Udaba Carab Fi Acsur Cabbasiyya
أدباء العرب في الأعصر العباسية
Genres
وأورد الآمدي في موازنته بين الطائيين
102
طائفة كبيرة من سرقات أبي تمام، وذكر معها الموارد التي استقى الشاعر منها، فأصاب في بعضها وأخطأ في بعضها الآخر؛ لأنه لم يبرأ من التحامل على أبي تمام والميل إلى البحتري، فقد روى له أبياتا وزعم أنها مسروقة، مع أن السرقة فيها ضعيفة غير ظاهرة، وعاب عليه أبياتا أخر دون أن يراعي معانيها الشائعة المشتركة التي لا ينفرد بها شاعر عن شاعر. (9-3) منزلته
شغل أبو تمام الناس بشعره فانقسموا حزبين: حزبا يفرط في التعصب له ويقدمه على كل سالف ومحدث، وحزبا يفرط في التعصب عليه، ويتعمد الرديء من شعره فينشره ويطوي محاسنه.
وغير عجيب أن يشتد الخلاف في هذا الشاعر، فقد حمل إلى الشعر أشياء غير مألوفة، فلم تتفق جميع الأذواق على استياغها والارتياح إليها؛ فإنه جعل الشعر صنعة، وبعد به عن الطبع السمح؛ لإسرافه في طلب التجنيس والطباق والاستعارات. قال الآمدي: «حتى صار كثير مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه إلا مع الكد والفكر، وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس.» ا.ه.
وأفرط في اتخاذ الأدلة العقلية بعد اطلاعه على كتب يونان، فازداد شعره إبهاما وتعقدا، وأصبح لا يميل إليه إلا من آثر الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، وكان لمختاراته التي جمع فيها أشعار العرب المتقدمين اليد الطولى في تضليعه من غريب اللفظ ووحشيه، فشغف به وأفرط في استعماله، حتى تأبد أكثر شعره واخشوشن، وسمج وقعه في الآذان، فضاعت فيه معانيه الحسان، فما تعثر على واحد منها إلا كما تعثر على لؤلؤة وضاءة في أكوام من الفحم؛ فأعرض سواد الرواة عن حفظه، وكان ابن الأعرابي يقول: «إن كان هذا شعرا فكلام العرب باطل.» وابن الأعرابي من أولئك العلماء الذين وقفوا على لغات العرب ومذاهبهم، وآثروا الأسلوب القديم والغريب من اللفظ على الأسلوب الجديد واللفظ الرقيق، ولكنه أنكر على أبي تمام تأبده وغموضه، وتعسفه في طلب البديع والأدلة العقلية، وبعده عن الطبع، مع أن أبا تمام كان يحب الغريب مثله ويترسم البدو في أساليبهم، غير أنه أفسد شعره بكثرة التصنع والإبهام.
وكان إذا قيل له: «لم تقول ما لا يفهم؟» قال: «لم لا تفهمون ما يقال؟!» وفي هذا الجواب من المكابرة ما يدل على اعتداد الشاعر بنفسه وارتضائه بجميع ما تفيض به قريحته، حتى إنه ليبخل ببيت ظاهر عيبه فما يسقطه من قصيدته، وكان يرد على لائمه بقوله: «أنا والله أعلم منه مثلما تعلم، ولكن مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده، فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط، وكلهم حلو في نفسه، فهو وإن أحب الفاضل لم يبغض الناقص، وإن هوي بقاء المتقدم لم يهو موت المتأخر .»
وإسراف أبي تمام في الصنعة والغريب، وبخله بشعره، من الأسباب التي كان لها الأولية في الإكثار من رديئه، فاشتهر جيده لقلته، والجيد في شعره ما اجتمع فيه حسن اللفظ والمعنى، فجاء آية في الإبداع؛ لذلك كان البحتري يقول: «جيده أحسن من جيدي، ووسطي ورديئي خير من وسطه ورديئه.»
ولو وفق أبو تمام لتجميل ديباجته كما وفق في تصيد المعاني لما بلغ شأوه بالغ؛ لأنه أوتي من جودة القريحة، وسعة الخيال، وتنبه الذهن، ما يجعل منه شاعرا لا يجارى، ولو عمل بوصيته للبحتري إذ قال له: «وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام.» لوقى شعره سقطات كثيرة، ولكن جعل همته في الغوص على المعاني ولم يعن بتقويم ألفاظه، فكان إذا لاح له المعنى أخرجه بأي لفظ اتفق له من ضعيف أو قوي، لا يعنيه منه إلا أن يدخل فيه طباقا أو جناسا، أو استعارة أو إرصادا؛ فنتج عن ذلك أن سقط معظم معانيه، فجاء بعده من أخذها عنه، وأفرغها في قالب حسن فنسبت إليه.
وعلى الجملة فإن أبا تمام شاعر عبقري يجاري أحيانا الطبقة الأولى من الشعراء المولدين، ولكنه شاعر ضل طريقه فما يلبث أن يتقهقر فتنحط منزلته عن منزلة المبرزين منهم، ولولا تعسفه وصنعته لما فضله مولد، وهو أول شاعر انكشفت له الحكمة اليونانية فاغترف من بحرها، ومهد السبيل من بعده للمتنبي وأضرابه، وأول شاعر عمد إلى التأليف فسخر له اختياره لأشعار المتقدمين من المعاني ما لم يسخر لسواه، ويمتاز شعره بطول النفس، وفخامة الابتداء، وبعد مرامي التفكير، على اندفاع عاطفي. وله المكانة العالية في الرثاء ثم في المدح، ويعد من المجددين في عصره من حيث التزام البديع، ونظم الأدلة المنطقية، والآراء الفلسفية، وقد أغنى اللغة بمعان لم تعرف قبله، كما أغناها بأنواع الاستعارة والتجنيس والطباق. (10) دعبل 765-860م/148-246ه (10-1) حياته
Unknown page