[مُقَدِّمَة الْكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا، أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَهَدَى بِنُورِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ، وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى، وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ، وَفَتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
[الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ]
أَمَّا بَعْدُ: وَسَأَلْت عَنْ الْحَاكِمِ، أَوْ الْوَالِي يَحْكُمُ بِالْفِرَاسَةِ وَالْقَرَائِنِ الَّتِي يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا الْحَقُّ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَلَا يَقِفُ مَعَ مُجَرَّدِ ظَوَاهِرِ الْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارِ، حَتَّى إنَّهُ رُبَّمَا يَتَهَدَّدُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ، إذَا ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ مُبْطِلٌ وَرُبَّمَا ضَرَبَهُ، وَرُبَّمَا سَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ تَدُلُّهُ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ.
فَهَلْ ذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ؟ فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةُ النَّفْعِ، جَلِيلَةُ الْقَدْرِ، إنْ أَهْمَلَهَا الْحَاكِمُ أَوْ الْوَالِي أَضَاعَ حَقًّا كَثِيرًا، وَأَقَامَ بَاطِلًا كَثِيرًا، وَإِنْ تَوَسَّعَ فِيهَا وَجَعَلَ مُعَوِّلَهُ عَلَيْهَا، دُونَ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ، وَقَعَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ حُكْمًا بِالْفِرَاسَةِ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ بِالْأَمَارَاتِ. وَإِذَا تَأَمَّلْتُمْ الشَّرْعَ وَجَدْتُمُوهُ يُجَوِّزُ التَّعْوِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ ﵀ إلَى التَّوَصُّلِ بِالْإِقْرَارِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ وَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٢٦] وَلِذَا حَكَمْنَا بِعَقْدِ الْأَزَجِ، وَكَثْرَةِ الْخُشُبِ فِي
1 / 3
الْحَائِطِ، وَمَعَاقِدِ الْقُمُطِ فِي الْخُصِّ، وَمَا يَخُصُّ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلَ فِي الدَّعَاوَى.
وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَطَّارِ وَالدَّبَّاغِ إذَا اخْتَصَمَا فِي الْجِلْدِ، وَالنَّجَّارِ وَالْخَيَّاطِ إذَا تَنَازَعَا فِي الْمِنْشَارِ وَالْقَدُومِ، وَالطَّبَّاخِ وَالْخَبَّازِ إذَا تَنَازَعَا فِي الْقِدْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَلْ ذَلِكَ إلَّا الِاعْتِمَادُ عَلَى الْأَمَارَاتِ؟ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْقَافَةِ وَالنَّظَرِ فِي أَمْرِ الْخُنْثَى؛ وَالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَحَدِ حَالَيْهِ. وَالنَّظَرِ فِي أَمَارَاتِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَاللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ. انْتَهَى.
فَالْحَاكِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهَ النَّفْسِ فِي الْأَمَارَاتِ، وَدَلَائِلِ الْحَالِ، وَمَعْرِفَةِ شَوَاهِدِهِ، وَفِي الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَالْمَقَالِيَّةِ، كَفِقْهِهِ فِي جُزْئِيَّاتِ وَكُلِّيَّاتِ الْأَحْكَامِ: أَضَاعَ حُقُوقًا كَثِيرَةً عَلَى أَصْحَابِهَا. وَحَكَمَ بِمَا يَعْلَمُ النَّاسُ بُطْلَانَهُ لَا يَشُكُّونَ فِيهِ، اعْتِمَادًا مِنْهُ عَلَى نَوْعٍ ظَاهِرٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى بَاطِنِهِ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِ. فَهَاهُنَا نَوْعَانِ مِنْ الْفِقْهِ، لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْهُمَا: فِقْهٌ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الْكُلِّيَّةِ، وَفِقْهٌ فِي نَفْسِ الْوَاقِعِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ، يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ، وَالْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ. ثُمَّ يُطَابِقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَيُعْطِي الْوَاقِعَ حُكْمَهُ مِنْ الْوَاجِبِ، وَلَا يَجْعَلُ الْوَاجِبَ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ. وَمَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَاطِّلَاعٌ عَلَى كَمَالَاتِهَا وَتَضَمُّنِهَا لِغَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَجِيئِهَا بِغَايَةِ الْعَدْلِ، الَّذِي يَسَعُ الْخَلَائِقَ، وَأَنَّهُ لَا عَدْلَ فَوْقَ عَدْلِهَا، وَلَا مَصْلَحَةَ فَوْقَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَصَالِحِ: تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَفَرْعٌ مِنْ فُرُوعِهَا، وَأَنَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَقَاصِدِهَا وَوَضْعِهَا وَحَسُنَ فَهْمُهُ فِيهَا: لَمْ يَحْتَجْ مَعَهَا إلَى سِيَاسَةِ غَيْرِهَا أَلْبَتَّةَ.
فَإِنَّ السِّيَاسَةَ نَوْعَانِ: سِيَاسَةٌ ظَالِمَةٌ فَالشَّرِيعَةُ تُحَرِّمُهَا، وَسِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنْ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ، فَهِيَ مِنْ الشَّرِيعَةِ، عَلِمَهَا مَنْ عَلِمَهَا، وَجَهِلَهَا مَنْ جَهِلَهَا.
وَلَا تَنْسَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَ سُلَيْمَانَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ لِلْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ادَّعَتَا الْوَلَدَ. فَحَكَمَ بِهِ دَاوُد
1 / 4
ﷺ لِلْكُبْرَى فَقَالَ سُلَيْمَانُ " ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا " فَسَمَحَتْ الْكُبْرَى بِذَلِكَ فَقَالَتْ الصُّغْرَى: " لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُك اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا " فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى، فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَاسْتَدَلَّ بِرِضَا الْكُبْرَى بِذَلِكَ، وَأَنَّهَا قَصَدَتْ الِاسْتِرْوَاحَ إلَى التَّأَسِّي بِمُسَاوَاةِ الصُّغْرَى فِي فَقْدِ وَلَدِهَا، وَبِشَفَقَةِ الصُّغْرَى عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعِهَا مِنْ الرِّضَا بِذَلِكَ: عَلَى أَنَّهَا هِيَ أُمُّهُ، وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ هُوَ مَا قَامَ بِقَلْبِهَا مِنْ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْأُمِّ، وَقَوِيَتْ هَذِهِ الْقَرِينَةُ عِنْدَهُ، حَتَّى قَدَّمَهَا عَلَى إقْرَارِهَا، فَإِنَّهُ حَكَمَ بِهِ لَهَا مَعَ قَوْلِهَا " هُوَ ابْنُهَا ".
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ إذَا كَانَ لِعِلَّةٍ اطَّلَعَ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ أَبَدًا.
وَلِذَلِكَ أَلْغَيْنَا إقْرَارَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِمَالٍ لِوَارِثِهِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ التُّهْمَةِ وَاعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ فِي قَصْدِهِ تَخْصِيصَهُ.
وَمِنْ تَرَاجِمِ قُضَاةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ تَرْجَمَةُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ " قَالَ: " التَّوْسِعَةُ لِلْحَاكِمِ فِي أَنْ يَقُولَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ أَفْعَلُ كَذَا؛ لِيَسْتَبِينَ بِهِ الْحَقَّ ".
ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً أُخْرَى أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ، فَقَالَ: " الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، إذَا تَبَيَّنَ لِلْحَاكِمِ أَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ " فَهَكَذَا يَكُونُ الْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
ثُمَّ تَرْجَمَ عَلَيْهِ تَرْجَمَةً أُخْرَى فَقَالَ: " نَقْضُ الْحَاكِمِ مَا حَكَمَ بِهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ أَجَلُّ مِنْهُ " فَهَذِهِ ثَلَاثُ قَوَاعِدَ وَرَابِعَةٌ: وَهِيَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهِيَ الْحُكْمُ بِالْقَرَائِنِ وَشَوَاهِدِ الْحَالِ.
وَخَامِسَةٌ: وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ الْوَلَدَ لَهُمَا، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَهَذِهِ خَمْسُ سُنَنٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الشَّاهِدِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ شَهَادَتَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعِبْهُ بَلْ حَكَاهَا مُقَرِّرًا لَهَا، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٥] ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٢٦] ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٢٧] ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ [يوسف: ٢٨]
1 / 5
فَتَوَصَّلَ بِقَدِّ الْقَمِيصِ إلَى مَعْرِفَةِ الصَّادِقِ مِنْهُمَا مِنْ الْكَاذِبِ.
وَهَذَا لَوْثٌ فِي أَحَدِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، يُبَيِّنُ بِهِ أَوْلَاهُمَا بِالْحَقِّ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ اللَّوْثَ فِي دَعْوَى الْمَالِ فِي قِصَّةِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَأَمَرَ بِالْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ.
«وَحَكَمَ النَّبِيُّ ﷺ بِمُوجِبِ اللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ، وَجَوَّزَ لِلْمُدَّعِينَ أَنْ يَحْلِفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا، وَيَسْتَحِقُّونَ دَمَ الْقَتِيلِ»، فَهَذَا لَوَثٌ فِي الدِّمَاءِ، وَاَلَّذِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ لَوْثٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَاَلَّذِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ لَوْثٌ فِي الدَّعْوَى فِي الْعِرْضِ وَنَحْوِهِ.
وَهَذَا حُكْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ وَالصَّحَابَةِ مَعَهُ ﵃ بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ظَهَرَ بِهَا الْحَبَلُ، وَلَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ.
وَذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ - فِي أَصَحِّ رِوَايَتَيْهِ - اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَحَكَمَ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ ﵄ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ - بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِرَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ فِي الرَّجُلِ، أَوْ قَيْئِهِ خَمْرًا، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ.
وَلَمْ تَزَلْ الْأَئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ يَحْكُمُونَ بِالْقَطْعِ إذَا وُجِدَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْمُتَّهَمِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهُمَا خَبَرَانِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِمَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَوُجُودُ الْمَالِ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ شُبْهَةٌ، وَهَلْ يَشُكُّ أَحَدٌ رَأَى قَتِيلًا يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ، وَآخَرَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ بِالسِّكِّينِ: أَنَّهُ قَتَلَهُ؟ وَلَا سِيَّمَا إذَا عُرِفَ بِعَدَاوَتِهِ، وَلِهَذَا جَوَّزَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنْ يَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ قَتَلَهُ، ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يُقْتَلُ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْضَى عَلَيْهِ بِدِيَتِهِ وَكَذَلِكَ إذَا رَأَيْنَا رَجُلًا مَكْشُوفَ الرَّأْسِ - وَلَيْسَ ذَلِكَ عَادَتَهُ - وَآخَرَ هَارِبًا قُدَّامَهُ بِيَدِهِ
1 / 6
عِمَامَةٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ: حَكَمْنَا لَهُ بِالْعِمَامَةِ الَّتِي بِيَدِ الْهَارِبِ قَطْعًا، وَلَا نَحْكُمُ بِهَا لِصَاحِبِ الْيَدِ الَّتِي قَدْ قَطَعْنَا وَجَزَمْنَا بِأَنَّهَا يَدٌ ظَالِمَةٌ غَاصِبَةٌ بِالْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ.
وَهَلْ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ إلَّا رُجُوعٌ إلَى مُجَرَّدِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، الَّتِي عَلِمْنَا بِهَا ظَاهِرًا أَنَّهُ لَوْلَا صِدْقُ الْمُدَّعِي لَدَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَاهُ بِالْيَمِينِ؟ فَلَمَّا نَكَلَ عَنْهَا كَانَ نُكُولُهُ قَرِينَةً ظَاهِرَةً، دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، فَقُدِّمَتْ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ أَقْوَى مِنْ النُّكُولِ، وَالْحِسُّ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ تَعْطِيلُ شَهَادَتِهَا؟ وَمِنْ ذَلِكَ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ الزُّبَيْرَ أَنْ يُقَرِّرَ عَمَّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ بِالْعَذَابِ عَلَى إخْرَاجِ الْمَالِ الَّذِي غَيَّبَهُ، وَادَّعَى نَفَادَهُ فَقَالَ لَهُ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ» .
فَهَاتَانِ قَرِينَتَانِ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ: كَثْرَةُ الْمَالِ، وَقِصَرُ الْمُدَّةِ الَّتِي يُنْفَقُ كُلُّهُ فِيهَا.
وَشَرْحُ ذَلِكَ: «أَنَّهُ ﷺ لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ الْمَدِينَةِ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، غَيْرَ الْحَلَقَةِ وَالسِّلَاحِ، وَكَانَ لِابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ مَالٌ عَظِيمٌ - بَلَغَ مِسْكَ ثَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَحُلِيٍّ - فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْبَرَ - وَكَانَ بَعْضُهَا عَنْوَةً وَبَعْضُهَا صُلْحًا - فَفَتَحَ أَحَدَ جَانِبَيْهَا صُلْحًا. وَتَحَصَّنَ أَهْلُ الْجَانِبِ الْآخَرِ. فَحَصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ، وَأَرْسَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنْزِلُ فَأُكَلِّمْك، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ فَنَزَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. وَتَرْكِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا بِذَرَارِيِّهِمْ، وَيُخَلُّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَرْضٍ، وَعَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْكُرَاعِ وَالْحَلَقَةِ، إلَّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ، اللَّهِ ﷺ: وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ» .
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ، فَغَلَبَ عَلَى الزَّرْعِ وَالْأَرْضِ وَالنَّخْلِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يُجْلَوْا مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى خَيْبَرَ، حِينَ أُجْلِيَتْ النَّضِيرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمِّ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ النَّضِيرِ؟ قَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ، قَالَ الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ
1 / 7
مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الزُّبَيْرِ، فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ خَرِبَةً، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَاهُنَا. فَذَهَبُوا فَطَافُوا، فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِي الْخَرِبَةِ. فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ - وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صَفِيَّةَ - بِالنَّكْثِ الَّذِي نَكَثُوا» .
فَفِي هَذِهِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى شَوَاهِدِ الْحَالِ وَالْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ وَعُقُوبَةُ أَهْلِ التُّهَمِ، وَجَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى الشَّرْطِ، وَانْتِقَاضُ الْعَهْدِ إذَا خَالَفُوا مَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ وَفِيهِ مِنْ الْحُكْمِ: إخْزَاءُ اللَّهِ لِأَعْدَائِهِ بِأَيْدِيهِمْ وَسَعْيِهِمْ، وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُطْلِعَ رَسُولَهُ عَلَى الْكَنْزِ فَيَأْخُذَهُ عَنْوَةً.
وَلَكِنْ كَانَ فِي أَخْذِهِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ، وَإِخْزَاءِ الْكَفَرَةِ أَنْفُسَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ مَا فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ «أَنَّ ابْنَ عَمِّ كِنَانَةَ اعْتَرَفَ بِالْمَالِ حِينَ دَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى الزُّبَيْرِ فَعَذَّبَهُ» .
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ إذَا ظَهَرَ مَعَهُ الْمَالُ، وَأَنَّهُ إذَا عُوقِبَ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِالْمَالِ الْمَسْرُوقِ، فَأَقَرَّ بِهِ وَظَهَرَ عِنْدَهُ: قُطِعَتْ يَدُهُ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ.
وَلَيْسَ هَذَا إقَامَةً لِلْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ بِوُجُودِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ مَعَهُ الَّذِي تُوُصِّلَ إلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ.
1 / 8
[فَصَلِّ فِي صُوَر للحكم بِالْقَرِينَةِ]
١ - (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ ﵁ لِلظَّعِينَةِ الَّتِي حَمَلَتْ كِتَابَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فَأَنْكَرَتْهُ. فَقَالَ لَهَا: " لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنك " فَلَمَّا رَأَتْ الْجَدَّ أَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا.
وَعَلَى هَذَا: إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ الْفَلَسَ، وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ مَعَهُ، فَقَالَ الْمُدَّعِي لِلْحَاكِمِ: الْمَالُ مَعَهُ وَسَأَلَ تَفْتِيشَهُ وَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ، لِيَصِلَ صَاحِبُ الْحَقِّ إلَى حَقِّهِ.
«وَقَدْ كَانَ الْأَسْرَى مِنْ قُرَيْظَةَ يَدَّعُونَ عَدَمَ الْبُلُوغِ فَكَانَ الصَّحَابَةُ يَكْشِفُونَ عَنْ مَآزِرِهِمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَعْلَمُونَ بِذَلِكَ الْبَالِغَ مِنْ غَيْرِهِ»، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فِي مَسْأَلَةِ الْهَارِبِ - وَفِي يَدِهِ عِمَامَةٌ وَعَلَى رَأْسِهِ أُخْرَى، وَآخَرُ حَاسِرَ الرَّأْسِ خَلْفَهُ - عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّ الْعِمَامَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لِظُهُورِ صِدْقِ صَاحِبِ الْيَدِ إلَى هَذَا الْعِلْمِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.
فَكَيْفَ تُقَدَّمُ الْيَدُ - الَّتِي غَايَتُهَا أَنْ تُفِيدَ ظَنًّا مَا، عِنْدَ عَدَمِ الْعَارِضِ - عَلَى هَذَا الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الْيَقِينِيِّ، وَيُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الشَّرِيعَةِ.
٢ - (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ الْمُلْتَقِطَ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ إلَى وَاصِفِهَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَ عِفَاصَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا كَذَلِكَ» فَجَعَلَ وَصْفَهُ لَهَا قَائِمًا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ وَصْفُهُ لَهَا أَظْهَرَ
1 / 9
وَأَصْدَقَ مِنْ الْبَيِّنَةِ.
وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَمَالِك الدَّارِ إذَا تَنَازَعَا دَفِينًا فِي الدَّارِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ وَصَفَهُ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ.
وَهَذَا مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِ وَفَهْمِهِ ﵁ وَسُئِلَ عَنْ الْبَلَدِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْكُفَّارُ، ثُمًّ يَفْتَحُهُ الْمُسْلِمُونَ، فَتُوجَدُ فِيهِ أَبْوَابٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا كِتَابَةَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا وَقْفٌ: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِذَلِكَ، لِقُوَّةِ هَذِهِ الْأَمَارَةِ وَظُهُورِهَا.
٣ - (فَصْلٌ) وَكَذَلِكَ: اللَّقِيطُ إذَا تَدَاعَاهُ اثْنَانِ، وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً خَفِيَّةً بِجَسَدِهِ حُكِمَ لَهُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
٤ - (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ: «حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ ﵃ بِالْقَافَةِ»، وَجَعْلِهَا دَلِيلًا مِنْ أَدِلَّةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا إلَّا مُجَرَّدُ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ.
قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: وَمِنْ الْعَجَبِ إنْكَارٌ لِحُقُوقِ النَّسَبِ بِالْقَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَعَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَحَكَمَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ وَإِلْحَاقُ النَّسَب فِي مَسْأَلَةِ مَنْ تَزَوَّجَ بِأَقْصَى الْمَغْرِبِ امْرَأَةً بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ، وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةُ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِوَلَدٍ، أَوْ تَزَوَّجَهَا، ثُمَّ قَالَ عَقِيبَ الْعَقْدِ: هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ: أَنَّهُ يَكُونُ ابْنَهُ لِأَنَّهَا فِرَاشٌ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِهَذَا الْعَقْدِ بِمُجَرَّدِهِ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ. لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِرَاشًا لَهُ، وَلَا يَلْحَقُهُ حَتَّى يَدَّعِيَهُ، فَيَلْحَقُهُ بِالدَّعْوَى لَا بِالْفِرَاشِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ اسْتِشْهَادُ ابْنِ عَقِيلٍ بِاللَّوْثِ فِي الْقَسَامَةِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِشْهَادِ فَإِنَّهُ اعْتِمَادٌ عَلَى ظَاهِرِ الْأَمَارَاتِ الْمُغَلِّبَةِ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ - بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ - أَنْ يُثْبِتَ لَهُ حَقَّ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَشْهَدْ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الدِّمَاءِ الْمَبْنِيِّ أَمْرُهَا عَلَى الْحَظْرِ وَالِاحْتِيَاطِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهَا؟ .
وَمِنْ ذَلِكَ: فَإِنَّا نَحْكُمُ بِقَتْلِ الْمَرْأَةِ، أَوْ بِحَبْسِهَا إذَا نَكَلَتْ عَنْ اللِّعَانِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّا نَحُدُّهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ [النور: ٨] وَالْعَذَابُ هَاهُنَا: هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٢] فَأَضَافَهُ أَوَّلًا، وَعَرَّفَهُ بِاللَّامِ ثَانِيًا، وَهُوَ عَذَابٌ وَاحِدٌ.
1 / 10
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نُكُولَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَقْوَى الْأَمَارَاتِ عَلَى صِدْقِ الزَّوْجِ، فَقَامَ لِعَانُهُ وَنُكُولُهَا مَقَامَ الشُّهُودِ.
٥ - (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ «أَنَّ ابْنَيْ عَفْرَاءَ لَمَّا تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ ﷺ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ . قَالَا: لَا، قَالَ فَأَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا. فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِمَا، قَالَ لِأَحَدِهِمَا: هَذَا قَتَلَهُ وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ» .
وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ، وَأَحَقِّهَا بِالِاتِّبَاعِ، فَالدَّمُ فِي النَّصْلِ شَاهِدٌ عَجِيبٌ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْبَيِّنَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ وَمَنْ خَصَّهَا بِالشَّاهِدَيْنِ، أَوْ الْأَرْبَعَةِ، أَوْ الشَّاهِدِ لَمْ يُوَفِّ مُسَمَّاهَا حَقَّهُ.
وَلَمْ تَأْتِ الْبَيِّنَةُ قَطُّ فِي الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهَا الشَّاهِدَانِ وَإِنَّمَا أَتَتْ مُرَادًا بِهَا الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، مُفْرَدَةً مَجْمُوعَةً وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» الْمُرَادُ بِهِ: أَنَّ عَلَيْهِ بَيَانُ مَا يُصَحِّحُ دَعْوَاهُ لِيَحْكُمَ لَهُ، وَالشَّاهِدَانِ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيِّنَةِ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهَا، لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي.
فَإِنَّهَا أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ إخْبَارِ الشَّاهِدِ، وَالْبَيِّنَةُ وَالدَّلَالَةُ وَالْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ وَالْآيَةُ وَالتَّبْصِرَةُ وَالْعَلَامَةُ وَالْأَمَارَةُ: مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَرَدْت السَّفَرَ إلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْت لَهُ: إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ: إذَا أَتَيْت وَكِيلِي فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا،
1 / 11
فَإِذَا طَلَبَ مِنْك آيَةً، فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ» فَهَذَا اعْتِمَادٌ فِي الدَّفْعِ إلَى الطَّالِبِ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَلَامَةِ، وَإِقَامَةٌ لَهَا مَقَامَ الشَّاهِدِ.
فَالشَّارِعُ لَمْ يُلْغِ الْقَرَائِنَ وَالْأَمَارَاتِ وَدَلَالَاتِ الْأَحْوَالِ، بَلْ مَنْ اسْتَقْرَأَ الشَّرْعَ فِي مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ وَجَدَهُ شَاهِدًا لَهَا بِالِاعْتِبَارِ، مُرَتِّبًا عَلَيْهَا الْأَحْكَامَ وَقَوْلُ أَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ: " لَيْسَ هَذَا فِرَاسَةً "، فَيُقَالُ: وَلَا مَحْذُورَ فِي تَسْمِيَتِهِ فِرَاسَةً، فَهِيَ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ.
وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفِرَاسَةَ وَأَهْلَهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥] وَهُمْ الْمُتَفَرِّسُونَ الْآخِذُونَ بِالسِّيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ، يُقَالُ: تَفَرَّسْت فِيك كَيْتَ وَكَيْتَ وَتَوَسَّمْته.
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [محمد: ٣٠] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٣] وَفِي " جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ " مَرْفُوعًا: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥]» .
[فَصَلِّ فِي الْعَمَل فِي السَّلْطَنَة بِالسِّيَاسَةِ الشَّرِيعَة]
٦ - (فَصْلٌ) وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ ": جَرَى فِي جَوَازِ الْعَمَلِ فِي السَّلْطَنَةِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ: أَنَّهُ هُوَ الْحَزْمُ، وَلَا يَخْلُو مِنْ الْقَوْلِ بِهِ إمَامٌ.
فَقَالَ شَافِعِيٌّ: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ. فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلًا يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ ﷺ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ، فَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك: " إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ " أَيْ لَمْ يُخَالِفْ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَصَحِيحٌ.
وَإِنْ أَرَدْت: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ: فَغَلَطٌ، وَتَغْلِيطٌ لِلصَّحَابَةِ فَقَدْ جَرَى مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ الْقَتْلِ وَالتَّمْثِيلِ مَا لَا يَجْحَدُهُ عَالِمٌ بِالسُّنَنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا تَحْرِيقُ عُثْمَانَ الْمَصَاحِفَ.
1 / 12
فَإِنَّهُ كَانَ رَأْيًا اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ، وَتَحْرِيقُ عَلِيٍّ ﵁ الزَّنَادِقَةَ فِي الْأَخَادِيدِ وَقَالَ:
لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا ... أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرًا
وَنَفْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ لِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ. اهـ. وَهَذَا مَوْضِعُ مَزَلَّةِ أَقْدَامٍ، وَمَضَلَّةِ أَفْهَامٍ، وَهُوَ مَقَامٌ ضَنْكٌ، وَمُعْتَرَكٌ صَعْبٌ، فَرَّطَ فِيهِ طَائِفَةٌ، فَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَضَيَّعُوا الْحُقُوقَ، وَجَرَّءُوا أَهْلَ الْفُجُورِ عَلَى الْفَسَادِ، وَجَعَلُوا الشَّرِيعَةَ قَاصِرَةً لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، مُحْتَاجَةً إلَى غَيْرِهَا، وَسَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ طُرُقًا صَحِيحَةً مِنْ طُرُقِ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالتَّنْفِيذِ لَهُ، وَعَطَّلُوهَا، مَعَ عِلْمِهِمْ وَعِلْمِ غَيْرِهِمْ قَطْعًا أَنَّهَا حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، ظَنًّا مِنْهُمْ مُنَافَاتِهَا لِقَوَاعِد الشَّرْعِ.
وَلَعَمْرُ اللَّهِ إنَّهَا لَمْ تُنَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ وَإِنْ نَافَتْ مَا فَهِمُوهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَاَلَّذِي أَوْجَبَ لَهُمْ ذَلِكَ: نَوْعُ تَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ، وَتَقْصِيرٍ فِي مَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ، وَتَنْزِيلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَمَّا رَأَى وُلَاةُ الْأُمُورِ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّاسَ لَا يَسْتَقِيمُ لَهُمْ أَمْرُهُمْ إلَّا بِأَمْرٍ وَرَاءَ مَا فَهِمَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشَّرِيعَةِ، أَحْدَثُوا مِنْ أَوْضَاعِ سِيَاسَاتِهِمْ شَرًّا طَوِيلًا، وَفَسَادًا عَرِيضًا فَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَتَعَذَّرَ اسْتِدْرَاكُهُ، وَعَزَّ عَلَى الْعَالِمِينَ بِحَقَائِق الشَّرْعِ تَخْلِيصُ النُّفُوسِ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتِنْقَاذُهَا مِنْ تِلْكَ الْمَهَالِكِ.
وَأَفْرَطَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى قَابَلَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةَ، فَسَوَّغَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا يُنَافِي حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ أُتِيَتْ مِنْ تَقْصِيرِهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ.
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ.
فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيْ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَأَعْدَلُ أَنْ يَخُصَّ طُرُقَ الْعَدْلِ وَأَمَارَاتِهِ وَأَعْلَامَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَنْفِي مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهَا وَأَقْوَى دَلَالَةً، وَأَبْيَنُ أَمَارَةً.
فَلَا يَجْعَلُهُ مِنْهَا، وَلَا يَحْكُمُ عِنْدَ وُجُودِهَا وَقِيَامِهَا بِمُوجِبِهَا، بَلْ قَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الطُّرُقِ، أَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ الْعَدْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَقِيَامُ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ فَهِيَ مِنْ الدِّينِ، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهُ.
1 / 13
فَلَا يُقَالُ: إنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ مُخَالِفَةٌ لِمَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا سِيَاسَةً تَبَعًا لِمُصْطَلَحِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ عَدْلُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ.
«فَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي تُهْمَةٍ، وَعَاقَبَ فِي تُهْمَةٍ، لَمَّا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الرِّيبَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ»، فَمَنْ أَطْلَقَ كُلَّ مُتَّهَمٍ وَحَلَّفَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ - مَعَ عِلْمِهِ بِاشْتِهَارِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَكَثْرَةِ سَرِقَاتِهِ، وَقَالَ: لَا آخُذُهُ إلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ - فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
«وَقَدْ مَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَالَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ سَهْمَهُ، وَحَرَقَ مَتَاعَهُ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ» «وَمَنَعَ الْقَاتِلَ مِنْ السَّلَبِ لَمَّا أَسَاءَ شَافِعُهُ عَلَى أَمِيرِ السَّرِيَّةِ»، فَعَاقَبَ الْمَشْفُوعَ لَهُ عُقُوبَةً لِلشَّفِيعِ. «وَعَزَمَ عَلَى تَحْرِيقِ بُيُوتِ تَارِكِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ» . «وَأَضْعَفَ الْغُرْمَ عَلَى سَارِقِ مَا لَا قَطْعَ فِيهِ، وَشَرَعَ فِيهِ جَلَدَاتٍ، نَكَالًا وَتَأْدِيبًا» «وَأَضْعَفَ الْغُرْمَ عَلَى كَاتِمِ الضَّالَّةِ عَنْ صَاحِبِهَا» .
1 / 14
وَقَالَ فِي تَارِكِ الزَّكَاةِ: «إنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا» . «وَأَمَرَ بِكَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ» . «وَأَمَرَ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي طُبِخَ فِيهَا اللَّحْمُ الْحَرَامُ. ثُمَّ نُسِخَ عَنْهُمْ الْكَسْرُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْغَسْلِ» .
«وَأَمَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ، فَسَجَرَهُمَا فِي التَّنُّورِ» . «وَأَمَرَ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَتَهَا أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَهَا» . «وَأَمَرَ بِقَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ»، وَلَمْ يَنْسَخْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ حَدًّا لَا بُدَّ مِنْهُ بَلْ
1 / 15
هُوَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ زَادَ عُمَرُ ﵁ عَنْهُ فِي الْحَدِّ عَنْ الْأَرْبَعِينَ وَنَفَى فِيهَا.
«وَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقَتْلِ الَّذِي كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَصِيٌّ تَرَكَهُ» «وَأَمَرَ بِإِمْسَاكِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي أَوْمَأَتْ الْجَارِيَةُ بِرَأْسِهَا أَنَّهُ رَضَخَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَأُخِذَ فَأَقَرَّ فَرُضِخَ رَأْسُهُ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْمُتَّهَمِ إذَا قَامَتْ قَرِينَةُ التُّهْمَةِ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَلَا أَقَرَّ اخْتِيَارًا مِنْهُ لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا هُدِّدَ أَوْ ضُرِبَ فَأَقَرَّ، وَكَذَلِكَ الْعُرَنِيُّونَ فَعَلَ بِهِمْ مَا فَعَلَ بِنَاءً عَلَى شَاهِدِ الْحَالِ وَلَمْ يَطْلُبْ بَيِّنَةً بِمَا فَعَلُوا، وَلَا وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى إقْرَارِهِمْ.
[فَصَلِّ فِي صُوَر لِلْعَمَلِ بِالسَّلْطَنَةِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّة]
٧ - (فَصْلٌ) وَسَلَكَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِمَنْ طَلَبَهُ فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ﵁ حَرَّقَ اللُّوطِيَّةَ، وَأَذَاقَهُمْ حَرَّ النَّارِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا رَأَى الْإِمَامُ تَحْرِيقَ اللُّوطِيِّ فَلَهُ ذَلِكَ. فَإِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ﵁ كَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ﵁ " أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ " فَاسْتَشَارَ الصِّدِّيقُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ﵁ وَكَانَ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا، فَقَالَ: " إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، أَرَى أَنْ يُحَرَّقُوا بِالنَّارِ فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَنْ يُحَرَّقُوا بِالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ
1 / 16
إلَى خَالِدٍ " أَنْ يُحَرَّقُوا " فَحَرَقَهُمْ.
ثُمَّ حَرَقَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي خِلَافَتِهِ. ثُمَّ حَرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَحَرَقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ﵁ حَانُوتَ الْخَمَّارِ بِمَا فِيهِ. وَحَرَقَ قَرْيَةً يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ. وَحَرَقَ قَصْرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا احْتَجَبَ فِي قَصْرِهِ عَنْ الرَّعِيَّةِ. فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ﵀ فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ صَالِحٍ: أَنَّهُ دَعَا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: " اذْهَبْ إلَى سَعْدٍ بِالْكُوفَةِ، فَحَرِّقْ عَلَيْهِ قَصْرَهُ، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي " فَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إلَى الْكُوفَةِ، فَاشْتَرَى مِنْ نَبَطِيٍّ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ حَمْلَهَا إلَى قَصْرِ سَعْدٍ. فَلَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ أَلْقَى الْحُزْمَةَ فِيهِ، وَأَضْرَمَ فِيهَا النَّارَ، فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " قَالَ: " عَزْمَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَهُ حَتَّى احْتَرَقَ. ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ سَعْدٌ نَفَقَةً، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ قَالَ لَهُ: " هَلَّا قَبِلْت نَفَقَتَهُ؟ " فَقَالَ: " إنَّك قُلْت: لَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ".
وَحَلَقَ عُمَرُ رَأْسَ نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ، وَنَفَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ لِتَشْبِيبِ النِّسَاءِ بِهِ وَضَرَبَ صَبِيغَ بْن عُسَيْلٍ التَّمِيمِيَّ عَلَى رَأْسِهِ، لَمَّا سَأَلَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ. وَصَادَرَ عُمَّالَهُ، فَأَخَذَ شَطْرَ أَمْوَالِهِمْ لَمَّا اكْتَسَبُوهَا بِجَاهِ الْعَمَلِ، وَاخْتَلَطَ مَا يَخْتَصِمُونَ بِهِ بِذَلِكَ. فَجَعَلَ أَمْوَالَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ شَطْرَيْنِ.
1 / 17
وَأَلْزَمَ الصَّحَابَةَ أَنْ يُقِلُّوا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمَّا اشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ الْقُرْآنِ، سِيَاسَةً مِنْهُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سِيَاسَاتِهِ الَّتِي سَاسَ بِهَا الْأُمَّةَ ﵁ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ ﵀: وَمِنْ ذَلِكَ إلْزَامُهُ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِالطَّلَاقِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ. وَلَكِنْ لَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْهُ رَأَى عُقُوبَتَهُمْ بِإِلْزَامِهِمْ بِهِ. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ رَعِيَّتُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ هُوَ إلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: " إنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَنَّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِنَّ؟ " فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ لِيُقِلُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا أَوْقَعَ الثَّلَاثَةَ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَقَعَتْ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْمَرْأَةِ: أَمْسَكَ عَنْ ذَلِكَ.
فَكَانَ الْإِلْزَامُ بِهِ عُقُوبَةً مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ رَآهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ تُجْعَلُ وَاحِدَةً، بَلْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ صَدْرٌ مِنْ خِلَافَتِهِ، حَتَّى أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ اتِّخَاذٌ لِآيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا.
كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " وَ" سُنَنِ النَّسَائِيّ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: «أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ عَاقَبَهُمْ بِهِ. ثُمَّ إنَّهُ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي " مُسْنَدِ عُمَرَ ".
فَقُلْت لِشَيْخِنَا: فَهَلَّا تَبِعْت عُمَرَ فِي إلْزَامِهِمْ بِهِ عُقُوبَةً. فَإِنَّ جَمْعَ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ عِنْدَك؟ فَقَالَ: أَكْثَرُ النَّاسِ الْيَوْمَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَلَا سِيَّمَا الشَّافِعِيُّ يَرَاهُ جَائِزًا، فَكَيْفَ يُعَاقَبُ الْجَاهِلُ بِالتَّحْرِيمِ؟ قَالَ: وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ.
وَسَدَّ عَلَيْهِمْ بَابَ التَّحْلِيلِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ: فَيُلْزِمُونَهُمْ بِالثَّلَاثِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَفْتَحُ لَهُمْ بَابَ التَّحْلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّحْلِيلِ سَعَى فِي ذَلِكَ.
وَالصَّحَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يُسَوِّغُونَ ذَلِكَ، فَحَصَلَتْ مَصْلَحَةُ الِامْتِنَاعِ مِنْ الْجَمْعِ مِنْ غَيْرِ وُقُوعِ مَفْسَدَةِ التَّحْلِيلِ بَيْنَهُمْ.
قَالَ: وَلَوْ عَلِمَ عُمَرُ أَنَّ النَّاسَ يَتَتَابَعُونَ فِي التَّحْلِيلِ لَرَأَى أَنَّ إقْرَارَهُمْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ رَسُولِ، اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ أَوْلَى، وَبَسَطَ شَيْخُنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا طَوِيلًا.
1 / 18
قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُهُ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ رَأْيًا مِنْهُ رَآهُ لِلْأَمَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ بِعْنَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمُدَّةِ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَلِهَذَا عَزَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى بَيْعِهِنَّ، وَقَالَ: " إنَّ عَدَمَ الْبَيْعِ كَانَ رَأْيًا اتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ وَعُمَرُ "، فَقَالَ لَهُ قَاضِيه عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَك "، فَقَالَ: " اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ " فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ نَصٌّ مِنْ رَسُولِ اللَّه ﷺ بِتَحْرِيمِ بَيْعِهِنَّ لَمْ يُضِفْ ذَلِكَ إلَى رَأْيِهِ وَرَأْيِ عُمَرَ، وَلَمْ يَقُلْ " إنِّي رَأَيْت أَنْ يُبَعْنَ ".
[فَصَلِّ فِي سِيَاسَة الصَّحَابَة فِي قِيَادَة الْأَمَة مِنْ بَعْده ﷺ]
٨ - (فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ: اخْتِيَارُهُ لِلنَّاسِ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ، لِيَعْتَمِرُوا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. فَلَا يَزَالُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ مَقْصُودًا، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ، وَأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِفْرَادَ. وَتَنَازَعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَكْثَرَ النَّاسِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَالَ: " يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاء. أَقُولُ لَكُمْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟ " وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ كَانُوا إذَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَبِيهِ يَقُولُ: " إنَّ عُمَرَ لَمْ يُرِدْ مَا تَقُولُونَ " فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: " أَفَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا، أَمْ عُمَرُ؟ ".
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ سِيَاسَةٌ جُزْئِيَّةٌ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ، فَظَنَّهَا مَنْ ظَنَّهَا شَرَائِعَ عَامَّةً لَازِمَةً لِلْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَلِكُلٍّ عُذْرٌ وَأَجْرٌ وَمَنْ اجْتَهَدَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْأَجْرَيْنِ، وَهَذِهِ السِّيَاسَةُ الَّتِي سَاسُوا بِهَا الْأُمَّةَ وَأَضْعَافُهَا هِيَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ.
وَلَكِنْ: هَلْ هِيَ مِنْ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمِنَةِ، أَمْ مِنْ السِّيَاسَاتِ الْجُزْئِيَّةِ التَّابِعَةِ لِلْمَصَالِحِ، فَتَتَقَيَّدُ بِهَا زَمَانًا وَمَكَانًا؟ وَمِنْ ذَلِكَ: جَمْعُ عُثْمَانَ ﵁ النَّاسَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أَطْلَقَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْقِرَاءَةَ بِهَا، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً. فَلَمَّا خَافَ الصَّحَابَةُ ﵃ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْقُرْآنِ، وَرَأَوْا أَنَّ جَمْعَهُمْ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ أَسْلَمُ، وَأَبْعَدُ مِنْ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ: فَعَلُوا ذَلِكَ، وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنْ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِهِ. وَهَذَا كَمَا لَوْ كَانَ لِلنَّاسِ عِدَّةُ طُرُقٍ إلَى الْبَيْتِ، وَكَانَ سُلُوكُهُمْ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ يُوقِعُهُمْ فِي التَّفَرُّقِ وَالتَّشَتُّتِ، وَيُطْمِعُ فِيهِمْ الْعَدُوَّ، فَرَأَى الْإِمَامُ جَمْعَهُمْ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَتَرْكَ بَقِيَّةِ الطُّرُقِ: جَازَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إبْطَالٌ لِكَوْنِ تِلْكَ الطُّرُقِ مُوصِلَةً إلَى الْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ سُلُوكِهَا لِمَصْلَحَةِ الْأُمَّةِ.
1 / 19
وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيقُ عَلِيٍّ ﵁ الزَّنَادِقَةَ الرَّافِضَةَ وَهُوَ يَعْلَمُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ، وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى أَمْرًا عَظِيمًا جَعَلَ عُقُوبَتَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ؛ لِيَزْجُرَ النَّاسَ عَنْ مِثْلِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ:
لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا ... أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قَنْبَرًا
وَقَنْبَرٌ غُلَامُهُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ؛ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَارِدِهِ.
فَكُلُّهُمْ يَقُولُ بِجَوَازِ وَطْءِ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ إذَا أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَيْلَةَ الزِّفَافِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مِنْ الرِّجَالِ بِأَنَّ هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي عَقَدْت عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنْطِقْ النِّسَاءَ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتُهُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ الْقَوِيَّةِ فَنَزَّلُوا هَذِهِ الْقَرِينَةَ الْقَوِيَّةَ مَنْزِلَةَ الشَّهَادَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ النَّاسَ - قَدِيمًا وَحَدِيثًا - لَمْ يَزَالُوا يَعْتَمِدُونَ عَلَى قَوْلِ الصِّبْيَانِ الْمُرْسَلِ مَعَهُمْ الْهَدَايَا، وَأَنَّهَا مَبْعُوثَةٌ إلَيْهِمْ، فَيَقْبَلُونَ أَقْوَالَهُمْ، وَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْمُرْسَلَ بِهِ، وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً لَمْ يَمْتَنِعُوا مِنْ وَطْئِهَا، وَلَمْ يَسْأَلُوا إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ؛ اكْتِفَاءً بِالْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الضَّيْفَ يَشْرَبُ مِنْ كُوزِ صَاحِبِ الْبَيْتِ، وَيَتَّكِئُ عَلَى وِسَادِهِ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فِي مِرْحَاضِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ بِاللَّفْظِ لَهُ، وَلَا يُعَدُّ بِذَلِكَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَطْرُقُ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَيَضْرِبُ حَلْقَتَهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهِ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ: أَخْذُ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْإِنْسَانِ مِمَّا لَا تَتْبَعُهُ هِمَّتُهُ، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالْفَلْسِ وَالتَّمْرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَخْذُ مَا يَبْقَى فِي الْقَرَاحِ وَالْحَائِطِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ وَالثِّمَارِ بَعْدَ تَخْلِيَةِ أَهْلِهِ لَهُ وَتَسْيِيبِهِ وَمِنْ ذَلِكَ: أَخْذُ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْحَبِّ عِنْدَ الْحَصَادِ، وَيُسَمَّى اللَّقَاطَ، وَمِنْ ذَلِكَ: أَخْذُ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالْخِرَقِ وَالْخَزَفِ وَنَحْوِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَهُوَ الصَّوَابُ - أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ: إنَّ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا وَلَا يَكْسُوهَا فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ؛ لِتَكْذِيبِ الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ لَهَا.
وَقَوْلُهَا فِي ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي نُدِينُ اللَّهَ بِهِ، وَلَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ، وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِإِنْفَاقِ الزَّوْجِ وَكِسْوَتِهِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي اعْتِمَادًا عَلَى
1 / 20
الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِاسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ وَبَقَاءِ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ.
فَكَيْفَ يُقَدَّمُ هَذَا الظَّنُّ الضَّعِيفُ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ الَّذِي يَكَادُ يَبْلُغُ الْقَطْعَ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ لَمْ يَكُنْ يَنْزِلُ عَلَيْهَا رِزْقُهَا مِنْ السَّمَاءِ، كَمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَلَمْ تَكُنْ تُشَاهَدْ تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهَا تَأْتِي بِطَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَالزَّوْجُ يُشَاهَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ دَاخِلًا عَلَيْهَا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: " الْقَوْلُ قَوْلُهَا " وَيُقَدَّمُ ظَنُّ الِاسْتِصْحَابِ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ إذَا قَدَّمَ الطَّعَامَ إلَى الضَّيْفِ وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَكْلِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَفْظًا، اعْتِبَارًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ الْجَارِيَةِ مَجْرَى الْقَطْعِ وَمِنْ ذَلِكَ: «إذْنُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْمَارِّ بِثَمَرِ الْغَيْرِ. أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَلَا يَحْمِلَ» اكْتِفَاءً بِشَاهِدِ الْحَالِ، حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِ حَائِطًا وَلَا نَاطُورًا.
وَمِنْ ذَلِكَ: جَوَازُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي الْأَقْرِحَةِ وَالْمَزَارِعِ الَّتِي عَلَى الطُّرُقَاتِ بِحَيْثُ لَا يَنْقَطِعُ مِنْهَا الْمَارَّةُ. وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ غَصْبًا لَهَا وَلَا تَصَرُّفًا مَمْنُوعًا.
وَمِنْ ذَلِكَ: الشُّرْبُ مِنْ الْمَصَانِعِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الطَّرَقَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّارِبُ إذْنَ أَرْبَابِهَا فِي ذَلِكَ لَفْظًا اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ الْحَالِ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَقْتَضِيه، وَدَلَالَةَ الْحَالِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدُ حَالٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ حِينَئِذٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْقَضَاءُ بِالْأُجْرَةِ لِلْغَسَّالِ وَالْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ وَالدَّقَّاقِ وَصَاحِبِ الْحَمَّامِ وَالْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ مَعَهُ عُقْدَةَ إجَارَةٍ، اكْتِفَاءً بِشَاهِدِ الْحَالِ وَدَلَالَتِهِ.
وَلَوْ اسْتَوْفَى هَذِهِ الْمَنَافِعَ وَلَمْ يُعْطِهِمْ الْأُجْرَةَ لَعُدَّ ظَالِمًا غَاصِبًا، مُرْتَكِبًا لِمَا هُوَ مِنْ الْقَبَائِحِ الْمُنْكَرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: انْعِقَادُ التَّبَايُعِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ بِمُجَرَّدِ الْمُعَاطَاةِ، مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، اكْتِفَاءً بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاضِي، الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: جَوَازُ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ عَلَى الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ: أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا عُدْوَانًا مَحْضًا، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ: " قَتَلْته عَمْدًا " وَالْعَمْدِيَّةُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالْقَلْبِ، فَجَازَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا، وَيُرَاقُ دَمُ الْقَاتِلِ بِشَهَادَتِهِ، اكْتِفَاءً بِالْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ، فَدَلَالَةُ الْقَرِينَةِ عَلَى التَّرَاضِي بِالْبَيْعِ.
مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ أَقْوَى. وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَى الْيَتِيمِ إذَا ادَّعَى مَا يَقْتَضِيه الْعُرْفُ، فَإِذَا
1 / 21
ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ.
وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ قُلْنَا " الْقَوْلُ قَوْلُهُ " إنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُ شَاهِدُ الْحَالِ، فَإِنْ كَذَّبَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلِهَذَا يُكَذَّبُ الْمُودِعُ وَالْمُسْتَأْجِرُ، إذَا ادَّعَيَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَوْ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ هَلَكَتْ فِي الْحَرِيقِ، أَوْ تَحْتَ الْهَدْمِ، أَوْ فِي نَهْبِ الْعَيَّارِينَ وَنَحْوِهِمْ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ إلَّا إذَا تَحَقَّقْنَا وُجُودَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَأَمَّا إذَا عَلِمْنَا انْتِفَاءَهَا فَإِنَّا نَجْزِمُ بِكَذِبِهِمْ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ.
وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ، لِعِلْمِنَا بِكَذِبِ الزَّوْجَةِ فِي الْإِنْكَارِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ مَعَهَا مِثْلَ كَوْنِ الْأَصْلِ قَبُولَ قَوْلِ الْأُمَنَاءِ، إلَّا حَيْثُ يُكَذِّبُهُمْ الظَّاهِرُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَدَاعِي الْعَيْبِ: هَلْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ أَوْ حَدَثَ عِنْد الْمُشْتَرِي؟ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدُلُّ الْحَالُ عَلَى صِدْقِهِ فَإِنْ احْتَمَلَتْ الْحَالُ صِدْقَهُمَا فَفِيهَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي مَا يُسَوِّغُ فَسْخَ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَلُزُومِهِ، وَالْبَائِعَ يُنْكِرُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ مَنَعُوا سَمَاعَ الدَّعْوَى الَّتِي لَا تُشْبِهُ الصِّدْقَ، وَلَمْ يُحَلِّفُوا لَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، نَظَرًا إلَى الْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ أَصْحَابَنَا وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ، جَوَّزُوا لِلرَّجُلِ أَنْ يُلَاعِنَ امْرَأَتَهُ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا مُؤَكِّدًا لِشَهَادَتِهِ بِالْيَمِينِ، إذَا رَأَى رَجُلًا يُعْرَفُ بِالْفُجُورِ يَدْخُلُ إلَيْهَا وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهَا، نَظَرًا إلَى الْأَمَارَاتِ وَالْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ فِي تَدَاعِي الزَّوْجَيْنِ، وَالصَّانِعِينَ لِمَتَاعِ الْبَيْتِ وَالدُّكَّانِ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مِنْ يَدُلُّ الْحَالُ عَلَى صِدْقِهِ، وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْيَدِ الْحِسِّيَّةِ، بَلْ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا.
وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا لَاعْتَبَرْنَا يَدَ الْخَاطِفِ لِعِمَامَةِ غَيْرِهِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ وَآخَرُ خَلْفَهُ حَاسِرَ الرَّأْسِ وَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ هَذِهِ يَدٌ ظَالِمَةٌ عَادِيَةٌ، فَلَا اعْتِبَارَ لَهَا، وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ مَالِكًا ﵀ يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُرْتَهِنِ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ، مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ.
وَقَوْلُهُ هُوَ الرَّاجِحُ فِي الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الرَّهْنَ بَدَلًا مِنْ الْكِتَابِ وَالشُّهُودِ، فَكَأَنَّهُ نَاطِقٌ بِقَدْرِ الْحَقِّ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَثِيقَةً، وَلَا جُعِلَ بَدَلًا مِنْ الْكِتَابِ وَالشَّاهِدِ، فَدَلَالَةُ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا رَهَنَهُ عَلَى قِيمَتِهِ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا، وَشَاهِدُ الْحَالِ يُكَذِّبُ الرَّاهِنَ إذَا قَالَ: رَهَنْت عِنْدَهُ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى دِرْهَمٍ وَنَحْوِهِ، فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الرِّكَازِ: إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لُقَطَةٌ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْكُفَّارِ فَهُوَ رِكَازٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً، جَازَ لَهُ ضَرْبُهَا إذَا حَرَنَتْ فِي السَّيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ مَالِكَهَا.
1 / 22