إذا وضعنا الأقوال الفرنسية المعسولة والوعود والتعهدات الرسمية جانبا ونظرنا إلى الواقع كما هو نرى إذ ذاك النوايا الحقيقة وأولها القضاء على الحزب الحر الدستوري بوسائل متعددة، لم تبتدئ المفاوضات حتى رأينا قوات البوليس والجيش الفرنسي يطاردون رجال الحزب في كل مكان، ويهاجمون اجتماعاته ويحتلون أماكنها، ويضيقون عليه الخناق، ويجرون مئات من أعضائه وقادته أمام المحاكم العسكرية والمدنية الفرنسية التي أخذت تصدر عليهم الأحكام القاسية، فامتلأت سجون تونس بالدستوريين، والدستور يتفاوض مع فرنسا، وقد تمسك المقيم العام الفرنسي بإبقاء الحزب الحر الدستوري منحلا قانونيا مدعيا أن ليس له السلطة الكافية للاعتراف به، وأن الحكومة الفرنسية لم تسمح له بذلك بعد، والحقيقة أن المقيم العام كان متفقا مع المستعمرين الكبار في تسديد أشد الضربات للحزب القومي، وقد تمسك أيضا بجميع القوانين الاستثنائية الغاشمة التي سنها المقيمون السابقون وحرموا تونس بمقتضاها من جميع الحريات، فلا حرية للقول، ولا حرية للنشر، ولا حرية للاجتماع، ولا حرية للتنقل، بل سلاسل وأغلال وكم للأفواه، وسيف مسلول على رقاب التونسيين جميعا، وقد كان التضييق أشد من ذلك كله؛ إذ تمسك المقيم العام بإبقاء حالة الحصار مضروبة على جميع القطر التونسي، وهي أمضى سلاح في يده، فمنذ نصبت يوم 9 أبريل 1938 لم تلغ، فكان التونسيون كلهم تحت رحمتها مهددين في أرزاقهم وبيوتهم وأشخاصهم، والوزراء أنفسهم ليسوا في منجاة عنها، فهم يتفاوضون والخطر يهددهم.
فإذا كانت نية المستعمرين الأولى هي القضاء على الحركة الوطنية فإن غايتهم البعيدة من المفاوضات هي إعطاء ما اغتصبته الجالية الفرنسية من سلطات الصبغة القانونية؛ لتمكينهم من كسب حقوق في تونس لا يتمتع بها إلا المواطن التونسي، فإذا ما أصبح الفرنسيون مشاركين في مؤسسات الدولة التونسية شرعا وقانونا فإن الاستعمار الفرنسي يكون قد خطا الخطوة الحاسمة في ابتلاع تونس وإدخالها في الاتحاد الفرنسي، ثم جعلها جزءا لا يتجزأ من التراب الفرنسي.
وكان الديوان السياسي دارسا للسياسة الفرنسية عارفا بمنعرجاتها حذرا منها متيقظا لتلاعبها وقد نبه الشعب كله في اجتماعات نظمها في جميع أنحاء القطر ، فكان يقول: «نحن أعرف بالاستعمار الفرنسي وغاياته من غيرنا ولم نكتف بدرسه في الكتب والمجلات والصحف بل درسناه نحن الدستوريين في أرواحنا وأجسامنا، وما زالت بقايا التنكيل والتعذيب والسجون والمنافي ظاهرة بينة فينا، فإن برت فرنسا بوعودها وأخلصت في نواياها فإنها تكون قد ضمنت مصالحها العليا وكسبت ود شعب وصداقته، ونكون حققنا غاياتنا الوطنية واقتصدنا في قوانا وادخرناها للبناء والتشييد لا للتهديم والتخريب، وإن كانت الأخرى فينبغي أن نتهيأ لخوض معركة التحرير وأن نعد الأسباب للنصر النهائي؛ إذ لم نشارك في الوزارة للاستكانة والراحة، بل لتزيد قوتنا متانة وصفوفنا نظاما وعملنا جدا وكفاحنا شدة، فينبغي أن يكون رائدنا الحذر وقائدنا اليقظة وسبيلنا العمل.»
وكان يستحيل على الاستعمار الفرنسي أن يأخذنا على غرة، فعندما تكونت الوزارة الوطنية برئاسة دولة محمد شنيق وقع في أيدي الجالية الفرنسية وداخلها الخوف وتململ الموظفون الفرنسيون، فأخذوا يعدون العدة لمقاومة حكومتهم نفسها، فأسرع المقيم العام إلى تهدئة خواطرهم وإقامة الدليل لهم على أن الحكومة الفرنسية تماشيهم في الواقع وتريد إرضاءهم، فبعث برسالة دورية إلى جميع المراقبين المدنيين يعلمهم رسميا أنه لم يتغير شيء في تونس وأن النفوذ كله باق في قبضة الفرنسيين؛ فينبغي لهم ألا يسلموا شيئا من السلطة إلى التونسيين.
ووقعت إثر ذلك مشادة حامية بين وزير الدولة الدكتور محمود الماطري وبين السلطات الفرنسية نتيجة لرسالة المقيم العام الدورية، وأن العمال (المديرين) والعمد تابعون لوزير الدولة إداريا، فغاب عامل (مدير) ماطر في إجازة وعين العمدة علي بن عمارة ليعوضه أثناء غيابه، وكان هذا العمدة معروفا مشهورا بتعسفه للرعية وقسوته وظلمه الفاحش؛ معتمدا في ذلك على موالاته للفرنسيين وخيانته المفضوحة لبلاده، وغدره ببني وطنه، فلم يوافق الوزير على ذلك التعويض، وعين الكاهية (نائب المدير) المهبولي ليقوم بذلك المنصب أثناء غياب صاحبه، فقامت قيامة السلطات الفرنسية كلها، وتمسكت بإبقاء الخائن ابن عمارة في ذلك المركز، واستعدت لمنع الوزير التونسي بقوة البوليس والجيش من تنفيذ قراره، وأراد المقيم العام أن يظهر للملأ أنه هو الحاكم بأمره في تونس ، وأن السيطرة الفرنسية كاملة لا غبار عليها، فتحدى الوزارة التونسية، وأقام حفلة رسمية كبرى بماطر نفسها تكريما لعلي بن عمارة، وألبسه نيشان جوقة الشرف الفرنسية في ذلك اليوم؛ ففضح نواياه الحقيقية قبل الشروع في المفاوضات.
وبعد مناقشات طويلة مملة دامت أشهرا حول المستشارين الفرنسيين في الوزارات التونسية لم يرض المقيم العام بإلغاء مناصبهم، بل أبقاهم فيها واكتفى بنقلهم من عمارات الوزارات إلى الكتابة العامة ليعينوا الكاتب العام في مراقبة أعمال الوزراء التونسيين، فما راعنا إلا والمقيم العام يلقي الخطب المسهبة الطويلة ويكرر التصريحات سواء في تونس أو في باريس بأنه أعطى ترضية كبرى للتونسيين وقام بتحوير كبير في منظمات الدولة التونسية، وخطا خطوة كبرى نحو الغاية المنشودة، وحقق لتونس المرحلة الأولى في استقلالها الداخلي، وذلك كله لمجرد نقل بعض الموظفين الفرنسيين من عمارة إلى أخرى وقال أخيرا: «الآن وقد تم هذا الإصلاح الجوهري الكبير ينبغي أن تستريح السياسة حتى يتم هضم هذا الإصلاح» فكأن المفاوضات ابتدأت بالاستراحة من السياسة، وكان دور المقيم الفرنسي قد تم معظمه وأن واجب الشعب التونسي يقضي عليه بأن يهضم الفراغ والعدم وأن يبقى على جوعه وعطشه.
فتلبد الجو بسرعة فائقة، وتوترت العلاقات، وكادت تقطع المفاوضات، فلم ير المقيم بدا من استئنافها، وبقيت تتعثر إلى أن تم الاتفاق على بعض الإصلاحات التي صدرت بتاريخ 8 / 2 / 1951 فلم يتقبلها الرأي العام بارتياح. تمخض الجبل فولد فأرا؛ فهي لم تغير الوضع ولم تنقل شيئا من النفوذ إلى أيدي التونسيين، لقد أصبح الوزير الأول التونسي رئيسا لمجلس الوزراء بعد أن كان يرأسه المقيم العام الفرنسي بنفسه، أما مراقبة قرارات الوزراء التونسيين فإنها انتقلت من الكاتب العام الفرنسي إلى المقيم العام الفرنسي، وقد اعتبرت الوزارة التونسية نفسها تلك الإصلاحات مجرد اتجاه جديد في السياسة الفرنسية. أما مجلس الوزراء نفسه فإنه بقي مركبا من فرنسيين وتونسيين، وقد علق عليها الوزير الأول دولة محمد شنيق في بيان أصدره للصحافة يوم 8 / 2 / 1951 جاء فيه: «أما بقاء عدد من الأعضاء الفرنسيين مساو لعدد الأعضاء التونسيين في مجلس الوزراء بصورة مؤقتة فإنه لا يعني أبدا الرضا بالسيادة المزدوجة التي لا تجيزها المعاهدات ولا يبيحها الدستور الفرنسي نفسه.
ولا تقتصر فوائد الإصلاحات الجديدة على ما ذكرناه؛ فإن الاتجاه الجديد التي وجهت فيه العلاقات بين تونس وفرنسا والمبادئ التي أثبتتها هي التي تجعل الإصلاحات الجديدة - وليس محتواها الهزيل - تمهد الطريق لمراحل أخرى ستوصلنا حتما وبصورة تدريجية إلى الاستقلال الداخلي في نطاق السيادة التونسية.
لذلك فإنه يجب عند تطبيق الإصلاحات احترام الروح التي أملتها، وذلك بالتزام الدقة والإخلاص في تنفيذ النصوص الجديدة التي روعي في تحريرها الوضوح التام الذي لا يترك أي مجال للتأويلات الخاطئة.»
ولكن المقيم العام أسرع إلى خرق ذلك الاتفاق الجديد، ولم يراع الروح الجديدة وخالف تلك النصوص الواضحة الجلية، فكون بالإقامة العامة نفسها إدارة استعمارية كاملة تشرف على جميع الوزارات والإدارات التونسية وتسيطر عليها؛ بدعوى أن النصوص الجديدة أعطت الحق للمقيم في الإدلاء بتوصياته على كل قرار وزاري. وإذا بتونس تخطو خطوة إلى الوراء؛ لأن مراقبة الوزراء كانت من طرف إدارة تونسية وهي الكتابة العامة، فأصبحت الوزارات والإدارات التونسية تحت إشراف ممثل فرنسا مباشرة، وقد قام المقيم العام بعمله من غير أن يستشير الوزارة التونسية، بل من غير إعلامها أصلا، ووضعها أمام الأمر الواقع، وتمادى في تطبيق برنامجه رغم احتجاجها.
Unknown page