316

Udabāʾ al-ʿArab fī al-ʿuṣur al-ʿAbbāsiyya

أدباء العرب في الأعصر العباسية

Genres

ويمتاز إنشاؤه في صبغة رياضية بينة، يكثر فيها التقسيم الفيثاغوري المتشعب. وكثيرا ما يعمد إلى الأدلة المنطقية لتأييد آرائه، وغلب عليه الجدل، فإما يورد أقوال غيره ثم يقول: «فأقول في الجواب.» ويرد عليها. وإما يلقي السؤال على نفسه ويجيب عنه.

وشخصية ابن الأثير ظاهرة كل الظهور في إنشائه، تلتقيها كيف سرت، فتراه أبدا يحدثك عن نفسه، وينبه خاطرك إلى آرائه، ويدل عليك بصحة علمه وقوة استنباطه، ويملأ رأسك بكثرة دعاويه، وينفرك بلؤم طبعه وكبريائه، حتى لتحسبه وهو يتكلم على ابتداعاته، نبيا يوحى إليه: «وهداني الله لابتداع أشياء، لم تكن قبلي مبتدعة، ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة، وإنما هي متبعة. ولقد مارست الكتابة ممارسة كشفت لي عن أسرارها، وأظفرتني بكنوز جواهرها إذ لم يظفر غيري بأحجارها.» ا.ه.

وإنشاؤه على سهولته ووضوحه وحسن انسجامه لا يعد في الطراز العالي، ولا يجري به مع كبار الكتاب المتقدمين، وربما وقعت له على أشياء لا تخلو من الضعف كقوله: «وفي نفس هذا الاعتراض اعتراض آخر.» ووجه الكلام أن يكون التوكيد بعد المؤكد. على أن هذه الهنات قليلة عنده لا تكاد تذكر. (5-3) منزلته

قال ابن خلكان: «ولضياء الدين من التصانيف الدالة على غزارة فضله، وتحقيق نبله ، كتابه الذي سماه المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر، جمع فيه فأوعى، ولم يترك شيئا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره.» ا.ه.

ولا جرم أن المثل السائر من عيون الكتب التي صنفت في علم البلاغة، وقد نبل فيه صاحبه باتساق أفكاره، وقوة استنباطه، وحسن منطقه وتعليله، على جراءة في النقد والجدل، ولو لم يشنها الصلف لكانت محببة. وقد يستحسن من العلماء الاعتداد بالنفس، ولكن أن يخرج بهم إلى الغرور والكبر، فغير محمود، بل هو ممقوت. وهذا ما أصاب ضياء الدين، فإن الناس كرهوه، والعلماء حملوا عليه، وانتقدوه. وكان في جملة ناقديه ومسفهي أقواله ابن أبي الحديد المدائني.

ولكن من العدل أن نعترف بفضل ابن الأثير، فإنه في مقدمة من أوضح معالم البلاغة وأحكم الكلام على فنون الإنشاء، ورتب فصوله وأنواعه، وبين أصوله وفروعه، ودقق في جمال اللفظ المفرد والمركب، وحلى النقد الأدبي بجراءة لا تعرف هوادة ولا مداراة، ورفع بنيانه على قوة المنطق وبراعة التعليل. •••

إلى هنا انتهت بنا الأعصر العباسية بما فيها من أدب زاخر، وعلوم زاهرة. وإن في مباحث هذا الكتاب على اجتزائه بأشخاص معدودين، لصورا جلية لأطوار الشعر والنثر وما بلغا إليه من نهضة وارتفاع ثم التواء. وقد حق للأعصر العباسية أن تحمل وحدها مشعل حضارة الإسلام.

هوامش

Unknown page