعة الساعدين، فاهتمت بعمل آخر؛ إذ طوت الملابس، ووضعتها في العربة الجميلة، وشدت البغال القوية الحوافر إلى النير، واعتلت بنفسها العربة. وبعدئذ التفتت إلى أوديسيوس، وحيته، وخاطبته بقولها: «انهض الآن، أيها الغريب، كي تذهب إلى المدينة، وأدلك على بيت أبي الحكيم، حيث أطمئنك بأنك ستعرف جميع أشراف الفياكيين. اعمل حسب إرشادي، ولا أخالك مفتقرا إلى الإدراك. طيلة مرورنا خلال الريف وحقول القوم المفلوحة، سر أنت بسرعة، مع الوصيفات خلف العربة والبغال، بينما أقود أنا الطريق، حتى إذا ما أوشكنا على بلوغ المدينة، التي يحيط بها سور شاهق، تخلف عنا. هناك ميناء جميل يقع إلى جانب المدينة، به مدخل ضيق، والسفن المعقوفة قد سحبت بحذاء الطريق؛ لأن هناك مواقف لسفن الجميع. كل رجل له موقف خاص بسفنه، كما أن هناك أيضا مكانا يحتشدون فيه حول معبد بوسايدون الجميل، الراسخ عميقا بصخور وضعت في الأرض إلى عمق كبير. هناك تجد الرجال منهمكين في حبال سفنهم السوداء، وفي المراسي والقلاع، كما أنهم يصنعون هناك صفحات المجاذيف الرقيقة؛ إذ لا يهتم الفياكيون بالقوس، ولا بجعبة السهام، بل بالصواري ومجاذيف السفن، وبالسفن الجميلة، التي يجدون فيها لذتهم، ويعبرون بها البحر الرمادي. إنني أتحاشى انتقادهم، لئلا يعيرني شخص ما، فيما بعد؛ إذ يوجد بالبلاد قوم صلفون حقا، فلو التقى بنا رجل من السفلة لقال: «من هذا الذي يتبع ناوسيكا، إنه لرجل فارع الطول، لطيف المنظر، وإنه لغريب؟ أين عثرت عليه؟ إنه سيصبح زوجها دون شك. ربما كان هذا أحد من يجوسون بسفنهم خلال البحر، من قوم يسكنون بلادا نائية - فما من أحد قريب منا - وما من إله، طال التوسل إليه، قد هبط من السماء استجابة لتوسلاتها، ولسوف تتخذه زوجا لها طوال حياتها. كان من الأفضل لو أنها ذهبت بنفسها إلى بلاد بعيدة، واختارت زوجا من شعب آخر؛ فإنها، والحق يقال، تحتقر الفياكيين هنا في هذه البلاد؛ إذ هام بها عشاق وأشراف كثيرون!» هكذا سوف يقولون، ويكون هذا معيرة لي. إنني أنا نفسي، ألوم أية عذراء أخرى، تفعل مثل هذا الأمر، رغم وجود أبيها وأمها العزيزين على قيد الحياة، أن تتصل برجل آخر قبل يوم زواجها العلني. كلا أيها الغريب، أصغ بسرعة إلى حديثي، حتى يمكنك أن تحصل من أبي على رفيق يوصلك إلى وطنك. ستجد بالقرب من الطريق كهفا كبيرا للربة أثينا، كهفا من أشجار الصفصاف، ينبثق بداخله ينبوع، وحوله مرج. هناك حديقة والدي، وكرمته المثمرة، وتبعدان عن المدينة مسافة مدى صوت الإنسان عندما يصيح. اجلس هناك، وانتظر قليلا ريثما نصل نحن إلى المدينة ونبلغ قصر أبي، فإذا ما اعتقدت أننا نكون قد بلغنا المنزل، انهض وتوجه إلى مدينة الفياكيين، واسأل عن قصر والدي، ألكينوس، العظيم القلب . إن الاهتداء إليه لمن السهولة بمكان؛ إذ يستطيع صبي حتى ولو كان محض طفل، أن يرشدك عنه؛ فهو مشيد بطريقة تختلف تماما عن بقية منازل الفياكيين، فإذا ما صرت بداخل القصر، والجناح الملكي، سر قدما عبر القائمة الكبرى، إلى أن تصل عند أمي، التي تجلس في ضوء النار بالقرب من المدفأة، تحيك منسوجا أرجوانيا، أعجوبة للناظرين، متكئة على عمود، وتجلس وصيفاتها خلفها، ويتكئ على نفس العمود، عرش أبي، حيث يجلس ويعب الخمر، كأنه أحد الخالدين. تجاوز أبي، واتجه بسرعة نحو أمي، وضع يديك حول ركبتيها، لكي تستطيع أن ترى بسرعة يوم عودتك، رغم أنك لم تقدم من مكان بعيد؛ فلو أمكنك أن تحوز رضاها، لكان لك أمل في أن ترى أصدقاءك وتعود إلى وطنك وإلى بيتك الراسخ البناء.»
أوديسيوس يصل لأثينا
ما إن قالت ناوسيكا
13
هذا، حتى ألهبت متون البغال بالسوط اللامع، وأسرعت تاركة وراءها مجرى النهر، فأخذت البغال تتبختر بمهارة، وبمهارة راحت تعمل أقدامها السريعة، وراحت الأميرة تسوق العربة بطريقة لا ترهق الوصيفات وأوديسيوس، وهم يتبعونها سيرا على الأقدام، وكانت تستخدم السوط بحكمة. ولما غابت الشمس، وصلوا إلى الكهف المجيد، المقدس لأثينا، فجلس أوديسيوس هناك، وراح من فوره يتوسل إلى ابنة زوس العظيم قائلا: «أصغي إلي يا ابنة زوس، حامل الترس، ذلك الذي لا يكل. أصغي إلى صلاتي، ما دمت لم تصغي إلي من قبل، يوم أن ضربت، عندما ضربني مزلزل الأرض المجيد. سهلي علي الوصول إلى أرض الفياكيين، كي أقابل بالترحيب، وألقى عطف القوم وشفقتهم.»
هكذا صلى أوديسيوس، فاستمعت إليه بالاس أثينا، ولكنها لم تظهر أمامه وجها لوجه؛ إذ كانت تخشى غضب شقيق أبيها، الذي ثار بحمية ضد أوديسيوس، الشبيه بالإله، إلى أن وصل أخيرا إلى وطنه.
الأنشودة السابعة
ناوسيكا في عقر دارها
هكذا صلى هناك أوديسيوس العظيم، البالغ المعاناة، بينما كان البغلان القويان يجران العذارى إلى المدينة، فلما بلغت ناوسيكا قصر أبيها الباذخ، أوقفت البغال أمام الباب الخارجي، واحتشد أشقاؤها حولها، رجال أشبه بالخالدين، فخلوا عن البغال ، من العربة، وحملوا الملابس إلى الداخل، فانطلقت هي إلى حجرتها، فأوقدت النار لها وصيفتها يوروميدوسا
Eurymedusa ، السيدة العجوزة الأبايرية
Aperié ، تلك التي جلبتها السفن المعقوفة من أبايري، واختارها القوم من بين الغنائم، جائزة شرف للملك ألكينوس، الذي كان عاهل سائر الفياكيين، وكان القوم يأتمرون بأمره كما لو كانوا يأتمرون بأمر إله. وهي التي قامت بتربية ناوسيكا الناصعة الذراعين، واضطلعت بتنشئتها في القصر، فأوقدت لها النار. وأعدت لها عشاءها في مقصورتها.
أي طفلتي، ألا يمكنك أن تدليني على منزل من يسمونه ألكينوس؟
أوديسيوس وسط الغمام
في ذلك الحين، نهض أوديسيوس ليذهب إلى المدينة، وألقت أثينا، حوله غمامة كثيفة، بنية خالصة، كي لا يتحدث إليه أحد من الفياكيين، العظيمي القلوب، إذا ما التفوا به، أو يسخروا منه، ويسألوه من يكون، فلما أوشك على دخول المدينة العظيمة الجميلة، قابلته الربة أثينا، ذات العينين النجلاوين، متنكرة في زي فتاة يافعة تحمل جرة، ووقفت أمامه فسألها أوديسيوس العظيم بقوله:
سأريك القصر، كما تريد أيها الغريب. «أي طفلتي، ألا يمكنك أن تدليني على منزل من يسمونه ألكينوس، ذلك الذي يحكم هنا كملك على هذا القوم؟
1
لأنني قدمت إلى هنا، غريبا، من بلاد قصية، ومنهكا غاية الإنهاك؛ ولذا لست أعلم أي قوم يملكون هذه المدينة، وهذه البلاد.»
عندئذ أجابته الربة، أثينا المتألقة الناظرين، قائلة: «إذن فسأريك القصر، كما تريد، أيها الغريب. إنه قريب من بيت أبي الشريف. كل ما عليك هو أن تمشي معي في هدوء بينما أرشدك إلى الطريق. بيد أنه يجب ألا تلتفت بعيونك نحو أي رجل، وألا تسأل أحدا؛ لأن القوم هنا لا يحتملون رؤية الأغراب، ولا يرحبون بمن يأتي من بلد آخر. إنهم والحق يقال يثقون في سرعة سفنهم الماخرة، ويعبرون بها هوة البحر العظيمة؛ لأن هذا هو ما وهبهم إياه مزلزل الأرض، وسفنهم تسير بسرعة بالغة كأنها طائر يبسط جناحيه، أو فكرة تمر في سرعة.»
2
قالت بالاس أثينا هذا، وشقت الطريق بسرعة، بينما سار أوديسيوس
3
في أعقاب الربة. وبينما كان أوديسيوس يسير بين الفياكيين خلال المدينة، لم يعره القوم المشهورون بسفنهم أي التفات؛ لأن أثينا الربة المهوبة ، ذات الغدائر الفاتنة، لم تكن لتحتمل هذا، وعلى ذلك أحاطته بغمامة عجيبة؛ إذ كان قلبها يعطف عليه. ودهش أوديسيوس لفخامة الموانئ، والسفن الرائعة الواقفة عند مكان الاجتماع، حيث كان الأبطال أنفسهم محتشدين. كما أعجب بالحوائط الطويلة الشاهقة التي تعلوها الطرق البديعة نزهة للرائين، فلما بلغا قصر الملك المنيف، بادرته أثينا، اللامعة الطرف، بقولها: «هنا، يا سيدي الغريب، البيت الذي طلبت مني أن أدلك عليه، ستجد الملوك، نسل زوس، جالسين إلى المائدة يولمون، ادخل
4
بقلب جريء، ولا تخش شيئا؛ لأن الرجل المقدام مفضل في كل شيء، حتى ولو كان غريبا من بلد آخر. اقترب أولا من الملكة أريتي
Arete ،
5
في القصر؛ فهذا اسمها الذي تدعى به، وإنها لتنحدر من نفس سلسلة نسب الملك ألكينوس. كانت ناوسيثوس
Nausithous ، في البدء ابنة لبوسايدون، مزلزل الأرض وبيريبويا
، عظمى النساء فتنة وجمالا، وصغرى بنات يوروميدون
Eurymedon
العظيم القلب، الذي كان فيما مضى ملكا على العمالقة المتغطرسين، ولكنه جر الخراب على قومه، وتحطم هو نفسه، فاضطجع بوسايدون مع بيرويبويا، وأنجب ابنة ناوسيثوس المقدام، الذي حكم الفياكيين، وأنجب ناوسيثوس، بدوره، ريكسينور
Rhexenor ، وألكينوس. ولما لم ينجب ريكسينور، حتى الآن أية أولاد، ضربه أبولو ذو القوس الفضية في ساحته، رغم أنه كان حديث الزواج، وخلف ابنة واحدة فقط، هي أريتي، فتزوجها ألكينوس، وأمعن في إكرامها بما لم تكرم به امرأة قط على وجه الأرض، من سائر أولئك اللواتي كن يهيمن، في تلك الأيام، على شئون بيوتهن ويرضخن لأزواجهن، فأكرمت غاية الإكرام، وظلت دائما مكرمة، من أولادها، ومن ألكينوس نفسه، ومن الشعب الذي كان يعتبرها كربة،
6
ويحييها كلما مشت خلال المدينة؛ إذ كانت بالذات وبلا شك ذات فطنة وحكمة وإدراك سليم، وكانت تفصل بحكمة بين النساء المتنازعات، فتضع حدا لمنازعاتهن حتى ولو كانت المنازعات مع أزواجهن، فلو نلت الرضى في عينيها، لكان هناك أمل، أي أمل في أن ترى أصدقاءك، وتعود إلى منزلك العالي السقف، وإلى وطنك.»
أوديسيوس أمام قصر الملك المنيف
قالت أثينا المتألقة الطرف هذا، وانصرفت عبر البحر الصاخب، تاركة سخيريا
Scheria
الجميلة. ذهبت إلى ماراثون
Marathon
وأثينا
7
الفسيحة الطرقات، ودخلت بيت إريخثيوس
Erechtheus
8
المتين البناء، أما أوديسيوس فاتجه نحو قصر ألكينوس الباذخ. وقف هناك يفكر في نفسه، وأطال التفكير قبل أن يبلغ العتبة البرونزية؛ إذ كان يتألق هناك شعاع كأنه من أشعة الشمس أو القمر، فوق منزل ألكينوس الباسل، ذي السقف الشامخ. أما الحوائط فكانت من البرونز، وتمتد على كلا جانبي العتبة حتى المقصورة الداخلية، بإطار سفلي من الميناء الزرقاء.
9
وكانت الأبواب التي تحكم إقفال ذلك المنزل المتين البناء، من الذهب الإبريز، ومثبتة في قوائم من اللجين فوق عتبة برونزية. كما كانت القواعد العليا للنوافذ من اللجين كذلك. أما مقابض النوافذ والأبواب فكانت من العسجد. وتقف على جانبي الباب كلاب من الذهب والفضة، صاغها هيفايستوس بمهارة فنية، لتحرس قصر ألكينوس المقدام. لقد كانت تلك الكلاب خالدة لا تعرف الشيخوخة طوال حياتها.
10
أما في الداخل فكانت المقاعد بطول جانبي الحائط، ابتداء من العتبة حتى أقصى القاعة الداخلية، وقد ألقيت فوقها أثواب من المنسوج الناعم، قد حاكته النساء بأيديها بمهارة.
11
واعتاد قادة الفياكيين أن يجلسوا على هذه المقاعد ليشربوا ويأكلوا؛ إذ كانوا يمتلكون خزينا لا ينضب. كما كانت تقف هناك تماثيل ذهبية لغلمان تحمل المشاعل المضيئة، في أيديها لتنير المكان ليلا للمدعوين في القاعة، وتقف على قواعد راسخة. وبالقصر خمسون أمة؛ بعضهن يطحن الحب الأصفر بالرحى، أخريات ينسجن الأقمشة، أو يلففن خيوط الغزل وهن جالسات، كأنهم أوراق
12
شجرة صفصاف باسقة، ويتساقط من الكتان الضيق النسج، زيت الزيتون الصافي؛
13
فكما كان الرجال الفياكيون ماهرين في قيادة السفن السريعة فوق صفحة البحر، كذلك كانت السيدات عاملات ماهرات على المنول؛ إذ وهبتهن أثينا، دون غيرهن، حذق الأشغال اليدوية، والقلب المدرك. وخارج البهو، بقرب باب القصر مزرعة كروم هائلة تبلغ مساحتها أربع مقطوعيات
14
ويحيط بها مرتفع تنمو فيه أشجار فاخرة باسقة، أشجار الكمثرى والرمان والتفاح، قطوفها دانية تتلألأ، وأشجار التين الحلو، والزيتون الجيد. ولم تكن ثمار هذه الأشجار لتنقطع أبدا، سواء في الشتاء أو في الصيف، بل كانت دائمة الإثمار طوال العام. وتساعد الريح الغربية بهبوبها الدائم على سرعة نضج الثمار، فتنضج الكمثرى واحدة بعد الأخرى، والتفاحة إثر التفاحة، وعنقود العنب بعد العنقود، والتينة وراء الأخرى. أما مزرعة الكروم للثمرة فكان بها منطقة دافئة، بأحد أجزائها تمتد على أرض منبسطة، حيث يجفف العنب في الشمس، بينما يجمع الرجال العنب الطازج، ويعصرونه. كان في أول الكرمة أعناب فجة تظلل النوار، بينما البعض الآخر قد تحول لونه إلى الأرجواني. وهناك أيضا بجانب آخر صف للكروم، أحواض لنباتات الأزهار المختلفة، من شتى الأنواع، تنمو وتزهر طول العام. وبداخل الحديقة ينبوعان، يتدفق ماء أحدهما خلال الروض فيرويه بأكمله، بينما تتدفق مياه الآخر أسفل عتبة البهو صوب القصر المنيف. من هذا الينبوع يستقي أهل المدينة. تلك كانت هدايا الآلهة المجيدة في ألكينوس.
وقف أوديسيوس العظيم، الكثير الاحتمال، مدهوشا أمام هذه العجائب، وبعد أن نال كل شيء إعجاب قلبه، مر مسرعا من العتبة إلى داخل القصر، فوجد قادة الفياكيين ومستشاريهم يسكبون السكائب من كئوسهم، لأرجايفونتيس الحاد البصر، الذي اعتادوا أن يسكبوا له الخمر، بعد الانتهاء من أعمالهم، واعتزامهم الذهاب لينعموا بالراحة.
أوديسيوس يتضرع إلى زوجة ألكينوس
دخل أوديسيوس العظيم، البالغ المقاساة، إلى القاعة تلفه الغمامة الكثيفة التي أرسلتها أثينا حوله، حتى بلغ مكان أريتي والملك ألكينوس، فألقى يديه حول ركبتي أريتي، وفي التو انقشعت الغمامة العجيبة من حوله، وشاع السكون على سائر من كانوا بالقاعة عندما أبصروا ذلك الرجل، وامتلأت نفوسهم عجبا وهم يتجهون بأبصارهم نحوه، ولكن أوديسيوس شرع يتوسل قائلا: «هيا أريتي، يا ابنة ريكسينور الشبيه بالإله، إنني أجيء إلى زوجك وإلى ركبتيك بعد مشاق عديدة. نعم، وإلى هؤلاء الضيوف، الذين أرجو أن تهبهم الآلهة السعادة في الحياة، وكل منهم يخلف لأطفاله، ثروته الموجودة بساحاته، وفروض المجد التي منحه إياها الشعب. إنني أتوسل إليك أن تعجلي بإرسالي إلى وطني، بسرعة؛ إذ ظللت مدة طويلة أقاسي المحن بعيدا عن أصدقائي.»
إخينيوس يكرم أوديسيوس
ما إن قال أوديسيوس هذا، حتى جلس فوق المدفأة، على الرماد بجانب النار، بينما خيم الصمت على الجميع. وأخيرا تكلم في وسطهم السيد العجوز إخينيوس
Echeneus ، وكان يكبر الفياكيين سنا، ذا لسان لافظ، ويعرف سائر حكم القدماء، فقال بضمير خالص، مخاطبا المجلس: «أي ألكينوس، للعجب أن هذه ليست طريقة مثلى؛ فلا يليق أن يجلس غريب فوق الأرض على المدفأة وسط الرماد، بينما يقف أتباعك أولاء ينتظرون كلمتك. مر الغريب أن ينهض، ودعه يجلس فوق مقعد مطعم باللجين، ومر الخدم أن يمزجوا الخمر، حتى يمكننا أن نسكب السكائب لزوس أيضا، ذلك الذي يقذف بالصاعقة؛ لأنه يشرف دائما على المتضرعين الموقرين، وعلى ربة البيت أن تقدم لهذا الغريب
15
عشاء من خزين دارها.»
مظاهر الترحيب بأودويسيوس
عندما سمع ألكينوس القوي العتيد هذا، أمسك بيد أوديسيوس، العاقل والداهية، وأنهضه من فوق المدفأة وأجلسه على كرسي يتلألأ، أمر ابنه لاوداماس
Laodamas
الجسور
16
أن ينهض من فوقه ويخليه
17
له؛ إذ كان يجلس إلى جانبه، وكان خير أحبائه. بعد ذلك أحضرت إحدى الإماء جرة بها ماء ليغسل يديه، جرة من الذهب، وأفرغت الماء في طست من الفضة، ثم أحضرت أمامه منضدة مصقولة. وعندئذ جاءت ربة البيت الحكيمة، ووضعت أمامه الخبز، ومعه كثير من طيبات الطعام، لا حصر لها، وجادت بسخاء من خزينها. وهكذا شرب أوديسيوس العظيم، البالغ التحمل، وأكل، ثم خاطب ألكينوس العتيد الخادم، قائلا: «امزج الطاس، يا بونتونوس
، وقدم الخمر لجميع من بالقاعة، حتى يمكننا أن نسكب السكائب أيضا لزوس، الذي يقذف بالصاعقة؛ لأن يهيمن دائما على المتوسلين الوقورين.»
قال هذا، ومزج بونتونوس الخمر العسلية المذاق، وسقى الجميع، ساكبا أولا بعض نقط في الكئوس للسكيبة. وبعد أن سكبوا السكائب، واحتسوا الخمر حتى الثمالة، نهض ألكينوس وسط الحشد، وتكلم مخاطبا إياهم قائلا: «أصغوا إلي، يا قادة ومستشاري الفياكيين، كي أتحدث إليكم بما يجول في قلبي وصدري. أما وقد انتهيتم الآن من وليمتكم، فليذهب كل منكم إلى بيته ليستريح، وعندما يطلع الصباح سندعو مزيدا من القادة إلى الاجتماع، كما ندعو الغريب في ساحاتنا، ونقدم ذبائح عظيمة للآلهة. وبعد ذلك نفكر في إرساله إلى وطنه، كي يستطيع بمعونتنا أن يصل إلى بلاده دون جهد ولا مشقة، ويبلغها بسرعة وغبطة، رغم أنه لا يأتينا من مكان قصي على الإطلاق، ولن يتكبد في نفس الوقت أي أذى أو ضرر، حتى يطأ أرض وطنه بقدميه، ولو أنه بعد ذلك سيعاني ما حاكه له القدر
Fate
والغزالات
Spinners
18
المفزعات بخيطهن عند مولده، يوم أن حملت فيه أمه. أما إذا كان هذا الغريب، واحدا من الخالدين الهابطين من السماء، فإنه شيء جديد كل الجدة، تحيكه لنا الآلهة؛ إذ كانت عادتهم فيما مضى أن يظهروا لنا في صورة واضحة، عندما كنا نقدم لهم ذبائح مجيدة من مائة ثور، فيولموا بيننا، ويجلسوا حيث نجلس. نعم، وحتى إذا التقى بهم أحدنا مصادفة، ما كانوا يختفون؛ لأننا مقربون جدا منهم، قرب الكوكلوبيس
Cyclopes ،
19
وقبائل العمالقة
Giants
المتوحشين.»
أوديسيوس يروي قصة متاعبه
عندئذ رد عليه أوديسيوس الكثير الحيل بقوله: «لتبعد عنك هذه الفكرة، يا ألكينوس؛ فلست شبيها بالخالدين، الذين يحتلون السماء الفسيحة، لا شكلا، ولا قواما ولكني أشبه البشر؛ فأي فرد من البشر تعرف أنه قاسى أهوالا جمة، فإنني أشبه نفسي به في أحزاني. نعم ويمكنني أن أسرد لك أطول قصة، عن جميع الويلات التي لاقيتها بمحض إرادة الآلهة. إنك تعذبني الآن بأن آكل رغم حزني، في من شيء أشد عارا من البطن المقيت، الذي يجبر المرء على التفكير فيه مرغما. ليتك لا تغتم أو تحمل ما أحمله في قلبي من غم وأحزان، ومع ذلك فإن أحشائي تأمرني دائما بأن آكل وأشرب، وتجعلني بذلك أنسى كل ما لاقيته، كما تأمرني بأن آكل كفايتي، فهل لك أن تسرع عند الفجر، بأن تضعني أنا الشقي، فوق تربة وطني، بعد سائر ما عانيت من ويلات جسام، فلتهجر الحياة جسمي بعد أن أكون قد رأيت، مرة أخرى، ممتلكاتي، وعبيدي، وبيتي الشاهق السقف.»
الملكة تطارح أوديسيوس الأحاديث
هكذا تكلم، فاستحسن الجميع قوله، ووافقوا على إرسال ذلك الغريب في طريقه ، ما دام قد راعى اللياقة في حديثه، وبعد أن سكبوا السكائب، وشربوا كفايتهم ، انصرف كل رجل لبيته ليخلد إلى الراحة، تاركين أوديسيوس العظيم في ساحة ألكينوس، وإلى جواره جلست أريتي وألكينوس الشبيه بالإله، بينما أخذت الجواري يحملن الصحاف من على مائدة الوليمة. وبعد ذلك كانت أريتي الناصعة الساعدين أول من تكلم؛ لأنها ما إن أبصرته، حتى عرفت لتوها الرداء الجميل، العباءة والمعطف، اللذين صنعتهما بيديها مع وصيفاتها، فوجهت إليه حديثها في عبارات رزينة،
20
قائلة: «أيها الغريب، سأوجه إليك سؤالا شخصيا؛ أولا: من تكون بين البشر، ومن أي مكان أنت؟ ومن أعطاك هذا اللباس؟ ألا تقول إنك جئت إلى هنا جائلا فوق صفحة البحر؟»
فأجابها أوديسيوس الكثير الدهاء، بقوله: «كان من الصعب، يا مليكتي، أروي خاتمة محنتي؛ إذ كثيرة هي المحن التي أعطتنيها آلهة السماء، ومع ذلك فأخبرك بما تسألينني عنه وتستجوبينني من أجله. توجد في منطقة نائية من البحر جزيرة أوجوجيا، التي تسكنها ابنة أطلس
Atlas ، الجميلة الغدائر، كالوبسو الماكرة، تلك الربة المخوفة، التي لا شأن لأحد من الآلهة أو البشر معها، ولكن أبى القدر إلا يزيد في تعاستي، فبعث بي، بمفردي إلى مدفأتها؛ إذ ضرب زوس سفينتي السريعة، بصاعقته البراقة فحطمها وسط البحر القاتم قتمة الخمر. هناك هلك سائر بقية من كنت أثق بهم من رفاقي، أما أنا فأمسكت بقاع سفينتي المعقوفة وتعلقت به، وهكذا بقيت طافيا على سطح البحر تسعة أيام، وفي الليلة العاشرة الداجية، قذفت بي الآلهة إلى جزيرة أوجوجيا، حيث تقطن كالوبسو الفاتنة الشعر، الربة المهوبة، فصحبتني إلى منزلها، وأكرمت وفادتي، وقدمت لي طعاما، وقالت إنها ستجعلني خالدا، لا تتطرق الشيخوخة إلى جسمي قط، بيد إنها لم تستطع إغراء قلبي وسط صدري. بقيت معها هناك سبع سنوات، أبلل ثوبي كل يوم بدموعي، ذلك الثوب الخالد الذي أعطتنيه كالوبسو. حتى إذا ما هلت السنة الثامنة، وأخذت تسير في مجراها الزمني، أمرتني بالعودة إلى وطني، إما بسبب رسالة من زوس، وإما لأن عقلها قد تغير من تلقاء نفسه، فأرسلتني في طريقي، فوق رمث من أخشاب الأشجار المربوطة إلى بعضها بإحكام، وزودتني بكميات وفيرة من الخبز والخمر الحلوة، وألبستني ثوبا خالدا، وبعثت إلي بريح رقيقة دافئة؛ ومن ثم بقيت سبعة عشر يوما أبحر فوق الخضم، وفي اليوم الثامن عشر، لاحت لي من بعد جبال بلادك الظليلة فسر لمرآها قلبي، وكنت سيئ الحظ؛ لأنني بحق كنت لا أزال رفيق محنة هائلة، أرسلها ضدي بوسايدون، مزلزل الأرض؛ فقد أثار الرياح ضدي لتعوق طريقي، وأهاج البحر الصاخب بصورة عجيبة، فقذفتني الموجة بعيدا عن طوفي، وأنا أئن دون انقطاع. لقد حطمت العاصفة الطوف أي تحطيم، فركنت إلى السباحة وشققت طريقي وسط أخطار
21
البحر، حتى جاءت بي الريح والأمواج، وهي تحملني إلى شواطئك، ولو أني أسرعت إلى البر هناك، لقذفت بي اللجج على الشاطئ، فوق الصخور الضخمة في مكان شديد الخطر، ولكنني عدت أدراجي وسبحت حتى بلغت نهرا، بدا لي أنه خير مكان ألجأ إليه؛ إذ كانت صخوره ملساء، وعلاوة على ذلك فقد كان بعيدا عن مهب الريح؛ عندئذ ظللت أتعثر سابحا إلى الأمام، وغطست وأنا أشهق ولا أكاد أتنفس إلا بصعوبة، حتى خيم علي الليل الخالد، وبعد ذلك خرجت من النهر الذي تغذيه السماء، واستلقيت على الأرض لأنام بين الأدغال، جامعا حولي أوراق الشجر، وسكب علي أحد الآلهة نوما بالغا،
22
فنمت هناك وسط الأوراق وقلبي متعب غاية التعب، طوال الليل كله، وإلى الصباح، وإلى الظهر، حتى استدارت الشمس مؤذنة بالمغيب، والنوم اللذيذ لم يزل قابعا فوق جفني، ثم استيقظت فإذا بي أرى خادمات ابنتك، يلعبن على الشاطئ وفي وسطهن الأميرة
23
الحسناء، أشبه بالربة، فتضرعت إليها، وإذا بها، بإدراكها السليم، لا تتوانى قط في أن تفعل ما لا يدور بخلدك أن فتاة في مثل سنها الصغيرة قد تفعله عند لقائك؛ لأن الشباب الصغير عديم التفكير دائما. لقد أعطتني مقدارا وافرا من الخبز، وخمرا صهباء، وجعلتني أستحم في النهر، وأعطتني هذا الثوب. وهكذا، أخبرك بالحقيقة، رغم جميع أحزاني.»
اشتراك ألكينوس في الحديث
فرد عليه ألكينوس بدوره يقول: «أيها الغريب، حقا، إن ابنتي لم تصب تماما، في كونها لم تصحبك إلى بيتنا مع وصيفاتها؛ لأنك توسلت إليها أولا.»
فأجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أيها الأمير، بربك، لا تلم ابنتك في هذا الأمر، لقد أمرتني فعلا أن أتبعها مع وصيفاتها، ولكني لم أفعل، بسبب الخوف والخجل، لئلا يستشيط قلبك غضبا عندما ترى الأمر؛ فإنا نحن قبائل البشر، القاطنين الأرض، سريعو الغضب.»
فرد عليه ألكينوس ثانية، وقال: «يا هذا الغريب، ليس على النحو، قلبي الكائن في داخل صدري، أن يملأه الغضب بدون داع، وإن الواجب اللائق لأفضل في كل شيء. وبحق أبينا زوس، وأثينا، وأبولو، إنني لأتمنى أن مثلك، أيها الرجل العظيم، الذي يعدلني عقلا، يتخذ ابنتي زوجة، وتسمى ابني، وتبقى هنا، ولو طاب لك البقاء هنا، لأعطيتك بيتا وممتلكات، ولكن لن يحتفظ بك أحد من الفياكيين ضد رغبتك، ولن يسمح بهذا، الأب زوس. أما عن موضوع إرسالك إلى وطنك، فلكي يطمئن قلبك وتتأكد منه، فإنني سأحدد له موعدا، وليكن غدا؛ عندئذ تنام ملء جفنيك، بينما يجدف الرجال من أجلك، عبر البحر الهادئ، حتى تبلغ بلدك وبيتك، أو إلى أي مكان تريده، مهما كان نائيا، حتى ولو كان وراء يوبويا
Euboea ، حتى يقول من شاهدها من قومنا، عندما حملوا رادامانثوس
Rhadamanthus ،
24
الجميل الشعور، لزيارة تيتيوس
Tityus
ابن جيا
Gaea ،
25
إنها أقصى بلد. لقد ذهبوا إلى هناك، وأتموا رحلتهم بغير مشقة ولا نصب، ثم عادوا إلى الوطن في نفس اليوم. ولسوف تعرف أنت أيضا، في قرارة نفسك، أن سفني هي خير سفن، ورجالي خيرة الشباب في شق البحر بنصل المجذاف.»
قال هذا، فسر أوديسيوس العظيم، البالغ التحمل وتوسل إليه قائلا: «أبتاه زوس، فلتحقق كل ما قاله ألكينوس. وعلى ذلك لا تخمد صيته فوق الأرض، مانحة الغلال، ولتجعلني أصل إلى وطني.»
الجميع ينامون وكذا أوديسيوس
هكذا تكلم كل منهما إلى الآخر، وأمرت أريتي البيضاء الساعدين، وصيفاتها بإعداد فراش تحت سقف الرواق، وبأن يضعن فوقه ملاءات جميلة من الأرجوان، وفوقها أغطية، ومن فوق هذه عباءات من الصوف يلبسنها. وهكذا خرجن من الساحة، يحملن المشاعل في أيديهن. ولما أعددن الفراش الفاخر، استدعين أوديسيوس وقلن له: «انهض الآن، أيها الغريب، كي تذهب إلى راحتك؛ فقد أعد فراشك.»
ما إن سمع أوديسيوس كلامهن، حتى رحب بالنوم؛ ومن ثم رقد أوديسيوس العظيم، الكثير المعاناة، فوق الفراش المكون من الحبال المشدودة تحت الرواق المدوي. بينما رقد ألكينوس في مخدعه الداخلي بالقصر الباذخ، ورقدت إلى جواره السيدة زوجه، التي أعدت الفراش.
الأنشودة الثامنة
ألكينوس يخطب في حشد الفياكيين
ما إن بزغ الفجر الوردي الأنامل مبكرا في أفق السماء، حتى نهض ألكينوس القوي العتيد من مخدعه، كما استيقظ أيضا أوديسيوس سليل زوس، ومخرب المدن. وتقدم ألكينوس، القوي العتيد، يقود ضيفه إلى مكان اجتماع الفياكيين، الذي كان قد بني لهم بالقرب من سفنهم، فبلغا المكان، وجلسا فوق الأحجار المصقولة، كل منهما بقرب الآخر، بينما انطلقت بالاس أثينا، تسير خلال المدينة، في صورة رسول ألكينوس الحكيم، تدبر أمر عودة أوديسيوس الجسور، فكانت تقترب من كل رجل وتقول له: «هيا الآن، يا قادة ومستشاري الفياكيين، هلموا إلى مكان الاجتماع، حتى تعرفوا خبر الغريب الذي جاء حديثا إلى قصر ألكينوس الحكيم، بعد تجواله عبر البحر، وفي صورة أشبه بالخالدين.»
وأمسك بجلة أكبر وأغلظ من سائر الجلل.
هكذا كانت تقول، فأثارت روح وقلب كل رجل، وما هي إلا فترة قصيرة حتى عج مكان الحشد، وامتلأت المقاعد بالرجال الذين اجتمعوا هناك. وقد عجب كثيرون من منظر ابن لايرتيس الحكيم؛ إذ سكبت أثينا على رأسه ومنكبيه جمالا رائعا عجيبا، كما جعلته يبدو أطول وأقوى أمام ناظر الرائين، كي يرحب برؤيته سائر الفياكيين، ويحظى باحترامهم وتوقيرهم، وكي يستطيع إنجاز الأعمال الجسيمة العديدة التي اختبره بها الفياكيون. وبعد أن احتشدوا، واجتمعوا معا، قام ألكينوس في وسطهم، وخاطب جمعهم بقوله: «أصغوا إلي، يا قادة ومستشاري الفياكيين، حتى ألقي على مسامعكم ما يأمرني به قلبي من وسط صدري. قدم إلى قصري هذا الغريب - ولست أدري من هو - ضمن تجوالاته، سواء أكان من أقوام الشرق ، أو من سكان الغرب. إنه يرجوني في أن أبعث به إلى وطنه، ويلح في التوسل. هيا من جانبنا، كما هي عادتنا منذ غابر الأزمان، أن نسرع في إرساله؛ فما من رجل، أيا كان، ممن يأتون إلى قصري، يبقى هنا حزينا لمدة طويلة، من جراء عدم إجابة طلبه في العودة إلى بلده. هلموا بنا، ننزل سفينة سوداء إلى البحر اللامع؛ لتقوم بأول رحلاتها، ولينتخب الرجال من بينهم اثنين وخمسين شابا، من خيرة القوم نشاطا وقوة. وبعد أن تعدوا المجاذيف كما يجب في فتحاتها،
1
اذهبوا إلى الشاطئ، ثم خذوا طريقكم إلى قصري، وأعدوا وليمة بسرعة، ولسوف أقدم لكم الوليمة بسخاء للجميع. هذا هو ما آمر به الشبان، كما أرجو سائر الآخرين، من الملوك ذوي الصولجان، أن يتفضلوا بتشريف قصري الجميل، حتى نستطيع دعوة هذا الغريب في ساحاتنا، لنحتفل بمقدمه، ولست أقبل من أي أحد رفض دعوتي هذه، واستدعوا إلينا المنشد المقدس، ديمودوكوس
Demedocus ؛ إذ حباه الرب، دون سائر غيره، بالمهارة في الغناء، كي يطرب الناس بالفن الذي تجود به روحه، وتدفع به إلى الغناء.»
هكذا تكلم، وتقدم الجمع في الطريق، يتبعه الملوك ذوو الصولجان، بينما انطلق أحد الرسل لاستدعاء المنشد المبجل. وذهب اثنان وخمسون من الشباب المختار إلى شاطئ البحر الصاخب كما أمر ألكينوس
2
فأنزلوا السفينة السوداء، إلى المياه العميقة، وبعد أن ركبوها، والبحر، ثبتوا الصاري في السفينة السوداء، ووضعوا الشراع في مكانه بالسارية، وربطوا المجاذيف إلى فتحاتها بالسيور الجلدية، كلها في تنسيق بديع، ونشروا الشراع الأبيض. وهكذا بمهارة بالغة في أفانين البحر، أنزلوا السفينة إلى اليم، ثم انطلقوا يشقون طريقهم إلى قصر ألكينوس الحكيم، المنيف. لقد كانت الأروقة والساحات والقاعات زاخرة كلها بالرجال المحتشدين؛ إذ كانوا كثيري العدد، شيوخا وشبانا. لقد نحر لهم ألكينوس، اثني عشر خروفا، وثمانية خنازير برية، بيض الأنياب، وثورين سمينين متثاقلي المشية، فسلخوا هذه وأعدوها، وصنعوا منها وليمة فاخرة.
المنشد يغني والقوم يولمون
بعد ذلك اقترب الرسول بصحبة المنشد المجيد، الذي كانت تحبه ربات الشعر أعظم حب دون سائر الرجال، ووهبنه الخير والشر معا؛ إذ جردنه من بصره، ومنحنه موهبة الغناء الشجي، فوضع بونتونوس
، الرسول له كرسيا مطعما باللجين، وسط المدعوين، وأسنده إلى عمود طويل، وعلق قيثارته الواضحة النغمات على مشجب قريب فوق رأسه، وأراه كيف يصل إليها بيديه. كما وضع إلى جواره منضدة جميلة، وسفطا، وكأسا مليئة بالصهباء، كي يتناولها متى طاب له الشرب. وهكذا مدوا أيديهم إلى الطعام الشهي الموضوع أمامهم. حتى إذا ما انتهوا من الطعام والشراب، دفعت ربة الشعر المنشد إلى الغناء، فتغنى بأعمال المحاربين المجيدة، تلك الأنشودة التي بلغ صيتها وقتذاك إلى عنان السماء الفسيحة، العراك بين أوديسيوس وأخيل
Achilles
ابن بيليوس
، وكيف تنازعا ذات يوم بألفاظ ثائرة في وليمة فاخرة للآلهة، فسر أجاممنون، ملك البشر، في قرارة نفسه، من شجار خيرة الآخيين؛ فهكذا أخبره فويبوس أبولو، أن هذا لا بد أن يحدث في بوثو
المقدسة، عندما مر فوق العتبة الصخرية ليستفتي الوحي؛ لأن بداية المحن كانت تنصب حينئذ نحو الطرواديين، والدانيين، تبعا لإرادة زوس العظيم.
أناشيد المغني تبكي أوديسيوس
تلك كانت الأغنية التي أنشدها المغني الذائع الصيت، وعندئذ أمسك أوديسيوس بعباءته الفاخرة، الأرجوانية، بيديه القويتين، وجذبها إلى أسفل فوق رأسه، مخفيا وجهه الجميل؛ لأنه أحس بالخجل أن تتساقط دموعه من تحت حاجبيه أمام للفياكيين، وكلما كان المنشد المبجل يكف عن الغناء، كان أوديسيوس يزيح العباءة من فوق رأسه، ويمسح دموعه، ثم يتناول الكأس ذات اليدين، ويصب السكائب للآلهة. وعندما يأمر نبلاء الفياكيين المغني بالإنشاد، كان أوديسيوس يعود فيغطي رأسه وينتحب، مخفيا دموعه عن سائر غيره من الحاضرين، بيد أن ألكينوس وحده، هو الذي لاحظ ذلك وتنبه إليه؛ لأنه كان يجلس إلى جواره، وسمعه يئن بشدة، وفي الحال نهض وسط الفياكيين، محبي المجاذيف، وتحدث إليهم قائلا: «أصغوا إلي، يا قادة ومستشاري الفياكيين، محبي المجاذيف، لقد أشبعنا قلوبنا بالوليمة الطيبة وبالقيثارة، رفيقة الوليمة الممتعة. دعونا الآن نخرج إلى الخلاء لنقوم بجميع صنوف المباريات، حتى إذا ما عاد هذا الغريب إلى وطنه، روى لأصدقائه، إلى أي حد نبذ نحن غيرنا في الملاكمة والمصارعة، وفي القفز وسرعة الجري.»
3
دعوة الأبطال إلى المباريات
قال هذا ونهض يقودهم إلى الخارج، وتبعه الحاضرون، وتناول الرسول القيثارة العذبة الأنغام من على المشجب، وأمسك بيد ديمودوكوس، وقاده خارج الساحة، سائرا معه في نفس الطريق التي سار فيها الآخرون، من أشراف الفياكيين، لمشاهدة المباريات. لقد انطلقوا إلى مكان الاجتماع، يتبعهم حشد عظيم لا يحصيه عد، وقام كثير من شباب النبلاء؛ أكرونيوس
Acroneüs ، وأوكوالوس
Ocyalus ، وإلاتريوس
Elatreus ، وناوتيوس
Nauteus ، وبرومنيوس
، وأنخيالوس
Anchialus ، وإريتميوس
Eretmeus ، وبونتيوس
، وبروربوس
، وثوون
Thoon ، وأنابيسينيوس
Anabesineüs ، وأمفيالوس
Amphialus ، ابن بولونيوس
، ابن تيكتون
Tecton ، كما نهض أيضا يوروالوس
Euryalus ، نظير أريس
Ares
قاهر البشر، ابن ناوبولوس
Naubolus ، الذي كان يفوق سائر الفياكيين جمالا وقواما بعد لاوداماس
Laodamas
المنقطع النظير، ونهض أبناء النبيل ألكينوس الثلاثة، لاوداماس وهاليوس
Halius ، وكلوتونيوس
Clytoneüs ، الشبيه بالإله، فكان هؤلاء أول من اشترك في سباق الجري بالأقدام، فحدد لهم طريق من نقطة الدوران، فانطلقوا جميعا في سرعة بالغة مثيرين غبار السهل، وكان النبيل كلوتونيوس أفضلهم في سرعة العدو، فسبقهم جميعا بمسافة تبلغ طول صف من مائة بغل، واحدا وراء الآخر، فتقدمهم بهذه المسافة ووصل قبلهم إلى الحشد، تاركا زملاءه خلفه. بعد ذلك قاموا بمبارة المصارعة المتعبة، وفي هذه فاز يوروالوس على جميع الأمراء. وفي القفز كان أمفيالوس خير المتبارين جميعا. أما في قذف الجلة فتفوق إلاتريوس على الجميع، وفي الملاكمة لاوادماس الكريم، ابن ألكينوس، وبعد أن متع الحاضرون أنفسهم بمشاهدة المباريات، قام لاوداماس بن ألكينوس، وتكلم وسطهم، قائلا: «أيها الأصدقاء، لنسأل هذا الغريب، عما يعرفه من المباريات؛ فلا شك في أنه ليس ضعيف البنية، وإنه لقوي الفخذين وبطن الساق، والساعدين، وإن عنقه لغليظ، وقوته هائلة، فلا يفتقر بأية حال إلى شيء من قوة الشباب، ولكن أضنته المتاعب الجمة؛ فلا شيء في رأيي أسوأ من أن يربك البحر المرء، ولا سيما إذا لم يكن جم القوة.»
فقام يوروالوس بدوره يرد عليه بقوله: «لقد نطقت بمنتهى الصواب، يا لاوداماس، فلتذهب إليه بنفسك وتتحداه، مجاهرا بقولك أمام الجميع.»
فلما سمع ابن ألكينوس الكريم هذا، تقدم ووقف في الوسط وتحدث إلى أوديسيوس قائلا: «وأنت سيدي الغريب، ألا تجرب حظك في المباريات ، إن كنت تجيد شيئا منها؟ لا بد أنك تعرف المباريات؛ فلا شيء يزيد المرء مجدا في حياته أكثر من ربحه بيديه وقدميه. تعال يا سيدي، جرب واطرد الهم عن قلبك، فلن تتأخر رحلتك بعد الآن طويلا. كلا؛ فقد أنزلت سفينتك إلى اليم، والبحارة مستعدون.»
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «لم تسخر مني، يا لاوداماس بهذا التحدي؟ إن الحزن ليملأ قلبي أكثر من المباريات؛ حيث إنني، فيما مضى عانيت الأهوال، وقاسيت الكثير، والآن أجلس في وسط هذا الملأ، متلهفا إلى عودتي لوطني، متوسلا إلى الملك، وإلى جميع الشعب.»
فما كان من يوروالوس، الآن، إلا أن عيره في وجهه، قائلا: «أيها الغريب، إنني لا أشبهك، حقا، بالرجل الماهر في المباريات، كمن يشتهرون بين الرجال، ولكن بمن يسير جيئة وذهابا بسفينته ذات المقاعد، ونعتبره ربانا على البحارة التجار، ذلك الذي يفكر في بضائعه، ولا يهتم إلا بالسلع التي يحملها إلى وطنه، وبأرباح جشعة، لا يبدو عليك أي شبه بالرجل الرياضي.»
أوديسيوس يشترك في المباريات
قطب أوديسيوس كثير الحيل ما بين حاجبيه وحدجه بنظرة غاضبة، قائلا: «أيها الغريب، إنك لم تحسن القول، وأشبه ما تكون بالأعمى في حماقته. لا شك أن الآلهة لا تقسم المواهب بالعدل بين الناس، لا في الهيئة، ولا العقل، ولا الفصاحة؛ فقد يكون الرجل أقل من غيره جمالا، فيضع الرب على نطقه تاجا
4
من الجمال، فيروق في نظر الناس، ويعلو قدره وهو يتكلم بينهم بلا خطأ، وبتواضع مقبول، فتشرئب إليه أعناق الملأ الحاضر، وكلما سار خلال المدينة تطلع إليه القوم كما يتطلعون إلى إله. كما أن هناك رجلا يشبه الخالدين جمالا، ولا تتحلى ألفاظه بتاج من الجمال. هذا حالك؛ فإنك رائع الحسن، بحيث لا يستطيع أي إله أن يصلح فيه شيئا، ولكنك خامل العقل. لقد أفزعت روحي في صدري، بعدم لياقتك في الحديث. إنه لا تعوزني المهارة في المباريات كما تقول. وأعتقد أنني كنت من الأوائل في أيام شبابي وقوة يدي. بيد أن الأهوال والآلام قيدتني الآن؛ إذ عانيت كثيرا بالاشتراك طويلا في حروب الرجال، وبمقاومة اللجج العتيدة. بيد أنه رغم أنني قد تكبدت الكثير، فسأجرب حظي في المباريات؛ لأن كلمتك هذه قد وخزتني في قلبي، وأثارني حديثك.»
فوز أوديسيوس في رمي الجلة
ما إن قال أوديسيوس هذا، حتى وثب من مكانه، وهو ملتف بعباءته كما كان، وأمسك بجلة أكبر وأغلظ من سائر الجلل، ولا تقل بحال ما، عن أعظم ثقل اعتاد الفياكيون أن يتنافسوا بقذفه، فيما بينهم. أمسك تلك الجلة، وبرمية أرسل بها بعيدا، من يده القوية، فأحدثت الصخرة دويا وهي تطير فوق رءوس الجمع، حتى إنهم انبطحوا أرضا؛ انبطح الفياكيون ذوو المجاذيف الطويلة، أولئك الرجال المشهورون بسفنهم، تحت هجمة الصخرة. وإلى أبعد من مدى الجميع، طارت مسرعة بخفة من يده، وجاءت أثينا في صورة رجل، ووضعت علامة المدى بيدها، وخاطبته بقولها: «حتى الأعمى، أيها الغريب يستطيع أن يميز هذه العلامة، وهو يبحث عنها، متحسسا إياها بيديه؛ لأنها ليست بأية حال قريبة من علامات الآخرين، بل هي أبعد منها جميعا، بمراحل. إذن فلا أقل من أن تطيب خاطرا بهذا الفوز؛ إذ لن يصل أي فرد من الفياكيين إلى هذا المدى، أو يقذف إلى أبعد منه.»
وأمسك بجلة أكبر وأغلظ من سائل الجلل.
هكذا تكلمت، فسر أوديسيوس العظيم، الكثير التحمل، واغتبط إذ رأى لديه صديقا صدوقا، وعلى ذلك تكلم وسط الفياكيين بقلب أخف عبئا: «أيها الشبان، من استطاع منكم أن يقذف إلى هذا المدى فليفعل، وعندئذ أعتقد أنني سأرسل غيرها إلى نفس البعد أو أبعد. إن كان هناك من بين الباقين من يحدثه قلبه بمباراتي، فليتقدم ويجرب - لأنكم أغضبتموني غاية الغضب - وليكن في الملاكمة أو في المصارعة، أو في الجري؛ فأنا لا أبالي؛ ليتقدم أي واحد من الفياكيين أجمعين، ما عدا لاوداماس فقط؛ لأنه مضيفي، ومن ذا الذي يتعارك مع من أكرمه؟ إذن لكان أحمق ومن سقط المتاع، من تحدى في مباراة مضيفه الذي رحب بمقدمه في أرض غريبة. إنه لا يضر إلا بحظوظه، أما سائر الباقين، فلن أرفض تحدي أحد، ولا أستخف بأحد، ولكني أرحب بمعرفتهم، وأجرب حظي معهم، رجلا في مواجهة رجل؛ فلست ضعيفا في أي شيء، من شتى ألوان المباريات التي يمارسها الأقوام؛ فبمهارة أستطيع استخدام القوس المصقولة، وأنا الأول دائما في ضرب وإصابة رجلي بين جموع الأعداء، رغم أن زملائي يقفون إلى جانبي ويصوبون نحو الرجال، ولم يبذني أحد قط سوى فيلوكتيتيس
، في القوس بأرض الطرواديين، يوم أن حاربنا نحن معشر الآخيين، وها أنا ذا أعلن أنني المبرز على سائر الباقين، من جميع البشر الذين يعيشون الآن على ظهر البسيطة، ويأكلون الخبز، ولكني لن أسعى إلى منافسة رجالات الأيام الغابرة، لا مع هرقل
Heracles ، ولا مع يوروتوس
Eurytus ، أو مع أويخاليا
Oechalia ، الذي ناضل حتى مع الخالدين في الرماية بالقوس. وقد مات يوروتوس العظيم بسرعة، دون أن تبلغه الشيخوخة في ساحاته؛ لأن أبولو استشاط غيظا، فقتله؛ إذ تحداه في مباراة بالقوس. وفي مقدوري أن أقذف الرمح أبعد من أي رجل يمكنه أن يصيب بالسهم، أما في سباق الجري بالأقدام. فأخشى فقط، أن يتفوق علي فيه أحد من الفياكيين؛ إذ أصبت بوحشية وسط الأمواج الصاخبة العديدة، حيث لم يكن بسفينتي أية مئونة. وعلى ذلك تجدون أطرافي مرتخية.»
ألكينوس يدعو الراقصين إلى الرقص
هكذا تكلم أوديسيوس، فلزم الجميع الصمت، ولكن ألكينوس وحده قال: «أيها الغريب، ما دمت لم تنطق بقبح وسطنا، ولكنك تعتزم إظهار بسالتك التي تتمتع بها، غاضبا من أن ذلك قد ذهب إليك وعيرك بطريقة غير لائقة، وإن من يعرف كيف يزن أقواله لا يمكن أن يستخف ببطولتك، هيا الآن، وأصغ إلى ما أقول، حتى تستطيع أن تقص لبطل آخر، عندما تكون في ساحاتك تولم مع زوجك وأولادك، وتتذكر مهارتنا، أي ولائم قد حبانا بها زوس منذ أيام آبائنا إلى يومنا هذا؛ لأننا لسنا معصومين من الخطأ في الملاكمة أو المصارعة، ولكننا في سباق العدو نجري بسرعة، كما أننا خير بحارة في العالم، ونغرم دائما بالمائدة والقيثارة والرقص، وتغيير الملابس، والحمامات الدافئة، والمخادع. هيا الآن يا خيرة الراقصين الفياكيين، استعرضوا رقصاتكم حتى يمكن لهذا الغريب أن يحكي لأصدقائه عندما يبلغ وطنه، كيف نفوق سائر غيرنا في أفانين البحر، وفي سرعة القدم، وفي الرقص والغناء. وليذهب أحدكم فورا فيحضر لديمودوكوس، القيثارة العذبة الألحان، المعلقة بأحد الأمكنة في ساحاتنا.»
الرقص على أنغام القيثارة
هكذا تكلم ألكينوس، الشبيه بالإله، ونهض الرسول ليحضر القيثارة الجوفاء من قصر الملك، بعد ذلك نهض أبطال الرقص، وكانوا تسعة رجال مختارين من بين الشعب، اعتادوا على تنظيم كل شيء وسط الجموع، على أكمل وجه، فسووا مكانا للرقص، وحددوا حلقة مناسبة الاتساع واقترب الرسول، يحمل إلى ديمودوكوس، قيثارته الشجية الأنغام. وبعد ذلك انتقل إلى وسط الحلبة، والتف حوله صبيان في ميعة الصبا، يجيدون الرقص بمهارة أي مهارة، وراحوا يضربون أرض الرقص العظيمة بأقدامهم، فبهت أوديسيوس وهو يحملق في ومضات أقدامهم، ودهش في قرارة نفسه.
أما المغني فأخذ يوقع الأنغام على أوتار القيثارة بما يتمشى مع أنشودته العذبة، فتغنى بحب أريس
5
وأفروديتي ذات التاج الجميل، وكيف في البدء، رقدا سويا، في بيت هيفايستوس، سرا، وأعطاها أريس هدايا عديدة، ودنس بالعار فراش السيد هيفايستوس. غير أن هيليوس طير إليه النبأ في الحال؛ إذ كان قد أبصر بهما وهما يرقدان معا في عشق، فلما بلغت الغصة المؤلمة مسامع هيفايستوس، ذهب، وهو في طريقه إلى مكان حدادته، يدبر شرا في نفسه، وصنع قيودا على السندان الهائل، قيودا لا يمكن تحطيمها أو فكها، حتى يستطيع بها تكبيل العاشقين حيث كانا. وبعد أن صنع، وهو في غضبه من أريس، ذلك الفخ، ذهب إلى مقصورته حيث يوجد الفراش، ونثر القيود في كل مكان حول قوائم الفراش، كما علق فوقه قيودا كثيرة، تتدلى من قوائم السقف الخشبية، وكانت دقيقة جدا، أشبه بخيوط العنكبوت، كي لا يمكن لأحد، حتى من الآمة المباركين، أن يراها؛ إذ كانت مصنوعة بمهارة تفوق الحد، وبعد أن نثر فخاخه كلها حول المخدع، تظاهر بالرحيل إلى ليمنوس
Lemnos ، القلعة المتينة البناء، التي كانت عزيزة على نفسه أكثر من جميع البلاد. ولم يكن أريس ، ذو العنان العسجدي، أعمى في ملاحظته هيفايستوس؛ فعندما رأى هيفايستوس الذائع الصيت بمهارة يديه، يرحل، انطلق في طريقه إلى منزل هيفايستوس الشهير، مشتاقا إلى غرام كوثيريا
Cytherea ،
6
الجميلة التاج، وكانت قد حضرت لتوها من بيت أبيها، ابن كرونوس، العتيد، واستوت جالسة، فدخل أريس المنزل، وأمسك بيدها، وتحدث إليها بقوله: «تعالي يا حبيبتي، هيا إلى الفراش لنأخذ متعتنا، مضطجعين معا؛ لأن هيفايستوس لا يوجد الآن بهذه البلاد، بل رحل منذ برهة، كما أعتقد، إلى ليمنوس، لزيارة السنتيين
Sintians ، المتعجرفي الحديث.»
هكذا قال، فبدا لها أن الاضطجاع معه أمر لذيذ مرغوب فيه؛ ومن ثم انطلقا إلى الفراش، واستلقيا ليناما، فأطبقت عليهما قيود هيفايستوس الحكيم الخادعة، ولم يستطيعا، بأية حال من الأحوال أن يحركا أطرافهما، ليفلتا منها. وعندئذ عرفا يقينا أن لا منجاة منها، فاقترب منهما الرب الذائع الصيت، ذو الساعدين المفتولين،
7
عائدا قبل أن يصل إلى بلاد ليمنوس؛ إذ كان هيليوس يقوم بالحراسة من أجله، وأخطره في الحال بالأمر؛ ومن ثم انطلق إلى بيته، بقلب مثقل بالأحزان، ووقف عند الباب وقد استشاط غضبا وحنقا، وبقوة صاح ينادي جميع الآلهة بقوله: «أبتاه زوس، وأنتم أيها الآلهة الآخرون المباركون الخالدون، تعالوا إلى هنا كي تشاهدوا أمرا مضحكا مزريا، كيف تسخر مني أفروديتي، ابنة زوس، بسبب عرجي، وتغرم بهوى أريس المخرب، بسبب جماله وقوة أطرافه، بينما قد ولدت أنا مشوها. ومع كل، فلن يلام على هذا سوى أبوي - ليتهما لم ينجباني أبدا! إنكم سترون بأنفسكم كيف صعد هذان الاثنان إلى فراشي، واضطجعا معا في عشق، وإن هذا المنظر ليزعجني. ومع كل، فإنهما لا يشتهيان، كما أعتقد أن يضطجعا هكذا مدة أطول من ذلك، كلا، ولا حتى لحظة واحدة، ما أجملهما هكذا! سرعان ما سيفقد كلاهما الرغبة في النوم، وقد أمسكت القيود والفخاخ بتلابيبهما، إلى أن يرد لي أبوها، جميع هدايا الغزل التي أعطيته إياها، من أجل ابنته عديمة الحياء؛ فإن ابنته جميلة، ولكنها لا تستطيع أن تمسك زمام شهوتها.»
8
هكذا تكلم وتجمعت الآلهة في البيت ذي العتبة البرونزية. جاء بوسايدون مطوق الأرض، وجاء المساعد هيرميس، والسيد أبولو، الرب القواس.
9
أما الربات فقد منعهن الحياء من المجيء، بل بقيت كل منهن في بيتها. وأما الآلهة، مانحو الخيرات، فوقفوا عند الباب، وثارت عاصفة لا تخمد من الضحك، وسط الآلهة المباركين، عندما أبصروا مهارة هيفايستوس الحكيم، فنظر أحدهم إلى جاره وتحدث إليه بقوله: «لن تزدهر الأعمال الشريرة؛ فالبطيء يمسك السريع، كما تفوق هيفايستوس الآن، رغم بطئه، على أريس، بالرغم من كونه أسرع الآلهة الذين يحتلون أوليمبوس؛ فمع كونه أعرج، أمسكه بمهارته، وعلى ذلك، فإن أريس يستحق غرامة الزاني.»
هكذا راح الآلهة يتكلمون فيما بينهم، أما السيد أبولو بن زوس، فقال لهيرميس: «أي هيرميس بن زوس، أيها الرسول، يا مانح الخيرات، ألست بربك مستعدا، حتى ولو كنت مقيدا بالأصفاد المكينة، أن ترقد فوق فراشي، إلى جانب أفروديتي الذهبية؟»
عندئذ أجابه الرسول، أرجايفونتيس، بقوله: «ليت هذا يحدث، يا سيدي أبولو، أيها الرب القواس. ليتني أطوق بثلاثة أمثال هذه الأصفاد المكينة، بينما أنتم الآلهة، وجميع الإلاهات أيضا تبصرونني، لقاء أن أرقد إلى جانب أفروديتي الذهبية.»
ما إن قال هذا، حتى انفجر الآلهة الخالدون ضاحكين، ولكن رغم ذلك لم يضحك بوسايدون، بل طفق يتوسل إلى هيفايستوس، الصانع الذائع الصيت، أن يطلق سراح أريس، قائلا بعبارات مجنحة:
10 «أطلق سراحه، وأعدك، كما تطلب مني، بأنه سوف يدفع لك كل ما يجب، في حضرة الآلهة الخالدين.»
عندئذ أجابه الرب الذائع الصيت، ذو السواعد المفتولة، بقوله: «أما هذا، فلا تطلب مني، يا بوسايدون، يا مطوق الأرض، يجب التأكد أولا، من أن ذلك الوغد نادم حقا. وكيف أضعك في القيود وسط الآلهة الخالدين، لو أن أريس رفض سداد الدين أو العودة إلى القيود، وانصرف؟»
فرد عليه بوسايدون، مزلزل الأرض، بقوله: «أيا هيفايستوس، حتى إذا امتنع أريس عن الدين وهرب، فأنا على استعداد لأدفعه لك.»
فقال الرب، الذائع الصيت القوي الساعدين: «لا يصح، بعدئذ أن أرفض مطلبك ، كما أن هذا لا يليق.»
قال هيفايستوس القوي هذا وفك القيود، وما أطلق سراح الاثنين، حتى قفزا في الحال، وانطلقا، فرحل أريس إلى تراقيا
Thrace ، أما أفروديتي، محبة المرح، فانطلقت إلى قبرص
Cyprus
إلى بافوس
، حيث يوجد مذبحها الجميل العبق. وهرعت ربات الحسن
Graces ،
11
يغسلنها ويدهن جسمها بالزيت الخالد، كذلك الزيت الذي يتلألأ على الآلهة الخالدين، ودثرنها بملابس جميلة، أعجوبة للرائين.
أنشد المغني الذائع الصيت هذه الأنشودة، فسر أوديسيوس في قلبه وهو يصغي. كما ابتهج أيضا الفياكيون ذوو المجاذيف الطويلة، أولئك الرجال المشهورون بسفنهم.
انفراد راقصين برقصة الكرة
بعد ذلك، أمر ألكينوس، هاليوس
Halius ، ولاوداماس أن يرقصا وحدهما؛ إذ لم يكن في استطاعة أي فرد أن يتحداهما، فتناولا في أيديهما كأس الأرجوان، تلك الكرة الرائعة الجميلة التي كان بولوبوس
العظيم قد صنعها لهما، وشرع أحدهما ينحني إلى الوراء، ويقذف بها نحو السحب الظاهرة، وعندئذ ينبري الآخر، فيقفز عاليا، من فوق الأرض، ويلقفها بمهارة قبل أن تلمس أقدامه الأرض ثانية. وبعد أن عرضا مهارتهما في قذف الكرة عاليا، أخذا
12
يرقصان فوق الأرض الفسيحة، بينما يقذفان بالكرة غدوا ورواحا، ووقف الشبان الآخرون يصفقون لهما على الوحدة فينبعث لذلك ضجيج أي ضجيج.
بعد ذلك تحدث أوديسيوس العظيم إلى ألكينوس، قائلا: «سيدي ألكينوس، أيها المشهور أكثر من سائر الرجالات،
13
لقد زهوت بأن راقصيك أفضل راقصين، وحق لك ذلك؛ إذ تتملكني الدهشة وأنا أنظر إلى روعة رقصهما.»
14
ألكينوس يشيد بأوديسيوس
سر ألكينوس القوي العتيد، لذلك القول، فنهض وسط الفياكيين، محبي المجذاف، وخاطبهم بقوله: «أصغوا إلي، يا قادة ومستشاري الفياكيين، يبدو لي، بحق، أن هذا الغريب رجل سامي الإدراك، هيا إذن نقدم له هدايا صداقة، تليق به. إن في بلادنا اثني عشر ملكا عظيما يقبضون على زمام الملك، وأنا الثالث عشر، فهل لكم أيها الاثنا عشر ملكا، هل لكل واحد منكم أن يحضر عباءة ومعطفا حديثي الغسل، وتالنتا من الذهب البراق، ولنحضر هذا، كلنا معا، حتى يمكن للغريب، بعد أن يتناول هدايانا بيديه، أن يذهب إلى عشائه مسرورا، في قرارة نفسه. أما يوروالوس، فليصلح ذات البين مع هذا الغريب، بالقول وبالهدية؛ إذ انفلتت من بين شفتيه كلمة، لم تكن بأية حال لائقة.»
هكذا تكلم، وأثنى الجميع على رأيه، وقرروا أن ذلك عين الصواب، وبعث كل منهم رسولا ليحضر الهدايا وقام يوروالوس، وقال: «سيدي ألكينوس، يا من يفوق صيتك، شهرة سائر الناس، إنني على أتم استعداد لإصلاح ذات البين مع هذا الغريب، كما أمرت؛ فسأعطيه هذا السيف، المصنوع كله من البرونز الخالص، ومقبضه من اللجين، وغمده المحيط به، من العاج المنحوت حديثا، وعندئذ سيكون له شيئا عظيم القيمة.»
أوديسيوس يتلقى هدايا كثيرة
قال هذا، وقدم السيف المرصع بالفضة، بين يدي أوديسيوس العظيم، وتحدث إليه بعبارات مجنحة،
15
فقال: «مرحبا بك، أيها السيد الغريب، أرجو، إذا كان لكلماتي وقع عنيف، أن تذهب بها الرياح الهوج في الحال، فتطير بها سريعا وتحملها بعيدا، أما أنت فهل للآلهة أن تمنحك رؤية زوجك، وبلوغ وطنك؛ إذ قد عانيت الأهوال مدة طويلة بعيدا عن أصدقائك؟»
فأجابه أوديسيوس، الكثير الحيل، بقوله: «لك السلام، كل السلام أيضا، أيها الصديق، وإني لأطلب من الآلهة أن تهبك السعادة. وهل لك، من الآن فصاعدا، ألا تنسى هذه العبارة الرقيقة التي أصلحت بها الأمور بيني وبينك؟»
ما إن انتهى من حديثه هذا، حتى علق السيف المرصع بالفضة، فوق كتفيه، وعندئذ غربت الشمس، وأحضرت إليه الهدايا المجيدة، وهذه حملها الرسل المبجلون إلى قصر ألكينوس، فأخذ أبناء ألكينوس المنقطع النظير الهدايا الجميلة، ووضعوها أمام والدتهم الموقرة. وتقدم ألكينوس القوي العتيد، الجمع إلى داره، فدخلوا واستووا فوق المقاعد العالية. وبعد ذلك تحدث ألكينوس العتيد إلى أريتي بقوله: «أي زوجتي، أحضري إلى هنا، صندوقا ضخما، أفضل صندوق لديك، وضعي فيه بنفسك عباءة ومعطفا حديثي الغسل، وهل تتفضلي بأن تضعي للغريب، قدرا مملوءة بالماء فوق النار، حتى يكون لديه ماء ساخن يستحم به، فيرى، وهو متزي بأجمل الثياب، جميع الهدايا التي جاء بها إلى هنا الفياكيون النبلاء، وعندئذ يتمتع بالوليمة، وبسماع شدو الأغاني العذبة. وسأقدم له هذه الكأس الجميلة المصنوعة من الذهب الإبريز، كي يتذكر طوال أيام حياته، وهو يسكب السكائب في ساحاته، لزوس وللآلهة الآخرين.»
أوديسيوس يحفظ الهدايا في صندوق مكين
ما إن أتم ألكينوس كلامه، حتى أمرت أريتي خادماتها بأن يضعن قدرا ضخمة فوق النار، بسرعة، فأذعنت الإماء، ووضعن القدر فوق النار المشتعلة، لملء الحمام، وصببن الماء في القدر، ووضعن كتلا من الخشب في النار تحتها؛ عندئذ اندلعت ألسنة اللهب تلعب حول بطن القدر، وسخن الماء، وفي نفس الوقت أحضرت أريتي للغريب صندوقا جميلا، من حجرة النفائس ووضعت فيه الهدايا العظيمة، من ثياب وذهب، التي قدمها إله الفياكيون، كما وضعت داخله، بنفسها، عباءة ومعطفا جميلين، ثم خاطبت أوديسيوس بكلمات مجنحة، قائلة: «تول بنفسك الآن إحكام غطاء الصندوق، وبسرعة اربط حوله حبلا متينا لئلا يسلبك أحد هداياك في أثناء الطريق، وأنت مستغرق، فيما بعد، في النوم اللذيذ، وسط السفينة السوداء.»
عندما سمع أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، هذه الكلمات، قام في الحال وأحكم تثبيت الغطاء، وبسرعة لف حبلا حوله، بعقدة خفية، كانت كيركي
16
الجليلة قد علمته إياها ذات يوم. وبعد ذلك أمرته ربة البيت، أن يسرع بالذهاب إلى الحمام ليغتسل، سر قلبه عندما أبصر الحمام الدافئ؛ إذ لم يعتد مثل هذه العناية منذ أن ترك منزل كالوبسو، ذات الشعر الفتان؛ لأنه حتى ذلك الحين، كان يلقى الرعاية باستمرار، كما لو كان إلها.
ناوسيكا تودع أوديسيوس
وبعد أن غسلته الإماء، ودعكن جسمه بالزيت، ودثرنه بعباءة ومعطف جميلين، خرج من الحمام، وذهب لينضم إلى جميع الرجال في خمرهم. ووقفت ناوسيكا، التي حبتها الآلهة بفتنة وجمال رائعين بجانب قائم باب القاعة المكينة البناء، وأعجبت بأوديسيوس، وهي ترمقه بنظراتها، وخاطبته بعبارات مجنحة، قائلة: «وداعا أيها الغريب، وأرجو أن تتذكرني، وأنت في وطنك؛ لأنك تدين لي، أولا، بثمن حياتك.»
فأجابها أوديسوس الكثير الحيل بقوله: «هيا ناوسيكا، يا ابنة ألكينوس العظيم القلب، ليت زوس، زوج هيرا، العالي الرعد، يهبني بلوغ وطني، والتمتع بيوم عودتي؛ عندئذ سأظل هناك أصلي لك، كما أصلي لإله، طوال أيامي ؛ فإنك، أنت يا سيدتي التي أعطيتني الحياة.»
أوديسيوس يغمر المنشد بعطفه
قال أوديسيوس هذا وجلس فوق مقعد بجانب الملك ألكينوس. وكان المجتمعون آنئذ يوزعون قطع اللحم ويخلطون الخمر، فاقترب الرسول، يقود المنشد الكريم، ديمودوكوس الذي يجله الشعب، وأجلسه وسط المدعوين، مسندا مقعده إلى عمود مرتفع. وعندئذ قطع أوديسيوس الكثير الحيل، قطعة من سلسلة ظهر خنزير بري أبيض الناب، من بين كثير من القطع وكانت غزيرة الدهن من كلا جانبيها، وأعطاها الرسول، قائلا: «أيها الرسول، خذ هذا الجزء وقدمه لديمودوكوس، ليأكله، وسوف أقوم بتحيته رغم أحزاني؛ فإن المنشدين يحظون بالمجد والاحترام بين سائر الناس الذين يسكنون الغبراء؛ لأن ربة الشعر علمتهم طرق الغناء، وتحب معشر المنشدين.»
ما إن قال هذا حتى تناول الرسول القطعة ووضعها في يدي السيد ديمودوكوس، فتناولها هذا مسرور القلب. وهكذا شرع القوم يأكلون من أطايب الطعام الشهي الموضوع أمامهم. وبعد أن نالوا كفايتهم من الطعام والشراب، خاطب أوديسيوس، الكثير الحيل، ديمودوكوس بقوله: «أيا ديمودوكوس، إنني والحق يقال؛ لأثني عليك أكثر من سائر البشر، سواء أكان الذي علمك الغناء هي ربة الشعر ابنة زوس، أو أبولو؛ لأنك تتغنى صادقا وحيدا، بمصير الآخيين، كل ما صنعوه ولاقوه، وجميع المشاق التي قاسوها، كما لو كانت حاضرا معهم بنفسك، بمحض الصدفة، أو سمعت القصة من شخص آخر. والآن هيا غير أغنيتك، وأنشدنا عن الجواد الخشبي، الذي صنعه إيبيوس
Epeius ، بمساعدة أثينا، الجواد الذي ساقه أوديسيوس، ذات مرة إلى داخل القلعة، كضرب من الخداع، بعد أن ملأه بالرجال الذين خربوا إليوس، فلو تغنيت بحق عن هذه القصة؛ لأعلنت على الملأ أن الرب قد منحك، بقلب رضي، موهبة الغناء المقدس.»
أوديسيوس يطلب سماع قصة الحصان الخشبي
ما إن انتهى أوديسيوس من حديثه هذا، حتى شرع المغني، يدفعه الرب، يرسل أنشودته لتصل إلى الأسماع، متناولا القصة حيث كان الأرجوسيون، قد ركبوا سفنهم ذات المقاعد، وأبحروا بعيدا، بعد إلقاء النار على أكواخهم، بينما كان الذين يقودهم أوديسيوس المجيد يجلسون في مكان اجتماع الطرواديين، مختبئين داخل الحصان ، الذي سحبه الطرواديون أنفسهم إلى القلعة، فبقي واقفا هناك، بينما جلس القوم حوله ، وشرعوا يتكلمون طويلا، ولم يستطيعوا الوصول إلى قرار. لقد حظيت ثلاثة آراء باستحسانهم؛ إما أن يشقوا الخشب الأجوف بالبرونز القاسي، أو يرفعوا الحصان إلى علو شاهق، ويلقوا به من فوق الصخور، أو يتركوه حيث هو كتقدمة عظيمة تليق بمقام الآلهة. كما قر قرارهم في النهاية؛ إذ كان مصيرهم أن يهلكوا بعد أن تحتوي مدينتهم الحصان الخشبي الهائل، الذي كان يجلس بداخله أفاضل الأرجوسيين، يحملون الموت والقدر للطرواديين. كما أنشد كيف تدفق أبناء الآخيين من الحصان، تاركين كمينهم الأجوف، وخربوا المدينة. أما الآخرون فقد أنشد كيف انطلقوا في مختلف الطرق يخربون المدينة الشامخة. وأما عن أوديسيوس فذكر كيف أنه مثل أريس، ذهب إلى بيت دايفوبوس
Deiphobus
بصحبة مينيلاوس، الشبيه بالإله. هناك كما قال، تعرض أوديسيوس لأقسى ضروب القتال، ولكنه تغلب في النهاية بمعونة أثينا العظيمة القلب.
بكاء أوديسيوس يثير فضول ألكينوس
أنشد المغني الذي طبقت شهرته الآفاق، هذه الأغنية، بينما ذاب قلب أوديسيوس، وبللت الدموع وجنتيه من تحت حاجبيه، وكما تنتحب المرأة، وتمزق نفسها حول زوجها العزيز، المجنون أمام مدينته وشعبه، ساعيا إلى أن يصد عن مدينته وأطفاله يوم الكريهة القاسي، وعندما تراه يحتضر ويلفظ أنفاسه، تتعلق به ويعلو صراخها، بينما الأعداء من خلفها، يضربون ظهرها وكتفيها برماحهم، ويقودونها بعيدا في الأسر، لتقاسي الآلام والمشاق، فتذوي وجنتاها تحت وطأة الحزن الممض. هكذا أيضا ترك أوديسيوس دموعه السواجم تنهمر من تحت حاجبيه، وأخفى تلك العبارات التي ذرفها، عن الجميع. بيد أن ألكينوس وحده لاحظه والتفت إليه؛ إذ كان يجلس بجواره، وسمع أنينه العنيف، فنهض في الحال، يتكلم وسط الفياكيين، محبي المجاذيف، قائلا: «أصغوا إلي، يا قادة ومستشاري الفياكيين، دعوا ديمودوكوس يوقف الآن قيثارته الصافية اللحن، فإنه لا يقسم السرور بهذه الأغنية على الجميع سواسية؛ فمنذ أن بدأنا نتعشى، وانساب المغني في الإنشاد، لم يكف هذا الغريب عن البكاء قط. إنني لأعتقد بحق، أن الحزن لا بد قد بخع قلبه، فليكف المغني الآن، كي نمرح جميعا ضيوفا ومضيفين على حد سواء، طالما أن هذا أفضل بكثير، فمن العجيب أننا أعددنا كل هذه الأشياء من أجل الغريب المبجل، إرساله، وهدايا الصداقة التي نقدمها بمحض حبنا؛ فهذا الغريب المتضرع، قد أعززناه كأخ، وإنه لذو إدراك ليس بالقليل. لا تخف بعد الآن في نفسك ما سأسألك عنه؛ فالصراحة أجدى بكثير. خبرني عن الاسم الذي اعتاد القوم أن ينادوك به في وطنك، أمك وأبوك وجيرانك، وأهل بلدتك، والسكان المحيطون بها؛ إذ لا أحد من البشر بغير اسم، سواء أكان وضيعا أم نبيلا؛ حيث إنه قد ولد في يوم من الأيام؛ لأن الآباء يهبون الأسماء للجميع عندما ينجبونهم. كذلك خبرني عن بلادك وشعبك ومدينتك، حتى تستطيع سفننا أن تحملك إلى هناك، تشق طريقها بمهارة؛ إذ ليس للفياكيين بحارة، ولا دفات كما للسفن الأخرى، ولكن سفنهم تفهم آراء وعقول البشر، من تلقاء نفسها، وتعرف مدن سائر الأقوام وحقولهم الخصبة، وبمنتهى السرعة تشق عباب اليم، مختفية وسط الضباب والسحب، لا تخشى الأذى أو التحطيم إطلاقا. ومع كل فقد سمعت، ذات مرة قصة يرويها أبي ناوسيثوس
Nausithous ؛ إذ اعتاد أن يقول إن بوسايدون كان غاضبا منا، لأننا نهيئ لجميع الناس سفرا آمنا. لقد ذكر أنه سيأتي يوم، بينما تكون إحدى سفن الفياكيين المتينة البناء عائدة من رحلة عبر الخضم المظلم، سيضربها بوسايدون، ويشق جبلا شاهقا حول مدينتنا.
17
هذا ما قاله ذلك الرجل العجوز، ولكن الرب إما أن يحقق ذلك الأمر، وإما أن يتركه دون أن يتحقق، تبعا لمشيئته الكريمة. هيا الآن، وخبرني عن هذا صراحة إلى أين رحلت، وإلى أي بلدان البشر ذهبت، وارو لي ما تعرفه عن أولئك الأقوام، وعن مدنهم المتينة البناء، من منهم قساة ظالمون متوحشون، ومن منهم يحبون الغرباء ويخشون الآلهة في قلوبهم؟ وأفصح لي عن سبب بكائك ونحيبك، عند سماع مصير الدانيين الأرجوسيين وإليوس، هذا صنع الآلهة الذين حاكوا خيوط الدمار للبشر كي يمكن أن تكون هناك أغنية لمن هم على وشك الولادة. هل سقط أحد ذوي قرباك أمام إليوس، رجل طيب القلب صادق القول، أو زوج ابنتك ، أو حموك، فهؤلاء هم أقرب الأقرباء للمرء من أبناء جلدته ودمه؟ أو هل هو صديق عزيز على قلبك، كريم صادق؟ فلا أسوأ من أن يفقد المرء أخا رفيقا، ذا قلب فطين.»
الأنشودة التاسعة
أوديسيوس يحكي مغامراته
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، وقال: «سيدي ألكينوس، يا من طار صيته أسرع من صيت الناس، ما أجمل الإصغاء إلى منشد كهذا الرجل، الذي يشبه الآلهة صوتا! أما عن نفسي، فإنني أعلن أن أعظم مسرة لي هي ما تنتظم سائر الشعب، والمدعوون يجلسون في الساحات يستمعون إلى المنشد، وقد انتظموا في ترتيب مناسب، وإلى جوارهم موائد زاخرة بالخبز واللحم، والساقي يملأ كئوس الخمر من الطاس ويدور بها هنا وهناك. هذا أجمل شيء في الوجود يروق لناظري. بيد أن قلبك يميل إلى السؤال عن محني المفجعة، كي يزداد بكائي وأنيني. ولست أدري بأي المحن أبدأ، ولا بأيها أنتهي؛ فكثيرة هي المصائب التي حبتني بها آلهة السماء. وسأبدأ الآن بإخبارك عن اسمي، حتى تعرفه أنت أيضا، وكي أصبح فيما بعد، عندما أنجو من يوم القدر المشئوم، مضيفك، رغم أنني أقطن في بلاد نائية. إنني أوديسيوس بن لايرتيس، المشهور بين البشر بجميع طرق الحيل، وتبلغ شهرتي السماء، وموطني إيثاكا، الواضحة للعين؛ حيث يوجد جبل نيريتون
Neriton ، المكسو بالغابات المائجة؛ إذ ينظر إليه من بعد، ومن حوله جزر عدة متقاربة، الواحدة بجانب الأخرى، دوليخيوم
Dulichium ، وسامي
Same ، وزاكونثوس
Zacyunthus
الكثيرة الغابات. أما إيثاكا نفسها فبقرب الأرض الرئيسية
1
في أقصى الظلام،
2
وأما الجزر الأخرى فتقع منفصلة صوب الفجر والشمس. إنها جزيرة وعرة، ولكنها مربية كريمة للشباب، أما بالنسبة لي، فليس هناك ما يمكن أن أراه أحلى من وطني. حقيقة، حاولت الربة الفاتنة كالوبسو، أن تحجزني إلى جوارها في كهوفها الواسعة، تواقة إلى أن أغدو زوجها، وكذلك كانت تتلهف كيركي إلى الاحتفاظ بي في ساحاتها، كيركي سيدة أيايا
Aeaea
المحتالة، وكانت تتوق أيضا إلى الزواج بي، ولكنهما لم تستطيعا إغراء قلبي بين ضلوعي. حقا، إنه ما من شيء ألذ من وطن المرء ووالديه، حتى ولو كان في بيت الثراء، بعيدا قصيا، في بلد غريب، نائيا عن والديه. دعني أخبرك أيضا بخبر عودتي المؤلمة إلى الوطن، التي أنزلها بي زوس، وأنا عائد من طروادة.
وتحدثت إليه، وأنا أمسك في يدي طاسا من الخشب، مملوءا بالخمر.
مغامرة أوديسيوس مع الكيكونيس
حملتني الرياح من إليوس، وساقتني إلى الكيكونيس
Cicones ،
3
إلى إسماروس
Ismarus . هناك نهبت المدينة، وقتلت رجالها، ومن المدينة أخذنا زوجاتهم، وغنمنا كميات كبيرة من الكنوز، قسمناها فيما بيننا، واضعا نصب عيني ألا يظلم أحد، بل تكون الأنصبة عادلة بينهم على السواء. بعد ذلك أمرت الرجال، بأن نطلق العنان لأقدامنا هاربين، ولكنهم لفرط غبائهم لم يسمعوا أمري، فأخذوا يحتسون الكثير من الخمر، وذبحوا خرافا جمة بجوار الشاطئ، وأبقارا ملساء سمينة، متثاقلة المشية. وفي تلك الأثناء، انطلق الكيكونيس واستنجدوا بكيكونيس آخرين من جيرانهم، فتجمع عدد أكبر وأشجع منهم، من الرجال القاطنين بعيدا عن البحر، وكانوا ماهرين في القتال من عرباتهم، ضد الأعداء، حتى إذا ما لزم الأمر، هبطوا منها وقاتلوا على الأقدام، فما أصبح الصباح حتى هجم علينا جمع منهم
4
في عداد أوراق الأشجار أو الأزهار النابتة في موسمها، وعندئذ نزل بنا مصير مشئوم من لدن زوس، فأصابنا نحن التعساء، كي نكابد المحن العديدة. لقد قاتلوا في نظام، وحاربونا بالسفن السريعة. وراح كل جانب يقذف الآخر بالرماح البرونزية الأسنة. ولما كان الوقت لم يزل إذ ذاك صباحا، وكان النهار المقدس يتضاءل، ونحن نصد هجماتهم، ونطردهم بعيدا، رغم تفوقهم علينا في العدد. غير أنه عندما أخذت الشمس تؤذن بحل النير عن الثيران، تفوق علينا الكيكونيس، وهزموا الآخيين، وهلك ستة من رفاقي، المدرعين جيدا، من كل سفينة، أما بقيتنا، فقد نجونا من الموت والقدر.
معركة أوديسيوس مع الأمواج والأعاصير
أسرعنا بالإبحار من هناك، محزوني القلوب، ومسرورين بنجاتنا من الموت، رغم فقدنا زملاءنا الأعزاء، ولم أسمح لسفني بأن تبتعد مسافة كبيرة، حتى نادينا ثلاث مرات على كل واحد من الرفاق التعساء ، الذين جندلهم الكيكونيس فوق أرض السهل. وعندئذ أثار زوس، جامع السحب، الريح الشمالية ، ضد سفننا، فهاجت بعاصفة عجيبة، وأخفى البر والبحر معا بالغمام، ثم هجم الليل الداجي هابطا من السماء، فأخذت السفن تجري بسرعة، وتمزقت أوصال أشرعتها إربا من جراء عنف الريح؛ وعلى ذلك أنزلنا الأشرعة وخزناها بعيدا خشية الموت، ورحنا نجذف بالسف في سرعة بالغة صوب البر. هناك استغرقنا في الرقاد طيلة ليلتين ويومين، وقد ذابت قلوبنا تعبا وأسى، غير أنه ما إن أعلن الجميل الغدائر مولد اليوم الثالث، حتى رفعنا الصواري ونشرنا الأشرعة البيضاء، واتخذنا مقاعدنا، وطفق البحارة والرياح يسيرون السفن. وحينئذ كدت أبلغ وطني سليما، لولا أن الأمواج والتيار والريح الشمالية، عادت تكيل لي الضربات، وأنا أدور حول ماليا
Malea ، ودفعتني خارج طريقي، بعيدا عن كوثيرا
Cythera .
أوديسيوس في بلاد آكلة اللوتس
بقينا مدة تسعة أيام، منذ ذلك الحين، تحملنا الرياح الهوج عبر الخضم الزاخر، حتى إذا ما أقبل اليوم العاشر، وطئت أقدامنا أرض بلاد آكلي اللوتس
Lotus-eaters ، الذين غذاؤهم الأزهار، فنزلنا إلى البر، واستقينا الماء، وفي الحال تناول رفاقي طعامهم بجانب السفن السريعة. وبعد أن أكلنا وشربنا أرسلت بعضا من رفقائي ليستطلعوا ماهية أولئك القوم الذين أكلوا خبزا فوق تلك اليابسة، فاخترت اثنين من رفاقي، وأرسلت معهم رجلا ثالثا كرسول ... وعلى ذلك انطلقوا في الحال واختلطوا بآكلي اللوتس، ولم يسع آكلوا اللوتس إلى قتل زملائي، بل قدموا لهم شيئا من اللوتس ليتذوقوه، وما من واحد منهم أكل ثمرة اللوتس، التي تعدل الشهد حلاوة، إلا وفقد الرغبة في العودة أو إحضار نبأ عن رفيقه، بل طاب لهم البقاء هناك بين آكلي اللوتس، متخذين اللوتس غذاء لهم وناسين طريقهم إلى الوطن، ولكني أرجعت هؤلاء الرجال بالقوة إلى السفن، وهم يبكون، وحملتهم إلى أسفل المقاعد، وأحكمت قيدهم إلى السفن الواسعة، آمرا بقية ملائي الأوفياء، أن يسرعوا بركوب السفن السريعة، لئلا يأكل أي فرد منهم اللوتس خطأ، فينسى رحلته إلى الوطن، فأذعن الرجال للأمر، واعتلوا السفن من فورهم، وجلسوا فوق المقاعد، وما إن استووا في أماكنهم، حتى شرعوا يضربون البحر السنجابي بالمجاذيف.
أوديسيوس في بلاد العمالقة
وهكذا أبحرنا من هناك، والحزن يملأ قلوبنا، وبلغنا بلاد الكوكلوبيس، أولئك القوم المتغطرسين الذين لا يخضعون لأي قانون، بل جل اعتمادهم على الآلهة الخالدين، لا يغرسون بأيديهم نبتا، ولا يحرثون أرضا، بل تنمو كل مزروعاتهم دون بذر ولا حرث، القمح والشعير والكروم الحاملة لعناقيد الخمر الغنية، كما يهبهم زوس المزيد بأمطاره. إنهم لا يعقدون اجتماعات للتشاور، ولا يتبعون قوانين محدودة، بل يعيشون فوق ذؤابات الجبال الشامخة، في كهوف واسعة، وكل منهم يسن القوانين لأطفاله وزوجاته، ولا يسلب أحدهم الآخر شيئا.
والجزيرة هناك مستوية
5
تمتد خارج الميناء بانحراف، وليست قريبة من أرض الكوكلوبيس، كما أنها ليست بعيدة عنها. إنها جزيرة كثيرة الغابات، تكثر فيها المعيز المتوحشة التي لا حصر لها؛ إذ لا يخيفها سير الناس ولا يبعدها عنهم، كما أن الصيادين لا يذهبون إلى هناك، أولئك الرجال الذين يتجشمون المتاعب خلال الغابات، وهم يشقون طريقهم فوق قمم الجبال، وإنها غير محتلة بقطعان الماشية، وليست مفلوحة، بل تظل غير مزروعة ولا مفلوحة طوال الأيام، لا تعرف شيئا عن البشر، ولكنها تطعم المعيز الناغية؛ لأن الكوكلوبيس لا يملكون أية سفن قرمزية الخدود.
6
كما أن بلادهم خالية تماما من صانعي السفن الذين يبنون السفن المكينة المقاعد، التي تنجز لهم سائر مطالبهم، وهم ينتقلون إلى مدن أقوام آخرين، كما يحدث عندما يعبر الناس البحر على متون السفن للتزاور - الصناع القادرون أن يجعلوا من تلك الجزيرة موطنا جميلا - فإن الجزيرة ليست بأي حال فقيرة، ولكنها تؤتي كل شيء في أوانه؛ فبها مروج بجانب شواطئ البحر السنجابي، مروج جيدة الري ناعمة، حيث لا تكف الكروم عن النمو، وبها أرض حرث مستوية، يستطيعون منها أن يحصدوا الغلات الوفيرة من موسم إلى موسم؛ إذ إن التربة أسفل السطح خصبة كل الخصب، وكذلك بها ميناء يسهل إرساء السفن بها في أمان، دون حاجة إلى المراسي، إما بإلقاء مرساة من البحر، أو بتثبيت الكوثل بالحبال، فيمكن للمرء إرسال سفينته على الشاطئ وينتظر حتى ينتوي البحارة الإقلاع، وتهب الريح المعتدلة. وينبثق من الأرض عند رأس الميناء عين ماء نمير، من تحت كهف، وتنمو حوله أشجار الحور، فأبحرنا إلى هناك. وقد أرشدنا أحد الآلهة خلال الليل الداجي؛ إذ لم يكن يرى هناك أي ضوء، بل كانت تحط على السفن غمامة كثيفة، ولم يرسل القمر أي نور من السماء، بل بقي محتجبا خلف السحب؛ ولذلك لم تبصر عين أي رجل تلك الجزيرة، ولم نشاهد اللجج الطويلة وهي ترتطم بالشاطئ إلا بعد أن سحبنا سفننا القوية المقاعد فوق الساحل. وبعد أن أخذناها فوق الشاطئ، خفضنا سائر الأشرعة، ونزلنا بأنفسنا فوق شاطئ البحر، حيث استسلمنا إلى النوم وانتظرنا مقدم الفجر اللامع.
ما إن هتك الفجر المبكر الوردي الأنامل حجب الظلام، حتى شرعنا نجوس خلال الجزيرة وقد عجبنا منها، وقامت الحوريات بنات زوس، حامل الترس، بإثارة معيز الجبل، كي يستطيع زملائي أن يأخذوا منها ما يعدون به طعامهم. وفي الحال تناولنا قسينا المعقوفة، وسهامنا الطويلة من السفن، وبعد أن انتظمنا في ثلاث فرق، أنشأنا نضرب، وسرعان منا وهبنا الرب فرائس تشبع جوعنا. كانت السفن التي تتبعني اثنتي عشرة سفينة، فسقط لكل منها تسع عنزات، قسمناها بالاقتراع، أما أنا فكان نصيبي عشر عنزات انتقوها لي.
وهكذا مكثنا اليوم بطوله حتى غربت الشمس، جالسين هناك نولم على لحم وفير وخمر لذيذة؛ إذ لم تكن الخمر الصهباء قد نفدت من سفننا بعد، بل كان لا يزال منها لدينا بقية؛ لأننا كنا قد وضعنا منها خزينا وافرا في قدور، لكل فريق من الملاحين، يوم أن استولينا على قلعة الكيكونيس المقدسة، ثم اتجهنا بأبصارنا إلى بلاد الكوكلوبيس، القاطنين بقربنا، ولاحظنا الدخان، وصوت الرجال والخراف، والماعز. ولما اختفت الشمس وراء الأفق، وخيم الظلام على الكون، استلقينا فوق شاطئ البحر طلبا للراحة. وما كاد الفجر الباكر الوردي الأنامل يلوح في أفق السماء، حتى ناديت رجالي، وجمعتهم سويا، وتحدثت في وسطهم جميعا، فقلت: «انتظروا هنا الآن، يا جميع الباقين، يا زملائي الأوفياء ، بينما أنطلق بسفينتي وبحارتي، إلى أولئك القوم، لأستطلع من يكونون، وهل هم من الأفظاظ، المتوحشين الظالمين، أم ممن يحبون الغرباء، ويتقون الآلهة في قرارة نفوسهم.»
وبعد أن أتممت حديثي ذاك، صعدت إلى ظهر السفينة، وأمرت رفاقي بالصعود كذلك، وبحل حبال الكوثل، فأذعنوا للأمر، وامتطوا صهوتها فورا، واستووا في مقاعدهم. وبعد أن اعتدلوا في مجالسهم بنظام، وأخذوا يضربون البحر السنجابي بالمجاذيف، فلما بلغنا المكان، وكان قريبا جدا من البحر، أبصرنا كهفا شاهقا، مسقوفا بفروع أشجار الغار. ورأينا هناك كثيرا من قطعان الأغنام، والماعز، كانت نائمة معا في حظيرة واحدة. ومن حول الكهف ساحة عالية، مشيدة في الصخور المغروسة عميقا في الأرض، والمدعمة بأشجار الصنوبر الباسقة، وأشجار البلوط ذوات القمم الشاهقة. وكان هناك رجل ضخم عملاق، ينام في ذلك الكهف، وكان يرعى قطعانه بمفرده في مكان قصي، ولم يكن يختلط بغيره، بل يعيش في عزلة، يؤمن في قلبه بعصيان القانون؛ لأنه كان قد خلق وحشا غريبا، ولم يشبه الإنسان آكل الخبز، بل كان أشبه بقمة شامخة لجبل ضخم، كثيرة الغابات، تعلو بارزة وحدها أمام الناظرين، ومنفصلة عن غيرها من الذؤابات الشامخات.
عندئذ أمرت بقية رفاقي الأوفياء، أن يبقوا بجانب السفينة لحراستها، واخترت اثني عشر رجلا من خير رفاقي وانطلقت في طريقي، وملأت قربة من جلد الماعز بالخمر الصهباء الحلوة المذاق، كان قد أعطانيها مارو
Maro ، ابن يوانثيس
Euanthes ، كاهن أبولو، الرب المكلف بحراسة إسماروس
Ismarus ، أعطانيه لأننا قمنا بحمايته، هو وزوجه وطفله، من قبيل التبجيل؛ إذ كان يعيش في كهف خشبي لفويبوس أبولو
. كذلك أهداني هدايا رائعة؛ فمن الذهب المصنوع بمهارة، قدم لي سبع تالنتات، وأعطاني طاسا من اللجين، وعلاوة على ذلك أعطاني خمرا، ملء اثنتي عشرة قدرا، خمرا حلوة نقية، غير مخلوطة، شرابا مقدسا، دون علم أي فرد من عبيده أو خادماته، بل كان يعلم به هو نفسه وزوجه العزيزة، وإحدى خادمات المنزل، ليس غير. وكانوا كلما شربوا من تلك الخمر التي في حلاوة العسل، ملئوا كأسا واحدة، وسكبوها في عشرين كأسا من الماء ، فتنبعث من الطاس رائحة طيبة ذكية، وعندئذ كان يحق للمرء ألا يكف عن الاحتساء، فملأت قربة من جلد الماعز بهذه الخمر، وكانت قربة كبيرة الحجم، وكذلك ملأت كيسا بالمئونة؛ إذ كان يتملكني إحساس، في داخل نفسي، بأنه سرعان ما سيأتي إلي رجل عتيد القوة، متوحش لا يعرف شيئا عن العدالة أو القانون.
7
أوديسيوس في كهف العملاق بولوفيموس
سرعان ما بلغنا الكهف، فلم نجد العملاق بداخله؛ إذ كان يرعى قطعانه السمينة في الحقول؛ ومن ثم دخلنا الكهف وطفنا نتعجب من كل شيء وقع عليه بصرنا هناك. كانت السلال مملوءة بالجبن، والحظائر تعج بالحملان والجداء. كل نوع بمفرده داخل سياج؛ الحملان غير البالغة وحدها، وكذلك الحملان البالغة في مكان آخر وحدها، وأيضا الحديثة المولد. وكانت الجرار الحديثة الصنع مملوءة بالشرش، وكذلك الدلاء والطسوت التي يحلب فيها اللبن، فلما رأى رفاقي ذلك، أشاروا علي بأخذ بعض من الجبن، والانصراف، ثم أسرع في قيادة الجداء والحملان داخل الحظائر إلى السفينة السريعة؛ ومن ثم نبحر عبر الماء الملح. بيد أنني لم أستمع لنصحهم - ويا ليتني فعلت؛ إذ كان هذا خيرا لنا، أي خير - رغبة في رؤية الرجل نفسه، وطمعا فيما عسى أن يعطينيه من هدايا التكريم. غير أن ظهوره، كما حدث، لم يكن منه أي غبطة لزملائي.
بعد ذلك أشعلنا نارا، وقدمنا ذبيحة، وتناولنا، نحن أنفسنا من الجبن، فأكلنا، ثم جلسنا ننتظر العملاق داخل الكهف، حتى عاد يسوق قطعانه. وكان يحمل مقدارا ضخما من الخشب الجاف؛ ليستخدمه في إعداد عشائه، وقذف به من فوق ظهره، إلى داخل الكهف، محدثا صوتا مدويا، فاستبد بنا الفزع، وانكمشنا في إحدى زوايا الكهف، بينما كان يدفع قطعانه السمينة إلى داخل المغارة الواسعة؛ سائر الإناث التي كان يحلبها. أما الذكور - الكباش والماعز - فقد تركها خارج صحن الكهف المترامي الأطراف. وبعد ذلك رفع صخرة الباب الضخمة، ووضعها في مكانها، ويا لها من صخرة بالغة الكبر، تنوء برفعها عن الأرض اثنتان وعشرون عربة ذات أربع عجلات، من العربات المتينة! إنها كتلة هائلة من الصخر، تلك التي وضعها أمام المدخل. وبعد ذلك جلس يحلب النعاج والماعز الثاغية، كلا بدوره، ووضع تحت كل أنثى صغيرها. وفي الحال خثر نصف اللبن الناصع البياض، ووضعه في سلال من غصون الصفصاف، وحملها بعيدا. أما النصف الآخر فوضعه في أوعية ليتمتع بأن يعب منه في عشائه. وهكذا شغل بإنجاز مهامه ثم عاد يشعل النار، فوقع بصره علينا، فسألنا قائلا:
المعركة الكلامية بين العملاق وأوديسيوس «من أنتم أيها الغرباء؟ ومن أين قدمتم بحرا عبر المسلك المائية؟ ألغرض بعينه جئتم، أم مجرد تجوال تقومون به فوق صفحة اليم كما يجوس القراصنة، مغامرين بحياتهم لجلب الأذى على أقوام البلاد الأخرى؟»
قال هذا، فبلغت أرواحنا التراقي، من داخل صدورنا، فزعا وهلعا من صوته المنكر وحجمه المهول، ولكن رغم ذلك، أجبته بقولي: «يجب أن تعلم أننا من طروادة، وأننا من القوم الآخيين، ساقتنا جميع صنوف الرياح عبر هوة البحر العظيمة، ونحن نجد في العودة إلى وطننا، فسلكنا طريقا غير طريقنا، وأبحرنا عبر ممرات غير ممراتنا، وفي اعتقادي، أن زوس كان مسرورا من خطته تلك. كما أعلن أننا رجال أجاممنون بن أتريوس
Atreus ، الذي طبقت شهرته الآفاق، وغدت أقوى شهرة تحت السماء، ويا لها من مدينة عظيمة تلك التي خربها، وجندل قوما كثيرين! أما نحن، فإذ نزورك هكذا، قد جئنا كمتضرعين إلى ركبتيك، أملا في أن نحظى بكرمك، أو بالأحرى، أن تقدم لنا هدية ما عملا بواجب ضيافة الغرباء. هيا، أيها البالغ القوة، بجل الآلهة؛ فنحن طالبو عطفك، وإن زوس هو المنتقم للمتضرعين والأغراب - زوس، إله الغرباء - الذي يتولى على الدوام خدمة الأغراب المبجلين.»
ما إن قلت هذا، حتى أجابني بفظاظة وغلظة قلب، فقال: «أأنت أحمق أيها الغريب، أم أنك قدمت من بلد قصي؛ إذ أراك تأمرني، إما بالخوف وإما باجتناب غضب الآلهة؟ إن الكوكلوبيس لا يهابون زوس، حامل الترس، ولا الآلهة الخالدين؛ إذ إننا أفضل منهم بكثير؛ وعلى ذلك فلن تفلت مني، أنت ولا أي من رفاقك، لكي أتحاشى غضب زوس، إلا إذا أمرني قلبي، ولكن خبرني: أين أرسيت سفينتك المتينة الصنع عندما قدمت إلى هنا؟ أكان ذلك مصادفة عند مكان قصي من البلاد، أم في موضع قريب؟ إن لي رغبة في معرفة ذلك.»
هكذا تكلم، قاصدا إغرائي، بيد أنه لم يوقع بي، بسبب دهائي العظيم، فأجبته ثانية، بألفاظ ماكرة، قائلا: «إن سفينتي، قد حطمها بوسايدون، مزلزل الأرض، إلى أشلاء، قاذفا بها إلى فوق الصخور عند تخوم بلادك؛ إذ دفع بها قريبا من اليابسة، وجرفتها الريح من البحر إلى الداخل، غير أنني نجوت، مع هؤلاء الرجال، من الهلاك الشامل.»
العملاق يتعشى باثنين من رجال أوديسيوس
قلت هذا، ولكنه لم يجب، من قسوة قلبه، وإنما وثب، وانقض على رفاقي، وأمسك في الحال اثنين منهم، وقذف بهما إلى الأرض كالدمى، فتدفق المخ خارج رأسيهما على الأرض فبللها، ثم قطعهما جزءا جزءا، وأعد منهما عشاءه. وهكذا التهمهما كما لو كان أسدا يسكن الجبال، غير تارك منهما شيئا - فقد التهم الأحشاء، واللحم، والعظام ذات النخاع - فلما رأينا عمله البشع ذاك، بكينا ورفعنا أيدينا إلى زوس، واستولى الفزع
8
على نفوسنا. وبعد أن ملأ الكوكلوب معدته الضخمة، بالتهام لحوم البشر، وعب اللبن الصافي، استلقى داخل الكهف، ممددا وسط الخراف. وعندئذ فكرت في قرارة نفسي، أن أتسلل إلى جواره وأستل سيفي البتار من جانب فخذي، وأهوي به على صدره، حيث يقع الكبد داخل عضلة الحجاب الحاجز، متحسسا الموضع بيدي، غير أن فكرة ثانية منعتني من تنفيذ هذه الخطة؛ إذ لا بد بعد ذلك أن نهلك نحن أيضا؛ فليس في مقدورنا أن نزيح الصخرة الضخمة بأيدينا من أمام الباب، تلك الصخرة التي وضعها هناك؛ وعلى ذلك بقينا ننتحب منتظرين الفجر اللامع.
العملاق يفطر برجلين آخرين
ما كاد الفجر الباكر، ذو الأنامل الوردية، يلوح حتى نهض العملاق، وأشعل النار، وحلب قطعانه العظيمة، كلا بدوره، ووضع صغير كل أنثى تحتها. وبعد أن انتهى من إنجاز أعماله تلك، انبرى، وأمسك من جديد برجلين، وأعد منهما وجبته في الحال. وبعد أن فرغ من طعامه، ساق قطعانه السمينة إلى خارج المغارة، وأزاح صخرة الباب الضخمة في يسر، ثم أعادها مكانها ثانية، كما يضع المرء الغطاء فوق الجعبة. وبصفير مدو، ذهب الكوكلوب بقطعانه السمينة صوب الجبل، بينما بقيت أنا هنا في الكهف، أدبر الشر في قرارة نفسي، حتى أنتقم منه بأية وسيلة، وقد منحتني أثينا المجد.
خطة أوديسيوس للقضاء على العملاق
والآن خطرت لي فكرة، بدت لي أفضل مما عداها. كان بجانب إحدى حظائر الخراف، هراوة ضخمة لذلك الكوكلوب، عبارة عن عصا غليظة من خشب الزيتون الأخضر، كان قد قطعها وحملها معه لتجف هناك، فلما وقع بصرنا عليها؛ خلناها سارية سفينة سوداء ذات عشرين مجذافا، سفينة تجارية عريضة القوائم، من السفن عابرات الهوة السحيقة. لقد كانت قضيبا بالغ الطول والسمك، فأمسكتها، وقطعت منها جزءا في طول القامة،
9
وأعطيته زملائي، وأمرتهم بتسويته، وصقله. ورحت وأنا واقف إلى جوارهم، أدبب الطرف، ثم حملته بسرعة، وجعلته صلبا في النار المستعرة، ثم أخفيته بعناية بعيدا، تحت روث الأغنام الموجودة بكثرة في أكوام هائلة في نواحي الكهف. وطلبت من رفاقي أن يقترعوا فيما بينهم، عمن يرفع معي ذلك الوتد، ويديره داخل عين العملاق عندما يأخذ الكرى اللذيذ بمعاقد أجفانه، فوقعت القرعة على من كنت أتوق، أنا نفسي، إلى اختيارهم، وكانوا أربعة، وأنا خامسهم، فلما أقبل المساء عاد يسوق قطعانه العظيمة الجزات، وأسرع بإدخال قطعانه السمينة إلى الكهف الفسيح، ولم يترك واحدا منها خارج صحن المغارة المترامي الأطراف؛ إما من باب الحيطة، وإما أن يكون أحد الأرباب قد أمره بذلك، ثم رفع الصخرة عاليا، ووضعها في مكانه، صخرة الباب الضخمة. وما كاد يجلس حتى حلب نعاجه ومعيزه الثاغية، كلا بدوره، ووضع تحت كل أنثى صغيرها. وبعد أن انتهى من عمله، تناول رجلين آخرين، وأعد منهما عشاءه. بعدئذ اقتربت من الكوكلوب، وتحدثت إليه، وأنا أمسك في يدي طاسا من خشب الإتل، مملوءا بالخمر القاتمة، وقلت:
أوديسيوس يثمل العملاق
أيها الكوكلوب، خذ هذه الخمر. «أيها الكوكلوب، خذ هذه الخمر، واشربها بعد وجبتك من لحم البشر، لتعرف أي لون من الشراب، هذا الذي احتوته سفينتنا. لقد أحضرت هذا الشراب، خصيصا لك، كشراب تقدمة، عسى أن تأخذك الشفقة بي، وترسلني في طريقي إلى الوطن، بيد أنك تثور بطريقة تفوق كل ما يمكن احتماله. أيها الرجل الفظ، كيف يستطيع أي رجل، من سائر جموع الناس، أن يأتيك بعد الآن؟ لأنني أراك قد صنعت ما يخالف القوانين.»
هكذا قلت، فأمسك الكأس، وأفرغها في جوفه، وابتهج كثيرا؛ إذ تناول الشراب الحلو، وسألني المزيد منه مرة أخرى، قائلا: «زدني من هذا، ثانية، بقلب رضي، وأخبرني في الحال عن اسمك، حتى يمكنني أن أعطيك هدية ضيف؛ ليبتهج بها قلبك؛ لأن أرض الكوكلوبيس، واهبة الغلال، تحمل عناقيد العنب الغنية بالعصير، وأمطار زوس تمنحها المزيد، غير أن هذه ليست سوى جرعة من الأمبروسيا والنكتار.»
ما إن قال هذا حتى ناولته الخمر المستعرة. ثلاث مرات أصبها له وأعطيه، وثلاث مرات يفرغ الشراب بحمق في جوفه. وبعد أن سلبت الخمر لب الكوكلوب، خاطبته بعبارات رقيقة، قائلا: «تسألني عن اسمي المجيد، أيها الكوكلوب، وعلى ذلك سأذكره لك، حتى تعطيني هدية الضيف، كما وعدتني، إن اسمي هو «لا أحد» فهكذا يسميني أبي وأمي، وجميع رفقائي أيضا.»
هكذا قلت له، فأجابني في الحال بقلب لا يعرف الرحمة، قائلا: «سوف آكل «لا أحد» بعد سائر رفقائه، وآكلهم جميعا قبله، وهذه ستكون هديتي.»
الخمر تلعب بعقل العملاق
ما إن قال هذا، حتى سقط مستلقيا على قفاه، وانحنى عنقه الغليظ مائلا، وقد تملك منه النوم، الذي يقهر الجميع، ومن حلقه تدفقت الخمر وقطع من الحم البشر؛ إذ تقيأ في نومه الثمل. عندئذ وضعت الوتد تحت الرماد العميق، حتى حمي الوتد وغدا شديد السخونة، وشجعت جميع رفاقي بألفاظ مفرحة، حتى لا يرتجف أحدهم ذعرا وهلعا. وما كاد وتد خشب الزيتون يشتعل؛ لأنه كان أخضر، وبدأ يتوهج بعنف، حتى اقتربت وأخرجته من النار، ووقف زملائي إلى جانبي، وبث فينا أحد الأرباب شجاعة بالغة. لقد أمسكوا بوتد الزيتون المدبب الطرف، ودفعوه في عينه، بينما ارتميت أنا بثقلي عند طرفه، وأخذت أديره، وكما يثقب المرء أخشاب السفينة بالمثقاب، بينما يحافظ من يمسكون بالمثقاب من أسفل بواسطة السير، على استمرار دورانه، ويظل المثقب يدور دون توقف. هكذا أمسكنا بالوتد الناري الطرف، وأدرناه في عينه، وتدفق الدم حول القضيب المحمي، وألهبت النيران جفنيه وحاجبيه من حول المقلة المحترقة، التي طقطقت جذورها في النار. وكما يغمس الحداد فأسا ضخمة أو بلطة في الماء البارد، وسط الفحيح العالي، ليقسيها - إذ بهذه الطريقة يستمد الحديد قوته - هكذا أيضا راحت عينه تفح حول وتد خشب الزيتون، فأخذ العملاق يطلق الصراخ عاليا مدويا بفظاعة، وطن الصخر من كل جانب، وإذ استولى علينا الفزع والذعر، وانكمشنا في ناحية، بينما أخرج هو الوتد من عينه، وكان ملطخا كله بالدم، وقذف به بعيدا وصار يلوح بذراعيه بوحشية. وبعد ذلك أخذ ينادي الكوكلوبيس القاطنين حوله في الكهوف وسط المرتفعات الشديدة الرياح، فسمعوا صياحه وهبوا لنجدته من كل حدب وصوب، ووقفوا حول كهفه يسألونه ماذا يؤلمه بقولهم: «ماذا يؤلمك يا بولوفيموس
، حتى تصرخ هكذا عاليا في بهيم الليل الخالد، وتقض مضاجعنا؟ أتجاسر إنسان ما على أن يسرق قطعانك، ويأخذها بعيدا ضد إرادتك، أم يقتلك بالحيلة، أو بالقوة؟»
فأجابهم بولوفيموس العتيد، من داخل المغارة، بقوله: «يا أصدقائي لا أحد يقتلني بالحيلة ولا بالقوة.»
فردوا عليه جميعا، بعبارات قاسية،
10
فقالوا: «طالما لا أحد يستعمل معك القوة في وحدتك، فإن المرض الآتي من لدن زوس العظيم، لا سبيل لك إلى الفرار منه. إذن يجب أن تصلي إلى أبينا، السيد بوسايدون.»
قالوا ذلك القول وانصرفوا إلى حال سبيلهم، بينما ضحك قلبي في داخلي؛ إذ خدعهم اسمي وخطتي الموضوعة بمكر ودهاء، إلى ذلك الحد. بعد ذلك صار الكوكلوب يتلمس حوائط الكهف بيديه، وهو يتأوه ويتوجع حتى بلغ الباب، فأزاح الصخرة، وجلس بنفسه عند الباب باسطا ذراعيه، أملا في أن أي واحد منا قد يحاول الخروج مع الخراف - بمنتهى الغباء - لأنه في الحقيقة، كان يأمل في قرارة نفسه أن يعثر علي، ولكني دبرت خطة لإنجاز كل شيء على أتم وجه، راجيا أن أوفق إلى خطة ما للهرب من الموت، أنا وزملائي، فأخذت أقدح الفكر سعيا وراء كل سبل الحيلة والرأي السديد، كما يفعل المرء إزاء مسألة حياة أو موت؛ لأن الشر المحدق بنا كان عظيما، فوفقت إلى خطة، بدت لي خير فكرة. كانت هناك كباش سمينة غليظة الجزة، حيوانات رائعة وكبيرة، ذات صوف أدكن كالبنفسج، فربطت هذه مع بعضها، في سكون، بأغصان الصفصاف المجدولة، التي كان ينام عليها الكوكلوب، ذلك الوحش ذو القلب المؤمن بالتمرد والعصيان، فكنت أربط كل ثلاثة كباش سويا، يحمل أوسطها رجلا، بينما يسير الكبشان الجانبيان، كل واحد منها إلى جانب، منقذين رفقائي. وهكذا حمل كل ثلاثة خراف رجلا، أما فيما يختص بنفسي، فقد كان هناك كبش ضخم، هو خير ما في القطيع كله، فأمسكته من ظهره، وبسطت نفسي أسفل بطنه الأشعث، جاعلا وجهي إلى فوق، وبقلب ثابت جريء، تعلقت بشدة بيدي في جزته العجيبة، وهكذا بقينا، بالنحيب ننتظر قدوم الفجر اللامع.
هروب أوديسيوس بخديعة الكباش
ما إن لاح الفكر الباكر، ذو الأنامل الوردية، حتى أسرعت ذكور القطيع خارجة لترعى، بينما شرعت الإناث تثغو حول الحظائر دون أن يحلبها أحد؛ إذ كانت ضروعها منتفخة، وسيدها يتلظى حزنا بآلامه المبرحة، فراح يتحسس ظهور جميع الخراف وهي تمر أمامه، ولكن لحماقته، لم ينتبه إلى أن رجالي كانوا مربوطين أسفل صدور كباشه الغزيرة الصوف. وآخر جميع القطيع، خرج الكبش المحمل بثقل جزته، وبشخصي الماكر، فلما تحسس بولوفيموس ظهره تحدث إليه قائلا: «يا هذا الكبش الكريم، لماذا بربك تخرج هكذا من الكهف آخر القطيع؟ ما كان من عادتك أن تبطئ في الخروج وراء سائر الخراف، بل كنت دائما أول من يرعى النبت الغض من الحشائش، سائرا بخطى واسعة، وكنت أول من يصل إلى مجرى النهر المائي، وأسبق من كان يتوقد لهفة إلى العودة إلى الحظيرة في المساء. أما الآن فإنك آخر الجميع. لا شك أنك حزين على عين سيدك، التي أعماها رجل شرير، هو وأعوانه الأشقياء ، بعد أن تغلب على حصافتي بالخمر، إنه لا أحد، الذي أؤكد لك أنه لم ينج بعد من الهلاك. آه! لو كنت فقط، تستطيع أن تحس كما أحس، أو لك القدرة على الكلام لتخبرني أين يتوارى هو من غضبي، إذن لحطمت مخه، وجعلته يتدفق على الأرض في كل مكان هنا وهناك، في شتى أنحاء الكهف بعد أن أشبعه ضربا. وعندئذ كانت تزول المحن التي أنزلها بي هذا اللاأحد، العديم النفع، وتخف عن قلبي.»
بعد أن انتهى الكوكلوب من كلامه ذاك، نحى عنه الكبش. وما إن ابتعدنا قليلا عن الكهف وصحنه، حتى خليت نفسي أولا عن الكبش، ثم فككت زملائي وأطلقت سراحهم، وبسرعة سقنا تلك الأغنام الطويلة السيقان والممتلئة بالدهن، ونحن نتلفت كثيرا حولنا، حتى وصلنا إلى السفينة. كانت رؤيتنا موضع ترحيب من زملائنا الأعزاء الذين سرهم أن يرونا وقد نجونا من الموت، ولكنهم بكوا على فقد الآخرين. غير أنني لم أدعهم طويلا في البكاء، بل أمرت كل رجل، وأنا مقطب الأسارير أن يسرع بوضع الأغنام على ظهر السفينة، تلك الخراف الكثيرة العدد، ذات الجزات العظيمة، حتى نسرع بالإبحار عبر الماء الملح؛ وعلى ذلك صعدوا بسرعة، وبعد أن أخذوا مجالسهم في نظام، شرعوا يضربون البحر السنجابي بمجاذيفهم. وما إن صرت على مدى سماع صوت المرء وهو يصرخ، صحت إلى الكوكلوب بألفاظ ساخرة أقول: «أيها الكوكلوب، يبدو أن ذلك الرجل لم يكن ضعيفا، هذا الذي كان في نيتك أن تلتهم رفقاءه بالقوة الغاشمة في كهفك الفسيح. ما من شك في أن أعمالك الشريرة قد حاقت بك ونزلت فوق رأسك أيها الشقي الفظ، الذي لم تتورع في أن تأكل ضيوفك داخل بيتك؛ ولذلك فقد انتقم منك زوس والآلهة الآخرون.»
العملاق يهاجم أوديسيوس بصخرة هائلة
هكذا قلت، فزاد حنقا في قلبه، وكسر قمة جبل شامخ، وطوح به نجونا، فسقطت أمام السفينة القاتمة الحيزوم. وماج البحر من جراء سقوط تلك الصخرة، وكان ارتداد الماء المزاح أشبه بفيضان من الأعماق، فحمل السفينة بسرعة وجرفها نحو البر فوق الشاطئ. بيد أنني أمسكت بقضيب طويل، ودفعت السفينة بعيدا عن الشاطئ وبحذائه، ثم أومأت برأسي إلى رفقائي، وأمرتهم أن يعملوا التجذيف كي نستطيع النجاة من تلك المحنة الماحقة الشريرة، فانحنوا على مجاذيفهم وجذفوا بعنف. وما إن صرنا فوق صفحة البحر، وابتعدنا عن البر بمسافة ضعف الأولى، تاقت نفسي إلى أن أصرخ إلى الكوكلوب، رغم أن زملائي، حولي قد حاولوا منعي، الواحد بعد الآخر، ناصحين إياي بكلمات رقيقة، قائلين: «أيها الطائش، لماذا تثير حنق رجل متوحش؟ لقد رمى حجرا إلى البحر العميق فدفع سفينتنا إلى الوراء نحو البر، حتى خلنا، أننا حقا قد هلكنا. ولو سمع واحدا منا يخرج صوتا أو يتكلم؛ لأمسك بصخرة مسننة الأطراف، ولرمى بها محطما رءوسنا وأخشاب سفينتنا؛ إذ إنه يقذف بقوة هائلة.»
هكذا تكلموا، ولكنهم لم يستطيعوا التأثير على نفسي الجريئة، فقلت ثانية بقلب غاضب: «أيها الكوكلوب، إن سألك سائل من البشر عمن سبب عمى عينيك المخجل، فقل إنه أوديسيوس، مخرب المدن، هو الذي أعماها. إنه لابن لايرتيس، الذي موطنه إيثاكا.»
ما إن قلت هذا حتى تأوه وأجابني بقوله: «يا لها من حسرة بالغة! حقا، إن نبوءة قيلت منذ زمن بعيد، قد حاقت بي؛ إذ كان يعيش هنا عراف، رجل كريم فارع الطول وهو تيليموس
Telemus
ابن يوروموس
Euruymus ، ذلك الذي تفرق في العرافة على سائر البشر، وبلغ من الكبر عتيا كعراف بين قوم الكوكلوبيس. لقد أخبرني أن سائر هذه الأمور سوف تحدث في الأيام القادمة، وقال إنني سأفقد بصري على يدي أوديسيوس. بيد أنني كنت أتوقع على الدوام أن أرى رجلا طويلا مليح الوجه، يأتي إلى هنا، متسربلا في قوة بالغة. أما الآن، فإنه شخص تافه، رجل لا حول له ولا طول، ذلك الذي أعمى عيني، بعد أن سيطر علي بالخمر. ومع ذلك فتعال إلى هنا يا أوديسيوس، حتى أمنحك هدايا التكريم، وكي أعجل بإرسالك من هنا، ليهبك العودة مزلزل الأرض المجيد؛ فإنني ابنه، وهو يعترف بأنه أبي، ولسوف يشفيني هو نفسه، لو راق له هذا، ولكن لن يفعل ذلك أحد سواه، من الآلهة المباركين، أو من البشر.»
هكذا قال الكوكلوب، فأجبته بقولي: «ليتني كنت قادرا على أن أسلبك روحك وحياتك، وأن أرسلك إلى بيت هاديس
Hades ، حيث من المحقق، أن مزلزل الأرض لن يستطيع شفاء عينك إطلاقا.»
العملاق يطالب بوسايدون الانتقام من أوديسيوس
قلت هذا، فصلى الكوكلوب لبوسايدون، باسطا ذراعيه كلتيهما، إلى السماء ذات النجوم، يقول: «استمع إلي يا بوسايدون، يا مطوق الأرض، أيها الرب ذو الشعر الأدكن، فلو أنني كنت ابنك حقا، وأعلنت أنت نفسك أنك أبي، لا تجعل أوديسيوس مخرب المدن يصل أبدا إلى وطنه، أوديسيوس بن لايرتيس، الذي موطنه إيثاكا، أما إذا كان مقدرا له أن يرى أهله، ويصل إلى منزله المتين البناء، ووطنه، فليكن وصوله متأخرا، وفي حالة يرثى لها، بعد أن يفقد سائر رفقائه ويعود في سفينة لرجل آخر، وليعان المحن في بيته.»
هكذا قال في صلاته، وسمعه الرب الأدكن الشعر. أما الكوكلوب، فقد رفع إلى فوق، من جديد، صخرة أخرى، أضخم بكثير من السابقة، ولوح بها في الهواء، ثم قذفها، واضعا في رميته قوة لا حد لها. لقد رمى بها خلف السفينة الدكناء الجؤجؤ، فسقطت بقربها، وأخطأ الدفة بمسافة بسيطة أو ما كادت، فهاج البحر تحت قوة سقوط الصخرة، وحملت اللجة السفينة إلى الأمام، وجرفتها إلى الشاطئ.
وصلنا عندئذ إلى الجزيرة حيث كانت ترسو جميع سفننا الأخرى، ذات المقاعد المكينة، وقد جلس حولها رفقاؤنا، ينتظرون عودتنا، وهم يبكون. وعندما وصلنا إلى هناك، أرسينا سفينتنا فوق الرمال، ونزلنا، نحن أنفسنا إلى شاطئ البحر. بعد ذلك أنزلنا من السفينة الواسعة قطعان الكوكلوب، وقسمناها، بقدر ما كان في مقدوري أن أقسم، حتى لا يحرم أي رجل من نصيبه العادل. أما الكبش الكبير، فقد تركه لي زملائي، فأعطوه لي وحدي، كجائزة منفصلة، عندما قسمت القطعان، فنحرته فوق الشاطئ ذبيحة لزوس بن كرونوس، رب السحب القاتمة، وسيد الجميع، وأحرقت قطع الأفخاذ، ولكنه مع ذلك لم يكن ليهتم بذبيحتي، بل كان يدبر كيف تتحطم جميع سفني المتينة المقاعد، وكذا زملائي الأعزاء الأوفياء.
ومن ثم، طفقنا طوال اليوم كله، إلى أن أغربت الشمس، جالسين نولم على لحم وفير وخمر لذيذة. ولما احتجبت الشمس وراء الأفق، وخيم الظلام على الكون، رقدنا لنستريح فوق شاطئ البحر، وما كاد الفجر الباكر، ذو الأنامل الوردية، يظهر في السماء، حتى أيقظت رفاقي، وأمرتهم بالصعود إلى السفن، وحل حبال الكوثل، فصعدوا في الحال، وجلسوا فوق المقاعد، وبعد أن استووا في مقاعدهم بنظام، أخذوا يضربون البحر السنجابي بمجاذيفهم.
من هناك أبحرنا بقلوب مثقلة بالأحزان، ولكننا كنا مسرورين لنجاتنا من الموت، بالرغم من أننا فقدنا زملاءنا الأعزاء.
الأنشودة العاشرة
أوديسيوس في ضيافة حارس الرياح
فصاحت كيركي صيحة بالغة، وارتمت على الأرض تبكي.
بعد ذلك وصلنا إلى الجزيرة الأيولية
Aeolian ، حيث كان يقيم أيولوس
Aeolus ،
1
ابن هيبوتاس
Hippotas ، الذي تعزه الآلهة الخالدة، في جزيرة طافية، يحيط بها كلها سور من البرونز لا يمكن اختراقه، ويتصاعد منها الجبل شامخا شديد الانحدار. وكان له من الذرية اثنا عشر، يقيمون هناك في ساحاته، ست بنات وستة أبناء أشداء، وقد زوج بناته لأولاده. إذن كان هؤلاء يولمون دائما إلى جانب أبيهم العزيز وأمهم الكريمة، ويوضع أمامهم أشهى ألوان الأطعمة وأغزرها. وكان القصر وهو مملوء برائحة الطعام، يدوي من كل جانب حتى الفناء الخارجي، في أثناء النهار،
2
أما بالليل فكانوا ينامون بجانب زوجاتهم الفاتنات فوق بطاطين وأسرة من الحبال. إذن فقد ذهبنا إلى مدينتهم، وتوجهنا إلى قصرهم الجميل، فأكرم وفادتي وضافني مدة شهر كامل، وسألني عن كل شيء؛ عن إليوس، وسفن الأرجوسيين، وعودة الآخيين، فأخبرته بالقصة كلها، بالترتيب اللازم. وعندما أزمعت الرحيل، طلبت منه أن يسمح لي بالعودة، وأن يبعث بي في طريقي، فلم ينكر حقي في شيء، بل حبذ رحيلي، وأعطاني كيسا مصنوعا من جلد ثور عمره تسع سنوات كان قد سلخه. وقيد ممرات الرياح الهوج، ووضعها داخل الكيس؛ لأن ابن كرونوس عينه حارسا على الرياح، له أن يثير منها ما يشاء، ويوقف منها ما يريد. وفي سفينتي الواسعة ربط الكيس بإحكام، بحبل من الفضة اللامعة، حتى لا تستطيع نسمة واحدة أن تهرب، مهما كانت بالغة الصغر ، ولكي يساعدني في سفري، أرسل نسيم الرياح الغربية لتهب على البحر، كي تستطيع أن تحمل السفن والركاب في طريقها. ومع كل فلم يكن هذا ليتم؛ إذ أصابنا الضلال من جراء حماقتنا.
أوديسيوس يقترب من وطنه
بقينا نبحر مدة تسعة أيام، ليلا ونهارا، دون انقطاع حتى إذا كان اليوم العاشر، لاح لنا الوطن أمام أبصارنا، والعجيب أننا كنا قريبين منه جدا لدرجة أننا شاهدنا رجالا يحرسون نيران المنارة.
3
وعندئذ كان التعب قد بلغ مني مبلغا عظيما، فحل علي النوم اللذيذ؛ إذ لم أترك حبل السفينة من يدي منذ خروجنا من هناك، ولم أسلمه لأي فرد من زملائي، حتى نستطيع بلوغ وطننا بسرعة أكثر. بيد أن رفقائي أخذوا يتحدثون فيما بينهم، قائلين إنني أحضر معي إلى وطني كميات كبيرة من الذهب والفضة، هدية من أيولوس بن هيبوتاس، العظيم القلب، فقال أحدهم وهو ينظر إلى جاره:
بحارة أوديسيوس يفتحون الكيس «ويحه! ما أعظم حب وتكريم الناس لهذا الرجل أينما ذهب! إنه يحمل معه كنزا ضخما من أرض طروادة، أخذه من الغنائم، بينما نحن، الذين قمنا بنفس الرحلة معه، قد عدنا بأيد خالية. وها هو ذا أيولوس قد أعطاه هذه الهدايا، بمحض المودة والمحبة، هيا أيها الرفاق، أسرعوا بنا لنرى ما بهذا الكيس، ماذا يحوي من الذهب والفضة.»
هكذا قال الرفاق فيما بينهم، وتم لهم ما دبروا من خطة شريرة، فما إن حلوا رباط الكيس، حتى انطلقت سائر الرياح من عقالها، واكتسحتهم ثانية إلى البحر بعيدا عن الوطن. أما أنا فاستيقظت من نومي، وفكرت في قلبي العظيم هل ألقي بنفسي من السفينة وأهلك في البحر، أم أقاسي الويلات في صمت، وأظل باقيا على قيد الحياة. وعلى أية حال، فقد كظمت غيظي وبقيت، ثم غطيت رأسي وظللت راقدا في السفينة. بيد أنه هبت على السفن ريح عاتية هوجاء، حملتها جميعا وعادت بها إلى الجزيرة الأيولية، فراح رفقائي يعضون بنان الندم ويئنون.
أيولوس لا يرحب بأوديسيوس ثانية
سرنا بحذاء الشاطئ هناك، وأخذنا كفايتنا من الماء، وفي الحال تناول زملائي طعامهم بجانب السفن السريعة. وبعد أن تناولنا الطعام والشراب، صحبت معي رسولا ورفيقا واحدا، وذهبنا إلى قصر أيولوس المجيد، فوجدناه يولم بجانب زوجته وأولاده، فدخلنا القصر، وجلسنا بجانب قوائم الباب، فوق العتبة، فعجبوا لرجوعنا، وبهتوا في قرارة نفوسهم، وسألونا قائلين: «كيف جئت إلى هنا يا أوديسيوس؟ أي رب شرير هاجمك؟ لا شك أننا قد بعثنا بك معززا مكرما، لكي تصل إلى وطنك ومنزلك أو إلى أي مكان تريد.»
قالوا هذا فأجبتهم بقلب ملؤه الحزن والكمد، فقلت: «خطأ شرير اقترفه زملائي الأشرار في حقي، وكذلك النوم اللعين، وأرجو أن تصلحوا أيها الأصدقاء، ما أفسد هؤلاء؛ لأن القوة معكم.»
وصول أوديسيوس إلى بلاد اللايستروجونيين
قلت هذا، وتحدثت إليهم في عبارات رقيقة، غير أنهم لزموا الصمت، ثم أجاب أبوهم قائلا: «ارحلوا عن جزيرتنا بسرعة، يا أشر من على ظهر البسيطة. لا أستطيع بأي حال أن أمد يد المساعدة لرجل تمقته الآلهة المباركة، أو أرسله في طريقه. إليكم عنا؛ فإنما قد حضرتم إلى هنا، قوما يكرههم الخالدون.»
قال ذلك القول، وطردني من البيت، وأنا أكاد أنفجر من شدة الغيظ، فأبحرنا من هناك بقلوب مثقلة بالأحزان، وقد أنهكت أرواح الرجال تعبا من التجذيف الفظيع، بسبب حماقتنا؛ لأنه لم تهب على السفن أية نسمة قط، لتحملها في طريقها. وهكذا بقينا نبحر ستة أيام، ليل نهار، حتى إذا كان اليوم السابع، بلغنا قلعة لاموس
Lamus
الشاهقة، إلى تيليبولوس
Telepylus
أرض اللايستروجونيين
Laestrygonians ، حيث ينادي الراعي على الراعي، وهو يسوق قطيعه، ويرد عليه الآخر وهو يدفع قطيعه إلى الأمام. يستطيع من لا ينام أبدا، أن يربح هناك أجرا مضاعفا، من رعي الماشية، والأغنام البيضاء؛ لأن رحيل الليل والنهار متقاربان،
4
فلما جئنا إلى هذا المكان، إلى داخل الميناء العظيم، القائم على كل جانب من جانبيه طود شامخ، ورأس من الأرض يبرز في اتجاهين متضادين ممتدا عند المصب، جاعلا المدخل ضيقا، قاد جميع رجالي سفنهم المعقوفة إلى الداخل، فأرسينا السفن داخل الميناء الفسيح، واحدة بجانب الأخرى؛ إذ لم تكن الأمواج لتتضخم داخل الميناء، سواء أكانت اللجة كبيرة أم صغيرة، بل كان كل شيء يحيط بنا هناك، هادئا لامعا. أما أنا، فأرسيت بنفسي، سفينتي السوداء خارج الثغر، بجانب حدود الشاطئ، وربطتها بالحبال إلى الصخر، ثم تسلقت إلى علو شاهق وعر المسالك، واتخذت وقفتي في نقطة الاستكشاف هذه، وأخذت أسرح الطرف هنا وهناك، فلم تبصر عيناي أي عمل للثيران أو للبشر، ولكن الدخان فقط، كان يتصاعد من الأرض هناك؛ عندئذ أرسلت بعض رفاقي، ليذهبوا ويستطلعوا من هم أولئك القوم الذين يحيون
5
فوق تلك الأرض - منتخبا رجلين، وأرسلت معهما ثالثا كرسول - فلما انطلقوا في طريقهم بمحاذاة الساحل، ساروا في طريق ممهدة، اعتادت العربات أن تسير فيها، حاملة الأخشاب من الجبال الشاهقة إلى المدينة. وقبل بلوغهم المدينة التقوا بفتاة تستقي الماء، هي ابنة أنتيفاتيس
Antiphates
اللايستروجوني الطيبة،
6
وكانت قد ذهبت إلى نبع أرتاكيا
Artacia
الجميل التدفق، الذي اعتادت الفتيات أن يستقين منه الماء ويحملنه إلى المدينة، فلما التقوا بها، تحدثوا إليها يسألونها عن ملك ذلك الشعب، ومن هم رعيته، فأشارت لهم في الحال إلى بيت أبيها المرتفع السقف، فلما دخلوا البيت المجيد، ألفوا هناك زوجة بدينة، كأنها قمة جبل، فبهتوا لمرآها، فاستدعت من توها زوجها أنتيفاتيس المجيد، وكان بمكان الاجتماع، فدبر لهم هلاكا فظيعا فأسرع ممسكا بأحد الرجال وأعد منه طعامه، وعندئذ أطلق الرجلان الآخران العنان لأقدامهما، وعادا هاربين إلى السفن. بعد ذلك أطلق الملك صيحة مدوية خلال المدينة، فلما سمعها اللايستروجونيون الأشداء، جاءوا في جموع غفيرة من كل حدب وصوب، وكانوا جمعا لا عداد له، ليسوا أشبه بالرجال، بل بالعمالقة، فأخذوا يقذفوننا بقطع ضخمة من الصخور، من الجبال، بقدر ما يستطيع الإنسان أن يحمل، فارتفع في الحال، من السفن في كل مكان، طنين مخيف، كأنه صادر من رجال يموتون ومن سفن تتحطم. وأخذوا يطعنون الرجال بالرماح ويصيدونهم كما تصاد الأسماك، وحملوهم إلى مدينتهم، طعاما تعافه النفس. وبينما كان هؤلاء القوم يعملون التقتيل في أولئك الذين كانوا داخل الميناء العميق، سللت سيفي البتار من جوار فخذي ، وقطعت به حبال سفينتي ذات الحيزوم القاتم، وعجلت باستدعاء رجالي، وأمرتهم بأن يسرعوا إلى مجاذيفهم؛ كي نستطيع النجاة من الكارثة الشريرة التي حاقت بنا، فراح جميعهم يضربون البحر السنجابي بمجاذيفهم، خشية الموت، وبسرور انطلقنا نحو البحر، بعيدا عن الصخور الناتئة، فأسرعت السفينة تمخر العباب، بينما فقدت جميع السفن التي كانت بداخل الميناء هناك.
وقوع أوديسيوس في قبضة كيركي
أبحرنا من هناك بقلوب مهمومة، وإنما كنا مسرورين لنجاتنا من الموت، رغم أننا كنا قد فقدنا زملاءنا الأعزاء، ووصلنا إلى جزيرة أيايا
Aeaea ، حيث كانت تعيش كيركي
Circe
ذات الجدائل الفاتنة، وهي ربة مفزعة، تتكلم كلام البشر، هي شقيقة أييتيس
Aeetes ، ذي العقل المؤذي، وكلاهما أنجبه هيليوس
Helius ، الذي يعطي الضوء للبشر، وبيرسي
، أمهما، ابنة أوقيانوس
Oceanus ، فأرسينا سفينتنا على الشاطئ هناك في صمت، داخل الميناء، حيث يمكن للسفن أن ترسو، وقادنا أحد الآلهة، فهبطنا، ورقدنا هناك يومين وليلتين؛ إذ كان التعب قد أخذ منا كل مأخذ، وبخع الحزن نفوسنا. غير أنه عندما أنجب الفجر الجميل الغدائر، اليوم الثالث، امتشقت حسامي البتار ورمحي، وانطلقت بسرعة إلى مكان ناء من السفينة، على مدى البصر، أملا في استطلاع أعمال البشر هناك، وسماع أصواتهم، فتسلقت مرتفعا شديد الانحدار، وعر المسلك، ووقفت هناك أرى من بعد، وأستشرف ما حولي، فرأيت دخانا يتصاعد من الأرض الفسيحة الطرقات، في ساحات كيركي، خلال الأدغال الكثيفة والغابة، وأخذت أعمل تفكيري، هل أذهب وأبحث بعد أن رأيت الدخان المتأجج. وبينما أنا في حيرة التفكير، طرأ على بالي رأي، بدا لي أفضل الآراء، أن أعود أولا إلى السفينة على شاطئ البحر، وأعطي رفاقي طعامهم، ثم أرسلهم إلى هناك ليقوموا هم بالبحث. وبينما أنا أشق طريقي إليهم، وكنت على مسافة قريبة من السفينة المعقوفة، أشفق علي أحد الآلهة، وأنا في وحدتي، فأرسل إلي ظبيا ضخما طويل القرون، جاء في طريقي بالذات. لقد كان آتيا من مرعاه في الغابة، وهابطا إلى النهر ليشرب؛ إذ برحت به حرارة الشمس، وبينما هو خارج هويت برمحي على منتصف سلسلة ظهره، فنفذ الرمح البرونزي في جسمه، وسقط يتخبط في الثرى وهو يئن، وغادرت روحه الجسد. بعدئذ وضعت قدمي فوقه، وجذبت الرمح البرونزي من الجرح، وتركته هناك راقدا فوق الأرض، ثم قطفت أغصانا وعيدان نباتات متسلقة، وصنعت منها حبلا طوله ست أقدام، وفتلته جيدا حتى طرفيه وربطت قدمي الحيوان الضخم معا، وسرت في طريقي إلى السفينة السوداء، حاملا الظبي فوق ظهري ومتكئا على رمحي؛ إذ لم يكن في مقدوري، بأية حال، أن أحمله على كتفي بيد واحدة؛ لأنه كان حيوانا بالغ القوة، ثم ألقيت به عن ظهري أمام السفينة، وطفقت أشجع رفقائي بعبارات رقيقة، ذاهبا إلى كل رجل، بدوره، فقلت لهم: «أيها الأصدقاء، لم يحن موعد هبوطنا إلى بيت هاديس بعد، رغم ما نحن عليه من آلام؛ إذ لم يحل علينا يوم القضاء. هلموا بنا، طالما لا يزال هناك طعام وشراب في سفينتنا السريعة، نفكر في طعامنا، حتى لا نذوي من الجوع.»
هكذا قلت لهم، فأصغوا بانتباه إلى كلامي، وأزاحوا العباءات عن وجوههم،
7
وتعجبوا من الظبي الملقى فوق شاطئ البحر الصاخب؛ لأنه كان حيوانا ضخما جدا. وبعد أن أشبعوا عيونهم من النظر إليه، غسلوا أيديهم، وأعدوا منه وليمة مجيدة. وهكذا ظللنا جالسين طول اليوم كله، حتى غروب الشمس، نأكل من لحم وفير، ونحتسي خمرا لذيذة. بيد أنه ما إن غربت الشمس وشملت الظلمة الكون، حتى رقدنا فوق ساحل البحر لنستريح. ولما لاح الفجر الباكر، ذو الأنامل الوردية، ناديت رجالي سويا، وتحدثت في وسطهم جميعا قائلا: «هيا اسمعوا، أيها الرفاق، وأصغوا إلى كلامي، لنتدبر كارثتنا الشريرة. الشمس، مانحة الضوء للبشر، نحت الأرض، ولا أين تشرق، فهيا نفكر الآن مليا، إذا كان لا يزال لدينا أفكار باقية، ونجد منفذا للخلاص.
8
أما أنا فلست أظن أن هناك شيئا من هذا، فقد صعدت إلى مكان مرتفع للاستطلاع، فرأيت الجزيرة أشبه بتاج يحيط بها الخضم اللانهائي. وتقع الجزيرة نفسها منخفضة، وأبصرت عيناي في وسطها، الدخان يتصاعد وسط الغابة والأعشاب الكثيفة.»
هكذا تكلمت، فتحطمت أرواحهم في داخل أجسادهم، وقد استعادوا في مخيلتهم ما فعله أنتيفاتيس اللايستروجوني، وقسوة الكوكلوب المتحجر القلب، من أكل لحوم البشر، فأخذوا يبكون عاليا، وذرفوا الدموع السواجم، ولكن ذلك لم يجدهم نفعا.
رجال أوديسيوس ينمسخون خنازير
عندئذ، قسمت رجالي المدرعين جيدا، إلى فرقتين، وعينت منهم قائدا لكل فريق، فتوليت أنا رئاسة فريق منهما، بينما رأس الفريق الآخر يورولوخوس
Eurylochus
شبيه الإله، ثم اقتسمنا بسرعة بالأزلام، في خوذة برونزية، فخرج زلم يورولوخوس الباسل؛ وعلى ذلك انطلق يصحبه اثنان وعشرون رفيقا، وكلهم يبكون، وتركونا وراءهم، وهم ينتحبون، فعثروا على منزل كيركي، وسط وديان الغابة، مصنوعا من الصخر المصقول، في مكان فسيح مكشوف، وكان حول البيت كثير من الذئاب الجبلية والأسود، كانت كيركي نفسها قد مسختها، بأن أعطت الرجال عقاقير ضارة. غير أن تلك الحيوانات لم تهاجم رجالي، ولكنها زمجرت نحوهم مكشرة، وهي تهز ذيولها الطويلة. وكما يحدث عندما تنبح كلاب الصيد حول صاحبها وهو آت من مأدبة، إذا لم يحضر لها أي شيء من قطع اللحم ليهدئ من غضبها، هكذا أيضا عوت الذئاب القوية المخالب، والأسود، حولهم، فتملكهم الفزع لرؤية تلك الوحوش الكاسرة؛ ولذلك وقفوا عند باب الربة ذات الغدائر الجميلة، فسمعوا في الداخل صوت كيركي تغني بصوت شجي، وهي تذرع أرض ساحتها جيئة وذهابا، أمام نسيج عظيم لا يفنى، نسيج أشبه ما يكون بعمل الربات، منسوج ببراعة فائقة، فغدا باهرا جميلا مجيدا؛ عندئذ تحدث إليهم قائد الرجال بوليتيس
، أعز رفقائي على نفسي، وأخلصهم لي، فقال: «أيها الأصدقاء، إن بالداخل شخصا يروح ويجيء أمام نسيج فخم، يشدو بصوت رخيم، لدرجة أن الأرض كلها تدوي بصدى غنائه، لا بد أن يكون هذا الشخص ربة ما، أو سيدة من السيدات، هلموا بنا، نسرع بالنداء عليها.»
ما إن أتم كلامه ذاك، حتى صاح الرفاق، منادين الربة، وفي الحال فتحت الأبواب المتألقة، وخرجت الربة إليهم، وأمرتهم بالدخول، ولحماقتهم جميعا ذهبوا معها، ما خلا يورولوخوس؛ إذ ارتاب في أن يكون في الأمر كمين. أدخلتهم، وأجلستهم فوق مقاعد وأرائك، وأعدت لهم جرعة من الجبن ودقيق الشعير والعسل الذهبي، والنبيذ البرامني
، ولكنها مزجت الطعام بعقاقير ضارة، كي ينسوا وطنهم النسيان كله، فلما قدمت لهم الجرعة، وشربوها، أسرعت فضربتهم بصولجانها، وحبستهم في حظائر الخنازير. وكان لهم رءوس وصوت وشعر وهيئة الخنازير البرية، أما عقولهم فقد ظلت كما كانت من قبل دون أن يطرأ عليها أي تغير. وهكذا حبسوا هناك وهم يبكون، وألقت كيركي أمامهم ثمار البلوط، وثمار العوسج، ليأكلوها، ومثل هذه الأشياء تتغذى بها الخنازير الصارخة.
أوديسيوس يستمع إلى محنة رفقائه
أسرع يورولوخوس، من فوره، بالعودة إلى السفينة السوداء السريعة، لينقل إلينا خبر رفقائه، ومصيرهم المخزي. لقد ألجم الحزن لسانه فلم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة، رغم تلهفه إلى الإفضاء بما وراءه من الأخبار. وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وانصبت روحه على النحيب، فلما سألناه مدهوشين، قص علينا ما نال الآخرين من أصدقائه من مصير، قائلا: «انطلقنا خلال الأدغال، كما أمرتنا أيها النبيل أوديسيوس، فوجدنا في ممرات الغابة مكانا جميلا، مشيدا من الصخور المصقولة، في مكان رحب. وكان هناك شخص يغدو ويروح أمام نسيج هائل، يغني بصوت واضح، ربة ما، أو امرأة، فصاحوا عاليا ونادوها، فخرجت من فورها وفتحت الأبواب اللامعة، وأمرتهم بالدخول، فدخلوا معها جميعا بحماقتهم. أما أنا فتخلفت وبقيت في الخارج؛ لأنني شككت في أن يكون هناك كمين. بعد ذلك اختفوا كلهم، ولم يظهر منهم أحد ثانية، رغم أنني انتظرت جالسا في الخارج مدة طويلة، وظللت أراقب.»
أوديسيوس يهم لنجدة رفقائه
عندما سمعت كلامه هذا، وضعت سيفي المرصع بالفضة حول كتفي، وكان سيفا ضخما من البرونز، وعلقت قوسي حول جسمي، وأمرت يورولوخوس بأن يقودني، عائدا من نفس الطريق. بيد أنه أمسكني بكلتا يديه، وأخذ يتوسل إلي واضعا يديه على ركبتي، وكلمني وهو يبكي بكلمات حماسية، فقال: «لا تقدني إلى هناك، بالرغم مني، يا سليل زوس، ولكن اتركني هنا فإنني أعلم يقينا، إما أنك لن تعود ثانية، أنت نفسك، وإما أنك لن تحضر أي واحد من الزملاء، دعنا نهرب بمن معنا هنا. بأقصى سرعة، طالما يمكننا أن ننجو من اليوم الشرير.»
هكذا تكلم، ولكني أجبته بقولي: «يا يورولوخوس، يمكنك أن تبقى هنا في هذا المكان، تأكل وتشرب بجانب السفينة الواسعة السوداء، أما أنا فإني ذاهب؛ إذ تقع ضرورة ملحة على عاتقي.»
هيرميس يخف لمساعدة أوديسيوس
ما إن قلت هذا، حتى انطلقت من السفينة، والبحر. بيد أنني، وأنا أجتاز الممرات المقدسة، وأوشكت على بلوغ منزل الساحرة كيركي، المنيف، قابلني هيرميس، ذو الصولجان الذهبي، التقى بي وأنا ذاهب إلى المنزل، في صورة شاب يافع يتألق وجهه كأنه الفجر الباكر، ويتجلى في محياه سحر الشباب بأجمل مظاهره، فأمسك بيدي، وخاطبني بقوله: «إلى أين أنت ذاهب ثانية، أيها الرجل التعيس؟ أهكذا تسير وحدك وسط التلال، دون أن تعرف عن البلاد شيئا؟ يؤسفني أن رفقاءك، هناك في كيركي، محبوسون في الحظائر المتقاربة القضبان، في هيئة خنازير، فهل أتيت لتخلصهم؟ إنني أخبرك، بأنك لن تعود ثانية، أنت نفسك، ولكنك ستبقى هناك مع الآخرين، ولكن تعال؛ فإني سأنقذك من الأذى وأنجيك. دونك هذا العشب القوي، وانطلق إلى بيت كيركي، فإنه سوف يجنب رأسك لليوم المشئوم. هيا، استمع إلي، فسأخبرك بجميع حيل كيركي المؤذية. إنها ستخلط لك شرابا، وتضع في الطعام عقاقير، ولكنها بالرغم من ذلك لن تستطيع أن تسحرك؛ لأن العشب القوي الذي سأعطيكه، لن يتأثر بتلك العقاقير. وسوف أخبرك بكل شيء، فعندما تضربك كيركي بصولجانها الطويل، استل سيفك الحاد من جانب فخذك، واهجم عليها، كما لو كنت ستقتلها؛ عندئذ سيتملكها الخوف منك، وتأمرك بالرقاد معها. بعد ذلك إياك أن ترفض الرقاد في مخدع الربة، لكي تطلق سراح زملائك، وتقدم لك الضيافة، ولكن مرها بأن تقسم يمينا عظيمة بالآلهة المباركين، أنها لن تدبر لك أي أذى من جديد، أو تحيك ضدك ما يؤذيك، خشية أنها - وقد جعلتك عريان - قد صيرتك ضعيفا عديم الرجولة.»
قال أرجايفونتيس، ذلك القول، وأعطاني العشب، وقد نزعه من الأرض، مبينا لي خصائصه. كان أسود من جهة الجذر، ولكن زهرته كانت ناصعة كاللبن. إنه النبات الواقي من السحر؛ فهكذا يسميه الآلهة، ومن العسير على البشر أن ينزعوه من الأرض، غير أن كل شيء مستطاع لدى الآلهة. بعد ذلك انصرف هيرميس إلى أوليمبوس الشامخ، خلال الجزيرة ذات الغابات، فانطلقت في طريقي إلى قصر كيركي، بينما راح قلبي يفكر في أمور كثيرة، متشائما وأنا ذاهب؛ ومن ثم وقفت عند أبواب الربة الجميلة الجدائل، وقفت هناك وناديت، فسمعت الربة صوتي وفي الحال أقبلت، وفتحت الأبواب اللامعة، وأمرتني بالدخول، فذهبت معها، وقلبي مضطرب غاية الاضطراب. أدخلتني وأجلستني فوق كرسي مرصع بالفضة، كرسي جميل، بديع الصنع، ومن أسفله كرسي صغير للقدمين. وأعدت لي الجرعة في كأس ذهبية، كي أشربها، ووضعت فيها عقارا، وهي تضمر السوء في قلبها، غير أنه عندما تناولتها منها، وشربتها، لم أسحر، فضربتني بصولجانها، وهي تقولي: «انطلق الآن إلى الحظيرة، وارقد مع بقية زملائك.»
أوديسيوس يقهر كيركي
قالت هذا، ولكني سللت حسامي البتار من جوار فخذي، وهجمت على كيركي، كما لو كنت سأقتلها. بيد أنها صاحت صيحة بالغة، وارتمت على الأرض، ممسكة بركبتي، وأخذت تتحدث إلي بعبارات حماسية، وهي تبكي، فقالت: «من تكون يا هذا بين البشر، ومن أين قدمت؟ أين تقع مدينتك، وأين أبواك! إنني لأعجب من أنك تجرعت تلك الكأس المسحورة، ولم تؤثر فيك بحال ما؛ فما من رجل كائنا من كان، استطاع مقاومة هذه الرقية بمجرد أن يشربها وتمر من بين شفتيه. كلا، إن قلبك، الكائن في صدرك، ليس من النوع الذي يخدع. لا ريب أنك أوديسيوس، الحاضر الحيلة، الذي كثيرا ما أخبرني أرجايفونتيس، ذو الصولجان الذهبي، أنه سيأتي إلى هنا، وهو في طريقه إلى الوطن، قادما من طروادة، في سفينته السريعة السوداء. خل عنك، وضع سيفك في غمده، وهيا بنا نصعد إلى فراشي، حتى إذا ما ضمنا الفراش معا في عشق، استطاع كل منا أن يثق بالآخر.»
وسللت حسامي البتار، وهجمت على كيركي.
هكذا تكلمت الربة، ولكني أجبتها بقولي: «أي كيركي، كيف تأمرينني بأن أكون رقيقا معك ، أنت يا من حولت رفاقي إلى خنازير في ساحاتك، والآن تحتفظين بي هنا ، وبنية خداعة تأمرينني بالذهاب إلى حجرتك، والصعود معك إلى فراشك، حتى إذا تجردت من سلاحي وملابسي، أمكنك أن تجعليني ضعيفا مخنثا؟ كلا أيتها الربة؛ فما أنا بالشخص الذي يتوق بحق إلى الصعود إلى فراشك، إلا إذا وافقت أيتها الربة، على أن تقسمي يمينا لا حنث فيها، أنك لن تحيكي ضدي أي أذى جديد ضار بي.»
كيركي تعد أوديسيوس بالأمان
هكذا قلت لها، فأقسمت في الحال أنها لن تنزل بي أي ضرر، كما أمرتها، وبعد أن حلفت اليمين، وانتهت منها، صعدت إلى فراشها الجميل، فراش الربة كيركي.
كانت وصيفاتها، في تلك الأثناء، مشغولات في الساحات. إنهن خادماتها الأربع، اللواتي كن يعشن معها في ذلك البيت. إنهن بنات الينابيع والكهوف والأنهار المقدسة التي تتدفق وتصب في البحر، فشرعت إحداهن تضع فوق الكراسي طنافس جميلة من الأرجوان، وفرشت من تحتها قماشا من الكتان، وجاءت أخرى بمناضد من الفضة وضعتها أمام المقاعد، ووضعت فوقها أسفاطا من الذهب، بينما راحت ثالثة تخلط الخمر الحلوة العسلية في طاس من اللجين، وأخذت تقدم كئوسا من العسجد، بينما أحضرت الرابعة ماء، وأوقدت نارا عظيمة تحت قدر كبيرة، فصار الماء يسخن. ولما غلى الماء في البرونز اللامع أدخلتني إلى الحمام، وغسلتني بالماء من القدر الكبيرة، وكانت تمزجه بالماء البارد ليصير مناسبا لاحتمالي، فطفقت تسكبه فوق رأسي وكتفي، حتى أزالت التعب المهلك للروح، من أطرافي. وبعد أن انتهى الاستحمام، ودعكت جسمي جيدا بالزيت، ودثرتني في عباءة جميلة ومعطف، قادتني إلى البهو، وأجلستني فوق كرسي مرصع بالفضة - كرسي جميل بديع الصنع عند أسفله كرسي صغير للقدمين. بعد ذلك جاءت إحدى الإماء بماء لغسيل الأيدي، في إبريق بديع من الذهب، وسكبته في طست من اللجين، كي أغسل يدي، ودفعت إلى جانبي منضدة لامعة، ثم جاءت ربة البيت القاسية، ووضعت أمامي خبزا، ولحما كثيرا، واهبة ذلك بكرم، من خزينها. وبعدئذ أمرتني بتناول الطعام، غير أن قلبي لم يكن ميالا إلى ذلك؛ فبالحري، جلست وقد انتابتني الأفكار، وأنذرتني روحي بشر.
لاحظت كيركي ما يخالج نفسي وأنا جالس هكذا، لا أمد يدي إلى الطعام، بل يبدو على وجهي أنني مثقل بالأحزان والغم الشديد، فاقتربت مني، وتحدثت إلي بكلمات سريعة،
9
قائلة: «لم تجلس هكذا، يا أوديسيوس، أشبه بشخص أبكم، تذيب قلبك هما وحزنا، دون أن تمس أي طعام أو شراب؟ هل تقدح ذهنك تفكيرا في حيلة أخرى؟ كلا، لست بحاجة لأن تخاف شيئا ما، بأية حال من الأحوال، طالما أنني قد أقسمت لك تلك اليمين، التي لا حنث فيها قط، بألا أوذيك.»
هكذا قالت، ولكني أجبت بقولي: «أيا كيركي، أي رجل سليم العقل، يمكنه إجبار نفسه على تذوق الطعام أو الشراب، قبل أن يطلق سراح زملائه، ويبصر بهم أمام وجهه؟ فإذا كنت بنية خالصة، تأمرينني بتناول الطعام، والشراب، فهيا أطلقي سراحهم كي تشاهد عيناي رفقائي الأوفياء.»
الخنازير تنمسخ رجالا كما كانوا
كان هذا حديثي إليها، فانطلقت كيركي عبر البهو، تحمل في يدها صولجانها، وفتحت أبواب الحظيرة، وأخرجتهم في صورة خنازير سنها تسع سنوات، فوقفوا أمامها هناك على تلك الهيئة، وذهبت هي في وسطهم، وأخذت تدهن كل رجل بجرعة سحرية أخرى، فطفق الشعر يتساقط من أطرافهم، ذلك الشعر الذي نما عليها بتأثير العقار الضار، الذي كانت أعطتهم إياه كيركي الجليلة. وهكذا صاروا رجالا من جديد، أقرب إلى الشباب مما كانوا من قبل، وأبهى منظرا وأطول قامة، للرائين. لقد عرفوني، فتعلق كل رجل منهم بيدي، وتشنجت أطرافهم من فرط فرحهم، ودوى المنزل من حولهم بالأعاجيب، حتى إن الربة نفسها، ثارت فيها عاطفة الشفقة.
بعد ذلك اقتربت الربة الفاتنة مني، وقالت: «يا ابن لايرتيس، يا سليل زوس، أي أوديسيوس، الواسع الحيلة، انطلق الآن إلى سفينتك السريعة، وإلى ساحل البحر، وابدأ أولا، وقبل كل شيء، بسحب السفينة فوق البر، واخزن أمتعتك وسائر حاجياتك وحبال سفينتك في الكهوف، ثم ارجع إلى هنا، أنت نفسك، وأحضر معك زملاءك المخلصين.»
أوديسيوس ورفاقه يقيمون لدى كيركي
ما إن قالت هذا حتى وافق قلبي العظيم، فانطلقت من فوري، أشق طريقي إلى السفينة السريعة، وشاطئ البحر ، فألفيت رفقائي المخلصين هناك، بجوار السفينة السريعة، يبكون أمض البكاء وآلمه، ذارفين الدموع الغزار. وكما يحدث عندما تلعب العجول في القرية حول قطعان البقر العائدة إلى الفناء، بعد أن رعت ما شاء الله أن ترعى - فتذهب كلها سويا، وتمرح أمامها، فلا تعود الحظائر تحتويها، ولكنها تخور خوارا مستمرا وتجري حول أمهاتها - هكذا فعل أولئك الرجال، بمجرد أن أبصرتني عيونهم؛ إذ التفوا حولي يبكون، وفرحت قلوبهم، كما لو كانوا قد بلغوا أرض وطنهم، وقلب مدينة إيثاكا الوعرة، حيث نشئوا وترعرعوا، وبالنحيب خاطبوني بكلمات مجنحة،
10
قائلين: «ما أعظم سرورنا لعودتك، أيها المنحدر من زوس، كما لو كنا قد عدنا إلى وطننا، إيثاكا! هيا، قص علينا ما حدث لبقية الرفاق.»
هكذا قالوا، فأجبتهم برقيق الألفاظ، قائلا: «هيا بنا، أولا وقبل كل شيء نسحب السفينة فوق اليابسة، ونخزن أشياءنا وجميع الحبال في الكهوف، ثم ننطلق جميعا، لكي تروا زملاءكم في ساحات كيركي المقدسة يشربون ويأكلون، وأمامهم خزين لا ينضب معينه.»
ما إن قلت لهم هذا، حتى صدعوا بالأمر. وكان يورولوخوس وحده هو الذي حاول أن يمنع جميع الزملاء من تلبية أمري؛ إذ خاطبهم بعبارات حماسية، فقال: «ويحكم أيها الرجال الأشقياء! إلى أين نحن ذاهبون؟ لماذا أنتم مغرمون بهذه المحن هكذا؟ كأن تذهبوا إلى منزل كيركي، التي سوف تحولنا جميعا إلى خنازير، أو إلى ذئاب أو أسود، لترغمنا على حراسة بيتها بالقوة! هكذا فعل الكوكلوب أيضا. عندما ذهب زملاؤنا إلى كهفه، بصحبة هذا الطائش أوديسيوس؛ لأنه من جراء تهور هذا الرجل هلكوا هم أيضا.»
كان هذا قوله، فاحتار قلبي، ما أفعل، هل أستل سيفي الطويل من جانب فخذي المسكين، فأحز به رأسه، ليتدحرج على الأرض، بالرغم من أنه يمت إلي بصلة النسب من ناحية الزواج؟! غير أن رفقائي، حاولوا، واحدا بعد آخر، أن يمنعوني، برقيق الألفاظ، قائلين: «أيها المنحدر من زوس، إننا طوع أمرك، فلو أمرتنا لتركنا هذا الرجل هنا بجانب السفينة ، لكي يحرسها، أما نحن فلك أن تقودنا إلى بيت كيركي المقدس.»
قالوا هذا ، وخرجوا من السفينة والبحر. ولم نترك يورولوخوس بجانب السفينة الواسعة، بل ذهب معنا؛ إذ خشي لومي اللاذع.
عندما بلغنا ساحات كيركي، غسلت باقي زملائي في اهتمام بالغ، ودهنتهم جيدا بالزيت، ودثرتهم في عبايات من الصوف ومعاطف، ووجدنا رفاقنا جميعا يولمون في الساحات، ملء بطونهم، فلما رأوا الآخرين، وتعرف كل منهم على الآخر، وجها لوجه، بكوا وانتحبوا ودوى البيت من حولهم بالبكاء، فاقتربت مني الربة الحسناء، وقالت: «كفوا بعد الآن عن هذا النحيب المرير؛ فإنني، أنا نفسي على علم بجميع المحن التي تكبدتموها وسط الخضم الزاخر، وكل المصائب التي أنزلها بكم أولئك الأقوام الأفظاظ فوق سطح الأرض. هلموا، إلى تناول الطعام والشراب والخمر، إلى أن تستردوا من جديد أرواحكم إلى داخل صدوركم، كما كنتم في البدء عند رحيلكم من وطنكم إيثاكا الوعرة؛ فإنكم الآن قد ذويتم، وخارت قواكم، من جراء تفكيركم في الرحلات الشاقة، ولم تدخل السعادة قلوبكم قط؛ إذ في الحقيقة، قد تكبدتم الكثير.»
كيركي توافق على رحيل أوديسيوس
هكذا قالت كيركي، فوافقت قلوبنا العالية؛ ومن ثم بقينا هناك، يوما بعد يوم، لمدة عام كامل، نولم على لحم وفير، وخمر لذيذة، فلما انقضت السنة ومرت الفصول، بتعاقب الشهور، ومرور الأيام الطويلة في مجراها، استدعاني زملائي الأوفياء، وقالوا لي: «أيها الرجل الغريب، أما آن لك أن تفكر الآن، أخيرا في وطنك إذا كان مكتوبا لك أن تنجو، وأن تصل إلى بيتك السامق السطح؟»
هكذا تكلموا فوافق قلبي السامي، وبقينا اليوم بطوله، حتى غروب الشمس، جالسين إلى موائد زاخرة باللحم الكثير والخمر اللذيذة، فلما اختفت الشمس وراء الأفق، وجاءت الظلمة، رقدوا في الساحات الظليلة لينعموا بالنوم، بينما صعدت أنا إلى فراش كيركي الوثير، وتوسلت إليها، جاثيا عند ركبتيها، فسمعت الربة تضرعي، وتكلمت مخاطبا إياها بعبارات سريعة، فقلت: «هيا كيركي، حققي لي الوعد الذي قطعته على نفسك، بأن تبعثي بي إلى الوطن؛ فإن روحي تتوق الآن إلى الرحيل، وكذلك أرواح زملائي، الذين يذيبون قلبي. وهم يجلسون من حولي يبكون، كلما تصادف أن تكوني بمنأى عنهم.»
أوديسيوس يذهب إلى هاديس
ما إن قلت لها ذلك القول، حتى أجابتني الربة الفاتنة في الحال، بقولها: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، لن تبقى بعد الآن مدة أطول من تلك في بيتي ضد رغبتك، بيد أنه لك أولا، أن تتم رحلة أخرى، وتذهب إلى بيت هاديس، وبيرسيفوني
11
الرهيبة، بحثا عن عرافة روح تايريسياس
Teiresias
الطيبي، ذلك العراف الضرير، الثابت الجنان؛ فقد منحته بيرسيفوني سداد الرأي، حتى بعد موته، لكي يكون هو وحده صاحب الإدراك، بينما يتخبط الآخرون هنا وهناك كالأشباح.»
هكذا قالت الربة، فتداعت روحي داخل صدري، وشرعت أبكي وأنا اجلس فوق الفراش، ولم يعد لقلبي أية رغبة في الحياة ورؤية ضوء الشمس، وبعد أن بكيت ما شئت أن أبكي وأولول، أجبت كيركي، متحدثا إليها بقولي: «أي كيركي، من ذلك الذي سيقودنا في هذه الرحلة؟ فلم يسبق لبشر أن ذهب قط إلى هاديس في سفينة سوداء.»
ما إن قلت هذا، حتى أجابتني الربة الجميلة، في الحال، بقولها: «يا ابن لايرتيس، يا أيها المنحدر من زوس، أي أوديسيوس البالغ الحيلة، لا تفكرن في نفسك، بمن سيكون الدليل ليقود سفينتك، وإنما ارفع الصاري، وانشر الشراع الأبيض، واجلس، وعندئذ ستدفعها نسمة الريح الشمالية في طريقها، وبعد أن تكون قد قطعت بسفينتك، مجرى الأوقيانوس، حيث يوجد ساحل مستو، وحيث توجد مغارات بيرسيفوني - تحيط بها أشجار حور باسقة، وصفصاف دانية القطوف - ارس بسفينتك هناك، بجانب أوقيانوس العميق الدوامات، ثم انطلق بنفسك إلى بيت هاديس الرطب. هناك، إلى داخل أخيرون
Acheron
12
يتدفق بيريفليجيثون
وكوكوتوس
Cocytus ، المتفرع من مياه ستوكس
Styx ، وهناك صخرة، ومكان اجتماع النهرين الصاخبين. اقترب من هناك، أيها الأمير، كما آمرك، واحفر حفرة طولها ذراع من هنا إلى هناك، واسكب سكيبة حولها لجميع الموتى، أولا من اللبن والعسل، ثم من الخمر الحلوة، وثالث مرة من الماء، وانثر فوقها حفنة من الشعير الأبيض. ويجب عليك أن تستعطف بشدة رءوس الموتى، عديمة القوة، وانذر أنك عندما تبلغ إيثاكا، تنحر في ساحاتك عجلة عاقرا، تكون خير ما عندك من العجول، وأن تملأ المذبح بالهدايا القيمة، وأن تذبح لتايريسياس وحده كبشا، أسود كله، أعظم كبش في قطيعك. وبعد أن تتوسل متضرعا إلى قبائل الموتى المجيدة، اذبح كبشا ونعجة سوداء، مديرا رأسيهما صوب إيريبوس
Erebus ، بينما تتجه أنت نفسك إلى الخلف، ووجهك إلى مجاري النهر؛ عندئذ ستأتي إليك أشباح كثير من الموتى، فناد بعد ذلك رفقاءك، ومرهم بأن يسلخوا ويحرقوا الخراف الملقاة هنا وهناك، مذبوحة بالبرونز القاسي، وصلوا إلى هاديس العتيد، وإلى بيرسيفوني المهوبة. أما أنت فاستل حسامك البتار من جانب فخذك، واجلس هناك، لتبعد رءوس الموتى، المجردة من القوة، عن الدم إلى أن تنتهي من استجواب تايريسياس. سيأتيك العراف، قائد البشر، فورا، ويخبرك بالطريق التي تسلكها وأطوالها، وعن كيفية عودتك، وكيف تستطيع الإبحار وسط اليم الصاخب.»
هكذا قالت، وفي الحال، لاح الفجر الذهبي العرش، فألقت حولي عباءة ومعطفا، وتدثرت الحورية في ثوب طويل أبيض، دقيق النسيج جميل، وشدت وسطها بزنار بديع من الذهب، وألقت فوق رأسها خمارا، فسرت عبر الساحات، وأيقظت رجالي برقيق الألفاظ، متجها نحو كل رجل بدوره أقول لهم: «لا تناموا بعد الآن، ولا تستغرقوا في الكرى اللذيذ، بل هلموا بنا ننطلق؛ فللعجب، أن كيركي الجليلة قد أفضت إلي بكل شيء!»
إلبينور يبقى مع كيركي
لما قلت لهم هذا، وافقت قلوبهم الشامخة. بيد أنه لم يكن في مقدوري، أن أقود رجالي سالمين، حتى من هنا؛ فقد كان هناك إلبينور
Elpenor ، أصغر الجميع ولم يكن شجاعا في الحرب، ولا سليم الإدراك، إنه آثر أن يتخلف عن رفقائه في بيت كيركي المقدس، طلبا للهواء الرطب؛ إذ كان مثقلا بالخمر، فسمع الضوضاء التي أحدثها زملاؤه وهم يتحركون هنا وهناك، فوثب فجأة ناسيا أن يتجه نحو السلم الطويل ليهبط، وعندئذ سقط من السطح، فانكسر عنقه منفصلا عن سلسلة ظهره، فهبطت روحه إلى بيت هاديس.
وبينما كان رجالي في طريقهم خاطبتهم بقولي: «إنكم تظنون أنكم ذاهبون بحق إلى وطنكم العزيز، ولكن كيركي قد عينت لنا رحلة أخرى، إلى بيت هاديس وبيرسيفوني المهوبة، لنستشير روح تايريسياس الطيبى.»
ما إن أخبرتهم بهذا حتى جزعت أرواحهم في داخلهم، ولما اعتلوا في مجلسهم حيث كانوا، أخذوا يبكون، وشدوا شعورهم، بيد أن بكاءهم لم يجدهم نفعا.
وبينما نحن في طريقنا إلى السفينة السريعة، وإلى شاطئ البحر، محزوني الفؤاد، نذرف الدموع السواجم، كانت كيركي، في نفس الوقت، قد سبقتنا إلى هناك، ووضعت إلى جانب السفينة السوداء كبشا ونعجة سوداء؛ إذ كان من اليسير عليها أن تذهب قبلنا إلى هناك. ومن ذا الذي يستطيع بعيونه رؤية رب، ضد رغبته، سواء أكان غاديا أم رائحا؟
الأنشودة الحادية عشرة
وصول أوديسيوس إلى أوقيانوس
نزلنا إلى البحر وامتطينا ظهر السفينة، بعد أن سحبناها أولا إلى البحر اللامع، وثبتنا الصاري والشراع في السفينة السوداء، وحملنا الخراف إلى سطح السفينة، ثم صعدنا نحن أنفسنا محزوني الأفئدة، نذرف الدموع الغزار. وقد أرسلت ريح معتدلة؛ لتساعدنا في أن تمخر سفينتنا الدكناء الحيزوم عباب اليم، فملأت الشراع، وكانت لنا رفيقا عظيما، وأرسلتها لنا كيركي الجميلة الجدائل، تلك الربة المرهوبة الجانب، التي تتكلم لغة البشر. وهكذا بعد أن ثبتنا سائر الحبال في مختلف أجزاء السفينة، جلسنا، وتولت الريح، وقائد الدفة، تسييرها لتشق طريقها قدما؛ فطوال اليوم كله، كان الشراع منبسطا، وهي تجري على صفحة الماء، ثم غابت الشمس، وغدت جميع السبل مظلمة.
وأخذت أستعطف بحرارة رءوس الموتى المجردة من القوة.
وصلت السفينة إلى أوقيانوس العميق المجرى، والذي يحد الأرض، حيث بلاد ومدينة الكيميريين
Cimmirians ،
1
الملتفة بالضباب والغيوم، لا تشرق عليها الشمس بأشعتها، لا عندما ترتفع في كبد السماء ذات النجوم، ولا عندما تعود ثانية إلى الأرض من السماء، وإنما ينتشر الليل الضار، بظلامه الدامس فوق رءوس البشر التعساء، فوصلنا إلى هناك، وأرسينا سفينتنا، وأنزلنا الخراف، وذهبنا نحن أنفسنا إلى جوار مجرى أوقيانوس حتى بلغنا المكان الذي حدثتنا عنه كيركي.
أوديسيوس ينحر الذبائح للموتى
بينما سحبت أنا سيفي الحاد وحفرت حفرة طولها ذراع.
في ذلك المكان أمسك بيريميديس
ويورولوخوس الذبائح، بينما سحبت أنا سيفي من جوار فخذي ، وحفرت حفرة طولها ذراع من هنا وذراع من هنا، وسكبت حولها سكيبة لجميع الموتى، بادئا باللبن والعسل، ثم بالخمر اللذيذة، وفي المرة الثالثة بالماء، ثم نثرت فوقها مطحون الشعير الأبيض، وأخذت أستعطف بحرارة رءوس الموتى المجردة من القوة، ونذرت أنني عندما أبلغ إيثاكا، أذبح في ساحاتي عجلة بكرا، تكون خير ما عندي من العجول، وأكدس الهدايا العظيمة فوق مذبحي، وأنحر لتايريسياس وحده كبشا، أسود كله، يكون أعظم كبش في قطعاني. وبعد أن تضرعت إلى قبائل الموتى بالنذور والتوسل، وأمسكت الخراف، ونحرت حلوقها فوق الحفرة، فتدفق منها الدم القاتم. بعد ذلك، احتشدت هناك، من داخل إيريبوس
Erebus
2
أرواح من ماتوا، من عرسان وشباب أعزب، وشيوخ أنهكتهم المتاعب، وعذارى رقيقات ذوات قلوب حديثة العهد بالأحزان، وكذلك أرواح كثيرين ممن أصابتهم الرماح البرونزية الأطراف بالجراح، أولئك الرجال الذي خروا صرعى في القتال، وهم مرتدون عددهم الحربية الملطخة بالدماء. أسرع هؤلاء يتهافتون في جموع غفيرة حول الحفرة من كل صوب، يصيحون صيحات عجيبة، فتملكني الرعب المسبب شحوب اللون. بعدئذ ناديت زملائي وأمرتهم بأن يسلخوا أو يحرقوا الخراف الملقاة هناك بعد أن ذبحت بالبرونز القاسي، وبأن يقوموا بالصلاة إلى الآلهة، إلى هاديس العتيد، وإلى بيرسيفوني المرهوبة. أما أنا نفسي، فقد سللت حسامي البتار من جوار فخذي، وجلست هناك، ولم أسمح لرءوس الموتى المجردة من القوة بأن تقترب من الدم إلا بعد أن استجوبت تايريسياس.
أوديسيوس يلتقي بروح إلبينور
كان روح رفيقي إلبينور هو أول من جاء؛ فلم يكن قد دفن بعد تحت الأرض الفسيحة الطرقات؛ لأننا كنا قد تركنا جثته وراءنا في ساحة كيركي، دون أن يبكيها أحد، ودون أن تدفن؛ حيث قد شغلنا في ذلك الوقت بمهمة أخرى كانت تدفعنا إلى الإسراع في طريقنا،
3
فما إن أبصرته حتى بكيت، وتحرك قلبي بالعطف عليه، فتحدثت إليه وخاطبته بكلمات مجنحة،
4
قائلا: «كيف جئت تحت جنح الظلام الدامس، يا إلبينور؟ إن مجيئك على القدمين، قد سبقني وأنا قادم في سفينتي السوداء.»
هكذا قلت له، فأجابني بقوله: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، إن مصيرا شريرا، من أحد الآلهة، كان فيه هلاكي، إنها الخمر الغزيرة؛ فعندما استلقيت لأنام في بيت كيركي لم أفكر في اتخاذ السلم الطويل لكي أهبط من جديد، ولكني قفزت من السطح، فدقت رقبتي وانفصلت عن سلسلة ظهري، فهبطت روحي إلى بيت هاديس. والآن أتوسل إليك بحق أولئك الذين خلفناهم وراءنا، الذين ليسوا معنا هنا، وبزوجتك وبأبيك الذي رباك منذ عهد الطفولة، وبابنك تيليماخوس الذي تركته صبيا وحيدا في ساحاتك؛ لأنني أعلم أنك عندما تنصرف من هنا، من بيت هاديس، ستمر بسفينتك المتينة البناء، على الجزيرة الإيايية، أطلب منك، أيها الأمير، أن تتذكرني هناك. لا تتركني وراءك دون أن تبكيني، ودون أن تدفنني، وأنت راحل من هناك، ولا تولني ظهرك، خائفا أن أجلب عليك غضب الآلهة، بل أحرقني في حلتي الحربية وهي كل ما أملك، وكوم لي رابية فوق ساحل البحر السنجابي، تخليدا لذكرى رجل شقي، كي يعلم من سوف يولدون بعد، شيئا عني. حقق لي هذا الرجاء، وأقم فوق الرابية، مجذافي الذي كنت أجذف به في حياتي، عندما كنت بين زملائي.»
قال هذا، فرددت عليه بقولي: «سوف أفعل لك كل هذا، أيها الرجل البائس.»
هكذا جلسنا، كلانا، وتحدث كل منا إلى الآخر أحاديث الحزن، أنا على جانب، وسيفي قائم بيدي فوق الدم، بينما هو على الجانب الآخر، وكان طيف رفيقي هذا يتكلم بإسهاب.
أوديسيوس يبكي على روح أمه
بعد ذلك أقبلت روح أمي الميتة، أنتيكليا
Anticleia ، ابنة أوتولوكوس
Autolycus
المقدام، الذي خلفته ورائي حيا عندما رحلت إلى إليوس المقدسة، فعندما رأيتها بكيت، وأحس قلبي بالشفقة نحوها، ولكني رغم ذلك لم أدعها تقترب من الدم، مع كل ما في قلبي من حزن بالغ، إلا بعد أن استجوبت تايريسياس.
أوديسيوس يلتقي بروح العراف
بعدئذ جاءت روح تايريسياس
5
الطيبي، وهو يحمل صولجانه الذهبي في يديه، فعرفني وخاطبني بقوله: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، ما خطبك الآن، أيها الرجل التعيس ؟ لماذا تركت ضوء الشمس وقدمت إلى هنا، لترى الموتى، ومنطقة لا مرح فيها؟ لا تقف هكذا، ابتعد عن الدم، وأدر سيفك الحاد إلى الوراء، حتى أشرب من الدم وأخبرك بالحقيقة.»
هكذا تكلم، فابتعدت وأغمدت سيفي المرصع بالفضة في غمده، وبعد أن عب من الدم القاني، تكلم العراف العديم اللوم، وخاطبني بقوله:
تايريسياس يدلي بعرافته لأوديسيوس
إنك تستفهم عن عودتك الحلوة كالعسل، يا أوديسيوس الرائع، ولكن أحد الآلهة سيجعل هذا الأمر شيئا ثقيلا على نفسك، فإنني أعتقد أنك ستفلت من حبائل مزلزل الأرض، الذي يزخر بالغضب منك؛ إذ يتقد غضبا من أنك أعميت ابنه العزيز، ولكن بالرغم من كل هذا، قد تصل إلى وطنك، ولو كان وصولك في محنة شريرة، إذا ما كبحت جماح نفسك، وجماح رفقائك، بمجرد أن تصل بسفينتك المكينة البناء إلى جزيرة ثريناكيا
Thrinacia ، هاربا من البحر البنفسجي، فتجد هناك أبقار وقطعان هيليوس العظيمة، ترعى الكلأ، هيليوس الذي يرى ويسمع كل شيء، فلو تركت هذه القطعان دون أن تمسها بأذى، واهتممت برحلتك إلى وطنك، فلا شك في أنك بالغ إيثاكا، ولو في محنة شريرة. أما إذا تعرضت لها بالأذى، فإني أتنبأ بالخراب لسفينتك ولرفقائك، وحتى إذا نجوت أنت نفسك، فإنك سوف تصل متأخرا إلى وطنك، وفي حالة مزرية، بعد أن تفقد سائر زملائك، وتبلغه في سفينة لرجل آخر، وسوف تقابل محنات في بيتك؛ فإن في بيتك رجالا متغطرسين، يلتهمون زادك، ويغازلون زوجتك شبيهة الآلهة، ويقدمون هدايا المغازلة، ولكنك مع ذلك، ستنتقم حقا، من أعمالهم التعسفية عند وصولك، وبعد أن تقتل المغازلين في ساحاتك، سواء بالحيلة، أو علانية بالسيف البتار، ستنطلق بمجذاف جميل، حتى تصل إلى قوم لا يعرفون شيئا عن البحر، ولا يأكلون أي طعام به ملح،
6
إنهم لا يعرفون شيئا عن السفن القرمزية الوجنات، ولا عن المجاذيف المصقولة، التي هي بمثابة الأجنحة للسفن، وسأخبرك بعلامة واضحة كل الوضوح، لن يفوتك إدراكها، فإذا التقى بك عابر سبيل آخر وسألك عما إذا كان لديك مذراة فوق كتفك القوية، فاغرس في الأرض مجذافك الجميل، وقدم الذبائح العظيمة للسيد بوسايدون - كبشا، وثورا وخنزيرا بريا يكون قد لقح إناث الخنازير - وارحل إلى وطنك حيث تقوم بتقديم الذبائح المئوية المقدسة للآلهة الخالدين الذين يحتلون السماء الفسيحة، لكل واحد بدوره ما يليق به. أما الموت فلن يأتيك أنت نفسك، إلا بعيدا عن البحر؛ إذ تلقى ميتة في غاية الرقة، تتغلب عليك إذ تقهرك الشيخوخة الناعمة،
7
وسوف يعيش قومك حولك في بحبوحة من العز، بهذا أخبرتك العرافة.
هكذا قال العراف، فأجبته قائلا: «أي تايريسياس، أعتقد أن الآلهة أنفسها قد نسجت خيط مصيري من كل هذا، ولكن خبرني بهذا الذي سأطلبه منك، وأعلن الحقيقة لي. إنني أرى هنا روح أمي الميتة، إنها تجلس في صمت بالقرب من الدم، ولا تتناول بالنظر إلى وجه ابنها أو التحدث إليه. خبرني، أيها الأمير، كيف يمكنها أن تلاحظ أنني ابنها.
ما إن قلت له هذا، حتى أجاب في الحال، بقوله: «ما أيسر الكلام الذي سأفضي إليك به، ولتضعه نصب عينيك. أي فرد من أولئك الذين ماتوا ورحلوا، سمحت له بالاقتراب من الدم، أخبرك بنبوءة وكل من منعته عاد من غير شك.»
أوديسيوس يتكلم مع روح أمه
ما إن أفضى الأمير تايريسياس، إلي بذلك الحديث، حتى عادت روحه إلى بيت هاديس، بعد أن أخبرني بتنبؤاته، بيد أنني بقيت هناك، ثابتا في مكاني، حتى أقبلت أمي، وشربت من الدم القاني، وفي الحال عرفتني، وبالنحيب كلمتني بعبارات حماسية، قائلة: «أي بني، كيف جئت إلى هناك تحت جنح الظلام الدامس، وأنت ما زلت حيا؟ إذ من الصعب على الأحياء أن يروا هذه الممالك، فبينهم وبينها أنهار عظيمة ومجاري مياه مفزعة، فهناك أولا أوقيانوس، الذي لا يستطيع أي فرد أن يعبره على قدميه بأية حال من الأحوال، بل إذا كان يملك سفينة مكينة البناء، أجئت الآن فقط إلى هنا من طروادة بعد تجوالات طويلة بسفينتك ورفقائك؟ أولم تصل إلى إيثاكا، ولم تر زوجتك في ساحاتك؟»
هكذا قالت، فأجبتها بقولي: «أماه، إنها الضرورة التي أنزلتني إلى بيت هاديس، بحثا عن تنبؤات روح تايريسياس الطيبي؛ لأنني لم أصل بعد إلى ساحل آخايا
Achaea ، ولم تطأ قدمي أرض وطني، بل بقيت هائما على وجهي، أكابد المحن، منذ أول يوم رحلت فيه مع أجاممنون العظيم إلى إليوس الشهيرة بجيادها، لأقاتل الطرواديين، هيا خبريني، واصدقيني القول، فيما سأسألك عنه. أي قدر من الموت المؤسف قد تغلب عليك؟ أكان مرضا طويل الأمد، أم هي القواسة أرتيميس،
8
قد أصابتك بسهامها الرقيقة، فقتلتك؟ كذلك أعلميني عن أبي، وعن ابني، اللذين خلفتهما ورائي. أما زالا في الشرف الذي كان لي، أم يحظى به الآن رجل آخر، وهل يعتقدون أنني لن أعود إليهم ثانية؟ كما أرجو أن تخبريني عن زوجتي التي اقترنت بها، عن هدفها وعن تفكيرها. ألا تزال باقية مع ابنها، وتحافظ على سلامة كل شيء؟ أم هل تزوجها رجل ما، يكون أفضل الآخيين؟»
قلت هذا، فأجابتني والدتي الموقرة، في الحال بقولها: «الحقيقة، إنها تمكث في ساحاتك بإيمان ثابت، وتقضي الليالي والأيام في حزن دائم، لا تنقطع عن البكاء. أما الشرف السامي الذي كان لك فلم يستحوذ عليه أحد بعد، بل يحتل تيليماخوس أراضيك دون منازع، ويولم على موائد مناسبة، كما يليق بالرجل الذي يتوخى العدالة، وكل الناس يدعونه إلى الموائد. أما أبوك فإنه يعيش في الأرض المفلوحة، لا يذهب إلى المدينة، وليس عنده للنوم، فراش ولا عباءات أو أغطية لامعة، بل يقضي الشتاء ينام في المنزل، حيث ينام العبيد، في الرماد بجانب النار، ويلبس على جسمه ثوبا حقيرا. حتى إذا ما أقبل الصيف والخريف الغني، امتدت أسرته المنخفضة، حول منحدر مزرعة كرومه، وقد تكونت من أوراق الشجر المتساقطة. هناك يرقد كئيبا، منطويا على أحزان قلبه البالغة، وهو يتلهف شوقا إلى عودتك، وقد حطت عليه الشيخوخة الثقيلة. هكذا هلكت أنا أيضا، ولقيت حتفي. ولم تهاجمني الربة القواسة الثاقبة النظر، ولم يصبني أي مرض، كما يحدث عادة، أن يسلب التعب الشديد الروح من الأطراف ؛ كلا، لم يصبني شيء من ذاك، بل هو الشوق إليك، وإلى مشوراتك، يا أوديسيوس العظيم، والحنين إلى رقة قلبك، هو الذي سلبني حياتي الحلوة كالشهد.»
أوديسيوس يفشل في احتضان أمه
هكذا قالت، فتحيرت في قلبي، وتاقت نفسي إلى أن تمسك بروح أمي الميتة، فوثبت نحوها ثلاث مرات، وأمرني قلبي بأن أمسكها، وثلاث مرات أفلتت من ذراعي أشبه بالشبح أو الحلم، فزاد الألم حدة في قلبي، وتحدثت إليها، مخاطبا إياها في عبارات حماسية، قائلا: «أماه، لم لا تمكثين من أجلي، أنا الذي أتلهف إلى الإمساك بك كي نستطيع، حتى في بيت هاديس، أن يلقي كل منا ذراعه حول الآخر، ونستسلم إلى البكاء العنيف. أهذا الذي أرسلته إلى بيرسيفوني الجليلة، محض طيف، كي تزيد في بكائي وأنيني؟»
ما إن قلت هذا، حتى أسرعت أمي المبجلة، تجيبني بقولها: «ويل لي، يا بني، يا أكثر البشر تعاسة وسوء حظ! إن بيرسيفوني
9
ابنة زوس، لا تخدعك بحال ما، ولكن هذه هي الطريقة المتبعة مع البشر عندما يموتون؛ فما عادت الأعصاب تربط اللحم بالعظام، ولكن قوة النار المتأججة القوية، تحطم هذه، بمجرد أن تترك الحياة العظام البيضاء، وتنطلق الروح، أشبه بحلم، فتحوم هنا وهناك، ولكن أسرع الآن إلى النور بكل ما أوتيت من سرعة، واحفظ كل هذا في عقلك، كي تستطيع فيما بعد، أن تخبر به زوجتك.»
أوديسيوس يلتقي بأرواح أخرى
هكذا تحدث كل منا إلى الآخر، وجاءت النسوة؛ إذ أرسلتهن بيرسيفوني المهوبة، جميع من كن زوجات وبنات للرؤساء. احتشد هؤلاء جميعا، زرافات حول الدم القاني، وأخذت أفكر كيف يمكنني أن أسأل كل واحدة منهن، فوفقت إلى ما بدا لي خير طريقة، سللت سيفي الطويل من جوار فخذي القوي، ولم أسمح لهن بأن يشربن كلهن، من الدم القاني مرة واحدة، بل اقتربن منه، واحدة بعد أخرى، وكل واحدة منهن أخبرتني بنسبها، وهكذا أمكنني أن أستجوبهن جميعا.
روح تورو تتحدث إلى أوديسيوس
كانت تورو
Tyro ، النبيلة المحتد، هي أول من رأيت منهن، فقالت إنها كانت ابنة سالمونيوس
Salmoneus
الشريف ، وإنها كانت زوجة كريثيوس
Cretheus ، ابن أيولوس. وقد هام بها النهر، إنيبيوس
Enipeus
المقدس، الذي هو أجمل الأنهار طرا، التي تنساب مجاريها فوق الأرض، وكانت تتردد على مياه إنيبيوس الجميلة. غير أن مطوق الأرض ومزلزها، اتخذ شكله واضطجع معها عند مصبات النهر ذي الدوامات، وانتصبت اللجة الدكناء حولهما كالطود الشامخ، وانحنت فوقهما، تستر الرب والمرأة البشرية، فحل زنارها العذري وسكب النوم فوق جفنيها. وبعد أن أنجز ذلك الرب مهمة الحب، أمسك بيدها، وتحدث إليها، مخاطبا إياها بقوله: «فلتسعدي، أيتها المرأة، بحبنا هذا، وبمرور السنة في دورانها، ستنجبين أطفالا أمجادا؛ فما أحضان الرب بضعيفة ولا واهنة، وقومي برعاية هؤلاء وتربيتهم. أما الآن فانطلقي إلى منزلك، وحافظي على سلامك، وحذار أن تخبري أحدا بما حدث واعلمي أنني أنا بوسايدون، مزلزل الأرض.»
ما إن أتمت حديثها ذاك، حتى قفزت تحت البحر الصاخب. أما هي فقد حبلت وأنجبت بيلياس
، ونيليوس
Neleus ، اللذين صارا، كلاهما، خادمين عتيدين لزوس العظيم، وعاش بيلياس في إيولكوس
Iolcus
الفسيحة، وكان غنيا بقطعانه، أما الآخر فعاش في بولوس
الرملية. وأما أطفالها الآخرون، فقد ولدتهم تلك الملكة بين النساء، لكريثيوس، وهم أيسون
Aason ، وفيريس
، وأموثاون
Amythaon ، الذي كان شغوفا بالقتال من العربات.
10
لقاء أوديسيوس بأنتيوبي
بعد ذلك رأيت أنتيوبي
Antiope ، ابنة أسوبوس
Asopus ، التي كانت تزهو بنومها في أحضان
11
زوس، فأنجبت ولدين؛ هما أمفيون
Amphion ، وزيثوس
Zethus ، الذي كان أول من شيد مقعد طيبة، ذات الأبواب السبعة، وأقام حولها سورا؛ إذ لم يستطيعوا أن يعيشوا في طيبة الفسيحة بدون سور، مهما كانوا أقوياء.
ثم بألكميني وميجارا وأخريات
وبعدها رأيت ألكميني
Alcmene ، زوجة أمفيتروون
Amphitryon ، التي رقدت بين ساعدي زوس العظيم، وأنجبت هرقل
Heracles ، العتيد في القتال، قلب الأسد. وميجارا
Megara ، شاهدتها أيضا، وهي ابنة كريون
Creon ، السامي النفس، التي اتخذها زوجة له، ابن أمفيتروون، الدائم العناد في العنف.
وأبصرت أم أوديبوديس
Oedipodes ، إبيكاستي
Epicaste
الفاتنة، التي قامت بعمل وحشي في جهالة من التفكير؛ إذ قد تزوجت ابنها، بعد أن قتل أباه، فتزوجها، ولكن الآلهة كشفت هذه الأمور للبشر في الحال، ولكنه مع ذلك ظل سيدا على الكادميين
Cadmeans
في طيبة الجميلة، يعاني المحن بسبب خطط الآلهة الضارة. أما هي، فقد هبطت إلى بيت هاديس، الحارس القوى. لقد علقت أنشوطة في قضيب عال، وقد استبد بها الحزن، وشنقت نفسها، وخلفت وراءها محنا لا حصر لها. كل ذلك تقوم به ربات الانتقام
Erinues
من أجل أم.
كذلك رأيت خلوريس
Chloris
الحسناء، التي تزوجها نيليوس من أجل جمالها، بعد أن قدم لها هدايا عرس لا عداد لها. وكانت صغرى بنات أمفيون
Amphion ، وابن إياسوس
Iasus ، الذي قبض على زمام الحكم في أورخومينوس بمينواي
Orchomenus of Minyae ، بيد من حديد. وكانت هي ملكة على يوبوس، وأنجبت لزوجها من الأطفال الأمجاد، نسطور
Nestor
وخروميوس
Chromius ، وبيريكلومينوس
المجيد، كما أنجبت زيادة على هؤلاء، النبيل بيرو
، الذي كان أعجوبة للناس. وكان جميع الساكنين حولها يسعون إلى الزواج منها، بيد أن نيليوس لم يكن ليزوجها لأي رجل، إلا إذا استطاع أن يسوق من فولاكي
أبقار إفيكليس
Iphicles
العتيد الملساء، ذات الجباه العريضة، وكان من العسير أن تساق. هذه الأبقار، تعهد العراف، دون سواء بأن يسوقها، بيد أن قضاء محزنا من لدن الآلهة، أوقعه في الشرك، في قيود مكينة، مع رعاة الحقول. ومع ذلك فلما توالت الأيام، وتعاقبت الشهور بمرور العام، وجاءت الفصول، أطلق سراحه إفيكليس العتيد، بعد أن تنبأ له بكل شيء، وبذلك تحققت إرادة زوس.
ورأيت ليدي
Lede
زوجة تونداريوس
Tyndareus ، التي أنجبت له ولدين، جريئي القلب، هما كاستور
Castor
مروض الجياد، وبولوديوكيس
الملاكم. وإن الأرض مانحة الحياة، لتغطي هذين كليهما، بالرغم من كونهما على قيد الحياة، وحتى في العالم السفلي؛ فإنهما يحظيان بتبجيل زوس؛ ففي يوم يعيشان بالتناوب، وفي يوم آخر ماتا، فنالا مجدا أشبه بمجد الآلهة.
وبعدها شاهدت إفيميديا
Iphimedeia ، زوجة ألويوس
Aloeus ، التي اعترفت باضطجاعها مع بوسايدون، فأنجبت ولدين، ولكنهما كانا قصيري الأجل، هما أوتوس
Otus ، الشبيه بالإله، وإفيالتيس
Epbiates
الذائع الصيت، وهما الرجلان اللذان قامت الأرض بتربيتهما، هذه التي تمنح الغلال، فجعلتهما يفوقان الجميع طولا، وجمالا، بعد أوريون
Orion
الشهير؛ لأنهما، وهما في التاسعة من عمرهما، قد بلغا تسع أذرع عرضا وتسع قامات ارتفاعا، وهددا بإشعال نار الحرب الطاحنة ضد الخالدين في أوليمبوس. وقد كانا متلهفين إلى تكويم أوسا
Ossa
فوق أوليمبوس، وكذلك بيليون
، بغاباتها المائجة، فوق أوسا، حتى يستطيعا أن يرقيا أسباب السماء، وكانا سيفعلان هذا، لو أنهما بلغا مبالغ الرجال، ولكن ابن زوس، الذي أنجبته ليتو
Leto
الجميلة الشعور، قتلتهما، قبل أن ينبت الزغب تحت جبهتيهما ويغطي ذقنيهما بلحية كاملة النمو.
ورأيت فايدرا
وبروكرس
12
وأريادني
Ariadne
الفاتنة، ابنة مينوس
Minos ، ذي العقل الشرير، تلك التي تحرق ثيسيوس
Theseus ، شوقا إلى أن يأخذها ذات مرة من كريت إلى تل أثينا المقدس، بيد أنه لم يتمتع بها؛ إذ قبل أن يتم ذلك قتلتها أرتيميس في ديا
Dia
المحاطة بالبحر، بسبب شهادة ديونيسيوس.
13
وشاهدت مايرا
Maera
وكلوميني
Clymene ،
14
وإريفولي
Eriphyle
الممقوتة، التي قبلت الذهب النفيس ثمنا لحياة زوجها. وإنه ليتعذر علي أن أسرد أو أسمي جميع زوجات وبنات الأبطال اللواتي رأيتهن؛ فقبل أن أنتهي من ذلك سيدركنا الليل الخالد. لقد حان الآن موعد النوم، سواء ذهبت إلى السفينة السريعة والبحارة، أو بقيت هنا. إن أمر إرسالي سيبقى مع الآلهة، ومعكم.»
أريتي تتمشدق بأوديسيوس
هذا ما قاله، فلزموا الصمت جميعا، وانعقدت ألسنتهم في الساحات الظليلة، ولكن أريتي
Arete ، البيضاء الساعدين، تحدثت أولا في وسطهم، فقالت: «أيها الفياكيون، كيف يبدو هذا الرجل أمامكم من حيث الجمال والقوام، ومن حيث روحه الداخلية المتزنة؟ وزيادة على ذلك، فهو ضيفي، رغم أن كل واحد منكم له نصيب في هذا الشرف؛ ومن ثم لا تتعجلوا بإرساله في طريقه، ولا تجعلوا هداياكم لرجل في مثل هذه الحاجة؛ إذ كثيرة هي الكنوز المخزونة في ساحاتكم بفضل الآلهة.»
بعد ذلك قام وسطهم السيد العجوز إخينيوس
Echeneus ، أكبر الفياكيين سنا، وتحدث وسطهم بقوله: «أيها الأصدقاء، حقيقة إن كلمات ملكتنا الحكيمة لجديرة بالاهتمام والتفكير، فهل لكم أن تولوها عنايتكم؟ ومع ذلك فإن القول والتنفيذ ليتوقفان هنا على ألكينوس.»
ألكينوس وأوديسيوس يتطارحان أحاديث الود
فأجاب ألكينوس
15
قائلا: «حقا، إن كلمتها هذه، ستنفذ، طالما أنا حي وسيد على الفياكيين، محبي المجاذيف، ولكن دعوا ضيفنا، رغم عظيم تلهفه إلى العودة، يتحمل البقاء معنا إلى غد، حتى أتحقق من أن جميع هدايانا كاملة. إن أمر إرساله إلى وطنه سيتولاه سائر الرجال، ولا سيما أنا نفسي، أكثر من الجميع؛ إذ لي السيادة في البلاد.»
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «سيدي ألكينوس، يا من يعلو صيتك فوق سائر البشر، إنني طوع أمرك، حتى ولو أمرتني بالبقاء هنا لمدة عام وأجلت إرسالي إلى بلدي، وأعطيتني هدايا مجيدة، وأكون راضيا به، وأعتبر وصولي إلى وطني العزيز بيد أكثر امتلاء، أفضل بكثير، لكي أحظى باحترام أكثر، وحب بالغ من جميع الذين يرونني عندما أعود إلى إيثاكا.»
فعاد ألكينوس يجيب بقوله: «أي أوديسيوس، إننا ونحن ننظر إليك، لا نقدر، بأية حال، أنك غشاش أو مخادع، كالكثيرين الذين ترعاهم الأرض المظلمة، وينتشرون هنا وهناك، أولئك الذين يختلقون الأكاذيب، مما لا يمكن لأحد أن يراه؛ فإن لك عذب الألفاظ، وبداخلك قلب حكيم، وقد رويت قصتك بمهارة، كما ينشد المغني أناشيده، حتى المحن المؤلمة التي أصابت الأرجوسيين، وأصابتك أنت نفسك. والآن هيا أخبرني بالحقيقة، هل رأيت أيا من رفاقك أشباه الآلهة، الذين رحلوا معك إلى إليوس، ولقوا حتفهم هناك؟ ما زال الليل أمامنا طويلا، وطويلا جدا، ولم يحن موعد النوم في الساحة بعد. استمر، بربك، في سرد قصة تلك الأعمال العجيبة. الحق أن في استطاعتي أن أبقى حتى يلوح الفجر المتألق، فعسى أن تقص علينا في الساحة، ما لاقيته من المحن.»
فأجاب أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «سيدي ألكينوس، يا من طار صيتك أكثر من سائر البشر، هناك وقت للكلام الكثير، كما أن هناك وقتا للنوم كذلك. أما إذا كنت لا تزال تواقا لسماع قصتي، فلن أحرمك من أن أروي لك أشياء أخرى، أشد إيلاما للنفس من تلك، محن زملائي، الذين ماتوا فيما بعد، والذين نجوا من صيحة الطرواديين في الحرب المفزعة، وإنما هلكوا عند عودتهم بإرادة امرأة شريرة.
أوديسيوس يلتقي بروح أجاممنون
عندما نثرت بيرسيفوني المقدسة، أرواح النساء، هنا وهناك، أقبلت روح أجاممنون بن أتريوس، كئيبة، ومن حوله احتشدت أرواح الذين قتلوا معه في بيت أيجيسثوس
Aegisthus ،
16
ولقوا حتفهم. لقد عرفني لتوه، بعد أن شرب الدم القاني، وبكى بصوت مرتفع، ساكبا الدموع الغزار فمد يده نحوي يريد الوصول إلي، بيد أنه لم تكن لديه القوة أو الشدة التي كانت قديما بأطرافه الرخصة.
ما إن رأيته حتى غلبتني العبرات، وتحرك قلبي بالشفقة عليه، فخاطبته بكلمات مجنحة،
17
وقلت: «هيا ابن أتريوس المجيد، أي ملك البشر، يا أجاممنون، أي مصير للموت المحزن حاق بك؟ أضربك بوسايدون فوق ظهر سفنك، بعد أن أثار حولك عاصفة هوجاء من الرياح العاتية؟ أم هل آذاك الأعداء فوق الأرض، بينما كنت تذبح ماشيتهم وقطعان أغنامهم الرائعة، أم كنت تقاتل طمعا في الفوز بمدينتهم وبنسائهم؟»
قلت هذا، فأجابني في الحال بقوله: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، يا أوديسيوس الكثير الحيل، إن بوسايدون لم يضربني فوق ظهر سفينتي، بعد أن أثار زوبعة عنيفة من الرياح الصرصر، كما أن يد أعدائي لم تمتد نحوي بالأذى فوق اليابسة، ولكن أيجيسثوس هو الذي دبر لي الموت والقدر، وقتلني بمساعدة زوجتي اللعينة، وبعد أن دعاني إلى الحضور في بيته، وأقام لي وليمة أشبه بمن يقتل ثورا في الحظيرة، هكذا كانت ميتتي في غاية الفظاعة، ومن حولي قتل بقية زملائي، بغير انقطاع، كما تقتل الخنازير البيض الأنياب، التي تذبح في بيت رجل ثري عظيم القوة، في حفل زواج، أو في وليمة عامة، أو حفل سكر فخم. لقد حضرت قبل ذلك مقتل رجال عديدين، في معارك فردية، أو في صخب الحرب، ولكنك لو رأيت ذلك المنظر، لشعرت بمنتهى الحزن في قلبك، كيف كنا نرقد في الساحة بين طاسات مزج الخمر والموائد الحافلة بالأطعمة، حتى سبحت الأرض كلها في الدماء. وكانت أكثر الصيحات إيلاما للنفس، هي صيحة كاساندرا
Cassandra
ابنة بريام
، التي قتلتها كلوتمنيسترا
Clytemnestra
الغادرة، إلى جواري،
18
وحاولت أن أرفع يدي وأضرب القاتلة رغم أنني كنت في عداد الأموات، مطعونا بالسيف، ولكن عديمة الحياء تلك أشاحت بظهرها نحوي، وبالرغم من أنني كنت في طريقي إلى بيت هاديس، فإنها لم تبد أي عطف نحوي بأن تسبل جفني بأناملها، أو بأن تغلق فمي. لا شك إطلاقا في أنه ما من شيء أكثر فظاعة، وأشد تجردا من الحياء، من تلك المرأة التي تفكر في قلبها بمثل هاته الأعمال، هذا إذا كانت هي أيضا قد حاكت أمرا مفزعا، بأن دبرت الموت لبعلها الذي تزوجته. كنت أحسب حقا، أنني سأعود إلى بيتي فيرحب بي أولادي وعبيدي، ولكنها، تلك التي طبع قلبها على النذالة التامة، قد لطخت نفسها بالعار، كما وصمت بالعار سيدات المستقبل، ومن تقيم العدالة.»
هكذا تحدث إلي فأجبته بقولي: «تبا لها! إن زوس الذي يحمل صوته بعيدا، قد حاك كراهية عجيبة ضد شعب أتريوس، منذ البدء، بسبب خطط النساء؛ فقد هلك الكثيرون من أجل هيلينا، ودبرت كلوتايمنيسترا مكيدة ضدك وأنت بعيد عنها.»
ما إن قلت هذا، حتى أجابني في الحال قائلا: «وعلى ذلك فإني أنصحك بألا تكون رقيقا مع زوجتك، لا تبح لها بكل ما يجول بخاطرك، بل قل لها شيئا ما، واكتم عنها شيئا آخر. ومع كل فلن يأتيك الموت يا أوديسيوس من فعل زوجتك؛ لأنها بالغة الحكمة، ذات قلب مدرك، بينيلوبي العاقلة، ابنة إيكاريوس
Icarius . لقد تركناها بحق عروسا حديثة الزواج، عندما ذهبنا إلى الحرب، وكان على صدرها صبي، طفل، أعتقد أنه الآن قد بلغ مبالغ الرجال، وسعيد بأنه سيرى أباه عندما يجيء، وعندئذ يقوم بالتحية اللائقة بأبيه. أما زوجتي أنا فقد حرمت عيوني رؤية ابني، وقبل ذلك قتلتني أنا، زوجها. كذلك سأخبرك بأمر آخر، عسى أن تحفظه في قلبك. عليك أن تذهب بسفينتك سرا إلى ساحل وطنك العزيز، وليس علنا؛ لأنه لم تعد هناك ثقة بعد الآن في النساء، ولكن خبرني عن هذا بالحقيقة واصدقني القول، ألم تسمع مصادفة عن ابني الذي ربما يكون لا يزال على قيد الحياة في أورخومينوس، أو في بولوس الرملية، أو حتى مع مينيلاوس في إسبرطة الفسيحة؟ لأن أوريستيس
Orsetes
العظيم لم يهلك بعد فوق الأرض.»
هكذا تكلم، فأجبته بقولي: «يا ابن أتريوس، لم تسألني عن هذا؟ لست أعرف ، إطلاقا، ما إذا كان حيا أو ميتا. وإنه لقبيح بي أن أتحدث إليك بعبارات لا فائدة منها؛ إذ تكون باطلة كالريح.»
أخيل يتحدث إلى أوديسيوس
هكذا وقفنا كلانا، وتبادلنا الأحاديث المحزنة، مكتئبين نذرف الدموع السواجم، وعندئذ أقبلت روح أخيل
Achilles
ابن بيليوس، وأرواح باتروكلوس
، وأنتيلوخوس
Antilochus
المنقطع النظير، وأياس
Aias ، الذي كان يفوق سائر الدانيين جمالا وشكلا، بعد ابن بيليوس، الذي لا يدانيه أحد. كذلك تعرفت على روح أياكوس
Aeacus
السريع القدمين، وتحدث إلي، باكيا، بعبارات مجنحة، فقال: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، أيا أوديسيوس، الكثير الحيل، أيها المتهور، أي عمل أعظم من هذا سوف تدبره في قلبك؟ كيف بلغت بك الجرأة أن تهبط إلى هاديس حيث يسكن الموتى، غير عابئ بأشباح الناس الرثة؟»
19
هكذا تكلم فأجبت قائلا: «أي أخيل، ابن بيليوس، يا من تفوق في عتوك سائر الآخيين، لقد جئت بسبب الحاجة إلى تايريسياس، عسى أن يخبرني عن خطة ما أستطيع بها الوصول إلى إيثاكا الوعرة؛ لأنني لم أقترب بعد من أرض أخايا، ولم تطأ قدمي، حتى الآن، أرض وطني، بل ما أزال أقاسي الأهوال على الدوام، وإنه لم يكن هناك في سابق الأيام من هو أكثر بركة منك، يا أخيل، ولن يأتي فيما بعد أبدا؛ فعندما كنت حيا فيما مضى، بجلناك، نحن معشر الأرجوسيين، كالآلهة تماما، والآن وأنت هنا، تحكم بشدة بين الموتى؛ وعلى ذلك لا تحزن بحال ما، على موتك، يا أخيل.»
قلت هذا، فأجابني في الحال بقوله: «كلا، يا أوديسيوس المجيد، لا تحاول أن تحبذ لي الموت، كنت أفضل أن أعيش فوق الأرض، وأن أشتغل أجيرا في خدمة رجل آخر، مهما كان حقيرا، ضئيل الرزق، على أن أكون الآن سيدا على جميع الموتى الذين هلكوا، ولكن خبرني عن ابني ذلك الشاب المجيد، هل سار إلى الحرب ليكون قائدا، أم لم ينخرط في الجيش؟ كذلك خبرني عن بيليوس النبيل، إذا كنت قد سمعت شيئا، أما زال ذا مجد وسط قوم المورميدون
Myrmidons ، أم انقطع تبجيل الناس له في سائر أنحاء هيلاس
Hellas
وفثيا
، بسبب الشيخوخة التي شلت يديه وقدميه؟ لأنني لست هناك لأقدم له المعونة، تحت أشعة الشمس، بمثل القوة التي كانت لي ذات يوم في طروادة الفسيحة، عندما قتلت خير ما في الجيش دفاعا عن الأرجوسيين؛ فلو كان بإمكاني، أن أذهب فقط إلى بيت أبي ولو لمدة ساعة، وأنا بمثل تلك القوة، لأعطيت الكثيرين، ممن يؤذونه ويبعدونه عن مجده درسا يجعلهم يرهبون قوتي، ويدي اللتين لا تقهران.»
هكذا قال، فأجبته بقولي: «الحقيقة، أنني لم أسمع شيئا عن بيليوس النبيل، أما فيما يتعلق بابنك العزيز، نيوبتوليموس
Neoptolemus
فسأخبرك عنه بكل صدق كما طلبت مني. إنني أنا نفسي الذي أحضرته من سكورس
Scyros ، في سفينتي الجميلة الواسعة، ليلحق بجيش الآخيين المدرعين جيدا. والحقيقة، أنه كلما طاب لنا أن نتشاور في أمر مدينة طروادة، كان هو دائما أول من يبدي برأيه، ولم يخطئ في الرأي أو الحديث. إنه نسطور الشبيه بالإله، ولم يكن هناك من يبذه غيري أنا وحدي. وعندما كنا نتقاتل بالبرونز الحاد فوق السهل الطروادي، لم يتخلف هو قط عن حشود أو ضغط الرجال، بل كان يسرع دائما إلى المقدمة، وفي قوته لم يكن ليستسلم لأحد، وقد جندل كثيرا من الرجال في قتال مرير، ولست بحال ما قادرا على ذكر أو تسمية جميع أولئك الذين صرعهم في دفاعه عن الأرجوسيين، وكم كان شجاعا ذلك المحارب، الأمير يوروبولوس
Eurypylus
بن تيليفوس
Telephus ، الذي قتله بسيفه! نعم كما جندل كثيرا من رفاقه الكريتيين، من حوله بسبب هدايا اشتهتها
20
امرأة. لقد كان بحق أجمل رجل وقعت عليه عيناي، بعد ميمنون
Memnon
21
العظيم. وفي مرة أخرى عندما كنا نحن، خيرة الأرجوسيين، على وشك الدخول في الحصان الذي صنعه إيبيوس
Epeus ، وعهدوا إلي برئاسة كل شيء، أن أفتح وأغلق باب مكمننا المتين الصنع، وكان القادة والمستشارون الآخرون، يمسحون الدموع وقتئذ من عيونهم، وكان كل رجل يرتجف فرائص وأعضاء، ولكن لم تبصر عيناي وجهه يمتقع إطلاقا، ولا أن رأته يمسح دمعة من فوق خديه، بل كان متلهفا في حماس، وتوسل إلي أن أسمح له بالذهاب مع الحصان، وظل ممسكا بقائم سيفه ورمحه المثقل بالبرونز؛ إذ كان تواقا إلى إنزال الضر بالطرواديين. وبعد أن اقتحمنا مدينة بريام الشامخة، ركب ظهر سفينته ومعه نصيبه من الغنائم وجائزته العظيمة، سالما تماما، لم يصبه رمح حاد، ولم يجرح في قتال متشابك، كما يحدث كثيرا في الحرب؛ لأن أريس يثور محدثا فوضى.»
ما إن قلت هذا، حتى رحلت روح ابن أياكوس عبر حقل البروق
Asphodel ، مغتبطا بأن سمع مني أن ابنه كان مبرزا.
الأرواح تسأل أوديسيوس عن أحبائها
وأرواح كثيرة أخرى، لمن ماتوا ومضوا، وقفت مكتئبة، تسألني كل منها عن أعزائها، ومن بينهم جميعا، وقفت روح أياس بن تيلامون
Telamon ،
22
بعيدا، وهي لا تزال حانقة بسبب النصر الذي أحرزته عندما تفوقت عليه في المسابقة بالسفن على أسلحة أخيل، التي قدمتها أمه المبجلة، كجائزة للفائز، وكان الحكام في ذلك أبناء الطرواديين، وبالاس أثينا، ليتني لم أنزل في المباراة بمثل تلك الجائزة؛ فقد أطبقت الأرض على مثل ذلك الرأس النبيل، بسبب تلك الأسلحة، أطبقت على رأس أياس، الذي بذ سائر غيره من الدانيين في الجمال وفي ضروب القتال، بعد ابن بيليوس المنقطع النظير، فتحدثت إليه بعبارات ملطفة، قائلا: «أي أياس بن تيلامون، المنقطع النظير. أما حان لك أن تنسى غضبك مني بسبب تلك الأسلحة اللعينة، حتى بعد وفاتك؟ الحقيقة، إن الآلهة قدمتها لنجلب الأذى على الأرجوسيين. لقد فقدوا بفقدك، مثل هذا الحصن من القوة، وإنا نحن الآخيين، لا نكف قط عن الحزن من أجلك، بعد موتك، كما كنا نحزن تماما على حياة أخيل بن بيليوس. ومع ذلك فليس الملوم في ذلك غير زوس، الذي حمل الكراهية الفظيعة ضد جيش الرماحين الدانيين، وعاجلك بمصيرك. وهلم إلي هنا أيها الأمير، حتى تستطيع الإصغاء إلى حديثي، وتخضع غضبك وروحك الشامخة.»
هكذا قلت، بيد أنه لم يجبني ببنت شفة، بل انصرف في طريقه إلى إيريبوس لينضم إلى بقية الأرواح الأخرى، أرواح من ماتوا ومضوا. ويا ليته، رغم ذلك، قد تحدث إلي، مع كل غضبه، أو تحدثت أنا إليه! وكان قلبي الكائن في صدري تواقا لرؤية أرواح أولئك الآخرين الذين ماتوا.
أوديسيوس يرى أرواحا تتعذب
ورأيت هناك مينوس
Minos
المجيد، ابن زوس، ممسكا بالصولجان الذهبي في يده، يحكم بين الموتى وهو جالس في مقعده، بينما هم قيام حول الملك وقعود، في بيت هاديس المتسع الباب يطلبون منه الحكم.
ومن بعده شاهدت أوريون الهائل، يسوق الوحوش الكاسرة، عبر حقل البروق، تلك الوحوش التي قتلها، هو نفسه، فوق التلال الموحشة، وهو يمسك في يديه هراوة كلها من البرونز، غير قابلة للكسر.
كذلك أبصرت تيتيوس
Tityos
23
ابن جيا
Gaea ، المجيد، مستلقيا على الأرض، ممددا فوق تسع نتوءات صخرية، بينما يقبع نسران؛ واحد عن كل جانب، ينهشان كبده ويمدان منقاريهما في أحشائه، وهو لا يملك من نفسه دفعا لهما بيديه، وذلك بسبب استخدامه العنف مع ليتو، زوجة زوس المجيدة، بينما كانت ذاهبة صوب بوثو
خلال بانوبيوس
، ذات المروج الخلابة.
كما رأيت تانتالوس
Tantalus ،
24
يعاني أمر العذاب وأمضه، واقفا في مستنقع والمياه تبلغ الزبى. وكان بالرغم من ذلك يشكو، ولا يستطيع أن يتناول من الماء القريب من فمه ويشرب؛ فكلما انحنى ذلك الرجل العجوز، متلهفا إلى إطفاء ظمئته، انحسر الماء واختفى، وظهرت الأرض السوداء عند قدميه؛ إذ كان أحد الآلهة يجعل كل شيء جافا، كما كانت الأشجار الباسقة المونقة دانية القطوف فوق رأسه، أشجار الكمثرى والرمان والتفاح، بثمارها اليانعة اللامعة، وتينها الحلو، وزيتونها الغزير، ولكن ذلك الكهل المسن، كلما هم بالوصول إليها ليمسكها بيديه، هبت عليها الرياح ودفعتها إلى السحب الظليلة.
ورأيت سيسوفوس
Sisyphus ،
25
في عذاب مرير، يحاول أن يرفع صخرة مائلة بكلتا يديه، ملقيا بها فوق قمة تل، بيد أنه كلما أوشك أن يقذف بها فوق القمة، ردها الثقل إلى الوراء، ثم إلى أسفل من جديد، فتسقط تلك الصخرة العاتية متدحرجة فوق السهل، فيعاود المحاولة من جديد، ويقذف بها ثانية، والعرق يتصبب من أطرافه، والغبار يتصاعد من رأسه.
أوديسيوس يرى هرقل ويحادثه
ومن بعده أبصرت هرقل العتيد - شبحه - إذ كان هو نفسه وسط الآلهة الخالدين يحظى بالتمتع بالوليمة، وكانت زوجته هيبي
Hebe
26
الفاتنة العقبين، ابنة زوس العظيم وهيرى
Here
27
ذات النعال الذهبية. وكان يتصاعد من حوله ضجيج الموتى، أشبه بصخب الطيور التي تحلق مذعورة في كل مكان، وهو أشبه بالليل الداجي، مثبتا سهمه العاري فوق الوتر، وأخذ يتطلع حواليه بفظاعة، كما لو كان مزمعا التسديد. وما كان أعظم الحزام الذي تمنطق به حول وسطه، درقة من العسجد، نقشت عليها تصاوير عجيبة، دببة وخنازير برية ضارية، وأسود براقة العيون، ومشاجرات ومعارك، وقتل ونحر للرجال! ليت الذي جادت قريحته بتصميم رسوم ذلك الحزام، لم يصممه قط، كما نرجو ألا يصمم غيره مثله. أما هو فقد عرفني بدوره بمجرد أن أبصرتني عيناه، فتكلم إلي بعبارات حماسية
28
وهو يبكي فقال: «يا ابن لايرتيس، يا سليل زوس، أي أوديسيوس الكثير الحيل، آه لك! أيها الرجل الشقي، أكذلك أنت منحوس الطالع سيئ الحظ، تعاني آلاما كالتي كابدتها أنا تحت أشعة الشمس؟ إنني ابن زوس بن كرونوس، وقاسيت محنا يخطئها الحصر؛ إذ كنت عبدا لرجل يفوقني سوءا فرض علي أعمالا شاقة؛ فذات مرة أرسلني من هنا لأحضر كلب هاديس؛ لأنه لم يستطع أن يدبر لي عمرا آخر أشد وعورة من ذاك، فحملت الكلب، وقدته بعيدا عن بيت هاديس، وكان هيرميس هو قائدي وكذلك أثينا ذات العينين النجلاوين.»
ما إن قال هذا، حتى انبرى عائدا في طريقه إلى بيت هاديس. أما أنا فبقيت هناك ثابتا في مكاني، أملا في أن تجيء قوة أخرى من الأبطال المحاربين الذين ماتوا في غابر الأزمنة. كما أنني استطعت أن أرى آخرين من رجالات الأزمان الماضية، الذين كنت أتوق إلى مشاهدتهم، ثيسيوس
Theseus
وبايريثوس
، وهما ابنا الآلهة المجيدين، وقبل ذلك كانت ملايين من قبائل الموتى قد أقبلت متدفقة في صراخ عجيب، فألم بي الخوف الشاحب، خشية أن ترسل إلي بيرسيفوني الجليلة، من داخل بيت هاديس، رأس الجورجون
Gorgon ،
29
ذلك الوحش المرهوب.
أوديسيوس يبارح العالم السفلي
بعد ذلك انطلقت في الحال إلى السفينة، وأمرت رجالي بأن يعتلوا ظهرها، هم أنفسهم، ويسرعوا بحل الحبال المتينة ؛ ومن ثم صعدوا إلى ظهر السفينة في سرعة، واستووا فوق المقاعد، فحمل الفيضان الضخم السفينة إلى مجرى أوقيانوس، أول الأمر بواسطة تجذيفنا، ثم فيما بعد بواسطة ريح معتدلة.
الأنشودة الثانية عشرة
ثم ربطوني في السفينة، يدا وقدما عند أسفل السارية.
أوديسيوس يدفن جثة إلبينور
بعد أن خرجت سفينتنا من مجرى نهر أوقيانوس، ووصلت إلى أمواج البحر الشاسع، والجزيرة الأيابية، حيث يسكن الفجر الباكر ومروجه الراقصة، وإشراقات الشمس، فلما بلغناها أرسينا سفينتنا فوق الرمال، ونزلنا نحن أنفسنا إلى شاطئ البحر، حيث استغرقنا في النوم، وانتظرنا مطلع الفجر اللامع.
ما إن لاح الفجر، الوردي الأنامل، حتى أرسلت رفاقي إلى بيت كيركي، ليحضروا جثة إلبينور الميت، وفي الحال احتطبنا قطعا من الخشب، ودفناه في أقصى نقطة للرأس داخل البحر، وقد استولى علينا الحزن، وذرفنا دموعا غزارا. وبعد أن أحرقنا جثة الميت، وكذلك حلته الحربية، صنعنا رابية وأقمنا فوقها عمودا، وغرسنا مجذافه الجميل على قمة الرابية.
شغلنا بهذه المهام العديدة، ولم تكن كيركي غير عالمة بعودتنا من بيت هاديس، فأعدت نفسها في الحال، وجاءت إلينا، ومعها وصيفاتها يحملن كميات كافية من الخبز واللحم، وخمرا صهباء بلون اللهب، ووقفت الربة الفاتنة وسطنا، وتحدثت إلينا قائلة: «أيها الرجال المتهورون، الذين هبطتم أحياء إلى بيت هاديس لمقابلة الموت مرتين، بينما لا يموت غيركم من الرجال إلا مرة واحدة، هيا كلوا طعاما واشربوا خمرا هنا طوال هذا اليوم كله، حتى إذا ما أقبل الفجر، أبحرتم، بعد أن أحدد لكم الطرق، وأخبركم بكل شيء، حتى لا تعانوا ألما ولا محنا من جراء سوء التدبير المؤسف، سواء أكان في البحر أو على اليابسة.»
أوديسيوس يروي قصته لكيركي
هكذا تكلمت الربة، ووافقت قلوبنا المزهوة؛ ومن ثم ظللنا اليوم بطوله حتى غروب الشمس، جالسين نولم على لحم وفير وخمر حلوة. وما إن غربت الشمس وخيم الظلام، رقد الرجال ليستريحوا بجانب حبال السفينة المكينة، أما كيركي فقد أخذتني من يدي، وقادتني بعيدا عن رفاقي الأعزاء، وجعلتني أجلس، ورقدت هي نفسها بقربي، وطلبت مني أن أخبرها بالقصة كاملة، فرويت لها كل شيء في ترتيبه اللائق، بعد ذلك حدثتني كيركي الجليلة، قائلة:
المخاطر التي ستواجه أوديسيوس «هكذا انتهى كل شيء، والآن، أصغ إلى ما سأخبرك به، وسيجعلك إله تستوعبه في فكرك، ستذهب أولا إلى السيرينيس
Sirenes ،
1
اللائي يخدعن كل من يذهب إليهن من الرجال؛ فكل رجل أعماه الجهل، واقترب منهن وسمع صوت أولئك السيرينيس، فلن يعود قط، لتقف زوجته وأطفاله الصغار إلى جانبه والغبطة تملؤهم؛ لأن السيرينيس يخدعنه بأناشيدهن العذبة النغمات، وهن جالسات في المرج، يحيط بهن كوم كبير من عظام الرجال البالية، التي يرتجف الجلد من حولها. أما أنت فيجب أن تجد في التجذيف مارا بهن، وتسد آذان زملائك بالشمع الحلو، التي تكون قد أعددته أنت بنفسك، خشية أن يسمع أحد هؤلاء الرجال صوتهن. أما إذا رغبت أنت نفسك في أن تسمع أغنياتهن، فدع رفاقك يربطوك إلى سارية السفينة السريعة، يدا وقدما، ودعهم يربطوا قيود الأطراف في الشراع نفسه، حتى يمكنك أن تصغي بسرور إلى صوت السيرينيتين كلتيهما، ومر رجالك، بأنه إذا توسلت إليهم عندئذ أو أمرتهم بأن يحلوا قيودك، أن يزيدوا قيودك إحكاما. ومتى جذف رفقاؤك واجتازوهما، فلن أقول لك في صراحة، على أي جانب يقع طريقك بعد ذلك، بلى يجب عليك أن تفكر في عقلك أنت نفسك، وسأخبرك بالطريقين؛ فهناك على أحد الجانبين شقوق ناتئة، تهدر عليها أمواج عاتية لأمفيتريتي
Amphitrite
ذات العينين السوداوين، وهذه يطلق عليها الآلهة المباركون اسم البلانكتاي
.
2
من هناك لا يمكن لأي شيء، ولا حتى الكائنات المجنحة أن تمر، كلا ولا اليمام المرهوب الذي يحمل الأمبروسيا إلى الأب زوس، فإن الصخرة الملساء تخطف دائما واحدة، حتى من هذه، فيرسل الأب واحدة أخرى ليتمم العدد. من هناك، لم يسبق أن نجت سفينة لأي من البشر، تكون قد ذهبت إلى هناك، بل تدور ألواح السفن وجثث الرجال، بغير نظام، بواسطة أمواج البحر ولفحات النار المؤذية. لم تمر من هناك سوى سفينة واحدة كانت مسافرة، تلك هي الأرجو
Argo ،
3
أشهر السفن قاطبة، وكانت في رحلتها من أييتيس
Aeetes ، وحتى هذه كادت اللجة أن تقذفها بسرعة على الصخرة الهائلة ، لولا أن هيرا
4
أبعدتها لكي تمرق؛ إذ كان جاسون
Jason
5
عزيزا عليها.
أما الطريق الآخر فعلى جانبيه طودان شاهقان، يصل أحدهما بقمته المدببة إلى السماء الفسيحة، وتحيط به غمامة دكناء، هذه السحابة لا تنقشع قط، ولا يمكن للسماء الصافية أن تحيط أبدا بتلك الغمامة صيفا أو في موسم الحصاد. لم يسبق لأي إنسان أن يعبرها أو يطأ القمة برجله، حتى ولو كان له عشرون يدا وقدما؛ لأن الصخرة ملساء، كما لو كانت قد صقلت، وفي وسط الطود كهف مظلم ينتحي ناحية الغرب، في اتجاه إيريبوس. هناك سوف تبحر بسفينتك الواسعة، أيها المجيد أوديسيوس وليس في مكنة أي رجل بالغ القوة أن يسدد سهما من السفينة الواسعة، فيصيب ذلك الكهف المقبي. هناك تقطن سكولا
Scylla ، التي تصيح صياحا مفزعا حقا، إن صوتها ليشبه صوت الجرو الحديث المولد، أما هي نفسها، فوحش شرير، لا يسر منظرها العين، حتى ولو كان المتطلع إليها إلها؛ فهي ذات اثنتي عشرة قدما، مشوهة الشكل كلها، وستة أعناق، بالغة الطول، وعلى كل عنق رأس مهول، بداخله ثلاثة صفوف من الأسنان الغليظة المتراصة، السوداء. تظل سكولا هذه مختفية حتى منتصفها داخل الكهف الفسيح، وتطل برأسها فيما وراء الأخدود المروع، حيث تصطاد باحثة في شوق، حول الصخرة، عن الدلافنة وكلاب البحر أو أي حيوان آخر أكبر منها تستطيع أن تقبض عليه أمثال المخلوقات التي تربيها أمفيتريتي العميقة الحزن في أعداد غفيرة لا يمكن أن تحصى. ولا يستطيع أي بحار أن يتباهى بأنه مر من جانبها سالما بسفينته؛ لأنها تمد رءوسها وتخطف بكل رأس رجلا، تقبض عليه به من السفينة السوداء الحيزوم.
وأما إذا رغبت في أن تسمع أغنياتهم، فدع رفاقك يربطونك إلى سارية السفينة.
أما الطود الآخر، يا أوديسيوس، فسوف تتبين أنه أكثر انخفاضا من الأول - إنهما متقاربان، الواحد من الآخر، بدرجة أنك تستطيع أن ترمي عبرهما سهما - وبأعلاه شجرة تين باسقة، كثيفة الأوراق، بيد أن تحت هذه ، خاروبديس
6
المقدسة
Charybdis ، تمتص الماء الأسود. ثلاث مرات تقذفه من جوفها، وثلاث مرات تبتلعه في بطنها. وإنه ليسعدك الحظ إذا لم تكن هناك وهي تبتلعه؛ لأنه عندئذ لن يكون في مكنة أحد أن ينقذك من الدمار، كلا، ولا حتى مزلزل الأرض. اقترب قدر طاقتك من طود سكولا،
7
مسرعا أمامها بسفينتك؛ لأنه من الأفضل بكثير أن تبكي ستة من الرفاق بسفينتك، من أن تبكيهم جميعا في وقت واحد.»
نصائح كيركي لأوديسيوس
هكذا قالت الربة، فأجبتها بقولي: «تعالي، بربك، أيتها الربة، واصدقيني الخبر عن حقيقة كل شيء، وهل سأنجو، بأية حال من الأحوال، من قبضة خاروبديس، وأفلت من تلك الأخرى، عندما تنزل الأذى برفاقي.»
قلت هذا، فأجابتني الربة الحسناء بقولها: «عجبا لك! أيها المتهور، ها هو ذا قلبك ينتحي من جديد ناحية أعمال الحرب والنصب. ألا يمكنك أن تستسلم أبدا للآلهة الخالدين. إنها ليست البشر، بل أذى خالد، مرعبة، وفظيعة، وعنيفة، وليس بالإمكان مقاتلتها؛ فما هناك سبيل للدفاع. إن أشجع عمل يقوم به المرء هو الفرار منها؛ لأنك إذا توانيت في تسليح نفسك بجانب الطود، أخشى أنها قد تعيد الكرة، وتهاجمك بأكبر عدد من الرءوس، وتقبض على أكبر عدد مستطاع من الرجال، كما فعلت من قبل. جذف قبالتها بكل ما لديك من قوة عنف، وناد على كراتايس
Crataiis ، أم سكولا، التي أنجبتها لتكون مجلبة للشقاء على البشر؛ فعندئذ تمنعها أمها من معاودة الانطلاق نحوكم من جديد.
تحذير أوديسيوس من أغنام هيليوس
ولسوف تذهب إلى جزيرة ثريناكيا
Thrinacia ؛ حيث ترعى أبقار هيليوس وقطعانه العظيمة، في أعداد غفيرة، سبعة قطعان من الأبقار، وأكبر عدد ممكن من قطعان الخراف الجميلة، يضم كل قطيع خمسين رأسا. هذه لا تنجب أي صغار، ولا تموت أبدا، وتقوم الربات أنفسهن برعيها، أولئك الحوريات الحسناوات الغدائر، فايثوسا
ولامبيتي
Lampetie ، التي أنجبتها نيايرا
Neaera
الفاتنة، لهيليوس هوبيريون، فلما أنجبت هذين أمهما المبجلة وربتهما، أرسلتهما إلى جزيرة ثريناكيا ليعيشا هناك بعيدا، ويرعيا قطعان أبيهما وأبقاره الملساء، فإذا تركت هذين، ولم تمسهما بالأذى، موليا اهتمامك بطريقك إلى الوطن ، فإنك ولا شك بالغ إيثاكا، رغم أنك تصلها في محنة شريرة. أما إذا امتدت أيديكم إليهما بالأذى، فإني أتنبأ بالدمار لسفينتك ولرفاقك، وحتى إذا ما نجوت أنت نفسك، فإنك سوف تصل إلى الوطن فيما بعد، في حالة مزرية، بعد أن تفقد جميع زملائك.»
أوديسيوس يبحر عند الفجر
هكذا قالت الربة، وفي الحال أقبل الفجر ذو العرش العسجدي، فانصرفت الربة الحسناء من الجزيرة. أما أنا فذهبت إلى السفينة وأيقظت رفاقي أنفسهم كي يركبوا السفينة ويفكوا الحبال المتينة. وهكذا صعدوا إلى ظهر السفينة فورا، واستووا فوق المقاعد، وبعد أن انتظموا في أماكنهم، شرعوا يضربون البحر السنجابي بمجاذيفهم. ولمعاونتنا في أن تمخر سفينتنا الدكناء الحيزوم عباب اليم، أرسلت ريح معتدلة ملأت الشراع، فكانت رفيقا كريما، بواسطة كيركي الفاتنة الجدائل، تلك الربة المرهوبة التي تنطق بكلام البشر. وبعد أن ثبتنا بسرعة جميع حبال السفينة في شتى أنحائها، جلسنا، وقد أخذت الريح ورجال المرساة يقودون السفينة.
أوديسيوس يصارح رجاله بالمخاطر المقبلة
بعدئذ تحدثت إلى رفقائي، وأنا حزين القلب، فقلت: «أيها الرفاق، بما أنه لا يجوز أن يعرف أحدنا أو اثنان منا فقط النبوءات التي أخبرتني بها كيركي، الربة الجميلة، فإنني سأفضي إليكم بها، حتى إذا ما وعيتموها، كان لنا إما أن نموت، أو بتحاشينا الموت والقدر، ننجو؛ فأولا أمرتني أن أتجنب صوت السيرينيس العجيبات، ومرحهن الزاهر. وقد أمرتني أنا وحدي أن أصغي إلى صوتهن، على شرط أن تقيدوني بقيود ثقيلة، حتى أظل مثبتا حيث أنا، إلى أسفل السارية، واربطوا أطراف الحبال بإحكام في الصاري نفسه، ولو توسلت إليكم وطلبت منكم أن تفكوا قيودي، فما عليكم إلا أن تربطوني عندئذ بإحكام، بمزيد من القيود أيضا.»
أوديسيوس يصل إلى جزيرة السيرينيس
هكذا أعدت كل تلك الأمور على مسامع زملائي وأخبرتهم بها. وفي الوقت عينه، كانت السفينة المكينة البناء، قد وصلت بسرعة إلى جزيرة السيرينيتين الاثنتين؛ إذ ساقتها إلى الأمام في طريقها ريح معتدلة رقيقة. بعد ذلك كفت الريح في الحال وخيم سكون لا ريح فيه، وأنام أحد الآلهة الأمواج، فنهض رفاقي ونشروا الشراع، وبسطوه في السفينة الواسعة، ثم اتخذوا أماكنهم عند المجاذيف وأثاروا الزبد على وجه الماء بمجاذيفهم المصقولة، المصنوعة من خشب الشربين. أما أنا نفسي، فنهضت وأمسكت سيفي الحاد، وقطعت به قرصا من الشمع إلى قطع صغيرة، وعجنت القطع بيدي القويتين، فلان الشمع في الحال من الحرارة والضغط الشديد وأشعة السيد هيليوس هوبيريون. وبعد ذلك سددت آذان رفقائي بهذا الشمع، كل واحد بدوره، ثم ربطوني في السفينة يدا وقدما، منتصبا عند أسفل السارية، وربطوا أطراف الحبال في الصاري نفسه، ثم جلسوا، بعد ذلك، هم أنفسهم، يضربون البحر السنجابي بمجاذيفهم. ولما صرنا على مدى سماع صياح المرء إذ يصيح، نشق طريقنا بسرعة وسط الماء، لم يفت السيرينيتين رؤية السفينة السريعة وهي تقترب، فأخذتا تغنيان أغنيتهما الواضحة النغمات، قائلتين: «تعال إلى هنا، وأنت تبحر، يا أوديسيوس الذائع الصيت، يا مجد الآخيين العظيم. أوقف سفينتك كي تصغي إلى صوتنا، نحن الاثنتين؛ لأنه لم يسبق لأي رجل قط، أن جذف مارا بهذه الجزيرة في سفينته السوداء، إلا إذا سمع الصوت الرخيم من شفاهنا. إنه ليجد فيه لذة، ويمضي في طريقه وقد اكتسب حكمة؛ لأننا نعرف جميع المشاق التي حدثت في طروادة الفسيحة، والتي قاساها الأرجوسيون والطرواديون بإرادة الآلهة، كما أننا سنعرف كل الأمور التي سوف تحدث فوق الأرض المثمرة.»
هكذا أنشدتا، مرسلتين صوتيهما الرخيمين، وتاق قلبي إلى الإصغاء، فأمرت زملائي بأن يفكوا قيودي، مشيرا إليهم بحاجبي، ولكنهم انهمكوا في مجاذيفهم وراحوا يجذفون بجد. وفي الحال نهض بيريميدس
ويورولوخوس
Eurylochus ، وقيداني بمزيد من القيود، وأحكما ربطها. وبعد أن جد الرجال في التجذيف، واجتزنا جزيرة السيرينيس، ولم يكن في مقدورنا بعد ذلك أن نسمع صوتيهما أو غناءهما، قام زملائي الأوفياء، وفي الحال أزالوا الشمع الذي كنت قد سددت به آذانهم، وفكوا قيودي.
سكولا تهاجم أوديسيوس ورجاله
وبعد أن تركنا الجزيرة، أبصرت في الحال دخانا وموجة هائلة، وسمعت صخبا؛ عندئذ فزع الرجال، وسقطت المجاذيف من أيديهم، وهم يرتجفون ذعرا، وأحدثت رشاشا في الدوامة، وتوقفت السفينة وثبتت في مكانها، عندما كفوا وقتئذ عن استخدام المجاذيف الرقيقة بأيديهم، ولكني جست خلال سائر أنحاء السفينة وأخذت أشجع رجالي بعبارات رقيقة، متجها إلى كل رجل بدوره، فأقول له: «أيها الأصدقاء، إلي هنا، لسنا بحال ما جاهلين بالحزن؛ فإن هذا الشر الذي سنواجهه الآن ليس بأعظم من الشر الذي واجهناه عندما حبسنا الكوكلوب في كهفه الفسيح بقوة وحشية، ومع ذلك فقد نجونا ولا نزال ننجو بواسطة شجاعتي ومشورتي وسعة حيلتي، كذلك هذا الخطر المحدق بنا سيمر أيضا، وسوف نتذكره ذات يوم. والآن هيا بنا نفعل كما آمر، هلم بنا جميعا نصلي. بعد ذلك يجب أن تلزموا أماكنكم فوق المقاعد، وتضربوا أمواج البحر الهائلة بمجاذيفكم آملين أن يتحنن علينا زوس، فيمنحنا النجاة وتحاشي هذه الميتة، وأنت يا ماسك الدفة إليك هذا الأمر، افهمه جيدا وضعه في قلبك؛ حيث إنك قابض على زمام دفة السفينة الواسعة. ضع نصب عينيك أن تبتعد بالسفينة تماما عن هذا الدخان والرشاش الكثيف، والزم جانب الصخرة، لئلا تنجرف السفينة قبل أن تعرفها، وتسحب إلى الجانب الآخر، فترمي بنا إلى التهلكة.»
هكذا تكلمت، وسرعان ما أصغوا إلى كلماتي. أما عن سكولا، فلم أحدثهم شيئا، ذلك الخطر الداهم الذي لا علاج له، خشية أن يستبد الذعر برفاقي، فيكفوا عن التجذيف وينكمشوا في قاع السفينة. الحقيقة أنني عندئذ نسيت أمر كيركي الصارم؛ إذ أمرتني ألا أسلح نفسي بأية حال، ولكني بعد أن ارتديت حلتي الحربية المجيدة، وأمسكت في يدي رمحين طويلين ذهبت إلى جؤجؤ السفينة حيث اعتقدت أن بالإمكان رؤية سكولا أولا من الصخرة، تلك التي لا بد أن تجلب الخراب لزملائي. بيد أنني لم أتمكن بحال ما، من اكتشافها في أي مكان، وقد تعبت عيناي من إمعان النظر في كل مكان، وأنا أحملق صوب الصخرة المظلمة.
بعد ذلك شققنا طريقنا عبر المضيق الضيق، وقد انفطرت قلوبنا نحيبا؛ إذ كانت سكولا قابعة على أحد الجانبين، وعلى الآخر خاروبديس المقدسة، غاطسة بشكل فظيع تحت ماء البحر الملح. والحق أنها كلما قذفت بالماء أشبه بقدر تغلي فوق نار هائلة، فتعلو الفقاقيع في اضطراب شامل ، وفوق الرءوس كان يسقط الرشاش على قمتي الصخرتين. وكلما غطست تحت ماء البحر الملح، كان بالإمكان رؤيتها في الداخل كلها، وهي تحدث اضطرابا شاملا، والصخرة تدوي من حولها في فظاعة بالغة، بينما كانت الأرض تظهر تحتها سوداء بالرمال، فامتقعت وجوه رجالي خوفا وهلعا، فتطلعنا إليها وخفنا الهلاك، عند ذلك تماما، التقطت سكولا، من داخل السفينة ستة من رجالي، وكانوا أعظمهم قوة وبأسا. وعندما اتجهت عيناي إلى السفينة السريعة وإلى جماعة رجالي، أبصرت في الهواء أقدامهم وأيديهم، وقد رفعوا إلى فوق، وكانوا يصيحون بأعلى صوتهم، ينادونني باسمي لآخر مرة والعذاب في قلوبهم. وأشبه بصائد السمك الجالس فوق صخرة بارزة، عندما يلقي طعمه ليصيد الأسماء الصغيرة، فيلقي في البحر قرن ثور صلبا أجوف، يتدلى من قصبته الطويلة. وبعد ذلك عندما يمسك بسمكة يجذبها فتتلوى فوق الشاطئ، هكذا أيضا سحب الرجال وهم يتلوون عاليا صوب الصخرتين. بعد ذلك ابتلعتهم وهم يصرخون ويشيرون إلي بأيديهم في صراعهم المرير مع الموت. كانت عيناي تشاهدان ذلك الأمر، الذي تحملته بمشقة أعظم من أي شيء آخر كابدته أثناء رحيلي خلال طرق البحار.
وصول أوديسيوس إلى جزيرة الأغنام المحرمة
والآن وقد نجونا من الصخرتين، وكذا من خاروبديس المفزعة ومن سكولا، بلغنا في الحال جزيرة الرب الجميلة، حيث ترعى الأبقار الرائعة، ذات الجباه العريضة، وقطعان هيليوس هوبيريون العظيمة العديدة. وبينما نحن لا نزال في البحر، في سفينتي السوداء سمعت خوار الماشية التي كانت داخل الحظائر، وثغاء الأغنام، فاستعدت في مخيلتي أقوال العراف الأعمى، تايريسياس الطيبي، وكيركي الإيايية؛ إذ أمراني صراحة بأن أتحاشى جزيرة هيليوس، جالب الغبطة للبشر. الحقيقة أنني عندئذ نهضت وسط رجالي، وخاطبتهم والحزن يحز في قلبي، فقلت: «أيها الرفاق أصغوا إلى ما سأقوله لكم، رغم كل محنتكم الشريرة، حتى أخبركم بنبوءات تايريسياس وكيركي الإيايية، اللذين أمراني في صراحة أن أتجنب جزيرة هيليوس، مانح الغبطة للبشر، قائلين إن هناك يكمن أعظم الأضرار هولا لنا. كلا ، لا تذهبوا إليها، بل جذفوا وأبحروا بالسفينة السوداء، مجتازين هذه الجزيرة.»
هكذا قلت لهم، ولكن أرواحهم تذمرت في داخلهم، فنهض في الحال يورولوخوس، وخاطبني بعبارات بغيضة قائلا: «ما أشد قسوتك يا أوديسيوس! إنك لذو قوة تفوق سائر غيرك من الرجال، وأطرافك لا تعرف التعب قط. حقا، إنك مصنوع كلك من الحديد، حيث إنك لا تسمح لرفاقك الذين أنهكهم الإعياء والإغماء، بأن تطأ أقدامهم الشاطئ، حيث يمكننا مرة ثانية أن نعد عشاء شهيا فوق أرض هذه الجزيرة التي يحيط بها البحر، بل تأمرنا بأن نواصل السير دون انقطاع هذه الجزيرة التي يحيط بها البحر، بل تأمرنا بأن نواصل السير دون انقطاع وسط البحر، في بهيم الليل، وأن نبتعد عن الجزيرة إلى الخضم الداجي. إنه لمن الليل تولد الرياح الهوج العاتية محطمة السفن. كيف يستطيع المرء أن يهرب من الهلاك الشامل، لو حدث أن هبت الريح الجنوبية، فجأة، أو الريح الغربية الصاخبة، التي طالما حطمت السفن بالرغم من الآلهة الحاكمة؟ كلا، الحق أنه يجب عليك أن تدعنا هذه المرة نستسلم لليل البهيم، ونعد عشاءنا، جالسين بالقرب من السفينة السريعة، حتى إذا ما أصبح الصباح ركبنا ظهر السفينة، وأبحرنا وسط اليم الفسيح.»
هكذا قال يورولوخوس، وأيده بقية الرفاق؛ عندئذ أيقنت أن أحد الآلهة لا بد يحيك ضدنا شرا، فخاطبته بعبارات مجنحة، قائلا: «الحق أنك تضيق علي يا يورولوخوس، علي أنا الذي أقف بمفردي. هلموا الآن جميعا، وأقسموا لي قسما لا حنث فيه، أنه إذا تصادف ووجدنا قطيعا من الأبقار أو قطيعا كبيرا من الأغنام، ألا يذبح أحد بقرة أو خروفا في حماقة عقله الأعمى، بل يكتفي بتناول الطعام الذي أعطتنا إياه كيركي الخالدة.»
رفاق أوديسيوس يقسمون بعدم ذبح الأبقار
ما إن قلت هذا، حتى أقسموا بأنهم لن يمسوا شيئا تماما كما أمرتهم. وبعد أن أقسموا، وانتهوا من اليمين، أرسينا سفينتنا المتينة البناء في الميناء الفسيح بالقرب من عين ماء عذبة، وخرج رفاقنا من السفينة، وأعدوا عشاءهم بمهارة. وبعد أن تناولوا كفايتهم من الطعام والشراب انخرطوا في البكاء، عندما تذكروا رفقاءهم الذين خطفتهم سكولا من داخل السفينة الواسعة وابتلعتهم، فحط عليهم النوم اللذيذ وهم يبكون. بيد أنه عندما أقبلت حراسة الليل الثالثة، وحولت النجوم مجراها، أثار زوس جامع السحب ضدنا ريحا عاتية في عاصفة عجيبة، وأخفى البر والبحر معا وراء السحب، فهجم الليل من السماء. وما كاد يظهر الفجر الباكر ذو الأنامل الوردية، حتى سحبنا سفينتنا، وربطناها في كهف فسيح، حيث كانت الأرضيات الجميلة الراقصة، ومقاعد الحوريات؛ عندئذ ناديت رجالي وتحدثت وسطهم قائلا: «أصدقائي، إن في سفينتنا السريعة لحما وشرابا؛ ولذا يجب أن نمسك أيدينا عن تلك الأبقار لئلا يصيبنا الضر. إنها أبقار جسيمة وخراف عظيمة يملكها إله فظيع، هو هيليوس، الذي يرى كل شيء، ويسترق السمع إلى كل شيء.»
هكذا قلت لهم، فوافقت قلوبهم الشماء، وظلت الريح الجنوبية تهب بلا انقطاع، ولم تهب أية ريح أخرى سوى الريح الشرقية والريح الجنوبية.
وطالما كان لدى رجالي غلال وخمر صهباء، فإنهم ظلوا ممسكين أيديهم عن الأبقار؛ إذ كانوا راغبين في النجاة بحياتهم. بيد أنه عندما كان مدخرا في السفينة، واضطروا إلى أن يجوسوا هنا وهناك بحثا عن الفرائس، والأسماك والطيور، وكل ما يمكن أن يقع في أيديهم - وكان يصيدون بالصنانير المعقوفة؛ لأن الجوع كان قد برح ببطونهم - عندئذ سرت وحدي خلال الجزيرة كي أتوسل إلى الآلهة عسى أن يرشدني أحدهم إلى سبيل أسلكه. وبينما أنا سائر خلال الجزيرة، مبتعدا عن رفاقي غسلت يدي في مكان بمأوى من الرياح، وشرعت أصلي إلى جميع الآلهة الذين يحتلون أوليمبوس، بيد أنهم سكبوا النوم اللذيذ على جفني، وفي الوقت نفسه بدأ يورولوخوس يبث في رفاقي مشورته الشريرة، فقال لهم:
رفاق أوديسيوس يحنثون بوعدهم «أصغوا إلى حديثي أيها الزملاء، رغم كل محنتكم القاسية. يمقت البشر المساكين جميع صور الموت، غير أن الموت جوعا، حيث يلقى المرء حتفه جائعا، أكثرها ألما. هيا بنا نسوق بعيدا خير أبقار هيليوس ونقدم ذبيحة للخالدين الذين يحتلون السماء الفسيحة. وإذا قدر لنا أن نبلغ وطننا ، إيثاكا، شيدنا في الحال معبدا فاخرا لهيليوس هوبيريون، ووضعنا فيه كثيرا من التقدمات الهائلة. ولو حدث أن هيليوس غضب بأية صورة بسبب أبقاره ذات القرون المستقيمة، وصمم على أن يحطم سفينتنا، ووافق الآلهة الآخرون على ذلك، فإني أوثر أن أفقد حياتي دفعة واحدة بالوثب في لجة البحر، على أن أذوي ببطء في جزيرة موحشة.»
هكذا قال يورولوخوس، فوافقه على رأيه بقية الرفاق. وفي الحال ساقوا بعيدا خير أبقار هيليوس التي كانت قريبة وفي متناول أيديهم؛ لأن تلك الأبقار الجميلة الملساء، ذات الجباه العريضة، لم تكن ترعى بعيدا عن السفينة القاتمة الحيزوم، فوقفوا حول هذه وصلوا للآلهة، وقطفوا الأوراق الرقيقة من شجرة بلوط باسقة
8
القمة؛ إذ لم يكن لديهم شعير أبيض على ظهر السفينة المكينة المقاعد، وبعد أن انتهوا من الصلاة وقطع أعناق الأبقار وسلخها، قطعوا قطع الأفخاذ وغطوها بطبقتين من الدهن ووضعوا فوقها لحما نيئا. لم يكن لديهم خمر ليسكبوها فوق الذبيحة المتأججة، فعملوا السكائب بالماء، وشووا جميع الأمعاء على النار، فلما احترقت سائر الفخاذ وتذوقوا الأجزاء الداخلية، قطعوا الباقي وسفدوه. بعد ذلك تصادف هروب النوم اللذيذ من فوق جفني، فانطلقت في طريقي إلى السفينة السريعة وإلى شاطئ البحر. غير أنني ما إن اقتربت وأنا ذاهب، من السفينة المقبية، حتى كانت رائحة الدهن الساخن تحوم حولي، فتأوهت وصرخت عاليا للآلهة الخالدين قائلا: «أبتاه زوس، وأنتم أيها الآلهة الآخرون المباركون الخالدون، إنه لمن أجل تحطيمي حقا أنكم أنعستموني في نوم عديم الرحمة، بينما قام رفقائي الذين تخلفوا عني بعمل وحشي.»
إله الشمس يصب جام غضبه على أوديسيوس
عندئذ انطلقت لامبيتي ذات الأثواب الطويلة، في سرعة إلى هيليوس هوبيريون، تحمل إليه نبأ ذبحنا أبقاره، فتكلم من فوره وسط الخالدين، والحنق يملأ قلبه، فقال: «أبي زوس، وأنتم أيها الآلهة الآخرون المباركون الخالدون، لتنتقموا الآن من زملاء أوديسيوس بن لايرتيس، الذين اعتدوا بالذبح على أبقاري في صفاقة، تلك الأبقار التي أجد فيها لذتي باستمرار، حين أذهب إلى السماء ذات النجوم وعندما أعود من السماء ثانية إلى الأرض. وإذا لم يدفعوا لي كفارة لائقة عن تلك الأبقار، فإنني سوف أهبط إلى هاديس وأشرق هناك بين الموتى.»
زوس يهدد بنسف سفينة أوديسيوس
عندئذ أجابه زوس، جامع السحب، بقوله: «أي هيليوس، هل لك أن تشرق حقا وسط الخالدين، والبشر فوق الأرض، واهبة الغلال. أما أولئك الرجال فسرعان ما سأضرب سفينتهم السريعة بصاعقتي اللامعة، فأمزقها إربا وسط البحر القاتم كالخمر.»
سمعت هذا من كالوبسو ذات الشعور الفاتنة؛ إذ قالت إنها سمعته بنفسها من الرسول هيرميس.
وعندما نزلت إلى السفينة وإلى البحر، أنحيت على رجالي بالتوبيخ، متجها إلى كل رجل بدوره، بيد أننا لم نستطع أن نجد لذلك الأمر علاجا - فإن الأبقار كانت قد ذبحت. وفي الحال أظهرت الآلهة علامات النحس لرجالي؛ فقد زحفت الجلود، وأما اللحم، المشوي منه والنيئ، فطفق يئن فوق السفافيد، وصار هناك خوار أشبه بخوار الأبقار.
إذن فقد ظل رفقائي المخلصون ستة أيام يولمون على خير أبقار هيليوس التي كانوا قد ساقوها بعيدا. غير أنه عندما جلب علينا زوس بن كرونوس، اليوم السابع، كفت الريح عن أن تهب في إعصار، وفي الحال صعدنا إلى ظهر السفينة، وشققنا طريقنا عبر البحر الفسيح بعد أن رفعنا الصاري ونشرنا الشراع الأبيض.
الرياح تعصف بسفينة أوديسيوس
ولكن عندما غادرنا تلك الجزيرة لم تبد لنا أي أرض أخرى، بل ما كنا نرى إلا السماء والبحر ليس غير، وعندئذ حقا نشر ابن كرونوس غمامة دكناء فوق السفينة الواسعة، فعمت الظلمة البحر من تحتها، ولم تجر السفينة بعد ذلك لمدة طويلة؛ لأنه في الحال جاءت الريح الغربية العاتية، تهب في إعصار هائج، وإذا بهبة الريح تطيح بدعامات الصاري الأمامية، حتى إن السارية سقطت إلى الوراء وتناثرت جميع حبالها في جوف السفينة. وفوق كوثل السفينة سقط الصاري على رأس الربان فحطم سائر عظام جمجمته في الحال، فسقط من فوق ظهر السفينة كما لو كان غواصا وفارقت روحه الشامخة عظامه؛ عندئذ أرعد زوس وقذف صاعقته فوق السفينة، فأخذت تضطرب من الجؤجؤ إلى الكوثل، وقد أصابتها صاعقة زوس، وامتلأت بدخان كبريتي، وانجرف زملائي من السفينة. وأشبه بغربان البحر حملوا فوق اللجج حول السفينة السوداء، وسلبهم الرب عودتهم. أما أنا فقد ظللت أسير فوق السفينة هنا وهناك إلى أن فصلت الموجة جانبي السفينة عن قاعها، وحملتها اللجة مجردة من كل شيء ومفككة الأوصال وقذفت بالصاري بعيدا عن القاعدة، وفوق السارية طارت الدعامة الخلفية المصنوعة من جلد الثور، فربطت الاثنين معا بهذه، القاع والسارية معا، وإذا جلست فوق هذين حملتني الرياح العاتية.
أوديسيوس يقفز طلبا للنجاة
بعد ذلك كفت الريح الغربية حقا عن الهبوب في عاصفة، وسرعان ما أقبلت الريح الجنوبية، جالبة الحزن على قلبي؛ ذلك أنه يجب علي أن أجتاز من جديد الطريق إلى خاروبديس المؤذية. بقيت الليل بطوله محمولا، وعند شروق الشمس بلغت صخرة سكولا وإلى خاروبديس المروعة. لقد ابتلعت حقا مياه البحر الملحة، ولكني قفزت إلى فوق وتعلقت بشجرة التين العالية، ممسكا بها، وبقيت متشبثا بها أشبه بالخفاش، ومع ذلك لم أستطع بحال ما، أن أثبت قدمي أو أتسلق الشجرة؛ لأن جذورها كانت متشعبة عميقا إلى أسفل وأغصانها بعيدة عن متناول يدي من فوق، طويلة وعظيمة، وكانت تظلل خاروبديس. بقيت متشبثا بالشجرة هناك حتى تقذف خاروبديس بالصاري والقاع من جديد، وكم كان سروري عندما أقبلا أخيرا! وعند الساعة التي ينهض فيها المرء من اجتماع لكي يتناول عشاءه، ذلك المرء الذي يفصل في المنازعات العديدة بين من يحتكم إليه من الشبان، في تلك الساعة نفسها ظهر الصاري والقاع من داخل جوف خاروبديس، فأطلقت يدي وقدمي وهبطت من فوق وغطست في المياه بعيدا إلى أبعد من موضع السارية والقاع الطويلين، وبعد أن جلست فوق هذين رحت أجذف إلى الأمام بيدي. أما سكولا، فلم يسمح لها أبو الآلهة والبشر بأن تراني وإلا ما نجوت قط من الهلاك الشامل.
عودة أوديسيوس إلى كالوبسو «ومن ذلك الحين بقيت محمولا تسعة أيام. وفي الليلة العاشرة جاءت بي الآلهة إلى أوجوجيا
Ogygia ، حيث تقيم كالوبسو الجميلة الجدائل، تلك الربة المهولة التي تتكلم بلغة البشر، التي رحبت بي وقدمت لي المعونة والرعاية، ولكن لماذا أروي لك هذه القصة؟ فقد سردتها في ساحتك بالأمس فقط، لك أنت نفسك ولزوجتك النبيلة. وإنه لمتعب حقا، كما يبدو، أن أعود فأقص حكاية سبق أن رويتها.»
الأنشودة الثالثة عشرة
فاقتربت منه أثينا في صورة شاب يافع راعي أغنام، وكانت ترتدي عباءة وصندلا في قدميها اللامعتين.
ألكينوس يكرم أوديسيوس ورفاقه
هكذا تكلم أوديسيوس وخيم الصمت عليهم جميعا، وانعقدت ألسنتهم في شتى أنحاء الساحات الظليلة، ومن جديد رد عليه ألكينوس بقوله: «أي أدويسيوس، ما دمت قد جئت إلى بيتي العالي السقف ذي الأرضية البرونزية، فإن في اعتقادي، أنك لن تعود أدراجك، وترجع دون أن تنال مأربك، رغم كثرة المحن التي عانيتها. وإلى كل رجل منكم أيها الحاضرون في ساحاتي تواقين دائما إلى شرب خمر الشيوخ الصهباء، وإلى سماع أناشيد المغني، أتكلم وأدلي بهذه الوصية. إن في الصندوق البراق المصنوع من الذهب بطريقة عجيبة، ملابس للغريب، وهدايا أخرى عديدة أحضرها إلى هنا مستشارو الفياكيين. والآن، هيا بنا، نقدم له ركيزة عظيمة، وقدرا كبيرا كل رجل منا، ونحن بدورنا سوف نجمع الثمن من الناس، ونوفي بذلك أنفسنا؛ فإنه لمن العسير على رجل واحد أن يعطي بسخاء، دون تعويض.»
هكذا قال ألكينوس، فأدخلت كلماته السرور على نفوسهم، انصرف بعد ذلك كل رجل إلى منزله، كي يستريح، حتى إذا ما لاح الفجر الباكر، ذو الأنامل الوردية، أسرعوا إلى السفينة، وأحضروا البرونز الذي يمد الرجال بالقوة. وذهب ألكينوس القوي العتيد إلى السفينة، فاعتلاها، ووزع الهدايا بعناية تحت المقاعد، حتى لا تعوق حركة أي واحد من البحارة أثناء التجذيف، عندما ينهمكون في استخدام المجاذيف. وبعد ذلك انطلقوا إلى منزل ألكينوس، وأعدوا وليمة.
أوديسيوس يودع ألكينوس شاكرا
ذبح ألكينوس القوي العتيد من أجلهم ثورا لزوس بن كرونوس، رب السحب القائمة، وسيد الجميع، فلما انتهوا، بعد ذلك، من إحراق قطع الفخاذ أدبوا مأدبة رائعة، وطربوا، وفي وسطهم أنشد المنشد المقدس ديمودوكوس
Demodocus ، الذي يجله الشعب، بالتوقيع على القيثارة. أما أوديسيوس فكان يتجه دائما برأسه نحو الشمس الساطعة، متلهفا إلى أن يراها تغيب ؛ إذ كان يتوق بحق إلى العودة إلى وطنه. وكما يتوق المرء إلى العشاء، ذلك الذي من أجله يظل زوج من الثيران القاتمة كالخمر، طوال اليوم كله، يجران المحراث ذا المفاصل خلال الأرض البور، ولأجل من يغيب ضوء الشمس، كي يتمتع بعشائه، وتشعر ركبتاه بالتعب وهو ذاهب إلى بيته، هكذا أيضا، لأجل غبطة أوديسيوس احتجب ضوء الشمس، فنهض عندئذ في الحال، وتكلم وسط الفياكيين، محبي المجذاف، وأعلن كلمته إلى ألكينوس بصفة خاصة، قائلا: «أيها السيد ألكينوس، يا أشهر الخلق طرا، صب السكائب الآن، وأرسلني في طريقي بسلام، وأنتم أيضا. وداعا! فقد تحقق الآن كل ما كان يتوق إليه قلبي؛ حراسة وهدايا صداقة، فهل لآلهة السماء أن تباركها لي، وعند عودتي أجد زوجتي المنقطعة النظير مع سائر من أحبهم في بيتي سالمين؟ وهل لكم من جديد، وأنتم باقون هنا، أن تدخلوا السرور على زوجاتكم اللواتي عقد لكم عليهن وأطفالكم؟ وهل للآلهة أن تمنحكم جميع ألوان الرخاء، ولا يتعرض شعبكم لأي أذى؟»
ألكينوس يناشد الشعب الصلاة من أجل أوديسيوس
قال هذا أوديسيوس، فأثنى الجميع على قوله، وأمروا بإرسال الغريب في طريقه، طالما أنه قد تكلم بلياقة؛ عندئذ تحدث ألكينوس العتيد إلى الرسول، بقوله: «أي بونتونوس
، امزج الطاس، وقدم الخمر في الساحة للجميع، حتى إذا ما صلينا للأب زوس، استطعنا أن نرسل الغريب إلى وطنه.»
ما إن قال هذا حتى مزج بونتونوس الخمر العسلية وسقى منها الجميع، متجها إلى كل واحد بدوره، وسكبوا السكائب للآلهة الخالدين، الذين يحتلون السماء الفسيحة من حيث كانوا يجلسون. بيد أن أوديسيوس العظيم نهض، ووضع الكأس ذا المقبضين في يد أريتي
Aerte ،
1
وتكلم مخاطبا إياها بكلمات حماسية، قائلا: «وداعا أيتها الملكة، طوال جميع الأعوام، إلى أن توافيك الشيخوخة والموت اللذان من حظ البشر. أما عن نفسي، فإنني سأنطلق في طريقي. وهل لك أن تتمتعي في هذا المنزل بأولادك وبشعبك وبالملك ألكينوس؟»
أوديسيوس يبحر في ظروف ملائمة
هكذا تكلم أوديسيوس العظيم وخطا عبر العتبة، فأرسل ألكينوس العتيد، معه رسولا ليرشده إلى السفينة السريعة وشاطئ البحر. وأرسلت معه أريتي، نساء إماء، تحمل إحداهن عباءة مغسولة حديثا وجلبابا، كما أمرت أمة أخرى أيضا بأن تتبعها لتحمل الصندوق المتين، وكذلك حملت أمة ثالثة خبزا وخمرا صهباء.
فلما هبط الجميع إلى السفينة وإلى البحر، أسرع الشباب المبجل الذين سيرافقونه فحملوا من فورهم تلك الأشياء، وخزنوها في السفينة الواسعة، حتى الطعام والشراب كله، ثم فرشوا بعد ذلك من أجل أوديسيوس بساطا وملاءة من الكتان فوق ظهر السفينة الواسعة جهة الكوثل كي يستطيع أن ينام ملء جفنيه، أما هو فذهب إلى ظهر السفينة ورقد في صمت. بعد ذلك جلس الشبان فوق المقاعد، كل في ترتيبه، وحلوا الحبل من الصخرة المثقوبة. وما إن انحنوا بظهورهم إلى الوراء، وضربوا الماء الملح بنصال مجاذيفهم حتى سقط النوم الهني على جفنيه، نوم لا يستيقظ منه، غاية في الحلاوة، أشبه ما يكون بالموت. وكما تقفز إلى الإمام فوق السهل أربعة جياد مربوطة جميعا معا تحت ضربات السوط، وبقفزها عاليا تشق طريقها في سرعة بالغة، هكذا أيضا راح كوثل تلك السفينة يثب إلى فوق، وفي تقدمه أزبدت موجة البحر الصاخب القاتمة أي إزباد، فأسرعت السفينة تشق طريقها في سلام وثبات، لدرجة أن الصقر الطواف، الذي هو أسرع ذوات الأجنحة، لم يستطع أن يباريها في سرعتها. وهكذا طفقت تشق طريقها إلى الأمام بسرعة وتمخر عباب البحر، تحمل فوق ظهرها رجلا هو نظير الآلهة في المشورة، ذلك الذي قاسى كثيرا من الأهوال فيما مضى في القلب يخوض غمار حروب الرجال واللجج العاتية، غير أنه الآن قد نام في سلام، ناسيا كل ذلك الذي قاساه.
والآن عندما ظهرت أكثر النجوم تألقا، تلك التي تأتي دائما لتعلن نور الفجر الباكر، اقتربت السفينة ماخرة البحر، الآن فقط من الجزيرة.
وصول أوديسيوس إلى إيثاكا وغضب بوسايدون
يوجد في بلاد إيثاكا ميناء خاص لفوركوس
، عجوز البحر، وعند مدخل الميناء يبرز عموديا من اليابسة لسانان ناتئان صوب الميناء . هذان اللسانان يصدان الأمواج العاتية التي تثيرها الرياح الهوج من الخارج. أما في داخل الميناء فتقف السفن ذوات المقاعد دون أن تربط متى بلغت المرسى. وتوجد على رأس الميناء شجرة زيتون طويلة الأوراق، وبالقرب منها كهف جميل مقدس وارف الظلال، مكرس للحوريات اللائي يسمين النياديس
Naiads .
2
وتوجد في داخل الكهف طاسات مزج الخمر وجرار من الحجر، وهناك أيضا يدخر النحل عسله. وفي الكهف أنوال طويلة من الصخر تنسج عليها الحوريات منسوجات أرجوانية اللون، أعجوبة للناظرين، كما أن بداخله أيضا ينابيع دائمة التدفق. وللكهف بابان؛ واحد تجاه الريح الشمالية يدخل منه البشر، أما الآخر فتجاه الريح الجنوبية وهو مقدس، فلا يدخل منه الناس، إنه طريق الخالدين.
في ذلك المكان جذف الشباب إلى الداخل، وكانوا يعرفون الموضع من قبل، وجرت السفينة مندفعة في مجراها السريع فوق الشاطئ إلى نصف طولها؛ إذ دفعتها إلى تلك المسافة سواعد المجذفين. بعد ذلك قفزوا من السفينة ذات المقاعد إلى البر، وبدءوا برفع أوديسيوس خارج السفينة الواسعة فوق الملاءة الكتانية والبساط اللامع كما كان، وأرقدوه فوق الرمل، ولا يزال النوم يغلبه على أمره. وأخرجوا الهدايا التي كان الفياكيون الأمجاد قد أعطوه إياها، وهو راحل إلى وطنه، بفضل أثينا عظيمة القلب، فوضعوا هذه كلها سويا بالقرب من جذع شجرة الزيتون، بعيدا عن الطريق خشية أن يعثر عليها عابر سبيل ما، قبل أن يسقط أوديسيوس، فيعبث بها. بعد ذلك رجعوا أدراجهم هم أنفسهم إلى الوطن ثانية. بيد أن مزلزل الأرض لم ينس التهديدات التي كان قد توعد بها من قبل أوديسيوس شبيه الإله، وهكذا استعلم عن مأرب زوس، قائلا: «أبتاه زوس، لن أكون أنا نفسي مبجلا بعد الآن، وسط الآلهة الخالدين، ما دام البشر لا يبجلونني قط - فحتى الفياكيون، الذين هم، كما تعرف، من سلسلة نسبي - لأنني أعلنت قبل الآن أنه لا بد لأوديسيوس أن يقاسي أهوالا عديدة قبل أن يصل إلى وطنه، رغم أنني لم أحرم عليه العودة كلية؛ إذ إنك وعدته بذلك يوما ما وأكدت الأمر بانحناءة من رأسك، ولكن رغم ذلك قد حمله أولئك الرجال نائما في سفينة سريعة عبر البحر وأنزلوه في إيثاكا، وأعطوه هدايا تفوق الحصر، خزينا من البرونز والعسجد والثياب المنسوجة، أكثر مما كان يستطيع أوديسيوس أن يحصل لنفسه من طروادة، لو كان قد عاد سالما بنصيبه القانوني من الغنيمة.»
فأجابه زوس، جامع السحب، بقوله: «آه لي! يا مزلزل الأرض يا واسع الملك، ما هذا الذي نطقت به؟! إن الآلهة لا تحط من تبجيلك، ومن الصعب حقا أن نهاجم بدون تبجيل أكبرنا سنا وأحسننا. أما البشر، فلو قصر أي واحد منهم، معتمدا على قوته وجبروته، في أن يوفيك حقك من التبجيل في أي شيء، لحق لك أن تنتقم دائما، حتى فيما بعد. إذن فافعل ما يحلو لك، وكما تجد فيه مسرتك العظمى.»
عندئذ أجابه بوسايدون، مزلزل الأرض، بقوله: «كان من الواجب أن أفعل في الحال كما تقول، يا رب السحب الدكناء، ولكنني أخشى غضبك دائما وأتحاشاه. أما الآن فإنني مزمع أن أضرب سفينة الفياكيين الجميلة، وهي عائدة من مهمتها عبر اليم الكثير الضباب، حتى يكفوا من الآن فصاعدا ويمتنعوا عن حراسة الناس، وعلى ذلك سأقيم جبلا ضخما حول مدينتهم.»
فرد عليه زوس، جامع السحب، قائلا: «أيها الخامل، أصغ إلى ما أعتبره في نظري خير الأمور. عندما يتطلع الناس جميعا إليها من المدينة، وهي مسرعة في طريقها، حولها إلى صخرة بالقرب من الشاطئ - صخرة في صورة سفينة سريعة - كي يملأ العجب سائر الناس، وهل لك أن تطوق مدينتهم بجبل ضخم؟»
انتقام بوسايدون
والآن عندما سمع بوسايدون مزلزل الأرض، هذا، شق طريقه إلى سخيريا
Scheria ، حيث كان يقطن الفياكيون، وانتظر هناك، فلما اقتربت السفينة ماخرة البحار، من الشاطئ، تجري مسرعة في طريقها؛ عندئذ اقترب منها مزلزل الأرض وحولها إلى صخر، وثبتها بإحكام من تحت بضربة من راحة يده، ثم انصرف.
عندئذ شرع الفياكيون ذوو المجاذيف الطويلة، أولئك الرجال المشهورون بسفنهم، يتحدث بعضهم إلى البعض الآخر بكلمات مجنحة، وهكذا كان الواحد منهم يقول، وهو ينظر إلى جاره: «ويحنا الآن، من ذا الذي قيد سفينتنا السريعة الآن في البحر وهي في طريقها إلى الوطن؟ العجيب أنها كانت في مدى الرؤية الواضحة!»
هكذا كان الواحد منهم يتكلم، ولكنهم لم يعرفوا كيف تمت تلك الأمور؛ عندئذ تكلم ألكينوس مخاطبا جماعتهم بقوله: «انظروا الآن. حقا إن النبوءات، التي نطق بها أبي منذ أمد بعيد، قد حاقت بي الآن. كان يقول دائما إن بوسايدون غاضب علينا لأننا نعطي الحراسة الآمنة لجميع الناس. قال إنه سيأتي يوم، بينما تعود إحدى سفن الفياكيين الجميلة من رحلة حراسة عبر اليم الكثير الضباب؛ إذ يضربها بوسايدون، كما أنه سوف يقيم طودا أشم حول مدينتنا. هكذا قال ذلك الرجل العجوز، والغريب أن كل ما قاله قد تحقق الآن. هلموا بنا الآن، نفعل جميعا ما أمرنا به ونطعه. كفوا عن حراسة البشر، عندما يجيء أحد إلى مدينتنا، ولنقدم ذبيحة إلى بوسايدون من اثني عشر ثورا منتقى، عسى أن يعطف علينا ولا يقيم جبلا شامخا حول مدينتنا.»
أوديسيوس غريب في وطنه
قال هذا فتملكهم الخوف وأعدوا الثيران، ثم شرع قادة الفياكيين ومستشاروهم، يصلون إلى السيد بوسايدون، وهم واقفون حول المذبح. أما أوديسيوس فقد استيقظ من نومه في وطنه، ولكنه لم يكن يدري ذلك بعد غيابه الطويل؛ لأن الربة، بالاس أثينا، نشرت حوله سحابة، أثينا ابنة زوس، حتى لا يتعرف عليه أحد، وتخبره بكل شيء، فلا تعرفه زوجته، ولا أهل بلده، ولا أصدقاؤه، إلا بعد أن يدفع المغازلون ثمن ما قدمت أيديهم من اعتداءات؛ ومن ثم بدت سائر الأمور غريبة على سيدهم، الممرات الطويلة، والخلجان التي تستعمل كمراس آمنة، والصخور الحادة الناتئة والأشجار المورقة، فانتصب واقفا يطل على وطنه، ثم تأوه وضرب فخذيه براحتي يديه، وقال وهو ينتحب: «ويحيى! إلى أي بلد من بلاد البشر قد وصلت الآن؟ أأهلها قساة، وشرسون، وظالمون؟ أم أنهم يحبون الغرباء ويخشون الآلهة في قلوبهم؟ وإلى أين أحمل كل هذه الثروة، بل إلى أين أذهب أنا نفسي هائما على وجهي؟ ليتني بقيت هناك وسط الفياكيين، ثم ذهبت إلى ملك آخر من الملوك الأشداء، الذين كانوا يرحبون بي ويرسلونني إلى وطني. أما الآن فلست أدري على من أجود بهذه الثروة، ومع ذلك فلن أتركها هنا، لئلا تصبح غنيمة سائغة للغير على حسابي. لعنة الله عليهم، ما كان قادة الفياكيين ومستشاروهم الذين جاءوا بي إلى بلد غريب، كما يبدو، بحكماء أو منصفين. حقا إنهم وعدوا بأن يذهبوا بي إلى إيثاكا الواضحة المعالم، ولكنهم لم يوفوا بوعدهم، فهل لزوس، رب المتضرعين، الذي يرى ما يفعل جميع البشر، ويعاقب المذنب، أن يجازيهم؟ ومع ذلك فسأحصي بضاعتي وأعدها، خشية أن يكون أولئك الرجال قد عادوا بشيء معهم على حسابي في سفينتهم الواسعة.»
أوديسيوس يلتقي أثينا في هيئة راعي أغنام
بعد أن أتم أوديسيوس حديثه ذاك، شرع يعد الركائز الجميلة، والقدور، والذهب والثياب البديعة الصنع، فلم يجد شيئا ناقصا من كل هذا. بعد ذلك وقد برح به الحنين إلى وطنه، راح يسير، حزينا، بحذاء الشاطئ البحر الصاخب، يبكي بكاء مرا، فاقتربت منه أثينا في صورة شاب يافع، راعي أغنام، في غاية الرقة، أشبه ما يكون بأبناء الأمراء. وكانت ترتدي عباءة جميلة الصنع، أسدلتها على كتفيها مثنية في طيتين، وصندلا في قدميها اللامعتين، وأمسكت في يدها رمحا، فما أن وقعت عين أوديسيوس عليها حتى انشرح صدرا، وتقدم لمقابلتها، وخاطبها بكلمات مجنحة
3
قائلا: «أيها الصديق، مرحبا بك، يا أول من قابلت في هذه البلاد، أرجو أن تقابلني بقلب لا يضمر أي سوء. أنقذ هذا الكنز، وأنقذني؛ فإني أتوسل إليك، توسلي إلى أحد الآلهة، وهذا وها أنا ذا أتقدم إلى ركبتيك العزيزتين. أخبرني بما أريد معرفته بالصدق، كي أعرف حق المعرفة، أي بلد هذا، وأي شعب هؤلاء؟ أي الأقوام يقطنون هنا؟ أهي جزيرة تبدو للعين، أم شاطئ أرض عميقة التربة ممتد إلى جانب البحر؟»
أوديسيوس يعلم من أثينا أنه في إيثاكا
عندئذ أجابته الربة، أثينا ذات العينين النجلاوين، بقولها: «أيها الغريب، إما أن تكون أحمق، أو قد أتيت من بلد قصي، إن كنت تسأل حقا عن هذه البلاد، لا ريب في أنها ليست بأية حال من الأحوال، عديمة الاسم، ولكن الكثيرين يعرفونها، كل أولئك الذي يقطنون تجاه الفجر والشمس، وأولئك الذين من ورائهم يواجهون الظلام الدامس. وإنها جزيرة وعرة، وليست صالحة لقيادة الجياد، ولكنها مع ذلك ليست في فقر مدقع رغم أنها رقعة صغيرة فحسب؛ فالقمح ينمو فيها مزدهرا، وكذلك أعناب الخمور، ولا ينقطع الغيث عنها ولا الندى الغزير. إنها بلد صالح لرعي الماعز والأبقار، هناك أشجار من كل نوع، كما أن بها غدرانا للري لا ينضب معينها طول العام. ومع كل، أيها الغريب، فإن اسم إيثاكا قد وصل حتى إلى بلاد طروادة، التي كما يقال، تبعد كثيرا عن بلاد آخايا
Achaea
4
هذه.»
أوديسيوس يخدع الراعي بالأكاذيب
هكذا قالت، فسر أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، واغتبط في بلده، بلد آبائه، عندما سمع قول بالاس أثينا، ابنة زوس، حامل الترس، فتحدث إليها، يخاطبها بكلمات مجنحة، ولكنه مع ذلك لم يقل الحق، بل كان يزن اللفظ قبل النطق به، مرددا في صدره أفكارا بالغة الدهاء، فقال: «لقد سمعت عن إيثاكا، حتى وأنا في كريت الفسيحة، النائية عبر البحر، وها أنا ذا الآن قد جئت بنفسي إلى هنا مع بضائعي هذه. ولقد تركت ورائي ما يفوقها عددا مع أطفالي، هاربا من البلاد، بعد أن قتلت ابن إيدومينيوس
Idomeneus
5
العزيز، أورسيلوخوس
Orsilochus
السريع القدمين، الذي تفوق في السرعة بكريت على سائر الرجال الذين يعيشون بعرق جبينهم. وكان سيسلبني من كل غنائم طروادة تلك، التي من أجلها قاسيت الحزن في قلبي، مناضلا في الحروب مع البشر والأمواج العاتية؛ ذلك لأنني لم أحاب أباه، ولم أخدمه في بلاد الطرواديين كأحد أتباعه، بل كان تحت إمرتي رجال آخرون؛ وعلى ذلك ضربته برمحي البرونزي الطرف وهو عائد من الحقل إلى داره، بعد أن كمنت له في الطريق مع أحد رجالي. وكان الليل الداجي يحجب السماء، فلم يفطن أحد إلينا، بل سلبته حياته دون أن يراني أحد. وبعد أن أجهزت عليه برمحي الحاد، انطلقت في الحال إلى سفينة ، وتوسلت إلى الفينيقيين
الأمجاد، واهبا إياهم شيئا من الغنائم لأشبع قلوبهم. وطلبت منهم أن ينقلوني بعيدا، ويضعوني فوق اليابسة في بولوس
،
6
أو في إليس
Elis
العظيمة، حيث يحكم الإيبيون
Epaens ، ولكن قوة الريح جرفتهم بعيدا من هناك، في عنف بالغ ضد رغبتهم، ولم يكونوا يقصدون الغدر بي، فوصلنا إلى هنا ليلا بعد أن طفقنا هائمين من هناك تدفعنا الريح. وبسرعة أخذنا نجذف بهمة حتى بلغنا داخل الميناء، لا نفكر في تناول عشائنا، رغم حاجتنا الشديدة إليه، بل خرجنا على الطوى من السفينة ورقدنا، كلنا. وقد حط علي نوم لذيذ فنمت ملء جفني وأنا منهوك القوى، فحملوا بضائعي من السفينة الواسعة ووضعوها حيث كنت أرقد أنا نفسي فوق الرمال. أما هم فصعدوا إلى ظهر السفينة، ورحلوا إلى بلاد سيدون
Sidon
7
بلاد خيرة الأقوام، وتركوني هنا، بقلب منزعج غاية الانزعاج.»
أثينا تكشف لأوديسيوس عن شخصيتها
هكذا تكلم أوديسيوس فابتسمت الربة، أثينا المتألقة العينين، وربتت عليه بيدها، وحولت نفسها إلى صورة امرأة، حسناء فارعة الطول، ماهرة في الأشغال اليدوية المجيدة، وخاطبته بكلمات مجنحة،
8
قائلة: «لا يستطيع أن يتفوق عليك في كل ضروب الخداع، إلا من يكون ماكرا أو خبيثا، رغم أن الذي التقى بك إله، أيها الرجل الجريء، ذو المشورة الماكرة، والكثير الخداع، فلن تكف عن الخداع، حتى في وطنك، كما يبدو، بل تحيك القصص الخداعة، التي تميل إليها من أعماق قلبك. والآن، لا تتكلم عن هذا بعد ذلك، ما دمنا كلانا ماهرين في نفس المهنة، وما دمت أنت تبذ سائر الناس في المشورة وفي الحديث، وأنا مشهورة بالحكمة والمهارة بين جميع الآلهة. ورغم ذلك فإنك لم تعرفني أنا بالاس أثينا، ابنة زوس، التي أقف دائما إلى جوارك، وأحرسك في جميع
9
متاعبك. نعم وقد جعلتك محبوبا لدى سائر الفياكيين. والآن ها أنا ذا قد جئت إلى هنا، لأدبر معك خطة، ولأخفي كل كنزك، الذي أعطاكه الفياكيون الأمجاد بمشورتي وإرادتي، عندما رحلت إلى الوطن، ولكي أخبرك بسائر المحن التي يجب أن تقاسيها في بيتك المكين البناء، ولكن هل لك أن تكون قويا؟ لأنه يجب عليك أن تتحمل تلك الأمور، ولا تخبرن أي رجل منهم جميعا ولا أية امرأة بأنك قد عدت من تجوالاتك، بل تحمل أحزانك العديدة في صمت، وارضخ لعنف البشر.»
أوديسيوس يشيد بأفضال أثينا عليه
بعدئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «إنه ليتعذر على المرء، أن يعرفك، أيتها الربة، عندما يلتقي بك، مهما بلغ من الحكمة؛ لأنك تتخذين أي شكل تريدين. إنني أعلم هذا حق العلم؛ فإنك تعطفين علي منذ قديم الزمان، طوال المدة التي كنا نحارب فيها، نحن معشر الآخيين، في أرض طروادة. حتى إذا ما سلبنا مدينة بريام الشاهقة، ثم رحلنا عنها في سفننا، وبدد إله شمل الآخيين، لم أعد أراك أبدا منذ ذلك الحين، يا ابنة زوس، ولم ألاحظك آتية على ظهر سفينتي كي تبعدي الأحزان عني. كلا، لقد ظللت أتجول دائما، حاملا في صدري قلبا مصابا، إلى أن خلصتني الآلهة من الشر، حتى أدخلت السرور إلى قلبي في بلاد الفياكيين الخصيبة بكلماتك، وأرشدتني بنفسك إلى مدينتهم. أما الآن، فإنني أتوسل إليك بأبيك - لأنني لا أصدق أنني قد جئت إلى إيثاكا الواضحة للعيان، كلا، لا بد أن هذا البلد الذي أجوس فوق أرضه، بلد آخر، وأعتقد، أنك إنما تتكلمين هكذا ساخرة مني لتخدعي قلبي - خبريني هل بلغت حقيقة وطني العزيز؟»
أثينا المحبة تطمئن أوديسيوس بأنه في وطنه
عندما أجابته الربة، أثينا البراقة العينين، فقالت: «هذه الفكرة دائما في صدري، وعلى ذلك فلا أستطيع أن أتركك إلى أحزانك؛ لأنك رقيق الحديث، حاد الفطنة وحصيف. كان ما يعمله أي رجل آخر عند عودته من رحلاته أن يسرع في شوق ليرى زوجته وأولاده في داره، ولكنك لم ترغب في أن تعرف أو تعلم أي شيء، إلا بعد أن تتأكد من زوجتك، وما إذا كانت لا تزال محافظة على سابق عهدها في ساحاتك، وما إذا كانت تقضي الليالي والأيام حزينة باكية، أما أنا، فلم أشك قط في عودتك، بل كنت أعلم تماما في قلبي، أنك ستعود إلى وطنك بعد أن تفقد سائر رفقائك، ومع ذلك، فيجب أن تعرف، أنه لم يكن في نيتي الوقوف في وجه بوسايدون، شقيق أبي، الذي غرس الغضب ضدك في قلبه، حانقا عليك لأنك أعميت ابنه العزيز، والآن، هيا، لأريك أرض إيثاكا، كي تتأكد. هذا هو ثغر فوركوس، عجوز البحر، وهنا عند رأس الميناء توجد شجرة الزيتون الطويلة الأوراق، وبالقرب منها الكهف المبهج الظليل، المقدس للحوريات اللوائي يعرفن باسم النياديس. يجب أن تعرف، أن هذا هو الكهف المقبي الذي اعتدت أن تقدم فيه للحوريات ذبائح مئوية عديدة تحقق مأربك، وها هو ذا هناك جبل نيريتون
Neriton ، الذي تكسوه الغابات.»
أوديسيوس يتوسل إلى النياديس
قالت الربة هذا، وبددت السحابة، فطهرت الأرض. إذن سر أوديسيوس العظيم، البالغ التحمل، سرورا أي سرور إذ غدا في وطنه، وقبل التربة، مانحة الغلال. وفي الحال بسط ذراعيه يتضرع إلى الحوريات، بقوله: «أيتها الحوريات النياديس، يا بنات زوس، لم يخطر ببالي قط أنني سوف أراكن ثانية، أما الآن فإنني أحييكن بتوسلات جميلة. نعم سوف أقدم لكن الهدايا أيضا، كسابق عهدي، لو أن ابنة زوس، تلك التي تقود الغنيمة، سوف تمنحني، متحننة، أن أعيش، حتى أربي ابني العزيز إلى أن يبلغ سن الرجولة.»
أثينا تساعد أوديسيوس بالخطط النافعة
فردت عليه ثانية الربة، أثينا ذات العينين المتألقتين، بقولها: «فلتقر عينا ولا تدع هذه الأمور تحزن قلبك. هلم بنا، الآن، نضع بضائعك في الحال، في أقصى أركان الكهف العجيب، حيث يمكن أن تبقى لك في أمان، ولنفكر نحن أنفسنا في الكيفية التي يتم بها كل شيء على خير وجه.»
ما إن قالت الربة هذا حتى دخلت إلى الكهف الظليل تبحث مخابئه. وحمل أوديسيوس الكنز جميعه إلى هناك، الذهب والبرونز العنيد والثياب الجميلة الصنع، التي كان الفياكيون قد أعطوه إياها، فأخفى كل هذه الأشياء بعناية، ووضعت بالاس أثينا، ابنة زوس، حامل الترس، صخرة عند الباب. بعد ذلك جلس كلاهما بجوار جذع شجرة الزيتون المقدسة، وأخذا يحيكان الموت للمغازلين الوقحين. وكانت الربة، أثينا النجلاء العينين ، هي أول من تكلم، فقالت: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، هيا أوديسيوس الكثير الحيل، فكر جيدا في الطريقة التي تستطيع بها أن تضع يدك على المغازلين الرقعاء، الذين لهم الآن ثلاث سنوات يتسكعون في ساحاتك، ويغازلون زوجتك الشبيهة بالآلهة، ويعرضون عليها هدايا المغازلين. وهي إذ تنتظر مجيئك باكية، تعلل الجميع بالآمال، وتمني كل رجل بالوعود، فترسل إليهم الرسل بينما عقلها مركز في أمور أخر.»
عندئذ أجابها أوديسيوس، الكثير الحيل، قائلا: «ويحي! لا شك أنه كان من المحتمل أن أهلك في ساحاتي بسبب سوء حظ أجاممنون بن أتريوس لو لم تفضي إلي، أيتها الربة بكل شيء. هيا الآن، ودبري خطة ما أتمكن بها من مجازاتهم، وقفي أنت نفسك إلى جانبي، وامنحيني شجاعة جريئة كتلك التي كانت لي عندما فككنا تاج طروادة اللامع، فلو وقفت فقط إلى جواري، أيتها البراقة العينين، بقدر ما كنت متحمسة في ذلك الحين، لقاتلت حتى في مواجهة ثلاثمائة رجل، معك، أيتها الربة العتيدة، لو أنك بقلب مستعد وهبتني المساعدة.»
أوديسيوس يوافق أثينا على مسخه
فأجابته عندئذ الربة، أثينا اللامعة العينين، بقولها: «نعم، سأكون معك حقا ولن أنساك عندما تكون منهمكا في ذلك العمل، وإنني لأعتقد أن الكثيرين من أولئك المغازلين الذين يبددون أموالك، سوف يلطخون التربة الفسيحة بدمائهم وأمخاخهم. والآن، هيا لأغير هيئتك كيلا يعرفك سائر البشر، فسأجعد الجلد الأملس فوق أطرافك اللدنة، وأقضي على الشعر الكتاني فوق رأسك، وألبسك ثوبا مهلهلا، حتى ليشمئز المرء من النظر إلى أي رجل يلبسه، وسوف أعتم عينيك اللتين كانتا من قبل في غاية الجمال، كي تبدو حقيرا في نظر جميع المغازلين، ونظر زوجتك، وابنك، الذي تركته في ساحاتك. أما أنت نفسك، فلتذهب أولا، وبادئ ذي بدء، إلى راعي الخنازير الذي يحرس خنازيرك، ويكن لك كل عطف وحنان في قرارة قلبه، ويحب ولدك وبينيلوبي الثابتة. ستجده قابعا بجوار الخنازير وهي ترعى بجانب صخرة كوراكس
Corax
وينبوع أريثوسا
Arethwsa ،
10
تأكل ثمار البلوط ملء بطونها وتشرب المياه السوداء، وهي الأشياء التي تسمن لحم الخنازير الدسم. انتظر هناك، وبعد أن تجلس إلى جواره سله عن كل شيء ، بينما أنطلق أنا إلى إسبرطة، أرض النساء الفاتنات، لأستدعي من هناك تيليماخوس، ابنك العزيز، يا أوديسيوس، الذي سافر إلى لاكيدايمون الفسيحة إلى بيت مينيلاوس ليستطلع أخبارك، ويعلم ما إذا كنت على قيد الحياة في أي مكان.»
أثينا تطمئن أوديسيوس على مصير ولده
فأجابها أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «لماذا لم تخبريني، إذن، بربك، يا من يعرف عقلك كل شيء؟ كلا، أكان مقدرا له كذلك أن يقاسي أهوالا، وهو يجوس خلال البحر الصاخب، وأن يأكل الآخرون أمواله؟»
عندئذ أجابته الربة، أثينا المتألقة العينين، وقالت: «كلا، فلن ينزعج قلبك عليه كثيرا. إنني أنا التي أرشدته، إلى السفر إلى هناك، كي يحظى بأخبار حسنة، دون أن يعاني أي تعب، بل يجلس آمنا في قصر ابن أتريوس، مسرورا بما يفوق الوصف. حقيقة، هناك شبان يكمنون في انتظاره، في سفينة سوداء، متلهفين إلى الفتك به قبل أن يبلغ وطنه، ولكني أعتقد أنهم لن ينالوا بغيتهم. قبل ذلك ستضم الأرض كثيرا من المغازلين الذين يأكلون أموالك.»
ثم تمسخه بصولجانها وترحل
ما إن أتمت أثينا حديثها ذاك حتى لمسته بصولجانها، فأذوت جلده الناعم فوق أطرافه اللدنة، وأتت على الشعر الكتاني فوق رأسه، ووضعت جلد رجل عجوز حول جميع أطرافه، وعتمت عينيه اللتين كانتا رائعتي الجمال من قبل، وألبسته عباية وجلبابا مهلهلين قذرين، أسمالا بالية وسخة، يجللها الدخان القذر. وألقت حوله جلدا هائلا لغزالة سريعة، منزوعة الشعر، وأعطته عكازا وكيسا حقيرا، كله ثقوب، معلقا بحبل مفتول.
وبعد أن استقر كلاهما على ذلك الرأي، انفصلا، وفي الحال انطلقت الربة إلى لاكيدايمون العظيمة لإحضار ابن أوديسيوس.
الأنشودة الرابعة عشرة
أوديسيوس يعثر على راعي خنازيره
ذهب أوديسيوس من الميناء خلال الممر الوعر صاعدا عبر الغابة ووسط المرتفعات إلى المكان الذي أوجبت عليه أثينا أن يبحث فيه عن راعي الخنازير العظيم، والذي كان يرعى أمواله دون سائر العبيد الذين كان يمتلكهم أوديسيوس العظيم.
وجده جالسا في ردهة منزله الأمامية، حيث قد أقيم هناك السور مرتفعا في مكان يطل على منظر متسع، ساحة عظيمة رائعة، تحيط بها بقعة خلاء. وكان راعي الخنازير قد شيد هذا السور بنفسه لخنازير سيده، الذي رحل دون علم سيدته والعجوز لايرتيس، فبناه بالحجارة الضخمة وغطاه من فوق بالأشواك. وبطوله كله، من الخارج، دفع أوتادا، هناك وهناك، أوتادا ضخمة، متراصة أحدها بجانب الآخر، صنعها بأن شق شجرة بلوط حتى قلبها الأسود،
1
وشيد خلف السور اثنتي عشرة حظيرة، كل منها بجانب الأخرى، كفراش للخنازير، وقد حجز في كل حظيرة خمسين خنزيرة تتمرغ على أرضها، أنثى للنسل، أما ذكور الخنازير فكانت تنام خارج الحظائر. وكانت هذه أقل عددا من الإناث بكثير؛ إذ كان المغازلون شبيهو الآلهة يولمون عليها، فقللوا من عددها؛ لأن راعي الخنازير كان يقدم دائما أحسن جميع الخنازير المسمنة، التي كانت تربو على الثلاثمائة والستين. وكانت تنام بجانب هذه باستمرار، أربعة كلاب متوحشة كالحيوانات الضارية، كان قد رباها راعي الخنازير، قائد البشر. أما هو نفسه فكان يلبس حول قدميه حذاء طويلا، يصنعه بقطع جلد ثور جميل اللون، بينما يرحل الآخرون ثلاثتهم؛ واحد هنا، والآخر هناك، والثالث مع قطعان الخنازير. أما الرابع فيرسله إلى المدينة يسوق خنزيرا ذكرا بالقوة، إلى المغازلين الوقحين، ليذبحوه، ويملئوا بطونهم باللحم.
وبينما أوديسيوس يسير إذ أبصرته الكلاب النابحة فجأة، فهجمت عليه ... وأسقط أوديسيوس العكاز من يده.
راعي الخنازير يدفع عن أوديسيوس الكلاب النابحة
وبينما أوديسيوس يسير إذ أبصرته الكلاب النابحة فجأة، فهجمت عليه وهي تنبح نباحا عاليا، غير أن أوديسيوس جلس بدهائه وأسقط العكاز من يده. وعندئذ حتى في مزرعته، كان عليه أن يقاسي جرحا بالغا، ولكن راعي الخنازير جرى خلفها بسرعة، وهرع خلال الباب، فسقط الجلد من يده. وصاح في الكلاب عاليا، وطردها بعيدا بسيل من الأحجار، وخاطب سيده بقوله: «أيها العجوز لقد كادت الكلاب، حقا، أن تمزقك إربا على حين غرة، وعندئذ كنت تنحي علي باللائمة. نعم، وكانت الآلهة تبتليني بأحزان وهموم أخرى. إنني لأحزن وأبكي من أجل سيد شبيه بالإلهة ، طول إقامتي هنا، أرعى خنازيره السمينة ليأكلها رجال آخرون، بينما ربما كان هو في حاجة إلى الطعام وهو يطوف خلال أرض ومدينة قوم غريبي اللسان، لو كان حقا على قيد الحياة ويرى ضوء الشمس. هيا معي، دعنا نذهب إلى الكوخ، أيها العجوز، حتى إذا ما ملأت بطنك بالطعام والخمر، أخبرتني من أين قدمت وجميع الأهوال التي قاسيتها.»
راعي الخنازير يستقبل أوديسيوس في كوخه
ما إن قال راعي الخنازير الطيب هذا الكلام حتى قاده إلى الكوخ، وأدخله، وأجلسه، وفرش له أغصانا غليظة كانت مقطوعة، وبسط فوقها جلد ماعز بري أشعث، كبير كث الشعر، كان من عادته أن ينام فوقه، فسر أوديسيوس من الترحيب بهذه الطريقة، وتكلم قائلا: «أيها الغريب، إني لأطلب من زوس والآلهة الآخرين الخالدين أن يمنحوك أقصى ما تشتهي؛ حيث إنك قد رحبت بي بقلب رضي.»
فأجابه يومايوس
Eumaeus
راعي الخنازير بقوله: «أيها الغريب، لا يحق لي أن أستهين بغريب، مهما كان، حتى ولو كان شخصا أكثر منك وضاعة؛ لأن جميع الغرباء والسائلين من زوس، والهدية، مهما صغرت، يرحب بها أمثالنا؛ حيث إنها نصيب العبيد، الذين يعيشون في خوف دائم متى تسلط عليهم سادتهم أشباه الملوك - سادة صغار كسادتنا - لأن الآلهة، بحق قد منعت عودة ذلك الذي كان يحبني ويعطف علي العطف كله، ويهبني أنا نفسي ممتلكات، منزلا وقطعة أرض، وزوجة، تقدم إليها كثير من المغازلين، ومثل تلك الأشياء التي يمنحها السيد الرحيم عبده الذي يتعب كثيرا من أجله، والذي يكلل الرب سائر أعماله بالفلاح، كما ينجح هذا العمل، الذي أعيره كل اهتمامي؛ وعلى ذلك ليت سيدي قد طعن هنا في السن، في منزله، وعندئذ كان يكافئني بسخاء، ولكنه هلك - كما أظن أن جميع أقارب هيلينا
Helen
2
قد هلكوا في خراب شامل؛ إذ إنها أرخت ركب محاربين عديدين. ولقد رحل هو أيضا إلى إليوس لكسب التعويض لأجاممنون، ليقاتل الطرواديين في إليوس الشهيرة بجيادها.»
يومايوس يكرم أوديسيوس ويحدثه عن سيده الغائب
ما إن قال هذا حتى شد مدرعته بحزامه في سرعة، وذهب إلى الحظائر، حيث كانت قطعان الخنازير محبوسة. وبعد أن انتقى منها خنزيرين، أحضرهما إلى الداخل ونحرهما كليهما، وهو يغني، وقطع أجزاءهما، ووضعها في السفود وبعد أن نضج الشواء، حمله كله ووضعه أمام أوديسيوس ساخنا فوق السفافيد، ونثر فوقها مطحون الشعير الأبيض. وبعد ذلك خلط في طاس من خشب العليق خمرا في حلاوة العسل، وجلس هو نفسه قبالة أوديسيوس، يأمره بتناول الطعام، قائلا: «تفضل الآن، أيها الغريب بتناول هذا الطعام الذي يقدمه الخدم، لحم الخنانيص؛ إذ إن الخنازير المسمنة يأكلها المغازلون الذي لا يتقون غضب الآلهة في قرارة نفوسهم، وليس في قلوبهم أي عطف. حقا إن الآلهة المباركة لا تحب أعمال الرعونة، بل تبجل العدالة وأعمال البشر العادلة. أما الأعداء القساة الذين يطئون بأقدامهم أرض غيرهم، ويعطيهم زوس الغنيمة، فيملئون سفنهم ويرحلون إلى أوطانهم - ولكن على قلوب هؤلاء ينزل خوف عظيم من غضب الآلهة - ولكن هؤلاء الرجال هنا، يشاهدونك ويعرفون شيئا ما، وقد سمعوا صوت بعض الآلهة فيما يختص بميتة سيدي المؤسفة، حيث إنهم لا يغازلون بأي حق، ولن يعودوا إلى بيوتهم بل يطلقون لأنفسهم الحبل على الغارب فيبددون أموالنا بطريقة وقحة، فلا يبقى هناك أي فائض. وكل يوم وليلة يأتيان من لدن زوس، لا يقدمون فيهما ذبيحة واحدة ولا اثنتين فقط، بل يأخذون الخمر، ويسرفون في شربها بصفة وقحة. لقد كانت أموال سيدي بحق تفوق الحصر، وما كان لديه لم يكن لدى سيد آخر، لا فوق اليابسة المظلمة، ولا في إيثاكا نفسها، كلا، فلم يملك، حتى عشرون رجلا معا ثروة عظيمة كتلك. وللعجب، أنني سوف أروي لك القصة، فكان له اثنا عشر قطيعا من الأبقار فوق اليابسة، وقطعان كثيرة من الأغنام، وقطعان عديدة من الخنازير، وكثير من قطعان الماعز بقدر ما يستطيع الرعاة أن يرعوا، سواء أكانوا من الأجانب أو من أبناء شعبه. وهنا أيضا ترعى قطعان هائمة من الماعز فوق حدود الجزيرة، تعدادها أحد عشر قطيعا، يقوم بحراستها رجال ثقات. وكل رجل من هؤلاء يأخذ باستمرار، يوما بعد يوم عنزا من قطيعه إلى المغازلين، خير ما عنده من المعيز المسمنة. أما أنا ، فأحرس وأرعى هذه الخنازير، وأنتقي بعناية خير الخنازير الذكور فأرسله إليهم.»
أوديسيوس يسأل الراعي مزيدا من المعلومات عن سيده
هكذا قال، بينما كان أوديسيوس يلتهم اللحم في شغف
3
ويشرب الخمر، بنهم وهو صامت، يدبر الشر للمغازلين،
4
فلما فرغ من الطعام، وملأ بطنه،
5
أخذ راعي الخنازير الكأس التي كان من عادته أن يشرب فيها، وملأها خمرا، وقدمها لأوديسيوس مملوءة بالخمر حتى نهايتها، فتناولها، وسر في قلبه، وتكلم، يخاطبه بعبارات مجنحة،
6
قائلا: «أي صديقي، من ذا الذي اشتراك بأمواله، أهو رجل في غاية الثراء والقوة، كما تصف؟ قلت إنه مات ليكسب التعويض لأجاممنون، أخبرني باسمه، فربما عرفته، إذا كان هو بذلك الوصف؛ لأنه في اعتقادي، أن زوس والآلهة الخالدين الآخرين يعلمون ما إذا كنت قد رأيته، وأستطيع أن أخبرك عنه شيئا؛ لأنني تجولت في بلاد بعيدة.»
يومايوس يشيد بسيده وبشوقه إلى رؤيته
فرد عليه بعد ذلك راعي الخنازير، قائد البشر، فقال: «أيها العجوز، ما من جائل قد جاء بنبأ عنه واستطاع أن يجعل زوجته وابنه العزيز يصدقانه، كلا، إن أخبارهم كلام عابر كيفما اتفق، فإذا ما احتاج أبناء السبيل إلى من يدعوهم إلى داره، ويكرمهم، جلسوا وليس في نيتهم أن يقولوا الحقيقة. وكل من أتى في رحلاته إلى بلاد إيثاكا، ذهب إلى سيدتي وقص على مسامعها حكاية خداعة. وإذ تستقبله بكرم، تقدم له وليمة وتسأله عن كل شيء، فتذرف العبرات من مقلتيها، وهي تبكي كما هو سبيل المرأة، عندما يموت زوجها بعيدا، وما أسرعك أنت أيضا، أيها العجوز، أن تحيك قصة، لو أن أحدا أعطاك عباءة وجلبابا ترتديها! أما عن سيدي، فمن المحتمل أن تكون الكلاب والطيور السريعة قد مزقت اللحم من عظامه وفارقته روحه، أو أن الأسماك قد أكلته في البحر، وعظامه ملقاة على أحد الشواطئ، يغطيها الرمل العميق. هكذا باد هو هناك، وقدر الحزن لأهله في الأيام المقبلة، للجميع، بل لي أنا بصفة خاصة؛ لأنني لن أجد قط سيدا بتلك الطيبة، مهما بعد المكان الذي أذهب إليه، ولا حتى إذا عدت ثانية إلى بيت أبي وأمي، حيث ولدت منذ البدء، وقاما أنفسهما بتنشئتي. ومع ذلك فلن أبكيهما هكذا كثيرا منذ الآن، رغم اشتياقي إلى أن تراهما عيناي وإلى أن أكون في وطني، كلا، فلا يتملكني الشوق إلا إلى أوديسيوس، الراحل. إنني أذكر اسمه بالاحترام، أيها الغريب، بالرغم من غيابه؛ لأنه كان يحبني حبا جما، وكان يهتم بي في قلبه غاية الاهتمام، وإنني لأدعوه مولاي المحبوب، رغم عدم وجوده هنا.»
أوديسيوس يقسم للراعي بأن سيده سيعود
عندئذ أجابه أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، قائلا: «أيها الصديق، ما دمت تنكر نكرانا باتا، وتعلن أن أوديسيوس لن يعود ثانية، وقلبك دائما عديم الإيمان، إذن فسأخبرك ليس مجرد إخبار كيفما اتفق ولكن بالقسم، أن أوديسيوس سيعود. ودعني أنل جائزة على أنني قد حملت لك نبأ مفرحا؛ فبمجرد مجيئه، ووصوله إلى البيت، عليك أن تلبسني عباءة وجلبابا، من الملابس الأنيقة، ولكني لن أقبل شيئا قبل ذلك، مهما كانت حاجتي شديدة؛ لأنني أمقت ذلك الرجل، الذي، وقد استسلم لضغط الفقر، فأخذ يقص حكايات خداعة، بقدر مقتي لأبواب هاديس. والآن، كن شاهدي يا زوس، يا من تعلو على جميع الآلهة، وأنت أيتها المائدة المضيافة، ويا مدفأة أوديسيوس النبيل التي قد جئت إليها، بأنه ستتحقق كل هذه الأشياء التي سأخبرك بها. في خلال نفس هذا اليوم،
7
سيأتي أوديسيوس إلى هنا، بمجرد أن يأفل القمر القديم ويظهر القمر الجديد. إنه سيعود وينتقم من جميع أولئك الذين هنا لا يبجلون زوجته ولا ابنه المجيد.»
يومايوس لا يصدق كلام أوديسيوس
فرددت عليه إذن، يا يومايوس راعي الخنازير فقلت: «أيها العجوز، يبدو أنني لن أمنحك هذه الجائزة على الإتيان بالبشرى المفرحة، كما أن أوديسيوس لن يعود قط إلى بيته، كلا يا سيدي اشرب في سلام، ودعنا نفكر في أشياء أخرى، ولا تعد إلى ذهني هذه الذكرى؛ إذ يتملك الحزن قلبي الكائن في صدري كلما ذكر أحد شيئا عن سيدي الطيب . أما قسمك، فلنتركه كما هو، ومع ذلك فإنني أتمنى أن يجيء أوديسيوس، كما أشتهي أنا وبينيلوبي، والعجوز لايريتس، وتيليماخوس الشبيه بالإله. وها أنا ذا الآن لا أكف عن الحزن، من أجل تيليماخوس الذي أنجبه أوديسيوس؛ فعندما جعلته الآلهة بنمو فارع الطول أشبه بعود الزان، ظننت أنه لن يكون بين البشر، بأية حال، أقل من أبيه العزيز، رائع المنظر والقوام، ولكن أحد الخالدين شوه روحه الحكيمة في داخله، أو ربما كان شخصا ما، فذهب إلى بولوس المقدسة يستقي الأخبار عن والده، فإن المغازلين الأمجاد ليكمنون له وهو عائد من رحلته إلى الوطن، كي يهلك نسل أركايسيوس
Arceisius
الشبيه بالإله ويبيدوا من إيثاكا، فلا يبقى له اسم. بيد أننا ولا ريب سنبقيه؛ فقد يؤسر، أو قد يهرب، وعندئذ يمد ابن كرونوس يده ليحميه، ولكن، هيا الآن، أيها الرجل العجوز، أخبرني عن همومك، وأعلنها لي في صراحة، كي أكون على علم تام بكل شيء، من أنت بين البشر، ومن أين قدمت؟ أين مدينتك، وأين والداك؟ على أي نوع من السفن أتيت، وكيف جاء بك البحارة إلى إيثاكا؟ وما جنسيتهم التي أخبروك بها؟ لأنه، حسب اعتقادي، لم تأت، بأية حال من الأحوال، ماشيا على قدميك إلى هنا.»
أوديسيوس يصارح الراعي بكل شيء عن نفسه
عندئذ أجابه أوديسيوس، الكثير الحيل، بقوله: «إذن فلأروين لك حقا كل شيء في صراحة. ليتنا الآن نحن الاثنين نتناول الطعام والخمر العذبة في الحال، كي نولم هنا في كوخك في هدوء بينما ينصرف الآخرون هنا وهناك إلى أعمالهم؛ فعندئذ يكون من السهل أن أقص عليك حكايتي وأستمر في سردها سنة كاملة، ومع ذلك فلن أنتهي من قصة المحن التي كابدتها روحي؛ جميع المهام التي تحملتها بإرادة الآلهة.
لقد أتيت من كريت الفسيحة، وإنني بالنسب، ابن رجل ثري. وقد ولد ونشأ له أبناء كثيرون غيري في ساحاته، أبناء حقيقيون من زوجة شرعية، ولكن الأم التي أنجبتني اشتريت، لقد كانت خليلة. ومع ذلك فإن كاستور
Castor ، ابن هولاكوس
Hylax
الذي أعلن أنني أنحدر منه، قد بجلني تماما كأبنائه الحقيقيي المولد. وكان هو في ذلك الوقت مبجلا كإله وسط الكريتيين في البلاد من أجل ضيعته العظيمة وثروته، وأبنائه الأمجاد. غير أن مقادير الموت حملته بعيدا إلى بيت هاديس، واقتسم أبناؤه المتغطرسون ثروته فيما بينهم، مقترعين عليها. أما أنا فأعطوني حصة ضئيلة وخصوني بمسكن، فاتخذت لي زوجة من بيت ثري واسع الممتلكات؛ إذ حظيت بها بشجاعتي؛ لأنني لم أكن آنئذ ضعيفا، ولا رعديدا في القتال. والآن قد غادرتني كل تلك القوة، ومع ذلك فبالرغم من هذا، تستطيع إذا ما نظرت إلى حطامي الباقي، أن تحكم، حسب اعتقادي، بما كان لي من قوة؛ فالمصائب تحيط بي، حقا، بأقصى درجة. غير أن أريس وأثينا، منحاني الشجاعة وقتئذ والقوة التي تحطم صفوف الرجال، وكلما نصبت كمينا لمن أختاره من خيرة المحاربين، باذرا لعدوي بذور الشر، ما كانت روحي الشامخة ترهب الردى، بل كنت البادئ بالانقضاض على العدو، وقتله برمحي، وهو يطلق العنان لقدميه فرارا من أمامي.
8
هكذا كنت أنا في الحرب، أما العمل في الحقل فلم يكن حبيبا إلى نفسي إطلاقا، ولا الاهتمام بشئون البيت، التي تنشئ خير الأطفال، بل كنت أميل دائما إلى السفن ذات المجاذيف، شغوفا بالحروب، والرماح المصقولة، والسهام، أدوات الجد، التي كان من عادة غيري أن يرتعد منها، ولكن تلك الأشياء، كما أعتقد، كانت عزيزة عندي؛ إذ وضعها الرب في قلبي؛ لأن مختلف الرجال يجدون متعة في شتى الأعمال؛ فقبل أن تطأ أقدام أبناء الآخيين أرض طروادة، كنت تسع مرات قد اضطلعت بقيادة محاربين وسفن سريعة الإبحار ضد أقوام أجانب، وسقطت في يدي الغنائم الهائلة في كل مرة، فكنت أختار منها ما يروقني، كما كنت أنال كثيرا منها بالاقتراع. بهذه الطريقة أثري منزلي بسرعة، وصرت فيما بعد رجلا يخشى بأسه ومبجلا وسط الكريتيين.
بيد أنه عندما دبر زوس، الذي يحمل صوته نائيا تلك الرحلة الممقوتة التي أرخت ركب كثير من المحاربين؛ عندئذ أمروني، أنا وإيدومينوس المجيد بأن نتولى قيادة السفن إلى إليوس، ولم يكن هناك سبيل لأن نرفض؛ إذ أخذ صوت الشعب يضغط علينا بشدة، فحاربنا هناك، نحن أبناء الآخيين، لمدة تسع سنوات، وفي السنة العاشرة سلبنا مدينة بريام، ورحلنا في السفن إلى وطننا، وبدد أحد الآلهة شمل الآخيين. أما أنا الرجل الشقي، فقد دبر لي الشر، زوس، المستشار. بقيت في سرور مع أولادي، لمدة شهر واحد، ومع زوجتي الشرعية، وسط ثروتي، غير أن روحي أمرتني بعد ذلك بالسفر إلى مصر مع رفقائي الشبيهي بالآلهة، بعد أن زودت سفني جيدا بالمعدات، تسع سفن أعددتها، وتجمع الجيش في سرعة. راح زملائي الأوفياء، بعد ذلك، يولمون لمدة ستة أيام، وأعطيتهم كثيرا من الذبائح، كي يقدموها للآلهة، ويعدوا وليمة لأنفسهم، وفي اليوم السابع ركبنا السفن وأقلعنا من كريت الفسيحة، بينما تهب الريح الشمالية رقيقة ومعتدلة، وأخذنا نشق طريقنا في سرعة وسهولة كأننا مع التيار. ولم تصب أية سفينة من سفني بضرر ما، بل كنا نجلس في منحنى من الشر والمرض، وطفقت الريح ومدير الدفة يقودان السفن.
وصلنا في اليوم الخامس إلى أيجوبتوس
Aegyptus
الهادئ الجريان، فأرسيت سفني المقبية في نهر أيجوبتوس؛ عندئذ أمرت زملائي المخلصين بالبقاء هناك بجوار السفن، وبحراستها، وأرسلت العيون إلى أماكن الاستطلاع. غير أن رفقائي، وقد خلعوا عذارهم للشهوة، مدفوعين بما لديهم من قوة، راحوا من فورهم يخربون حقول رجال مصر الجميلة، وخطفوا النساء وصغار الأطفال، وقتلوا الرجال، فبلغ الصراخ بسرعة المدينة، فلما سمع أهلها الصياح، هرع الناس مع الفجر، وامتلأ السهل كله بالمشاة، وبالعربات وببريق البرونز، ولكن زوس، الذي يقذف بالصاعقة، ألقى ذعرا رهيبا على رفاقي، ولم تعد لدى أي واحد منهم الشجاعة للثبات ومواجهة العدو؛ إذ أحاط بنا الأذى من كل ناحية؛ وعلى ذلك قتلوا منا بالبرونز الحاد نفرا كثيرا، وأسروا آخرين إلى مدينتهم، ليسخروهم بالقوة في أعمالهم، أما أنا فقد ألهمني زوس هذه الفكرة - وليتني مت ولقيت حتفي هناك في مصر؛ إذ كان الحزن يرحب بي وقتئذ، - فأسرعت بخلع خوذتي الجيدة الصنع عن رأسي، وألقيت بالترس عن كتفي، وتركت الرمح يسقط من يدي، وانطلقت نحو جياد عربة الملك، وعندئذ أمسكت ركبتيه، وقبلتها فأعتقني وأشفق علي، فأركبني في عربته وأخذني، وأنا أبكي إلى منزله. والحق أن كثيرين منهم هجموا علي برماحهم الدردارية، قاصدين قتلي؛ إذ كانوا يتميزون حنقا، ولكنه أبعدهم، محترما غضب زوس، رب الغرباء، الذي يحتقر الأعمال الشريرة أكثر من جميع الآخرين.
بقيت هناك سبع سنوات، جمعت في خلالها ثروة طائلة من المصريين؛ إذ قدم لي الجميع الهدايا. بيد أنه عندما وافت السنة الثانية الدوارة، أقبل رجل من فينيقيا
،
9
على شيء كثير من البراعة في الخداع، خبيث وطماع، فحاك لي الشر العظيم وسط الناس. لقد بذني في دهائه، وصحبني معه حتى بلغنا فينيقيا، حيث يوجد بيته وممتلكاته، ومكثت معه في هذا المكان سنة كاملة. وما إن اكتملت الشهور والأيام أخيرا، بمرور العام، وأقبلت الفصول، حتى وضعني على ظهر سفينة عابرة للبحار متجهة نحو ليبيا،
10
بعد أن ادعى كاذبا أنني سأحمل له شحنة إلى هناك، ولكنه كان يقصد أن يبيعني بثمن مرتفع؛ وعلى ذلك ركبت معه السفينة، وأنا أشك في نيته وخداعه، ولكن لم تكن لي حيلة، فأخذت السفينة تمخر عباب اليم أمام الريح الشمالية التي كانت تهب عليلة هادئة، متخذة طريقها وسط البحر نحو ريح كريت، ودبر زوس الهلاك للرجال. وعندما غادرنا كريت، وابتعدنا عن اليابسة فلم نعد نراها، بل ما كنا نبصر غير السماء والبحر، أرسل ابن كرونوس غمامة سوداء فوق السفينة الواسعة، فشمل الظلام البحر أسفلها، وعندئذ أرعد زوس، وقذف صاعقته على السفينة، فترنحت من حيزومها إلى كوثلها، وقد أصابتها صاعقة زوس، فامتلأت بدخان الكبريت، ووقع جميع البحارة خارج السفينة، فحملتهم الأمواج حول السفينة السوداء، كأنهم غربان، وسلبهم الرب عودتهم. أما أنا فقد تحنن علي زوس عندما فاض قلبي بالمحن، فوضع في يدي صاري السفينة الدكناء المقدمة المتموج
11
كي أستطيع النجاة مرة أخرى من الهلاك، فتشبثت به، وحملتني الرياح العاتية. وهكذا بقيت محمولا تسعة أيام حتى كانت الليلة العاشرة الظلماء حملتني اللجة المتدحرجة إلى بلاد الثيسبروتيس
Thesprotians ، فأخذني السيد فايدون
ملك الثيسبروتيس، ولم يطلب مني فدية؛ إذ وجدني ابنه العزيز، وقد برح بي القر والتعب، فرفعني من يدي، وقادني حتى بلغت قصر أبيه، وألبسني معطفا وعباءة يستران جسدي.
12
هناك سمعت عن أوديسيوس؛ لأن الملك قال إنه أكرم وفادته، ورحب به وهو في طريقه إلى وطنه، وأراني جميع الكنوز التي جمعها أوديسيوس، من البرونز والذهب والحديد، مصنوعة بمهارة، والحق يقال إنها لتكفي إطعام أطفاله حتى الجيل العاشر من بعده؛ فلقد كانت الثروة الموضوعة في ساحات الملك محفوظة له، عظيمة بالغة، ولكنه قال، إن أوديسيوس قد رحل إلى دودونا
Dodona ،
13
ليعرف مشيئة زوس من شجرة بلوط الرب الشامخة، وكيف يستطيع العودة إلى أرض إيثاكا الخصبة بعد مثل ذلك الغياب الطويل، سواء عرف ذلك جهرا أو سرا. وزيادة على ذلك فقد أقسم في حضوري، وهو يصب السكائب في بيته، أن السفينة قد أنزلت إلى الماء واستعد الرجال الذين كان عليهم أن يحملوه إلى وطنه العزيز غير أنه أرسلني أنا أولا؛ إذ تصادف أن كانت إحدى سفن الثيسبروتيس راحلة إلى دوليخيوم
Dulichium ، محملة قمحا، فأمرهم أن ينقلوني إلى هناك في عناية كريمة، إلى الملك أكاستوس
Acastus ،
14
بيد أن رأيا شريرا لقي الحظوة في قلوبهم، لكي ينالني أنا أيضا شقاء شامل؛ فما إن ابتعدت السفينة ماخرة البحار عن اليابسة، حتى سعوا إلى أن يدفعوني من فورهم إلى يوم العبودية، فجردوني من ملابسي، معطفي وعباءتي، وألبسوني ملابس أخرى، معطفا وعباءة حقيرين مهلهلين، هي هذه الأسمال البالية التي تراها أمام عينيك، ولما أقبل المساء بلغوا حقول إيثاكا المفلوحة البادية للناظرين.
فقيدوني بعد ذلك بحبل مفتول، وربطوني في السفينة ذات المقاعد، ونزلوا هم أنفسهم إلى الشاطئ، وأسرعوا يتناولون عشاءهم بجوار شاطئ البحر. أما أنا فقد حلت الآلهة أنفسها قيودي في سهولة تامة، وبعد أن لففت العباءة المهلهلة حول رأسي، انزلقت أسفل الدفة
15
الملساء، متجها بصدري نحو البحر، ثم أخذت أضرب الماء بكلتا يدي، وسبحت، وبغاية السرعة كنت خارج اليم، بعيدا عنهم. بعد ذلك صعدت إلى مكان دغل من الأشجار الكثيفة الأوراق، حيث بقيت مختبئا .
فأخذوا يبحثون عني هنا وهناك وهم يرسلون الصيحات عالية، ولكن لما بدا لهم عدم جدوى التوغل في البحث، عادوا أدراجهم إلى ظهر سفينتهم الواسعة. وكانت الآلهة أنفسها قد أخفتني في سهولة، وأحضرتني بقيادتها إلى صنيعة رجل حكيم؛ لأنه كان لا يزال من حظي أن أعيش.»
يومايوس لا يصدق رواية أوديسيوس
فأجبته إذن يا راعي الخنازير يومايوس، وقلت: «يا لك من رجل غريب تعيس! لقد أثرت حقا في قلبي، تأثيرا عميقا، بسردك كل قصة متاعبك وتجوالاتك، ولكنك في هذا، حسب اعتقادي، لم تذكر الحقيقة، كما أنك لن تجعلني بها أصدق ما رويته عن أوديسيوس، لماذا تبقى أنت، يا من عانيت مثل هذه الأهوال، بدون قصد؟ كلا، فإنني من تلقاء نفسي أعرف جيدا ما يتعلق بعودة سيدي، إنه كان ممقوتا أشد المقت لدى جميع الآلهة؛ ولذلك لم يقتلوه وسط الطرواديين، أو بين سواعد أصدقائه، عندما انتهى من معمعان القتال؛ عندئذ كان سائر جيش الآخيين قد أقاموا له قبرا، وكان ينال ابنه كذلك بالغ المجد في الأيام المقبلة، ولكن الذي حدث أن أرواح العاصفة جرفته بعيدا، ولم تترك عنه أي خبر. وأنا من ناحيتي، أعيش هنا منعزلا مع خنازيري، لا أذهب إلى المدينة، إلا إذا تصادف أن أمرتني بينيلوبي العاقلة بالتوجه إليها، عندما يصلها نبأ من أي مكان؛ عندئذ يجلس الناس حول من أتى بالأخبار، ويسألونه عن قرب، أولئك الذين يحزنون من أجل سيدهم، الذي رحل منذ مدة طويلة، ومن يغتبطون وهم يأكلون أمواله بدون كفارة. أما أنا فلا أهتم بالسؤال أو الاستفسار، منذ أن خدعني رجل إيتولي بقصة، رجل كان قد قتل شخصا آخر، وبعد أن هام على وجهه عبر الأرض الفسيحة جاء إلى منزلي، فأحسنت استقباله والترحيب به، قال إنه رأى أوديسيوس وسط الكريتيين في قصر إيدومينيوس، يرمم سفنه التي حطمتها الأعاصير، وأخبرنا أن أوديسيوس سيجيء إما صيفا وإما في فصل الحصاد، يحمل معه كنزا عظيما مع رفقائه الشبيهي الآلهة. كذلك أنت، أيها الرجل العجوز، يا من قاسيت كثيرا من الأحزان ، فطالما أن أحد الآلهة قد أحضرك إلي، فلا تحاول أن تكسب رضاي بالأكاذيب ، ولا أن تتملقني بأية حال من الأحوال، فلن أبدي احترامي لك أو العطف نحوك بسبب تلك المختلقات، وإنما خوفا من أوديسيوس، إله الغريب، وشفقة بك.»
أوديسيوس والراعي يعقدان ميثاق اتفاق
عندئذ أجابه أوديسيوس ذو الحيل العديدة، قائلا: «حقا يا لك من رجل في صدره قلب بطيء الإيمان! إذ إنني، وقد أقسمت لك هكذا، لم أقنعك ولم أحرك فيك ساكنا، ولكن هلم بنا الآن، دعنا نعقد ميثاقا فيما بيننا، ولسوف تكون الآلهة التي تحتل أوليمبوس شهيدة على كلينا مستقبلا. إذا عاد سيدك إلى هذا المنزل، أن تلبسني معطفا وعباءة، وترسلني في طريقي إلى دوليخيوم، حيث يطيب لي المقام. أما إذا لم يأت سيدك كما أقول، فأطلق العبيد علي، واقذف بي من فوق صخرة ضخمة، حتى أكون عبرة لشحاذ آخر فلا يلجأ إلى الخداع.»
فرد عليه راعي الخنازير العظيم، وقال: «ليكن هذا، أيها الغريب، وعندئذ حقا أستطيع الفوز بالصيت الجميل بين البشر الآن وفيما بعد؛ إذ إنني أنا الذي آويتك في كوخي، وقدمت لك القرى، قتلتك، وسلبتك، حياتك الغالية. إذن يحق لي أن أصلي بقلب مستعد إلى زوس بن كرونوس. والآن، ها قد حان موعد العشاء، وسيأتي زملائي إلى هنا سريعا، فيمكننا إذن أن نعد في الكوخ عشاء شهيا.»
يومايوس يقيم وليمة لأوديسيوس
هكذا قال كل منهما للآخر، ثم اقتربت الخنازير ورعاتها، فأقفلوا على الخنازير حظائرها المعتادة لكي تنام، فأخذت تطلق صيحات عجيبة، وهي تحبس في الحظائر، ثم نادى راعي الخنازير الطيب رفاقه، قائلا: «إيتوني بخير ما لديكم من ذكور الخنازير كي أذبحه لهذا الضيف الغريب القادم من بلاد نائية، كما أننا أيضا سوف ننال منه شيئا، نحن الذين طالما تحملنا العناء والتعب من أجل هذه الخنازير ذات الأنياب البيض بينما يأكل آخرون ثمرة جهودنا بدون وجه حق.»
ما إن قال هذا حتى أخذ يشق بعض الأخشاب بالبرونز القاسي، وجاء الآخرون بخنزير مسمن ذي خمس سنوات، ووضعوه بجانب الوطيس . ولم ينس راعي الخنازير الخالدين؛ إذ كان ذا قلب مدرك، فرمى في النار شعرا خشنا من رأس الخنزير الأبيض النابين كتقدمة أولى، وصلى لجميع الآلهة طالبا عودة أوديسيوس العاقل إلى منزله ثم نهض، وهوى على الخنزير بقطعة من شخب البلوط، كان قد تركها وهو يشق الأخشاب، فغادرت روح الخنزير جسده، فقطع الآخرون رقبة الخنزير، وفصلوها وبسرعة قطعوه إلى أجزاء، وكتقدمة أولى أخذ راعي الخنازير قطعا من اللحم النيئ من جميع أطرافه، ولفها بشيء كثير من الدهن. وهذه ألقاها في النار بعد أن نثر فوقها طحين الشعير، أما ما بقي من الخنزير فقطعوه وسفدوه، وبعد أن أتقنوا شواءه، أخرجوه جميعه من النار، وجعلوه أكواما في قصعات. بعد ذلك وقف راعي الخنازير ليقطع؛ إذ كان ماهرا في التوزيع بالعدل، فأخذ الجذع وقطعه وقسمه إلى سبعة أنصبة، وضع أحدها جانبا وهو يصلي من أجل الحوريات وهيرميس بن ميا
Maia ،
16
ثم وزع الباقي على كل فرد. وقد أكرم أوديسيوس فخصه بالسلسلة الطويلة لظهر الخنزير ذي النابين الناصعي البياض، فأدخل بذلك السرور إلى نفس سيده، فخاطبه أوديسيوس، ذو الحيل الكثيرة، قائلا: «أيا يومايوس، أرجو أن تكون عزيزا لدى الأب زوس بقدر ما أنت عزيز لدي، حيث إنك قد خصصتني بنصيب طيب، رغم كوني في مثل هذه المسغبة.»
إذن أجبته يا يومايوس، يا راعي الخنازير، فقلت: «تفضل،
17
أيها الضيف الشقي، وتمتع بما هنا من طعام. إنه الرب الذي يعطي رجلا شيئا ويمنعه آخر. كما يبدو حسنا لفؤاده؛ إذ هو قادر على كل شيء.»
هكذا قال ثم قدم الأطراف كتقدمة للآلهة الخالدين، وبعد أن صب السكائب من الخمر الصهباء، وضع الكأس في يدي أوديسيوس، مخرب المدن، ثم استوى في مجلسه بجانب نصيبه. وقدم ميساوليوس
Mesaulius ، الذي حصل عليه راعي الخنازير لنفسه وحده، الخبز، وقد اشترى الراعي ذلك العبد من التافيين بأمواله دون علم سيدته أو العجوز لايرتيس. وهكذا مدوا أيديهم إلى الخير الشهي الموضوع أمامهم. وبعد أن تناولوا من الطعام والشراب ملء بطونهم، رفع ميساوليوس الطعام، وعندئذ رغبوا في الذهاب إلى راحتهم، بعد أن شبعوا من الخبز واللحم.
أوديسيوس يعجم عود راعي الخنازير
عندئذ أقبل الليل، دامسا بدون قمر، وأمطر زوس طوال الليل كله. وهبت الريح الغربية، الدائمة الأمطار، في عنف بالغ، فتحدث أوديسيوس في وسطهم، عاجما عود راعي الخنازير، ليرى ما إذا كان يمكنه أن يخلع عباءته ويعطيه إياها، أو إذا كان سيأمر شخصا آخر من رفاقه بأن يفعل ذلك، حيث إنه كان يحتفي به احتفاء بالغا فقال: «استمع إلي الآن، يا يومايوس، وأنتم يا سائر رجاله جميعا، فسأقص عليكم حكاية من تلقاء نفسي؛ إذ تأمرني بذلك الخمر الدنسة، التي تدفع المرء، مهما كان حكيما، إلى الاسترسال في الغناء والضحك، وتزين له أن ينهض فيرقص، نعم وتخرج من بين شفتيه ألفاظا، من الحكمة الإمساك بها. ومع ذلك، فبما أنني قد صارحتكم القول من قبل، فلن أخفي الآن شيئا. ليتني كنت شابا في قوتي المكينة التي كانت لي عندما أعددنا الكمين، وأحكمنا إعداده تحت أسوار طروادة. كان قادة ذلك هم أوديسيوس ومينيلاوس بن أتريوس، وأنا ثالثهم؛ لأنهما هكذا دبرا الأمر بأنفسهما. وعندئذ لما بلغنا المدينة وحائطها الشديد الانحدار، الذي يطوق المدينة، فرقدنا في الغابة الكثيفة بين القصب والأرض الموحلة، محتجبين بسواعدنا، ثم أقبل الليل، داجيا عندما هبت الريح الشمالية، وكانت شديدة البرودة، وهطل الثلج علينا من فوقنا، فغطانا كأنه الصقيع، البالغ البرودة، وتراكم الثلج فوق دروعنا. كان لدى الجميع معاطف وعباءات، فناموا في سلام، واضعين دروعهم فوق أكتافهم، ولكنني، عندما ظعنت، كنت قد تركت عباءتي ورائي، مع رفاقي في حماقتي؛ لأنني لم أكن أتصور أن سيبلغ بي القر تلك الدرجة، وجئت بدرعي فقط وبخوذتي اللامعة. بيد أنه عندما كان الهزيع الثالث من الليل، وقد دارت النجوم في فلكها، تحدثت إلى أوديسيوس الذي كان قريبا مني، واكزا إياه بمرفقي، فأصغى إلي من فوره، وقلت له: «يا ابن لايرتيس، يا سليل زوس، يا أوديسيوس الكثير الحيل، العجيب، إنني لن أكون الآن بين الأحياء. كلا، فإن الزمهرير ليقتلني، لعدم وجود عباءة معي ؛ فإن أحد الآلهة قد خدعني فارتديت عباءتي ليس غير، والآن ليس هناك أي مجال للنجاة.»
هكذا قلت، وبعد ذلك دبر الخطة التالية في فؤاده؛ إذ كان داهية في وضع الخطط وفي القتال، فتكلم بصوت منخفض، وقال لي: «صه الآن، خشية أن يسمعك شخص آخر من الآخيين.»
بهذا رفع رأسه فوق مرفقه، وتحدث، قائلا: «أصغوا إلي، يا أصدقائي، لقد جاءني حلم، من لدن الآلهة، في نومي. وا عجباه! لقد وصلنا بعيدا جدا عن السفن، وكنت أتمنى أن يكون هناك من يحمل كلمة إلى أجاممنون بن أتريوس، قائد الجيش، عسى أن يأمر عددا أكبر من الرجال بأن يحضر من السفن.»
هكذا قال، فقفز ثواس
Thoas
18
ابن أندرايمون
Andraemon ، ناهضا في سرعة وخلع عنه عباءته الأرجوانية وشرع يجري إلى السفن، فأخذت رداءه، ورقدت فيه مسرورا بعد ذلك، ثم لاح الفجر الذهبي العرش. كم أتمنى أن أكون شابا يافعا كما كنت في ذلك الوقت، في قوتي البالغة؛ عندئذ كان أحد رعاة الخنازير في هذه الضيعة يعطيني عباءته بدافع الشفقة وبدافع تبجيل محارب مقدام، ولكنهم يحتقرونني، كما هو الحال؛ لأنني أرتدي أسمالا بالية.»
يومايوس يفوز بثقة أوديسيوس
إذن رددت عليه يا يومايوس، يا راعي الخنازير، فقلت: «ما أجمل القصة التي رويتها، أيها الرجل العجوز! وحتى الآن لم تنطق بشيء خارج أو عديم الجدوى؛ ومن ثم فلن يفتقر متضرع في شدة التعب، إلى ملبس أو إلى أي شيء آخر، عندما يقابل امرأ - لهذه الليلة على الأقل. أما في الصباح فسوف تخلع عنك هذه الملابس الرثة؛ إذ ليس هنا عباءات كثيرة أو معاطف يمكنك أن ترتديها، ولكن لكل رجل عباءة واحدة فقط. وعندما يجيء ابن أوديسيوس العزيز، سيعطيك أنت نفسك معطفا وعباءة تلبسهما، وسيرسلك إلى أي مكان يريد قلبه وروحه أن يرسلاك إليه.»
ما إن قال هذا، حتى نهض وأعد فراشا لأوديسيوس، بالقرب من الوطيس، ووضع فوقه جلود الأغنام والماعز، فرقد أوديسيوس هناك، وغطاه راعي الخنازير بعباءة عظيمة سميكة، كان يحتفظ بها كرداء له إذا ما هبت ريح عاتية .
وهكذا نام أوديسيوس هناك، ونام إلى جانبه الرجال الشبان. أما راعي الخنازير فلم يكن يروقه فراش في ذلك المكان؛ إذ لا يود أن يرقد بعيدا عن الخنازير وعلى ذلك تأهب للخروج، فسر أوديسيوس أنه كان يعتني كثيرا بأموال سيده في أثناء غيابه، فبدأ يومايوس بأن علق سيفه الحاد فوق كتفيه القويتين، ثم التف بعباءة كثيفة، تدرأ عنه الريح، والتقط جزة ماعز كبيرة مسمنة جيدا، وتناول رمحا حادا ليدفع به الكلاب والرجال، ثم ذهب ليرقد حيث كانت الخنازير ذات الأنياب البيض ترقد أسفل صخرة ضخمة، في مكان لا تصل إليه الريح الشمالية.
الأنشودة الخامسة عشرة
أثينا تنصح تيليماخوس بالعودة إلى الوطن
أما بالاس أثينا فتوجهت إلى لاكيدايموس الفسيحة لتذكر الابن المجيد لأوديسيوس العظيم القلب بأمر عودته، وتعجل قدومه، فوجدت تيليماخوس وابن نسطور المجيد راقدين في البهو الأمامي بقصر مينيلاوس المجيد. وكان النوم الرقيق يسيطر على ابن نسطور، بينما الكرى اللذيذ لم يتمكن من تيليماخوس، بل نفت الأفكار القلقة المتعلقة بأبيه النوم عن عينيه طوال الليل الخالد كله، فوقفت أثينا ذات العينين النجلاوين بالقرب منه، وقالت:
كذلك أنا أقدم لك هذه الهدية، يا ولدي العزيز، ذكرى من يدي هيلينا. «أي تيليماخوس، إنك لا تحسن صنعا بالتجول بعيدا عن بيتك أكثر من ذلك، تاركا وراءك في دارك ثروتك ورجالا على أقصى ما يكون من الصفاقة؛ فقد يخشى أن يقتسموا جمع ممتلكاتك ويبتلعوها؛ وعندئذ تكون رحلتك عبثا. هيا، أنهض مينيلاوس الماهر في صيحة الحرب، بغاية السرعة ليبعث بك في طريقك، حتى تستطيع أن تجد أن أمك النبيلة ما زالت في بيتها؛ لأن أباها الآن وإخوتها يأمرونها بالزواج من يوروماخوس
Eurymachus ،
1
الذي تفوق على سائر المغازلين في هداياه، وقد زاد في هداياه الغزلية، فكن حذرا لئلا تحمل بعيدا عن ساحاتك كنزا ما ضد إرادتك؛ فأنت تعرف أي نوع من الروح يوجد في صدر المرأة. إنها تضع نصب عينيها أن تزيد في منزل الرجل الذي يتزوجها، ولكنها لا تفكر في أطفالها السابقين وفي سيد شبابها، إذا حدث ومات ذات يوم، ولا تهتم فيها بعد ذلك. هيا انطلق وضع بنفسك جميع ممتلكاتك في عهدة أي خادم تراه خيرهم جميعا، وإلى أن توفقك الآلهة إلى عروس نبيلة. وسأقول لك شيئا آخر، يجب أن تضعه في قلبك. إن خير الرجال المغازلين يكمن لك مع سبق الإصرار في المضيق الواقع بين إيثاكا وساموس
2
الوعرة، متلهفا إلى اغتيالك قبل أن تصل إلى وطنك، ولكني أعتقد أن هذا لن يحدث؛ إذ قبل ذلك سوف تغطي الأرض الكثيرين من المغازلين الذين يبددون أموالك، فابتعد دائما بسفينتك المكينة البناء عن الجزر، مبحرا ليلا ونهارا، وهل لذلك الخالد الذي يرعاك ويحرسك، أن يرسل نسيما معتدلا عقب إبحار سفينتك؟ ومتى بلغت أقرب شواطئ إيثاكا، أرسل سفينتك وجميع رفقائك إلى المدينة، وأسرع أنت نفسك بالذهاب إلى راعي الخنازير الذي يحرس الخنازير، ويكن لك في صدره كل عطف. اقض الليل هناك، ومره بالذهاب إلى المدينة ليحمل كلمة إلى بينيلوبي الحكيمة أن تحافظ على سلامتك، وأنك قد عدت من بولوس.»
بايسيستراتوس ينصح يتليماخوس بالتريث
ما إن أفضت إليه بذلك القول حتى انصرفت إلى أوليمبوس الشامخ. أما تيليماخوس فأيقظ ابن نسطور من النوم اللذيذ، ونبهه بأن أمسك بعقبه، وتحدث إليه قائلا: «استيقظ، يا بايسيستراتوس
،
3
يا ابن نسطور، وأحضر جيادك المتلهبة الحوافر،
4
واربطها إلى النير بالعربة، كي يمكننا أن نسرع في طريقنا.»
فأجابه بايسيستراتوس بن نسطور، بعد ذلك بقوله: «أي تيليماخوس، لا نستطيع بأية حال من الأحوال أن نركب خلال الليل الدامس، مهما كان تلهفنا إلى الرحيل، وسرعان ما سيأتي الفجر. إذن انتظر، إلى أن يحضر مينيلاوس، المشهور برمحه، ابن أتريوس، الهدايا ونضعها في العربة، ويرسل بنا في طريقنا بعبارات الوداع الرقيقة؛ فإن الضيف ليذكر في جميع أيامه، ذلك المضيف الذي يبدي له العطف.»
مينيلاوس يبدي استعداده لمساعدة تيليماخوس
هكذا قال، وفي الحال أقبل الفجر الذهبي العرش؛ وعندئذ أقبل إليهما مينيلاوس، الرائع في صيحة الحرب، ناهضا من عربته من جانب هيلينا الجميلة الغدائر، فما إن أبصر به الأمير العزيز ابن أوديسيوس، حتى أسرع يرتدي مدرعته البراقة، ويضع فوق كتفيه القويتين عباءته العظيمة، وذهب قدما، ثم تقدم تيليماخوس العزيز، ابن أوديسيوس المقدس، من مينيلاوس وخاطبه بقوله: «أي مينيلاوس، يا ابن أتريوس، يا ربيب زوس، يا قائد الجيوشن هيا ابعث بي الآن ثانية إلى وطني العزيز؛ فإن قلبي يتوق الآن للعودة إلى الوطن.»
عندئذ أجابه مينيلاوس، الرائع في صيحة الحرب، بقوله: «هيا تيليماخوس، الحق أنني لن أحتفظ بك هنا مدة طويلة، ما دمت تواقا إلى العودة. كلا، فلا بد أن ألوم غيري، من المضيفين، الذين يتفانون في الحب والكراهية أكثر من القدر اللازم؛ فخير الأمور أواسطها في كل شيء. كما أنه من الخطأ كذلك أن يعمل المرء برحيل ضيف غير راغب في الانصراف، أو أن يمنع ذهاب ضيف يتوق إلى الرحيل. على المرء أن يرحب بالضيف الحاضر، ويبعث بمن يريد أن يرحل، ولكن تمهل الآن حتى أجيء بالهدايا الجميلة وأضعها في عربتك، وتراها عيناك، وحتى آمر النساء بإعداد وليمة في البهو من الخزين المتوفر بالداخل. إنها لنعمة مزدوجة - مجلبة للشرف والمجد، والربح كذلك - فيجب إطعام المسافر قبل إبحاره عبر اليم الفسيح المترامي الأطراف. وإذا كنت تواقا إلى السفر عبر هيلاس وخلال أرجوس، فليكن كما تريد، على شرط أن أتمكن أنا نفسي من الذهاب في مصاحبتك، ولسوف أضع النير فوق الجياد من أجلك، وأقودك إلى مدن البشر؛ فلن يتركنا أحد نذهب من عنده خاليي الأيدي، بل يعطينا بعضهم شيئا على الأقل لنحمله معنا، ركيزة برونزية بديعة أو قدرا، أو زوجا من البغال، أو كأسا ذهبية.»
بعد ذلك رد عليه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «مينيلاوس بن أتريوس، يا ربيب زوس، ويا قائد الجيوش، إنني لأوثر أن أرحل الآن إلى بيتي؛ لأنني عندما انصرفت من هنالك، لم أترك ورائي أحدا يرعى ممتلكاتي. إنني أتمنى وأنا أبحث عن أبي شبيه الإله ألا أهلك أنا نفسي، أو أن بعضا من كنزي العظيم يضيع من ساحاتي.»
مينيلاوس وهيلينا يعطيان تيليماخوس هدايا ثمينة
والآن إذ سمع مينيلاوس، الماهر في القتال، هذا الكلام ، أمر في الحال زوجته وخادماته بأن يعددن في الساحة وليمة من الخزين الوفير الموجود بالدار،
5
وعندئذ جاء إتيونيوس
Eteoneus
ابن بويثوس
Boethous ، وقد نهض لفوره من فراشه؛ إذ لم يكن يقطن بعيدا عنه، فأمره مينيلاوس الرائع في صيحة الحرب، بأن يوقد نارا ويشوي لحما، فأطاع وأذعن بالأمر. ونزل مينيلاوس نفسه إلى حجرة الخزائن المقبية.
6
ولم يذهب إليها وحده، بل كانت معه هيلينا وميجابينثيس
Megapenthes ،
7
فلما بلغوا المكان الذي كانت تحفظ فيه الكنوز، تناول ابن أتريوس كأسا ذات يدين، وأمر ابنه ميجابينثيس بأن يحمل طاس مزج من الفضة. وتقدمت هيلينا من الصناديق التي كانت بها الثياب البديعة الوشي، التي كانت صنعتها هي نفسها، فأمسكت السيدة الجميلة هيلينا، أحد تلك الأثواب، وحملته بعيدا، ثوبا كان أجمل الأثواب وشيا وأوسعها. كان كالنجم بريقا، وموضوعا أسفل سائر الثياب جميعا، ثم خرجوا بعد ذلك، وساروا عبر المنزل إلى أن وصلوا إلى تيليماخوس، فقال له مينيلاوس، الجميل الشعور: «أيا تيليماخوس، ليت زوس، زوج هيري
Here
8
العالي الرعد، أن يحقق لك عودتك بحق، كما يشتهي قلبك ويتوق. ومن بين الهدايا التي أحتفظ بها في قصري، أقدم لك هذه الهدية، التي هي أجمل كنوزي وأغلاها. سأعطيك طاس مزج بديع الصنعة، كله من الفضة، وحافاته مكسوة بالذهب، من صنع هيفايستوس،
9
كان قد أعطانيها المحارب فايمدموس
، ملك السيدونيين، عندما آواني منزله وأنا قادم إلى هنا، وإنني لأعتزم الآن أن أمنحك إياها.»
ما إن قال المحارب، ابن أتريوس، هذا، حتى وضع الكأس ذات المقبضين في يديه، وأحضر ميجابينثيس العتيد طاس المزج الفضي ووضعه أمامه، وأقبلت هيلينا الفاتنة الوجنتين بالثوب في يديها، وخاطبته بقولها: «كذلك أنا أقدم لك هذه الهدية، يا ولدي العزيز، ذكرى من يدي هيلينا، كي ترتديه زوجتك، في يوم زواجك المشتهى، ولكن يجب أن تعهد به إلى والدتك العزيزة لتحفظه لك حتى ذلك اليوم. وإنني لأتمنى لك، أنت نفسك، أن تصل مغتبطا إلى منزلك المكين البناء وإلى وطنك.»
مينيلاوس يقيم وليمة فاخرة قبل رحلة الوداع
ما إن أتمت حديثها ذاك حتى وضعت الثوب بين يديه، فتناوله منها في سرور. وأخذ الأمير بايسيستراتوس الهدايا، ووضعها في صندوق العربة، وأخذ ينظر إليها نظرات الإعجاب من قلبه. بعد ذاك قادهما مينيلاوس الجميل الشعور إلى المنزل، وجلس كلاهما على الكراسي والمقاعد المرتفعة. وجاءت إحدى الإمام بماء للأيدي في إبريق من الذهب بديع الشكل، وصبته لهما في طست ليغتسلا، وسحبت إلى جوارهما نضدا مصقولا وأحضرت ربة البيت الرزينة الخبز ووضعته أمامهما، ومعه كمية وافرة من اللحوم، مانحة من خزينها بغير حساب. واقترب ابن بويثوس، وأخذ يقطع اللحم، ويقسم الأنصبة، وصب ابن مينيلاوس المجيد الخمر. وهكذا أخذوا يتناولون من الطعام الفاخر الذي أعد ووضع أمامهم. وبعد أن ملئوا بطونهم من الطعام والشراب، وضع تيليماخوس وابن نسطور المجيد النير على أعناق الجياد وركبا العربة المطعمة، وانطلقا خارج البوابة والرواق الفسيح، فذهب وراءهما مينيلاوس الجميل الشعر، ابن أتريوس، يحمل في يده اليمنى الخمر العذبة في كأس من الذهب، كي يستطيعا أن يسكبا السكائب قبل رحيلهما، فوقف أمام الجياد وتحدث إلى الشابين، قائلا: «وداعا أيها الشابان، واحملا السلام إلى نسطور، راعي الجيوش؛ فالحق أنه كان يعطف علي كوالد، بينما كنا نحارب، نحن الآخيين في أرض طروادة.»
عندئذ أجابه تيليماخوس بقوله: «إي وعمر الحق، أيها الملك، يا ربيب زوس، سنخبره بكل هذا عند وصلنا، كما تأمر. وإني لأتمنى، عندما أعود إلى إيثاكا، أن أجد أوديسيوس يقينا، في منزله، لأخبره كيف استقبلتني بالحفاوة والإكرام، قبل رحيلي، وأنني أحضر معي كنوزا عديدة ورائعة.»
هيلينا تدلي بنبوءة سارة عن أوديسيوس
ما إن قال هذا حتى حلق طائر على اليمين، صقر، يحمل بين مخالبه إوزة كبيرة ناصعة البياض، وهي طائر مستأنس خطفه من الفناء، بينما يتبعه الرجال والنساء بالصياح، فاقترب الصقر منهم، وطار بعيدا جهة اليمين أمام الجياد، فانشرحت صدورهم لرؤيته، واغتبطت قلوب الجميع داخل الصدور. وعندئذ تكلم من بينهم بايسيستراتوس بن نسطور، أولا، فقال: «تأمل يا مينيلاوس، يا ربيب زوس، وقائد الجيوش، ألنا أظهر الرب هذا الفأل، أم لك أنت نفسك؟»
قال هذا، فحار مينيلاوس العزيز لدى أريس كيف يستطيع بحكمته تفسير تلك العلامة تفسيرا صحيحا، بيد أن هيلينا ذات الثوب الفضفاض، سبقته إلى الكلام، فقالت: «أصغوا إلي، فسأفسر هذا الفأل كما يلهمني الخالدون في قلبي، كما أعتقد أنه عين ما سيحدث. بما أن هذا الصقر قد جاء من الجبل، حيث توجد عشيرته وحيث ولد، وخطف الإوزة التي نشأت في المنزل، فهكذا سيعود أوديسيوس إلى بيته بعد متاعب جمة وتجولات عديدة، وسوف ينتقم، وربما كان الآن في داره، يبذر بذور الشر لجميع المغازلين.»
تيليماخوس ينطلق بجواده مسرورا
فتكلم تيليماخوس الحكيم ثانية بعد ذلك وقال: «لو أن زوس زوج هيري الذي يرعد عاليا يمنح هذا، لصليت لك هناك باستمرار كما أصلي لإله.»
قال هذا وألهب الجوادين بالسوط، فانطلقا بسرعة صوب السهل، ينهبان الطريق بلهفة بالغة عبر المدينة. وهكذا ظلا طوال اليوم كله يهزان النير الموضوع فوق عنقيهما، ثم غابت الشمس وخيم الظلام على جميع الطرقات، فلما بلغ فيراي
، ذهبا إلى بيت ديوكليس
Diocles ، ابن أورتيلوخوس
Ortilochus ، الذي أنجبه ألفيوس
Alpheus ،
10
حيث قضيا الليل وقدم لهما ما يليق بالغرباء من قرى.
وصول تيليماخوس إلى قلعة بولوس
ما إن ظهر الفجر الباكر ذو الأنامل الوردية، حتى وضعوا النير فوق عنقي الجوادين، واعتلى الشابان العربة المطعمة، وانطلقا من البوابة والرواق الفسيح. وعندئذ ألهب بايسيستراتوس الجياد بالسوط ليحثهما على الإسراع، فانطلقا لا يقف في طريقهما شيء وسرعان ما بلغا قلعة بولوس الرأسية الانحدار، فتحدث تيليماخوس إلى ابن نسطور، قائلا: «يا ابن نسطور، هل لك أن تعاهدني الآن، وتوفي بالعهد، كما أطلب منك؟ أننا نسمي أنفسنا أصدقاء قدماء بسبب صداقة أبوينا، هذا فضلا عن أننا من نفس السن، ولسوف توطد هذه الرحلة الصداقة بيننا وتربط بين قلبينا. لا تصحبني بعد أن أركب سفينتي، يا ربيب زوس، بل اتركني هنا، خشية أن يبقيني هذا الرجل العجوز هنا ضد إرادتي في منزله، بدافع إظهار الشفقة نحوي، بينما أنا في أشد الحاجة إلى الذهاب إلى الوطن.»
قال هذا فأخذ ابن نسطور يشاور قلبه، كيف يمكنه أن يرتبط بالعهد ويحققه كما يجب، وبينما هو يفكر هداه التفكير إلى طريقة بدت له خير الطرق، فأدار جواديه ناحية السفينة السريعة وشاطئ البحر، ومكان المراقبة، ووضع الهدايا الجميلة في حيزوم السفينة، الثوب والذهب، الذي قدمه له مينيلاوس، وحث تيليماخوس على الإسراع، مخاطبا إياه بكلمات حماسية، فقال: «أسرع الآن بركوب متن سفينتك، ومر جميع رفاقك بأن يحذوا حذوك، قبل أن أصل إلى الوطن وأحضر كلمة إلى الرجل العجوز؛ لأنني أعلم حق العلم في قرارة نفسي وعقلي، أن روحه لتتغلب على كل فرد ولن يدعك ترحل، بل سيأتي إلى هنا بنفسه ليأمرك بالذهاب إلى منزله، وإني لأؤكد لك أنه لن يعود بدونك؛ إذ سيكون غاضبا أشد الغضب، رغم كل شيء.»
ما إن قال هذا حتى قاد جياده الجميلة الأعراف عائدا إلى مدينة البوليين
، فسرعان ما بلغ القصر. أما تيليماخوس فنادى على رجاله وأصدر إليهم الأمر، قائلا: «ضعوا جميع الحبال بنظام، في السفينة السوداء، وهلموا بنا نحن أنفسنا نعتلي ظهرها، كي يمكننا الإسراع في طريقنا.»
ما إن قال هذا، حتى أذعنوا له وصدعوا في الحال بالأمر، فركبوا السفينة من فورهم، واستووا فوق المقاعد.
تيليماخوس يصلي ويقدم الذبائح لأثينا
هكذا كان تيليماخوس مشغولا حقا، وكان يصلي ويقدم الذبائح لأثينا عند حيزوم السفينة، وعندئذ اقترب منه رجل من بلاد نائية، شخص جاء هاربا من أرجوس لأنه قتل رجلا آخر، وكان عرافا، وتبعا لسلسلة نسبه كان ينحدر من ميلامبوس
Melampus ،
11
الذي كان فيما مضى يقيم في بولوس، أم القطعان. وكان واسع الشراء يملك منزلا كثير الخيرات بين البوليين، بيد أنه لجأ بعد ذلك إلى بلاد أجنبية هاربا من بلده ومن نيليوس
Neleus
العظيم القلب، أكبر سادة البشر الأحياء، الذي ظل مغتصبا ثروته البالغة لمدة عام كامل بالقوة.
12
وفي ذلك الوقت كان ميلامبوس يرسف في أغلال قاسية في ساحات فولاكوس
،
13
يعاني آلاما مبرحة من أجل ابنة نيليوس، وعمى القلب المفزع الذي أنزلته به الربة، إرينوس
Erinys ،
14
جالبة الخراب على البيوت.
15
ولكنه رغم ذلك نجا من مصيره وساق الأبقار العميقة الخوار من فولاكي إلى بولوس، وانتقم لذلك العمل القاسي من نيليوس الشبيه بالإله، وأحضر الفتاة إلى وطنه لتكون زوجة أخيه. أما هو فانطلق إلى بلاد قوم آخرين، إلى أرجوس
Argos
مرعى الخيول؛ إذ كان محددا له أن يقيم هناك، ويتولى زمام الحكم على كثير من الأرجوسيين، فاتخذ له زوجة فيها وشيد لنفسه قصرا سامق البنيان، وأنجب أنتيفاتيس
Antiphates ،
16
ومانتيوس
Mantius ، وكانا صبيين بالغي القوة، ثم أنجب أنتيفاتيس أويكليس
Oicles
الشجاع، وأنجب أويكليس أمفياراوس
Amphiaraus ، مفزع الجيش، الذي أحبه زوس حامل الترس، وأبولو، حبا أي حب من قلبيهما. ومع ذلك فلم يقترب من عتبة الشيخوخة، بل وافته المنية في طيبة، بسبب هدايا سيدة، فولد له الابنان ألكمايون
Alcmaeon
وأمفيلوخوس
Amphilchus ، أما مانتيوس فقد أنجب بولوفايديس
، وكلايتوس
Cleitus ، بيد أن الفجر ذا العرش الذهبي خطف كلايتوس لفتنته وجماله، وحمله بعيدا كي يستطيع الحياة مع الخالدين، وأما بولوفايديس، ذو الهمة العالية، فقد جعله أبولو عرافا، يفوق بكثير سائر البشر، ثم مات أمفياراوس بعد ذلك، انتقل إلى هوبيريسيا
Hyperesia ، وهو بالغ الغضب مع أبيه، فاستوطن هناك وراح يتنبأ لجميع الناس.
ثيوكلومينوس يسأل وتيليماخوس يرد
كان ابنه، المسمى ثيوكلومينوس
Theoclymenus ، هو الذي جاء الآن ووقف بجوار تيليماخوس، وهو يصب السكائب ويصلي بجانب سفينته السريعة السوداء، فتحدث إليه وخاطبه بكلمات مجنحة،
17
قائلا: «أيها الصديق، طالما أنت تقدم الذبائح المحترقة في هذا المكان، فإني أتوسل إليك بتقدماتك وبالإله، نعم وبحياتك أنت نفسك، وحياة رفقائك الذين يتبعونك، إلا ما أخبرتني بحقيقة ما أسألك عنه ولا تخف عني شيئا، من أنت بين البشر، ومن أي مكان قدمت؟ أين بلدك، وأين أبواك؟»
فأجابه تيليماخوس الحكيم بقوله: «إذن فسأخبرك حقا، أيها الغريب، بكل شيء في صراحة. إن مسقط رأسي هو إيثاكا، وأبي أوديسيوس، وإني لأؤكد لك تمام التأكيد أنه كان هناك مثل هذا الرجل، إلا أنه الآن لقي حتفه بمصير مؤسف؛ ولذلك صحبت رفاقي هؤلاء، وركبنا سفينة سوداء، وجئت إلى هنا لأستطلع الأخبار عن والدي، الذي رحل منذ أمد بعيد.»
عندئذ أجابه ثيوكلومينوس شبيه الإله، قائلا: «كذلك أنا، أيضا، جئت هاربا من بلدي؛ لأنني قتلت رجلا من أقربائي، ويوجد له إخوة وأقارب عديدون هناك في أرجوس مرعى الجياد، ويقبضون على زمان الحكم بقوة على الآخيين. بيد أنني لأتقي الموت والمصير المظلم على أيديهم، هربت لأنه حسب اعتقادي من نصيبي أن أهيم على وجهي بين البشر، فهل لك أن تأخذني في سفينتك؛ إذ إنني أتضرع إليك وأنا هارب، حتى لا يقتلوني؛ لأنني أعتقد أنهم يقتفون أثري.»
فرد عليه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «ما دام الأمر كذلك، فلن أنزلك من سفينتي الجميلة بأية حال من الأحوال، طالما تتوق إلى المجيء معنا. هيا اتبعنا، وستلقى من التكريم في منزلنا مثل الذي لقيناه.»
ثيوكلومينوس يبحر مع تيليماخوس في سفينة واحدة
ما إن قال هذا حتى تناول منه رمحه البرونزي، ووضعه أخيرا فوق ظهر السفينة المقبية، ثم ركب هو نفسه ظهر السفينة ماخرة البحار. وبعد ذلك جلس في كوثلها وأجلس ثيوكلومينوس إلى جواره، فحل رجاله حبال مؤخرة السفينة. ونادى تيليماخوس على رجاله وأمرهم بأن يمسكوا بالحبال، فصدعوا بالأمر في الحال. ورفعوا الصاري المصنوع من خشب الشربين وأقاموه في حفرته الواسعة، وثبتوه من الأمام بدعامات، ثم رفعوا الشراع الأبيض بسيور مجدولة من جلود الثيران. وأرسلت إليهم أثينا ذات العينين النجلاوين ريحا مواتية، تهب بشدة وسط السماء، حتى تستطيع السفينة، وهي تسرع فوق صفحة الماء، أن تمخر طريقها وسط ماء البحر الملح. وهكذا ساروا عبر كروني
Crouni
وخالكيس
Chalcis ، ذات الجداول الرائعة.
والآن غابت الشمس وراء الأفق وخيمت الظلمة فوق جميع الطرق، واقتربت السفينة من فياي
، تعجل بها ريح زوس، ومرت على إليس
Elis
العظيمة حيث يحكم الإيبيون
Epeans ، ثم سار بسفينته ثانية إلى الجزر الحادة،
18
وقد غلبت عليه الشكوك، هل سينجو من الموت أم يقبض عليه.
أوديسيوس ينتوي زيارة المغازلين في بيته
كان أوديسيوس وراعى الخنازير الطيب، يتناولون معا، طعام العشاء في الكوخ، وكان يتعشى معهما بقية الرجال الآخرين، فلما أصابوا من الطعام والشراب ملء بطونهم، تكلم أوديسيوس في وسطهم، يجس نبض راعي الخنازير ليرى ما إذا كان سيلقى منه كرم الضيافة بعد ذلك فيأمره بالبقاء هناك عند الحظيرة، أم سيرسله إلى المدينة بعيدا، فقال: «أصغ إلي الآن يا يومايوس، وأنتم يا جميع الرجال الآخرين، إنني عازم على الذهاب في الصباح إلى المدينة كي أستجدي القوم، حتى لا أكون سببا في خرابك أنت ورجالك. إذن فلتسد إلي الآن بنصيحتك الطيبة، وأرسل معي شخصا موثوقا به يرشدني إلى هناك. أما عبر المدينة، فسأتجول أنا حسب قوتي، أملا في أن يجود علي أحدهم بكوب من الماء ورغيف. كما أنني سوف أذهب إلى بيت أوديسيوس الشبيه بالإله وأحمل الأنباء إلى بينيلوبي الحكيمة، وأنضم إلى جماعة المغازلين البالغي الصفاقة، عسى أن يقدموا لي وليمة، ما دام عندهم خير وفير. وفي الحال أقوم بينهم بخدمة كريمة ملبيا طلباتهم في كل ما يريدون؛ لأنني سأخبرك، فأصغ إلي جيدا؛ فبفضل هيرميس، الرسول، الذي يمنح الجمال والمجد لأعمال جميع البشر، إنني أجيد القيام بالخدمات فيما لا يستطيع امرؤ سواي أن يتحداني في تكويم النار جيدا، وفي قطع الأحطاب الجافة بما يناسب النار، وفي إعداد اللحم وشوائه، وفي صب الخمر؛ في جميع الأمور التي يقوم وضعاء القوم بها لخدمة الأشراف.»
يومايوس يحذر أوديسيوس من مغبة هذه الزيارة
فلما أثرت فيك هذا الألفاظ تأثيرا بالغا، يا يومايوس، يا راعي الخنازير أجبته بقولك: «ويحي! أيها الغريب، لم تطرأ مثل هذه الأفكار على مخيلتك؟ حقا إنك لتريد الهلاك هناك تماما، إذا دخلت حشد المغازلين، الذين تصل شهوتهم وعنفهم إلى عنان السماء الحديدية. إن خدمهم لا يشبهونك في شيء، كلا بل إنهم شبان يلتفون جيدا بالعباءات والجلابيب، ويحتفظون برءوسهم ووجوههم لامعة باستمرار، ويراعون دائما أن تكون الموائد المصقولة محملة بالخبز، وباللحم وبالخمر. امكث معنا هنا؛ فإن وجودك لا يضايق أحدا منا، لا أنا ولا أي فرد آخر من الرجال الذين معي. وعندما يأتي السيد العزيز ابن أوديسيوس، فإنه سيمنحك هو نفسه، عباءة وجلبابا تستر بهما جسمك، وسوف يبعث بك إلى أي مكان يتوق قلبك وروحك إلى الذهاب إليه.»
عندئذ أجابه أوديسيوس العظيم البالغ التحمل، قائلا: «هيا يومايوس، أسأل الأب زوس أن تكون عزيزا لديه كما أنت عزيز لدي؛ لأنك أغنيتني عن التجول وتكبد المشاق المفجعة، فلا شيء أكثر شرا للبشر من التجول، ولكن الناس يتحملون المحن الشريرة من أجل بطونهم، عندما يضطرون إلى التطواف والحزن والألم. أما الآن فما دمت مصمما على الاحتفاظ بي هنا، وتأمرني بانتظار سيدك. تعال، خبرني عن والدة أوديسيوس الشبيه بالإله، وعن أبيه، الذي تركه على حافة الشيخوخة، عندما رحل. ألا يزالون على قيد الحياة يعيشان تحت أشعة الشمس؟ أم وافتهما المنية ورحلا إلى بيت هاديس؟»
يومايوس يقص على أوديسيوس شيئا عن أيام الطفولة
فأجابه راعي الخنازير قائد البشر، بقوله: «إذن، فلأخبرنك بالصراحة والحقيقة، أيها الغريب. إن لايرتيس لا يزال حيا، ولكنه يصلي دائما لزوس أن تغادر روحه أطرافه داخل ساحاته؛ لأنه حزين أشد الحزن على ابنه الذي رحل، وعلى السيدة الحكيمة، زوجته الشرعية، التي آلمه موتها أكثر من كل شيء والتي زجت به إلى الشيخوخة قبل الأوان. لقد ماتت كمدا على ابنها المجيد، ميتة تعيسة، لا أتمنى أن يموتها أي إنسان ممن يقطنون هنا، ويكون صديقا لي وأحسن معاملتي. كان يسرني دائما أن أسأل وأستعلم عنها، طيلة أن كانت على قيد الحياة، ولو أن حياتها كانت مليئة بالأحزان؛ لأنها هي نفسها، كانت قد ربتني مع كتيميني
Ctimene
ذات الثوب الفضفاض، ابنتها الشريفة وصغرى أطفالها. لقد نشأت معها وترعرعت، وبجلتني تلك السيدة كتبجيلها أولادها، أو أقل منهم بقدر ضئيل، فلما بلغنا كلانا مبالغ الشباب المنتظرة، أرسلوها إلى سامي
Same
لتتزوج، وحصلوا لأنفسهم على هدايا زواج لا حصر لها. أما أنا فقد ألبستني سيدتي عباءة وجلبابا، ملابس في غاية الروعة وأعطتني نعالا لقدمي، وأرسلتني إلى الحقل، وكانت تكن لي في قلبها حبا جما. أما الآن فإنني أفتقر إلى كل هذا، رغم أن الآلهة المباركة تتولى بالتوفيق ما أقوم به من عمل. كنت آكل وأشرب من ذلك، وأعطي الأغراب المحترمين ولكني لا أسمع أي شيء سار من سيدتي، سواء أكان ذلك الشيء كلمة أو عملا؛ إذ حلت بالمنزل كارثة أي كارثة، عبارة عن رجال متغطرسين. ومع ذلك فكثيرا ما يرغب الخدم في التحدث أمام سيدتهم، والوقوف على كل شيء، وتناول الطعام والشراب، ثم يحملون بعد ذلك معهم شيئا إلى الحقول، من الأشياء التي تجعل قلب الخادم يفيض بالدفء دائما.»
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «يا للعجب! لا شك أنك عندما كنت محض طفل، يا يومايوس، يا راعي الخنازير، لم تتجول بعيدا عن بلدك ووالديك، ولكن خبرني، الآن، وأعلن لي قولك في صراحة. ألم تسلب مدينة قوم فسيحة الطرقات، كان يعيش فيها أبوك وأمك المبجلة؟ أم أنه عندما كنت صبيا ووحيدا مع أغنامك أو ماشيتك خطفك الأعداء وحملوك في سفنهم ليبيعوك إلى بيت سيدك هذا، الذي دفع فيك سعرا طيبا؟»
فأجابه راعي الخنازير قائد الرجال، بقوله: «أيها الغريب، ما دمت تسألني وتستفهم مني عن هذا، فأصغ إلي الآن في صمت وتمتع بالغبطة، واحتس الخمر، وأنت جالس هنا. إن هذه الليالي لعجيبة الطول؛ فهناك وقت للنوم، كما أن هناك وقتا للتمتع بسماع القصص، ولا حاجة بي إلى الرقاد حتى يحين الوقت، وهناك تعب حتى في النوم الزائد على الحد. أما الباقون، فإذا رغب قلب وروح أي واحد منهم في الذهاب إلى النوم، فدعه يذهب لينام، حتى إذا ما لاح الفجر، فدعه يأكل، ثم يرعى خنازير سيدنا. أما نحن فنولم ونشرب كلانا في الكوخ، ويتمتع كل منا بسماع قصة محن الآخر الشديدة، ونحن نستعيدها إلى الأذهان؛ فإن من قاسى الكثير من الأهوال، يجد لذة في الوقوف على محن غيره. وها أنا ذا سأروي لك ما كنت تسألني عنه.
هناك جزيرة اسمها سوريا
Syria ، لو تصادف أنك سمعت عنها فوق أورتوجيا
Ortygia ، حيث توجد أمكنة تحول الشمس، ليست تلك الجزيرة مزدحمة كثيرا بالسكان، ولكنها بلاد طيبة، حافلة بالقطعان، غنية بالماشية، زاخرة بالخمر، مليئة بالقمح. لا تعرف المجاعة طريقها إلى البلاد إطلاقا، ولا يصيب البشر التعساء أي مرض بغيض، بيد أنه عندما تشيخ قبائل البشر في شتى أنحاء المدينة، يأتي أبولو ذو القوس الفضية ، مع أرتيميس، فيهاجمهم بسهامه الرقيقة ويقتلهم. وجميع أرض الجزيرة مقسمة إلى مدينتين، ويحكم أبي كلتا المدينتين كملك، إنه كتيسيوس
Ctesius
ابن أرومينوس
Ormenus
الشبيه بالخالدين.
جاء الفينيقيون إلى تلك الجزيرة، وهم قوم يشتهرون بسفنهم وبأنهم أوغاد جشعون، فأحضروا معهم تحفا لا عداد لها في سفينتهم السوداء. وكانت في بيت أبي وقتئذ سيدة فينيقية، فارعة الطول على قدر كبير من الجمال، وماهرة في الأشغال اليدوية الرائعة، فخدعها الفينيقيون الماكرون؛ فعندما رأوها أولا وهي تغسل الملابس، اضطجع معها أحدهم في عشق بجوار السفينة الواسعة؛ لأن هذا الأمر يلعب بعقول النساء، مهما كانت السيدة مستقيمة، ثم سألها من تكون ومن أين جاءت، فأرشدته من توها إلى بيت أبي العالي السقف، قائلة: «إنني قدمت من سيدون
Sidon ، الغنية بالبرونز، وأنا ابنة أروباس
Arybas
الواسع الثراء الذي كانت تتدفق الأموال عليه مدرارا. بيد أنني، وأنا قادمة من الحقول، قبض علي قراصنة من تافيا
Taphia ، وأحضروني إلى هنا، وباعوني إلى بيت ذلك الرجل، الذي دفع من أجلي ثمنا بالغا.»
عندئذ قال لها الرجل الذي كان قد اضطجع معها سرا: «أترغبين في العودة معنا ثانية إلى وطنك، وفي رؤية منزل والديك العالي السقف، وفي رؤيتها أيضا؟ لأنهما يعيشان حقيقة، ويعتبران بحق ثريين.»
فأجابته السيدة، بقولها: «بكل سرور، إذا أخذتم أيها البحارة العهد على أنفسكم، وأقسمتم بأن تذهبوا بي سالمة إلى وطني.»
قالت هذا فأقسم البحارة جميعا كما أمرتهم. وبعد أن انتهوا من القسم، تحدثت المرأة إليهم ثانية فقالت: «اصمتوا الآن، ولا يتحدث إلي أي من رفاقك، إذا قابلني في الطريق أو عند البئر، خشية أن يرانا أحد فيذهب إلى القصر ويخبر الملك العجوز، فيثير شكوكه وعندئذ يقيدني بقيود قاسية، ويدبر أمر موتكم، فضعوا كلماتي هذه نصب عيونكم،
19
وعجلوا بالمقايضة على سلعكم، حتى إذا ما شحنت سفينتكم بالبضائع، ابعثوا إلي برسول يجيئني بسرعة في القصر؛ لأنني سأحمل معي أيضا أي ذهب يقع تحت يدي. وسأعطي بسرور شيئا آخر في نظير نقلي. هناك طفل لسيدي النبيل، أعتبر أنا مربيته في القصر، وهو طفل على قدر عظيم من الدهاء، يصحبني دائما إلى خارج القصر. سأحضره معي على ظهر السفينة، فيمكنكم أن تأخذوا عنه ثمنا باهظا، في أي مكان تبيعونه فيه إلى قوم يتحدثون لغة أجنبية.»
ما إن أفضت إليهم بذلك الكلام حتى انصرفت إلى القصر الجميل، وبقوا هناك في بلادنا سنة كاملة، وحصلوا من التجارة على مال وفير في سفينتهم الواسعة لعودتهم، وعندئذ بعثوا برسول إلى القصر ليحمل الأخبار إلى السيدة، فجاء إلى منزل أبي رجل ماهر جدا في الخداع، يحمل معه قلادة من الذهب تتوسطها خرزات من الكهرمان. تناولت الفتيات القلادة في أيديهن، وأخذتها أمي المبجلة، وصرن يتطلعن إليها بإعجاب، ويعرضن الأثمان على الرجل، بيد أنه هز رأسه للمرأة في صمت. وبعد أن هز رأسه لها، انصرف في طريقه إلى السفينة الواسعة، فأخذتني من يدي، وقادتني خارج المنزل. وعندما بلغنا ساحة القصر الأمامية وجدت الكئوس، وموائد المدعوين، الذين كانوا يقومون بخدمة أبي؛ إذ كانوا قد ذهبوا إلى المجلس، ومكان المناقشة، فأسرعت وأخفت في صدرها ثلاث كئوس، وخرجت بها، فتبعتها وأنا خالي الذهن من كل شيء. بعد ذلك غابت الشمس، وخيمت الظلمة على جميع الطرقات، فأسرعنا حتى بلغنا الميناء العظيم، حيث كانت سفينة الفينيقيين السريعة. وعندئذ اعتلوا ظهرها، وحملوا كلينا على ظهرها أيضا، وأقلعوا مبحرين عبر الطرق المائية، وأرسل لهم زوس ريحا مواتية. سارت بنا السفينة ستة أيام، ليل نهار، فلما جلب علينا زوس بن كرونوس، اليوم السابع، ضربت أرتيميس، القواسة المرأة، فسقطت في جوف السفينة محدثة صوتا، كما يغطس أي طائر بحري، فألقوا بها في اليم لتكون فريسة لكلاب البحر والأسماك، أما أنا فتركت هناك، كسير القلب، وعندئذ ذهبت بهم الريح، تحملهم على صفحة الماء، وكذا الموجة، إلى إيثاكا، حيث اشتراني لايرتيس بأمواله. وهكذا حدث أن رأت عيناي هذه البلاد.»
فأجابه أوديسيوس، نسل زوس، بقوله: «أيا يومايوس، لقد أثرت بحق القلب الكائن في صدري بذكر قصة حزنك الذي كابدته في قلبك. وفي حالتك هذه، إن أردت الحق فإن زوس أعطى الخير والشر جنبا إلى جنب ما دمت بعد كل جهادك قد جئت إلى منزل رجل كريم، يعطيك طعاما وشرابا، في عطف وحنان، وأنت تحيا حياة طيبة. أما في حالتي، فإنني بعد تجوالي خلال مدن البشر العديدة، قد أتيت إلى هنا.»
تيليماخوس يصل إلى وطنه
بهذا تحدث كل منهما إلى الآخر، ثم رقدا ليناما، ليس لوقت طويل، بل لفترة وجيزة؛ إذ سرعان ما أقبل الفجر الجميل العرش. أما رفقاء تيليماخوس، فما إن اقتربوا من الشاطئ حتى طووا الشراع، وأسرعوا بإنزال الصاري، وأخذوا يجذفون بالسفينة حتى أرسوها بمجاذيفهم إلى مرساها، ثم رموا أحجار المراسي وربطوا حبال الكوثل، ونزلوا هم أنفسهم إلى شاطئ البحر، وأعدوا طعامهم وخلطوا الخمر الصهباء، وما إن أشبعوا جوعهم من الطعام والشراب، حتى نهض تيليماخوس الحكيم يتحدث في وسطهم أولا، فقال: «هل لكم الآن أن تبحروا بالسفينة السوداء، وتجذفوا حتى المدينة، أما أنا فأعتزم زيارة الحقول والرعاة، وفي المساء سأذهب إلى المدينة بعد أن أكون قد أشرفت على أراضي. وعندما يصبح الصباح سأقدم لكم وليمة طيبة من اللحم والخمر العذبة، جزاء تعبكم.»
عندئذ تحدث إليه ثيوكلومينوس شبيه الإله، بقوله: «إلى أين أذهب أنا، يا طفلي العزيز؟ إلى بيت من ممن يحكمون في إيثاكا الصخرية، سألتجئ؟ أم هل أذهب مباشرة إلى منزل والدتك ومنزلك؟»
فأجابه تيليماخوس العاقل، وقال: «لو أن الأمور كانت على غير ذلك، لأمرتك بالذهاب حتى إلى منزلنا، حيث لا ينقص شيء لتكريم الغرباء، ولكن الأمر بالنسبة لك أنت شخصيا قد يكون جد سيئ، حيث إنني سأكون بعيدا، ولن تقابلك والدتي؛ لأنها لا تظهر كثيرا أمام المغازلين في البيت، بل تمكث بمنأى عنهم تنسج على منوالها في حجرة عليا، ولكني سأخبرك عن رجل آخر تستطيع أن تذهب إليه، إنه يوروماخوس المجيد ابن بولوبوس
الحكيم، الذي ينظر إليه رجال إيثاكا الآن كأنه إله؛ إذ هو خير رجل في المدينة يفوق غيره بمراحل، ويتلهف غاية التلهف إلى الزواج بوالدتي والفوز بمجد أوديسيوس. ومع ذلك فإن زوس الأوليمبي، الذي يقطن في السماء يعرف، هل سيحقق لهم اليوم الشرير قبل الزواج، أو لا يحققه.»
ثيوكلومينوس يطمئن قلب تيليماخوس
وبينما هو يتكلم حلق طائر على اليمين، وكان صقرا، رسول أبولو السريع، يمسك في مخالبه يمامة، وكان ينزع ريشها، ويلقي بالريش فوق الأرض وسط الطريق بين السفينة وتيليماخوس نفسه؛ عندئذ ناداه ثيوكلومينوس بعيدا عن زملائه، وأمسك يده، وتحدث إليه، بقوله: «أي تيليماخوس، لا شك أن هذا الطائر لم يحلق على يميننا بدون إذن أحد الآلهة؛ لأنني بمجرد أن نظرت إليه عرفت أنه طائر فأل، لا بيت في أرض إيثاكا غير بيتك، هو أكثر مجدا وأعظم سيادة، إنك دائما أبدا متفوق.»
فرد عليه تيليماخوس الحكيم ثانية، فقال: «آه! أيها الغريب، كم أتمنى أن تتحقق كلمتك هذه؛ عندئذ تنال مني في الحال شفقة وهدايا كثيرة، كي يصفك كل من يقابلك بأنك مبارك.»
تيليماخوس يوصي بتكريم ثيوكلومينوس
ثم تحدث تيليماخوس إلى بايرايوس
رفيقه الموثوق به، فقال: «أيا بايرايوس، يا ابن كلوتيوس
Clytius ، إنك أنت الذي اعتدت أن تصغي إلى حديثي دون سائر الرفقاء، الذين رافقوني إلى بولوس؛ ومن ثم فإنني، أتوسل إليك الآن، أن تأخذ هذا الغريب، وتكرم وفادته في منزلك، وتبدي له التمجيد، إلى أن أجيء.»
فأجابه بايرايوس الرماح الشهير، قائلا: «أي تيليماخوس، بالرغم من أنه لا ينبغي لك أن تبقى هنا طويلا، فإنني سأكرمه، ولن يفتقر قط إلى ما هو واجب للغرباء.»
تيليماخوس يسرع إلى حظيرة الخنازير
ما إن قال هذا حتى صعد إلى ظهر السفينة، وأمر زملاءه أنفسهم بالصعود وحل حبال الكوثل. وهكذا ركبوا السفينة في الحال، واستووا فوق المقاعد. أما تيليماخوس فربط في قدميه صندله الجميل، وأخذ رمحه المتين، المدبب بالبرونز الحاد، من فوق ظهر السفينة. بعد ذلك حل الرجال حبال الكوثل، وبعد أن ثبتوا السارية، أبحروا إلى المدينة، كما أمرهم تيليماخوس العزيز ابن أوديسيوس المقدس. أما تيليماخوس نفسه فقد حملته قدماه بسرعة، وهو يخطو إلى الأمام، إلى أن وصل إلى الحظيرة التي كان له بها ما لا يحصى من الخنازير، والتي نام في وسطها راعي الخنازير النبيل ذو القلب الحافل بالوفاء لأسياده.
الأنشودة السادسة عشرة
بهذا، لمسته أثينا بصولجانها الذهبي . وألقت حول صدره، أولا، عباءة، وجلبابا مغسولين حديثا.
يومايوس يرحب بعودة تيليماخوس
في نفس ذلك الوقت أشعل أوديسيوس وراعي الخنازير العظيم، نارا في وسط الكوخ، وراحا عند مطلع الفجر يعدان طعام الإفطار، وكان قد بعثا بالرعاة مع قطعان الخنازير، ولكن الكلاب النابحة كانت تحوم حول تيليماخوس، دون أن تهر وهو يقترب منها. ولاحظ أوديسيوس العظيم حومان الكلاب، وسمع وقع الأقدام يطن في أذنيه، فقال في الحال ليومايوس بعبارات حماسية:
1 «أيا يومايوس، لا شك أن رفيقا من رفاقك قادم إليك، أو على الأقل هو رجل تعرفه؛ لأن الكلاب لا تهر، بل تحوم حوله، وإنني لأسمع كذلك وقع أقدام.»
ما كاد أوديسيوس ينطق بآخر لفظ من كلامه، حتى كان ابنه العزيز واقفا عند الباب، فهب راعي الخنازير واقفا مبهوتا، وسقطت من يديه الآنية التي كان مشغولا بخلط الخمر الصهباء فيها. وهرع إلى لقاء سيده، فقبل رأسه وكلتا عينيه الجميلتين، ويديه وانحدرت من عينه عبرة كبيرة. وكما يرحب الأب المحب ابنه العزيز، الذي يأتي إليه من بلد قصي في السنة العاشرة - ابنه الوحيد والمحبوب غاية الحب، الذي قاسى من أجله الحزن البالغ - هكذا أيضا أمسك راعي الخنازير العظيم تيليماخوس الشبيه بالإله بين ساعديه، وأخذ يوسعه تقبيلا في كل جزء من جسمه كما لو كان قد نجا من هلاك، ثم تحدث إليه بكلمات حماسية
2
وهو يبكي، فقال: «ها أنت ذا قد جئت يا تيليماخوس يا نور عيني الحلو. لقد خيل إلي أنني لن أراك إطلاقا بعد أن رحلت إلى بولوس في سفينتك. هيا، ادخل يا طفلي العزيز، حتى أمتع قلبي بالنظر إليك هنا في منزلي، يا من جئت حديثا من بلاد غريبة؛ لأنك لا تزور دائما الحقل ولا الرعاة، بل تظل باستمرار في المدينة، فأعتقد أنه هكذا تراءى لك أنه من الخير لقلبك أن تلقي نظرة على حشد المغازلين المخربين.»
يومايوس يطمئن تيليماخوس على أمه
عندئذ أجابه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «هكذا سيتم الأمر، يا أبتاه. لقد جئت إلى هنا من أجلك؛ لأراك بعيني رأسي ، ولكي أستعلم منك عما إذا كانت أمي لم تزل باقية في القصر، أم قد تزوجت الآن رجلا آخر، بينما يبقى فراش أوديسيوس متلهفا إلى من يرقد فيه، مغطى بنسيج العنكبوت الفاسد.»
فأجابه راعي الخنازير قائد البشر، يقول: «كلا، فإنها ما زالت باقية في القصر بقلب ثابت، وفي حزن لازب تقضي الليالي والأيام في بكاء مستمر.»
ما إن أتم حديثه هذا حتى تناول منه الرمح البرونزي، ودخل تيليماخوس مارا فوق العتبة الصخرية. وما إن اقترب، حتى نهض أبوه، أوديسيوس، من مقعده وأعطاه مكانه، بيد أن تيليماخوس من جانبه منعه من ذلك، قائلا: «اجلس أيها الغريب، وسنجد مقعدا في مكان آخر في حظيرتنا؛ فها هنا رجل سوف يعد لنا مقعدا.»
يومايوس يقدم الطعام لأوديسيوس وتيليماخوس
هكذا تكلم فعاد أوديسيوس يجلس ثانية في مكانه، وبسط راعي الخنازير من أجل تيليماخوس حشيشا أخضر من تحت وفوقه جزة من الصوف، فجلس عليها ابن أوديسيوس العزيز؛ بعدئذ وضع راعي الخنازير أمامها قصعات من اللحم المشوي، كانا قد تركاها من وجبة اليوم السابق، وبسرعة وضع الخبز في الأسفاط، وخلط في طاس من خشب العليق خمرا في حلاوة العسل، ثم اتخذ هو نفسه مجلسه قبالة أوديسيوس المقدس؛ ومن ثم مدوا أيديهم إلى الطعام الشهي الموضوع أمامهم معدا، فما إن تناولوا ملء بطونهم من الطعام والشراب، حتى تحدث تيليماخوس إلى راعي الخنازير العظيم، بقوله: «أبتاه، من أين جاءك هذا الغريب؟ كيف جاء به البحارة إلى إيثاكا؟ ومن أعلنوا أنهم يكونون؟ إذ في اعتقادي، أنه يستحيل أن هذا الغريب قد جاء سائرا على قدميه.»
إذن أجبته يا يوماس يا راعي الخنازير، فقلت: «إذن، يا ولدي، فلأخبرنك بالحقيقة كلها، إنه يعلن أنه من مواليد كريت الفسيحة، ويقول إنه جاس متجولا خلال الكثير من مدائن البشر، وهكذا دبر أحد الآلهة هذا النصيب. أما الآن، فقد هرب من سفينة للثيسبروتيين
Thesprotians
ولجأ إلى حظيرتي، وسأضعه بين يديك، فافعل به ما تشاء . إنه يعلن أنه مستجير بك.»
تيليماخوس يطوق الغريب بعطفه
عندئذ من جديد رد عليه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «أيا يومايوس، حقا لقد حز قولك هذا في نفسي ووخزني في قلبي؛ إذ كيف يتأتى لي أن أقوم بتكريم هذا الغريب في منزلي؛ فإنني شخصيا لم أزل صغيرا وليست لي ثقة بعد في قوتي للدفاع عن نفسي لحماية رجل، عندما يثير المرء المتاعب من غير ما سبب. أما والدتي، فإن قلبها الكائن في صدرها ليخفق إلى هذا الجانب وذاك، حائرة هل تبقى معي هنا وتحافظ على المنزل، محترمة فراش زوجها وصوت الشعب، أم مع خير رجل بين الآخيين الآن الذي يغازلها في القصر، ويقدم لها أكبر عدد من هدايا الإعجاب. أما فيما يتعلق بهذا الغريب حقا، فحيث إنه قد جاء إلى منزلك فسأكسوه عباءة وجلبابا، يكونان لباسا جميلا له، وأعطيه سيفا ذا حدين، وصندلا لقدميه، وأرسله إلى حيث يريد قلبه وروحه. أو لو طاب لك، أن تبقيه هنا في الحظيرة، وتعتني بأمره، فسوف أرسل الثياب إلى هنا، وما يلزم من الطعام لمأكله، حتى لا يكون سببا في خرابك وخراب رجالك، ولكني لن أحمله مشقة الذهاب إلى هناك، لينضم إلى حشد المغازلين؛ إذ يفيضون صفاقة وضيعة، خشية أن يسخروا منه، فيحل علي حزن أي حزن. ومن الصعب على رجل واحد أن يبلغ شيئا بين قوم عديدين، مهما كان قويا؛ لأنهم يتفوقون عليه حقا، أي تفوق.»
الغريب يبدي استعداده لمقاتلة المغازلين
عندئذ أجابه أوديسيوس العظيم البالغ التحمل، فقال: «أيها الصديق، طالما يقضي الواجب علي حقا أن أرد - فالحق أن قلبي ليتمزق وأنا أسمع حديثك؛ إذ تقول إن أولئك المغازلين يقترفون مثل هذه العربدة في القصر بالرغم منك، أيها الرجل الطيب - خبرني، أتقاسي أنت ذلك الظلم برغبتك؟ أم أن القوم في البلد يكرهونك، طاعة لصوت الرب؟ أم هل لديك سبب لتنحي باللائمة على إخوتك، الذين يعتمد عليهم المرء في القتال إذا ما جد الجد. ليتني كنت صغيرا مثلك، وأنا في خلقي الحاضر، وكنت ابن أوديسيوس عديم اللوم، أو أوديسيوس نفسه. إذن فليقطع غريب ما رأسي ويفصله عن عنقي في الحال، إذا لم أبرهن على أنني صعب المراس عليهم جميعا إذا ما وصلت إلى قصر أوديسيوس بن لايرتيس. أما إذا هزموني بسبب كثرة عددهم، وأنا وحدي كما أنا، فخليق بي أن أموت قتيلا في ساحاتي، ولا أرى بعيني استمرار هذه الأعمال المخزية من أغراب تساء معاملتهم، ورجال يسوقون الإماء بطريقة مخجلة عبر الساحات الجميلة، والخمر تبدد، والرجال يلتهمون خبزي في غير ما اكتراث، وبغير حساب، وبدون أن تكون للأمر نهاية.»
تيليماخوس يستغيث بيومايوس
فرد عليه تيليماخوس الحكيم بقوله: «إذن أيها الغريب، لأخبرنك بكل شيء في صراحة، فلا يحمل الناس لي حقا أية ضغينة أو كراهية، وليس لدي أي مبرر لكي ألوم إخوتي، الذين يعتمد عليهم المرء في القتال، إذا ما نشب صراع مرير؛ لأن ابن كرونوس قد جعل منزلنا يسير على هذه الطريقة في خط منفرد. لقد أنجب أركايسيوس
Arceisius
لايرتيس، كابن وحيد له، وكذلك أنجب لايرتيس ابنا وحيدا هو أوديسيوس، كما أنجبني أوديسيوس ابنا وحيدا له أيضا، وتركني في قصره، ولم تقر بي عيناه. وفي قصرنا الآن أعداء يفوقون الحصر؛ لأن جميع الأمراء الذين يحكمون في الجزر - دوليخيوم وسامي وزاكونثوس ذات الأحراش - وأولئك الذين يتولون الحكم على إيثاكا الصخرية، يغازلون جميعا والدتي ويعيثون فسادا بمنزلي. وإنها غير قادرة على رفض الزواج المقيت، وليس في إمكانها وضع حد لذلك الأمر، بل هم يبددون أموالي بالولائم، وعما قريب سيجرونني أيضا إلى الخراب. ومع ذلك فإن هذه الأمور تقع حقا عند ركب الآلهة، ولكن هل لك يا أبتاه أن تذهب بسرعة وتخبر بينيلوبي الثابتة الجنان بأنني في أمان، وأنني قد رجعت من بولوس؟ أما أنا فسأبقى هنا، وهل لك أن تعود إلى هنا ثانية، بعد أن تفضي إليها وحدها بقصتي، ولا تدع أحدا آخر من بقية الآخيين يعلم بهذا الأمر؛ لأن من يدبرون لي الشر كثيرون هناك.»
إذن أجبته، يا يومايوس يا راعي الخنازير، بقولك: «فهمت، وأصغيت، إنك لتأمر بهذا رجلا ذا فهم. والآن هيا خبرني بهذا، وأعلنه لي بالصدق، هل أفضي بذلك الأمر أيضا إلى لايرتيس، ذلك الرجل البائس، الذي لحين من الدهر، رغم حزنه الشديد على أوديسيوس، ظل يأمل في إلقاء نظرة على الحقول، ويأكل ويشرب مع العبيد في المنزل، كما كان يأمره قلبه الكائن في صدره؟ أما الآن فمنذ ذلك اليوم الذي رحلت فيه إلى بولوس في سفينتك يقولون إنه لم يعد يأكل ويشرب كسابق عهده، ولم تبصر عيناه الحقول، بل يقضي وقته جالسا يبكي ويقول، واللحم يذوي فوق عظامه.»
فأجابه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «إن هذا لأدعى إلى مزيد من الحزن، ومع ذلك فلندعه وشأنه، رغم أحزاننا؛ لأنه إذا كان في مقدور البشر، بأية حال من الأحوال أن يحصلوا على أمنياتهم لاخترنا أولا وقبل كل شيء يوم عودة أبي. هيا انطلق ثم ارجع بعد أن تقوم برسالتك، ولا تتجول عبر الحقول بحثا عن لايرتيس، واطلب من والدتي أن ترسل بسرعة خادمتها، مدبرة شئون البيت سرا، فتحمل كلمة إلى الرجل العجوز.»
أثينا تظهر لأوديسيوس وتأمره بوضع خطة مع ابنه
بهذا نهض راعي الخنازير وتناول نعليه في يديه، وربطهما إلى قدميه ثم انطلق ذاهبا إلى المدينة. ولم تكن أثينا غير عالمة بأن يومايوس راعي الخنازير قد غادر الحظيرة، فاقتربت في صورة سيدة، حسناء فارعة الطول، وماهرة في الأشغال اليدوية الرائعة. ووقفت أمام باب الكوخ، وأظهرت نفسها لأوديسيوس، بينما لم يبصرها تيليماخوس وهي أمامه، ولم يلاحظها، لأن الآلهة لا تبدو بأية حال من الأحوال في صورة يراها الجميع، ولكن أوديسيوس شاهدها، ولم تنبح الكلاب، بل وهي تهر تسللت في خوف إلى أقصى بقعة في الضيعة. بعد ذلك أشارت له بحاجبيها، فلاحظ أوديسيوس الإشارة وخرج من الساحة، مارا بسور الفناء العظيم، ووقف أمامها، فتحدثت إليه أثينا، بقولها: «يا ابن لايرتيس، أيها المنحدر من زوس، يا أوديسيوس الكثير الحيل، أفصح الآن لابنك بالكلام، ولا تخف الأمر عنه، حتى إذا ما وضعتما خطة الموت والمصير المشئوم للمغازلين، استطعت أن تذهب إلى المدينة الشهيرة . ولن أكون أنا نفسي بعيدة عنك؛ لأنني تواقة إلى خوض غمار المعركة.»
بهذا لمسته أثينا بصولجانها الذهبي، وألقت حول صدره، أولا عباءة وجلبابا مغسولين حديثا، زادت في حجمه وفي نضرة شبابه، ومن جديد اسمر لونه، وامتلأت أوداجه، ونمت اللحية السوداء حول ذقنه. وبعد أن قامت بهذا العمل، انصرفت فدخل أوديسيوس الكوخ، فذهل ابنه العزيز وإذ استولى عليه الذعر، أدار عينيه جانبا، خشية أن يكون ذلك إلها، ثم تحدث إليه، وخاطبه بكلمات حماسية،
3
قائلا: «أيها الغريب، إنك لتبدو لي الآن من لون آخر، غير الذي كنت عليه منذ لحظة، وكذلك الملابس التي عليك غير الأولى، وما عاد لونك كما كان من قبل. حقا إنك إله، أحد أولئك الذين يحتلون السماء الفسيحة. إذن رحماك، حتى نقدم لك ذبائح مقبولة وهدايا ذهبية، بديعة الصنع، حتى يتسنى لك أن تعفو عنا.»
أوديسيوس يميط اللثام عن نفسه لابنه
عندئذ أجابه أوديسيوس العظيم الكثير التحمل بقوله: «ثق بأنني لست إلها، لماذا تشبهني بالخالدين؟ إنني أبوك الذي من أجله تحملت الكثير من الأحزان باكيا، وخضعت لأعمال البشر العنيفة.»
قال هذا وقبل ابنه، فسقطت من وجنتيه دمعة فوق الأرض، ولكنه قبل أن يتمكن من كفكفتها بحزم، تحدث إليه تيليماخوس ثانية - إذ لم يعتقد بعد أنه أبوه - فخاطبه بقوله: «الحق أنك لست أبي أوديسيوس، ولكنك أحد الآلهة يخدعني، كي أبكي وأنتحب أكثر من ذي قبل؛ لأنه ليس في مكنة أي رجل، بحال ما، أن يفعل هذا بذكائه الشخصي إلا إذا جاءه إله بنفسه، فيجعله شابا أو كهلا بسهولة حسب إرادته. لقد كنت حقا منذ لحظة رجلا عجوزا رث الثياب، ولكنك الآن أشبه بالآلهة الذين يحتلون السماء الفسيحة.»
أوديسيوس يؤكد لابنه أنه أبوه
فرد عليه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أي تيليماخوس، يجدر بك ألا تعجب هكذا كثيرا، ولا يدهشنك ذلك، أن أباك قد عاد إلى المنزل؛ لأنه يمكنك أن تثق من أنه لن يجيء إلى هنا أي أوديسيوس آخر، ولكني أنا هنا، أنا كما تراني، قد جئت إلى وطني بعد عشرين سنة، كلها تجولات عديدة ومتاعب جمة. ويجب أن تعرف أن هذا من عمل أثينا التي تسوق الغنائم، والتي تمنحني كما تشتهي - لأن لها القدرة - فتجعلني الآن شحاذا، ومرة أخرى شابا يافعا، وشخصا جميل الهندام؛ إذ من اليسير على الآلهة، التي تحتل السماء المترامية الأجواز، أن تمجد إنسانا وأن تحقره.»
أوديسيوس وتيليماخوس يتعانقان ويبكيان مدرارا
ما إن قال هذا حتى جلس، فطوق تيليماخوس أباه النبيل بذراعيه وأخذ يبكي ويذرف الدموع، فتحرك الشوق في قلبيهما للبكاء، فأعولا بصوت مرتفع وبقوة دونها قوة الطيور، وصقور البحور أو النسور ذات المخالب المعقوفة، عندما يسلبها امرؤ صغارها زغب الحواصل من عشاشها، بمثل هذه الكيفية المؤثرة ذرفا الدموع السواجم من تحت حواجبهما. وكاد ضوء الشمس يغيب وهما لا يزالان يبكيان، لو لم يتكلم تيليماخوس إلى أبيه فجأة، ويقول: «أبي العزيز، في أي نوع من السفن أحضرك البحارة إلى هنا في إيثاكا؟ ومن أعلنوا أنهم يكونون؟ إذ أعتقد أنه من المستحيل أن تكون قد جئت إلى هنا ماشيا على قدميك.»
أوديسيوس يسأل ابنه عن المغازلين وعددهم
فأجابه أوديسيوس العظيم كثير التحمل قائلا: «إذن يا ولدي، فلأخبرنك حقا بجلية الأمر. لقد جاء بي إلى هنا الفياكيون، أولئك القوم المشهورون بسفنهم، والذين يوصلون غيرهم من الأقوام إلى حيث يريدون، كل من يجيء إليهم. لقد أحضروني نائما في سفينة سريعة عبر البحر، وأنزلوني في إيثاكا، وأعطوني هدايا رائعة، خزينا من البرونز والذهب والثياب المنسوجة. إن هذه الكنوز موضوعة في الكهف بفضل الآلهة. وها أنا ذا قد جئت الآن بأمر أثينا، كي نتشاور في موضوع مقتل أعدائنا. هيا الآن، وأخبرني عن عدد المغازلين، وقص علي قصتهم، كي أعرف عددهم وأي نوع من الرجال هم، حتى أفكر في قلبي النبيل، وأقرر ما إذا كنا نستطيع السيطرة على ناصية الأمور، وتكون لنا الغلبة عليهم وحدنا دون مساعدة آخرين، أم يقتضي الأمر أن نبحث عن آخرين.»
تيليماخوس يبدي مخاوفه من قوة المغازلين وكثرتهم
عندئذ أجابه تيليماخوس العاقل، بقوله: «أبتاه، لئن أردت الحق، إنني كثيرا ما سمعت عن شهرتك العظيمة، لقد كنت ذائع الصيت كمحارب في قوة اليد وفي سداد الرأي، ولكن هذا الذي تقول عظيم للغاية، وإن العجب ليتملكني؛ إذ كيف يتسنى لرجلين أن يقاتلا ضد رجال عديدين أشداء؛ فليس هناك من أولئك المغازلين عشرة فحسب، وليسوا عشرين، بل أكثر من ذلك بمراحل، وستعلم في الحال عددهم الآن ونحن هنا. هناك اثنان وخمسون شابا مختارا من دوليخيوم، وستة خدم لخدمتهم، وجاء من سامي أربعة وعشرون رجلا، وهناك من زاكونثوس عشرون شابا من الآخيين واثنا عشر رجلا من إيثاكا نفسها، جميعهم من الأشراف، ومعهم ميدون، الرسول، والمنشد المقدس، وخادمان ماهران في قطع اللحوم، فلو واجهنا كل هؤلاء داخل الساحات، فإن مجيئك، كما أخشى، سيكون مريرا ضارا حتى تنتقم بالعنف. كلا، هل لك أن تفكر - إذا كنت تستطيع التفكير في أي مساعد - في شخص يمكنه أن يساعدنا كلينا عن طيب خاطر.»
فأجابه أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، قائلا: «حسنا، إذن، فسأخبرك، فأصغ تماما إلى كلماتي، وفكر هل يكفي أن يكون معنا نحن الاثنين، أثينا والأب زوس، أم هل لي أن أفكر في مساعد ما آخر.»
عندئذ أجابه تيليماخوس الحكيم، فقال: «حسنا، إن كنت واثقا من اشتراك هذين المساعدين اللذين تذكرهما، رغم أنهما يقطنان عاليا في السحب ويسيطران على جميع البشر وكذا الآلهة الخالدين على حد سواء.»
أوديسيوس يرسم لابنه خطة العمل
فقال أوديسيوس العظيم الكثير الحيل: «من المؤكد أن هذين لن يكونا بعيدين عن ميدان المعركة الطاحنة مدة طويلة، عندما توضع قوة أريس في موضع الاختبار بيننا وبين المغازلين في ساحاتي. أما الآن، فانصرف عند مطلع الفجر إلى منزلك، وانضم إلى جماعة المغازلين الرقعاء. وأما أنا فسيأخذني راعي الخنازير بعد ذلك إلى المدينة في هيئة شحاذ بائس وكبير السن. ومهما سخروا مني في المنزل أو احتقروني، فلا تدع قلبك يثور في داخل صدرك وأنا أسام أسوأ معاملة، حتى ولو سحبوني من قدمي خلال المنزل إلى الباب، أو قذفوا بي في الخارج أو ضربوني، بل يجب أن تتحمل رؤية ذلك. حقا، إنك سوف تأمرهم بالكف عن حماقتهم، محاولا منعهم برقيق الألفاظ، ومع ذلك فلن يكترثوا لقولك بأية حال؛ إذ اقترب يوم حتفهم. كذلك سأخبرك بشيء آخر، ويجب أن تضعه في قلبك. عندما تضع أثينا العظيمة النصح مشورتها في ذهني، سأهز لك رأسي، فيجب أن تلاحظ ذلك في الحال، فتقوم بجمع سائر أسلحة القتال الموجودة في ساحاتك، وتخفيها كلها في مخبأ بعيد في المخزن الواسع. وإذا ما افتقد المغازلون الأسلحة وسألوك عنها، فلتراوغهم بعبارات رقيقة خداعة، فتقول لهم: «لقد وضعتها بعيدا عن الدخان،
4
حيث إنها لم تعد كما تركها أوديسيوس في القدم عندما ذهب إلى طروادة، بل تراكمت عليها الأقذار بقدر ما علق بها من أنفاس النار. وزيادة على ذلك فقد وضع ابن كرونوس في قلبي هذا الخوف الأعظم؛ إذ أخشى أنه متى لعبت الخمر برءوسكم، أقمتم الشجار فيما بينكم، وجرح بعضكم البعض الآخر، وبذا تفسدون وليمتكم ومغازلتكم؛ لأن الحديد من تلقاء نفسه يجذب إليه الإنسان.»
أما لكلينا وحدنا فلتترك سيفين ورمحين، وترسين من جلد الثور لنحملها، حتى نستطيع الانقضاض بينهم وإلقاء القبض عليهم، بينما تخدع بالاس أثينا وزوس، المستشار، أولئك المغازلين. وسأخبرك بأمر آخر، يجب أن تضعه في قلبك. إن كنت حقا ابني ومن دمي، فلا تجعلن أحدا يسمع بأن أوديسيوس في المنزل، ولا تدعن لايرتيس يعلم ذلك ولا راعي الخنازير، ولا أي فرد من خدم المنزل، ولا بينيلوبي نفسها؛ فإننا نعرف تماما طبيعة السيدات. نعم، وكذلك سوف نبتلي الكثير من الخدم، فنعرف من منهم يكن لنا الاحترام ويخشانا في قلبه، ومن منهم لا يكترث بنا ويحتقرك، وأنت ذلك الرجل العظيم».»
فأجابه ابنه الرائع يقول: «أبتاه، ستعرف، كما أعتقد، روحي من الآن فصاعدا؛ فما من تراجع عما أعتزم عليه يسيطر على نفسي، ولكني لا أعتقد أن هذه الخطة ستكون ذات نفع لكلينا؛ ومن ثم فإني أطلب منك أن تفكر في الأمر. ستظل مدة طويلة تذهب هنا وهناك دون جدوى، تختبر كل رجل وأنت تزور الحقول، بينما ينفق أولئك الآخرون أموالك حسب أهوائهم بصفاقة، فما تبقى هناك أي مدخر. ومع ذلك ففيما يتعلق بالسيدات، فإني أقترح عليك أن تعرف أيهن لا تبجلك، ومن منهن البريئة. وأما أولئك الرجال في الضياع، فلست أرى أن تعجم عودهم، بل نترك معالجة ذلك إلى ما بعد، إذا كنت حقيقة تعرف علامة ما من زوس، الذي يحمل الترس.»
بينيلوبي تعلم بوصول تيليماخوس
هكذا تكلم كل واحد منهما إلى الآخر، وفي ذلك الوقت كانت السفينة المكينة البناء التي أقلت تيليماخوس وجميع رفاقه من بولوس، قد رست داخل إيثاكا، فعندما جاءوا إلى الميناء العميق، ورسوا سحبوا السفينة السوداء فوق الشاطئ، بينما حمل الخدم حللهم الحربية مزهوين، وفي الحال نقلوا الهدايا الجميلة إلى منزل كلوتيوس، فأرسلوا رسولا إلى منزل أوديسيوس ليخبر بينيلوبي الحكيمة بأن تيليماخوس في الحقل، وقد أمر السفينة بمواصلة الإبحار إلى المدينة، خشية أن يساور القلق الملكة النبيلة فتطلق العنان لدموعها المستديرة فتتساقط؛ وعلى ذلك التقى الاثنان، الرسول وراعي الخنازير العظيم، لنفس المهمة، مهمة حمل النبأ إلى السيدة، فلما بلغا قصر الملك الشبيه بالإله، أعلن الرسول في وسط الخادمات، قائلا: «الآن فقط، يا مليكتي قد عاد ابنك من بولوس.»
اقترب راعي الخنازير من بينيلوبي وأفضى إليها بكل ما طلب منه ابنها العزيز أن يقوله. وبعد أن أخبرها بكل ما أمر به، قفل راجعا إلى الخنازير وترك الفناء والساحة.
المغازلون يتناقشون فيما بينهم
بيد أن المغازلين قنطوا وتخاذلت أرواحهم، وخرجوا من الساحة عبر سور الفناء العظيم، وجلسوا أمام الأبواب، ثم قام بعد ذلك يوروماخوس بن يولوبوس، في وسطهم وتكلم أولهم، فقال: «أيها الأصدقاء، الحق أن عملا عظيما قد تم بوقاحة على يد تيليماخوس، ذلك هو الرحلة، التي كنا نظن أنه لن يحققها. إذن هلموا بنا، ننزل إلى البحر سفينة سوداء، خير ما عندنا من السفن، ودعونا نجمع بحارة مجذفين حتى يستطيعوا في الحال أن يحملوا الأخبار إلى أولئك الآخرين بسرعة لكي يرجعوا إلى الوطن.»
ما كاد ينتهي هذا من كلماته، حتى استدار أمفينوموس
Amphinomus
في مكانه ، فرأى سفينة في الميناء العميق، ورجالا يطوون الشراع، وفي أيديهم المجاذيف، فضحك ملء شدقيه، وقال وسط رفقائه: «إذن فلا تبعثوا برسالة بعد الآن؛ فها هم في الوطن. إما أن أحد الآلهة قد أخبرهم بهذا، وإما أنهم رأوا بأنفسهم مركب تيليماخوس وهو مار بهم، ولكنهم لم يستطيعوا اللحاق به.»
ما إن قال هذا، حتى نهضوا وذهبوا إلى ساحل البحر، وبسرعة سحب الرجال السفينة السوداء فوق الشاطئ، وحمل الخدم المزهوون أسلحتهم. أما هم فذهبوا في الوقت نفسه جميعا إلى مكان الاجتماع، ولم يسمحوا لأحد بالجلوس معهم، سواء أكان شابا يافعا أو عجوزا كهلا، فقام في وسطهم بعد ذلك أنتينوس
Antinous ، ابن يوبايثيس
Eupeithes ، وخاطبهم بقوله: «ويحكم! انظروا الآن كيف خلصت الآلهة هذا الرجل من الهلاك. لقد ظل المراقبون يجلسون فوق المرتفعات ذات الرياح يوما بعد يوم، الحارس يتلوه الحارس باستمرار، ولم نذهب إلى الشاطئ قط عند غروب الشمس، بل كنا دائمي الإبحار بسفينتنا السريعة عبر الخضم الواسع حتى مطلع الفجر اللامع، منتظرين تيليماخوس، حتى يمكننا أن نقبض عليه ونقتله، ولكن في الوقت نفسه جاء به أحد الآلهة إلى الوطن، فلا يسعنا إذن، إلا أن ندبر له ميتة شنيعة، ولا ندعه يفلت من أيدينا؛ إذ حسب اعتقادي لن ننجح في عملنا هذا طالما هو على قيد الحياة؛ لأن هو نفسه سديد الرأي في المشورة والحكمة، ولن يبدي القوم لنا أي رضى بعد الآن، فهيا، تعالوا قبل أن يجمع الآخيين في مكان الاجتماع؛ إذ أعتقد أنه لن يبطئ في العمل بأية حال من الأحوال، ولكنه وقلبه يفيض غضبا، سيقف وسطهم ويعلن لهم كيف أننا دبرنا له الهلاك الشامل، بيد أننا لم نتمكن من القبض عليه، فإذا ما أحيطوا علما بأعمالنا الشريرة ساءت سمعتنا لديهم، خذوا حذركم إذن، لئلا يدبروا لنا ضررا ما ويطردونا من مدينتنا، فنلجأ إلى بلاد الأغراب. هلموا بنا، إلى العمل أولا، لنقبض عليه في الحقول بعيدا عن المدينة، أو في الطريق. ولنحتفظ نحن أنفسنا بأمواله، وكذا ثروته، ونقتسمها بالعدل فيما بيننا، ولو أننا سنعطي البيت لوالدته ملكا لها، ولمن يتزوجها. ومع ذلك فإن كانت لا تروقكم هذه الخطة، بل تفضلون أن يظل حيا ويحتفظ بكل ثروة آبائه، فلنستمر في ازدراد خزينة من أطايب الأشياء ونحن نجتمع سويا هنا، وليغازلها كل رجل من ساحته بهداياه ويحاول الفوز بها، ولها بعد ذلك أن تتزوج من يقدم أحسن شيء، ومن كان من حظه أن يصبح سيدها المقدر.»
أمفينوموس يعارض خطة قتل تيليماخوس
هكذا تكلم. وخيم الصمت عليهم أجمعين، ثم قام أمفينوموس وسطهم، وخاطب حشدهم. لقد كان هو الابن المجيد للأمير نيسوس
Nisus ، ابن أريتياس
Aretias ، وقاد المغازلين الذين قدموا من دوليخيوم، الغنية بالقمح والحشائش، ودون سائر الجميع قد أدخل السرور بكلامه على نفس بينيلوبي؛ إذ كان ذا قلب مدرك، فقام بنية سليمة، وخاطب حشدهم، وتحدث في وسطهم، قائلا: «أيها الأصدقاء، لا ريب في أنني لا أرى أن نقتل تيليماخوس؛ فما أفظع أن نقتل شخصا من أصل ملكي. كلا هلموا بنا أولا نحاول معرفة إرادة الآلهة؛ فلو وافق على ذلك وحي زوس العظيم، لقتلته أنا نفسي، ولأمرت سائر الآخرين بعمل ذلك، أما إذا جعلتنا الآهلة نعدل عن هذا العمل، فإني آمركم بالعدول عنه.»
هكذا تكلم أمفينوموس، فسر الجميع من كلامه؛ وعلى ذلك نهضوا من فورهم وذهبوا إلى بيت أوديسيوس، ما إن دخلوا، حتى جلسوا على المقاعد المصقولة.
بينيلوبي تظهر أمام العاشقين
بعدئذ اتخذت بينيلوبي الحكيمة رأيا آخر، أن تظهر نفسها للعاشقين، السكعاء اللكعاء؛ إذ كانت قد علمت بما يهدد ابنها في ساحاتها من ميتة؛ فقد أخبرها بذلك الرسول ميدون، الذي كان قد سمع تآمرهم؛ ومن ثم ذهبت في طريقها إلى الساحة مع وصيفاتها. وما إن وصلت السيدة الفاتنة إلى مكان المغازلين حتى وقفت بجانب باب الساحة المكينة الميناء وأمسكت خمارها البراق أمام وجهها، وأنحت باللوم على أنتينوس، وخاطبته بقولها: «أيا أنتينوس، أيها المملوء بالوقاحة، ويا مدبر الشر! يقول الناس عنك إنك تفوق سائر أترابك في بلاد إيثاكا مشورة وحديثا، ولكن يبدو أنك لست ذلك الرجل، أيها المأفون! لماذا تدبر الموت والقضاء ليتليماخوس، ولا تكترث بالمتضرعين، الذين يعتبر زوس شاهدهم. ليس من التقوى أن يدبر أحدكم الشر للآخر. ألا تذكر الوقت الذي جاء فيه أبوك إلى هذا المنزل مستجيرا وفي هلع من الشعب؟ الحق أن الشعب كان غاضبا عليه أشد الغضب؛ إذ انضم إلى قراصنة تافيين ونهبوا الثيسبروتيين، حلفاءنا. لقد كانوا يريدون قتله وقتئذ، وسلب حياته بالقوة، وابتلاع حياته العظيمة السارة ابتلاعا شاملا، ولكن أوديسيوس منعهم، وأوقفهم رغم ثورتهم. إن بيته هو هذا الذي تستهلكون ما فيه الآن بدون وجه حق، وتغازلون زوجته، وتحاولون قتل ابنه، فتجلبون على قلبي حزنا بالغا. كلا تريثوا، إنني آمركم، وآمر غيركم بالتريث.»
يوروماخوس يهدئ من روع بينيلوبي
عندئذ أجابها يوروماخوس بن بولوبوس، بقوله: «يا ابنة إيكاريوس، يا بينيلوبي الحكيمة، انشرحي صدرا ولا تدعي هذه الأمور تعكر صفو قلبك. لا يعيش، ولن يعيش ولن يولد قط، من يضع يديه على ابنك تيليماخوس طالما أنا حي وأرى النور فوق الأرض. هكذا أقول لك، وهذا ما سوف يحدث حقا؛ فلسوف تجري بسرعة دماء ذلك الرجل السوداء حول رمحي؛ لأنك إن أردت الحق، فكثيرا أيضا، ما جثا أوديسيوس مخرب المدن على ركبتيه، ووضع لحما مشويا في يدي، وحمل إلى شفتي خمرا صهباء؛ لذلك كان تيليماخوس أعز جميع الناس عندي، وإني لآمره ألا يهاب الموت، على الأقل بيد المغازلين، أما إن كان من لدن الآلهة فلن يستطيع أحد أن يتحاشاه.»
تكلم هكذا ليرضيها، ولكنه في الحقيقة كان يدبر قتل ذلك الابن، ومن ثم صعدت إلى حجرتها العليا المتألقة، وطفقت تبكي أوديسيوس، زوجها العزيز، إلى أن ألقت أثينا، ذات العينين النجلاوين، النوم اللذيذ على جفنيها.
أثينا تحول أوديسيوس إلى شحاذ عجوز
عندما أقبل المساء عاد راعي الخنازير الطيب إلى أوديسيوس وابنه وكانا منهمكين في إعداد عشائهما؛ إذ نحرا خنزيرا حوليا. وبعد ذلك اقتربت أثينا من أوديسيوس بن لايرتيس، فضربته بصولجانها فغدا من جديد رجلا عجوزا، ووضعت حول جسمه أسمالا رثة، لئلا يحدق فيه راعي الخنازير ببصره فيعرفه. وقد ينطلق لينقل البشرى إلى بينيلوبي الثابتة الجنان، ولا يكتم السر في قلبه.
بادر تيليماخوس راعي الخنازير بقوله: «ها أنت قد جئت يا يومايوس الطيب، ما أخبار المدينة؟ أوصل المغازلون المتغطرسون الآن إلى المنزل من كمينهم، أم لم يزالوا في انتظاري حيث هم؛ ليغتالوني وأنا في طريقي إلى الوطن؟»
إذن رددت عليه، يا راعي الخنازير يومايوس، فقلت: «لم أكن أزمع التجول في المدينة، لأسأل وأستعلم عن هذا، فقد أمرني قلبي بأن أرجع إلى هنا بغاية السرعة بعد أن أبلغ رسالتي. بيد أن رسولا، سبقني ونمى الخبر إلى والدتك، رسولا سريعا من رفقائك. إنني لعلى يقين من هذا الأمر؛ لأنني أبصرته بعيني رأسي. وكنت في ذلك الوقت فوق مرتفع يطل على المدينة، حيث يوجد تل هيرميس، وأنا ذاهب في طريقي، فإذا بي أرى سفينة سريعة تدخل ميناءنا، وكان بداخلها رجال عديدون، كما كانت أيضا محملة بالدروع والرماح ذات الأسنة المدببة المزدوجة، فخيل إلي أنهم أولئك الرجال، ولكن لم أكن ذا علم أكيد.»
هكذا قال يومايوس، وابتسم تيليماخوس القوي العتيد، وحدج أباه بنظره ولكنه تحاشى عيني راعي الخنازير.
وبعد أن انتهوا من عملهم وأعدوا الطعام، انكبوا يأكلون، ولم تفتقر قلوبهم إلى شيء من الوليمة الفاخرة. حتى إذا ما ملئوا بطونهم وشبعوا من الطعام والشراب، فكروا في الراحة، فناموا ملء جفونهم.
5
الأنشودة السابعة عشرة
اقتربا من المدينة، ووصلا إلى نافورة بديعة الصنعة، رائعة التدفق.
تيليماخوس يوصي الراعي بالغريب
ما كاد يلوح الفجر الباكر، ذوا الأنامل الوردية، حتى لبس تيليماخوس العزيز، ابن أوديسيوس المقدس، صندله البديع في قدميه وتناول رمحه القوي، الذي كان يتفق وقبضة يده، وأسرع إلى المدينة، وخاطب راعي الخنازير بقوله: «أبتاه، إنني ذاهب حقا إلى المدينة، حتى تستطيع والدتي أن تشاهدني؛ إذ أعتقد أنها لن تكف عن البكاء المحزن والنحيب الدامع إلا بعد أن تراني شخصيا. وإنني لأعهد إليك بهذه المهمة. أرشد هذا الغريب البائس إلى المدينة، ليمكنه أن يستجدي طعامه هناك، فيجد من يجود عليه برغيف وقدح من الماء. أما أنا شخصيا فلا يمكنني بأية حال أن أثقل على نفسي، بمراعاة مصالح جميع الناس؛ إذ بقلبي ما يكفي من الحزن. ولو أغضب الغريب هذا، فإنه سيكون وبالا عليه أي وبال. فالحقيقة أنني أحب أن أقول الصدق».
بعد ذلك أجاب أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «أي صديقي، كن واثقا بأنني أنا نفسي غير تواق إلى أن أترك هنا؛ إذ من الخير للسائل أن يستجدي الناس طعامه في المدينة، أكثر مما يستجديه في الحقول، فمن كان لديه شيء أعطانيه؛ فما عدت في السن التي تسمح لي بالبقاء في الضياع لأطيع في كل شيء أوامر المتكهنين. كلا انطلق في طريقك، فإن هذا الرجل الذي تأمره سيقودني إلى المدينة بمجرد أن أصطلي النار فأدفئ نفسي، وتضحي الشمس حامية لأن الملابس التي تسترني في غاية البؤس، وأخشى أن يقهرني صقيع الصباح، وإنك لتقول إن المسافة إلى المدينة بعيدة.»
تيليماخوس يبلغ قصر أمه
هكذا تكلم، وانطلق تيليماخوس يشق طريقه عبر الضيعة بخطى واسعة، وكان يبذر بذور الشر للمغازلين، فما إن بلغ القصر الفسيح الأرجاء، حتى وضع رمحه في مكانه، وأسنده إلى قائم مرتفع، ثم دخل هو نفسه مجتازا العتبة الحجرية.
كانت المربية يوروكليا
Eurycleia ، أول من أبصره وهو يفرش الفراء الصوفية فوق المقاعد الفاخرة الصنع، فهرعت إليه وهي تجهش بالبكاء، واجتمعت سائر الإماء الباقيات حولهما، إماء أوديسيوس الراسخ القلب، وأخذن يوسعنه تقبيلا في رأسه وكتفيه مرحبات به ترحيب المحبة.
بينيلوبي تستقبل ابنها بالبكاء والقبلات
عندئذ خرجت بينيلوبي الحكيمة من مقصورتها، أشبه ما تكون بأرتيميس أو بأفروديتي الذهبية، وانخرطت في البكاء وطوقت ابنها العزيز بذراعيها، وقبلت رأسه وكلتا عينيه الجميلتين، وتحدثت إليه بكلمات مجنحة، وهي تبكي فقالت: «ها أنت ذا قد جئت، يا تيليماخوس، يا نور عيني الحلو، لقد ظننت أنني لن أراك إطلاقا بعد أن رحلت في سفينتك إلى بولوس - سرا ورغما مني - لتستقي الأخبار عن أبيك العزيز. هيا إذن خبرني عن الحال التي شاهدته عليها.»
فأجابها تيليماخوس الحكيم، قائلا: «لا تثيريني إلى البكاء، يا أماه، أتوسل إليك، ولا تهيجي قلبي في داخل صدري، ما دمت قد نجوت من الهلاك الشامل. هيا، استحمي وارتدي ثوبا نظيفا فوق جسمك، ثم اصعدي إلى مقصورتك العليا مع إمائك، وأقسمي لجميع الآلهة بأنك سوف تقدمين ذبيحة من مائة ثور تحقق الرجاء، أملا في أن زوس يحقق أعمال الأخذ بالثأر العادل يوما ما. أما أنا فسأذهب إلى مكان الاجتماع كي أدعو إلى منزلنا غريبا حضر معي من بولوس وأنا في طريقي إلى هنا. لقد جعلته يسبقني مع رفقائي الشبيهين بالآلهة، وطلبت من بايرايوس أن يصحبه إلى منزله ويقدم له القرى اللائق، ويظهر له الاحترام إلى أن أجيء.»
هكذا تكلم، ولكن كلمتها بقيت بغير جناح،
1
وبعد ذلك اغتسلت، وأخذت لباسا نظيفا لجسمها، وأقسمت لجميع الآلهة بأن تقدم ذبيحة من مائة ثور تحقق الرجاء، على أمل أن زوس في يوم من الأيام يحقق أعمال الانتقام العادل.
تيليماخوس يلتقي بالمغازلين
أما تيليماخوس فانطلق بعد ذلك مخترقا الساحة وهو يحمل رمحه في يده، وتبعه كلبان سريعان. وما أعظم الجمال الذي سكبته أثينا عليه! حتى إنه أثار عجب الناس جميعا عندما أقبل، فاجتمع حوله المغازلون الرقعاء، وأخذوا يتحدثون إليه بمعسول الألفاظ، بينما هم يفكرون بالشر في أعماق قلوبهم. ومع ذلك فإنه تحاشى جمع الرجال الكبير، وقصد إلى المكان الذي كان يجلس فيه مينتور
Mentor ، وأنتيفوس
Antiphus ، وهاليثيرسيس
Halitherses ، الذين كانوا أصدقاء بيت أبيه منذ القدم، حيث اتخذ مجلسه، فسألوه عن كل شيء. وبعد ذلك اقترب الرماح الشهير بايرايوس، يقود الغريب خلال المدينة إلى مكان الاجتماع، ولم ينأ تيليماخوس مدة طويلة عن ضيفه، بل تقدم نحوه، وعندئذ بدأه بايرايوس بالحديث، قائلا: «يا تيليماخوس، أسرع بإرسال نساء إلى بيتي، كي أبعث إليك بالهدايا التي قدمها لك مينيلاوس.»
عندئذ أجابه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «أي بايرايوس، لسنا نعرف كيف ستتطور الأمور بعد، فلو قتلني المغازلون المتغطرسون سرا في ساحتي لاقتسموا جميع ممتلكات آبائي فيما بينهم، فأرجو أن تحتفظ بهذه الأشياء؛ إذ أفضل أن تتمتع بها أنت نفسك من أن يتمتع بها واحد من هؤلاء. أما إذا استطعت أن أبذر لهم بذور الموت والقدر، فأحضر عندئذ كل شيء إلى منزلي بسرور، وعندئذ سأكون مغتبطا.»
تيليماخوس يقص على أمه أخبار رحلته
ما إن قال هذا، حتى قاد الغريب الذي بلغ به التعب غايته، إلى المنزل، فلما وصلا إلى البيت الفسيح، وضعا عباءتيهما فوق الكراسي والمقاعد العالية، ودخلا الحمامات اللامعة واغتسلا. وبعد أن غسلتهما الخادمات ودهن جسميهما بالزيت، وألقين فوقهما جلبابين وعباءتين من الصوف، خرجا من الحمامات وجلسا فوق الكراسي. بعد ذلك أحضرت خادمة ماء للأيدي في إبريق بديع من الذهب، وسكبته في طست من اللجين حتى يستطيعا أن يغسلا أيديهما، وجاءت إلى جوارهما بخوان مصقول، فأحضرت ربة البيت الصارمة خبزا وضعته أمامهما، ومعه لحم بكمية وفيرة، مانحة من خزينها بسخاء. وجلست والدة تيليماخوس قبالته بجوار قائم باب الساحة، متكئة على كرسي تغزل خيوطا رفيعة من الكتان. وهكذا مدا أيديهما إلى الطعام الشهي الذي أعد ووضع أمامها، فلما ملآ بطنيهما من الطعام والشراب، بدأتهما بينيلوبي الحكيمة بالحديث، فقالت: «أي تيليماخوس، الحق أنني سأصعد إلى مقصورتي العليا وأستلقي فوق فراشي، الذي غدا بالنسبة لي فراش البكاء، أبلله بدموعي دائما، منذ ذلك اليوم الذي رحل فيه أوديسيوس إلى إليوس مع أبناء أتريوس، ولكنك لا تهتم، قبل أن يدخل المغازلون السكعاء إلى هذا المنزل، أن تخبرني بصراحة عن عودة أبيك، إذا كنت قد سمعت شيئا.»
فأجابها تيليماخوس الحكيم، قائلا: «إذن حقا يا أماه، سأخبرك بالحقيقة كلها. لقد ذهبنا إلى بولوس عند نسطور، راعي الشعب، فأحسن استقبالي في منزله الشاهق وقدم لي الضيافة الطيبة، مرحبا بي ترحيب الأب بابنه الذي جاءه من توه بعد غياب طويل في مكان قصي. لقد أكرم وفادتي مع أبنائه الأمجاد بمثل هذه الطيبة، ومع ذلك، فقد قال إنه لم يسمع شيئا عن أوديسيوس الراسخ القلب، سواء أكان على قيد الحياة أم في عداد الأموات، من أي إنسان على وجه الأرض، ولكنه بعث بي في عربة ذات مفاصل تجرها الخيول إلى مينيلاوس بن أتروبوس الرماح المشهور. وهناك شاهدت هيلينا الأرجوسية، التي قاسى الأرجوسيون والطرواديون كثيرا من المشاق من أجلها بإرادة الآلهة. وفي الحال سألني مينيلاوس الرائع في صيحة الحرب، مستعلما عن السبب الذي من أجله جئت إلى لاكيدايمون العظيمة، فأخبرته بالحقيقة كلها. بعد ذلك أجابني، وقال: «سحقا لهم! لأنهم حقا كانوا يتوقون إلى الاضطجاع في فراش رجل جريء القلب، أولئك الجبناء الرعاديد. كما يحدث تماما أن غزالة ترقد في عرين الليث لتنيم صغارها الرضع الحديثة المولد، ثم تخرج فتجوس فوق منحدرات الجبال وفي الوديان الخضراء بحثا عن المراعي، وبعدئذ يأتي الليث إلى عرينه فينزل بالصغار مصيرا قاسيا. هكذا سوف ينزل أوديسيوس مصيرا قاسيا بأولئك الرجال. وإنني لأطلب منك يا أبتاه زوس، وأنت يا أثينا، ويا أبولو، أنه بمثل تلك القوة كما حدث مرة في ليسبوس
Lesbos
البديعة الإنشاء عندما نهض وتصارع في جولة مع فيلوميلايديس
2
فألقاه بعنف، وابتهج جميع الآخيين، بمثل تلك القوة أتمنى أن يهجم أوديسيوس وسط المغازلين، وليتهم جميعا يلاقون هلاكا سريعا ومرارة في مغازلتهم. أما عن هذا الأمر الذي تتوسل إلي وتسألني عنه، فالحق أنني سأخبرك به ولن أخرج عنه بحرف واحد لأتكلم في أمور أخرى، كما أنني لن أغشك، ولكنني لن أخفي شيئا واحدا، أو أكتمه، مما أخبرني به عجوز البحر الذي لا يخطئ قط. قال إنه رأى أوديسيوس في جزيرة حزينا أشد الحزن وأمضه، في ساحات الحورية كالوبسو، التي تحجزه عندها بالقوة. وإنه غير مستطيع العودة إلى وطنه؛ إذ ليس عنده سفن ذات مجاذيف ولا رفاق ليأخذوه في طريقه عبر ظهر البحر الفسيح.»
هذا ما قاله مينيلاوس بن أتريوس، الرماح الذائع الصيت. ولما انتهيت من كل هذا أقلعت إلى وطني، ووهبني الخالدون ريحا معتدلة وأحضروني بسرعة إلى وطني العزيز.»
ثيوكلومينوس يتنبأ بأن أوديسيوس موجود في وطنه
هكذا تكلم تيليماخوس وأثار القلب في صدر أمه، ثم نهض وسطهما ثيوكلومينوس
3
الشبيه بالإله وتحدث إليهما قائلا: «يا زوجة أوديسيوس بن لايريتس، المبجلة، الحق أنه ليس واضح الإدراك، ولكن هل لك أن تصغي إلى كلماتي؛ لأنني سأتنبأ لك بمعرفة أكيدة، ولن أخفي عنك شيئا، فكن شاهدي يا زوس فوق جميع الآلهة، ولتشهد علي هذه المائدة المضيافة ومدفأة أوديسيوس النبيل الذي إليه جئت. إن أوديسيوس موجود الآن حقا في وطنه، مستريحا، أو متحركا على علم تام بهذه الأعمال الشريرة، وإنه ليبذر بذور الشر للمغازلين؛ ففي غاية الوضوح أبصرت طائر فأل وأنا جالس فوق السفينة ذات المقاعد، وأعلنت الأمر لتيليماخوس.»
فأجابته بينيلوبي الحكيمة، قائلة: «آه! أيها الغريب، ليت كلمتك هذه تتحقق، إذن لعرفت العطف مني بسرعة ونلت هدايا كثيرة، حتى إذا ما قابلك شخص سماك المحظوظ.»
ميدون يدعو المغازلين إلى تناول الطعام
هكذا تحدث كل واحد إلى الآخر. أما المغازلون ففي الوقت نفسه كانوا يطربون أمام قصر أوديسيوس، يقذفون الجلة والرمح في مكان مستو، بصفاقة قلب، كما كانت عادتهم. بيد أنه عندما أقبل المساء وحان موعد العشاء، وعادت القطعان من سائر أنحاء الحقول، وجاء بها الرجال الذين كانوا يقودونها دائما، تحدث إليهم ميدون، الذي دون جميع الرعاة، كان محببا إلى قلوبهم غاية الحب، وكان دائم الحضور إلى ولائمهم، فقال: «أيها الشباب، أما وقد أدخلتم الآن السرور إلى قلوبكم جميعا بالرياضة، فهلموا بنا إلى المنزل لكي نعد مأدبة؛ فليس من المرذول أن يتناول المرء طعامه في موعده».
ما إن قال هذا حتى نهضوا منصرفين، وأطاعوا قوله، فلما بلغوا البيت الفسيح الأرجاء وضعوا عباءاتهم فوق الكراسي والمقاعد العالية، وشرع الرجال يذبحون الكباش الضخمة والمعيز السمينة، نعم والخنازير المسمنة، وعجلة من القطيع، حتى أعدوا الوليمة. وفي تلك الأثناء كان أوديسيوس وراعي الخنازير الطيب يسرعان ليذهبا من الحقل إلى المدينة، وبدأ راعي الخنازير قائد الرجال، يتحدث أولا، فقال: «أيها الغريب، طالما أنك تتوق إلى الذهاب إلى المدينة اليوم، كما أمر سيدي - رغم أنني شخصيا أوثر أن أتركك هنا لتحرس الضيعة، غير أنني أحترمه وأخشاه، لئلا يلومني فيما بعد، وأن تعنيف السادة لبالغ القسوة - فهيا الآن، هلم بنا نذهب حيث إن اليوم قد مضى منه أكثره، وسرعان ما سيكون أشد بردا عندما يقبل المساء.»
يومايوس يقود أوديسيوس إلى قصر أمه
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «أرى ذلك، وأعمل حسابه، وإنك لتأمر بهذا شخصا ذا إدراك. تعال، دعنا نذهب، وكن مرشدي طوال الطريق، ولكن أعرني عكازة أتوكأ عليها، لو كان لديك عصا مقطوعة في أي مكان، فإنك قلت إن الطريق حقا مملوءة بالغدر.»
قال هذا، وألقى حول كتفيه جرابه المهلهل، الكثير الثقوب، معلقا بحبل مجدول، وأعطاه يومايوس عصا كما أراد. وهكذا انصرفا يسيران قدما في طريقهما، بينما بقيت الكلاب والرعاة وراءهما هناك لحراسة الضيعة، فقاد راعي الخنازير سيده إلى المدينة في هيئة شحاذ عجوز بائس، يتكئ عكازته، ويرتدي أسمالا بالية فوق بدنه.
بعد أن مشى الاثنان بحذاء الطريق الوعر، اقتربا من المدينة، ووصلا إلى نافورة بديعة الصنعة، رائعة التدفق، كان القوم يستقون الماء منها كان قد صنعها إيثاكوس
Ithacus
ونيريتوس
Neritus
وبولوكتور
، وكان هناك حولها غابة من أشجار الصفصاف، التي كانت تنمو بجانب المياه، تحيط بها من كل جانب، وكانت المياه الباردة تتدفق من الصخرة أعلاها منحدرة إلى أسفل، وقد شيد في القمة مذبح للحوريات حيث يقدم التقدمات كل مار - فقابلهما هناك ميلانثوس
Melanthus ، ابن دوليوس
Dolius ، بينما كان يسوق نعاجه، خير نعاج كانت في سائر القطعان، ليعد منها المغازلون ولائمهم، ويتبعه راعيان، فلما أبصرهما تحدث إليهما وخاطبهما، بكلمات التحدي غير اللائقة الفظيعة، مثيرا بذلك قلب أوديسيوس إذ قال: «يا للعجب! ها هو ذا الآن، الشر يقود الشر حقا، كما هي العادة دائما، أن يجمع الله الشبيهين معا. إلى أين، بربك، تقود هذا البائس القذر،
4
يا راعي الخنازير التعيس، هذا الشحاذ المقلق لتكدر علينا صفو ولائمنا؟ إنه لرجل جدير بأن يقف ويحك كتفيه في كثير من الأبواب، يستجدي الناس الفتات، وليس جديرا بالسيوف والقدور،
5
ولو أعطيتني هذا الرفيق ليحرس ضيعتي، فينظف الحظائر ويحمل الأغصان اللدنة إلى الجداء، وعندئذ بشربه مصل اللبن (الشرش) يقوى فخذه، ولكن بما أنه لم يتعلم سوى أعمال الشر، فلن يهتم بأن يشغل نفسه بالعمل، بل يؤثر التسكع عبر البلدان، كي يستطيع بالاستجداء أن يملأ بطنه الذي لا يشبع . غير أنني سأصارحك القول، وسوف يتحقق ما أقول بالفعل، لو ذهب إلى قصر أوديسيوس المقدس، لانهالت حول رأسه مقاعد كثيرة، بيد أولئك الذين هم بالحق رجال، وتتحطم فوق ضلوعه،
6
وهو يسلخ في وسط المنزل.»
قال هذا، وبينما هو يسير ركل أوديسيوس في حقويه، فما أحمقه! ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يدفعه بعيدا عن الطريق، بل ثبت في مكانه. وحار أوديسيوس ماذا يفعل، أينقض عليه بعصاه فيسلبه حياته، أم يقبض عليه ويطوقه بذراعيه ثم يرفعه إلى فوق ويهوي به على الأرض فيحطم رأسه. بيد أنه كظم غيظه، وأمسك نفسه عن مأربه. وحدج راعي الخنازير الرجل بنظرة في وجهه، ووبخه، ثم رفع يديه وصلى بصوت مرتفع قائلا: «أيا حوريات النافورة، يا بنات زوس، لو كان أوديسيوس قد أحرق فوق مذابحك قطعا من فخاذ الحملان أو الجداء، ملفوفة بالدهن الكثير، فحققن لي هذا الرجاء، قيضن لسيدي أن يعود، وأن يرشده أحد الآلهة. وعندئذ يزيل عنك كل هذه المظاهر التي تزهو بها وترتديها الآن بصفاقة، هائما أبدا حول المدينة، بينما يحطم الرعاة الأشرار القطيع.»
عندئذ أجابه ميلانثيوس، راعي المعيز، بقوله: «تبا لك الآن، كيف يتكلم هذا القذر وعقله زاخر بالشرور، فلآخذنه ذات يوم في سفينة سوداء ذات مقاعد بعيدا عن إيثاكا، لأنال عنه ثروة طائلة. ليت أبولو، ذا القوس الفضية، يضرب تيليماخوس اليوم في الساحات، أو أن يقتله المغازلون. إنه من المؤكد أن يوم العودة قد ضاع على أوديسيوس في بلد قصي.»
أوديسيوس ويومايوس يتبادلان الرأي
قال هذا، وتركهما هناك يسيران وئيدا بينما هو نفسه خطا إلى الأمام فبلغ قصر الملك بسرعة. ودخل من فوره وجلس وسط المغازلين في قبالة يوروماخوس؛ إذ كان يميل إليه أكثر من سائر الباقين. وإلى جواره وضع أولئك الذين كانوا يخدمون قطعة من اللحم، وأحضرت ربة البيت الصارمة خبزا وضعته أمامه لكي يأكل. أما أوديسيوس وراعي الخنازير الطيب فلما اقتربا، وقفا ومن حولهما كان صوت القيثارة الجوفاء يملأ الجو؛ لأن فيميوس
كان يضرب الأوتار ليغني أمام المغازلين؛ بعدئذ أمسك أوديسيوس بيد راعي الخنازير وقال له: «يومايوس، حقا إن هذا لمنزل أوديسيوس الجميل، من السهل معرفته، رغم وجوده وسط بيوت كثيرة. هناك بناء فوق بناء، والفناء ذو سور ودعامات، والبوابتان المزدوجتان مسورتان بإحكام بحيث لا يجد المرء فيهما عيبا. وإني لألاحظ أن بالمنزل نفسه رجالا كثيرين يولمون؛ إذ تتصاعد منه رائحة الشواء، ويدوي معها صوت القيثارة، التي جعلتها الآلهة رقيقة المآدب.»
عندئذ أجبته، يا راعي الخنازير يومايوس، وقلت: «لقد عرفته بسهولة؛ لأنك سريع البديهة في كل شيء، ولكن هيا بنا نفكر فيما سنفعله، وكيف ندبر أمورنا فإما أن تدخل أنت أولا إلى القصر المنيف، وتدخل على جماعة المغازلين وأبقى أنا هنا، أو تبقى أنت هنا، إذا شئت بينما أذهب أنا قبلك، بحيث ألا تتأخر مدة طويلة، لئلا يراك شخص ما في الخارج ويسلخ جلدك أو يضربك. إنني آمرك بأن تحذر هذا الأمر.»
فأجابه أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، قائلا: «أرى هذا وأعيره اهتماما. إنك تأمر بهذا أمرا ذا إدراك، فاذهب أنت قبلي، بينما أتخلف أنا هنا؛ لأنني لست بحال ما غير متعود الشتم والسلخ. وإن قلبي لجسور؛ إذ قاسيت كثيرا من الشرور العظيمة وسط اللجج وفي ميدان الوغى، فدع هذا أيضا يضف إلى ما سبق أن مضى، ولكن البطن الجائع لا يمكن للمرء أن يخفيه، ذلك الطاعون اللعين يجلب شرورا بالغة على بني الإنسان! بسببه أعدت السفن ذات المقاعد، التي تحمل الويلات للأعداء عبر البحر الصاخب.»
أوديسيوس يبكي كلبه والكلب يراه فيموت
هكذا تكلم كل منهما إلى الآخر، وكان هناك كلب راقد، فرفع رأسه ومد أذنيه، ذلك هو أرجوس
Argos ، كلب أوديسيوس، الثابت الجنان، الذي كان قد رباه قديما هو نفسه، ولكنه لم يتمتع به؛ إذ قبل أن تبتهج به نفسه سافر إلى إليوس المقدسة؛ ففيما مضى من الزمان كان من عادة الشبان أن يصحبوا الكلاب معهم لصيد المعيز الوحشية، والغزلان، والأرانب البرية، غير أنه الآن يقبع مهملا، بعد أن رحل سيده غارقا في روث البغال والماشية العميق، المتراكم في أكوام أمام الأبواب، إلى أن يأتي عبيد أوديسيوس فينقلوه ليسمدوا به حقوله الواسعة. هناك رقد الكلب أرجوس، ملوثا كله بالأقذار، بيد أنه ما إن أبصر أوديسيوس واقفا الآن بالقرب منه، حتى حرك ذيله وأرخى أذنيه، ولكن أنى له بالقوة التي تمكنه من الحركة ليقترب أكثر من سيده. وعندئذ أدار أوديسيوس وجهه جانبا ومسح عبرة، مخفيا عن يومايوس ما فعله في سهولة، وفي الحال سأله، بقوله: «يا يومايوس، من الغريب حقا أن يرقد هذا الكلب هنا في الروث. إنه جميل المنظر، ولكني لست أعرف تماما ما إذا كان لديه سرعة في الإقدام تتناسب وهذا الجمال أم إنه ليس سوى كلب كبقية كلاب الموائد، التي يحتفظ بها سادتها من أجل منظرها.»
فرددت عليه إذن، يا راعي الخنازير يومايوس، فقلت: «كلا في الحقيقة إن هذا كلب رجل مات في بلد قصي، ولو كان على ما كان عليه من النشاط والمنظر الذي تركه عليهما أوديسيوس عندما رحل إلى طروادة، لذهلت لتوك عندما ترى سرعته وقوته؛ فما من مخلوق طارده في أعماق الغابة استطاع أن ينجو منه، كما أنه كان حاد الشم في اقتفاء الأثر. أما الآن فإنه يعاني محنة شريرة؛ إذ مات سيده بعيدا عن وطنه، ولم تعره السيدات المهملات أي اهتمام؛ فمتى فقد السادة قوتهم، ما عادت للخدم رغبة في القيام بالخدمة بإخلاص؛ لأن زوس، الذي يحمل صوته نائيا يسلب الرجل نصف قيمته، إذا ما حل يوم استعباده.»
يومايوس ينضم إلى حشد المغازلين
ما إن قال هذا حتى دخل المنزل الفسيح وانطلق من فوره إلى الساحة لينضم إلى حشد المغازلين الأمجاد. أما أرجوس، فقد حل به مصير الموت الأسود بمجرد أن رأى أوديسيوس بعد عشرين سنة.
وبينما كان راعي الخنازير يسير الآن خلال الساحة كان تيليماخوس شبيه الإله أول من رآه، فأسرع يستدعيه إلى جانبه بإيماءة من رأسه، فتطلع يومايوس حواليه وتناول مقعد أقدام بقربه، كان من عادة نادل قطع اللحوم أن يجلس فوقه عندما يقطع شرائح اللحم الوافرة للمغازلين، وهم يولمون في الساحة ، فأخذ ذلك المقعد ووضعه عند مائدة تيليماخوس، قبالته، ثم جلس هو نفسه، فتناول أحد الخدم شريحة لحم ووضعها أمامه، وكذلك خبزا من السفط.
أوديسيوس يدخل قصر أمه في هيئة شحاذ
بعد هذا بقليل دخل أوديسيوس القصر في هيئة شحاذ بائس فتت في عضده السنون، يتوكأ على عصا، ومرتديا أسمالا مهلهلة فوق جسده، فجلس على العتبة الحافلة بالرماد من داخل الباب، مسندا ظهره إلى قائم الباب الخشبي، الذي صقله فيما مضى بالمسحج نجار ماهر، وسواه كالخط المستقيم. بعد ذلك استدعى راعي الخنازير تيليماخوس إلى جانبه، وتناول رغيفا كاملا من السفط الجميل، وكل ما تستطيع يداه أن تأخذاه بقبضتيهما من اللحم، ثم تحدث إليه قائلا: «خذ هذا الطعام وأعطه ذلك الشحاذ، ومره بأن يدور بنفسه على المغازلين ويستجديهم فردا فردا؛ فليس من الخجل بالصاحب الملائم لمن كان ذا مسغبة.»
تيليماخوس يطعم أوديسيوس والأخير يستجدي المغازلين
هكذا قال فذهب راعي الخنازير، عندما سمع ذلك الكلام، وما إن تقدم نحو أوديسيوس، حتى خاطبه بعبارات مجنحة،
7
قائلا: «أيها الغريب، إن تيليماخوس يعطيك هذا، ويأمرك بأن تدور على المغازلين وتستجديهم فردا فردا؛ فالخجل كما يقول غير جدير بابن السبيل.»
عندئذ أجابه أوديسيوس المتعدد الحيل، فقال: «أيها الملك زوس، هب، أتوسل إليك أن يصبح تيليماخوس مباركا بين الناس، وينال كل ما يشتهيه قلبه.»
قال هذا وتناول الطعام في كلتا يديه ووضعه أمام قدميه فوق جرابه المهلهل، ثم طفق يأكل طوال أن كان المنشد يغني في الساحات. وبعد أن تعشى، وكف المغني المقدس عن الإنشاد، انفجر المغازلون في ضجيج في شتى أنحاء الساحات، وعندئذ اقتربت أثينا من أوديسيوس بن لايرتيس، وحثته على أن يذهب وسط المغازلين ويجمع قطع الخبز، ويعرف من منهم المخلص وأيهم المتمرد. ومع ذلك فإنها لم تكن تبغي إنقاذ أي واحد منهم من الهلاك؛ ومن ثم شرع أوديسيوس يستجدي كل رجل، بادئا من اليمين، وباسطا يده في كل جانب، كما لو كان شحاذا عريقا في التسول، فأشفقوا عليه وأعطوه، وتعجبوا منه، متسائلين فيما بينهم عمن يكون هذا ومن أين جاء.
المغازلون يتذمرون من وجود الشحاذ بينهم
فنهض عندئذ ميلانثيوس، راعي المعيز وسطهم، وقال: «استمعوا إلي، يا مغازلي الملكة المجيدة، فيما يختص بهذا الشحاذ؛ لأنني رأيته حقا من قبل. إن راعي الخنازير هو الذي قاده حقا إلى هنا، أما الرجل نفسه فلست أعلم على وجه التحقيق من أي مكان يعلن مولده.»
هكذا تكلم، وعير أنتينوس راعي الخنازير، قائلا: «يا راعي الخنازير يا سيئ السمعة، لماذا بربك أحضرت هذا الرجل إلى المدينة؟ أليس لدينا ما يكفي من المتسكعين غيره، ومضايقات من الشحاذين لتعكر صفو ولائمنا؟ ألا تعتقد أنه يكفي أنهم يحتشدون هنا ويلتهمون أموال سيدك، حتى تجيء إلينا بهذا الرفيق أيضا؟»
إذن رددت عليه يا يومايوس يا راعي الخنازير، فقلت: «أيا أنتينوس، ما هذه الكلمات التي تفوهت بها بالعبارات الجميلة، رغم أنك نبيل؟ من ذا بربك يحاول من تلقاء نفسه ألا يرحب بغريب قادم من بلد آخر، إلا إذا كان الغريب من السادة ذوي المهن العامة، كأن يكون نبيا، أو طبيبا يداوي الأمراض، أو بناء، نعم أو منشدا مقدسا، يدخل السرور على النفوس بغنائه؟ لأن مثل هؤلاء الرجال يرحب بهم في جميع أنحاء الأرض الفسيحة. ومع ذلك فما من أحد يعتبر الشحاذ عبئا عليه، بيد أنك قاس دائما من دون سائر المغازلين على خدم أوديسيوس، ولا سيما علي، ولكني لن أكترث لذلك، طالما تعيش سيدتي بينيلوبي الحازمة، في الساحة، وكذلك تيليماخوس شبيه الإله.»
عندئذ رد عليه تليماخوس الحكيم، بقوله: «صه، فإني آمرك بأن تلزم الصمت، ولا ترد على هذا الرجل بكلام كثير؛ لأن أنتينوس متعود دائما أن يثير الغضب بخبث، بالألفاظ الخشنة، نعم، ويحث غيره أيضا على ذلك.»
تيليماخوس يناشد المغازلين مساعدة الشحاذ الغريب
ثم خاطب أنتينوس بكلمات حادة، قائلا: «أنتينوس حقا إنك لتهتم تماما، كما يهتم الوالد بولده؛ إذ تأمرني بطرد هذا الغريب من الساحة بكلمات محتمة. ليت الرب لا يحقق مثل هذا الشيء قط، كلا خذ وأعطه شيئا ما. إنني لا أحمل لك أية ضغينة ، بل بالحري آمرك شخصيا بأن تقدم له شيئا، ولا تعمل حساب والدتي في هذا الشأن، ولا أي واحد من العبيد الموجودين بمنزل أوديسيوس المقدس، ولكن ما أقصده حقا في دخيلة نفسي يختلف تمام الاختلاف؛ لأنك تتلهف كثيرا إلى أن تأكل، دون أن تعطي شيئا ما لشخص آخر.»
فأجابه أنتينوس، يقول: «يا تيليماخوس، أيها المقوال، الذي لا حد لجرأته، ما هذا الذي قلت؟! لو أعطاه سائر المغازلين بقدر ما أعطيته، لضاق هذا البيت بعد ثلاثة أشهر عما يجمعه.»
أوديسيوس يستجدي أنتينوس
هكذا تكلم، وأمسك بمقعد الأقدام الذي كان من عادته أن يريح قدميه عليه وهو جالس إلى المائدة يولم، وأخرجه من تحت الخوان، حيث كان موضوعا. أما جميع الباقين فقدموا له هدايا، فملئوا الجراب بالخبز وقطع اللحم. وعندئذ كان أوديسيوس يميل الآن إلى أن يعود إلى موضعه عند مدخل الباب، وعجم عود الآخيين بدون ثمن،
8
فوقف إلى جوار أنتينوس، وتحدث إليه، قائلا: «أيها الصديق، أعطني هدية ما؛ فإنك لا تبدو في ناظري أحط الآخيين، بل بالأحرى أعرقهم نبلا؛ إذ أنت أشبه بملك؛ ومن ثم فإنه لجدير بك أن تعطيني على الأقل كسرة من الخبز أكثر مما يعطيه الباقون، وبذا تجعل صيتك ذائعا في جميع أرجاء الأرض الفسيحة؛ لأنني أنا أيضا كنت أسكن ذات مرة في مسكن ملكي وسط رجال، فكنت امرأ واسع الثراء في منزل ثري، وكثيرا ما أعطيت هدايا لأبناء السبيل، مهما كانوا هم ومهما كانت الحاجة التي أتوا من أجلها. كما كان عندي من العبيد ما يفوق الحصر، وكذلك من جميع الأشياء الأخرى كميات وفيرة، من الأشياء التي يعيش بها الرجال عيشة البذخ ويشتهرون بها بأنهم أثرياء، ولكن زوس بن كرونوس، أنهى كل شيء إلى لا شيءl - فهكذا على ما أعتقد كانت مسرته الكبرى - فقد بعث بي بعيدا إلى مصر مع بعض القراصنة الجوابين، في رحلة نائية؛ كي أقابل هلاكي، فأرست سفني المعقوفة في نهر أيجوبتوس، ثم أمرت زملائي الأوفياء أن يبقوا هناك لحراسة السفن، وبجوارها، وأرسلت العيون إلى أماكن الاستطلاع هناك. بيد أن رفقائي استسلموا لشهواتهم بمحض قوتهم، فشرعوا في الحال يخربون حقول شعب مصر الجميلة، وخطفوا النساء والأطفال الصغار، وقتلوا الرجال، وسرعان ما طار الصياح إلى المدينة، فلما سمع أهلها الصراخ هرع الناس عند الفجر، وعج السهل كله بالمشاة والعربات والبرونز البراق. وعندئذ أنزل زوس، الذي يقذف بالصاعقة، ذعرا شريرا على رفاقي، فلم تكن لدى أي واحد منهم الشجاعة ليثبت في مكانه ويواجه العدو؛ إذ أحاطت بنا المصائب من كل جانب. وبعد ذلك قتلوا كثيرا منا بالبرونز الحاد، وأسروا آخرين أحياء وقادوهم إلى مدينتهم ليسخروهم في أعمالهم بالقوة. أما أنا فعهدوا بي إلى صديق قابلهم ليأخذني إلى قبرص إلى دميتور
Dmetor
ابن إياسوس
Iasus
9
الذي كان يحكم بقسوة على قبرص، ومن هناك جئت إلى هنا، كاسف البال.»
أنتينوس يعتدي على الشحاذ بالضرب
فأجابه أنتينوس، بقوله: «أي رب جلب هذا الشر إلى هنا ليكدر علينا صفو وليمتنا؟ ابتعد هناك إلى الوسط، وقف بعيدا عن مائدتي، لئلا تكون قد جئت إلى مصر أكثر مرارة وإلى قبرص أشد إيلاما؛ فإنني أرى أنك شحاذ جريء عديم الحياء، لقد طفت بكل رجل بدوره، وأعطوك بطيش؛ فما من رادع يكبح المرء عندما يجود بأموال غيره، طالما كان بجوار كل رجل ما يكفيه.»
عندئذ تراجع أوديسيوس الكثير الحيل إلى الخلف، ورد عليه بقوله: «عجبا! الآن يبدو أنه ليست لديك على الأقل تلك الحصافة التي تناسب جمالك. حقا، ما كنت لتعطيني شيئا من مالك الخاص، ولا حتى ذرة من الملح تجود بها على من يتضرع إليك، أنت يا من الآن، وقد جلست إلى مائدة غيرك، لا تجد القلب لأن تعطيني شيئا من الخبز، مع أنه يوجد هنا في متناول يدك كميات وفيرة منه.»
ما إن قال هذا، حتى استشاط أنتينوس غيظا في قلبه، وحدجه بنظرة غضب مقطبا حاجبيه، ثم تحدث إليه بكلمات حماسية،
10
قائلا: «الآن، حقا، أعتقد، أنك لن تنصرف بعد الآن من الساحة في صورة لائقة، ما دمت قد اجترأت على النطق أيضا بعبارات التحدي.»
قال هذا وتناول مقعد القدمين فقذف به أوديسيوس فأصابه أسفل كتفه اليمنى، في موضع اتصالها بالظهر، غير أنه وقف ثابتا في مكانه كالصخرة، ولم تزحزحه قذيفة أنتينوس، بل هز رأسه في صمت، مدبرا الشر في أعماق قلبه. بعد ذلك عاد أدراجه إلى مدخل الباب حيث اتخذ جلسته، ووضع جرابه المملوء لحافته بجانبه على الأرض، وتحدث وسط المغازلين فقال: «أصغوا إلي، يا مغازلي الملكة المجيدة، كي أقول ما يأمرني به القلب الكائن في صدري. الحق، أن المرء ما ضرب وهو يقاتل من أجل ممتلكاته، سواء أكان من أجل ماشيته أو من أجل أغنامه البيضاء، فإن ذلك الضرب لا يولد أية ضغينة في قلبه ولا حزنا في نفسه، ولكن أنتينوس قد ضربني من أجل بطني التعيس، ذلك الطاعون المقيت الذي يجلب شرورا جمة على بني الإنسان، آه! لو كان الشحاذون آلهة ومنتقمين، لتمنيت أن ينزل بأنتينوس قضاء الموت قبل زواجه.»
عندئذ أجابه أنتينوس بن يوبايثيس
Eupeithes ، بقوله: «اجلس في صمت وتناول طعامك، أيها الغريب أو انطلق إلى مكان آخر، لئلا يجرك الرجل الفتي من يدك أو من قدمك عبر المنزل من أجل عبارات كهذه، ويجردك من كل جلدك.»
مغازل يلوم أنتينوس على تصرفه الأحمق
هكذا تكلم، فامتعضوا جميعا غاية الامتعاض، فقام واحد من الشبان المتغطرسين وخاطبه، قائلا: «لم تحسن صنعا بضربك ابن السبيل البائس، يا أنتينوس. ملعون أنت بين الرجال، ماذا لو تصادف أن كان هذا ربا ما، هبط من السماء! نعم، فالآلهة يتخذون صورا شتى، في زي الأغراب، ويزورون المدن ليطلعوا على قسوة البشر وعدلهم.»
هكذا كان يتحدث المغازلون، بيد أن أنتينوس لم يكترث لحديثهم. أما تيليماخوس فحزن في قرارة قلبه أشد الحزن وأمضه بسبب تلك الضربة، رغم أنه لم يدع عبرة واحدة تسقط من جفنيه إلى الأرض، ولكنه هز رأسه في صمت مدبرا شرا في أعماق قلبه.
بينيلوبي تخاطب وصيفاتها
ولما سمعت بينيلوبي أن الرجل قد ضرب في الساحة، تكلمت وسط وصيفاتها، وقالت: «هكذا أيضا، ليت أبولو، القواس الشهير، يضرب روحك نفسها .»
فقالت لها يورونومي
Eurynome ، مدبرة المنزل: «ليت صلواتنا تتحقق، وبذلك لا يبلغ واحد من هؤلاء الرجال الفجر ذا العرش الجميل.»
فتحدثت إليها بينيلوبي الحكيمة وقالت: «يا مربيتي، إنهم جميعا أعداء؛ لأنهم يحيكون الشر، ولكن أنتينوس يشبه القضاء الأسود أكثر من الجميع. هذا غريب مسكين كان يسير خلال المنزل يطلب صدقة من الرجال؛ إذ تجبره الحاجة على ذلك، وقد أعطاه سائر الآخرين هدايا، وملئوا جرابه، ولكن أنتينوس أخذ مقعد قدمين، وقذفه به فأصابه أسفل كتفه اليمنى.»
بينيلوبي تبدي رغبتها في الترحيب بالشحاذ الغريب
هكذا تكلمت وسط وصيفاتها، وهي جالسة في مقصورتها، بينما كان أوديسيوس العظيم يأكل اللحم، ثم استدعت إليها راعي الخنازير الطيب، وقالت له: «اذهب يا يومايوس الطيب، ومر الغريب بالمجيء إلى هنا لأرحب به، واسأله عما إذا كان قد سمع شيئا عن أوديسيوس الراسخ القلب، أو قد رآه بعينيه؛ إذ يبدو أنه كمن جاب بلادا بعيدة.»
إذن، أجبتها، يا راعي الخنازير يومايوس، فقلت: «أتمنى، أيتها الملكة أن الآخيين يلزمون الصمت؛ لأنه ينطق بعبارات تبهج نفسك. لقد حظيت به إلى جواري ثلاث ليال، واحتفظت به في كوخي ثلاثة أيام؛ إذ قدم إلي أولا عندما جاء هاربا من سفينة، ولكنه حتى هذه الساعة لم يختم قصة متاعبه؛ فكما يحملق المرء في منشد يغني للبشر أغاني مشوقة قد علمته الآلهة إياها، وبكل جوارحهم يصغون إليه بشوق لا نهاية له، كلما غنى، بمثل هذه الصورة سحرني وهو جالس في بهوي. أخبرني أنه صديق قديم لأوديسيوس، وأنه يسكن في كريت، حيث يقيم شعب مينوس
Minos .
11
وقد جاء من هناك الآن في هذه الرحلة إلى هنا، بعد أن قاسى كثيرا من المحن وهو يجول هنا وهناك. إنه يؤكد أنه سمع نبأ عن أوديسيوس وأنه قريب في أرض الثيسبروتيين الغنية، وأنه لا يزال على قيد الحياة، وسيحضر معه كثيرا من الكنوز إلى وطنه.»
عندئذ ردت عليه بينيلوبي الحكيمة، بقولها: «اذهبن، واستدعينه إلى هنا، كي يخبرني أنا شخصيا. أما بخصوص أولئك الرجال، فدعهم يتباروا وهم جلوس عند المدخل أو هنا في المنزل، طالما أن قلوبهم مرحة، فإن أموالهم الشخصية باقية في بيوتهم لا تمس، الخبز والخمر الحلوة، ويتغذى منها خدمهم. أما هم أنفسهم فيملئون منزلنا يوما بعد يوم، ويذبحون ثيراننا وأغنامنا، ومعيزنا السمينة، ويطربون ويشربون الخمر الصهباء في نزق، وتحل الفوضى بجميع ثروتنا؛ إذ لا يوجد هنا رجل مثل أوديسيوس ليدفع الخراب عن المنزل. أما إذا أتى أوديسيوس وعاد إلى وطنه فسرعان ما سينتقم هو وابنه من أولئك الرجال بسبب أعمالهم العنيفة.»
هكذا قالت، وعطس تيليماخوس عطاسا عاليا، ودوت الحجرة من جميع أركانها بطريقة عجيبة، وضحكت بينيلوبي، وفي الحال كلمت يومايوس بعبارات حماسية،
12
قائلة: «اذهب بربك واستدع الغريب إلى هنا أمامي. ألم تلاحظ أن ابني قد عطس عندما أفضيت بكل كلامي؛ وعلى ذلك أتمنى أن يحيق الموت الشامل بجميع المغازلين فردا فردا، ولا ينجو منهم أي فرد، من الموت والقدر. وسأخبرك بشيء آخر، فاحفظه في قلبك. إذا وجدته يقول الصدق في كل شيء ألبسته عباية وجلبابا من الثياب الجميلة.»
أوديسيوس يلبي دعوة بينيلوبي مع الحذر
قالت هذا، فانصرف راعي الخنازير عندما سمع قولها ذاك، فلما بلغ مكان أوديسيوس، تحدث إليه بكلمات حماسية، قائلا: «سيدي الغريب، إن بينيلوبي الحكيمة، والدة تيليماخوس، تستدعيك، ويأمرها قلبها بأن تتحرى عن زوجها، بالرغم من أنها قد عانت محنا جمة. حتى إذا ما رأت أنك تقول الصدق في كل شيء، ألبستك عباءة وجلبابا، وهذا ما أنت في مسيس الحاجة إليه. أما طعامك فسوف تستجديه من أنحاء البلاد، لتطعم بطنك وممن قد يعطيك إياه.»
فأجابه أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، وقال: «يا يومايوس، سرعان من سأقول الحقيقة لابنة إيكاريوس، بينيلوبي الحكيمة؛ لأنني أعرف أوديسيوس حق المعرفة، وكلانا قد قاسى الأهوال. بيد أنني أخشى هذا الجمع من المغازلين القساة، الذين تصل شهوتهم وعنفهم إلى السماء الحديدية؛ فحتى الآن، ولم أقترف أي ذنب وأنا أدور خلال الساحة، ضربني ذلك الرجل وأصابني، ولم يحرك تيليماخوس ولا أي فرد آخر ساكنا ليمنعا عني الضربة. والآن أخبر بينيلوبي أن تنتظرني في الساحات ، إلى أن تغيب الشمس، رغم تلهفها، وبعدئذ فلتسألني عن زوجها ويوم عودته، ولتعطني مقعدا أكثر قربا من النار؛ إذ إن ثيابي للأسف حقيرة، وإنك لتعرف ذلك أنت نفسك، فإليك توسلت أولا.»
هذا ما قاله، فانطلق راعي الخنازير بعد أن سمع منه هذه الكلام. وبينما هو يخطو فوق العتبة، قالت له بينيلوبي: «إنك لم تأت به يا يومايوس. ماذا يعني الشحاذ بهذا؟ أيخاف شخصا ما خوفا لا حد له، أم يشعر بالخجل في المنزل؟ لا يليق بالسائل أن يشعر بالخجل.»
وإليها إذن يا راعي الخنازير يومايوس، أجبت، وقلت: «إن بيده الحق فيما قال، كما قد يفعل أي رجل آخر، ساعيا وراء اجتناب وقاحة الرجال المتعجرفين، ولكنه يطلب منك أن تنتظري حتى مغيب الشمس. أما عنك أنت نفسك، أيضا، فإنه لأكثر لياقة بك، أيتها الملكة، أن تتحدثي إلى الغريب وحده، وتنصتي إلى كلماته.»
عندئذ أجابته بينيلوبي الحكيمة، بقولها: «لا يخلو هذا الغريب من الحكمة؛ إنه يعمل للشيء حسابه؛ فليس هناك رجال، كما أعتقد، أكثر حماقة في شهواتهم من هؤلاء.»
يومايوس ينصرف والمغازلون يمرحون ويرقصون
هكذا تكلمت، وذهب راعي الخنازير الطيب إلى حشد المغازلين بعد أن أخبرها بكل شيء. وفي الحال تحدث إلى تيليماخوس بكلمات حماسية، مقتربا منه حتى لا يسمعه الآخرون، فقال: «أي صديقي، إنني ذاهب لأحرس الخنازير وجميع الأشياء التي هناك، ومنها معاشك ومعاشي، فلتتول مراقبة كل شيء هنا، مراعيا سلامة نفسك قبل كل شيء، وخذ حذرك خشية أن يصيبك مكروه؛ لأن آخيين كثيرين يدبرون لك الشر، أولئك الذين أتمنى أن يهلكهم زوس هلاكا تاما قبل أن ينزل بنا أي أذى.»
فرد عليه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «سيكون هذا، يا أبتاه، اذهب في طريقك بعد أن تتناول عشاءك. حتى إذا ما أصبح الصباح أحضر معك ضحايا طيبة. أما سائر الأمور هنا فستكون موضع اهتمامي واهتمام الخالدين.»
قال هذا، وجلس راعي الخنازير ثانية فوق المقعد المصقول، وبعد أن تناول ملء بطنه من اللحم والشراب، انطلق في طريقه إلى الخنازير، تاركا القصر والساحة يعجان بالمدعوين، وكانوا يمرحون رقصا وغناء؛ إذ كان المساء قد خيم على الكون وقتذاك.
الأنشودة الثامنة عشرة
أما أوديسيوس فضربه على عنقه أسفل أذنه، وحطم العظام، وفي الحال تدفق الدم القاني من فيه.
معركة كلامية بين أوديسيوس وأرنايوس الشحاذ
والآن جاء شحاذ معروف اعتاد الاستجداء في نواحي مدينة إيثاكا، وكان مشهورا بالبطن الجشع، يلتهم الطعام والشراب بغير حد. ولم يكن على شيء من القوة أو العافية، أما في ضخامة الجسم فكان طريرا للناظرين. ذلك هو أرنايوس
Arnaeus ، فهذا هو الاسم الذي منحته إياه أمه المبجلة عند مولده؛ بيد أن جميع الشبان كانوا يطلقون عليه اسم إيروس
Irus ، إذ كان من عادته أن يقوم ببعض المهام،
1
التي يكلفه بها غيره. جاء الآن، وكاد يطرد أوديسيوس من منزله، وبدأ يتحداه، خاطبه بكلمات حماسية،
2
قائلا: «ابتعد، أيها الرجل العجوز، عن المدخل، لئلا أجرجرك في الحال من قدمك. ألا ترى جميع الرجال يشيرون إلي، ويأمرونني بأن أخرجك، ولكنني، أنا شخصيا، أجد من العار أن أفعل ذلك، فهيا انهض، خشية أن يتطور نزاعنا إلى اللكمات.»
قطب أوديسيوس الكثير الحيل ما بين حاجبيه غضبا، وقال له: «أيها الرفيق الطيب، إنني لم أتعرض لك بالأذى، سواء بالفعل أو بالقول، ولست أحقد عليك إن أعطاك أي رجل، أيه قطعة مهما كانت كبيرة. وإن هذا المدخل ليتسع لكلينا، ولا حاجة بك لأن تغار من حاجيات غيرك. يبدو لي أنك متشرد، مثلي تماما. أما الحظ السعيد، فإن الآلهة هي التي يحلو لها أن تعطينا إياه.
3
ولكن لا تستفزني بقبضتي يديك أكثر من اللازم، لئلا تثير غضبي، فألطخ صدرك وشفتيك بالدم؛ بالرغم من أنني قد بلغت من الكبر عتيا؛ وعلى ذلك أؤمل في أن أحظى بالسلام الأعظم غدا؛ إذ أعتقد أنك لن تعود مرة أخرى إلى ساحة أوديسيوس بن لايرتيس.»
عندئذ، استشاط المتشرد إيروس حنقا، وقال: «انظروا الآن إلى فصاحة اللسان التي يتكلم بها هذا التعيس القذر، كما لو كان طاهية عجوز، ولكني سأدبر له الشر، فأضربه ذات الشمال وذات اليمين، وأنثر أسنانه جميعا من فكيه فوق الأرض، كما لو كان خنزيرا بريا يخرب القمح. شمر عن ساعديك الآن، كي يشهد جميع هؤلاء الرجال قتالنا أيضا، ولكن كيف تستطيع مقاتلة رجل أصغر منك؟»
المغازلون يستمتعون بمشاهدة الشحاذين يتعاركان
وهكذا طفق كلاهما، فوق العتبة المصقولة أمام الأبواب الشاهقة، يثيران حنق بعضهما البعض الآخر بمنتهى العنف، ثم سمعا أنتينوس القوي العتيد، يقهقه ضاحكا ملء شدقيه طربا، وتحدث وسط المغازلين، يقول: «أيها الأصدقاء، لم يسبق قط أن رأينا أمرا مثل هذا يحدث؛ أن قد جلب أحد الآلهة مباراة مثل هذه إلى هذا المنزل. إن كلا من هذا الغريب وإيروس يستفز الآخر إلى تبادل الضربات. هيا بنا نعجل بهما إلى ذلك.»
هكذا تكلم، فنهضوا جميعهم وهم يضحكون واحتشدوا حول الشحاذين الثرثارين. وتحدث أنتينوس بن يوبايثيس، في وسطهم؛ قائلا: «استمعوا إلي أيها المغازلون المزهوون، فسأقول لكم شيئا ما. لقد وضعنا كروش الماعز بجانب الوطيس، لنعدها لعشائنا، بعد أن ملأناها بالدهن والدم، فأي هذين يتفوق على الآخر ويبرهن على أنه أفضل، دعوه ينهض ويختر لنفسه ما يروقه منها. وزيادة على ذلك فلنسمح له بأن يولم معنا دائما، ولن نسمح لأي سائل آخر بأن ينضم إلى جماعتنا ويستجدينا.»
هذا ما قاله أنتينوس، فسر الجميع من كلامه. وعندئذ قام وسطهم أوديسيوس الكثير الحيل، وتكلم بخبث، قائلا: «أصدقائي، إنه لمن المستحيل على رجل عجوز بخعته النوائب أن يقاتل رجلا أصغر منه. ومع ذلك فإن بطني، الآمر بالسوء، يحثني، على أن أهزم بلكماته. هلموا الآن، وأقسموا جميعا أمامي قسما لا حنث فيه، ألا تمتد يد أحدكم علي بلكمة غادرة بيد ثقيلة، محابيا إيروس، لئلا يخضعني بالقوة لهذا الزميل.»
ما إن قال هذا، حتى أقسموا جميعا ألا يضربوه، كما أمرهم تماما، ولكن بعد أن حلفوا اليمين وانتهوا من القسم، قام تيليماخوس القوي العتيد، وتحدث في وسطهم ثانية، فقال: «أيها الغريب، إذا كان قلبك وروحك الشامخة يأمرانك بضرب هذا الرجل، إذن فلا تخش أي رجل من الآخيين؛ لأن من يضربك عليه أن يقاتل من هو أكثر منك. إنني مضيفك، والأميران أنتينوس ويوروماخوس، يوافقان على هذا، وكل منهما رجل حصيف.»
قال هذا، فامتدح الجميع قوله. وعندئذ ربط أوديسيوس أسماله حول عورته مظهرا فخذيه، جميلين وعظيمين، وبانت كتفاه العريضتان، وكذا صدره وساعداه القويان. واقتربت أثينا فجعلت أعضاء راعي الشعب أعظم مما كانت. وعندئذ عجب سائر المغازلين غاية العجب، فقال أحدهم وهو ينظر إلى جاره: «سرعان ما سيجني إيروس، عديم التبصر، على نفسه؛ فمثل هذا الفخذ يظهره ذلك الرجل العجوز من تحت أسماله.»
أنتينوس يعير الشحاذ إيروس ويهدده
هكذا كانوا يتكلمون، وذعر عقل إيروس بصورة فظيعة؛ ومع ذلك فقد منطقه الخدم، وساقوه بالقوة وهو مملوء كله بالهلع، وارتعد فرائص وأعضاء. وعندئذ عيره أنتينوس، فخاطبه، بقوله: «خير لك الآن، أيها الثرثار، ألا تكون حيا، أو أنك لم تولد بعد، إذا كنت ترتعد إلى هذا الحد، وتخاف رجلا عجوزا كهذا - قهرته المحن التي حاقت به - ولكني سأكلمك بكل صراحة، وسينفذ كلامي حقا. إذا غلبك هذا الرجل وبرهن على تفوقه عليك، فلسوف أقذف بك في سفينة سوداء وأبعث بك إلى مملكة الملك إخيتوس
Echetus
مشوه جميع الرجال، الذي سوف يجدع أنفك وأذنيك بالبرونز القاسي، ويخرج أعضاءك الحيوية ويلقي بها نيئة للكلاب، لتمزقها.»
أوديسيوس يقهر إيروس ويلقي به خارج القصر
هكذا قال، وارتعدت أطراف الآخر فرقا، وساقوه إلى الحلبة فرفع كل من الرجلين يده. وعندئذ حار أوديسيوس في عقله، هل يضربه حتى تهجره الحياة وهو يسقط هناك، أو يكيل له ضربة خفيفة فيطرحه أرضا. وبينما هو متحير، رأى أن من الأفضل أن ينزل به ضربة خفيفة فيلقيه على الأرض، كيلا يجذب أفكار الآخيين إليه. وعندئذ، لما رفعا أيديهما، هوى إيروس بقبضته على كتفه اليمنى، أما أوديسيوس فضربه على عنقه أسفل أذنه وحطم العظام. وفي الحال تدفق الدم القاني من فيه، وسقط يتخبط في التراب ويئن، واصطكت أسنانه، وركل الأرض بقدميه. وعندئذ رفع السادة المغازلون أيديهم، وكادوا يموتون من كثرة الضحك. بعد ذلك أمسكه أوديسيوس من قدمه، وجره بعيدا خارج الباب إلى أن وصل به إلى الفناء وبوابات الرواق، ثم وضعه هناك وأسنده إلى حائط الفناء، وألقى عصاه في يده وتحدث إليه وخاطبه بكلمات حماسية، قائلا: «ارقد هناك الآن، وخوف الخنازير والكلاب، ولا تكن سيد الأغراب والشحاذين، وأنت مسكين إلى هذا الحد، لئلا تلتقي بمن هو أسوأ فتجني شرا من هذا أيضا.»
المغازلون يشكرون أوديسيوس ويحيونه
قال هذا وألقى جرابه الرث المملوء بالثقوب، حول كتفيه، وعلقه بحبل مجدول. وبعد ذلك رجع إلى عتبة الباب فجلس، ودخل المغازلون، يضحكون مبتهجين، وحيوه، بقولهم: «نتمنى، أيها الغريب، أن يمنحك زوس، وكذا سائر الآلهة الخالدة ما تصبو إليه وتفضله على كل شيء، وأغلى أمنية يتطلع إليها قلبك؛ حيث إنك كفيت البلاد استجداء ذلك الرجل الذي لا يشبع؛ لأننا سنحمله بسرعة بعد ذلك إلى مملكة الملك إخيتوس، مشوه جميع البشر.»
هكذا كانوا يقولون، وسر أوديسيوس العظيم من ذلك الفأل ووضع أنتينوس أمامه الكرش الضخم، مملوءا بالدهن والدم، وتناول أمفينوموس
Amphinomus
رغيفين من السفط ووضعهما أمامه، ووعده بكأس من الذهب، وقال: «مرحبا، يا سيدي الغريب، أتمنى أن يكون الحظ السعيد حليفك في الأيام المقبلة، رغم أنك الآن نهب لأحزان عديدة.»
أوديسيوس يحذر أمفينوموس من زوج بينيلوبي
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أي أمفينوموس، حقا إنك لتبدو لي رجلا حازما، وكذلك أيضا، كان أبوك؛ فكثيرا ما سمعت عن صيته الحسن؛ إذ كان نيسوس القاطن بدوليخيوم رجلا مقداما ذا يسار. ويقولون، إنك انحدرت منه، ويبدو أنك رجل رقيق الألفاظ؛ وعلى ذلك سأخبرك بأمر، يجب أن تعيره اهتمامك وتصغي إليه. لا شيء تغذيه الأرض أضعف من الإنسان، دون سائر المخلوقات التي تتنفس وتتحرك فوق الأرض؛ لأنه يعتقد أنه لن يعاني الشر قط في أيامه القادمة، طالما تهبه الآلهة الرخاء وركبتاه سريعتان. حتى إذا ما عاد الخالدون وكتبوا له الحزن، احتمله أيضا بامتعاض بالغ وهو راسخ القلب؛ لأن روح البشر وهم فوق الأرض هي تماما مثلها في اليوم الذي يجلبه عليها أبو الآلهة والبشر؛ فإنني، أيضا، كنت في ذات يوم، ممن كتب لهم الرخاء وسط الناس، غير أنني استرسلت كثيرا في أعمال الشهوة، معتمدا على قوتي وعنفي، وعلى أبي وإخوتي؛ ومن ثم لا تدع أي رجل مهما كان يخرج على القانون في أي وقت، بل يجب أن يرعى صامتا أي نعمة تهبه الآلهة إياها. هذا حق؛ فإنني أرى المغازلين يخلعون عذارهم للشهوة، مبذرين الثروة ومحتقرين زوج ذلك الرجل الذي، دعني أخبرك، بأنه لن يظل بعيدا عن أصدقائه ووطنه مدة طويلة، كلا؛ فإنه قريب جدا، ولكني أتمنى أن يقودك أحد الآلهة بعيدا عن هنا إلى منزلك. وليتك لا تلتقي به وهو قادم إلى بيته وإلى وطنه العزيز؛ لأنه، حسب اعتقادي، لن ينفصل ذلك الرجل عن المغازلين بدون سفك دماء إذا ما عاد يوما تحت سقف داره.»
هكذا تكلم، ثم سكب سكيبة، وشرب من الخمر العسلية المذاق، وأعاد الكأس إلى يدي قائد الشعب. بيد أن أمفينوموس ذهب خلال الساحة بقلب مثقل، مطأطئا رأسه؛ إذ تنبأت روحه بالشر، ولكنه بالرغم من هذا لم يهرب من مصيره، ولكنه هو، أيضا، قيدته أثينا بالأغلال كي يقتل في الحال على يدي تليماخوس وبرمحه؛ ولذلك جلس من جديد فوق الكرسي الذي كان قد نهض من فوقه.
بينيلوبي تبدي رغبتها في الظهور أمام المغازلين
بعد ذلك حثت الربة، أثينا المتألقة العينين، قلب ابنة إيكاريوس، بينيلوبي الحكيمة، أن تظهر نفسها للمغازلين، كي تدفع قلوبهم إلى الخفقان وتكسب تمجيدا من زوجها وابنها أكثر من ذي قبل، فضحكت ضحكة لا معنى لها، وتكلمت، مخاطبة المربية بقولها: «إن قلبي ليتلهف، يا يورونومي، ولو أنه لم يتلهف قط من قبل، إلى إظهار نفسي للمغازلين، بالرغم من شدة مقتي لهم. وكذلك أريد أن أقول كلمة لابني ذات نفع له، أعني، أنه لا يجب عليه أن يختلط بالمغازلين المتعجرفين، الذين يكلمونه برقيق الألفاظ بينما يضمرون له الشر فيما بعد.»
فقالت لها المربية، يورونومي: «نعم، الحق معك، يا طفلتي؛ فإني أرى، أن كل ما قلته صحيح. اذهبي، إذن، وقولي كلمتك لابنك ولا تخفيها؛ ولكن اغسلي جسدك أولا وادهني وجهك بالزيت، ولا تذهبي كما أنت بوجنتين مبللتين بالدموع. اذهبي؛ فلا يليق أن تسترسلي في الحزن دون انقطاع، فتأملي، الآن، ها هو ذا ابنك قد بلغ مبالغ الرجال، وكان جل صلاتك للخالدين أن تريه رجلا قد طرت لحيته.»
عندئذ أجابتها بينيلوبي الحكيمة من جديد، بقولها: «أي يورونومي، لا تخدعيني هكذا من أجل رغبتك في أن تغسلي جسمي وتدهنيني بالزيت. لقد دمرت الآلهة جمالي كله، أولئك الذين يحتلون أوليمبوس، منذ ذلك اليوم الذي رحل فيه زوجي في السفن الواسعة. أخبري أوتونوي
Eutonoe
وهيبوداميا
Hippodameia ، بالمجيء إلي كي تقفا إلى جانبي في الساحة؛ فلن أذهب وحدي وسط الرجال؛ إذ يتملكني الخجل.»
هكذا تكلمت، وانطلقت السيدة العجوز عبر الحجرة لتحمل النبأ إلى المرأتين وتأمرهما بالمجيء.
أثينا تضفي على بينيلوبي مزيدا من الفتنة والجمال
بعد ذلك اتخذت الربة، أثينا البراقة العينين، رأيا آخر من جديد، فسكبت نوما لذيذا على ابنة إيكاريوس؛ فانحنت هذه إلى الوراء واستلقت على سريرها، وقد ارتخت جميع مفاصلها. وفي الوقت نفسه كانت الربة الفاتنة تمنحها هبات خالدات، كي يدهش لمرآها الآخيون، فجملت وجهها أولا ببلسم.
4
بلسم أمبروسي.
5
كالذي تدهن به كوثيريا
Cytherea
ذات التاج البديع، نفسها عندما تدخل إلى الرقص المحبب لدى ربات الحسن، وجعلتها أطول قامة، وكذلك، أضخم جسما أمام الرائين، وصيرتها أنصع بياضا من العاج المقطوع حديثا. وبعد أن أنجزت الربة الحسناء هذه الأمور. انصرفت، وجاءت الوصيفات الناصعات السواعد من المقصورة واقتربن يتحدثن بصوت مسموع. وعندئذ ترك النوم اللذيذ بينيلوبي، فدعكت وجنتيها بيديها، وقالت: «ويحي، لقد اجتاحني النوم الرقيق في تعاستي الشاملة. كم أتمنى الآن أن تعطيني أرتيميس الطاهرة ميتة رقيقة بتلك الصورة، حتى لا أبدد حياتي بعد الآن والحزن يملأ قلبي، مشوقة إلى براعة زوجي العزيز المزدوجة؛ إذ كان مبرزا وسط الآخيين.»
بينيلوبي تلوم تيليماخوس على ما حدث للشحاذ الغريب
قالت هذا وهبطت من المقصورة العليا المتلألئة، ولم تكن وحدها؛ إذ كانت تتبعها وصيفتان، فلما وصلت السيدة الفاتنة الآن إلى المغازلين وقفت بجوار قائم باب الساحة المكينة البناء، وقد وضعت النصيف المتألق أمام وجهها، ووقفت إلى كل جانب من جانبيها وصيفة مخلصة، فما إن أبصرها المغازلون حتى ارتخت ركبهم وابتهجت قلوبهم بالحب، وراحوا جميعا يتوسلون إليها، وكل واحد يتوق إلى البقاء إلى جوارها، ولكنها تحدثت إلى تيليماخوس، ابنها العزيز، قائلة: «أي تيليماخوس، لم يعد عقلك وأفكارك رزينة كما كانت من قبل؛ فعندما كنت مجرد طفل كنت تدبر في عقلك أفكارا أكثر دهاء. أما الآن وقد كبرت وبلغت مبالغ الرجال، وإن من ينظر إلى قوامك وجمالك ليقول إنك ابن رجل ثري؛ حيث إنه هو نفسه غريب أتى من بلد قصي، فإن عقلك وأفكارك لم تعد صائبة كما كانت من قبل. ماذا فعلت في هذه الساحة، حتى تسمح بإساءة معاملة هذا الغريب! وماذا الآن، لو تعرض الغريب، وهو جالس هكذا في منزلنا، لبعض الأذى من جراء المعاملة المحزنة؟ إذن، لوقع عليك اللوم وجللك العار بين الناس.»
فأجابها تيليماخوس الحكيم، قائلا: «أماه، بخصوص ذلك الأمر لا أسيء فهم سبب غضبك الجم. ومع ذلك فإنني أعرف في قلبي وأدرك كل شيء، الخير والشر، في حين أنني لم أكن من قبل إلا محض طفل. بيد أنني لست قادرا على تدبير كل شيء بحكمة؛ لأن هؤلاء الرجال هنا يثبطون عزيمتي، ويلازمونني، الواحد من هذا الجانب والآخر من الجانب الآخر، بنية سيئة، ولا أجد لي مساعدا. ومع ذلك، فإن في استطاعتي أن أخبرك بأن هذه المعركة التي نشبت بين الغريب وإيروس لم تغب عن بال المغازلين، وقد أثبت الغريب تفوقه عليه. أتمنى؛ يا أبي زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، أن يهدأ المغازلون كما فعلوا الآن في ساحاتنا، يطلون برءوسهم، البعض في الفناء والبعض الآخر في البهو، وأن ترتخي أطراف كل رجل، تماما كما يجلس الآن إيروس هناك بجانب باب الفناء، مطأطئا رأسه أشبه برجل سكير، ولا يستطيع أن ينتصب فوق قدميه، أو أن يذهب إلى أي مكان يرغب في الذهاب إليه؛ إذ ارتخت أطرافه.»
بينيلوبي تستعيد ذكرى كلمات أوديسيوس يوم رحيله من الوطن
هكذا كان يتحدث كل منهما إلى الآخر ، ولكن يوروماخوس خاطب بينيلوبي، بقوله: «يا ابنة إيكاريوس، أي بينيلوبي الحكيمة، لو رآك جميع الآخيين في شتى أنحاء أرجوس الإياسيونية
Iasian Argos ، لأصبح هنا مغازلون أكثر يولمون في ساحاتك من الغد فصاعدا؛ لأنك تبذين سائر النساء، فتنة وقواما، وفي حكمة القلب الكائن بصدرك.»
عندئذ أجابته بينيلوبي الحكيمة، قائلة: «أيا يوروماخوس، لقد حطم الخالدون روعتي كلها، سواء في الجمال أو في القد، في اليوم الذي رحل فيه الأرجوسيون إلى إليوس، وذهب معهم زوجي أوديسيوس؛ فلو أتى وأشرف على حياتي هذه فقط، لصارت شهرتي أعظم وأجمل. ولكنني الآن في حزن، وكثيرة هي الهموم التي حطها على أحد الآلهة. حقا، إنه عندما رحل وغادر وطنه، أمسك بيدي اليمنى من الرسغ، وقال: «يا زوجتي، لست أعتقد أن الآخيين المدرعين تماما سيعودون جميعا من طروادة سالمين آمنين؛ لأن الطرواديين، كما يقول الناس، قوم حرب، ماهرون في قذف الرمح، وجذب القوس، وقيادة الجياد السريعة، التي تقرر بسرعة نتيجة صراع الحرب المتعادلة؛ وعلى ذلك لست أدري ما إذا كان الرب سيعيدني، أم سوف أعزل هناك في أرض طروادة. ومن ثم أشرفي على كل شيء هنا. وتذكري أبي وأمي في الساحات بنفس الطريقة التي ترعينهما بها الآن، أو ربما أكثر، في أثناء غيابي، حتى إذا ما رأيت ابني رجلا قد طرت لحيته، تزوجي من تشائين واتركي منزلك.»
هكذا تكلم زوجي، والآن قد حدث كل ذلك. سيأتي الليل عندما يكون الزواج المقيت من حظي أنا الملعونة، التي سلبها زوس سعادتها. وحل الحزن المرير في داخلي في قلبي وروحي؛ إذ إنكم تسلكون طريقا لم يسلكه أي واحد من المغازلين قبلكم، أولئك الذين يتوقون إلى مغازلة سيدة كريمة، وابنة رجل ثري، فيتنافسون فيما بينهم من أجلها، وهؤلاء يحضرون من تلقاء أنفسهم ماشية وأغناما كثيرة، ليولم عليها أصدقاء العروس، ويقدمون إليها هدايا مجيدة، ولكنهم لا يأكلون أموال شخص آخر فيما بينهم بالباطل.»
هكذا تكلمت، وسر أوديسيوس العظيم البالغ التحمل؛ لأنها سحبت منهم هدايا، وخدعت أرواحهم بمعسول الألفاظ، بينما كانت تضمر في نفسها أمورا أخرى .
المغازلون يحضرون الهدايا لبينيلوبي
ثم تحدث إليها أنتينوس بن يوبايثيس، ثانية، فقال: «يا ابنة إيكاريوس، يا بينيلوبي الحكيمة، أما الهدايا، فلو أزمع أي رجل من الآخيين أن يحضرها إلى هنا، فيجب أن تقبليها؛ لأنه لا يليق أن ترفضي هدية. أما نحن فلن نذهب إلى بلادنا ولا إلى مكان آخر، إلا بعد أن تتزوجي من الرجل الذي تعتبرينه خير الآخيين.»
قال هذا أنتينوس، فسروا من كلمته، وبعث كل رجل رسولا ليحضر هداياه، فأحضر أنتينوس ثوبا فضفاضا جميلا، مطرزا كثير الوشي، ذا مشابك من الذهب، تبلغ في مجموعها اثني عشر مشبكا، مثبتة بخطاطيف معقوفة. وأحضر آخر في الحال إلى يوروماخوس سلسلة من الذهب، مصنوعة بمهارة، مرصعة بفصوص من الكهرمان، تتألق كأنها الشمس. كما أحضر خدم يوروداماس، إليه زوجا من الأقراط، بثلاثة فصوص على شكل عنقود،
6
وينعكس منها بريق لألاء. وأحضر خادم السيد بايساندر
، ابن بولوكتور
، إلى داخل المنزل، قلادة، بها درة فائقة الروعة. وهكذا أحضر كل واحد من الآخيين هدية جميلة، وأحضر غيره أخرى. أما السيدة الجميلة، فصعدت إلى مقصورتها العليا. وحملت لها الوصيفتان الهدايا الرائعة.
وأما المغازلون فشرعوا في الرقص والغناء والمرح، وطربوا، وانتظروا مجيء المساء. وبينما هم في مرحهم خيم فوقهم المساء الدامس. وفي الحال أوقدوا ثلاثة مواقد في الساحة لتضيء لهم، ووضعوا حولها حطبا جافا، مضت عليه مدة طويلة منذ أن قطع وتصلب، وشق بالفئوس حديثا، ووضعت المشاعل في مواضع الشقوق؛ وأخذت وصيفات أوديسيوس، الثابت القلب، يتناوبن إشعال النار. بعد ذلك تكلم أوديسيوس، المنحدر من زوس والكثير الحيل، من تلقاء نفسه وسط العذارى، فقال: «يا خادمات أوديسيوس، الذي رحل منذ زمان بعيد، انصرفن إلى الحجرات حيث تمكث مليكتكن المبجلة، واغزلن القطن بجوارها، وأدخلن السرور على قلبها، وأنتن جالسات في مقصورتها، أو مشطن الصوف بأيديكن، وأنا أتولى إشعال النار لجميع هؤلاء الرجال؛ لأنهم إذا أرادوا الانتظار حتى مطلع الفجر الجميل العرش، فلن يباروني بأية حال من الأحوال. إني امرؤ أستطيع أن أتحمل كثيرا.»
ميلانثو الخادمة تسب الشحاذ أوديسيوس
ما إن قال هذا، حتى انفجرت الخادمات يضحكن، وراحت كل واحدة منهن تنظر إلى الأخرى، وأنحت عليه ميلانثو
Melantho
الجميلة الوجنتين، بعبارات التحقير، ميلانثو، التي أنجبها دوليوس
Dolius ،
7
وربتها بينيلوبي واعتنت برعايتها كما لو كانت ابنتها، وأعطتها كثيرا من الدمى لتسر قلبها. غير أنها بالرغم من ذلك لم تكن تشعر في قلبها بأي رثاء لحال بينيلوبي، بل كانت تهيم بحب يوروماخوس، وتتحرق شوقا إلى الاضطجاع معه، فوجهت بعد ذلك إلى أوديسيوس عبارات السب، فقالت: «أيها الغريب الحقير، ما أنت سوى رجل مأفون، لا تريد أن تذهب إلى حداد لتبيت عنده، أو إلى مسكن عام لتنام فيه، بل تتسكع هنا باستمرار، ولا تخجل من وجودك بين حشد السادة العديدين، غير هياب في قلبك ولا خائف. حقا، إن الخمر قد سيطرت على ذهنك، وإلا فإن عقلك هكذا دائما، حتى إنك تهذي بهذا الهراء. أخرجت عن طورك لأنك غلبت ذلك المتسول إيروس؟ حذار، خشية أن يأتيك الآن من هو أفضل من إيروس فيضربك بقبضته الثقيلة على أم رأسك، فيضرجك بالدماء، ويطردك من المنزل.»
عندئذ نظر إليها أوديسيوس بغضب مقطبا حاجبيه، وقال لها «سرعان ما سأذهب إلى هناك، أيتها العديمة الحياء، وأخبر تيليماخوس؛ حيث إنك تتكلمين بهذه الوقاحة، كي يمزق في الحال جسدك إربا إربا.»
ما إن قال هذا حتى تفرقت النساء، وهربن خلال البهو، وارتخت أطراف كل واحدة منهن تحتها ذعرا؛ لأنهن اعتقدن أنه جاد في قوله. أما أوديسيوس فوقف بجوار المواقد المشتعلة ليمدهم بالضوء، ويلقي نظرة على جميع الرجال، ولكن قلبه في داخله كان يفكر في أمور أخرى؛ أمور لم تكن لتذهب دون إتمام أو تنفيذ.
يوروماخوس يسخر من الشحاذ أوديسيوس
ولكن أثينا ما كانت لتسمح للمغازلين بالإحجام عن الاعتداء المرير بحال ما، كي يحز الألم في قلب أوديسيوس بن لايرتيس، إلى ما هو أعمق؛ ومن ثم بدأ يوروماخوس بن بولوبوس، يتكلم ساخرا من أوديسيوس، ليضحك زملاءه، فقال: «أصغوا إلي، يا مغازلي الملكة المجيدة، حتى أخبركم بما يحدثني به قلبي الكائن في صدري. لم يأت هذا الرجل إلى قصر أوديسيوس بدون إرادة الآلهة؛ فعلى أية حال إن وميض المشاعل لينبعث منه - من رأسه - إذ ليس به أي شعر، ولا أثر لشعره.»
8
ما إن أدلى بهذه العبارة حتى استدعى أوديسيوس، سالب المدن، وقال له: «أيها الغريب، أتشاور عقلك في أن تشتغل مقابل أجر، لو ألحقتك بخدمتي في حقل بعيد - إن أجرك سيكون حتما لك - جمع الأحجار للحوائط، وغرس الأشجار الباسقة؟ ولسوف أمدك هناك بالطعام طوال العام كله، وأكسوك لباسا ونعالا لقدميك، ولكن ما دمت قد تعلمت أعمال الشر فقط، فلن تهتم بأن تشغل نفسك بالعمل، بل بالحري قد عولت على التسكع خلال البلدان، كي تستطيع الحصول على ما يسد نهم بطنك الشره.»
أوديسيوس يتهم يوروماخوس بالوقاحة والضعف
عندئذ أجابه أوديسيوس العديد الحيل، قائلا: «أي يوروماخوس، أتمنى لو تباريت معك في العمل في فصل الربيع، عندما يطول النهار، وقت حصد الأعشاب، فأمسك أنا في يدي بمنجل معقوف وأنت بمثله، وتكون الأعشاب كثيرة حتى يمكننا أن نختبر مقدرتينا على العمل، صائمين إلى ساعة متأخرة من المساء. أو أتمنى أيضا أن يكون هناك ثوران لنقودهما - خير ما هنالك من الثيران، ضخمان قد لفحتهما الشمس، وقد علف كلاهما جيدا بالأعشاب، من نفس السن ونفس القوة ليحملا النير، لا يتعبان من بذل الجهد - وأن يكون هناك حقل مساحته أربعة أفدنة، ونعمل على شق التربة أمام المحراث؛ عندئذ كنت ترى، ما إذا كنت أستطيع أن أشق أخدودا مستقيما إلى نهاية الحقل أو لا أستطيع. أو أتمنى من جديد أن ابن كرونوس يجلب علينا الحرب من حيث يستطيع في يومنا هذا، ويكون لي ترس ورمحان وخوذة كلها من البرونز، تناسب تماما صدغي، إذن لرأيتني بين محاربي المقدمة، وما كنت، لتعيرني ببطني هذا. أما أنت فوقح غاية الوقاحة، وقلبك قاس، ولا شك في أنك تعتقد في قرارة نفسك أنك امرؤ على شيء من العظمة والقوة؛ لأنك تختلط بحفنة من الرجال الضعفاء. ولو رجع أوديسيوس فقط، وعاد إلى وطنه، لأثبتت هذه الأبواب في الحال، رغم أنها مفتوحة على مصاريعها، أنها ضيقة جدا أمامك لتهرب خارج المدخل.»
يوروماخوس يقذف أوديسيوس بمقعد صغير فيخطئه
عندما قال هذا، زاد غيظ يوروماخوس في قلبه، ونظر إليه شزرا من تحت حاجبيه، وخاطبه بكلمات مجنحة.
9
قائلا: «أيها النذل، لأصيبنك بالشر في الحال، طالما أنت تثرثر بهذه الطريقة، غير خائف في قلبك. لا شك أن الخمر قد لعبت بلبك، أو أن عقلك هكذا دائما، تهذي بتلك الخرافات. هل خرجت عن طورك وركبت رأسك لأنك غلبت ذلك المتسول إيروس؟»
قال هذا وأمسك مقعد قدمين وقذفه نحوه، ولكن أوديسيوس جلس على الأرض عند ركبتي أمفينوموس الآتي من دوليخيوم، خوفا من يوروماخوس، فأصاب المقعد ساقيا في يده اليمنى، فسقط منه إبريق الخمر على الأرض محدثا رنينا. وتأوه الساقي، وسقط إلى الخلف فوق الثرى؛ عندئذ سادت الضوضاء بين المغازلين في شتى أنحاء الساحة الظليلة، وهكذا كان أحدهم ينظر إلى جاره، ويقول له: «ليت هذا الغريب هلك في مكان آخر أثناء تجولاته أو أنه لم يأت إلى هنا قط، إذن لما جلب علينا كل هذه الضوضاء. أما الآن فنحن نتشاجر من أجل أبناء السبيل، ولن تكون هناك بهجة لوليمتنا الفاخرة، ما دامت تسود أمور أسوأ.»
تيليماخوس يناشد المغازلين الانصراف إلى بيوتهم للراحة
عند ذلك تحدث تيليماخوس القوي العتيد وسطهم، فقال: «أيها السادة الغريبو الأطوار، إنكم لمعتوهون، ولا تنكرون بعد الآن أنكم قد أكلتم وشربتم، لا شك أن أحد الآلهة يثيركم إلى هذا؛ فما دمتم قد أولمتم جيدا، فاذهبوا إلى بيوتكم واستريحوا، إذا ما طاب لأرواحكم أن تستريح. ومع ذلك فإنني لا أطرد أحدا إلى الخارج.»
هكذا تكلم، فعضوا على شفاههم جميعا، وتعجبوا من أن تيليماخوس، يتحدث بهذه الجرأة. غير أن أمفينوموس تكلم، وخاطبهم - وهو ابن الأمير النبيل نيسوس بن أريتياس
Aretias - فقال: «أصدقائي، لا يجدر بأي رجل إذا ما أراد أن يجيب بحكمة على ما قيل، أن يتهور ويرد بعبارات عدائية. لا تسبوا هذا الغريب بعد الآن، ولا أي خادم ممن في بيت أوديسيوس المقدس. كلا، هيا، دعوا الساقي يصب نقطا كسكيبة في الكئوس، حتى نتمكن من صب السكيبات، ثم ننصرف إلى بيوتنا لنأخذ راحتنا. أما هذا الغريب، فلنتركه في ساحات أوديسيوس ليهتم بأموره تيليماخوس؛ لأنه قد جاء إلى داره.»
هكذا قال، فسر الجميع من قوله. بعد ذلك خلط السيد موليوس
Mulius ، الآتي من دوليخيوم، رسول وخادم أمفينوموس، طاسا من الخمر، ووزع على الجميع، ذاهبا إلى كل واحد بدوره، وقدموا سكيبات للآلهة المباركة، فشربوا من الخمر التي كالعسل حلاوة. وبعد أن انتهوا من السكيبات وشربوا حتى شبعوا، انصرف كل رجل منهم إلى منزله، ليستريح.
الأنشودة التاسعة عشرة
أوديسيوس يرسم لتيليماخوس خطة مقتل المغازلين
وهكذا ترك أوديسيوس العظيم في الساحة وحده، يدبر مقتل المغازلين بمساعدة أثينا، وفي الحال تكلم بعبارات حماسية،
1
فقال لتيليماخوس:
عرفت السيدة العجوز هذه العلامة، عندما أمسكت ساقه في راحتي يديها، باللمس. «أي تيليماخوس، يجب أن تنقل جميع أسلحة الحرب إلى الداخل بعيدا، وعندما يفتقدها المغازلون ويسألونك عنها، يجب أن تخدعهم بكلمات رقيقة، فتقول: لقد وضعتها بعيدا عن الدخان، طالما أنها لم تعد كما تركها أوديسيوس العجوز عندما رحل إلى طروادة، بل غدت ملطخة كلها؛ إذ قد وصل إليها لهيب النار. وزيادة على ذلك فإن خوفا عظيما قد وضعه أحد الآلهة في قلبي؛ لأنني أخشى، عندما تلهبكم الخمر، أن تقيموا شجارا فيما بينكم، فيجرح بعضكم البعض الآخر، فتعكروا صفو وليمتكم وصفو مغازلتكم.
2
لأن الحديد يجذب المرء إليه من تلقاء نفسه.»
يوروكليا تستجيب لنداء تيليماخوس
هكذا تكلم، فأنصت تيليماخوس إلى قول أبيه العزيز، ثم نادى المربية يوروكليا، وقال لها: «أيتها المربية: إنني آمرك بأن تجيئي الآن، احبسي النساء في حجراتهن، ريثما أضع أسلحة أبي في حجرة الخزين، الأسلحة العظيمة التي بإهمالها جميعا قد علاها الدخان في الساحة منذ أن رحل أبي، وأنا طفل عند ذاك. وإنني أعتزم الآن أن أضعها بعيدا، في مكان لا يصل إليها لهب النار.»
بعد ذلك أجابته المربية العزيزة يوروكليا، قائلة: «نعم، يا ولدي، أتمنى أن تفكر دائما في الاهتمام بأمر المنزل وحراسة كل ثروته . ولكن تعال، من ذا الذي يذهب ويحضر سراجا ويحمله لك، ما دمت لم تسمح للفتيات، اللواتي كان في استطاعتهن إعطاء النور، بالذهاب أمامك؟»
فأجابها تيليماخوس الحكيم، بقوله: «هذا الغريب هنا؛ لأنني لن أسمح لأحد بالكسل، كل من يلمس مكيالا من الدقيق،
3
حتى ولو كان قادما من بعيد.»
أوديسيوس وتيليماخوس يخفيان أسلحة الحرب المعلقة
قال هذا، بيد أنها لم ترد على قوله،
4
وإنما أغلقت أبواب الساحة الرحبة. بعدئذ نهض كلاهما، أوديسيوس وابنه المجيد، وشرعا ينقلان إلى الداخل الخوذات والتروس والدروع المرصعة والرماح المدببة الأسنة، وأمامهما بالاس أثينا، تحمل مشعلا عسجديا، ينبثق منه ضوء ساطع في غاية الروعة. بعد ذلك تحدث تيليماخوس فجأة إلى أبيه، وقال: «أبتاه، حقا إن هذه لأعجوبة عظيمة، تلك التي تراها عيناي؛ لا شك أن جدران البيت وأخشابه الرائعة
5
والكتل التي من خشب الحور، والأعمدة البالغة الارتفاع، ترسل سناء يتألق في عيني كما لو كانت تتوهج بلهب النار المتأججة. لا ريب أن هنا أحد الآلهة، أحد أولئك الذين يحتلون السماء الفسيحة.»
فرد عليه أوديسيوس الكثير الحيل، بعد ذلك، بقوله: «صه، أبعد عنك هذه الفكرة. ولا تسأل أي سؤال. هذا، كما أقول لك، هو طريق الآلهة التي تحتل أوليمبوس. ولكن يجب أن تذهب الآن وتستريح وسأبقى أنا هنا، كي أثير عقول الفتيات وأمك، التي بالبكاء سوف تسألني عن كل شيء على حدة.»
تيليماخوس يذهب لينام وبينيلوبي تخرج من مقصورتها
ما إن قال هذا، حتى انصرف تيليماخوس عبر الساحة على ضوء المشاعل المستعرة لكي يذهب إلى حجرته لينام؛ حيث كان من عادته السابقة أن ينام، متى يداعبه النوم اللذيذ، فرقد هناك منتظرا ضوء الفجر. أما أوديسيوس العظيم فبقي في البهو، يدبر بمعونة أثينا مقتل المغازلين.
بعد ذلك خرجت بينيلوبي الحكيمة من مقصورتها كأنها أرتيميس أو أفروديتي الذهبية، ومن أجلها وضعوا بجانب النار، في المكان الذي اعتادت الجلوس فيه، كرسيا مرصعا بزخارف العاج والفضة، كان قد صنعه قديما إكماليوس
Icmalius
الصانع، ووضعوا أسفله كرسيا للقدمين، كان جزءا من الكرسي، وفوقه فروة من الصوف واعتادوا وضعها عليه، فجلست بينيلوبي الحكيمة فوق هذا، وخرجت العذراوات الناصعات السواعد من بهو السيدات، فأنشأ هؤلاء في رفع الطعام الوفير، والمناضد والكئوس التي كان يشرب منها السادة، وألقين رماد المواقد فوق الأرض، ووضعن في المواقد أخشابا جديدة بكمية وفيرة، كي تعطي النور والدفء.
أوديسيوس يحذر ميلانثو من المستقبل
بيد أن ميلانثو بدأت مرة ثانية تسخر من أوديسيوس، فقالت: «أيها الغريب، أسوف تظل وباء علينا طوال الليل، تتجول خلال المنزل، وتتجسس على النساء؟ كلا، اخرج، أيها الوضيع، واكتف بعشائك، وإلا ضربت في الحال بمشعل، وعندئذ تخرج.»
قطب أوديسيوس الكثير الحيل ما بين حاجبيه، ونظر إليها بغضب، وقال: «أيتها السيدة الطيبة، لم، بربك، تهاجمينني هكذا بقلب حانق؟ لأنني قذر وأرتدي ملابس مهلهلة على جسمي، وأستجدي في طرقات المدينة؟ هذا لأن الحاجة تضطرني إلى ذلك، فهكذا هم الشحاذون وأبناء السبيل. لقد مرت بي أيام كنت أحيا في قصر ملكي وسط الرجال، فكنت رجلا ثريا في منزل ثري، وكثيرا ما أخرجت الصدقات لأبناء السبيل، مهما كانوا، ومهما كانت الحاجات التي جاءوا من أجلها. وكان لي عبيد يفوقون الحصر، وبوفرة كانت عندي جميع الأشياء الأخرى التي يعيش بها الرجال عيشة الترف ويشتهرون بالثراء. غير أن زوس بن كرونوس، أنهى كل شيء إلى لا شيء؛ فهكذا، كما أعتقد، كانت مسرته العظمى؛ ومن ثم، حذارك، أيتها المرأة، خشية أن تفقدي في يوم من الأيام كل المجد الذي تحظين به الآن رائعة وسط الوصيفات؛ وخشية أن تحقد عليك سيدتك مصادفة وتغضب عليك، أو أن يعود أوديسيوس إلى البيت؛ لأنه لا يزال هناك مجال للأمل. وحتى، لو كان، كما يبدو، قد مات ولن يعود أبدا، فإن هناك الآن ابنه، تليماخوس، الذي بفضل أبولو، لا يغفل عنه لو أن أي واحدة من النساء تفعل بالساحة ما يحلو لها؛ لأنه لم يعد بعد ذلك الطفل الذي كانه.»
بينيلوبي تنهر خادمتها
قال هذا، وسمعته بينيلوبي الحكيمة، فنهرت الخادمة، وخاطبتها، بقولها: «ثقي أيتها الجريئة العديمة الحياء، أن عملك الطائش ذاك ليس خافيا عني بأية حال من الأحوال، وسوف تزيلين برأسك بقعته نفسها. إنك تعرفين حق العلم؛ إذ سمعت من شفتي، أنني معتزمة سؤال ذلك الغريب في ساحاتي عن زوجي؛ لأنني في غاية الكمد.»
بهذا تكلمت أيضا إلى المربية يورونومي
Eurynome ، وقالت: «أحضري، يا يورونومي، هنا كرسيا وفروة من الصوف فوقه، كي يجلس الغريب ويحكي قصته ويصغي إلي؛ لأنني متلهفة إلى سؤاله عن كل شيء.»
بينيلوبي وأوديسيوس ينخرطان في حوار ممتع
ما إن قالت هذا، حتى أسرعت يورونومي فأحضرت كرسيا مصقولا ووضعته في مكانه، ووضعت فوقه فروة من الصوف. بعد ذلك جلس عليه أوديسيوس العظيم البالغ التحمل، وبدأته بينيلوبي الحكيمة بالكلام، فقالت: «سألقي عليك هذا السؤال أولا، أيها الغريب، من أنت من بين البشر، ومن أين، وأين مدينتك، وأين والداك؟»
عندئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «سيدتي، لا يستطيع أي فرد من البشر على ظهر الأرض الواسعة الفلا أن يتمسك عليك بخطأ؛ إذ بلغت شهرتك عنان السماء الواسعة الأجواز، كما تنتشر شهرة ملك لا غبار على تصرفاته، يخشى الآلهة في قلبه، ويكون سيدا على رجال عديدين ذوي قوة، ويراعي جانب العدالة، فتنتج التربة السوداء القمح والشعير، وتغدو الأشجار مثقلة بالثمار، وتظل الأغنام تلد الحملان بغير انقطاع، ويخرج البحر أسماكا، كل ذلك من قيادته الرشيدة، ويلمس الناس الرخاء في عصره، ومن ثم سليني الآن في منزلك عن أي شيء تريدين، إلا عن جنسي ووطني، لئلا تزيدي قلبي آلاما على آلام، وأنا أفكر في ذلك؛ لأنني رجل قاسى كثيرا من الأحزان. وزيادة على ذلك فلا يليق بي أن أجلس وأبكي وأنتحب في بيت رجل آخر؛ إذ لا يجدر أن أظل في الغم دون انقطاع. لا يعجبني أن تغضب مني إحدى خادماتك أو أنت نفسك، وتقول إنني أسبح في الدموع لأن عقلي مثقل بالخمر.»
فردت عليه بينيلوبي الحكيمة بقولها: «أيها الغريب، إن بهائي كله، سواء في الجمال أو في القد، قد حطمه الخالدون في اليوم الذي أبحر فيه الأرجوسيون إلى إليوس، وصحبهم زوجي، أوديسيوس؛ فلو أنه أتى فقط، وأشرف على حياتي هذه، لغدا صيتي أعظم وأعطر، ولكنني الآن مهمومة الفؤاد ، خصني أحد الآلهة بأرزاء عديدة؛ لأن جميع الأمراء الذين يسوسون الجزر - دليخيوم وسامي وزاكونثوس الكثيرة الغابات - وأولئك الذين يقيمون حول إيثاكا الواضحة للعين نفسها، كل هؤلاء يغازلونني على كره مني ومضض، ويخربون بيتي؛ ولذلك فإنني لا أعير أي اهتمام لأي غريب أو متضرع أو رسول، ذلك الذي مهنته عامة، بل أذيب قلبي دون جدوى من فرط شوقي إلى أوديسيوس؛ ومن ثم فإن أولئك الرجال يلحون في طلب الزواج مني، وإنني أراوغهم وأدبر لهم شتى الحيل؛ فأولا أوحى إلي أحد الآلهة بفكرة وضعها في قلبي وهي أن أقيم نسيجا كبيرا في ساحاتي وأنهمك في نسيج ثوب - وكان النسيج من الخيط الرائع ومتسعا جدا - وفي الحال تكلمت وسطهم، قائلة: «أيها الشبان، الذين تغازلونني، ما دام أوديسيوس العظيم قد مات، فاصبروا، رغم اشتياقي إلى الزواج، حتى أنتهي من نسج هذا الثوب - ولا أود أن يسفر نسجي عن لا شيء - بل أصنع كفنا للسيد لايرتيس للوقت الذي يسقط عليه فيه مصير الموت المحزن فيصرعه؛ لئلا تغضب مني أية واحدة من السيدات الآخيات، لو أنه رقد بدون كفن، ذلك الذي اقتنى ممتلكات هائلة.»
هكذا قلت، ووافقت قلوبهم المتغطرسة، وبعد ذلك بقيت أنسج في المنسوج الهائل يوما بعد يوم، غير أنني كنت أحل بالليل ما نسجته، بعد أن أضع المشاعل إلى جواري. وهكذا بقيت على تلك الحال ثلاث سنوات دون أن يعرف الآخيون جلية الأمر؛ إذ خدعتهم. بيد أنه لما جاءت السنة الرابعة، بمرور الفصول، وذبلت الشهور، وتوالت الأيام العديدة، جاءوا بمساعدة خادماتي، أولئك المخلوقات العديمات الحياء والطائشات، وأمسكوني وأنا أحله وعيروني بصوت مرتفع؛ وعلى ذلك أنهيت النسيج ضد رغبتي بالقوة. أما الآن فلست بمستطيعة الهروب من الزواج ولا يمكنني أن أدبر خطة بعد ذلك، ويضغط علي والداي في أن أتزوج، وأما ابني فإنه يستشيط غيظا، بينما يلتهم أولئك الرجال أمواله، وهو يراقب الأمر كله؛ إذ قد غدا الآن رجلا، وصار في مقدوره الاضطلاع تماما بشئون المنزل الذي يمنحه المجد زوس. ولكن خبرني عن نسبك ومن أين أنت؛ لأنك لست منحدرا من شجرة بلوط عتيقة، ولا من حجر.»
6
أوديسيوس يروي الأكاذيب عن نسبه
عندئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «يا زوجة أوديسيوس المبجلة، ابن لايرتيس، ألا تكفي قط عن أن تسأليني عن سلسلة نسبي؟ حسنا، فلأخبرنك؛ رغم أنك ستسلمينني حقا لآلام أكثر من تلك التي أقاسيها الآن وتستولي علي؛ لأن الأمر هكذا دائما عندما يكون المرء بعيدا عن وطنه كما هو الحال معي الآن، أتجول خلال بلاد الناس العديدة في حزن عميق. ومع ذلك فسأخبرك عما تسألين وتستعلمين عنه. هناك بلد اسمه كريت، في وسط البحر القاتم كالخمر، وهو أرض جميلة خصيبة، يحيط بها الماء، وسكانها عديدون، لا يقعون تحت حصر، وبها تسعون مدينة. ولا يتكلمون جميعا نفس اللغة، بل خليطا من اللغات. هناك يقطن الآخيون، وهناك الكريتيون الشجعان، وهناك الكودونيون
Cydonians . والدوريون
Dorians
ذوو الرياض المتموجة، والبيلاسجيون
العظام. وهناك وسط بلدانهم مدينة كنوسوس
Cnosus
العظيمة، التي حكم فيها مينوس عندما كنت سنه تسع سنوات،
7
وهو الذي تحدث مع زوس العظيم، وكان والد أبي، ديوكاليون
Deucalion
العظيم القلب. وقد أنجبني ديوكاليون، وكذلك أنجب الأمير إيدومينيوس
Idomeneus . وقد رحل إيدومينيوس في سفنه ذوات الحيازيم إلى إليوس مع أبناء أتريوس. وأما اسمي الذي أشتهر به فهو أيثون
Aethon ؛ وكنت أنا أصغر منه مولدا بينما كان هو الأكبر والأفضل. هناك رأيت أوديسيوس وأعطيته هدايا ضيافة؛ إذ كانت قوة الريح قد جرفته كذلك إلى كريت، وكان يسعى إلى أرض طروادة، فدفعته بعيدا عن طريقه عبر ماليا
Malea ؛ ومن ثم أرسى سفنه عند أمنيسوس
Amnisus ، حيث يوجد كهف إيليثويا
Eilithyia ، في ميناء وعر، ولم ينج من العاصفة إلا بشق الأنفس. وبعد ذلك قصد المدينة في الحال وسأل عن إيدومينيوس؛ لأنه أذاع أنه صديقه، المحبوب والمبجل، ولكن ها قد مضى الآن الفجر العاشر أو الحادي عشر منذ أن أبحر إيدومينيوس في سفنه ذوات الحيازيم إلى إليوس، فصحبته إلى المنزل، وقدمت له القرى بترحيب كريم من الخزين الغزير الذي كان بالمنزل، وإلى بقية رفقائه وأتباعه الذي صحبوه جمعت وقدمت، من الخزين العام ، وجبة من الشعير والخمر المستعرة وثيرانا كذبائح، كي تشبع قلوبهم. هناك تلكأ الآخيون العظماء اثني عشر يوما؛ لأن الريح الشمالية العاتية حجزتهم هناك، ولم تسمح لهم بالوقوف على أقدامهم فوق اليابسة؛ إذ قد أثارها أحد الآلهة الغاضبين. حتى إذا ما أقبل اليوم الثالث عشر هدأت الريح فأقلعوا عبر البحر.»
بينيلوبي تبكي وتنتحب من شدة الحزن
هكذا تكلم، وجعل الأكاذيب الكثيرة من روايته تبدو أشبه بالحقيقة، وبينما هي تصغي إليه انهمرت دموعها وذاب وجهها كما يذوب الثلج فوق شوامخ الجبال، الثلج الذي تذيبه الريح الشرقية عندما تنشره الريح الغربية، وبمجرد أن يذوب تمتلئ به مجاري الأنهار حتى حافاتها. هكذا ذابت خدودها الناعمة وهي تبكي وتنتحب حزنا على زوجها، الذي كان في تلك اللحظة جالسا إلى جوارها. وتحرك قلب أوديسيوس بالشفقة على زوجته الباكية، بيد أن عينيه ظلتا جامدتين بين أجفانه كما لو كانتا من مادة القرون أو الحديد، وبالخداع أخفى دموعه، فلما انتهت من البكاء ونالت منه قسطا وافرا دامعا، تحدثت إليه من جديد، فقالت: «الآن حقا، أيها الغريب، قد اعتزمت أن أختبرك، لأعرف ما إذا كنت حقيقة قد أكرمت في ساحاتك زوجي مع رفقائه أشباه الآلهة، كما كنت تقول، أم لم تكرمهم. خبرني عن نوع الملبس الذي كان يرتديه فوق جسمه، وأي لون من الرجال كان هو نفسه؛ وأخبرني عن الرفاق الذين تبعوه.»
أوديسيوس يعطي بينيلوبي علامات أكيدة عن زوجها
عندئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «سيدتي، من العسير على المرء أن يخبرك عن هذا بعد أن مضى عليه مثل هذه المدة الطويلة السحيقة؛ إذ قد انقضى الآن العام العشرون منذ أن رحل من هناك، وغادر من بلدي. ومع ذلك فسأخبرك بقدر ما يصوره لي عقلي. كان أوديسيوس العظيم يرتدي عباءة أرجوانية من الصوف، عباءة مزدوجة الثنايا، بها دبوس مصنوع من الذهب ذو مشبك مزدوج، بعيد الصنعة عجيبها من الأمام، مرسوم عليه كلب صيد يمسك بمخالبه الأمامية غزالا أرقط، وأنشب فيه أنيابه وهو يتلوى. وقد دهش جميع الناس، كيف، والصورة من الذهب، كان الكلب ينشب أنيابه في الغزال ويخنقه، والغزال يناضل بأقدامه ويحاول الفرار. كلك لاحظت أن المدرعة كانت تتألق كلها حول جسمه، كما تتألق قشرة البصلة الجافة، وكانت ناعمة جدا، وتشع بريقا كبريق الشمس. الحق أن نسوة كثيرات كن يحملقن فيه متعجبات. وسأخبرك بشيء آخر. أرجو أن تحفظيه في قلبك. لست أعرف ما إذا كان هذا لباس أوديسيوس في بيته، أم أن أحد زملائه أعطاه إياه عندما ركب ظهر السفينة السريعة، أو ربما أخذه من أحد الأغراب؛ إذ كان أوديسيوس عزيزا على رجال كثيرين؛ فقلما كان له نظير بين الآخيين. وأنا، نفسي،
8
أعطيته سيفا من البرونز، وعباءة جميلة أرجوانية مزدوجة الطيات، ومدرعة موشاة الحافة، وشيعته مكرما فوق ظهر سفينته ذات المقاعد. وزيادة على ذلك، فقد كان يقوم على خدمته خادم أكبر منه سنا، سأخبرك عنه أيضا، ومن أي نوع من الرجال كان. لقد كان مستدير الكتفين، أسمر البشرة. أجعد الشعر، يدعى يوروباتيس
Eurybates ، وكان أوديسيوس يجله أكثر من سائر الرفاق الآخرين؛ لأنه كان يشبهه حكمة.»
أوديسيوس يناشد بينيلوبي الكف عن البكاء
هكذا قال، فتحركت في قلبها الرغبة في البكاء أكثر من ذي قبل، عندما لاحظت العلامات الأكيدة التي ذكرها لها أوديسيوس. وبعد أن بكت، ما شاءت أن تبكي، ردت عليه بقولها: «الآن، حقا، أيها الغريب، بالرغم من أنك من قبل موضع عطف، فستكون معززا ومبجلا في ساحاتي، لأنني أنا التي أعطيته ذلك الرداء، الذي تصفه هكذا، وقد طويته، وأحضرته من حجرة الخزين، ووضعت به الدبوس البراق ليكون مبعث غبطة له. أما زوجي فلن أرحب به ثانية، وهو عائد إلى وطنه العزيز وإلى قصره؛ وعلى ذلك لقد كان بمصير شرير أن ذهب أوديسيوس في السفينة الواسعة ليرى إليوس الشريرة، التي لا يجب أن يذكر الإنسان اسمهما إطلاقا.»
فأجابها أوديسيوس الكثير الحيل بقوله: «يا زوجة أوديسيوس بن لايرتيس، المبجلة، لا تشوهي وجهك الفتان أكثر من ذلك، ولا تذيبي قلبك كلية بالبكاء على زوجك. إنني حقا لا ألومك على هذا؛ فهذا طريق كل امرأة أن تبكي عندما تفقد زوجها الشرعي، الذي أنجبت له أطفالا في حبها، مهما كان شخصا آخر غير أوديسيوس، الذي كما يقولون، أشبه بالآلهة. ومع ذلك، يجب أن تكفي عن البكاء، وتصغي إلى كلامي؛ لأنني سأصارحك بالحقيقة الأكيدة، ولن أخفي شيئا، كيف أنني من وقت قريب جدا سمعت عن عودة أوديسيوس. إنه قريب من هنا في أرض الثيسبروتيين الخصبة، حي يرزق، ويحضر معه كنوزا عديدة نفيسة، بينما كان يستجدي في البلاد، ولكنه فقد رفقاءه المخلصين وسفينته الواسعة فوق صفحة البحر القاتم كالخمر، وهو مسافر من جزيرة ثريناكيا لأن زوس وهيليوس
Helius
غضبا منه لأن رفقاءه قتلوا أبقار هيليوس؛ وعلى ذلك هلكوا جميعا في البحر الصاخب، أما هو فتعلق بقاع سفينته إلى أن قذفت به الأمواج على الشاطئ، فوق أرض الفياكيين، الذين هم أقرباء الآلهة. وبحماس أبدى له هؤلاء كل إجلال، كما لو كان إلها، وقدموا له هدايا عديدة، وكانوا يتوقون هم أنفسهم إلى أن يوصلوه إلى بيته سالما. نعم، وكان يجب أن يكون أوديسيوس هنا منذ مدة طويلة، إلا أنه وجد بحكمته أن من الخير له أن يجمع ثروة بالتجول عبر الأرض الفسيحة؛ فهكذا حقا كان أوديسيوس يعرف طرقا كثيرة مريحة أكثر من سائر البشر، ولم يكن في مقدور أي إنسان أن يتحداه. هكذا أخبرني فايدون
، ملك الثيسبروتيين، بالقصة. كذلك، أقسم أمامي، وهو يصب السكيبات في ساحاته، أن السفينة أنزلت إلى البحر، وأن الرجال الذين كان عليهم أن يوصلوه إلى وطنه، كانوا على أهبة الإبحار. أما أنا، فقد أرسلني أولا؛ إذ تصادف أن إحدى سفن الثيسبروتيين كانت ذاهبة إلى دوليخيوم، الغنية بالقمح. وأراني جميع الكنوز التي جمعها أوديسيوس، والحق يقال إنها تكفي لإطعام ذريته من بعده إلى الجيل العاشر؛ إذ كانت الثروة المدخرة له في ساحات الملك غاية في العظمة. ولكن أوديسيوس، هكذا قال الملك، ذهب إلى دودونا ليستمع إلى إرادة زوس من شجرة البلوط الشامخة التي للرب هناك، فيعرف كيف يمكنه أن يعود إلى وطنه بعد ذلك الغياب الطويل، وهل يعود سرا أو جهرا.
وعلى ذلك، إنه، كما أخبرك، سالم، وسيأتي حالا؛ إنه قريب جدا، ولن يمضي وقت طويل وهو بعيد عن أهله وعن وطنه. وزيادة على ذلك، فسأقسم لك قسما. ليكن زوس شاهدي الأول، ذلك الرب الذي هو أرفع وأحسن الآلهة، وموقد أوديسيوس النبيل الذي أجيء إليه، أن هذه الأمور التي سأخبرك بها سوف، وايم الحق، تتم كما أخبرك. في خلال هذا الشهر بالذات سيكون أوديسيوس هنا، بمجرد أن يأفل القمر القديم ويظهر القمر الجديد.»
بينيلوبي تأمر بتكريم الشحاذ الغريب
عندئذ أجابته بينيلوبي الحكيمة، فقالت: «آه، أيها الغريب، ليت كلمتك هذه تتحقق؛ عندئذ ستلقى مني عطفا بالغا وهدايا كثيرة، حتى إن من يلقاك ليقول إنك محظوظ، ولكن قلبي يحدثني بأن هذا سيكون؛ أن أوديسيوس لن يعود بعد الآن إلى بيته، ولن تحصل أنت على من يوصلك من هنا إلى بلدك؛ حيث إنه لا يوجد بمنزله الآن رجال سادة مثلما كان أوديسيوس وسط الرجال - فمما لا ريب فيه أنه كان هناك مثل هذا الرجل - ليبعثوا بالغرباء الأمجاد إلى أوطانهم، وليرحبوا بهم، ولكن بالرغم من ذلك، ستغسل وصيفاتي، أقدام الغريب، ويعددن له فراشه - السرير والعبايات والأغطية اللامعة - لكي يبلغ الفجر الذهبي العرش في دفء وراحة. وفي الصباح الباكر يغسلنه ويدهنه، حتى يستطيع وهو في بيتنا إلى جوار تيليماخوس أن يتناول الطعام وهو جالس في البهو. وسيكون وبالا على أي رجل منهم أن يغيظ روح هذا الرجل ويسبب لها الألم؛ فلن يقوم بأي شيء هنا بعد ذلك، مهما كان مبلغ غضبه عنيفا؛ لأنك سوف تعرف عني، أيها الغريب، ما إذا كنت أتفوق على سائر السيدات الأخريات في الحصافة وسداد الرأي، إذا ما جلست إلى مائدة الطعام في ساحاتي، غير ممشوط الشعر ومرتديا ملابس حقيرة. إنما الرجال أعمارهم قصيرة، فإذا ما كان أحدهم صارما هو نفسه، وكان ذا قلب صارم، إذن لأنزل عليه جميع البشر المحن في المستقبل، وهو لا يزال على قيد الحياة، وعندما يموت يسخر منه سائر الناس، أما إذا كان المرء خاليا من اللوم وذا قلب لا غبار عليه، حمل الأغراب صيته بعيدا بين جميع الناس، وقال عنه الكثيرون إنه رجل حقيقي.»
أوديسيوس يرفض ثم يقبل بشروط
عندئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «يا زوجة أوديسيوس بن لايرتيس، المبجلة، الحق أن العباءات والأغطية اللامعة صارت مقيتة إلى عيني، منذ اليوم الذي تركت ورائي فيه جبال كريت الجليدية، عندما أبحرت على ظهر سفينتي ذات المجاذيف الطويلة. كلا، إنني سأرقد كما تعودت أن أنام في الماضي خلال الليالي المؤرقة؛ فكم من ليال قضيتها مسهدا على فراش قذر أنتظر الفجر المتألق العرش. نعم، وكذلك حمامات الأقدام لا تدخل السرور إلى قلبي، ولن تلمس أي فتاة قدمي من جميع خادماتك اللواتي في ساحتك، إلا إذا كان هناك سيدة عجوز، مخلصة قاست في قلبها محنا كثيرة كالتي قاسيتها؛ إذن فلن أمنع مثل هذه السيدة من أن تمس قدمي.»
بينيلوبي تأمر يوروكليا بغسل قدمي الغريب
فأجابته ثانية بينيلوبي الحكيمة، وقالت: «أيها الغريب العزيز، لم يحدث قط أن رجلا حازما مثلك، من أولئك الغرباء القادمين من بلاد نائية، قد جاء إلى منزلي كضيف مرحب به أكثر من غيره، وكانت كلماته جميعها حكيمة وحصيفة ككلماتك. عندي سيدة عجوز ذات قلب مدرك في صدرها، قامت بتربية زوجي المسكين بكل محبة، وحملته في ذراعيها يوم ولدته أمه. هذه ستغسل قدميك، رغم أن السن قد أضعفها. تعالي الآن، يا يوروكليا الحكيمة، انهضي واغسلي قدمي رجل من نفس عمر سيدك. وللمصادفة، أقدامه تشبه أقدام أوديسيوس، وكذا يداه؛ إذ سرعان ما يشيخ الرجال من جراء الحظ الشرير.»
يوروكليا تستجيب لأمر سيدتها
قالت هذا، فأخفت السيدة العجوز وجهها في يديها وتركت الدموع السواجم تتساقط، وهي تتحدث وسط النحيب، قائلة: «ويحي! الويل لي، يا ولدي، لأنني لا أستطيع أن أعمل شيئا من أجلك. حقا إن زوس ليمقتك أكثر من سائر البشر، رغم أن لك قلبا يخاف الرب؛ إذ لم يسبق قط أن أحرق أي إنسان، لزوس، الذي يقذف الصاعقة، قطعا من الفخاذ الدسمة العديدة أو كثيرا من الذبائح المئوية المنتقاة كما فعلت أنت له، مع توسلاتك بأن تبلغ الشيخوخة الناعمة وتربي ابنك المجيد، ولكن للعجب، وقد منع عنك أنت وحدك يوم عودتك كلية. هكذا، كما أعتقد، طفقت النسوة يسخرن منه أيضا،
9
في بلد غريب بعيد، عندما جاء إلى منزل رجل مجيد، كما يسخر منك هنا جميع هؤلاء المخلوقات العديمي الحياء؛ فإنك لتتحاشى الإهانة منهن الآن، وتجتنب تعنيفاتهن الكثيرة، لم تسمح لهن بأن يغسلن لك قدميك، أما أنا، التي ليست شيئا متذمرا، فقد أمرتني، بينيلوبي الحكيمة، ابنة إيكاريوس، بأن أغسل لك قدميك؛ وعلى ذلك سأغسلهما، إكراما لخاطر بينيلوبي وخاطرك؛ لأن الأحزان تثير قلبي في داخلي. والآن، هيا استمع إلى ما سأقوله لك. إن غرباء كثيرين مثقلين بالمحن قد جاءوا إلى هنا، ولكني أعلن أنني لم أر قط رجلا من قبل يشبه غيره مثلما تشبه أنت أوديسيوس، شكلا وصوتا، وأقداما.»
فأجابها أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «يا سيدتي العجوز، هكذا قال سائر من وقعت عيونهم علينا؛ إذ قرروا أنني وأوديسيوس يشبه أحدنا الآخر، تمام الشبه، كما لاحظت أنت وقلت.»
يوروكليا تحكي طرفا عن طفولة أوديسيوس
هكذا تكلم، فتناولت السيدة العجوز القدر اللامعة المملوءة بالماء الذي ستغسل منه قدميه، فسكبت كمية وافرة من الماء البارد، وأضافت إليه ماء دافئا، ولكن أوديسيوس جلس بعيدا عن الموقد وأسرع فاستدار نحو الظلام؛ لأنه أحس في قلبه في الحال إحساسا ينبئ بما سيحدث، أنها، وهي تلمسه، قد تلاحظ علامة، وتنجلي الحقيقة. وعندئذ اقتربت منه وبدأت تغسل قدمي سيدها، ولكنها في الحال عرفت الجرح الذي من زمن بعيد أصابه به خنزير بري بنابه الأبيض، عندما ذهب أوديسيوس إلى بارناسوس
10
لزيارة أوتولوكوس
Autolycus
11
وأبناء أوتولوكوس، أبي أمه النبيل، الذي كان يفوق سائر الرجال في السرقة وفي حلف اليمين. إنه الإله هيرميس الذي أعطاه بنفسه هذه المهارة، إذ كان من عادته أن يحرق له ذبائح مقبولة من فخاذ الحملان والجداء؛ ومن ثم صادقه هيرميس بقلب خالص. وذات مرة عندما جاء أوتولوكوس، إلى أرض إيثاكا الخصبة، وجد ابن ابنته طفلا حديث المولد، وبينما كان يتناول عشاءه؛ وضعت يوروكليا الطفل فوق ركبتيه، وتكلمت، وخاطبته، بقولها: «أيا أوتولوكوس، أوجد بنفسك الآن اسما لتطلقه على ابنك الذي أنجبته من صلبك؛ وثق بأنه قد صلى من أجله طويلا.»
عندئذ أجابها أوتولوكوس، وقال: «إن زوج ابنتي وابنتي، سيعطيانه أي اسم أقوله. وبما أنني قد جئت إلى هنا كشخص غاضب من كثيرين، من الرجال والنساء، الذين يعيشون فوق ظهر الأرض المثمرة؛ وعلى ذلك فليكن الاسم الذي نطلقه على الطفل هو أوديسيوس.
12
أما أنا، فعندما يترعرع الطفل ويبلغ مبالغ الرجال ويصل إلى البيت العظيم لقريب أمه في بارناسوس، حيث توجد ممتلكاتي فسوف أمنحه منها وأرسله في طريقه مغتبطا.»
لذلك جاء أوديسيوس، كي يعطيه أوتولوكوس الهدايا الرائعة، فرحب به أوتولوكوس وأبناء أوتولوكوس وأمسكوا يديه وحيوه بكلمات رقيقة، وأخذت أمفيثيا
Amphithea ، والدة أمه، أوديسيوس في ساعديها وقبلت رأسه وكلتا عينيه الجميلتين. أما أوتولوكوس فأمر أبناءه الأمجاد بإعداد الطعام، فلبوا أمره. وفي الحال أحضروا ثورا، عمره خمس سنوات، وسلخوه ونظفوه وقطعوا جميع أطرافه. وبعد ذلك قطعوا تلك الأجزاء بمهارة إلى شرائح، وغرسوا فيها السفافيد، وشووها ببراعة ووزعوا القطع؛ ومن ثم، ظلوا يولمون، طوال اليوم كله حتى مغرب الشمس، ولم ينقص قلوبهم شيء من الوليمة العادلة. وعندما غربت الشمس وخيم الظلام رقدوا ليستريحوا وأخذوا نعمة النوم.
وما كاد يلوح الفجر الباكر، ذو الأنامل الوردية، حتى خرجوا للصيد، الكلاب وأبناء أوتولوكوس أيضا، وذهب معهم أوديسيوس العظيم، فتسلقوا جبل بارناسوس الشاهق، الذي تكسوه الغابات، وسرعان ما بلغوا مغاراته ذات الرياح. كانت الشمس وقتئذ ترسل أشعتها على الحقول، وهي تبزغ من أوقيانوس
Oceanus
13
الرقيق الجريان العميق التدفق، عندما وصل الصيادون إلى أحد الممرات. وكانت الكلاب في المقدمة، تشم الأثر، ومن خلفها أبناء أوتولوكس يتوسطهم أوديسيوس العظيم، مقتربا في أعقاب الكلاب مباشرة، يلوح برمحه الطويل، وكان هناك يرقبه خنزير بري يرقد في مكمن كثيف الأحراش لدرجة أن قوة الرياح البليلة لا تستطيع أن تهب خلاله ولا يمكن لأشعة الشمس المتألقة أن تنفذ داخله، وليس في مقدور المطر أن يشق طريقه إليه؛ إذ كان كثيفا جدا، وكان هناك كثير من أوراق الشجر المتساقطة بكمية كبيرة. ارتفع ضجيج أقدام الرجال والكلاب حول الخنزير وهي تهجم في المطاردة، فاندفع هو من مكمنه خارجا نحوهم بظهر كث الشعر وعينين تقدحان نارا، ثم وقف أمامهم هناك عن كثب؛ عندئذ كان أوديسيوس أول من هجم عليه، شاهرا رمحه الطويل في يده القوية، قاصدا إصابته، بيد أن الخنزير كان أسرع منه، إذ عاجله بضربة فوق ركبته، منقضا عليه من الجنب، فأحدث بنابه جرحا طويلا في لحمه، ولكنه لم يصل إلى عظم الرجل، ولكن أوديسيوس أصابه بضربة محكمة فوق كتفه اليمنى، فمزق طرف الرمح اللامع إلى الداخل تماما، وسقط الخنزير في التراب يصرخ، وهربت منه روحه. بعد ذلك انهمك أبناء أوتولوكوس الأعزاء بجثة الخنزير، وأما جرح أوديسيوس النبيل الشبيه بالإله فقد ضمدوه ببراعة، وأوقفوا الدم الأسود بتعويذة، ثم أسرعوا في الحال عائدين إلى منزل أبيهم العزيز. ولما عالجه أوتولوكوس وأبناء أوتولوكوس حتى شفي تماما، وأعطوه هدايا رائعة، أرسلوه بسرعة عائدا إلى وطنه مسرورا، إلى إيثاكا؛ عندئذ اغتبط أبوه وأمه المبجلة لعودته، واستعلما منه عن القصة كلها، كيف أصيب بذلك الجرح؛ فأخبرهما بالحقيقة كاملة، كيف، وهو يصطاد، ضربه خنزير بري بنابه الأبيض عندما ذهب إلى بارناسوس مع أبناء أوتولوكوس.
يوروكليا تتعرف على أوديسيوس من جرح بساقه
عرفت السيدة العجوز هذه العلامة، عندما أمسكت ساقه في راحتي يديها، باللمس، فتركت قدمه تسقط. وقعت الساق في الطست، فرن الوعاء البرونزي، ومال على الأرض، وانسكب الماء فوق الأرض. وبعد ذلك شمل روحها السرور والحزن في لحظة واحدة، واغرورقت عيناها بالدموع وانحبس صوتها. ولكنها أمسكت ذقن أوديسيوس، وقالت: «حقا إنك أوديسيوس، أيها الطفل العزيز، ولم أعرفك، إلا بعد أن تحسست بدن سيدي كله.»
أوديسيوس يأمر يوروكليا بالسكوت
قالت هذا، وتطلعت إلى بينيلوبي بعينيها، تريد أن تظهر لها أن زوجها العزيز بالبيت. غير أن عين بينيلوبي لم تستطع أن تلتقي بنظرتها ولم تفهمها؛ لأن أثينا حولت تفكيرها إلى ناحية أخرى. أما أوديسيوس، فتحسس حلق المرأة، وأمسكه بيده اليمنى، وباليد الأخرى سحبها قريبا منه، وقال: «أماه، لماذا ترغبين في تحطيمي؟ لقد ربيتني بنفسك على صدرك هذا، والآن بعد أن كابدت متاعب محزنة جمة. قد جئت في السنة العشرين إلى وطني. وطالما أنك قد عثرت علي، ووضع إله هذا في قلبك، فسكات لئلا يعلم بذلك أي شخص آخر في الساحات؛ لأن ما سأقوله لك، هو ما سيحدث فعلا. إذا أخضع أحد الآلهة المغازلين السادة إلى سيطرتي، فلن أعتقك، بالرغم من أنك مربيتي، عندما أقتل الخادمات الأخريات في ساحاتي.»
يوروكليا تعد أوديسيوس بكتمان السر
ما إن قال هذا، حتى أجابته يوروكليا الحكيمة، بقولها: «أي بني، ما هذه العبارة التي فلتت من بين حاجز أسنانك! إنك تعرف مدى ثبات روحي وعدم استسلامي. سأكتم الأمر أشبه بالصخر الجلمود أو الحديد. وسأخبرك بأمر آخر يجب أن تضعه في قلبك. إذا أخضع لك أحد الآلهة السادة المغازلين، فهل لي عندئذ أن أذكر لك أسماء النساء اللواتي في ساحاتك، وأخبرك بأيهن لا يخلصن لك، وأيهن البريئات؟»
فأجابها أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «يا أماه، لماذا، بربك، تخبرينني بهن؟ لا حاجة بك إلى ذلك إطلاقا. سوف أتبينهن من تلقاء نفسي جيدا، وسأعرف كل واحدة منهن. كلا، احتفظي بالأمر لنفسك، واتركي النتيجة للآلهة.»
هكذا تكلم، وخرجت السيدة العجوز عبر البهو لتحضر الماء لقدميه؛ إذ انسكب الماء الأول كله. وبعد أن غسلته، ودهنته جيدا بالزيت، سحب أوديسيوس كرسيه من جديد واقترب أكثر من النار ليدفئ نفسه، وأخفى أثر الجرح بأسماله.
بينيلوبي تطلب من الغريب تفسيرا لحلم رأته
كانت بينيلوبي الحكيمة أول من تكلم، فقالت: «أيها الغريب، سأسألك هذا السؤال البسيط بالإضافة إلى ما سبق؛ لأنه سرعان ما ستحين ساعة الراحة اللذيذة، على الأقل لمن يحط عليه النوم اللذيذ رغم يقظته. أما أنا فقد أعطاني رب حزنا يفوق الحد؛ إذ أجد مسرتي يوما بعد يوم في الحزن والبكاء ، بينما أشرف على أعمالي المنزلية وأعمال نسائي في المنزل، حتى إذا ما أقبل الليل وسيطر النوم على الجميع، استلقيت على فراشي، فتتزاحم الهموم الحادة حول قلبي الخافق، وتقلق راحتي، بينما أبكي. وكما تغني بصوتها الرخيم ابنة بانداريوس
،
14
عندليب الغابة الخضراء،
15
عندما يهل الربيع حديثا، فتحط جالسة على أفنان الشجر الكثيف الأوراق، وبأنغام كثيرة متذبذبة تطلق صوتها العذب منتحبة على صغيرها إيتولوس
Itylus
16
العزيز، الذي قتلته ذات يوم بالسيف عن غير قصد، إيتوليوس، ابن الملك زيثوس
Zethus ؛
17
هكذا يتأرجح قلبي إلى هذا الجانب وذاك في ارتياب، لست أدري هل أبقى مع ابني واحتفظ بكل شيء سالما، ممتلكاتي، وعبيدي، ومنزلي الرائع، المرتفع السقف، محترمة فراش زوجي وصوت الشعب، أم أذهب الآن مع من يكون خير الآخيين، ممن يغازلونني في الساحة، ويقدم لي هدايا زواج تفوق الحصر. هذا فضلا عن أن ابني، عندما كان طفلا ضعيف الإدراك، لم يسمح لي بالزواج وترك منزل زوجي، أما الآن فقد كبر وبلغ مبالغ الرجال، والعجيب، إنه أيضا يرجوني في أن أغادر هذه الساحات، وقد غاظه أن الآخيين يلتهمون أمواله على حسابه، ولكن، هيا، اسمع الآن هذا الحلم الذي رأيته، وفسره لي. لدي بمنزلي عشرون إوزة تعود من الماء وتأكل القمح، فيمتلئ قلبي سرورا وأنا أراقبها. بيد أنه خرج من الجبل نسر ضخم معقوف المنقار وكسر جميع أعناقها وقتلها، فتناثرت ملقاة على أرض الساحة في كومة، بينما صعد هو مرتفعا إلى السماء اللامعة. أما أنا فبكيت وأعولت، بالرغم من كونه حلما، فاجتمعت النسوة الآخيات الجميلات الغدائر حولي، وأنا مكتئبة حزنا على إوزاتي التي قتلها النسر، ثم عاد من جديد وحط على إحدى كتل السقف البارزة، وتكلم بصوت البشر ومنعني من البكاء، قائلا: «ابتهجي، يا ابنة إيكاريوس الذائع الصيت؛ ما هذا بحلم، بل رؤيا صادقة لخير سوف يتحقق أكيدا. إن الإوزات هي المغازلون، وأنا الذي كنت فيما مضى نسرا، قد عدت الآن ثانية كزوجك، الذي سوف يطلق مصيرا قاسيا على جميع المغازلين.»
هكذا تكلم، وحررني النوم اللذيذ، ولما تطلعت حولي أبصرت الإوز في ساحاتي، يلتقط القمح بجوار الحوض، الذي تعود أن يأكل منه من قبل.»
بعدئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «سيدتي، يستحيل أن يكون في الإمكان إهمال هذا الحلم وتأويله بمعنى آخر، ما دام أوديسيوس نفسه قد أوضح لك حقيقة كيف سيحققه؛ لأن هلاك المغازلين أمر جلي، للجميع؛ فلن ينجو واحد منهم من الموت والأقدار.»
بينيلوبي تكشف للغريب بعض نواياها
فأجابته ثانية بينيلوبي الحكيمة، وقالت: «أيها الغريب، الحق أن الأحلام غامضة محيرة وغير واضحة المعنى، ولا تتحقق في جميع الأمور للبشر بأية حال من الأحوال؛ لأن أبواب الأحلام الخيالية اثنان، أحدهما مصنوع من مادة القرون والآخر من العاج، فالأحلام التي تمر خلال الباب المصنوع من العاج المقطوع بالمنشار تخدع الناس، وتتضمن ألفاظا لا سبيل إلى تحقيقها. أما تلك التي تنطلق عبر البوابة المصنوعة من مادة القرون المصقولة فتأتي بنتائج صحيحة تتحقق، متى رآها أي فرد من البشر. أما في حالتي هذه، فحسب اعتقادي، لم يأت حلمي الغريب من هناك. وإلا كان عندئذ موضع ترحيبي وترحيب ابني، ولكن هناك شيئا آخر سأخبرك به. وهل لك أن تحتفظ به في قلبك؟ الآن أيضا سيأتي هذا الصباح ذو الاسم الشرير الذي يفصلني عن منزل أوديسيوس؛ لأنني عندئذ سأعين للمباراة تلك الفئوس التي اعتاد أن يضعها في خط مستقيم في ساحاته، كما لو كانت عوارض سفينة في سبيل البناء، اثنتي عشرة فأسا في مجموعها، وكان يقف بعيدا ويطلق سهما خلالها.
18
إذن سأقيم هذه المباراة اليوم أمام المغازلين: ومن يستطيع أن يضع الوتر بسهولة في القوس بيديه، ويطلق سهما خلال الفئوس الاثنتي عشرة، فسأذهب معه وأهجر هذا المنزل، منزل حياتي الزوجية، وإنه لبيت في غاية الروعة والجمال وحافل بالرزق، الذي، كما أعتقد، سوف أتذكره باستمرار حتى في أحلامي.»
بعدئذ أجابها أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «يا زوجة أوديسيوس بن لايرتيس، المبجلة، اليوم سوف تقيمين هذه المباراة في ساحاتك؛ لأنه، كما أخبرك، سيكون أوديسيوس الكثير الحيل هنا، قبل أن يتمكن هؤلاء الرجال، من وضع الوتر في هذه القوس المصقولة، وإطلاق سهم خلال الحديد.»
بينيلوبي تنصرف مع وصيفاتها بغية النوم
فردت عليه بينيلوبي الحكيمة بعد ذلك، قائلة: «إذا رغبت، أيها الغريب، في أن تجلس ها هنا في ساحاتي، وتدخل السرور إلى نفسي، فإن النوم لن ينسكب إطلاقا فوق جفني. بيد أنه ليس من المستطاع أبدا أن يستغني البشر عن النوم باستمرار؛ إذ عين الخالدون وقتا مناسبا لكل شيء على الأرض، مانحة الغلال. أما أنا فسأذهب حقا إلى مقصورتي العليا وأرقد فوق سريري، الذي غدا لي فراش النحيب، أبلله دائما بدموعي، منذ اليوم الذي رحل فيه أوديسيوس ليرى إليوس اللعينة، التي لا يجب على المرء أن يذكر اسمها على الإطلاق. سأرقد هناك، أما أنت فهل لك أن ترقد هنا في الساحة، ما دمت قد أعددت فراشا فوق الأرض؟ أو دع الإماء يقمن لك فراشا.»
ما إن قالت هذا، حتى صعدت إلى مقصورتها العليا المتألقة. ولم تذهب بمفردها؛ لأن الخادمات ذهبن معها أيضا. وبعد أن صعدت إلى مقصورتها العليا مع خادماتها، شرعت تبكي حزنا على أوديسيوس، زوجها العزيز إلى أن ألقت أثينا، ذات العينين النجلاوين، النوم اللذيذ على جفنيها.
الأنشودة العشرون
وخرج تيليماخوس عبر الساحة يمسك رمحه في يده، ويتبعه كلبا صيد سريعان.
أوديسيوس يستعصي عليه النوم
أما أوديسيوس العظيم فرقد في ساحة البيت الأمامية لينام، فبسط فوق الأرض جلد ثور غير مدبوغ وفوقه كثير من فراء الأغنام، التي كان من عادة الآخيين أن يذبحوها، وألقت يورونومي فوقه عباءة، بعد أن رقد. استلقى أوديسيوس هناك ولكن النوم لم يقترب من جفنيه، بل بقي يفكر شرا في قلبه للمغازلين. وخرجت النساء من الساحة، أولئك اللواتي اعتدن من قبل أن يجلسن مع المغازلين، يرفهن عنهم بالضحك والمرح، فتحركت الحمية في قلبه داخل صدره، وكثيرا ما تنازع في عقله وقلبه أمران، هل يهجم عليهن ويكيل الموت لكل واحدة، أم يسمح لهن بالبقاء مع المغازلين الوقحين للمرة الأخيرة، وأخذ قلبه يهر في داخله. وكما تقف الكلبة على جرائها الغضة، وتهر عندما ترى إنسانا لا تعرفه، وتتحرق إلى القتال، هكذا أيضا هر قلبه في باطنه غاضبا من أعمالهن الشريرة؛ ولكنه ضرب صدره، ونهر قلبه، قائلا: «تحمل، يا قلبي، لقد تحملت شيئا أسوأ من هذا في ذلك اليوم الذي التهم فيه الكوكلوبس الذي لا حد لجرأته، زملائي الأشداء، وقد تحملت إلى أن أخرجتك الحيلة من الكهف الذي ظننت أنك ستلقى فيه حتفك.»
أوديسيوس يشكو لأثينا همومه
هكذا تكلم، مؤنبا قلبه الكائن في صدره، وبقي قلبه مكبولا في باطنه ليتحمل بثبات، أما هو نفسه فقد رقد يتقلب على هذا الجانب وذاك. وكما يحرك المرء كتلة من الدهن والدم أمام نار كبيرة تلتهب في سرعة، إلى هذا الجانب وذاك، وهو يتوق إلى أن يشويها بسرعة، هكذا أيضا راح أوديسيوس يتحرك من جنب إلى جنب، يفكر في عقله كيف يستطيع أن يضع يديه على المغازلين المتبجحين، رجل واحد بمفرده ضد جمع غفير كهذا. بعد ذلك هبطت أثينا من السماء واقتربت منه في صورة امرأة، ووقفت بجانب رأسه، وتحدثت إليه، قائلة: «لم أنت متيقظ الآن ثانية، أيها الرجل المنكود الحظ أكثر من سائر النساء؟ ويحك! ها بيتك، وهنا في داخله زوجتك وابنك، وإنه لرجل، كما أعتقد، كذلك الابن الذي يصلي كل رجل ليكون له ابن مثله.»
فأجابها أوديسيوس الكثير الحيل، وقال: «نعم، أيتها الربة، إن كل ما قلته لهو عين الصدق، ولكن قلبي في صدري يفكر في الكيفية، التي أستطيع بها أن أضع يدي على المغازلين الذين لا يخشون العار، أنا وحدي كما ترين، بينما هم عصبة في المنزل دائما. وفضلا عن هذا، فهناك أمر أشد عناء يشغل بالي؛ فحتى لو تمكنت من قتلهم بإرادة زوس وإرادتك، فكيف أنجو بعدئذ من الأذى؟ إنني أطلب منك أن تلاحظي هذا.»
أثينا تجلب النوم اللذيذ على أوديسيوس
بعد ذلك أجابته الربة، أثينا المتألقة العينين، بقولها: «أيها العنيد، كثير من الرجال يضعون ثقتهم حتى في صديق أضعف مني، في رجل من البشر، ليس له من الحكمة مثل حكمتي، أما أنا فربة، أحرسك في جميع أعمالك حتى النهاية. وإنني لأخبرك بصراحة، فحتى لو اجتمع حولنا خمسون عصبة من الرجال، يريدون قتالنا في معركة، وحتى لو كانت معهم ماشيتهم وكباشهم الضخمة، لأمكنك أن تدفعهم جميعا وتقهرهم. كلا، دع النوم يحل عليك الآن. كما أن هناك تعبا في بقائك مستيقظا طوال الليل كله، ومع ذلك فحتى الآن سوف تخرج من مخاطرك.»
هكذا تكلمت، وسكبت النوم فوق جفنيه، أما الربة الفاتنة نفسها، فعادت إلى أوليمبوس.
وصيفة بينيلوبي تصلي لأرتيميس
وبينما هو نائم ملء جفنيه، يخفف النوم هموم قلبه، ذلك النوم الذي يرخي أطراف البشر، استيقظت زوجته الصادقة القلب، فبكت، وهي جالسة على فراشها الوثير، فلما بكت ما شاء أن تبكي، صلت أجمل سائر السيدات، أولا لأرتيميس، فقالت: «أي أرتيميس، أيتها الربة الشديدة البأس، يا ابنة زوس، ليتك الآن تثبتين سهمك في صدري وتسلبينني حياتي في هذه الساعة؛ أو أن ريحا عاتية تأتي وتحملني من هنا فوق الطرق الداجية، وتقذف بي هناك بعيدا عند مصب أوقيانوس المتدفق الجريان إلى الحلف، كما حدث تماما في وقت ما إن حملت الرياح القوية بنات بانداريوس
.
1
فقد قتلت الآلهة أبوهن، وتركن يتيمات في الساحات، فأمدتهن أفروديتي الجميلة بالجبن، والعسل الحلو، والخمر اللذيذة. وأعطتهن هيري الجمال والحكمة أكثر من سائر النساء، ومنحتهن أرتيميس الطاهرة قواما، وعلمتهن أثينا المهارة في الأشغال اليدوية. غير أنه بينما كانت أفروديتي الجميلة صاعدة إلى أوليمبوس الشاهق لتطلب إتمام زواج العذارى السعيد - ذاهبة إلى زوس الذي يقذف الصاعقة، لأنه يعرف كل شيء حق المعرفة، مما فيه سعادة وشقاء البشر - كانت أرواح العاصفة الهوجاء قد خطفت الفتيات وسلمتهن إلى الإرينويس
Erinyes
2
المقيتات ليكن خادمات لهن. ليت أولئك الذين لهم مساكن فوق أوليمبوس يطمسونني كذلك من أمام الأنظار، أو أن أرتيميس ذات الأثواب الجميلة تضربني، حتى أمر تحت الأرض البغيضة وأوديسيوس في مخيلتي، بدلا من أن أبهج قلب رجل وضيع، بأية حال من الأحوال. ومع ذلك فإذا ما بكى المرء نهارا بقلب مفعم بالقنوط، ثم حط عليه النوم ليلا، جلب هذا معه شرا يستطيع احتماله تماما - لأن النوم ينسي المرء كل شيء، الخير والشر، بمجرد أن يرخي الأجفان - بيد أن أحد الأرباب يرسل إلي أحلاما شريرة أيضا. كما أن هذه الليلة رقد إلى جانبي شخص يشبهه، تمام الشبه، عندما رحل مع الجيش، فسر قلبي، لأنني ظننت أني لم أكن حالمة، غير أن الحقيقة تجلت في النهاية.»
أوديسيوس يستيقظ ثم يصلي لزوس
هكذا تكلمت، وبسرعة أقبل الفجر ذو العرش الذهبي وما إن بكت حتى سمع أوديسيوس العظيم صوتها، وتناوبته الأفكار في الحال، وبدا لقلبه أنها تعرفه وأنها كانت تقف إلى جانب رأسه. وبعد ذلك حمل العباءة والفراء التي كان يرقد عليها ووضعها في الساحة فوق كرسي، أما جلد الثور فوضعه خارج الأبواب؛ ثم رفع يديه وصلى لزوس، قائلا: «أبتاه زوس، إذا كنتم، أيها الآلهة، قد أحضرتموني إلى وطني عبر البر والبحر عن طيب خاطر، بعد أن أذقتموني العذاب الشديد، فلتجعلوا أحدا في الداخل يحدثني بفأل، وليظهر زوس علامة في الخارج أيضا.»
زوس يرعد وامرأة تتنبأ
هكذا قال في صلاته، وسمعه زوس المستشار. وفي الحال أرعد من أوليمبوس البراق، من العلا من داخل السحب، فسر أوديسيوس العظيم. كما أن امرأة كانت تطحن في طاحونة، داخل المنزل القريب، فنطقت بكلمة نبوءة في المنزل الذي فيه طواحين راعي الشعب. وكان من عادة اثنتي عشرة امرأة أن يقمن بأعمالهن عند هذه الطواحين، يصنعن دقيقا من الشعير والقمح، الذي هو نخاع البشر. وكانت الأخريات نائمات في ذلك الوقت؛ إذ كن قد طحن قمحهن، أما هي فلم تكن قد انتهت من الطحين لأنها كانت أضعفهن جميعا. لقد أوقفت طاحونتها الآن، وتنبأت بكلمة، فأل لسيدها، فقالت: «أبي زوس، أيها السيد على الآلهة والبشر، حقا لقد أرعدت عاليا من السماء ذات النجوم، ومع ذلك فلا يوجد في أي مكان سحب ما؛ حقا إن هذه العلامة تبديها لامرئ ما. إذن فلتحقق لي الآن أيضا، أنا التعيسة ما سأطلبه. ليت المغازلين يقيمون اليوم لآخر مرة ولائمهم السارة في ساحات أوديسيوس، أولئك الذين أنهكوا أطرافي بالعمل الشاق، وأنا أطحن لهم دقيق الشعير، وليت عشاء اليوم يكون عشاءهم الأخير .»
هكذا تكلمت، وسر أوديسيوس العظيم من ذلك الفأل ومن رعد زوس؛ لأنه اعتقد أنه قد نال الانتقام من المذنبين.
تيليماخوس يسأل يوروكليا عن الغريب
في تلك الآونة اجتمعت النساء الأخريات في قصر أوديسيوس الجميل، وكن يشعلن نارا لا تكف فوق الموقد. وينهض تيليماخوس من فراشه، أشبه بالإله، وارتدى ملابسه. وعلق سيفه على كتفه، ولبس صندله البديع في قدميه البراقتين؛ وتناول رمحه القوي المدبب بالبرونز الحاد، وذهب ووقف عند العتبة، وتحدث إلى يوروكليا، قائلا: «أي مربيتي العزيزة، هل أكرمت الغريب في منزلنا بفراش وطعام، أم هل رقد دون أن يهتم به أحد قط؟ لأن هذه هي عادة أمي، بالرغم من كونها حكيمة؛ تكرم واحدا من البشر بطريقة عجيبة، وإن كان أردأهم، بينما تترك أفضلهم بعيدا دون تكريم.»
عندئذ أجابته يوروكليا الحكيمة، بقولها: «لا يجب عليك أن تلومها في هذا الشأن، يا ولدي؛ فلا لوم عليها. لقد جلس هنا وشرب خمرا ما شاء له أن يشرب. وأما من حيث الطعام فقد قال إنه لا يحس بالجوع؛ إذ سألته، ولكنه أراد أن يرتاح وينام؛ ولذلك أمرت الخادمات بأن يعددن له فراشة. بيد أنه، كشخص بالغ البؤس واليأس، ما كان لينام على فراش وتحت أغطية، بل نام على جلد ثور غير مدبوغ وفراء أغنام في الساحة الأمامية، فوضعنا فوقه عباءة.»
تيليماخوس ينطلق إلى مكان الاجتماع
قالت هذا، وخرج تيليماخوس عبر الساحة يمسك رمحه في يده، ويتبعه كلبا صيد سريعان، فانطلق في طريقه إلى مكان الاجتماع لينضم إلى حشد الآخيين المدرعين جيدا، أما السيدة العظيمة، يوروكليا ابنة أوبس
Ops ،
3
ابن بايسينور
peisenor ، فنادت وصيفاتها، وقالت لهن: «هيا، ليكنس بعضكن الساحة باعتناء ويرشها بالماء، ولتضعن أغطية من الأرجوان فوق المقاعد الفاخرة، ولتمسح أخريات جميع الأخونة بالإسفنج وتنظفن طاسات المزج والأقداح المزدوجة الجيدة الصنع، ولتذهب أخريات إلى النبع لإحضار الماء بسرعة إلى هنا؛ فلن يغيب المغازلون طويلا عن الساحة، بل سيعودون مبكرا جدا؛ لأن هذا يوم عيد لجميع البشر.»
ما إن قالت هذا، حتى صدعن بالأمر في الحال وأطعن . وذهبت عشرون خادمة منهن إلى نبع الماء المظلم، بينما انهمكت أخريات هناك في المنزل بمهارة.
أوديسيوس ويومايوس يتبادلان الحديث
بعد ذلك دخل خدم الآخيين، الذين شقوا فيما بعد كتلا من الخشب ببراعة، وعادت النسوة من النبع، ثم جاء راعي الخنازير، يسوق ثلاثة خنازير كانت خير ما في قطيعه كله، فتركها تأكل في الأفنية الجميلة، أما هو فتحدث إلى أوديسيوس بكلمات رقيقة، فقال: «أيها الغريب، هل أبدى لك الآخيون إجلالا أعظم، أم أنهم لم يحترموك في الساحات كما فعلوا من قبل؟»
فأجابه أوديسيوس الكثير الحيل، وقال: «آه، يا يومايوس، أتمنى أن تنتقم الآلهة لانتهاك الحرمات، الذي يقوم به أولئك الرجال في فجورهم بحماقة شريرة، في منزل رجل آخر، غير مرتدعين.»
ميلانثيوس يخاطب أوديسيوس بكلمات التحقير
هكذا أخذ يتحدث كل منهما إلى الآخر، فاقترب منهما ميلانثيوس راعي المعيز، يقود نعجات هي خير ما في القطعان، ليقيم وليمة للمغازلين، يتبعه راعيان، فساق المعيز وربطها تحت الرواق الفسيح، وخاطب هو نفسه أوديسيوس بكلمات التحقير، قائلا: «أيها الغريب، هل ستبقى حتى الآن وباء علينا في هذه الساحة، تستجدي أكف الرجال، ولا تنصرف؟ من الجلي، على ما أعتقد، أننا نحن الاثنين لن نفترق إلا بعد أن يكيل كل واحد منا اللكمات للآخر؛ فليس تسولك متزنا قط. كما أن ولائم الآخيين ليست في هذا المكان.»
قال هذا، غير أن أوديسيوس الكثير الحيل لم يرد عليه، بل هز رأسه في صمت، منتويا للشر في أعماق قلبه.
فيلويتيوس يتحدث إلى كل من يومايوس وأوديسوس
وإلى هذين انضم رجل ثالث، هو فيلويتيوس
قائد البشر، يقود للمغازلين عجلة بكرا ونعاجا سمينة. أحضر هذه من البلاد، البحارة، الذين ينقلون الرجال الآخرين، أيضا، كل من جاء إليهم، إلى حيث يريدون، فساق الحيوانات وربطها بعناية تحت الرواق الفسيح، أما هو نفسه فاقترب من راعي الخنازير وسأله، قائلا: «من هذا الغريب، يا راعي الخنازير، الذي قدم حديثا إلى منزلنا؟ من أي الأقوام يعلن أنه انحدر؟ أين يوجد أهله وحقول وطنه؟ يا له من بائس! ورغم هذا فحقا إنه ليشبه في هيئته أميرا ملكيا. ومع ذلك فإن الآلهة تدفع إلى الشقاء رجالا يتجولون إلى جهات نائية، كلما حاكوا لهم خيوط الإزعاج، حتى ولو كانوا ملوكا.»
بهذا اقترب من أوديسيوس، ومد إليه يده اليمنى مصافحا، وتحدث إليه بكلمات مجنحة، قائلا: «مرحبا بك، أيها السيد الغريب، أتمنى لك حظا سعيدا في المستقبل، رغم كونك الآن غرضا لكثير من السهام! أبتاه زوس، ما من إله آخر أكثر منك أذى، إنك لا تكن للبشر أية رحمة عندما أعطيتهم الميلاد بنفسك، بل تدفعهم إلى البؤس والآلام المبرحة. لقد تصببت عرقا عندما أبصرت هذا الرجل، واغرورقت عيناي بالدموع إذ تذكرت أوديسيوس؛ لأنه أيضا، على ما أعتقد، يلبس مثل هذه الأسمال جائلا وسط الأقوام، لو أنه حقا لا يزال على قيد الحياة ويرى ضوء الشمس. أما إذا كان قد مات وفي بيت هاديس،
4
فالويل لي إذن من أجل أوديسيوس الخالي من اللؤم، الذي أقامني راعيا على ماشيته، وأنا في ميعة الصبا، في بلاد الكيفالينيين
Cephallenians .
5
وقد نمت لك الماشية وكبرت الآن بصورة تفوق الوصف، ولم يكن في مقدور نسل الماشية العريضة الجباه أن تعطي زيادة أكثر
6
للبشر غير الخالدين، ولكن الأغراب يأمرونني بأن أقودها لهم الآن ليأكلوها، غير مكترثين بشيء للابن الموجود في هذا المنزل، كما أنهم لا يخشون غضب الآلهة، لأنهم يريدون تقسيم ممتلكات سيدنا، الذي طال غيابه، فيما بينهم. أما عني شخصيا، فإن قلبي الكائن في صدري يظل يفكر في هذا الأمر. إنه شيء شرير جدا، بينما الابن على قيد الحياة، أن أنصرف بماشيتي وأذهب بها إلى أرض الأغراب، إلى قوم غرباء، بينما هو أكثر سوءا كذلك، أن أبقى هنا وأقاسي المحن في رعي الماشية التي تعطي لآخرين. حقا، لقد كان يليق بي أن أهرب من هنا من مدة طويلة، وأذهب إلى شخص آخر من الملوك الفخورين؛ إذ أصبحت الأمور الآن فوق ما يحتمل المرء، ولكني بالرغم من ذلك أفكر في ذلك البائس، لو قيض له أن يعود ثانية، ولست أدري متى يكون هذا، ويشتت المغازلين القابعين في منزله.»
الغريب يدلي بنبوءة عن أوديسيوس
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، وقال: «أيها الراعي، ما دمت لا تبدو كرجل شرير ولا عديم التفكير، فإنني أرى بنفسي أن لك قلبا مدركا؛ ومن ثم فسأعلن جهرا وأقسم قسما عظيما لأبرهن على صدق قولي. والآن كن شاهدي يا زوس فوق جميع الآلهة، وهذه المائدة المضيافة، ومدفأة أوديسيوس النبيل التي جئت إليها، إنه حقا، مذبحة العشاق، الذين يحكمون هنا.»
فأجابه راعي الماشية بقوله: «آه، أيها الغريب، أتمنى أن يحقق ابن كرونوس كلمتك هذه! إذن لعرفت أي نوع من القوة عندي، وكيف تطيعني يداي.»
وكذلك صلى يومايوس بالطريقة عينها لجميع الآلهة أن يعود أوديسيوس الحكيم إلى بيته.
المغازلون يدبرون الموت لتيليماخوس
هكذا أخذ كل منهم يتحدث إلى الآخر، أما العشاق فكانوا في الوقت نفسه يدبرون الموت والحتف لتيليماخوس، ولكن طائرا جاءهم من على يسارهم، نسر عالي الطيران، يقبض بمخالبه على يمامة مرتجفة. وعندئذ تكلم أمفينوموس وسط حشدهم، قائلا: «أصدقائي، لن تسير خطتنا هذه حسب ما نبغي، حتى مقتل تيليماخوس. كلا، دعونا نفكر في الوليمة.»
ما إن قال أمفينوموس، ذلك، حتى سروا من كلامه وانشرحت صدورهم. بعد ذلك، وقد دخلوا بيت أوديسيوس الشبيه بالإله، وضعوا عباياتهم فوق الكراسي والمقاعد العالية، وشرع الرجال في ذبح الخراف الكبيرة والمعيز السمينة، نعم، والخنازير المسمنة، وعجلة القطيع. وبعد ذلك شووا الأمعاء وقدموها، وخلطوا الخمر في الطاسات، ووزع راعي الخنازير الأقداح. وقدم لهم فيلويتيوس، قائد البشر، الخبز في سفط جميل، وصب لهم ميلانثيوس الخمر. وهكذا مدوا أيديهم إلى الطعام الشهي الموضوع معدا أمامهم.
تيليماخوس ينتوي الدفاع عن الغريب
أما تيليماخوس، فبفكر صائب، جعل أوديسيوس يجلس داخل البهو المكين البناء بجوار العتبة الصخرية. ووضع له كرسي قدم متواضعا ونضدا صغيرا. ووضع إلى جواره قطعا من الأمعاء المشوية، وصب له خمرا في كأس ذهبية، وقال له: «تفضل واجلس ههنا وسط السادة واشرب خمرك ، أما سخرية ولطمات المغازلين فسأرفعها عنك، أنا نفسي؛ فليس هذا ملجأ عاما، بل هو بيت أوديسيوس، كسبه من أجلي. وأما أنتم، أيها المغازلون، فامنعوا عقولكم من السخرية والضربات، لئلا ينشب صراع أو عراك.»
المغازلون يعجبون من جرأة تيليماخوس
هكذا تكلم، فعضوا على شفاههم جميعا وعجبوا من تليمياخوس إذ كان يتكلم بجرأة، فتحدث أنتينوسن بن يوبايثوس، في وسطهم، قائلا: «رغم أنه يشق علينا هذا الأمر، أيها الآخيون، فلنقبل كلمة تيليماخوس، ولو أنه يهددنا بجرأة بكلامه؛ لأن زوس بن كرونوس، لم يسمح له، وإلا لأخرسناه قبل الآن في الساحات، مهما كان متحدثا واضح النبرات.»
هكذا قال أنتينوس، بيد أن تيليماخوس لم يعر كلماته التفاتا، وفي الوقت نفسه كان الخدم يسوقون خلال المدينة الذبيحة المقدسة المكونة من مائة ثور للآلهة، واحتشد الآخيون الطويلو الشعور معا تحت كهف ظليل لأبولو، الرب القواس.
وما إن شووا اللحم الخارجي وسحبوه من السفافيد، حتى قسموا الأجزاء وأدبوا مأدبة مجيدة. وإلى جوار أوديسيوس وضع الذين كانوا يخدمون قطعة مساوية القطع التي أخذوها هم أنفسهم؛ إذ أمر بهذا تيليماخوس، الابن العزيز لأوديسيوس المقدس.
كتيسيبوس يحاول الاعتداء على الغريب
بيد أن أثينا لم تكن لتسمح للمغازلين المتغطرسين بأية حال من الأحوال أن يكفوا عن الشغب المرير، حتى يكون الألم عميقا أكثر وأكثر في قلب أوديسيوس بن لايرتيس، فكان من بين العشاق رجل ذو قلب جبل على التمرد اسمه كتيسيبوس
Ctesippus ، يسكن في سامي
Same
ذلك الذي من فرط ثقته بثرائه الواسع، غازل زوجة أوديسيوس، الذي رحل من زمن بعيد، فقام يتحدث الآن وسط المغازلين المتغطرسين، فقال: «استمعوا إلي أيها العشاق المزهوون، فسأقول لكم شيئا ما. منذ مدة طويلة تناول الغريب قطعة مناسبة، كما يتفق؛ لأنه ليس حسنا ولا من العدل أن نسلب ضيوف تيليماخوس حقهم، مهما كانت شخصية الذي جاء إلى هذا المنزل. هيا، تعالوا، فأنا أيضا سأمنحه هدية غريب، لكي يقدم هو بدوره هدية لخادمة الحمام أو لأي فرد آخر من العبيد الموجودين في منزل أوديسيوس الشبيه بالإله.»
ما إن قال هذا، حتى طوح بيده القوية ظلف ثور، أخذه من السفط الذي كان موضوعا فيه ، ولكن أوديسيوس تحاشاه بانحناءة سريعة من رأسه، وابتسم في قرارة نفسه ابتسامة في غاية الصرامة والمرارة، فأصاب ظلف الثور الحائط المكين البناء. بعد ذلك أنب تيليماخوس كتيسيبوس، بقوله: «يا كتيسيبوس. حقا لقد سقط هذا الشيء من صالح نفسك أكثر من غيرك. إنك لم تصب الغريب؛ لأنه هو نفسه قد اجتنب قذيفتك، وإلا لكنت قد ضربتك حقا برمحي الحاد في وسط جسمك، وبدلا من وليمة الزواج كان أبوك قد انشغل بوليمة جنائزية في هذه البلاد؛ ومن ثم، حذار أن تدع أحدا، فهكذا أحذرك، أن يظهر شجاعته في منزلي؛ فها أنا ذا الآن أراقب وأفهم كل شيء، الخير والشر، رغم أنني لم أكن فيما مضى إلا صبيا. ومع ذلك، فما زلنا نحتمل رؤية هذه الأعمال بيننا، فالخراف تذبح، والخمر تشرب، والخبز يستهلك؛ لأنه من العسير على المرء أن يكبح جماح الكثيرين. ومع كل، فاسمع مني، إياك أن تؤذيني بعد الآن بإضمارك الشر. أما إذا كان في نيتك حتى الآن أن تقتلني أنا نفسي بالسيف، فإنني أرحب بهذا أيضا؛ فخير لي أن أموت من أن أرى باستمرار هذه الأعمال المخزية؛ فهؤلاء أغراب تساء معاملتهم، وأولئك رجال يجرون الخادمات بطريقة مخجلة، عبر الساحات الجميلة.»
أجيلاوس يناشد تيليماخوس حث أمه على الزواج
هكذا تكلم، وشملهم جميعا الصمت، وأخيرا تكلم أجيلاوس
Agelaus ، ابن داماستور
Damastor ، في وسطهم، فقال: «أيها الأصدقاء، لا يستطيع أحد أن يجيب على ما قيل بحق وعدل ويغضب أو يرد بكلمات جافة. لا تسيئوا القول للغريب أو لأي فرد من عبيد منزل أوديسيوس المقدس. أما أنا فسأقول كلمة رقيقة لتيليماخوس ووالدته، لعلها تحظى بالرضى من عقليهما كليهما. طالما أن قلبيكما الكائنين في صدريكما يأملان في عودة أوديسيوس الحكيم إلى بيته، ولا تثريب عليكما في كونكما انتظرتما، وأبقيتما المغازلين في ساحاتكما؛ إذ كان هذا أفضل إجراء، لو أن أوديسيوس عاد ورجع إلى منزله، ولكن من الجلي الآن أنه لن يعود بعد ذلك . هلم، إذن، واجلس بجوار أمك وأخبرها بأنه يجب عليها أن تتزوج من كان خير رجل، ومن يقدم لها أكبر عدد من الهدايا؛ حتى يمكنك أن تتمتع بكل ميراث آبائك في سلام، آكلا وشاربا، وحتى يمكنها هي أن تدير منزل رجل آخر.»
تيليماخوس لا يعارض زواج بينيلوبي ممن تحبه
عندئذ أجابه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «كلا، يا أجيلاوس، بحق زوس، وبحق محن أبي، الذي مات أو يتجول فيمكان ما بمنأى من إيثاكا، إنني لا أقف في طريق زواج أمي، بل آمرها بأن تتزوج أي رجل تحبه، وأقدم إلى جانب هذا هدايا تفوق الحصر، ولكني أخجل أن أطردها من الساحة ضد رغبتها وأضغط عليها بالقول. لا سمح الله أن يحدث مثل هذا الأمر.»
أثينا تضفي على المغازلين موجة من الضحك الشديد
هكذا تكلم تيليماخوس، وأثارت بالاس أثينا الضحك وسط المغازلين، وغشت على عقولهم، فراحوا يضحكون ملء أشداقهم بشفاه متباعدة، وتلطخ جميع اللحم الذي أكلوه بالدم،
7
واغرورقت عيونهم بالدموع وشرعت أرواحهم تولول. وعندئذ تكلم وسطهم ثيوكلومينوس
Theoclymenus
الشبيه بالإله، يقول: «تبا لكم، أيها الرجال التعساء، ما هذا الشر الذي تعانونه؟ فقد كفن الليل الداجي رءوسكم ووجوهكم وأرجلكم من تحتكم. وقد أشعل صوت النحيب، وسبحت خدودكم في الدموع، وتضرجت الحوائط وكتل السقف البديعة بالدماء. وملأت الأشباح المدخل، وعج القصر بالأشباح المسرعة بالهبوط إلى إيريبوس
Erebus
8
تحت جنح الظلام، واختفت الشمس من السماء وخيم الضباب الشرير فوق كل شيء.»
هكذا قال، غير أنهم جميعا سخروا منه مرحين، وتحدث وسطهم يوروماخوس بن بولوبوس، أولا، فقال: «ما أعظم جنون ذلك الغريب الذي جاء حديثا من بعيد! أسرعوا، أيها الفتيان، بحمله خارج الأبواب ليذهب في طريقه إلى مكان الاجتماع، طالما أنه لم يجد الأمر هنا أشبه بالليل.»
ثيوكلومينوس يتوجس شرا مقبلا
عندئذ أجابه ثيوكلومينوس الشبيه بالإله: «يا يوروماخوس لست آمرك بحال ما أن تعطيني من يهديني إلى الطريق؛ فليست عيناي وأذناي وقدماي وعقلي الكائن في صدري سقيمة التكوين بأية حال من الأحوال. سأنطلق بهذه خارج الأبواب؛ لأنني أرى شرا مقبلا عليكم لا يمكن لأي فرد من العشاق أن ينجو منه أو يتحاشاه، أي واحد منكم جميعا أيها الموجودون في منزل أوديسيوس الشبيه بالإله وتهينون الرجال، وتدبرون حماقة شريرة.»
العشاق يسخرون من تيليماخوس وهو لا يبالي
ما إن قال هذا حتى خرج من الساحات الفسيحة وقصد إلى بيرايوس
، استقبله بقلب رضي. أما سائر العشاق، فنظر بعضهم إلى البعض الآخر، وشرعوا يثيرون تيليماخوس بالسخرية من ضيوفه. فقال أحد الشبان المتبجحين: «أي تيليماخوس، ما من أحد أسوأ حظا في ضيوفه منك؛ إذ أراك تحتفظ بصعلوك قذر كهذا الرجل الموجود هنا، المتعطش باستمرار إلى الخبز والخمر، مع كونه لا يجيد أعمال السلم ولا أمور الحرب، بل هو عبء ثقيل على الأرض. ومثل ذلك الشخص الآخر الذي وقف يتنبأ أيضا. كلا، فلو أصغيت لي، لكان خيرا لك بكثير. دعنا نقذف بأولئك الغرباء على ظهر سفينة ذات مقاعد، ونرسل بهم إلى الصقليين، حيث تنال عنهم ثمنا مناسبا.»
هكذا تكلم المغازلون، غير أنه لم يأبه لكلامهم، بل أخذ يراقب أباه في صمت، في انتظار دائم إلى أن يمد يديه إلى العشاق العديمي الحياء.
بينيلوبي تنصت إلى العشاق وهم يولمون
أما بينيلوبي الحكيمة، ابنة إيكاريوس، فوضعت مقعدها الجميل قبالتهم، وأنصتت إلى كلام كل رجل في الساحة؛ إذ كانوا يولمون وسط المرح والضحك، وليمة لذيذة، تشبع شهوة القلب؛ لأنهم كانوا قد ذبحوا كثيرا من الحيوانات، بيد أنه لم تكن هناك وليمة أفخر من تلك التي سرعان ما ستقدمها أمامهم ربة ورجل قوي؛ إذ كانوا يقترفون أعمالا مخزية دون أن يثيرهم أحد.
الأنشودة الحادية والعشرون
بينيلوبي تحضر قوس أوديسيوس وتعلن شرط الزواج منها
هكذا أيضا ثبت أوديسيوس الوتر بدون عناء في القوس العظيمة.
وضعت الربة أثينا ذات العينين البراقتين، في قلب بينيلوبي الحكيمة، ابنة إيكاريوس، أن تأتي أمام العشاق في ساحات أوديسيوس بالقوس والحديد الرمادي، لتكون بمثابة مباراة وبداية للموت، فصعدت السلم العالي إلى مقصورتها، وأمسكت المفتاح المقوس بيدها القوية؛ المفتاح البرونزي القوي، وكانت له يد من العاج. وذهبت في طريقها مع خادماتها إلى حجرة الخزين، البعيدة جدا، حيث توجد كنوز سيدها، من البرونز والذهب والحديد، المشغولة بتعب، فوجدت هناك القوس المعقوفة الظهر وكنانة السهام. وكان بها سهام كثيرة، محملة بالآلام، وكانت هدايا من صديق قدمها لأوديسيوس عندما التقى به ذات يوم في لاكيدايمون، هو إيفيتوس
Iphitus ،
1
ابن يوروتوس
Eurytus ،
2
ذلك الرجل الشبيه بالخالدين. وكان كلاهما قد التقيا، كل منهما بالآخر في ميسيني
Messene
3
في منزل أورتيلوخوس
Ortilochus
الحكيم. وكان أوديسييوس قد ذهب حقيقة إلى هناك ليحصل دينا له عند كافة القوم؛ لأن أهل ميسيني كانوا قد حملوا من إيثاكا في سفنهم ذات المقاعد ثلثمائة خروف ومعها رعاتها، فرحل أوديسيوس في هذه الرحلة البعيدة ذات يوم طلبا لذلك الدين، ولم يكن وقتئذ إلا شابا فتيا، أرسله أبوه والشيوخ الآخرون إلى ذلك المكان القصي. أما إيفيتوس، فقد ذهب يبحث عن أفراسه الاثنتي عشرة الأصيلة التي فقدها، ومعها بغال قوية ترضع، ولكنها جلبت عليه الموت والهلاك بعد ذلك. عندما ذهب إلى ابن زوس القوي القلب، الرجل هرقل،
4
الذي كان ملما تمام الإلمام بأعمال الجرأة؛
5
لأن هرقل قتله، رغم أنه كان ضيفه، في بيته، بتهور، ولم يكترث لغضب الآلهة أو للمائدة التي بسطها أمامه، بل قتل الرجل بعد ذلك، واحتفظ لنفسه بالأفراس المتينة الحوافر في ساحاته. وكان في أثناء مطالبته بهذه أن التقى إيفيتوس بأوديسيوس، وأعطاه القوس التي اعتاد يوروتوس العظيم فيما مضى أن يحملها، ثم تركها عند موته لابنه في بيته الشاهق. أما أوديسيوس فأعطى إيفيتوس سيفا بتارا ورمحا قويا، كعربون للصداقة الحبيبة، ومع ذلك فلم يعرف أحدهما الآخر قط عند المائدة؛ فربما كان ابن زوس قد قتل إيفيتوس بن يوروتوس، قبل ذلك، وهو رجل أشبه بالخالدين، أعطى أوديسيوس القوس. وما كان أوديسيوس العظيم ليصحب معه تلك القوس إذا ما ذهب إلى الحرب، فوق السفن السوداء، بل يتركها في ساحاته بالمنزل كتذكار من صديق عزيز، وحملها إلى وطنه نفسه.
والآن عندما بلغت السيدة الحسناء حجرة الخزين، واجتازت العتبة البلوطية، التي سواها النجار قديما بمهارة وجعلها مستوية كالخط المستقيم - والتي ثبتت فوقها أيضا قوائم الباب، وركبت فيها أبواب مصقولة - أسرعت في الحال فأرخت سير المزلاج
6
بعد أن حلته من المقبض وأدخلت المفتاح، ودفعت المزاليج إلى الوراء بإحكام. وكما يخور الثور وهو يرعى في المرج، هكذا أيضا جأرت الأبواب البديعة، عندما ضربت بالمفتاح، وانفتحت أمامها بسرعة. بعد ذلك خطت السيدة فوق المصطبة، التي كانت فوقها الصناديق التي خزنت فيها الملابس الفضفاضة، ومدت يدها وتناولت القوس من هناك من فوق المشجب ومعها جرابها اللامع الذي كان يحيط بها. ثم جلست هناك ووضعت الجراب فوق ركبتيها وانتحبت عاليا، وهي تخرج قوس زوجها. وبعد أن نالت كفايتها من البكاء الدامع، عادت أدراجها إلى الساحة، إلى جماعة المغازلين الأمجاد، تحمل في يديها القوس المعقوفة الظهر والكنانة التي كانت تحفظ السهام، وكان بها سهام عديدة، محملة بالآلام. وإلى جوارها حملت الوصيفات صندوقا، كانت فيه كمية كبيرة من الحديد والبرونز، عدة سيدها الحربية. ولما وصلت الغادة الفاتنة الآن إلى المغازلين، وقفت بجوار قائم الباب بجانب الحائط القوي البنيان، تضع أمام وجهها خمارها البراق؛ ووقفت إلى كل جانب من جانبيها أمة وفية. وبعد ذلك تحدثت وسط المغازلين، قائلة: «أصغوا إلي، أيها المغازلون المتغطرسون، يا من استغللتم هذا المنزل لتأكلوا وتشربوا إلى الأبد بغير نهاية، منذ أن رحل عنه سيده من زمن بعيد، ولم تستطيعوا أن تجدوا ذريعة تحتجون بها، سوى رغبتكم في الزواج مني واتخاذي زوجة. هيا، تعالوا الآن، أيها المغازلون؛ إذ إن هذه ستكون جائزتكم.
7
سأضع أمامكم أكبر قوس لأوديسيوس المقدس، ومن أمكنه أن يشد وتر القوس بيديه بمنتهى السهولة، ويطلق سهما خلال اثنتي عشرة فأسا، ذهبت معه، وهجرت منزل حياتي الزوجية هذا، المنزل البالغ الجمال والحافل بالرزق، الذي، أعتقد، أنني سوف أذكره دائما ولو في أحلامي.»
أنتينوس يوبخ يومايوس ويشيد بالقوس
ما إن قالت هذا، حتى أمرت يومايوس، راعي الخنازير العظيم، بأن يضع أمام المغازلين القوس والحديد الرمادي. ولما انخرط في البكاء، أخذ يومايوس القوس والحديد ووضعها، وفي مكان آخر بكى الراعي، عندما أبصر قوس سيده، وعندئذ وبخهما أنتينوس، وخاطبهما، قائلا: «يا هذان الغبيان الأحمقان، اللذان لا تفكران إلا في أمور اليوم! أيها التعيسان، لم تذرفان الدموع الآن، وتزعجان روح السيدة الكائنة في صدرها، تلك التي يثقل الهم قلبها؛ إذ ترى أنها فقدت زوجها العزيز؟ كلا، اجلسا وأولما في صمت، أو اذهبا بعيدا وانتحبا هناك، واتركا القوس خلفكما هنا كمباراة حاسمة
8
للمغازلين؛ لأنه ليس بالأمر الهين، كما أعتقد، إمكان جذب وتر هذه القوس المصقولة؛ فما من رجل هنا بين كافة هؤلاء يشبه أوديسيوس، ولقد أبصرته بعيني رأسي؛ لأنني أتذكره، رغم أنني لم أكن وقتذاك إلا طفلا.»
هكذا تكلم، ولكن قلبه في صدره كان يأمل في أن يستطيع شد وتر القوس ويطلق سهما خلال الحديد، غير أنه مع ذلك كان أول من ذاق طعم سهم من يدي أوديسيوس المجيد، الذي كان وهو جالس وقتئذ في البهو لا يبجله، ويحمس سائر زملائه.
تيليماخوس يحاول جذب القوس ثم يتراجع
بعدئذ تكلم وسطهم تيليماخوس القوي العتيد، فقال: «ويحي الآن! لقد جعلني زوس بن كرونوس، عديم الذكاء حقيقة؛ فها هي ذي أمي العزيزة، بكل ما هي عليه من الحكمة، تعلن أنها ستتبع سيدا آخر، وتهجر هذا المنزل، ولكن بالرغم من ذلك أضحك، وأبتهج لغباوتي. هلموا، إذن، أيها المغازلون، طالما يبدو أن في هذا جائزتكم، سيدة، لا شبيه لها الآن في بلاد الآخيين، لا في بولوس
المقدسة، ولا في أرجوس
Argos ، ولا في موكيني
Mycene ،
9
ولا حتى في إيثاكا نفسها، ولا على ظهر اليابسة القاتمة. كلا، وإنكم أنفسكم تعرفون هذا - فما حاجة بي إذن لإطراء محاسن والدتي! هيا، تعالوا الآن، لا تحجموا عن هذا الأمر منتحلين الأعذار، ولا تحيدوا طويلا بعد الآن عن جذب القوس، لكي نرى النتيجة. نعم، وسأحاول أنا شخصيا شد تلك القوس. فلو جذبت وترها وأطلقت سهما خلال الحديد، فلن يغيظني إذن أن تهجر أمي المبجلة هذا المنزل وتذهب مع رجل آخر، طالما ستتركني هنا قادرا على استعمال عدة أبي الحربية العظيمة.»
بهذا ألقى العباية الأرجوانية عن ظهره، ووثب منتصبا، كما خلع سيفه الحاد عن كتفية، ثم بدأ بإقامة الفئوس، بعد أن حفر خندقا، خندقا واحدا طويلا لجميعها، وجعله في خط مستقيم، وشرع يدوس فوق التربة حولها. وتملكت الدهشة من سائر الذين شاهدوه؛ إذ وضعها في ترتيب رائع، رغم أنه لم يسبق أن رآها من قبل إطلاقا. بعد ذلك ابتعد ووقف عند العتبة، وبدأ يعجم عود القوس. ثلاث مرات جعلها ترتجف في شوقه إلى جذبها، وثلاث مرات يتخلى عن مجهوده، رغم أن قلبه كان يتحرق لهفة إلى جذب وتر القوس وإطلاق سهم خلال الحديد. وأخيرا كاد يشد الوتر بقوته؛ إذ إنه في المرة الرابعة اعتزم على أن يجذب الوتر. لولا أن أوديسيوس هز رأسه علامة على عدم الموافقة وإثنائه عما تحمس له. وبعد ذلك تحدث إليهم تيليماخوس القوي العتيد من جديد، فقال: «ويحي، ما أجبنني وأضعفني، حتى في أيامي المقبلة! أم ذلك لأنني لا بد صغير جدا، ولا ثقة لي في قوتي للدفاع عن نفسي ضد رجل، عندما يثير أحدهم الغضب بدون داع. هلموا، تعالوا الآن، يا من أنتم أقوى مني، حاولوا استعمال القوس، حتى ننهي المباراة.»
ما إن قال هذا حتى تخلى عن القوس ووضعها فوق الأرض، وأسندها إلى الباب المصقول، ذي المفصلات، وبالقرب منها أسند السهم السريع على طرف القوس الجميلة، ثم عاد فجلس على المقعد الذي كان قد نهض منه.
بعد ذلك تكلم أنتينوس بن يوبايثيس وسطهم. فقال: «فلننهض جميعا، واحدا واحدا، بالترتيب من اليسار إلى اليمين، بادئين من المكان الذي يصب فيه الخمر حامل الكأس.»
لايوديس يعجز عن شد القوس
هكذا قال أنتينوس، فسر الجميع من كلامه، فنهض أولا لايوديس
Leiodes ، ابن أوينوبس
Oenops ، الذي كان عرافهم، وكان يجلس دائما بجوار طاس مزج الخمر الجميل في أقصى مكان من الساحة، وكان هو وحده الذي يمقت أعمال الحماقة الطائشة، وكان يحتقر سائر المغازلين. لقد كان هذا أول من تناول القوس والسهم السريع وقتذاك، وذهب ووقف فوق العتبة، وأخذ يحاول بالقوس، بيد أنه لم يستطع تثبيت الوتر فيها؛ فربما أنهك التعب يديه قبل أن يشد الوتر، فتعبت تلك اليدان الرقيقتان اللتان لم تتعبا قط، وعندئذ تكلم وسط المغازلين قائلا: «أيها الأصدقاء، لست أنا بالشخص الذي يستطيع تثبيت الوتر؛ فليتناول القوس رجل آخر، فستسلب هذه القوس أمراء كثيرين أرواحهم وحياتهم؛ إذ من الأفضل حقا أن يموت المرء، بدلا من أن يحيا ويفشل في ذلك الذي من أجله نحتشد نحن هنا، منتظرين تحدونا الآمال يوما بعد يوم. والآن، يأمل كثير من الرجال في قلوبهم ويتحرقون شوقا إلى الزواج من بينيلوبي، زوجة أوديسيوس، غير أنه ما إن يحاول عجم عود هذه القوس، ويرى النتيجة، حتى يفضل أن يغازل سيدة أخرى من نساء الآخيين ذوات الثياب الجميلة، باعثا إليها بهداياه لكي يفوز بها. وبعد ذلك تتزوج بينيلوبي من ذلك الرجل الذي يقدم لها هدايا أكثر من غيره، ذلك الذي سيحدده القدر سيدا لها.»
أنتينوس يسخر من لايوديس
هكذا تكلم، وتخلى عن القوس، وأسندها إلى الباب اللامع ذي المفصلات، وإلى جوارها أسند السهم السريع على طرف القوس الجميلة، ثم ذهب بعد ذلك وجلس على المقعد الذي نهض منه. غير أن أنتينوس أنبه، وخاطبه بقوله: «أي لايوديس، ما هذه العبارة التي أفلتت من بين صفي أسنانك، عبارة مفزعة ومحزنة. لقد أثارت الغضب في نفسي إذ سمعتها، إذا كانت هذه القوس سوف تسلب الأمراء أرواحهم وحياتهم حقا؛ لأنك لم تستطع تثبيت الوتر فيها؛ وعلى ذلك، اسمح لي أن أقول لك إن أمك المبجلة لم تنجبك بالقوة التي تؤهلك لجذب القوس وإطلاق السهام، أما غيرك من المغازلين الأمجاد فسرعان ما سيثبتون الوتر فيها.»
ميلانثيوس يعالج القوس بالنار والدهن
هكذا تكلم، واستدعى إليه ميلانثيوس، راعي الخنازير، وقال له: «هيا، أشعل الآن نارا في الساحة يا ميلانثيوس، وضع بجوارها مقعدا ضخما فوقه فروة من الصوف، وأحضر بسرعة كتلة كبيرة من الدهن حتى يمكننا نحن الشبان أن ندفئ القوس، ونطليها بالدهن، وبذلك نجرب عجم عودها؛ وننهي المباراة.»
ما إن قال هذا، حتى أسرع ميلانثيوس في الحال فأشعل النار التي لا تكل ولا تمل، وأحضرها ووضع بجانبها مقعدا كبيرا فوقه فروة من الصوف، كما أحضر كتلة كبيرة من الدهن كانت بالداخل. فأدفأ بها الشبان القوس وجربوها، بيد أنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا فيها الوتر؛ إذ كانت تعوزهم القوة أيما إعواز.
الغريب يطلب من الراعيين تحديد موقفهما من أوديسيوس
كان أنتينوس لا يزال مصرا وكذلك يوروماخوس الشبيه بالإله، اللذان كانا زعيمي المغازلين، وكانا أعظمهم جميعا في الجرأة؛ وعند ذلك خرج كل من الراعي وراعي خنازير أوديسيوس المقدس من الساحة؛ خرجا فخرج وراءهما أوديسيوس نفسه من المنزل، فلما صاروا بعيدا عن الأبواب والساحة، تحدث إليهما، وخاطبهما بكلمات رقيقة، قائلا: «أيها الراعي، وكذلك أنت يا راعي الخنازير، أتسمحان لي بأن أقول لكما شيئا أم أحتفظ به في قرارة نفسي؟ كلا، إن روحي تأمرني بأن أفضي به «أي نوع من الرجال ستكونان في الدفاع عن أوديسيوس، إذا جاء فجأة من مكان ما، وأعاده أحد الآلهة؟ هل تقدمان المعونة للمغازلين أم تهبان لنصرة أوديسيوس؟ تكلما صراحة كما يأمركما قلباكما وروحاكما».»
عندئذ أجابه راعي الماشية، وقال: «أبتاه زوس، ليتك تحقق هذه الأمنية! لتكن مشيئتك أن يعود ذلك الرجل، وأن يرشده إلى طريقه رب ما؛ عندئذ ستعرف أي لون من القوة أمتلكها، وكيف تطيعني يداي.»
وكذلك تضرع يومايوس إلى جميع الآلهة أن يعود أوديسيوس الحكيم إلى بيته.
الغريب يكشف للراعيين حقيقة شخصيته
فلما وثق تماما وتأكد من وفاء هذين، أجابهما وتكلم إليهما ثانية، بقوله: «ها أنا ذا الآن أمامكما حقا في بيتي، أنا بنفسي. بعد مشاق عديدة محزنة قد جئت في العام العشرين إلى وطني. وإني لعلى يقين من أنكما وحدكما، دون سائر عبيدي، مشتاقان إلى عودتي، أما الآخرون، فلم أسمع من أي واحد منهم صلاة بأن أعود ثانية إلى منزلي؛ وعلى ذلك سأقول لكما الحقيقة كما ستكون. إذا أخضع الرب لي المغازلين الأمجاد، أحضرت لكل واحد منكما زوجة وأعطيتكما ممتلكات ومنزلا مبنيا بالقرب من منزلي، وبعد ذلك ستكونان كلاكما في عيني صديقي وأخوي تيليماخوس. ولزيادة التأكد من صدق قولي، سأريكما أيضا علامة لا تخطئ كي تعرفاني جيدا وتتأكدا في قلبيكما، أثر الجرح الذي أصابني به منذ زمن بعيد خنزير بري بنابه الأبيض، عندما صعدت إلى بارناسوس مع أبناء أوتولوكوس.»
الراعيان يرحبان بأوديسيوس بالأحضان والقبلات
ما إن قال هذا حتى أزاح الأسمال البالية عن أثر الجرح الكبير، فلما رآه كلاهما، وأبصرا كل شيء تماما، طوقا أوديسيوس الحكيم بسواعدهما، وبكيا، وقبلا رأسه وكتفيه في ترحيب محبب. وكذلك قبل أوديسيوس رأسيهما وأيديهما. والآن كاد ضوء الشمس يغيب وهما لا يزالان يبكيان، لولا أن أوديسيوس نفسه، نهرهما بقوله: «كفا الآن عن البكاء والعويل، خشية أن يخرج أحد ما من الساحة ويرانا، فيطلع على جلية الأمر أيضا، فادخلا إلى المنزل واحدا بعد آخر، ولا تدخلا معا، أنا أولا، ثم أنتما من بعدي، ولتكن هذه علامة بيننا. أما جميع الباقين، بقدر ما هنالك من المغازلين الأمجاد، فلن يتحملوا عبء القوس ورعدتها إذا ما أعطيت لي، ولكن هل لك، يا يومايوس العظيم، أن تحمل القوس عبر الساحات، وتضعها في يدي، وتأمر النساء بأن يغلقن أبواب ساحتهن المحكمة الإغلاق. وإذا سمعت أية واحدة منهن أنين الرجال أو صخبهم داخل حوائطنا، فلا تخرج أية واحدة إلى الخارج، بل يبقين حيث هن في صمت منكبات على أعمالهن. أما أنت يا فيلويتيوس، فأضع على كاهلك أن تغلق باب الساحة بمزلاج، وتسرع بربطه بحبل.»
ما إن قال هذا حتى دخل البيت المنيف، وذهب وجلس فوق المقعد الذي كان قد نهض من فوقه، ثم دخل بعد ذلك عبدا أوديسيوس المقدس أيضا.
يوروماخوس يفشل أيضا في شد القوس
كان يوروماخوس وقتئذ ممسكا بالقوس في يده، ويسخنها فوق لهب النار على هذا الجانب وذاك، بيد أنه بالرغم من ذلك لم يستطع تثبيت الوتر فيها، فتأوه في قلبه النبيل، وفي سورة غضبه، خاطبهم قائلا: «تبا لي! الحق أنني حزين على نفسي وعليكم جميعا. لا أبكي هكذا بشدة من أجل الزواج بأية حال من الأحوال، رغم اكتئابي؛ لأن هناك سيدات أخريات عديدات من الآخيات ، بعضهن في إيثاكا نفسها التي يحيط بها البحر، وبعضهن الآخر في مدن أخرى، وإنما يبكيني أننا حقا أقل قوة من أوديسيوس الشبيه بالإله؛ إذ أرى أنه لن يكون بمقدورنا أن نثبت الوتر في القوس. هذا تعنيف لأولئك الرجال الذين ما زلنا سنسمع عنهم.»
أنتينوس يهون الامر على يوروماخوس ويرجئ شد القوس إلى الغد
بعدئذ أجابه أنتينوس بن يوبايثيس، قائلا: «لن يكون الأمر هكذا، يا يوروماخوس، وإنك لتعرف هذا من تلقاء نفسك أيضا؛ فاليوم عيد الرب
10
في شتى أنحاء البلاد، وهو عيد مقدس. إذن فمن يستطيع أن يحني قوسا؟ كلا، ضعها جانبا في هدوء؛ أما الفئوس، فماذا لو تركناها جميعا في مكانها كما هي؟ فما من أحد، كما أعتقد، سيأتي إلى ساحة أوديسيوس بن لايرتيس، ويحملها من مكانها. كلا، تعال، دع حامل الطاس يصب نقطا كسكيبة في الكئوس، حتى يكون في مقدورنا أن نصب السكائب، أما القوس المعقوفة فضعها جانبا. وإذا ما أصبح الصباح فمر ملانثيوس، راعي المعيز، أن يحضر من العنزات، خير ما في جميع القطعان، كي نستطيع أن نضع قطع الفخاذ فوق مذبح أبولو، القواس المشهور، ثم بعد ذلك نعجم عود تلك القوس، وننهي المباراة ...»
هكذا قال أنتينوس، وأدخلت كلمته السرور عليهم. وبعد ذلك صب الخدم الماء على أيديهم، وملأ الشبان الطاسات حتى حافاتها، وقدموا الشراب للجميع، فصبوا أولا بعض نقط في الكئوس لأجل السكيبة. وبعد أن سكبوا السكائب، وشربوا ما شاء لقلوبهم أن تشرب، تكلم أوديسيوس الواسع الحيلة، وسطهم بضمير خبيث، فقال: «أصغوا إلي، يا مغازلي الملكة المجيدة، كي أقول ما يوحيه إلى القلب الكائن في صدري. إنني أتوسل إلى يوروماخوس أكثر من الجميع، وإلى أنتينوس الشبيه بالإله؛ إذ إن تلك الكلمة التي التي قالها لهي عين الصواب، أعني أنكم تكفون الآن عن محاولة عجم عود القوس، ونترك النتيجة مع الآلهة، وفي الصباح يعطي الرب النصر لمن يشاء، ولكن هيا، أعطوني القوس المصقولة، كي أستطيع اختيار يدي وقوتي وسطكم، لأعرف ما إذا كانت قوتي السابقة لم تزل في أطرافي الغضة، أم قد حطمها الآن، تجوالي وافتقاري إلى الطعام.»
أنتينوس ينهر الغريب بكلام شديد القسوة
ما إن قال هذا، حتى استشاطوا جميعا بالغيظ البالغ، خشية أن يكون في مكنته تثبيت الوتر في القوس المصقول. ونهره أنتينوس، بقوله: «ويحك، أيها الغريب الحقير؛ فليس عندك ذرة واحدة من الذكاء. ألست قانعا بأن تولم في جمعنا المتغطرس دون أن يزعجك أحد، ولا تفتقر إلى شيء من الوليمة، وتسمع كلامنا وحديثنا، بينما لا يحظى بسماعه أي غريب أو شحاذ آخر؟ إنها الخمر التي تلعب بك، الخمر التي في حلاوة العسل، التي تسيء إلى الآخرين أيضا، إذا ما احتسى المرء منها جرعات كبيرة، ويشرب أكثر من القدر اللازم. إنها الخمر كذلك التي جعلت القنطور، يوروتيون
Eurytion
11
المجيد، أحمق، في ساحة بايريثوس
12
العظيم القلب، عندما ذهب إلى لابيثاي
Lapithae ،
13
فلما لعبت الخمر بقلبه، اقترف شرا في جنونه بمنزل بايريثوس. بعد ذلك غضب الأبطال، فقفزوا وأخرجوه بعيدا من البوابة، بعد أن قطعوا أذنيه وجدعوا منخاريه بالبرونز العديم الرحمة، وبعد أن سخر منه، ذهب في طريقه، يحمل معه لعنة إثمه بسبب حماقة قلبه؛ لذلك نشب العراك بين القنطاور والبشر، ولكنه أنزل الشر بنفسه أولا؛ إذ كان مثقلا بالخمر. هكذا أيضا أحذرك من أذى بالغ يصيبك، إذا استطعت تركيب الوتر في القوس؛ إذ عندئذ ستلتقي بيدي أي واحد في بلادنا بغير رحمة، ونرسلك فورا في سفينة سوداء إلى الملك إيخيتوس
Echetus ، الذي يشوه كافة البشر، ذلك الذي لن تفلت من بين يديه حيا بأية حال من الأحوال. كلا، إذن، فلتلزم السكون، ولتشرب خمرك، ولا تصارع رجالا يصغرونك سنا.»
بينيلوبي لا تمانع في أن يجرب الغريب حظه
عندئذ قالت بينيلوبي الحكيمة: «يا أنتينوس، ليس من الجميل ولا من العدل أن تسلب ضيوف تيليماخوس حقوقهم، مهما كان ذلك الذي يأتي إلى هذا البيت. ألا تعتقد أنه إذا استطاع هذا الغريب أن يثبت الوتر في قوس أوديسيوس العظيم، قادني إلى بيته واتخذني زوجته؟ كلا، إنه شخصيا، كما أعتقد، لا يفكر في هذا الأمل في صدره؛ وعلى هذا الاعتبار، لا يجلسن أحدكم هنا حزينا في قلبه على مائدة الطعام ؛ فحقا، إن ذلك لا يليق إطلاقا.»
فأجابها يوروماخوس بن بولوبوس، بقوله: «يا ابنة إيكاريوس، بينيلوبي الحكيمة، ليس هذا لأننا نعتقد أن الرجل سيقودك إلى بيته - فإن هذا لا يليق حقا - بل لأننا نخشى أقاويل الرجال والنساء، لئلا يقول شخص وضيع ما فيما بعد وسط الآخيين: «لا شك أنهم رجال في غاية الضعف، أولئك الذين يغازلون زوجة الرجل النبيل، ولا يستطيعون أن يثبتوا الوتر في قوسه المصقولة، ولكن شحاذا آخر، جاء متجولا، أمكنه أن يركب الوتر في القوس؛ وأحكم الإصابة وسط الحديد.» هكذا سيقول الناس، ويكون لنا توبيخا.»
بينيلوبي تعد الغريب بمكافأة لو نجح
فردت عليه بينيلوبي الحكيمة ثانية، فقالت: «يا بوروماخوس، لا يمكن أن يحظى من يستهلكون أموال أمير ولا يحترمون منزله بسمعة طيبة في البلاد، فلماذا، إذن تجعل من هذا الأمر
14
توبيخا؟ إن هذا الغريب فارع الطول وقوي البنية، ويقول عن نفسه إنه أنجب ابنا لأب عظيم. كلا، هيا، أعطه القوس المصقولة لنرى؛ لأنني أقول لك بصراحة، ولا بد أن أنفذ كلمتي، إذا أمكنه تثبيت الوتر في القوس، ومنحه أبولو المجد، فسأكسوه عباءة وجلبابا، من الثياب الجميلة، وأعطيه مزرافا حادا يبعد به الكلاب والناس، وسيفا ذا حدين، وأهبه صندلا يلبسه في قدميه، وأبعث به إلى أي مكان يأمر قلبه وروحه أن يذهب إليه.»
تيليماخوس يعلن أنه وحده السيد الموقف
عندئذ خاطبها تيليماخوس الحكيم، قائلا: «أماه، أما القوس، فلا أحد من الآخيين له الحق في التحكم فيها أكثر مني؛ فأنا الذي أعطيها أو أحرمها من أشاء - كلا، ولا أي فرد ممن يسيطرون على إيثاكا الصخرية، أو على الجزر تجاه إليس
Elis
مرعى الخيول. لا أحد من بين هؤلاء يستطيع أن يمنعني من تنفيذ إرادتي ضد رغبتي، حتى ولو رغبت في أن أعطي هذه القوس في الحال للغريب ليأخذها معه، فهل لك أن تذهبي إلى مقصورتك، وتشغلي نفسك بأعمالك الخاصة، المنوال والفرناس، وتأمري وصيفاتك بأن ينهمكن في أعمالهن ؟ فستكون القوس للرجال جميعا، ولكن قبل أي فرد ستكون لي؛ إذ إن لي السيادة في هذا المنزل.»
عجبت بينيلوبي من كلام ابنها، فقفلت راجعة إلى مقصورتها؛ لأنها وضعت في قلبها كلام ابنها الحكيم، فصعدت إلى مقصورتها العليا مع وصيفاتها، وبعد ذلك أخذت تبكي أوديسيوس، زوجها العزيز، إلى أن ألقت أثينا ذات العينين النجلاوين النوم اللذيذ فوق جفنيها.
راعي الخنازير يحمل القوس إلى الغريب
والآن كان راعي الخنازير العظيم قد تناول القوس المعقوفة وحملها، بيد أن كافة المغازلين صاحوا في الساحات، فتحدث إليه أحد الشبان المتعجرفين، وخاطبه بقوله: «إلى أين بربك، تحمل القوس المعقوفة، يا راعي الخنازير الحقير، أيها الرجل الشارد الفكر؟ سرعان ما ستبتلعك الكلاب - وأنت بمفردك وبعيدا عن الناس - الكلاب التي ربيتها أنت نفسك، إذا كان أبولو كريما معنا، وكذا الآلهة الآخرون الخالدون.»
هكذا كانوا يتكلمون، فوضع الراعي القوس، وهو يحملها، في نفس ذلك المكان الذي رفعها منه، وقد تملكه الذعر لأن رجالا عديدين كانوا يصيحون عاليا في الساحات. بيد أن تيليماخوس صاح من الجانب الآخر يهدده، فقال: «احمل القوس، يا أبتاه - سرعان ما سوف تندم إذا ما اهتممت بصياح هذا الجمع - خشية، أن أجرك إلى الحقل، ولو أنني أصغر منك، وأرجمك بالحجارة؛ لأنني أفوقك قوة. وكم كنت أتمنى أن أتفوق في القوة وشدة البأس على جميع هؤلاء المغازلين الموجودين بمنزلنا! إذن لأمكنني أن أطرد الكثيرين بسرعة من منزلنا ليذهبوا إلى حال سبيلهم في حالة يرثى لها؛ لأنهم يدبرون الشرور.»
ما إن أتم حديثه ذاك، حتى ضحك جميع المغازلين وسخروا منه مرحين، وهكذا خففوا من حدة غضبهم ضد تيليماخوس. ومع كل فقد حمل راعي الخنازير القوس عبر الساحة، وتوجه إلى أوديسيوس الحكيم، ووضعها بين يديه. بعد ذلك استدعى الراعي المربية يوروكليا، وقال لها: «إن تيليماخوس يأمرك، أيتها القافلة يوروكليا، أن تقفلي أبواب الساحة المحكمة الإغلاق، وإذا سمعت أي واحدة من النساء في الداخل تأوهات أو ضجيج الرجال داخل ساحاتنا، فلا تسمحي لهن بالانطلاق إلى الخارج مسرعات، بل يجب أن يبقين حيث هن في سكون منهمكات في أعمالهن.»
هكذا قال لها، بيد أنها لم تنطق بكلمة واحدة، وأقفلت أبواب الساحات الرائعة.
قوة الغريب ومهارته تثيران دهشة المغازلين
أما فيلويتيوس فانطلق في سكون خارج المنزل، وأسرع بإغلاق بوابات الفناء المسور جيدا. وكان هناك وقتئذ أسفل الرواق قاع سفينة مقوس، مصنوع من الخشب الفينيقي، فأحكم به إغلاق البوابات، ثم ذهب هو نفسه بعد ذلك إلى الداخل. وجلس فوق المقعد الذي كان قد نهض منه، وثبت بصره على أوديسيوس، وكان وقتئذ يحمل القوس في يديه، يقلبها في يديه إلى هذا الجانب وذاك ويعجم عودها في هذا الاتجاه وذلك، خشية أن تكون الديدان قد أصابت أطرافها، إبان غياب سيدها؛ وعلى ذلك كان كل واحد من المغازلين ينظر إليه ويتحدث إلى جاره قائلا: «حقا، إن له عينا فاحصة، كما أنه وغد مكار ذلك الذي يمسك القوس. ربما كان لديه أمثال هذه الأقواس محفوظة هناك في بيته، أو ربما كان يزمع أن يصنع واحدة؛ إذ أراه يقلبها هكذا في هذا الاتجاه وفي ذاك بين يديه، ذلك المتسول ذو الأسمال البالية.»
كذلك كان يقول شاب آخر من الشبان المتغطرسين: «ليت هذا الرجل يجد فائدة في مثل هذا الإجراء، فيبرهن على مقدرته في تركيب الوتر بهذه القوس.»
المغازلون في فزع بينما أوديسيوس وولده في فرح
هكذا كان يقول المغازلون، بيد أن أوديسيوس الواسع الحيلة، ما إن رفع القوس الضخمة ووزنها من كل جانب - شأنه شأن الرجل البالغ المهارة في العزف على القيثارة والغناء عندما يشد الوتر بسهولة حول مفتاح جديد ويثبت كلا من طرفي وتر أمعاء الخراف المبروم - هكذا أيضا ثبت أوديسيوس الوتر بدون عناء في القوس العظيمة، ثم رفعه في يده اليمنى، وعجم عود الوتر، الذي أصدر نغمة عذبة عندما لمسه، كما لو كان عصفور الجنة يغرد. أما المغازلون فاكتأبوا اكتئابا بالغا، وامتقعت وجوههم، وأرعد زوس عاليا، معلنا دلائله. وعندئذ ابتهج قلب أوديسيوس العظيم، الكثير التحمل، من أن ابن كرونوس ذا المشورة الملتوية قد أرسل إليه فألا ، فالتقط سهما سريعا، كان موضوعا عاريا إلى جواره فوق المائدة، بينما كانت السهام الأخرى مكدسة بداخل الكنانة الواسعة، تلك السهام التي كان على الآخيين أن يتذوقوا طعمها سريعا، فتناول أوديسيوس هذا السهم، ووضعه في سرة القوس، ومن فوق الكرسي الذي كان يجلس عليه جذب وتر القوس والسهم المشحوذ، وترك السهم يطير بإصابة محكمة، ولم يخطئ طرف يد واحدة من أيدي الفئوس، بل انطلق السهم داخلها وخرج من النهاية الأخرى محملا بالبرونز، ثم تحدث إلى تيليماخوس، قائلا: «أي تيليماخوس، إن الغريب الجالس في ساحاتك لا يجلب عليك العار، ولم أخطئ الهدف بأية حال، ولم أبذل جهدا طويلا في تثبيت الوتر في القوس؛ وما زالت قوتي سليمة - وليست كما يسخر مني المغازلون. أما الآن فقد آن أوان إعداد العشاء للآخيين، بينما لا يزال النور موجودا، وبعد ذلك يجب أن تقام مباراة أخرى بالغناء والقيثارة؛ لأن مثل هذه الأشياء مما يصاحب الوليمة.»
قال هذا، وأشار بحاجبيه، فإذا بتيليماخوس، الابن العزيز لأوديسيوس المقدس، يتمنطق بسيفه البتار، ويمسك برمحه في قبضته، ويسرع بالوقوف إلى جوار الكرسي بجانب أبيه، مسلحا بالبرونز البراق.
الأنشودة الثانية والعشرون
أوديسيوس يبث الذعر وسط المغازلين
خلع أوديسيوس الكثير الحيل عنه أسماله البالية وقفز إلى عتبة الباب العظيمة ومعه القوس والجعبة مملوءة بالسهام، ونثر السهام السريعة أمام أقدامه تماما وتحدث وسط المغازلين، قائلا: «يا للعجب! لقد انتهت هذه المباراة الحاسمة أخيرا. والآن، سأجرب لأعرف
1
ما إذا كنت أستطيع إصابة هدف آخر، لم يعتوره أي رجل آخر من قبل، ولتمنحني المجد يا أبولو.»
قذف أوديسيوس، الحكيم الداهية، وجماعته رماحهم الحادة.
قال هذا وسدد سهما مريرا نحو أنتينوس. وكان هذا الآن على وشك أن يرفع إلى شفتيه كأسا بديعة، كأسا من الذهب ذات مقبضين، وكان يحملها وقتئذ في يده، لكي يحتسي الخمر، ولم يكن الردى يطرأ على مخيلته، فمن من أولئك الرجال الذين كانوا جالسين يتناولون اللحم، كان يتصور أن رجلا واحدا وسط كثيرين، مهما أوتي من القوة، يمكن أن يجلب على نفسه الموت الشرير والحتف الأسود؟ ولكن أوديسيوس سدد إصابته، وضربه بسهم في حلقه، وإذا بطرف السهم ينفذ خلال العنق الرقيق تماما، فترنح إلى جانب، وسقطت الكأس من يده عندما أصابه السهم. وفي الحالة تصاعدت إلى منخريه كتل سميكة من الدم البشري، ولتوه أبعد المائدة عنه بركلة من قدمه، فانتثر كل الطعام فوق الأرض، وتلطخ الخبز واللحم المشوي. بعد ذلك دب الهرج والمرج بين المغازلين في شتى أنحاء الساحات، وأبصروا الرجل مجندلا، فوثبوا من فوق مقاعدهم العالية، يهرولون في الساحة مرتاعين ملتاعين، يحملقون في كل مكان بطول الحوائط المكينة البنيان. بيد أنه لم يكن هناك في أي مكان أي درع أو رمح قوي يمكنهم أن يتسلحوا به، ولكنهم أمطروا أوديسيوس سيلا من الشتائم،
2
قائلين: «أيها الغريب، إلى حتفك تسعى بالتصويب نحو الرجال؛ فلن تشترك قط ثانية في مباريات أخرى؛ فها هو ذا هلاكك الشامل يتحقق الآن. نعم، لأنك قتلت الآن رجلا يفوق كثيرا سائر الشباب في إيثاكا؛ وعلى ذلك فسوف تنهش جوارح الطير جسمك هنا.»
أوديسيوس يتوعد المغازلين بالموت الزؤام
هكذا قال
3
كل رجل؛ لأنه خيل إليهم أنه حقا لم يقتل الرجل متعمدا، وفي حماقتهم، لم يدركوا أن حبال الهلاك قد ثبتت بإحكام عليهم هم أنفسهم جميعا. بعدئذ قطب أوديسيوس الكثير الحيل حاجبيه وبنظرة غاضبة رد عليهم، بقوله: «أيها الكلاب، لقد حسبتم أنني لن أعود أبدا من بلاد طروادة إلى منزلي؛ لأنني أراكم قد خربتم بيتي، واضطجعتم مع الوصيفات عنوة، وبينما أنا ما زلت على قيد الحياة، رحتم تغازلون زوجتي خلسة، دون خوف من الآلهة الذين يحتلون السماء الفسيحة، أو احترام للبشر، الآتين إلى هنا من بعد. والآن، قد ثبتت عليكم جميعا حبال الهلاك.»
يوروماخوس يستدر عطف أوديسيوس
ما إن قال هذا، حتى استولى
4
عليهم جميعا الخوف الشاحب، فأخذ كل رجل يتطلع حواليه عله يجد مهربا من الهلاك الشامل، ولكن يوروماخوس وحده رد عليه، قائلا: «إذا كنت أنت أوديسيوس إيثاكا حقيقة، وقد عدت إلى منزلك ثانية، إذن فهذا الذي تقوله هو عين كافة ما فعله الآخيون - كثيرا من أعمال الحماقة الطائشة في ساحاتك وكثيرا منها في حقولك . بيد أن الملوم على كل هذا، يرقد الآن ميتا، إنه أنتينوس؛ فهو الذي تسبب في هذه الأعمال، لا بدافع الرغبة في الزواج أو الحاجة إليه، بل لغرض آخر كان يسعى إليه، ولم يحققه له ابن كرونوس؛ ذلك أنه كان يريد أن ينصب نفسه ملكا على أرض إيثاكا الآهلة بالسكان، وكان يرغب في أن يكمن لابنك ويقتله، فها هو ذا الآن ملقى صريعا، جزاء وفاقا، ولكن هل لك أن تبقي على الآخرين الذين هم أتباعك؟ وبعد ذلك سنطوف البلاد ونأتي لك بتعويض مقابل جميع ما شرب وأكل في ساحاتك، ويحضر لك كل رجل تعويضا يوازي قيمة عشرين ثورا، ويسدد لك بالبرونز والذهب إلى أن يرضى قلبك، ولكن حتى هذا الحين لا يمكن لأي فرد أن يلومك على غضبك.»
أوديسيوس يتوعد المغازلين جميعا بالموت
عندئذ نظر إليه أوديسيوس الواسع الحيلة نظرة غضب من أسفل حاجبيه، وقال له: «كلا، يا يوروماخوس، حتى ولو أعطيتني كافة ما ترك لك آباؤك، تعويضا لي، جميع ما تمتلكه الآن، وتضيف إليه ثروة أخرى من أي مكان تستطيع الحصول عليها منه، ولا حتى هكذا يمكنني أن أكف يدي عن القتل إلى أن يدفع المغازلون ثمن جميع اعتداءاتهم كاملا. وليس أمامكم الآن إلا أن تقاتلوا في قتال سافر، أو تولوا الأدبار هاربين، إذا استطاع أي رجل أن يتحاشى المنية والحتوف، غير أن كثيرين، حسبما أعتقد، لن يهربوا من الهلاك الشامل.»
يوروماخوس يناشد المغازلين مهاجمة أوديسيوس
هكذا تكلم، وإذا بركبهم ترتخي حيث كانوا واقفين، وذابت قلوبهم؛ وتحدث يوروماخوس في وسطهم من جديد مرة أخرى، فقال: «أصدقائي، بما أنكم ترون أن هذا الرجل لن يكف يديه اللتين لا يمكن قهرهما، وبما أنه يمسك الآن بالقوس المصقولة وجعبة السهام، فإنه سيظل يطلق من العتبة الناعمة إلى أن يصرعنا جميعا، هلموا بنا، نفكر في النزال. استلوا سيوفكم، وضعوا الموائد أمامكم وقاية لكم من السهام التي تجلب الموت السريع، ولننقض عليه جميعا كتلة واحدة، عسى أن نستطيع زحزحته من العتبة والبوابة، فينطلق خلال المدينة ، وبذا يزول الخطر بسرعة. وهكذا يكون هذا الرجل قد أطلق سريعا آخر طلقة له.»
يوروماخوس يلقى حتفه
ما إن قال هذا حتى استل سيفه الحاد المصنوع من البرونز، السيف ذا الحدين، وقفز نحو أوديسيوس بصيحة مفزعة، وفي نفس ذلك الوقت كان أوديسيوس العظيم قد أطلق في الفضاء سهما، فأصابه في صدره بجانب حلمة ثديه، وثبت النصل السريع في كبده، فترك يوروماخوس السيف يسقط من يده على الأرض، وإذ انحنى فوق المائدة مال وسقط، وأوقع على الأرض الطعام والكأس ذات المقبضين، ثم راح يضرب الأرض بحاجبه من فرط عذاب روحه، وصار يرفس بكلتا قدميه ويهز المقاعد، ثم إذا بغمامة من الضباب تغشى عينيه.
تيليماخوس يقتل أمفينوموس
بعد ذلك انقض أمفينوموس على أوديسيوس المجيد، بسرعة، شاهرا سيفه الحاد، أملا في أن يخرج أوديسيوس أمامه من الباب، ولكن تيليماخوس كان أسرع منه؛ إذ عاجله بضربة من الخلف برمحه البرونزي الطرف فيما بين كتفيه، ودفعه خلال صدره، فسقط بهدة، وضرب الأرض بعرض جبينه. أما تيليماخوس فقفز إلى الوراء، تاركا الرمح الطويل حيث هو، في ظهر أمفينوموس؛ لأنه كان يخشى إذا حاول سحب الرمح الطويل، أن يهجم عليه أحد الآخيين، ويطعنه بسيفه، أو يسدد نحوه ضربة وهو ينحني على الجثة؛ ومن ثم، جرى بسرعة نحو أبيه العزيز، وما إن وقف إلى جانبه حتى خاطبة بكلمات حماسية
5
قائلا: «سأحضر لك، يا أبتاه، ترسا ورمحين وخوذة من البرونز الخالص، تثبت جيدا بالجبين، وبعد أن أعود ثانية أسلح نفسي، كما أنني سأعطي عدة حربية كذلك لراعي الخنازير ولذلك الراعي؛ لأنه من الخير لنا أن نلبس العدد الحربية.»
تيليماخوس يحضر ترسا ورمحا لأوديسيوس
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «أسرع، وأحضرها، بينما لا يزال عندي رماح أذود بها عن نفسي، خشية أن يدفعوني من الباب، وأنا هكذا وحدي.»
ما إن قال هذا، حتى صدع تليمياخوس بأمر أبيه العزيز، وانطلق في طريقه إلى حجرة الخزين حيث كانت الأسلحة المجيدة مخزونة، فتناول من هناك أربعة تروس وثمانية رماح وأربع خوذات من البرونز، ذات رياش سميكة من شعر الخيول، وحملها، وبسرعة هرع إلى أبيه العزيز. وعندئذ تمنطق هو أولا بالبرونز حول جسده، وكذلك لبس العبدان حلتين حربيتين جميلتين ثم وقفا على جانبي أوديسيوس، ذلك الرجل الحكيم الداهية.
المغازلون يتساقطون أمام سهام أوديسيوس
أما هو، فطالما كانت لديه سهام يدافع بها عن نفسه؛ فقد استمر يطلق، ويجندل المغازلين واحدا بعد آخر في منزله، وراحوا يسقطون بكثرة وبسرعة. حتى إذا ما نفدت السهام من الأمير، وهو يطلق، أسند القوس إلى قائم باب الساحة المكينة البنيان وتركها مستندة إلى حائط المدخل المتألق. أما هو شخصيا، فقد وضع حول كتفيه درعا ذات أربع طبقات، ولبس فوق رأسه العتيد خوذة مكينة الصنع ذات ريشة من شعر الخيل، كانت تهتز بشدة فوق رأسه، كما تناول رمحين متينين، مدببين بالبرونز.
المغازلون في حيرة من أمرهم
ولما كان هناك في الحائط القوي البنيان باب سري
6
معين مرتفع، وكان في أعلى منسوب عتبة الساحة المكينة البنيان طريق يؤدي إلى ممر، وكانت تغلقه أبواب محكمة الإقفال، فقد أمر أوديسيوس راعي الخنازير العظيم بمراقبة هذا الباب الخلفي، متخذا وقفته إلى جواره؛ لأنه كان هناك طريق واحد للوصول إليه؛ عندئذ تكلم أجيلاوس وسط المغازلين. وأعلن كلمته للجميع، فقال: «أصدقائي، ألا يصعد أحدكم إلى الباب السري، ويخبر الناس، حتى يمكن لمثل هذا الإزعاج أن يزول بسرعة؟ وعندئذ يكون هذا الرجل قد ضرب بسرعة ضربته الأخيرة.»
عندئذ رد عليه ميلانثيوس، راعي المعيز، بقوله: «لا يمكن هذا يا أجيلاوس، يا ربيب زوس؛ لأن باب القلعة الجميل قريب جدا، كما أن فتحة الممر وعرة. إن في مكنة رجل واحد أن يسد الطريق أمام الجميع، إذا كان جريئا، ولكن تعال، دعني أحضر لك من حجرة الخزين أسلحة ترتديها؛ لأنها في الداخل، كما أعتقد، فلم يضعها أوديسيوس وابنه المجيد في أي مكان آخر.»
المغازلون يحصلون على تروس ورماح
ما إن قال هذا، حتى صعد ميلانثيوس، راعي المعيز، درجات سلم
7
الساحة إلى مخازن أوديسيوس، فأخذ منها اثني عشر ترسا، وعددا كبيرا من الرماح، وأكبر عدد ممكن من الخوذات البرونزية ذات الرياش السميكة من شعر الخيول، وعاد في طريقه، وأسرع فأحضرها وأعطاها للمغازلين؛ عندئذ ارتخت ركبتا أوديسيوس وذاب قلبه، عندما أبصرهم متدثرين بالحلل الحربية ويلوحون برماح طويلة في أيديهم، وبدت المهمة شاقة أمامه، فخاطب تيليماخوس بكلمات حماسية،
8
قائلا: «لا شك أن إحدى النساء في الساحات تثير ضدنا معركة شريرة، أو ربما كان هو ميلانثيوس.»
عندئذ أجابه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «إنني أنا نفسي الذي أخطأت في هذا، يا أبتاه، ولا ينصب اللوم على أحد غيري؛ لأنني تركت باب حجرة الخزين المحكم الإغلاق مفتوحا، وكان رقيبهم خيرا مني. والآن اذهب، أيها العظيم يومايوس، وأغلق باب حجرة الخزين، وتأكد مما إذا كانت هي إحدى النساء التي فعلت هذا، أم هو ميلانثيوس بن دوليوس، كما أتوقع.»
أوديسيوس يأمر بحبس ميلانثيوس الخائن
هكذا تحدث كل واحد منهما إلى الآخر، ولكن ميلانثيوس، راعي المعيز، ذهب ثانية إلى حجرة الخزين لكي يحضر حلة حربية جميلة، فلمحه راعي الخنازير، وفي الحال تحدث إلى أوديسيوس الذي كان قريبا منه، قائلا: «يا ابن لايرتيس، المنحدر من زوس، أي أوديسيوس الواسع الحيلة، ها هو ذا ثانية ذلك الشخص الموبوء، الذي كنا نشك فيه نحن أنفسنا، ذاهب إلى حجرة الخزين، فهل لك أن تخبرني ماذا أفعل حقيقة، أأقتله، لو أثبت أنني أفضل منه، أم أحضره إليك هنا، كي يلقى هذا الرجل جزاء الجرائم العديدة التي اقترفها في منزلك؟»
فأجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «سنحتفظ أنا وتيليماخوس حقا بالمغازلين الأمجاد في داخل البهو، مهما بلغوا من القوة، أما أنتما فهل لكما أن تشدا وثاق قدميه إلى الخلف وذراعيه إلى أعلى، وتلقيا به في حجرة الخزين، وتربطا خلف ظهره ألواحا؛ وتربطاه بحبل مجدول، وترفعاه إلى فوق في العمود الطويل، إلى أن يصل إلى قرب ألواح السقف، كي يظل حيا مدة طويلة، ويعاني عذابا مؤلما؟»
ما إن قال هذا، حتى أطاعا أمره في الحال، فانطلقا إلى حجرة الخزين، دون أن يراهما وقد كان بداخلها. لقد كان في الحقيقة يبحث عن حلة حربية في أقصى أنحاء حجرة الخزين، فكمن له الاثنان ينتظرانه، واقفين على جانبي قائمي الباب. وما كاد ميلانثيوس، راعي المعيز، يجتاز عتبة الباب، حاملا في إحدى يديه خوذة طيبة، وفي الأخرى ترسا عريضا عتيقا، مخططا بالصدأ - ترس السيد لايرتيس، الذي كان يحمله وهو في ريعان شبابه ولكنه كان الآن متروكا جانبا مهملا، وكانت سيور أحزمته محلولة - عندئذ انقضا عليه، كلاهما، وأمسكا به، وجذباه من شعره، وألقياه فوق الأرض في هلع شديد، وأحكما شد وثاق قدميه ويديه بقيود عنيفة، رابطين إياها بإحكام وراء ظهره، كما أمرهما ابن لايرتيس، الكثير التحمل، أوديسيوس العظيم، وربطا جسمه بحبل مفتول، ورفعاه عاليا فوق عمود طويل، إلى أن أوصلاه إلى قرب ألواح السقف. وعندئذ سخر منه، يومايوس راعي الخنازير، قائلا: «الآن حقا، يا ميلانثيوس، ستبقى الليل بطولة ساهرا، راقدا فوق فراش وثير، كما يليق بك، ولن يفوتك أن تنتظر مجيء الفجر الباكر، الذهبي العرش، بمجرد مجيئه من مجاري أوقيانوس، في الوقت الذي اعتدت أن تقود فيه عنزاتك للمغازلين، لكي يعدوا الوليمة في الساحات.»
أثينا تظهر لأوديسيوس في صورة مينتور
هكذا ترك هناك، ممددا في القيد الأليم، أما الاثنان فارتديا حلتيهما الحربيتين، وأغلقا الباب اللامع، وذهبا إلى أوديسيوس، الحكيم الداهية، فوقفا هناك، يتنفسان بحماس، فكان أولئك الواقفون عند العتبة أربعة ليس غير، بينما كان الذين بداخل القاعة كثيرين شجعانا. وعندئذ اقتربت منهم أثينا ابنة زوس، في صورة مينتور شكلا وصوتا، فرآها أوديسيوس، وابتهج، وتكلم، قائلا: «أبعد الخراب، يا مينتور، وتذكرني، يا صديقي العزيز، أنا الذي طالما صادقتك؟ إنك في نفس عمري.»
هكذا تكلم، معتقدا أنها أثينا، مثيرة الجيوش. أما المغازلون في الجانب الآخر فراحوا يصيحون في الساحة بصوت مرتفع، وفي البدء زجر أجيلاوس، ابن داماستور
Damastor ، أثينا، قائلا: «أي مينتور، لا يخدعنك أوديسيوس بكلامه لتقاتل ضد المغازلين وتساعده هو نفسه؛ فبهذه الطريقة، على ما أعتقد، سوف تثير إرادتنا؛ فبعد أن نقتل هذين الرجلين، الأب وابنه، سنقتلك أنت أيضا معهم، فلو أزمعت القيام بمثل هذه الأعمال في الساحات، لدفعت الثمن برأسك. ومتى جردناك من قوتك بحد السيف، أضفنا جميع الممتلكات التي في حوزتك داخل الأبواب وفي الحقول إلى ممتلكات أوديسيوس، ولن نسمح لأبنائك أو لبناتك بالإقامة في ساحاتك، كما أن زوجتك المخلصة لن تحظى بطيب العيش في مدينة إيثاكا.»
أثينا تلوم أوديسيوس وتثير حميته
هكذا تكلم، فأثارت أثينا حماس أوديسيوس، وأغضبت قلبه، ونهرته بكلمات مثيرة، قائلة: «أي أوديسيوس، لقد فارقتك قوتك الثابتة وشجاعتك، اللتان كانتا لك يوم أن قاتلت من أجل هيلين العالية المولد، ذات الساعدين الناصعي البياض لمدة تسع سنوات دون انقطاع ضد الطرواديين، وقتلت عددا كبيرا من الرجال في صراع مرير، وبمشورتك سقطت مدينة بريام
9
الفسيحة الطرقات، فكيف يحدث الآن، وقد عدت إلى بيتك وممتلكاتك، أن تنكمش باكيا بدلا من أن تقوم بدور الرجال، ضد المغازلين؟ كلا، أيها الصديق، هلم إلي هنا، وقف بجانبي وشاهد أعمالي، لكي تعرف أي نوع من الرجال هو مينتور بن ألكيموس، وكيف يرد الجميل وسط الأعداء.»
هكذا تكلمت، ولكنها لم تمنحه قوة شاملة ليحول مجرى المعركة، بل رغبت في عجم عود قوة وجرأة أوديسيوس وابنه المجيد. وأما فيما يتعلق بها هي نفسها، فإنها طارت عاليا إلى سقف الساحة المملوءة بالدخان. وجلست هناك في هيئة عصفور الجنة، وراحت تشاهد المعركة.
أجيلاوس يأمر المغازلين بالهجوم
عندئذ حث المغازلون بواسطة أجيلاوس بن داماستور، وبواسطة يورونوموس
Eәrynomus ، وأمفيميدون
Amphimedon ، وديموبتوليموس
Demoptolemus ، وبايساندر
، ابن بلوكتور
وبولوبوس
الحكيم؛ إذ كان هؤلاء أعظم جرأة من سائر المغازلين الذين كانوا على قيد الحياة وقتذاك يقاتلون من أجل أرواحهم. أما الباقون فقد جندلتهم القوس والسهام السريعة السقوط فافترشوا الأرض. بيد أن أجيلاوس تكلم وسطهم، وأعلن كلمته للجميع. قائلا: «أيها الأصدقاء، سوف يوقف هذا الرجل يديه اللتين لا تقهران أخيرا. تبا له، لقد انصرف عنه مينتور، دون أن يعمل شيئا غير كلمات الفخر الجوفاء، وها هم أولاء قد تركوا وحدهم عند الأبواب الخارجية؛ وعلى ذلك لا تقذفوا الآن جميع رماحكم الطويلة نحوهم دفعة واحدة، بل هلموا، أنتم الستة أولا فاقذفوا عسى أن يمنحكم زوس إصابة أوديسيوس، وأن نفوز نحن بالمجد. أما الباقون فلا أهمية لهم، إذا ما سقط هذا.»
ما إن قال هذا القول، حتى قذفوا جميعا رماحهم، كما أمرهم، في حماس. بيد أن أثينا أحبطت عملهم، فأصاب واحد منهم قائم باب الساحة المكينة البنيان، وأصاب غيره الباب المحكم الإغلاق، أما الرمح الدرداري، المثقل بالبرونز، لرجل آخر، فأصاب الحائط. وبعد أن تحاشوا رماح المغازلين، تكلم أوديسيوس العظيم الكثير التحمل وسطهم أولا، فقال: «أصدقائي، أرجو الآن أن نقذف نحن رماحنا إلى عصبة المغازلين، الذين أبوا إلا قتلنا، بالإضافة إلى آثامهم السابقة.»
أوديسيوس وأعوانه يتمنونها حربا شعواء
قال هذا، فإذا بهم جميعا يطلقون رماحهم الحادة بإصابة محكمة، فأصاب أوديسيوس ديموبتوليموس، وتليمياخوس يورياديس
Euryades ، وراعي الخنازير إلاتوس
Elatus ، بينما انبرى راعي الماشية فقتل بايساندر، وهكذا ضرب هؤلاء جميعا الأرض بأسنانهم في لحظة واحدة، فانسحب المغازلون إلى أقصى نقطة داخل الساحة الفسيحة. أما الآخرون فوثبوا إلى الأمام وجذبوا رماحهم من جثث الموتى.
أثينا تخذل المغازلين وتناصر أوديسيوس ورفاقه
بعد ذلك عاد المغازلون فرموا رماحهم الحادة في حماس، وعادت أثينا فجللت مسعاهم بالفشل، رغم كثرة رماحهم التي قذفوها، فأصاب رجل منهم قائم باب الساحة القوية البنيان، وأصاب آخر الباب المحكم الإغلاق، بينما أصاب الرمح الدرداري، المثقل بالبرونز، لرجل آخر، الجدار، ولكن أمفيميدون أصاب تيليماخوس في رسغ يده، ضربة خادشة، فمزق البرونز سطح الجلد. أما كتيسيبوس فخدش برمحه الطويل كتف يومايوس أعلى ذراعه، بيد أن الرمح انطلق إلى فوق وسقط على الأرض.
وفي تلك الآونة قذف أوديسيوس، الحكيم الداهية، وجماعته رماحهم الحادة مرة أخرى وسط حشد المغازلين، ومن جديد جندل أوديسيوس، سالب المدن، ثانية يوروداماس، وصرع تيليماخوس أمفيميدون، وأصاب راعي الخنازير يولوبوس، وبعد ذلك أطلق راعي الماشية رمحا فأصاب كتيسيبوس في صدره، وزها فوقه، قائلا: «يا ابن بولوثيرسيس
، يا محب السباب، إياك بعد الآن أن تملأ شدقيك فخرا، مستسلما لحماقتك، بل دع الأمر للآلهة، أولئك الذين هم أقوى منك بكثير. هذه جائزة ترحيبك الأخير بأوديسيوس الشبيه بالإله؛ إذ أعطيته ركلة عندما دار يستجدي الأكف خلال المنزل.»
أثينا تبث الذعر في قلوب المغازلين
هكذا تحدث راعي الماشية الملساء، ولكن أوديسيوس جرح ابن داماستور في قتال قريب بطعنة من رمحه الطويل، وجرح تيليماخوس لايوكريتوس
Leiocritus ، ابن إيفينور
Evenor ، بطعنة رمح نجلاء في منطقة حقويه، وغيب البرونز تماما في داخله، فسقط لتوه يضرب الأرض بجبينه كله؛ عندئذ حملت أثينا ترسها، جلاب الخراب على البشر، عاليا من السقف، فدب الذعر في نفوس المغازلين، وأطلقوا العنان لأقدامهم فرارا خلال الساحات، كأنهم قطيع من الأبقار انقضت عليه الذبابة اللاسعة فدفعته أمامها في فصل الربيع، عندما تقبل الأيام الطوال. أو أشبه بجوارح الطير ذات المخالب المعقوفة والمناقير المقوسة التي تهبط من الجبال وتنقض على صغار العصافير، الحائمة في السهل، في طيران منخفض تحت السحب، فتنقض عليها الطيور الجارحة وتقتلها، وهي لا تجد أمامها سبيلا للدفاع أو للفرار، ويبتهج الناس بمنظر المطاردة؛ هكذا أيضا كان أولئك الآخرون عندما هجموا على المغازلين وأعملوا فيهم التقتيل ذات الشمال وذات اليمين في شتى أنحاء الساحة. وكان يرتفع من هناك أنين مخيف كلما ضربت الرءوس، وسبحت الأرض في الدماء.
لايوديس يتوسل إلى أوديسيوس أن يرحمه
عندئذ اندفع لايوديس
Leiodes
إلى الأمام وأمسك بركبتي أوديسيوس، وراح يتوسل إليه، وكلمه بعبارات رقيقة،
10
فقال: «أتوسل إليك بركبتيك، يا أوديسيوس، عسى أن تحترمني وتشفق علي؛ لأنني أعلن لك أنني لم أتقدم بأذى قط إلى أي من النساء في ساحاتك سواء بكلمة أو بعمل طائش. كلا، بل كنت أسعى إلى كبح جماح المغازلين الآخرين، كلما هم أحدهم بإتيان مثل هذه الأعمال. غير أنهم لم يكترثوا لقولي فيمنعوا أيديهم من الشر، وعلى ذلك لاقوا حتفهم قاسيا بسبب حماقتهم الطائشة. ومع ذلك فإنني، لست إلا عرافا بينهم، لم أقترف إثما، وسأقتل مثلهم تماما. إذن فلا شكر حقيقة في الأيام المقبلة على القيام بصالح الأعمال.»
أوديسيوس يقتل لايودوس بلا رحمة
عند ذلك نظر إليه أوديسيوس الواسع الحيلة بنظرة غاضبة من تحت حاجبيه ورد عليه، بقوله: «إذا كنت حقا عرافا وسط أولئك الرجال ، كما تعلن عن نفسك، فأعتقد، أنك كثيرا ما صليت في الساحات لتبعد عني نتيجة العودة السارة، وأن تذهب معك زوجتي العزيزة وتنجب منك أطفالا؛ ومن ثم فلن تنجو من الموت المحزن.»
قال هذا وتناول بيده القوية سيفا كان ملقى بقربه، كان قد تركه أجيلاس يسقط من يده إلى الأرض أثناء مصرعه، فهوى بهذا وضربه فوق عنقه. وبينما كان لا يزال يتكلم، تخبط رأسه في الثرى.
فيميوس يطلب من أوديسيوس أن يرحمه
في تلك الآونة كان ابن تيربيس
Terpes ، المنشد، لا يزال يبحث عن مهرب من المنية السوداء، إنه فيميوس، الذي أرغمه المغازلون على أن ينشد بالقوة وسطهم. فوقف بقيثارته الصافية الألحان في يديه بالقرب من الباب السري، حائرا لا يدري ماذا يفعل، أيزحف من الساحة ويجلس بجانب مذبح زوس العظيم، الحسن البناء، مذبح رب القاعة، حيث كان لايرتيس وأوديسيوس قد أحرقا كثيرا من فخاذ الثيران، أم يندفع إلى الأمام ويمسك بركبتي أوديسيوس متوسلا. وبينما هو في حيرته تلك إذ هداه تفكيره إلى وسيلة أفضل، وهي أن يمسك ركبتي أوديسيوس بن لايرتيس؛ ومن ثم وضع قيثارته الجوفاء على الأرض بين طاس المزج والمقعد المطعم بالفضة، وانطلق هو نفسه فأمسك أوديسيوس من ركبتيه، وشرع يتوسل إليه، متحدثا إليه بكلمات رقيقة،
11
قائلا: «أتوسل إليك بركبتيك، يا أوديسيوس، راجيا أن تحترمني وترحمني؛ فلو قتلت المنشد، لحل عليك الأسف فيما بعد، أنا الذي ينشد للآلهة والبشر. لقد علمت نفسي بنفسي، وبث الرب في قلبي جميع صنوف الأغاني، وإنه لجدير بي أن أنشد لك إنشادي لأحد الآلهة، وعلى ذلك لا تتلهف إلى ضرب عنقي. كلا، ولسوف يكون تيليماخوس، ابنك العزيز، شاهدا كذلك على هذا، كيف أنني اعتدت المجيء إلى منزلك، ليس بدافع أية رغبة أو إرادة مني، لكي أغني للمغازلين في ولائمهم، ولكنهم؛ إذ كانوا أقوى مني وأعتى، كانوا يسوقونني إلى هنا كرها.»
تيليماخوس يطلب من أبيه ألا يقتل فيميوس وميدون
هكذا تكلم ، وسمعه تيليماخوس القوي العتيد، فأسرع يقول لأبيه الذي كان قريبا منه: «أوقف يدك، ولا تجرح هذا الرجل البريء بالسيف. نعم، ولننقذ كذلك الرسول، ميدون، الذي كان يهتم بي دائما في منزلنا، عندما كنت طفلا، إلا إذا كان فيلويتيوس قد قتله صدفة، أو راعي الخنازير، أو أنه جاء في طريقك وأنت ثائر في أنحاء المنزل.»
هكذا قال، وسمعه ميدون، الحكيم القلب؛ لأنه كان مختبئا تحت أحد المقاعد، يلف نفسه في جلد ثور، مسلوخ حديثا، محاولا اجتناب حتفه الأسود، فنهض في الحال من أسفل الكرسي وخلع عنه جلد الثور، وجرى مسرعا وأمسك بركبتي تيليماخوس، وراح يتوسل إليه، وخاطبه بعبارة رقيقة،
12
قائلا: «أيها الصديق، ها أنا ذا آت إليك، كف يدك، واطلب من أبيك أن يكف يده، خوفا من أن يؤذيني بالبرونز الحاد وهو في عنفوان قوته غاضبا من المغازلين، الذين بددوا ممتلكاته في الساحات، وفي حماقتهم لم يظهروا لك فرض التبجيل إطلاقا.»
أوديسيوس يستجيب لنداء ولده
بيد أن أوديسيوس الكثير الحيل ابتسم، وقال له: «فلتنعم بالا؛ إذ قد أعتقك وخلصك، كي تعرف في قلبك وتقول لغيرك أيضا، إن عمل الخير لأفضل بكثير من عمل السوء. وإنما يجب أن تخرج من الساحات وتجلس في الخارج في القاعة بعيدا عن المجزرة، أنت ومنشد الأغاني الكثيرة، إلى أن أنتهي من سائر الأعمال التي يجب أن أقوم بها في المنزل.»
هكذا تكلم، فانطلق الاثنان خارجين بعيدا عن الساحة وجلسا بجوار مذبح زوس العظيم، يتطلعان إلى ما حولهما، متوقعين الموت دائما. كما أن أوديسيوس أخذ يتطلع إلى كل شيء في منزله ليرى ما إذا كان لا يزال هناك أي رجل على قيد الحياة، مختبئا هناك، في محاولة لاجتناب المصير الأسود، غير أنه وجدهم جميعا صرعى غارقين في الدم والتراب - كافة عصبتهم - أشبه بالأسماك التي أمسك بها الصيادون في عيون شبكاتهم من البحر السنجابي ووضعوها على الشاطئ المنحني، فتظل كلها مكومة فوق الرمل، تواقة إلى أمواج البحر، وعندئذ تسلبها الشمس المتألقة حياتها؛ هكذا تماما كان المغازلون وقتئذ يرقدون في كومة بعضهم فوق البعض الآخر، ثم خاطب أوديسيوس الكثير الحيل تيليماخوس، بقوله: «أي تيليماخوس، اذهب الآن واستدع لي المربية يوروكليا، كي أخبرها بما يجول بخاطري.»
تيليماخوس ينادي يوروكليا
ما إن قال هذا، حتى أطاع تيليماخوس أمر أبيه العزيز، فطرق الباب وقال ليوروكليا: «انهضي وأسرعي إلى هنا، أيتها الزوجة العجوز، يا من عهدت إليك مسئولية جميع خادماتنا في الساحات. هلمي؛ فإن أبي يناديك، ليخبرك بشيء.»
هكذا تكلم، فلم تجبه بشيء، بل فتحت أبواب الساحة الفخمة، آتية، وسار تيليماخوس أمامها. وهناك وجدت أوديسيوس وسط جثث القتلى، المضرجة كلها بالدماء والملطخة بالأوساخ، أشبه بليث أتى من الضيعة بعد أن أتى على ثور فيها، فغدا صدره وخداه من الجانبين ملطخة بالدم، ومنظره مفزعا؛ هكذا كان أوديسيوس أيضا، ملوث القدمين واليدين من فوق. فلما أبصرت الجثث وبركة الدم الكبيرة، همت بإطلاق صيحات الفرح العالية؛ إذ شاهدت العمل العظيم الذي قام به، ولكن أوديسيوس منعها وكبح جماح حماسها، فخاطبها بكلمات مجنحة،
13
قائلا: «اغتبطي قلبا، أيتها السيدة العجوز، وإنما تمالكي نفسك ولا تصيحي عاليا؛ فليس أمرا مقدسا أن تفخري على رجال مجندلين. لقد حظي هؤلاء الرجال بنصيب الآلهة المحطمين وأعمالهم الطائشة؛ لأنهم لم يعملوا حسابا لأي فرد من البشر فوق ظهر الأرض، سواء أكان شريرا أم خيرا، مهما كان ذلك الذي يأتي إليهم؛ وعلى هذا جلبوا على أنفسهم ميتة شائنة من فرط حماقتهم الطائشة. والآن، هيا، أخبريني عن أسماء النساء في الساحات، وأيهن لا تكن لي الاحترام. وأيهن بريئات.»
يوروكليا تخبر أوديسيوس عن خادمات السوء بالقصر
فأجابته المربية العزيزة يوروكليا، وقالت: «إذن، فلأخبرنك بالحقيقة كلها يا ولدي. لديك خمسون خادما في ساحتك، نساء دربناهن على القيام بأعمالهن، من مشط الصوف وحمل جراية العبيد. من هؤلاء اثنتا عشرة، هن كل من سرن بأقدامهن في طريق العار، ولم يبدين الاحترام لي ولا لبينيلوبي نفسها. ولم يبلغ تيليماخوس مبالغ الرجال إلا حديثا، ولم تسمح له والدته بالسيطرة على الخادمات. والآن، دعني أصعد إلى المقصورة المتألقة العليا لأحمل النبأ إلى زوجتك، التي أنزل عليها أحد الآلهة نوما.»
فقال أوديسيوس الكثير الحيل: «لم يأت الأوان لإيقاظها بعد، ولكن مري النساء بالمجيء إلى هنا، اللواتي قمن فيما مضى بأعمال مخزية.»
هكذا تكلم، وذهبت السيدة العجوز عبر الساحة لتحمل النبأ إلى النساء، وتأمرهن بالمجيء، أما أوديسيوس فاستدعى إليه تيليماخوس والراعي وراعي الخنازير وتحدث إليهم بكلمات حماسية، قائلا: «ابدءوا الآن بحمل جثث القتلى ومروا النساء بمساعدتكم، ثم نظفوا المقاعد الجميلة والموائد بالماء والإسفنج المسامي. وبعد ترتيب المنزل كله بنظام، خذوا النساء بعيدا عن الساحة المكينة البنيان إلى مكان بين القبة
14
وسور الفناء العظيم، وعندئذ اضربوا أعناقهن هناك بسيوفكم الطويلة، حتى تسلبوهن الحياة جميعا، وينسين العشق الذي نلنه بأمر المغازلين، عندما اضطجعن معهم سرا.»
الخادمات يبكين ويأتمرن بأمر أوديسيوس
هكذا تكلم وأقبلت النساء مجتمعات معا، باكيات بكاء شديدا ودموعهن تنهمر غزيرة، فبدأن بحمل جثث القتلى بعيدا ووضعنها أسفل رواق الفناء القوي السياج، وأسندن كل جثة في مقابل الأخرى، بينما كان أوديسيوس نفسه يصدر إليهن الأوامر ويجعلهن في العمل، حتى نقلن الجثث بعيدا بالقوة. بعد ذلك طفقن ينظفن المقاعد الجميلة العالية والموائد بالماء والإسفنج المسامي. أما تيليماخوس وراعي البقر وراعي الخنازير فشرعوا يكحتون أرض المنزل المكين البنيان، وحملت النساء الطبقة المكحوتة بعيدا وألقينها خارج الأبواب. وبعد أن رتبوا كل الساحة، ساقوا النساء بعيدا عن الساحة المكينة البنيان إلى موضع بين القبة وسور الفناء العظيم، وحبسوهن في مكان ضيق يتعذر الفرار منه بأية حالة من الأحوال. بعدئذ كان تيليماخوس الحكيم أول من تكلم إلى الآخرين، قائلا: «فلأسلبن هؤلاء النسوة حياتهن في ميتة غير نظيفة، هؤلاء اللواتي طالما صببن التأنيبات على رأسي وعلى أمي، وتمادين في الاضطجاع مع المغازلين.»
الخادمات الفاسقات يلقين حتفهن
هكذا تكلم، وربط حبلا سميكا لسفينة دكناء الحيزوم إلى عمود ضخم، وقذف به حول القبة، باسطا إياه إلى مسافة عالية حتى لا تستطيع إحداهن أن تصل إلى الأرض بأقدامها. وكما يحدث عندما يقع الكروان الطويل الأجنحة أو اليمام في فخ أقيم وسط الأحراش، وهو يبحث عن مكان يرقد فيه، وممقوت هو الفراش الذي يرحب به، هكذا أيضا رفعت النسوة رءوسهن في صف، والتفت الأنشوطات حول أعناقهن جميعا لكي يلقين ميتة محزنة أبلغ الحزن. وبعد ذلك صرن يترنحن قليلا بأقدامهن، ولكن ذلك لم يكن لمدة طويلة.
بعد ذلك قادوا ميلانثيوس عبر الباب والفناء، وجدعوا منخريه وقطعوا أذنيه بالبرونز العديم الرحمة، وأخرجوا أحشاءه للكلاب لكي تأكلها نيئة، ثم قطعوا يديه ورجليه في غضبهم الثائر.
أوديسيوس يتطهر من دم القتلى المسفوك
بعد أن أتموا ذلك، غسلوا أيديهم وأقدامهم، وذهبوا إلى المنزل عند أوديسيوس، وكان العمل قد تم، ولكن أوديسيوس تحدث إلى المربية العزيزة يوروكليا، وقال: «أحضري الكبريت، أيتها السيدة العجوز، لأتطهر من الدنس، وكذلك أحضري لي نارا، كي أطهر الساحة، كما أرجو أن تخبري بينيلوبي بالمجيء إلى هنا مع وصيفاتها، وكذلك تأمري جميع النساء اللواتي في المنزل بالمجيء أيضا.»
عندئذ أجابته المربية العزيزة يوروكليا، قائلة: «نعم، كل هذا، الذي قلته صواب، يا ولدي، ولكن تعال، دعني أحضر لك عباية وجلبابا يسترانك، ولا تقف هكذا في الساحات بكتفيك العريضتين مغطاتين بالأسمال؛ وكان هذا مدعاة إلى اللوم.»
فأجابها أوديسيوس الواسع الحيلة، بقوله: «أولا وقبل كل شيء أوقدي لنا نارا في الساحة.»
هكذا تكلم. ولم تخالف المربية العزيزة يوروكليا أمره، بل أحضرت النار والكبريت. أما أوديسيوس فطهر الساحة والمنزل والفناء تماما.
نساء القصر يحطن أوديسيوس بمظاهر الحب والترحيب
بعد ذلك رجعت السيدة العجوز إلى داخل بيت أوديسيوس الجميل لتحمل النبأ إلى النساء وتأمرهن بالمجيء؛ فأقبلن من ساحتهن يحملن المشاعل في أيديهن. لقد اجتمعن حول أوديسيوس واحتضنه، وأمسكنه وقبلن رأسه وكتفيه ويديه في ترحيب ينم عن الحب، وعندئذ استبد به الشوق العذب للبكاء والنحيب؛ لأنه كان يعرفهن جميعا في قلبه حق المعرفة.
الأنشودة الثالثة والعشرون
وألقت ذراعيها حول عنق أوديسيوس، وقبلت رأسه.
يوروكليا تزف إلى سيدتها بشرى عودة أوديسيوس فلا تصدقها
بعد ذلك صعدت السيدة العجوز إلى المقصورة العليا، وهي تضحك ملء شدقيها بصوت مرتفع، لتخبر سيدتها أن زوجها العزيز في البيت . كانت ركبتاها تتحركان في خفة بينما قدماها تزحفان قفزا من تحتهما؛
1
فوقفت عند رأس سيدتها، وتحدثت إليها، قائلة: «استيقظي، يا بنيليوبي، يا طفلتي العزيزة لكي تري بعيني رأسك ما اشتهيته طوال أيامك. إن أوديسيوس هنا، وقد جاء إلى المنزل، رغم أن مجيئه متأخر، وقد قتل المغازلين المتغطرسين الذين كدروا صفو داره، وأكلوا أمواله واضطهدوا ابنه.»
فأجابتها بينيلوبي الحكيمة، بقولها: «أي مربيتي العزيزة، لقد جعلتك الآلهة مخبولة، أولئك الذين في استطاعتهم أن يخبلوا من كان في منتهى العقل، ويدفعوا بسطاء العقول إلى حسن الإدراك. إنهم هم الذين أفسدوا حصافتك، مع أنك قبل ذلك كنت ذات عقل سليم. ماذا دهاك لتسخري مني، وقلبي مفعم بالأحزان، فتقصي على هذه الرواية الخيالية، وتوقظيني من نعاسي، ذلك النعاس الحلو الذي استولى علي وأطبق جفني؟ لأنه لم يسبق لي قط أن استسلمت للكرى العميق هكذا منذ ذلك اليوم الذي رحل فيه أوديسيوس ليرى إليوس اللعينة التي لا يجب أن يذكر المرء اسمها. كلا، هيا الآن، انطلقي عائدة إلى ساحة النساء؛ فلو كانت إحدى النساء الأخريات اللواتي عندي هي التي جاءتني بهذا النبأ، وأيقظتني من النوم، لكنت طردتها فورا لتعود أدراجها مكتئبة إلى الساحة، أما أنت فإن شيخوختك قد منحتك هذه الفائدة.»
يوروكليا تقص على سيدتها أخبار مجزرة المغازلين
عندئذ أجابتها المربية العزيزة يوروكليا، قائلة: «ما أنا بساخرة، يا طفلتي العزيزة، ولكن بالحق إن أوديسيوس هنا، قد جاء إلى داره، كما أقول لك. إنه ذلك الغريب الذي لم يحترمه الجميع في الساحات، ولكن تيليماخوس كان يعرف منذ مدة طويلة أنه هنا، بيد أنه لذكائه أخفى هدف أبيه، إلى أن ينتقم من شرور الرجال المتعجرفين.»
ما إن قالت هذا، حتى طارت بينيلوبي فرحا، ووثبت من سريرها وطوقت السيدة العجوز بذراعيها وأطلقت العنان لدموعها تسقط من جفنيها، وتكلمت، وخاطبتها بكلمات حماسية،
2
قائلة: «تعالي الآن، أيتها المربية العزيزة، أتوسل إليك إلا ما صدقتني القول، فخبريني إذا كان قد جاء حقا إلى المنزل، كما تقولين، وكيف وضع يديه على المغازلين الوقحين ، جميعا وهو بمفرده كما كان، بينما هم متكتلون معا في المنزل كما كانوا دائما .»
فأجابتها يوروكليا المربية العزيزة، قائلة «لم أبصر شيئا، ولم أسأل سؤالا، ولكني سمعت فقط أنات الرجال الذين قتلوا. أما نحن النساء، فقد جلسنا نرتجف ذعرا في أقصى جزء من مقصوراتنا المكينة البنيان، وكانت الأبواب المحكمة الإغلاق تحبسنا في الداخل، إلى أن جاءت الساعة التي استدعاني فيها ابنك تيليماخوس من الساحة؛ لأن أباه بعث به ليستدعيني. وعندئذ شاهدت أوديسيوس واقفا وسط جثث القتلى، وكانوا وهم ممددون من حوله فوق الأرض الصلبة يرقدون الواحد فوق الآخر، فكان منظرا يبعث الدفء في قلبك غبطة وابتهاجا. أما الآن فقد جمعت الجثث كلها معا عند أبواب الفناء، وإن أوديسيوس الآن يطهر المنزل الجميل بالكبريت، وأشعل نارا عظيمة، وأرسلني لأناديك. هلمي، تعالي معي، كي يدخل السرور إلى قلبيكما، كليكما؛ لأنكما تحملتما محنا كثيرة. وها هو ذا يتحقق أخيرا ذلك الذي كنت تتوقين إليه بلهفة. لقد جاء هو نفسه، حيا إلى مدفأته، وقد وجدك ووجد ابنه في الساحات. أما بالنسبة لأولئك، المغازلين، الذين افترقوا الشرور في حقه، فقد انتقم منهم، الواحد والجميع في منزله.»
يوروكليا تؤكد لبينيلوبي عودة أوديسيوس
بعد ذلك قالت بينيلوبي الحكيمة: «أي مربيتي الزيزة، لا تملئي شدقيك فخرا وأنت تضحكين هكذا عاليا. إنك تعرفين كيف يرحب الجميع برؤيته في الساحات، ولا سيما أنا وولده، المولود منا نحن الاثنين، دون سائر الجميع، ولكن هذه القصة التي تروينها ليست حقيقية، كما تحكينها. كلا، لا بد أن أحدا ما من الخالدين هو الذي قتل المغازلين الأمجاد غاضبا من وقاحتهم المحزنة وأعمالهم الشريرة؛ إذ إنهم ما كانوا ليحترموا أي فرد من البشر على ظهر الأرض، سواء أكان صالحا أم طالحا، كل من جاء في وسطهم؛ وعلى ذلك لقوا الشر جزاء حماقتهم الطائشة. أما أوديسيوس، ففي مكان ناء فقد عودته إلى أرض آخيا
Achaәa ،
3
وفقد هو نفسه.»
عندئذ أجابتها المربية العزيزة يوروكليا، تقول: «أي طفلتي، ما هذه الكلمة التي أفلتت من بين حاجز أسنانك؛ إذ تقولين إن زوجك، الذي هو الآن هنا، عند مدفأته، لن يعود إطلاقا؟! إن قلبك لعديم الإيمان دائما. كلا، تعالي، سأخبرك بعلامة أكيدة بالإضافة إلى هذا، إنها أثر الجرح الذي أصابه به الخنزير البري منذ أمد بعيد بنابه الأبيض. لقد لاحظت هذه العلامة بينما كنت أغسل قدميه، وكنت أتوق إلى إخبارك بها، أنت أيضا، ولكنه وضع يده على فمي، وبحكمة قلبه العظيمة، لم يسمح لي بالكلام؛ ومن ثم تعالي معي، فلأهلكن نفسي، إن كنت أخدعك، ولك أن تقتليني بأشنع ميتة يرثى لها.»
فردت عليها بينيلوبي الحكيمة، بقولها: «يا مربيتي العزيزة، إنه ليصعب عليك أن تدركي سر مشورة الآلهة الخالدين، مهما كنت عاقلة طول حياتك. والآن هيا بنا نذهب إلى ولدي، كي أرى المغازلين قتلى وأرى ذلك الذي قتلهم.»
تيليماخوس يعنف أمه بأقسى الكلمات
ما إن قالت هذا حتى هبطت من مقصورتها العليا وكأن قلبها حيران لا تدري هل تقف بعيدا وتسأل زوجها العزيز، أم تتوجه إليه، وتمسك وتقبل رأسه ويديه. بيد أنها ما إن دخلت واجتازت العتبة الحجرية، حتى جلست في مواجهة زوجها أوديسيوس في ضوء النار المجاورة للحائط البعيد، ولكنه كان جالسا بجوار عمود طويل، ينظر إلى أسفل، وينتظر ما إذا كانت زوجته النبيلة ستقول له شيئا، عندما تبصره عيناها. غير أنها جلست ملتزمة الصمت مدة طويلة، وحلت الدهشة على روحها، وكانت تارة تركز عينيها على وجهه تماما، وتارة أخرى لا تستطيع التعرف عليه؛ لأنه كان مرتديا أسمالا حقيرة. وعندئذ لامها تيليماخوس، وخاطبها قائلا: «أماه، أيتها الأم القاسية، ذات القلب المتشبث، ما الذي يوقفك هكذا بعيدا عن أبي، ولا تجلسين إلى جواره وتسألينه وتستعلمين منه؟ ما من سيدة أخرى قد تحجر قلبها مثلك، فتقف بعيدا عن زوجها، الذي عاد إليها وإلى وطنه بعد غياب عشرين عاما، مقاسيا المشاق الكثيرة المحزنة! بيد أن قلبك دائما أصلب من الصخر.»
عندئذ أجابته بينيلوبي الحكيمة، فقالت: «أي بني، لقد ضاع القلب الكائن في صدري من شدة العجب، ولا قدرة لي على الكلام إطلاقا، ولا أن أسأل سؤالا، أو أنظر إليه في وجهه، ولكن إذا كان هو أوديسيوس حقا، وقد جاء إلى البيت، فإن كلا منا سيعرف الآخر يقينا؛ لأن لدينا علامات لا يعرفها سوانا، علامات مخفية عن الآخرين.»
أوديسيوس يطيب خاطر تيليماخوس
هكذا تكلمت، وابتسم أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، وخاطب تيليماخوس في الحال بكلمات حماسية،
4
قائلا: «أي تيليماخوس، فلتتكفل أمك بفحصي في الساحات، وفي الحال سوف تحظى بمعرفة أكثر تأكيدا. أما الآن فإنها تحتقرني؛ لأنني ملوث بالأقذار، وألبس على جسمي ثيابا زرية، ولا تعترف بعد بأنني هو زوجها. أما نحن، فلنفكر كيف يمكن لكل شيء أن يتم على خير وجه؛ لأنه ما من شخص قتل رجلا واحدا في بلد، حتى ولو لم يترك ذلك الرجل وراءه ذرية تأخذ بثأره إلا وذهب ذلك الشخص إلى المنفى، تاركا أهله ووطنه، فكيف الحال بنا وقد قتلنا أولئك الذين كانوا وجوه المدينة وأعيانها، خير شباب إيثاكا. وإني لآمرك أن تمعن التفكير في هذا الأمر.»
فأجابه تيليماخوس الحكيم، قائلا: «هذا لك يجب أن تفكر فيه أنت نفسك، يا أبتاه العزيز؛ فإن رأيك، كما يقولون، أعظم الآراء سدادا بين البشر، وليس في مكنة أي فرد من الناس أن يتحداك. وأما نحن، فسوف نتبعك في حماس، ولست أعتقد أننا نفتقر إلى الشجاعة، طالما كانت لدينا القوة.»
أوديسيوس يأمر والجميع يصدع
عندئذ رد عليه أوديسيوس الواسع الحيلة، بقوله: «إذن فلأخبرنك بما يبدو لي خير وسيلة. أولا استحموا، ثم البسوا عباياتكم ومروا الوصيفات اللواتي في الساحات أن يرتدين خير ملابسهن. ودع المنشد المقدس يكن قائدنا في الرقص المفرح بقيثارته الواضحة النبرات في يده، حتى إذا ما سمع أحد الصوت في الخارج، سواء أكان عابر طريق أو أحد الذين يسكنون حولنا، ظنها وليمة عرس؛ وعندئذ لا ينتشر خبر قتل المغازلين في شتى أنحاء المدينة قبل أن نخرج إلى مزرعتنا الكثيرة الغابات. وهناك نتدبر فيما بعد الصالح الذي يوحي إلينا به الأوليمبي.»
5
هكذا تكلم، فصدع الجميع لأمره وأطاعوا قوله. وفي البدء اغتسلوا وارتدوا عباءاتهم، وأعدت النسوة أنفسهن، وأمسك المنشد المقدس القيثارة الجوفاء وأثار فيهم الرغبة في الغناء الشجي والرقص العظيم ؛ ومن ثم صدحت القاعة الكبرى من كل جانب بوقع أقدام الرجال وهم يرقصون والنساء الجميلة الزنار. وهكذا قال أحد الذين سمعوا الضوضاء خارج المنزل: «ما هذا؟ حقا إن أحدا ما لا بد قد تزوج الملكة التي كان يهيم بحبها الكثيرون. ما أقساها! إنها لا تملك القلب الذي يجعلها تحتفظ بالمنزل العظيم الذي هو منزل زوجها المقترن بها، حتى النهاية، إلى أن يعود.»
أوديسيوس يظهر في أبهى صورة أمام بينيلوبي
هكذا كانوا يقولون، ولكنهم لم يعلموا جلية الأمور. وفي الوقت نفسه غسلت مدبرة البيت يورونومي أوديسيوس العظيم القلب في منزله، ودهنته بالزيت، وألقت حوله عباءة جميلة وجلبابا. وسكبت أثينا فوق رأسه جمالا بالغا، فجعلته يبدو أطول وأقوى للرائين، وجعلت خصلات من الشعر تتدلى من رأسه مجعدة أشبه بزهرة الخزامى. وكما يطعم المرء الفضة بالذهب، ويكون صانعا ماهرا تدرب على يد هيفايستوس
6
وبالاس أثينا حتى حذق جميع طرق المهنة، فيخرج العمل من يده باهرا جميلا، هكذا أيضا بمثل هذا سكبت الربة جمالا فوق رأسه وكتفيه، فخرج من الحمام، في صورة أشبه بالخالدين. وجلس بعدئذ من جديد فوق الكرسي الذي كان قد نهض منه، قبالة زوجته، وتحدث إليها، قائلا: «ما أغرب أطوارك، أيتها السيدة! لقد وهبك القاطنون فوق أوليمبوس، دون سائر النساء، قلبا لا تلين قناته؛ فما من امرأة غيرك كانت تقسي قلبها كما تفعلين، وتقف بعيدا عن زوجها الذي جاء إليها وإلى وطنه في العام العشرين بعد أن كابد الأهوال العديدة المحزنة. كلا، تعالي، أيتها المربية، وابسطي لي فراشا، كي أستطيع أن أرقد وحدي؛ إذ إن القلب الذي في صدرها حقا من الحديد.»
بينيلوبي تعجم عود زوجها
عندئذ أجابته بينيلوبي الحكيمة «بقولها: «أيها السيد الغريب الأطوار، لست متكبرة بأية حال من الأحوال، كما أنني لا أحتقرك، ولست بحال ما قد تتملكني الدهشة كثيرا، ولكنني أعرف جيدا حالتك التي كنت عليها عندما رحلت من إيثاكا فوق سفينتك ذات المجاذيف الطويلة. ومع ذلك، تعالي، يا يوروكليا، وابسطي له الفراش المكين خارج حجرة الزواج المكينة البنيان التي أقامها هو بنفسه، فأحضري إلى هناك له السرير المتين، وضعي فوقه فرشا، وفراء من الصوف وعباءات وأغطية لامعة.»
هكذا تكلمت، تعجم عود زوجها. بيد أن أوديسيوس، في حمأة غضبه، خاطب زوجته الصادقة القلب، فقال: «أيتها السيدة، ما أعظم مرارة هذه الكلمة التي تفوهت بها! من ذا الذي أقام سريري في مكان آخر؟ إنه ليتعذر على أي فرد، لم يكد بتلك المهارة، إلا إذا كان أحد الآلهة هو الذي يجيء بنفسه ويقيمه بسهولة في مكان آخر. أما البشر فلا يوجد بينهم من الأحياء، مهما كان شابا وقويا، من يستطيع أن ينقله من مكانه في سهولة؛ لأن هناك علامة عظيمة مصنوعة في ذلك السرير الذي كونته؛ إذ إنني أنا الذي صنعته ولا أحد سواي. كانت تنمو بداخل الفناء شجيرة زيتون طويلة الأوراق، وكانت قوية وصلبة، وفي علوها أشبه بالعمود، فبنيت مقصورتي حول هذه، حتى أتممت بناءها، بأحجار مرصوصة متقاربة، وأقمت أعلاها سقفا متينا، وزودتها بأبواب ذات مفاصل، تغلق بإحكام. بعد ذلك قطعت الأغصان المورقة من شجيرة الزيتون الطويلة الأوراق، وبعد أن قطعت الجذع من فوق الجذور تماما، صقلته جيدا بفأس وبمهارة، وقومته مستقيما، وهكذا كونت منه قائم السرير، وثقبته كله بالمثقاب. وإذ بدأت بهذا صقلت سريري، إلى أن أتممته، وطعمته بالعسجد واللجين والعاج، وبسطت فوقه سيورا من جلد الثور، تتألق بالأرجوان. وهكذا أعلن لك هذه العلامة، ولكني لست أعلم، أيتها المرأة، ما إذا كان سريري لايزال قائما في مكانه أم قطعه الآن رجل ما من أسفل جذع شجيرة الزيتون.»
بينيلوبي تعانق أوديسيوس وتقدم عذرها الشديد
ما إن قال هذا، حتى ارتخت ركبتاها حيث كانت تجلس، وذاب قلبها؛ إذ كانت تعرف العلامات الأكيدة التي أخبرها بها أوديسيوس؛ ومن ثم انطلقت تجري نحوه والدموع تنهمر غزيرة من مقلتيها، وألقت ذراعيها حول عنق أوديسيوس، وقبلت رأسه، وتحدثت إليه، بقولها: «لا تكن مغيظا مني، يا أوديسيوس؛ لأنك كنت في كل شيء آخر أحكم الرجال دائما. إنها الآلهة التي أعطتنا الأحزان، تلك الآلهة التي حقدت علينا أن يبقى كل منا مع الآخر ونتمتع بشبابنا، حتى نصل إلى عتبة الشيخوخة. والآن لا تكن غاضبا مني لهذا الأمر، ولا تكن مفعما بالازدراء؛ لأنني عندما رأيتك، أولا، لم أرحب بك؛ لأن القلب الكائن في صدري كان يتوجس دائما خيفة، خشية أن يأتي رجل ما ويخدعني بقوله؛
7
إذ إن هناك كثيرين يدبرون خطط الشر. كلا، ولا حتى هيلين الأرجوسية، ابنة زوس، كانت لترقد في حب مع رجل من قوم آخرين، لو كانت تعرف أن أبناء الآخيين الحربيين سوف يحضرونها إلى بيتها ثانية إلى وطنها العزيز. ومع ذلك فإن في حالتها قد حفزها حقا أحد الآلهة على أن تقوم بعمل مشين، فلم تضع في عقلها حتى تلك الآونة فكرة هذه الحماقة، الحماقة المؤسفة التي كانت سببا منذ البدء في أن يحل علينا الحزن أيضا. أما الآن، ما دمت قد أيقنت بالعلامات الظاهرة في سريرنا، التي لم يحدث أن رآها أي بشر سواك وسواي وعدا خادمة واحدة فقط، هي ابنة أكتور
Actor ، التي أعطانيها أبي منذ أن جئت إلى هنا، إنها هي التي كانت تحافظ على أبواب حجرة عرسنا القوية، وللعجب، أنك تقنع قلبي، الذي لا تلين قناته كما ترى!»
أوديسيوس يحتضن زوجته وهو يبكي بحرقة
هكذا قالت، ومع ذلك فقد أثارت في قلبه رغبة أكثر إلى البكاء، فبكى، وهو يحتضن زوجته العزيزة الصادقة القلب بين ذراعيه. وكما يرحب الرجال الذي يسبحون برؤية اليابسة، أولئك الرجال الذين حطم بوسايدون سفينتهم المحكمة البناء في البحر بعد أن جرفتها الرياح والأمواج الضخمة، وقد فاز قليلون من البحر السنجابي بالسباحة إلى الشاطئ، وقد جمدت أبدانهم بشدة من ماء البحر الملح، فوطئوا البر بأقدامهم مسرورين ونجوا من مصيرهم الشرير، هكذا أيضا رحبت هي بزوجها، وهي تحدجه بنظراتها، ولا تستطيع بأية حال من الأحوال أن تخلي ساعديها الناصعي البياض عن عنقه. وكاد الفجر الوردي الأنامل يلوح وهما ما زالا يبكيان، لولا أن الربة ، أثينا ذات العينين النجلاوين، قد تدبرت الأمر برأي آخر، فأمسكت بالليل الطويل في نهاية مجراه، وشدت كذلك بالفجر الذهبي العرش عند مجاري أوقيانوس، ولم تسمح له بوضع النير فوق أعناق جياده السريعة الأقدام التي تأتي بالنور إلى البشر، لامبوس
Lampus
وفايثون
، وهما المهران اللذان يحملان الفجر.
أوديسيوس ينشد المتعة والراحة مع بينيلوبي
عندئذ تحدث أوديسيوس الواسع الحيلة إلى زوجته، قائلا: «أي زوجتي، لم نصل بعد إلى نهاية جميع محاولاتنا، ولكن لا يزال هناك عمل لا حد له يجب القيام به فيما بعد، عمل طويل وعسير، يجب أن أتمه حتى نهايته؛ لأن روح تايريسياس
Teiresias
8
قد أخبرتني بهذا في اليوم الذي هبطت فيه إلى بيت هاديس لأستفهم عن أمر عودتي وعودة زملائي. والآن، هلمي بنا، يا زوجتي، لنصعد إلى الفراش، حتى إذا ما تمتعنا الآن بالنعاس العذب، أمكننا أن نحظى بمتعة الراحة.»
فأجابته بينيلوبي الحكيمة عندئذ، بقولها: «سيكون سريرك معدا لك متى شاء قلبك، طالما أن الآلهة قد تسببت حقا في أن تعود إلى منزلك المكين البنيان وإلى وطنك. غير أنه طالما أنك قد فكرت في هذا، ووضع أحد الآلهة هذا في قلبك، تعال، خبرني عن هذه المحاولة؛ إذ أعتقد، أنني في المستقبل سوف أعلم بها، وإذ عرفتها الآن فلن يزيد ذلك الأمر سوءا بأية حال.»
أوديسيوس يخبر بينيلوبي بنبوءة العراف
فأجابها أوديسيوس الكثير الحيل، وقال: «أيتها السيدة الغريبة الأطوار! لم تأمرينني الآن بإلحاح بالغ بأن أخبرك بها؟ ومع ذلك فسأعلنها، ولن أخفي عنك شيئا. الحق أن قلبك لن يحظى بأي سرور منها، مثلي تماما إذ لا أحس بأي سرور منها؛ فقد أمرني تايريسياس أن أرحل إلى مدن كثيرة جدا، حاملا مجذافا بديعا في يدي، إلى أن أبلغ بلد قوم لا يعرفون شيئا عن البحر، ولا يأكلون طعاما ممزوجا بالملح، كلا، ولا يعلمون شيئا عن السفن ذات الوجنات الأرجوانية، أو عن المجاذيف التي هي للسفن بمثابة الأجنحة. وأخبرني عن هذه العلامات، بمنتهى الوضوح، ولن أخفيها عنك؛ فعندما يقول لي عابر سبيل آخر، عندما يلتقي بي، إنني أحمل مذراة فوق كتفي القوية، عندئذ، كما أمرني، أغرس مجذافي الأرض ، وأقدم تقدمات عظيمة للسيد بوسايدون - كبشا وثورا وخنزيرا بريا، قد سافح خنزيرات - ثم أنصرف إلى بيتي وأقدم ذبائح مقدسة من مائة ثور للآلهة الخالدين، الذين يحتلون السماء الفسيحة الأجواز، لكل واحد منهم في الترتيب اللائق به. ولسوف يأتي الموت على نفسي بعيدا عن البحر، ميتة في غاية الرقة، سوف تصرعني عندما تقهرني الشيخوخة الناعمة، ولسوف يعيش قومي حولي في رخاء. كل هذا، كما قال، سوف أراه يتحقق.»
عندئذ أجابته بينيلوبي الحكيمة، قائلة: «إذا كان الآلهة ستجلب عليك حقا شيخوخة أكثر سعادة، إذن فهناك أمل في أن تجد مخرجا من الشر.»
أوديسيوس وبينيلوبي ينامان سويا
هكذا راحا يتجاذبان أطراف الحديث، وفي الوقت نفسه كانت يورونومي والمربية يعدان الفراش ذا الأغطية الوثيرة على ضوء المشاعل المستعرة. وبعد أن انتهتا من فرش السرير المكين البناء، عادت المربية العجوز إلى مقصورتها لتنام، وقادتهما يورونومي، خادمة حجرة النوم، في طريقهما إلى الفراش وهي تحمل مشعلا في يديها. وبعد أن أوصلتهما إلى مقصورة زواجهما، عادت أدراجها. وبعد ذلك ذهبا مسرورين إلى مكان الفراش الذي كان لهما من قديم الزمان. أما تيليماخوس وراعي الأبقار وراعي الخنازير فأوقفوا أقدامهم عن الرقص، وكذلك أوقفوا النساء، واستلقوا ليناموا في أنحاء الساحات الظليلة.
حديث الغرام بين أوديسيوس وبينيلوبي
وبعد أن أخذا حظهما من نعمة الحب، استمتعا بالحكايات، فأخذ كل منهما يتحدث إلى الآخر، فأخبرته السيدة الحسناء بكل ما قاسته في الساحات، وهي تنظر إلى حشد أولئك المغازلين المخربين، الذين ذبحوا من أجلها كثيرا من المواشي، من الأبقار والكباش الضخمة، واستهلكوا كميات كبيرة من الخمر أخذوها من الزقاق. أما أوديسيوس المولود من زوس فأخذ يقص عليها كافة المحن التي أنزلها بالناس، وجميع الشدائد التي كان عليه أن يتحملها في ألمه، وكان يلذ لها أن تصغي إلى حديثه، ولم يداعب النوم اللذيذ جفنيها إلا بعد أن أخبرها بالقصة كاملة.
فبدأ يخبرها كيف تغلب في البدء على الكيكونيس، ثم كيف وصل إلى بلاد آكلي اللوتس الغنية، وجميع ما فعله الكولوبيس، وكيف جعله يدفع الثمن عن رفقائه الأشداء، الذين ازدردهم الكوكلوبيس، دون أن يبدي نحوهم أية رحمة. ثم كيف جاء إلى أيولوس
Aeolus ،
9
الذي رحب به بقلب كريم، ثم بعث به في طريقه؛ بيد أن حظه في المجيء إلى وطنه العزيز لم يكن قد حان بعد، كلا؛ فلقد لحقت به الريح العاصفة مرة أخرى، وحملته بعيدا فوق صفحة اليم المزدحم، وهو يئن أنينا عاليا عنيفا. وكيف وصل بعد ذلك إلى تيليبولوس
Telepylus
حيث اللايستر وجونيس
Laestrygones ،
10
الذين حطموا سفنه وجميع زملائه المدرعين أجود تدريع، ولم ينج منهم غير أوديسيوس وحده في سفينته السوداء، ثم أخبرها بعد ذلك عن جميع حيل وأحابيل كيركي، وكيف رحل في سفينته ذات المقاعد إلى بيت هاديس الرطب لاستشارة روح تايريسياس الطيبي، وأنه قد أبصر جميع رفقائه وأمه التي ولدته ونشأته، عندما كان طفلا. وكيف سمع صوت السيرينيس، اللواتي يغنين دون انقطاع، وكيف وصل إلى الصخور المتجولة وإلى خاروبديس المفزعة وإلى سكولا، التي لم يسبق أن نجا منها أي إنسان قط. ثم كيف قتل رجاله أبقار هيليوس، وكيف ضرب زوس، الذي يرعد عاليا، سفينته السريعة بصاعقة ملتهبة، فهلك جميع رجاله العظام سويا، بينما نجا هو وحده من المصير المشئوم. وكيف وصل إلى جزيرة أوجوجيا وإلى الحورية كالوبسو، التي احتجزته هناك في مغاراتها الواسعة، تواقة إلى أن يصبح زوجها، وكيف قامت على خدمته، وقالت إنها ستجعله خالدا لا تتطرق إليه الشيخوخة قط طوال أيامه، بيد أنها لم تستطع على الإطلاق أن تغري قلبه الكائن في صدره. ثم كيف أنه جاء بعد مجهود شاق طويل إلى الفياكيين، الذين أظهروا له كل احترام، كما لو كان أحد الآلهة، وأنهم أرسلوه في سفينة إلى وطنه العزيز، بعد أن أهدوه خزينا من البرونز والذهب والثياب. وهكذا كان هذا هو نهاية القصة التي رواها، عندما أقبل عليه النوم اللذيذ الذي يرخي أطراف الرجال، محررا إياه من هموم قلبه.
أوديسيوس يعطي زوجته تعليمات هامة
في تلك الآونة فكرت الربة، أثينا المتألقة العينين، في رأي آخر، فلما أصدرت حكمها وقررت بأن قلب أوديسيوس قد نال كفايته من التمتع بزوجته وبالنوم، أطلقت في الحال سراح الفجر الذهبي العرش من أوقيانوس ليجلب النور للبشر. وعندئذ نهض أوديسيوس من فراشه الوثير، وأسلم أمور بيته إلى زوجته، قائلا: «أيا زوجتي، الآن وقد نلنا كفايتنا من المحن الكثيرة، أنت وأنا، أنت هنا، تبكين على رحلتي إلى الوطن المحفوفة بالمتاعب والأخطار، بينما أنا، قد قيدني زوس والآلهة الآخرون في المآسي بقيود صعبة بعيدا عن وطني، وقلبي مفعم بالشوق إلى العودة. أما الآن وقد صعدنا سويا إلى فراش رغبتنا، فهل لك أن تهتمي بأمر ثروتي في داخل الساحات. أما القطعان التي بددها المغازلون الوقحون، فسوف أحصل بنفسي على كثير منها كغنائم، كما سوف يعطيني الآخيون أخرى، إلى أن يملئوا حظائري، ولكني سأذهب حقا إلى مزرعتي الكثيرة الغابات لمشاهدة أبي النبيل، الذي بخعه الحزن من أجلي، وإني لأنصحك بهذا، رغم ما أنت عليه من حكمة. ما إن تشرق الشمس حتى يطير الخبر في الحال وينتشر معلنا أمر المغازلين الذين قتلتهم في ساحاتي؛ وعلى ذلك اصعدي إلى مقصورتك العليا مع وصيفاتك، وامكثي هناك. لا تقابلي أي رجل، ولا تسألي سؤالا قط.»
أثينا تخفي أوديسيوس ورفاقه عن الأنظار
ما إن قال هذا حتى تدثر بحلته الحربية الجميلة حول كتفيه، وأيقظ تيليماخوس وراعي الأبقار وراعي الخنازير، وأمرهم جميعا بأن يحملوا في أيديهم أسلحة القتال، فلم يخالفوا أمره، بل لبسوا البرونز، وفتحوا الأبواب، وخرجوا، يقودهم أوديسيوس في الطريق. ورغم أن النور كان يملأ الدنيا فوق الأرض، فإن أثينا أخفتهم في ليل داج، وبسرعة قادتهم بعيدا عن المدينة.
الأنشودة الرابعة والعشرون
هيرميس يقود أرواح المغازلين
لبيك، يا أبتاه، ها أنا ذا أمامك، أنا بنفسي.
في نفس ذلك الوقت نادى هيرميس الكوليني
Cylenian Hermes
1
أرواح المغازلين. وكان يحمل عصاه في يديه، تلك العصا الجميلة المصنوعة من الذهب، التي ينيم بها عيون كافة من يشاء، بينما يوقظ بها أيضا آخرين من رقادهم، فكان يوقظ ويقود الأرواح بها، فكانت تتبعه وهي تتمتم. وكما يحدث في أقصى فجوة في الكهف العجيب أن تحوم الخفافيش مرفرفة هنا وهناك وهي تطن، عندما يسقط أحدها من فوق الصخرة منفصلا عن السلسلة التي يتعلق بها كل واحد منها بالآخرة، هكذا أيضا ذهبت هذه معه وهي تتمتم وقادها هيرميس، المساعد، مجتازا الطرق الرطبة، فذهبت خلال مجاري أوقيانوس، عبر صخرة ليوكاس
Leucas ، مجتازة أبواب الشمس وأرض الأحلام، وبسرعة وصلت إلى مرج حقل البروق، حيث تقطن الأرواح، أشباح الناس الذين هلكوا في القتال. وهناك وجدوا روح أخيل
2
ابن بيليوس، وروح باتروكلوس،
3
وأنتيلوخوس
4
المنقطع النظير، وأياس،
5
الذي كان خير جميع الدانيين من بعد ابن بيليوس عديم المثيل.
أرواح المغازلين تتكلم
وكان هناك زحام حول روح أخيل، وبالقرب منهم دنت روح أجاممنون بن أتريوس، حزينة، ومن حولها احتشدت أخريات، أرواح أولئك الذين قتلوا معه في منزل أيجيسثوس، ولقوا حتفهم. وكانت روح ابن بيليوس هي أول من تكلم وخاطبته، بقولها: «يا ابن أتريوس، كما نعتقد أنك من دون سائر الأبطال كنت طوال أيام حياتك عزيزا لدى زوس، الذي يقذف الصاعقة؛ لأنك كنت سيدا على كثير من الرجال الأشداء في أرض الطرواديين، حيث كابدنا الأهوال نحن الآخيين. بيد أنه حقا كان للمنية المفزعة أن تنزل عليك، أنت أيضا، مبكرا هكذا، تلك المنية التي لا يستطيع أن يفر منها كل ابن أنثى
6
آه! ليتك في خيلاء ذلك المجد الذي كنت له سيدا، قابلت الموت والمصير في بلاد الطرواديين. إذن لكان جيش الآخيين كله قد أقام لك رمسا، ولكنت قد كسبت أيضا، مجدا عظيما في الأيام المقبلة يتمتع به ابنك. غير أنه، كما يبدو، قد تقرر الآن أنه يجب عليك أن تفارق الحياة بميتة هي أعظم ميتة يرثى لها.»
عندئذ أجابته روح ابن أتريوس، بقولها: «يا ابن بيليوس المحظوظ، يا أخيل الشبيه بالآلهة، يا من قتلت في بلاد طروادة بعيدا عن أرجوس، وتجندل حولك آخرون، هم خيرة أبناء الطرواديين والآخيين، وهم يتقاتلون من أجل جثتك، بينما كنت أنت راقدا في دائرة عميقة من الثرى عتيدا في جبروتك، ناسيا فروسيتك. أما نحن من جانبنا فكنا نتقاتل طوال اليوم كله، وما كنا لنكف عن الصراع، لولا أن زوس قد أوقفنا بعاصفة. غير أنه بعد أن حملناك من ساحة الوغى إلى السفن، أرقدناك فوق نعش، ونظفنا جلدك الجميل بالماء الدافئ وبالزيت، وذرف الدانيون من حولك كثيرا من الدموع السخينة، وقطعوا شعورهم. ثم أقبلت والدتك من الخضم بصحبة حوريات البحر الخالدات، عندما بلغها ذلك النبأ، فارتفعت صيحة مدوية عجيبة فوق الخضم العميق، وعندئذ ارتعد الآخيون جميعا فرائص وأعضاء. وفي تلك الآونة كاد الجميع يقفزون مندفعين نحو السفن الواسعة، لو لم يمنعهم رجل، عاقل على قدر كبير من الحكمة القديمة، ذلك هو نسطور، الذي ثبت أن مشورته هي الأفضل سدادا عما قبلها. فتحدث إلى حشدهم بنية حسنة، وخاطبهم، قائلا: «مكانكم، أيها الأرجوسيون؛ لا تهربوا، يا معشر شباب الآخيين. إنها والدته، هذه التي جاءت إلى هنا خارجة من البحر بصحبة حوريات البحر الخالدات، لتشاهد وجه ابنها الميت.»
هكذا تكلم، وتوقف الآخيون ذوو الجرأة عن فرارهم. بعد ذلك وقفت حولك بنات عجوز البحر يبكين في حزن بالغ، ودثرن كل جسدك في لباس خالد. أما ربات الفن،
7
وهن تسع، فقد قمن بقيادة المرثاة، وبعضهن يرد على البعض الآخر بأصوات عذبة. وما كنت لتستطيع أن تبصر أرجوسيا واحدا إلا وهو يبكي؛ فقد حركت ربات الفن الرخيمات الصوت قلوبهم. وهكذا بقينا نبكيك باستمرار لمدة سبعة عشر يوما ليل نهار، الآلهة الخالدون والبشر، حتى إذا كان اليوم الثامن عشر قدمناك للنار، وذبحنا كثيرا من الكباش السمينة جدا حولك وأبقارا ناعمة. وهكذا أحرقت في ملابس الآلهة وفي وفرة من المراهم والعسل الحلو، وسار جمع غفير من المحاربين الآخيين في حللهم الحربية حول كومة الحطب، بينما كنت تحترق، من المشاة وراكبي العجلات، وتصاعد صخب عظيم. بيد أنه عندما وضعت نار هيفايستوس نهايتك، جمعنا في الصباح عظامك البيضاء، يا أخيل، ووضعناها في خمر غير ممزوجة وفي الدهون. وكانت أمك قد أحضرت وعاء من الذهب ذا مقبضين، وقالت إنه هدية من ديونيسوس، وأنه من صنع هيفايستوس الذائع الصيت، فوضعنا عظامك البيضاء، يا أخيل المجيد، في ذلك الوعاء، ووضعنا معها عظام باتروكلوس الميت، ابن مينويتيوس، مختلطة بها، أما عظام أنتيلوخوس، الذي كنت تبجله أكثر من جميع بقية رفقائك بعد باتروكلوس الميت، فقد كانت موضوعة على انفصال. وكومنا فوقها مقبرة هائلة عظيمة، نحن جماعة الرماحين الأقوياء في جيش الآخيين، فوق لسان بارز من الأرض بجوار الهيليسبونت الفسيح، كي يستطيع جميع الناس الذين يعيشون الآن والذين سيولدون فيما بعد أن يروها من بعيد من على سطح البحر. أما والدتك فطلبت من الآلهة هدايا جميلة، ووضعتها في وسط قوائم هدايا رؤساء الآخيين. وإنك قد شاهدت قبل الآن مباريات جنائزية لرجال عديدين كانوا محاربين، عندما كان موت ملك يجعل الشبان أنفسهم يتمنطقون ويعدون المباريات، ولكنك إذا شاهدت ذلك المنظر لعجبت في قلبك أشد العجب؛ فما أجمل تلك الجوائز التي قدمتها الربة، ثيتيس
Thetis
8
ذات القدمين الفضيتين، هناك تبجيلا لك، لأنك كنت عزيزا جدا لدى الآلهة. وهكذا لم تفقد اسمك حتى في موتك، ولكنك سوف تحظى دائما بحسن الأحدوثة بين سائر البشر، يا أخيل. أما عن نفسي، فأي فائدة عادت علي من كوني أشعلت نار الحرب؟ إذ قد حاك لي زوس ميتة شنيعة على أيدي أيجيسثوس وزوجتي اللعينة.»
هكذا تحدث كل واحد منهما إلى الآخر، بيد أن الرسول أرجايفونتيس، اقترب، يقود أرواح المغازلين الذين قتلهم أوديسيوس؛ فإذا بهذين الاثنين، وقد اعترتهما الدهشة، ذهبا فورا نحوهم بمجرد أن رأوهم. ولاحظت روح أجاممنون بن أتريوس، ذلك الابن العزيز لميلانوس، أمفيميدون المجيد، الذي كان مضيفه، أيام أن كان يقطن في إيثاكا. وعندئذ بادرته روح ابن أتريوس بالكلام أولا، فقالت له: «هيا أمفيميدون، ماذا دهاكم حتى هبطتم تحت الأرض المظلمة، وكلكم رجال مختارون ومن نفس العمر؟ لا يمكن للمرء أن يختار شيئا آخر، لو كان للإنسان أن ينتقي خير رجال في المدينة. هل ضربكم بوسايدون وأنتم على ظهور سفنكم، عندما أثار الرياح العاتية والأمواج الطويلة؟ أم هل أصابكم سوء على يد الأعداء فوق اليابسة، بينما كنتم تسلبونهم ماشيتهم وقطعان أغنامهم الجميلة ، أو بينما كانوا يقاتلون للذود عن مدينتهم ونسائهم؟ أخبرني عما أسأل؛ لأنني أعلن أنني صديق منزلك. أولا تذكر إذ جئت إلى هناك إلى منزلك بصحبة مينيلاوس الشبيه بالإله لأحث أوديسيوس على الرحيل معنا إلى إليوس فوق ظهور السفن ذات المقاعد؟ لقد استغرقت الرحلة منا شهرا كاملا لعبور البحر المترامي الأطراف؛ لأنه كان من الصعب علينا أن نضم إلينا أوديسيوس، سلاب المدن.»
عندئذ أجابته روح أمفيميدون، بقولها: «يا ابن أتريوس الأعظم مجدا، يا ملك البشر، ويا أجاممنون، إنني أذكر كل هذه الأمور، كما ترويها تماما، يا من هو ربيب زوس، ومن جانبي سأصارحك القول صادقا وأقول لك كل الحق، عن الكيفية التي نزلت علينا بها خاتمة الموت الشريرة. لقد غازلنا زوجة أوديسيوس، الذي كان قد رحل منذ زمن بعيد، ولم ترفض الزواج البغيض، ولم تبت في الأمر إطلاقا، بل دبرت لنا الموت والمصير الأسود. كلا، كما أنها قد حاكت في قلبها ذلك الأمر الخداع أيضا؛ لقد أقامت في ساحاتها منوالا هائلا، وانهمكت في النسج - لقد كان النسيج من الخيط البديع، وكان في غاية الاتساع - وعندئذ قامت في الحال وتكلمت وسطنا، قائلة: «أيها الشبان، عشاقي، ما دام أوديسيوس العظيم قد مات، فاصبروا، رغم تلهفكم على الزواج مني، إلى أن أتم هذا الثوب - لأنني لا أبتغي أن يسفر نسجي عن لا شيء - إنه كفن السيد لايرتيس للوقت الذي يصرعه فيه المصير القاسي للموت المحزن، خشية أن تحقد علي أية سيدة من النساء الآخيات في البلاد، إذا ما رقد بدون كفن، وهو ذلك الذي كسب ممتلكات هائلة.»
هكذا تكلمت، فوافقت قلوبنا المتعجرفة. وبعد ذلك شرعت تنسج في النسيج العظيم يوما بعد يوم، غير أنها كانت تحل بالليل ما صنعته، بعد أن تضع المشاعل إلى جوارها. وهكذا ظلت على تلك الحال مدة ثلاث سنوات، جعلت فيها الآخيين جهلاء بمهارتها، وقد خدعتهم. بيد أنه عندما جاء العام الرابع، بمرور الفصول، وبعد أن خبت الشهور وجرت الأيام العديدة في مجراها، أخبرتنا إحدى النساء اللواتي كن على علم بكل شيء، فأمسكنا بها وهي تحل النسيج الرائع؛ وعلى ذلك اضطرت إلى إتمامه بالقوة ضد رغبتها.
والآن عندما أرتنا الثوب، بعد أن نسجت النسيج العظيم وغسلته، فتلألأ يسطع كأنه الشمس والقمر؛ عندئذ أحضر أحد الآلهة القساة أوديسيوس من مكان ما إلى حدود البلاد، حيث كان يقطن راعي الخنازير. وإلى هناك أيضا ذهب الابن العزيز لأوديسيوس المقدس بعد أن رجع من بولوس الرملية في سفينته السوداء. وبعد أن دبر هذان الاثنان ميتة شريرة للمغازلين، توجها إلى المدينة الشهيرة، وقد حضر أوديسيوس متأخرا حقا، ولكن تيليماخوس سبقه في طريقه. وجاء راعي الخنازير بسيده، يرتدي أسمالا رثة، في صورة شحاذ عجوز كثير الهموم، يتوكأ على عصا، وكان الثوب الذي يستر به جسمه حقيرا، فلم يستطع أي واحد منا أن يعرف أنه هو، عندما جاء هكذا على حين غرة، كلا، ولا حتى أولئك الذين كانوا أكبر سنا، بل هاجمناه بعبارات شريرة وقذفناه بعدة أشياء. ومع ذلك فقد تحمل بقلب ثابت إلى فترة من الوقت أن يرجم ويشتم في داخل ساحاته. بيد أنه عندما أثارته أخيرا إرادة زوس، الذي يحمل الترس، أخذ جميع الأسلحة الجميلة بمساعدة تيليماخوس ووضعها بعيدا في حجرة الخزين وأغلقها بالمزاليج، ثم أمر زوجته بدهائه البالغ أن تضع أمام المغازلين قوسه والحديد السنجابي لتكون هناك مباراة بيننا نحن الرجال المنكودي الطالع وتغدو بداية الموت، فلم يكن في مقدور أي واحد منا أن يشد وتر القوس القوية. كلا، لقد كنا أضعف بكثير من أن تكون لنا تلك القوة. غير أنه لما وصلت القوس العظيمة في يدي أوديسيوس، صحنا جميعا بصوت مرتفع معارضين في إعطائه القوس، مهما تكلم ومهما ألح في الكلام، ولكن تيليماخوس وحده هو الذي حثه على أن يجرب استعمال القوس، وأمره بأن يأخذها. عند ذلك تناول، أوديسيوس العظيم، الكثير التحمل، القوس في يده، وبغاية السهولة شد الوتر وأطلق سهما مر من الحديد، ثم ذهب ووقف عند العتبة ، وأطلق سيلا من السهام السريعة، متلفتا حوله بفظاعة، فأصاب الملك أنتينوس. وبعد ذلك أخذ يسدد سهامه ويتركها تطير نحو الآخرين بإصابته المحكمة، محملة بالآلام، فشرع الرجال يسقطون بكثرة وفي سرعة. عندئذ عرفنا أن إلها ما كان يعضدهم؛ لأنهم في الحال انقضوا عبر الساحات في حماسهم وراحوا يصرعون الرجال ذات اليمين وذات الشمال، وتصاعدت أناتهم مخيفة، بينما الرءوس تقطع والأرض كلها تسبح في الدماء. هكذا كان هلاكنا، يا أجاممنون، وحتى الآن لا تزال أجسامنا ملقاة بإهمال في ساحات أوديسيوس؛ لأن أهلنا الموجودين في منزل كل رجل منا لا يعرفون شيئا حتى الآن - أهلنا الذين ربما يغسلون الدم الأسود من جراحنا ويدفنون جثثنا بالنحيب؛ لأن هذا هو حق الأموات.»
عندئذ أجابته روح ابن أتريوس، قائلة: «ما أسعدك يا ابن لايرتيس، يا أوديسيوس الواسع الحيلة! الحق أن الزوجة التي فزت بها لتتصف بكل ما هو رائع، وإنها لرائعة جدا في الإدراك بينيلوبي المنقطعة النظير، ابنة إيكاريوس؛ لأنها ظلت ذاكرة أوديسيوس في ولاء، زوجها الذي عقد له عليها؛ ومن ثم فإن شهرة عفتها لن تبلى على الإطلاق، بل سيؤلف الخالدون وسط البشر ساكني الأرض أنشودة بهيجة تشيد بذكر بينيلوبي الوفية. وعلى نقيضها كانت ابنة تونداريوس
Tyndareus
9
التي حاكت أعمالا شريرة وقتلت زوجها الذي اقترنت به بعقد، ولسوف تكون مقيتة تلك الأغنية التي ستؤلف في قصتها وسط البشر، وما أسوأ السمعة التي ستجلبها على جميع النساء، حتى على من كانت منهن خيرة!»
هكذا تحدث كل منهما إلى الآخر، وهما واقفان في بيت هاديس تحت أعماق الأرض.
أوديسيوس يختبر أباه
أما أوديسيوس وأتباعه فعندما انصرفوا من المدينة، وصلوا بسرعة إلى مزرعة لايرتيس الجميلة الجيدة التنسيق، التي كسبها لنفسه في الأيام الخوالي، والتي كد من أجلها كثيرا.
10
كان هناك منزله، ومن حوله الحظائر التي فيها ينام ويأكل ويجلس الخدم الذين كانوا عبيده، وكان هذا ما يدخل السرور إلى نفسه. أما في داخل البيت فكانت هناك سيدة صقلية عجوز، كانت تقوم بخدمة الرجل المسن في عناية كريمة في ضيعته ، بعيدا عن المدينة؛ عندئذ خاطب أوديسيوس الخدم وابنه، قائلا: «هل لكم أن تدخلوا الآن إلى داخل البيت المكين البنيان، وتذبحوا في الحال خير الخنازير لأجل العشاء؟ أما أنا فسأختبر أبي، وأرى ما إذا كان سيتبينني ويعرفني بالنظر، أم أنه لن يستطيع التعرف علي؛ لأنني قد رحلت منذ مدة طويلة جدا.»
ما إن قال هذا حتى أعطى العبدين عدته الحربية، فذهبوا بسرعة بعد ذلك إلى داخل المنزل. أما أوديسيوس فاقترب من حقل الكرم باحثا عن بغيته. ولما هبط إلى مزرعة الفواكه الكبيرة لم يجد دوليوس، ولا أي واحد من عبيده أو أبنائه، بل كانوا قد ذهبوا مصادفة ليجمعوا أحجارا يقيمون بها سور حقل الكرم، يقودهم الرجل العجوز. وإنما وجد أباه بمفرده في حقل الكرم البديع التنسيق، يحفر حول نبتة، وكان مشتملا بعباءة قذرة، مرقعة ورثة، وقد ربط حول ساقيه درعين مصنوعتين من جلود الثيران لتحمياه من الاحتكاك، ولبس قفازا في يديه يدرأ عنه الأشواك وعلى رأسه قبعة من جلد الماعز، منطويا على أحزانه، فلما أبصره أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، منهكا بالشيخوخة ومثقلا بالحزن العميق في قلبه، وقف صامتا تحت شجرة كمثرى عالية، وأخذ يذرف العبرات. بعد ذلك فكر في عقله وقلبه هل يقبل والده ويعانقه، ويخبره بكل شيء، كيف أنه عاد ووصل أخيرا إلى وطنه، أم يستعلم منه أولا، ويختبره في كل شيء. وبينما هو يأخذ ويرد في عقله، هداه التفكير إلى أن أحسن فكرة، هي أن يختبره أولا بعبارات التهكم؛ وعلى ذلك انطلق أوديسيوس العظيم نحوه فورا وهو يفكر في ذلك الرأي. وكان الرجل حقا قد أحنى رأسه إلى أسفل، يحفر نبتة، فأقبل نحوه ابنه العظيم، وخاطبه بقوله: «أيها العجوز، لست بحال ما مفتقرا إلى المهارة اللازمة لرعاية حديقة، كلا؛ فإن عنايتك بالحديقة لحسنة، وليس هناك أي شيء قط، سواء أكان نبتة أو شجرة تين، أو كرمة، كلا، ولا زيتونة، أو كمثرى، أو أي عمل من أعمال الحدائق في الحقل كله تنقصه الرعاية، ولكني سأقول لك أمرا آخر، وأرجو أن تكتم غضبك في قلبك. إنك أنت نفسك لا تتمتع بالعناية الحسنة، ولكنك تحمل الشيخوخة المؤلمة، ومهما كان مظهرك قذرا وثيابك غير مرتبة، وترتدي ملابس حقيرة، فحقا إن ذلك ليس مرده إلى أي كسل من جانبك لأن سيدك لا يهتم بك، ومع ذلك فإنك لا تبدو بأية حال أشبه بعبد حتى إنه لينظر إليك هذه النظرة، لا في الشكل ولا في القوام؛ بل تبدو أشبه بالملك، أشبه بالرجل الذي، إذا ما استحم وأكل، كان جديرا به أن ينام نوما رقيقا؛ لأن هذه الطريقة التي تليق بالشيوخ، ولكن تعال، خبرني بهذا، واصدقني القول في صراحة، في خدمة من أنت، ومزرعة كرم من هذه التي تقوم برعايتها؟ لأنني أرجو أن تخبرني بهذا أيضا والحقيقة، كي أعلم يقينا، هل هذه البلدة هي إيثاكا حقيقة، تلك التي جئنا إليها الآن، كما أخبرني بذلك رجل هناك، قابلني الآن فقط وأنا في طريقي إلى هنا. لا شك في أنه كان في غاية الذكاء والحرص؛ لأنه أبى أن يخبرني عن كل شيء، أو أن يصغي حتى إلى قولي عندما سألته عن صديق لي، هل ما زال على قيد الحياة أم أنه قضى نحبه وهو الآن في بيت هاديس؛ لأنني سأقص عليك هذا، وهل لك أن تلتفت وتصغي إلي. ذات مرة استضفت في وطني العزيز رجلا كان قد جاء إلى منزلنا، ولم يحدث قط أن جاء رجل من الأغراب القاطنين في بلاد نائية ونزل ضيفا على منزلي، وكان مرحبا به أكثر من ذلك الضيف. لقد أعلن لي أنه من حيث سلسلة النسب قد أقبل من إيثاكا، وقال إنه ابن لايرتيس، ابن أركايسيوس
Arceisius ؛ وعلى ذلك صحبته إلى منزلي وأكرمت وفادته ورحبت به غاية الترحيب وقدمت له من الخزين الوافر الذي كان بداخل داري، وأعطيته هدايا الصداقة، هدايا تليق به، فأعطيته من الذهب المصنوع بمهارة سبع تالنتات، وطاس مزج كله من الفضة، مزينا بالزهور، واثنتي عشرة عباية مفردة الطيات، وأكبر عدد ممكن من الأغطية، وأكثر ما في مكنتي من الأردية، وعددا كبيرا من الجلابيب أيضا، وزيادة على ذلك أعطيته من النساء الماهرات في الأعمال اليدوية الرائعة، أربع سيدات فاتنات، كان هو نفسه قد اعتزم أن يختارهن.»
والد أوديسيوس يتحدث عن ابنه بالحزن والأسى
عندئذ أجابه أبوه، وهو يبكي، فقال: «أيها الغريب، حقا إنك قد جئت إلى البلد، الذي تقصده، لكنه الآن في حوزة أناس لا هم لهم إلا ملذاتهم وطيشهم. ولقد أعطيته تلك الهدايا بغير ما طائل، تلك الهدايا التي تفوق الحصر التي قدمتها؛ لأنك إذا لم تجده بعد حيا في بلاد إيثاكا، أكان يستطيع أن يودعك وأنت راحل بتعويض عظيم من الهدايا والتكريم الحسن؟ لأن هذا واجب لمن كان أسبق بالعمل الكريم، ولكن تعال، خبرني عن هذا، وأعلنه لي بالصدق، كم عاما مضى على إكرامك وفادة ذلك الضيف، الضيف المنحوس الطالع، ابني - إذ من المؤكد أنه كان يوجد مثل هذا الرجل - ابني المنكود الحظ، الذي ربما تكون الأسماك قد ابتلعته في أعماق اليم بعيدا عن أهله، أو صار نهبا على اليابسة للوحوش والطيور؟ كما أن أمه لم تعده للدفن ولم تبكه، ولا أبوه أيضا، نحن اللذين أنجباه، كلا، ولا زوجته، التي غوزلت بالهدايا الكثيرة،
11
بينيلوبي الحازمة، استطاعت أن تبكي فوق نعش زوجها، عندما نلتقي، وهي تغمض عينيه في موته، رغم أن هذا واجب للميت. كذلك خبرني بهذا أيضا في صدق، كي أعلم علم اليقين، من أنت من بين الرجال، ومن أين؟ وأين مدينتك وأين والدك؟ وأين ترسو السفينة السريعة التي أحضرتك إلى هنا مع رفقائك أشباه الآلهة؟ أم أنك جئت كأحد ركاب سفينة أخرى، وهل رحلوا بعد أن تركوك فوق اليابسة؟»
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، وقال: «إذن سأقول لك كل شيء في صراحة. لقد جئت من ألوباس
Alybas ،
12
حيث أملك منزلا عظيما، وإنني ابن أفايداس
Apheidas ، ابن السيد بولوبيمون
، أما اسمي فهو إبيريتوس
Eperitus . بيد أن أحد الآلهة جرفني من سيكانيا
Sicanio
لكي أجيء إلى هنا ضد رغبتي، وإن سفينتي لراسية هناك على مسافة طويلة من البر المحروث بعيدا عن المدينة. أما بخصوص أوديسيوس، فهذه هي السنة الخامسة منذ أن رحل من هناك، وغادر بلدي، فيا له من رجل مسكين! ومع ذلك فقد كانت له طيور الفأل الحسن، عندما سافر، طيور كانت على يمينه؛ وعلى ذلك سررت منها، وأنا أودعه ليذهب في طريقه. وانصرف هو مبتهجا، وأمل قلبانا في أن نلتقي فيما بعد كمضيف وضيف، ويعطي أحدنا الآخر هدايا مجيدة.»
أوديسيوس يعانق أباه ويريه علامة
هكذا تكلم، فأحاطت بلايرتيس سحابة قاتمة من الحزن، وتناول التراب القاتم بكلتا يديه ونثره فوق رأسه الرمادي بأنين لا يكف؛ عندئذ ثارت ثائرة قلب أوديسيوس، وتصاعدت في خياشيمه
13
غصة حادة، عندما أبصر أباه العزيز فوثب نحوه، وطوقه بذراعيه، وقبله، قائلا: «لبيك، يا أبتاه، ها أنا ذا أمامك، أنا بنفسي، أنا ذلك الرجل الذي تسأل عنه. لقد جئت في السنة العشرين إلى وطني، وإنما أرجو أن تكف عن الحزن والعويل الدامع؛ لأنني سأخبرك بكل شيء، بالرغم من كوني في مسيس الحاجة إلى الإسراع. لقد قتلت المغازلين في ساحاتنا، وثأرت لنفسي من وقاحتهم المحزنة وأعمالهم الشريرة.»
عندئذ رد عليه لايرتيس ثانية، فقال: «لو كنت حقا أنت أوديسيوس، ولدي، يا هذا الذي جئت إلى هنا، فأخبرني الآن بعلامة واضحة حتى أكون على يقين.»
فأجابه أوديسيوس الكثير الحيل، بقوله: «هاك أثر الجرح تراه بعينيك أولا، أثر الجرح الذي أصابني به خنزير بري بنابه الأبيض فوق بارناسوس.» عندما ذهبت إلى هناك. لقد كنت أنت الذي أرسلتني إلى هناك، أنت ووالدتي المبجلة، إلى أوتولوكوس
Autolycus
والد أمي، كي أحضر الهدايا التي وعد وقبل أن يعطينيها عندما قدم إلى هنا. وزيادة على ذلك، سأخبرك أيضا عن عدد الأشجار التي في الحديقة المحكمة التنسيق التي أعطيتنيها ذات يوم، عندما تبعتك خلال الحديقة وأخذت أسألك عن هذا وذاك، وأنا لم أكن سوى طفل. لقد مررنا خلال تلك الأشجار عينها، فذكرت لي اسمها، وأخبرتني عن كل شجرة منها. ثلاث عشرة شجرة كمثرى أعطيتنيها، وعشر شجرات تفاح وأربعين شجرة تين. كما وعدت أن تهبني صفوفا من الكروم أيضا، وهي كما أقول، خمسون كرمة، كانت تنضج عدة مرات في أوقات مختلفة - تحمل عناقيد من كل نوع - كلما أنزلتها من فوق فصول زوس.»
14
لايرتبس يغمى عليه من صدمة اللقاء
هكذا تكلم وارتخت ركبتا أبيه في مكانه حيث كان يقف، وذاب قلبه، عندما عرف الأمارات الأكيدة التي أخبره بها أوديسيوس، فألقى ساعديه حول ابنه العزيز، وأمسك به أوديسيوس العظيم الكثير التحمل إذ أغمي عليه، فلما أفاق، وعادت روحه إلى صدره ثانية، تحدث إليه من جديد، وتكلم، قائلا: «أبتاه، زوس، حقا إنكم ما زلتم أيها الآلهة تسيطرون على أوليمبوس الشامخ، لو أن المغازلين قد دفعوا بحق ثمن حماقتهم الطائشة. بيد أنه يتملكني الآن خوف عجيب في قلبي، خشية أن ينقض علينا هنا في الحال رجال إيثاكا، ويبعثوا الرسل في كل مكان إلى مدن الكيفالينيين.»
فأجابه أوديسيوس الواسع الحيلة، بقوله: «طب نفسا ولا تشغل قلبك بهذه الأمور. والآن هلم بنا إلى المنزل القريب من مزرعة الكرم، لأنني أرسلت تيليماخوس وراعي الأبقار وراعي الخنازير إلى هناك، كي يعدوا لنا الوليمة بمنتهى السرعة.»
هكذا كانا يتكلمان، وذهبا في طريقهما إلى المنزل العظيم، فلما بلغا المنزل الفخم، وجدا تيليماخوس وراعي الأبقار وراعي الخنازير يقطعون لحما في كميات وفيرة، ويخلطون الخمر الصهباء.
أثينا تضفي جمالا وقوة على لايرتيس
وفي أثناء تلك الآونة غسلت الخادمة الصقلية لايرتيس الجريء في منزله ودهنته بالزيت، وألقت حول جسمه عباية بديعة. وعندئذ اقتربت أثينا وضخمت أطراف راعي الشعب، وجعلته يبدو للناظرين أطول وأقوى مما كان. وبعد ذلك خرج من الحمام، واستولت الدهشة على ابنه العزيز؛ إذ رآه في حضرته أشبه بالآلهة الخالدين. فتكلم وخاطبه بكلمات حماسية، قائلا: «أبتاه، لا بد أن أحد الآلهة الخالدين قد جعلك أبهى منظرا للرائين في الجمال وفي القوام.»
فرد عليه لايرتيس الحكيم، وقال: «لم أتمن، يا أبتاه زوس، ويا أثينا، ويا أبولو، أن أكون في مثل تلك القوة التي كانت لي عندما استوليت على نيريكوس
Nericus ، القلعة المكينة البنيان فوق شاطئ اليابسة، يوم أن كنت سيدا على الكيفالينيين؛ فبتلك القوة كان يجب أن أقف إلى جانبك أمس في منزلنا مرتديا حلتي الحربية فوق كتفي ، وأنزل الضربات بالمغازلين. هكذا كان لا بد لي أن أرخي ركب الكثيرين منهم في الساحات، وعندئذ كان لقلبك أن ينعم بالسرور في باطنك.»
أوديسيوس على مائدة العشاء مع أبيه
هكذا تحدث كل منهما إلى الآخر، فلما انتهى الآخرون من عملهم، وأعدوا الوليمة، جلسوا في ترتيب فوق الكراسي والمقاعد الغالية. وما كادوا يمدون أيديهم إلى الطعام، حتى اقترب دوليوس العجوز، ومعه أبناؤه، وقد أنهكهم العمل في الحقول؛ لأن والدتهم، السيدة العجوز الصقلية، كانت قد خرجت إليهم واستدعتهم، وهي التي تهتم بطعامهم وتقوم برعاية الرجل العجوز في عناية كريمة، وقد بلغ وقتئذ من الكبر عتيا، فما إن أبصر بأوديسيوس، وتبينوه في أذهانهم، حتى وقفوا في الساحات مشدوهين عجبا، بيد أن أوديسيوس خاطبهم بكلمات رقيقة، فقال: «تفضل بالجلوس إلى العشاء، أيها الرجل العجوز، وهل لك أن تنسى عجبك تماما؟ فقد انتظرنا مدة طويلة في الساحات، رغم تلهفنا إلى مد أيدينا إلى الطعام، وبقينا هكذا في انتظار قدومك.»
دوليوس يرحب بعودة أوديسيوس
هكذا قال، فانطلق دوليوس من فوره يعدو نحوه باسطا يديه، وأمسك بيد أوديسيوس وقبلها من فوق رسغها، وتحدث إليه وخاطبه بكلمات حماسية،
15
فقال: «أي سيدي العزيز، بما أنك قد عدت إلينا، يا من كنا نشتاقك غاية الشوق، وما كنا نفكر في أننا سنراك، والآلهة أنفسهم هم الذين جاءوا بك - فمرحبا بك - وإنا لنرحب بقدومك من كل قلوبنا، ونطلب من الآلهة أن تمنحك السعادة، ولكن خبرني بهذا بالصدق، كي أعلمه حق العلم. هل تعرف بينيلوبي الحكيمة أكيدا أنك قد عدت إلى هنا، أم نبعث إليها برسول؟»
عندئذ أجابه أوديسيوس الكثير الحيل، قائلا: «إنها تعرف، أيها الرجل العجوز، ولماذا تشغل نفسك بهذا الأمر؟»
ما إن قال هذا، حتى جلس الآخر ثانية فوق الكرسي المصقول. وكذلك احتشد أبناء دوليوس حول أوديسيوس المجيد ورحبوا به بالكلام، وصافحوه بالأيدي، ثم جلسوا في ترتيب، بجانب أبيهم، دوليوس.
رومور يعلن في المدينة مصير المغازلين الرهيب
وهكذا انهمكوا في طعامهم في الساحات، بيد أنه في نفس ذلك الوقت كان الرسول رومور
Rumour ، يطوف بسرعة خلال المدينة في جميع أنحائها، يذيع نبأ الميتة الرهيبة ومصير المغازلين، فسمع الناس كلهم بالأمر في الحال، واحتشدوا آتين من كل صوب يبكون ويولولون أمام قصر أوديسيوس. ومن داخل الساحات أحضر كل واحد منهم من مات له، ودفنوهم. أما أولئك القادمون من المدن الأخرى فأرسلوهم كل واحد إلى منزله، واضعين إياهم فوق ظهور سفن سريعة كي يحملهم البحارة، وأما هم أنفسهم فانطلقوا سويا إلى مكان الاجتماع، محزوني الأفئدة، فلما احتشدوا والتقوا معا نهض يوبايثيس وتكلم في وسطهم؛ إذ حل في قلبه حزن ثقيل ممض من أجل موت ابنه، أنتينوس، أول رجل صرعه أوديسيوس. فخطب في حشدهم وهو يبكي ابنه، فقال: «أصدقائي، حقا لقد حاك ذلك الرجل عملا وحشيا ضد الآخيين؛ إذ قاد البعض في سفنه، رجالا كثيرين وعظماء، وفقد سفنه الواسعة، كما فقد رجاله عن بكرة أبيهم، ثم إذا به من جديد يقتل آخرين عند عودته، وهؤلاء أفضل الكيفالينيين بمراحل. كلا، هيا بنا إذن، قبل أن يذهب الرجل بسرعة إلى بولوس أو إلى إليس العظيمة، حيث يسود الإيبيون
Epeans ، دعونا نخرج إليه؛ حتى لا يكون هذا عارا يصمنا باستمرار طيلة الأيام المقبلة، فإذا لم ننتقم من قاتلي أبنائنا وإخوتنا، صار هذا عارا على كل من سمع به من الرجال الموجودين. أما بالنسبة لي فلن أستسيغ الحياة بعد الآن، بل يجدر بي أن أموت في الحال وأصبح بين الموتى. كلا، هيا بنا نخرج إليهم، لئلا يكونوا أسرع منا، ويعبروا البحر.»
ميدون يدلي بشهادة طيبة
هكذا تكلم، وهو يبكي، فتحركت عاطفة الشفقة من جميع الآخيين. بعد ذلك اقترب منهم ميدون والمنشد المقدس آتيين من ساحات أوديسيوس؛ لأن النوم كان قد حررهما، فاتخذا وقفتيهما في الوسط، ودهش كل رجل؛ عندئذ تكلم ميدون، الحكيم القلب، في وسطهم، قائلا: «استمعوا إلي الآن، يا رجال إيثاكا، فالحق أن أوديسيوس لم يقم بذلك العمل دون إرادة الآلهة الخالدين. كلا، لقد رأيت أنا نفسي إلها خالدا وقف بجانب أوديسيوس، وكان يبدو في كل شيء أشبه بمينتور ، ولكنه كان أشبه برب خالد أمام أوديسيوس يظهر تارة، مشجعا إياه، وتارة أخرى كان يثور عبر الساحة، يطارد المغازلين، فكانوا يسقطون بكثرة وفي سرعة.»
هاليثيرسيس يتهم رجال إيثاكا بالجبن
هكذا تكلم، وعندئذ استبد بهم جميعا الخوف الشاحب. وبعد ذلك قام وسطهم السيد العجوز هاليثيرسيس
Halitherses ، ابن ماستور
Mastor ؛ إذ كان وحده يرى مقدما ومؤخرا فخاطب جمعهم بنية حسنة، فقال: «أصغوا إلي الآن، يا رجال إيثاكا، واستمعوا إلى الكلمة التي سأقولها. لقد تمت هذه الأعمال بسبب جبنكم أيها الأصدقاء؛ لأنكم أبيتم إطاعة أمري، وأمر مينتور راعي الشعب، فتوقفوا أبناءكم عن حماقتهم. لقد اقترفوا عملا وحشيا في عماهم وإثمهم الشرير، مبددين ثروة أمير وغير مراعين حرمة زوجته؛ إذ اعتقدوا، أنه لن يعود بعد ذاك. إذن فليكن الأمر الآن هكذا؛ فأصغوا إلي، كما آمركم. هلموا بنا ننصرف، لئلا يجد الكثير منا أنه قد جلب المصيبة على نفسه.»
رجال إيثاكا يتسلحون بقيادة يوبايثيس
هكذا خاطبهم ولكنهم نهضوا يصيحون عاليا، أكثر من نصف عددهم، أما الباقون فقد مكثوا معا في أماكنهم؛ لأن كلامه لم يرق في نفوسهم، وإنما أصغوا إلى كلام يوبايثيس، فانطلقوا بسرعة نحو أسلحتهم. وبعد أن تدثروا بالبرونز البراق، احتشدوا سويا أمام المدينة الفسيحة. وقادهم يوبايثيس في حماقته؛ إذ كان يفكر في أن يثأر لمقتل ابنه، غير أنه لم يكن ليعود هو نفسه، وإنما كان عليه أن يلقى حتفه هناك.
زوس يعد بمساعدة أوديسيوس حتى النهاية
أما أثينا فتحدثت إلى زوس بن كرونوس، قائلة: «يا أبانا كلنا، يا ابن كرونوس، يا من تفوق كافة الأسياد، خبرني، أي هدف يخبئه عقلك الآن في باطنك. هل تنتوي إشعال نار الحرب الشريرة ووطيس المعركة المفزع. أم ستقيم الصداقة بين الفريقين؟»
عندئذ أجابها زوس، جامع السحب، فقال: «أي طفلتي، لم تسألينني وتستعلمي عن هذا؟ ألم ترسمي بنفسك خطة انتقام أوديسيوس من أولئك الرجال عند مجيئه؟ افعلي ما يحلو لك، وسأخبرك بما يليق. الآن وقد انتقم أوديسيوس العظيم من المغازلين. دعيهم يقسموا قسما مقدسا، ولتجعليه ملكا طوال أيامه، وأما نحن من جانبنا فلنسبل عليهم نسيان مقتل أبنائهم وإخوتهم؛ وانشري الود والوئام بينهم كسابق عهدهم، وأغدقي عليهم الثروة والسلام.»
ما إن قال هذا، حتى نهضت أثينا، التي كانت بالغة الحماس، وانطلقت هابطة من مرتفعات أوليمبوس.
أوديسيوس يخرج لمقابلة المتسلحين
وما إن انتهوا من الطعام العسلي المذاق، حتى كان أوديسيوس العظيم الكثير التحمل أول من تكلم وسط جماعته، قائلا: «ليذهب أحدكم وينظر ما إذا كانوا يقتربون الآن.»
هكذا قال، فانطلق أحد أبناء دوليوس، كما أمر، فلما غادر المكان حتى وقف على العتبة، ورآهم جميعا يقتربون، أسرع في الحال وقال لأوديسيوس في عبارات حماسية: «ها هم أولاء يقتربون. أسرع، هلموا نتسلح.»
ما إن قال هذا، حتى نهضوا وأعدوا أنفسهم في عددهم الحربية. كان أوديسيوس ورجاله أربعة، وكان أبناء دوليوس ستة، وكان في وسطهم لايرتيس ودوليوس يرتديان حلتيهما الحربيتين، رغم أن رأسيهما كانا رماديين، هذان المحاربان القويان. وبعد أن حصنوا أجسامهم بالبرونز البراق، فتحوا الأبواب وخرجوا، يتقدمهم أوديسيوس.
تيليماخوس يعد أوديسيوس بكل عمل جريء
عندئذ اقتربت أثينا ابنة زوس، منهم، في صورة مينتور شكلا وصوتا، فسر لرؤياها أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، وفي الحال كلم ابنه العزيز، تيليماخوس، قائلا: «أي تيليماخوس، ستعلم الآن هذا - وقد جئت بنفسك إلى مكان الوغى، حيث يعجم عود خيرة المحاربين - فلا تجلب العار على منزل آبائك؛ إذ كانت لنا اليد الطولى دائما في القوة والشجاعة على سائر البشر فوق ظهر الأرض.»
فأجابه تيليماخوس الحكيم، بقوله: «ستجدني، إذا شئت، يا أبي العزيز، في حالتي الحاضرة، غير جلاب للعار على منزلك، كما تقول تماما.»
هكذا قال، وسر لايرتيس، فتكلم، قائلا: «أعظم بهذا اليوم لي! أيتها الآلهة الطيبة، حقا إن السرور ليغمر فؤادي؛ فإن ولدي وولد ولدي يتنافسان فيما بينهما على الجرأة.»
أثينا تظهر وأوديسيوس يهجم على المقاتلين
فاقتربت منه أثينا، ذات العينين النجلاوين، في تلك الأثناء، وقالت: «يا ابن أركايسيوس، يا أعز سائر أصدقائي، صل للعذراء المتألقة العينين وإلى الأب زوس، وفي الحال ارفع إلى فوق رمحك الطويل، وأطلقه.»
هكذا تكلمت بالاس أثينا، ونفثت فيه قوة عظيمة، فصلى لايرتيس لابنة زوس العظيم، وفي الحال رفع رمحه الطويل عاليا، وقذف به، فأصاب يوبايثيس خلال خوذته البرونزية الجانبين، فلم يمنع البرونز مرور الرمح، بل اخترق البرونز الخوذة، فسقط محدثا صوتا، وجلجلت حلته الحربية من حوله. بعد ذلك هجم أوديسيوس وابنه المجيد على مقاتلي المقدمة، وأعملا فيهم الطعن بالسيوف والرماح المدببة الأسنة. وكادا يفنيانهم جميعا، ويحرمانهم عودتهم، لولا أن أثينا ابنة زوس، حامل الترس، صاحت بصوت جهوري، وأوقفت الجيش كله؛ إذ قالت: «كفوا، عن الحرب المفجعة، يا رجال إيثاكا، لكي تفترقوا بكل سرعة، دون إراقة دماء.»
السلام يسود أوديسيوس والمحاربين بأمر الآلهة
هكذا تكلمت أثينا، فاعتراهم خوف شاحب. وإذ استبد بهم الذعر، طارت الأسلحة من أيديهم بعد ذلك وسقطت كلها على الأرض، بمجرد أن أرسلت الربة صوتها، فانطلقوا متجهين شطر المدينة. تواقين إلى إنقاذ حياتهم.
وعندئذ صاح أوديسيوس العظيم الكثير التحمل، بفظاعة، وبعد أن استجمع قواه انقض عليهم كأنه نسر عالي الطيران، وفي تلك اللحظة قذف ابن كرونوس صاعقة ملتهبة، فسقطت أمام ابنة الرب العتيد، أثينا البراقة العينين، فتكلمت بعدئذ أثينا النجلاء العينين تخاطب أوديسيوس، قائلة: «يا ابن لايرتيس، المنحدر من زوس، يا أوديسيوس الواسع الحيلة، كف يدك، وأوقف نضال الحرب المتعادلة،
16
لئلا يغضب منك ابن كرونوس، زوس، الذي يحمل صوته نائيا.»
هكذا قالت أثينا فصدع بأمرها، واغتبط في قرارة فؤاده. وبعد ذلك عقد الصلح والسلام الدائم بين الفريقين بواسطة بالاس أثينا ابنة زوس، حامل الترس، وهي في صورة مينتور شكلا وصوتا.
Unknown page