Udaba Carab Fi Acsur Cabbasiyya
أدباء العرب في الأعصر العباسية
Genres
وابن المقفع، في أثناء كلامه على الصديق، ينهاك عن أشياء لا يصح التخلق بها، ويوصيك أن تحترز من سكر السلطة، وسكر العلم، وسكر المنزلة، وسكر الشباب. وهو أبدا شديد الوطأة على المرأة، فما يتركه التنفير من الولوع بها، والتحذير من التهافت على الازدياد من النساء.
ويختم كتابه بذكر الصفات الحسنة التي ينبغي للمرء أن يتحلى بها في حياته، وهي خلاصة مباحثه في الأدب الكبير.
وإنشاء الأدب الكبير خطابي محض، كله أمر ونهي، وقد خلا من الأمثال ولم يغلب عليه الأسلوب المنطقي، فقلت قياساته، فجاءت عبارته أسهل من عبارة الأدب الصغير وأوضح. (4-3) منزلته
إذا شئت أن تفسر البلاغة كما فسرها بعضهم بقوله إنها كلام قلت ألفاظه وكثرت معانيه، فقد ظلمت ابن المقفع وأخرجته من طبقة البلغاء؛ لأنه كان يجنح إلى الإسهاب أكثر منه إلى الإيجاز.
على أن هذا التفسير فيه نقص بين؛ إذ لا يصح أن تحصر البلاغة في الكلام الموجز المفيد، وللإسهاب إذا خلا من الحشو والتطويل نصيب منها غير يسير. وأحسن من هذا التفسير قول ابن المقفع: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.» والجاهل لا يتفهم الكلام إلا إذا كان سهلا واضحا، فإن فهمه طمعت نفسه في احتذائه، غير عالم أن البليغ السهل صعب الرياضة بعيد المنال؛ ذلك أن تتبع الألفاظ الفصيحة المأنوسة، واجتناب الألفاظ الغريبة يجعل نطاق اللغة ضيقا، ومادتها قليلة، ولأن يدخل الكاتب على البلاغة من طريقها الوعر أيسر له من أن يسلك إليها السهل الممتنع، وابن المقفع سلكه مطمئنا، ثابت الأقدام، فنال من معجزها ما لم ينله سواه، ولطالما أوصى الكاتب بترسم خطاه، فقال: «إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر.»
وهو كغيره من المتقدمين لا يحفل بتسجيع الألفاظ وتزويقها، ولا يقصد إليه البتة إلا ما جاء عفوا، وقضت به الفصاحة في أثناء الكلام. ولم يؤثر أصله الفارسي في صحة طبعه ، مع أن الفرس أهل حضارة قديمة تميل بهم إلى الزخرف والتزيين، وسبب ذلك أنه نشأ زمن بني أمية نشأة عربية خالصة، بعيدة من التصنع والتكلف، نازعة إلى البداوة والفطرة. ثم إن الفرس لم يكن لهم في أيامه الأثر البليغ الذي صار لهم فيما بعد، فانطبع إنشاؤه على بلاغة العرب وفطرتهم، وخلص من تمويه الحضارة الجديدة وتزويقها، فجاء متنوع العبارة، يجري مع الطبع.
على أن بعد الكاتب من التعمل لا يعني أنه لم يكن يتخير ألفاظه وينتقيها؛ فلقد كان كالصائغ الماهر كثرت جواهره، فأحسن اختيار فرائدها. قال الراغب الأصبهاني: «كان ابن المقفع كثيرا ما يقف إذا كتب. فقيل له في ذلك فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره.»
وامتاز في حلاوة ألفاظه ورصانتها، وطول نفسه، وبعده من الغلو، وفي اتساق أفكاره وحسن تساوقها، واستيفاء القياس وقوة المنطق، والغوص على المعنى الفلسفي الدقيق. قال فيه أبو العيناء: «كلامه صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح. كأن بيانه لؤلؤ منثور، وروض ممطور.»
والأقوال فيه كثيرة، وكلها تدل على منزلته الرفيعة في دولة النثر، وتظهر ما كان لأسلوبه من الأثر الكبير في عصره؛ مما جعل بلغاء الكتاب يضربون على غراره، وحسبك منهم سهل بن هارون.
وابن المقفع عجمي التفكير في جميع مؤلفاته، ليس له من العرب إلا اللغة وروح الإسلام، وقلما استشهد بأشعارهم وأقوالهم، ولكن فضله على العربية عظيم، فإنه أول من أدخل إليها الحكمة الفارسية الهندية، ومنطق اليونان، والطريقة الفيثاغورية، وعلم الأخلاق، وسياسة الاجتماع، فذلل أوضاعها لمباحث عقلية لا عهد لها بها، ووطأ السبيل للفارابي وابن سينا من بعده.
Unknown page