1892، فقال: ... إننا شاهدناه عن قرب ودرسنا حركاته العامة والخاصة فوجدناه محدودا جدا، وهذا الأمر بطبيعة الحال لا يؤهل المستعمر في قليل أو كثير ليكون حكما في مصير الأهالي.
أما الفضائل فإنه يتحلى بالكثير منها، وخاصة تلك التي يمتاز بها العامل المجد والوطني المخلص، ولكنه لا يملك ما يمكن أن يعبر عنه بفضيلة الغالب أو العدل المنبثق عن العقل والقلب الرحيم، وذلك الشعور بحقوق المستضعفين، وهو لا يتعارض مع هيبة الحكم، إنه يصعب إفهام المستعمر الأوروبي أنه توجد حقوق غير حقوقه في البلاد العربية، وأن الأهالي ليسوا جنسا خلق للاستعباد والاستغلال ... إن المستعمرين يعلنون جزافا أن هذا الجنس غير قابل بطبعه للتهذيب والإصلاح، وذلك من غير أن يكونوا قد قاموا بأي محاولة منذ ثلاثين سنة لإنقاذه من انحطاطه الخلقي والفكري، وإن صرخة الاستنكار التي تردد صداها في الجالية الاستعمارية من أقصاها إلى أدناها بمناسبة مشروع المدارس الأهلية الذي أبدى البرلمان اهتمامه البالغ بها؛ لدليل عجيب على هذه العقلية، هنا أيضا يحاول عبثا البحث عن الروح الاجتماعية وعن الاعتبارات العامة أن المستعمرين ليس لديهم أي نظريات عامة حول السلوك الواجب نحو الأهالي، إنهم لا يكادون يدركون أي سياسة نحو ثلاثة ملايين من البشر سوى سياسة الضغط، ليس هناك أي تفكير بلا شك في إزالتهم من الوجود، بل إنهم ينكرون حتى الرغبة في إقصائهم إلى الصحراء، ولكن لا توجد أية عناية بما يشكون منه ولا بعددهم الذي يبدو أنه يزداد مع ازدياد فقرهم، إنه يوجد شعور بخطر محتمل ولكن لم يقع اتخاذ أي إجراء لاجتنابه.
وإننا نتساءل: هل ماشى هؤلاء الفرنسيون الدنيا في تطورها؟ وهل بدلوا نظرتهم العاتية الضيقة؟ وهل انتفعوا بعبر الحرب العالمية الأولى؟ وهل قدروا الانقلاب الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية؟ وهل فتحوا عيونهم ليشاهدوا نهضة الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها؟ أم بقيت على عيونهم غشاوة لا يبصرون، وفي آذانهم وقر لا يسمعون، وتحجرت عقولهم فهم لا يفهمون، وأعمت المصالح منهم البصائر قبل البصر، فلم يقدروا للحوادث عواقبها ولم يتفطنوا إلى أن سيرتهم الأولى تجعلهم يعيشون على بركان سيذهب بمصالحهم ومصالح فرنسا نفسها إذا ما انفجر. ولقد زارهم أحد القواد الفرنسيين (الجنرال كاثرو) الذي لا غبار على وطنيته الفرنسية، واختلط بهم وسمع نجواهم وما يختمر بضمائرهم، وحكم عليهم بعقله الثاقب الذي يزن الأحداث العالمية وأهميتها بميزان راجح واقعي، ويقدر لتطور الشعوب وللقوات الجديدة البارزة في الدنيا قدرها؛ فقال في الجالية الفرنسية الموجودة بالمغرب العربي:
5
إن الفرنسيين المقيمين عبارة عن أناس يخضعون لما يمليه عليهم الهوى أكثر من توجيهات العقل أو تأثير المثل العليا؛ فقد ظلوا بعد أن تجمدت عقليتهم على ما كان عليه آباؤهم من قبل في أول عهد قدومهم إلى أفريقيا، غزاة ومغامرين ومنعزلين يواصلون بقوة عجيبة وبعض الانتصارات الباهرة مشروعات ذات صفة ومصالح خاصة، فهم إذن يؤلفون مجموعة من الشخصيات الفردية أكثر منهم مجتمعا منظما وقائما على أساس من المبادئ والتقاليد. إنهم لا يجتمعون إلا للدفاع عن مصالحهم، ولكن هذه المصالح التي هي مصالح طبقة معينة لا تتفق دائما مع مصالح فرنسا، إنه ينقص هؤلاء الرجال - وهم بلا شك من ذوي النيات الطيبة، وقد حولوا بجهودهم المتواصلة أفريقيا الجرداء إلى أرض خصبة - إدراك القيم الأدبية السامية، ونظرة أقل مادية وأنانية للعلاقات بين الإنسان عامة ولمشكلة الأهالي بوجه خاص. إنه ينقصهم الدافع القوي الكريم المنبثق عن ثقافة مجردة عن المصلحة المادية، وينقصهم حب المبادئ الذي يترك فراغا يزداد مع مر السنين وتضخم الثروة.
ومن الملاحظ أن الجالية الفرنسية بتونس لا تتحمس لمبدأ، ولا تلتف حول فكرة، ولا تحركها عاطفة بشرية أو وطنية، ولكنها إذا ما اجتمعت كلمتها وتوحدت، فإنما تجتمع وتتوحد للدفاع عن مصالح أفرادها الشخصية فقط. وإن تلك المصالح تتجسم في نظرهم في استيلائهم جماعات وأفرادا على البلاد وسلطاتها وخيراتها؛ ولذا رأينا الناطقين بلسانها من صحافة ونواب يدعون بلا خجل أنهم هم أصحاب البلاد الحقيقيون، وهم أبناؤها البررة والمدافعون عنها والمالكون لها والمستثمرون لكنوزها والمديرون لشئونها، حتى قال قائلهم في جريدة «تونس فرانس»: «إن كان للعرب التونسيين مقابر تأوي أجداث أجدادهم منذ أحقاب وأحقاب، وإن اختلطت رفات آبائهم بهاته الأرض الطيبة، فإن للفرنسيين أيضا مقابر بها تئوي آباءهم الأقربين الذين كونوا تونس تكوينا جديدا!» فهم إذن حسب نظرهم أصحاب حق في البلاد، وهكذا أعطى الغاصب لنفسه حق المواطن كمن دخل دارا عنوة على أهلها وسكن معهم وضايقهم فيها وحصرهم في سقيفتها وأدخل عليها إصلاحات طفيفة، ثم سعى في إخراجهم منها بدعوى أن الدار أصبحت ملكا له.
وكانوا يعارضون معارضة باتة في كل مفاوضة تقع بين تونس وفرنسا، فيقولون ليست فرنسا نفسها هي صاحبة الحق في التفاهم مع التونسيين، بل يجب أن تجري تلك المفاهمة بين الجالية الفرنسية والتونسيين، ويعنون بهؤلاء التونسيين الخونة الممالين لهم، وذلك ما صرح به رئيس «التجمع الفرنسي» المتكلم باسمهم رسميا «أنطوان كولونا» في حديث لجريدة ليموند
Le Monde
بتاريخ 19 / 4 / 1952، قال:
أما فيما يتعلق بنا، فإنا كنا نخير أن تكون مباحثات اللجنة الرسمية للإصلاحات مسبوقة باتصال غير رسمي في لجان شبه رسمية تقع فيها مجابهة صريحة لوجهات النظر بين الممثلين الحقيقيين لسكان تونس من تونسيين وفرنسيين.
Unknown page