كانت العاصمة حسب العادة التي أصبحت مألوفة منذ ستة أيام مضربة إضرابا تاما، شاملا لجميع حركات الحياة؛ ولا ترى في كل مكان وفي كل شارع وحارة إلا رجال البوليس المسلحين بالبنادق أو الرشاشات اليدوية يوقفون المارة - من التونسيين فقط طبعا - ويأمرونهم برفع أيديهم، ثم يفتشونهم، وبعد إتمام عملية التفتيش تنالهم أصناف من الإهانات والاستفزازات، كاللطم، والضرب بالأرجل، والتفوه بالعبارات الجارحة للعواطف الشخصية، والقومية، وويل لمن يتلفظ بعبارة واحدة، فإن العون يسوقه توا إلى سيارة كبرى تنقله فيما بعد إلى مركز المحافظة.
ويوجد من تفنن في الاستفزاز إلى درجة تجعله يمزق بطاقة إثبات الشخصية لكل من يسوقه القدر في طريقه، ليتمكن من اعتقاله كمشبوه في أمره، وقد بلغت الإيقافات عددا لم يبق في استطاعتنا إحصاؤه، بعد أن شاهدنا الأعوان يصطادون المارين من كل مكان ويرمون بهم في سيارات تسير بهم - حسب أقوال لم نتوصل إلى إثباتها - إلى القصبة.
وقد ازدادت عملية الاعتقالات شدة عندما شاع الخبر أن اجتماعا سيعقد بجامع الزيتونة المعمور الذي نصب الحصار حوله من طرف الأعوان السريين والمرتدين لأزيائهم الرسمية.
أما المدينة الأوروبية فكأنها أصبحت محرمة على التونسيين؛ إذ كان الأعوان يتعرضون لكل من يرتدي الزي العربي أو من على رأسه طربوش وشاشية.
لما رأى الوطنيون كثرة القتلى والجرحى في صفوفهم، وتيقنوا من أن صدور العزل، وإراقة دماء الشهداء الذين لا سلاح لهم، لا تكفي لرد العدوان الفرنسي، والوقوف أمام جيش مدجج بأحدث الأسلحة، غيروا طريقة كفاحهم، ونظموا وحدات قليلة العدد، تشاغب العساكر الفرنسية في كل مكان.
هاجم التونسيون عربات الترام الذي تقررت مقاطعته، وانقض بعض الشباب الوطني من الشوارع المجاورة على الترام الرابط بين تونس وضاحية «باردو» ورموه بالحجارة وبعض المفرقعات، فكسروا زجاجه، وجرحوا أربعة من الفرنسيين من ركابه، وبعد ذلك بقليل هاجموا عربة أخرى في نفس الموضع، وجرحوا اثنين من الفرنسيين، وتوالت الهجمات على الترام إلى أن تحاشي الفرنسيون الساكنون بضواحي تونس ركوبه، وأصبحت كل عربة في حاجة إلى حرس يحميها من غير جدوى في الحقيقة.
وأصبحت الليالي مكدرة، لا تسمع فيها إلا طلقات النار المستمرة من الجانبين التونسي والفرنسي، ويوم 23 / 1 / 1952 أفاق سكان «مدينة الشعراء» بحي «حفرة كريط» - وأكثرهم من الفرنسيين - مذعورين في الساعة الخامسة والنصف بعد منتصف الليل، ورأوا ألسنة النار تتصاعد حول عماراتهم والحريق يلتهمها، وكان يسكن بتلك العمارات ضباط الجيش الفرنسي وعائلاتهم، وقد أتى الوطنيون في تلك الليلة بكميات كبيرة من البنزين، وصبوها في مساكن الضباط، وأشعلوا النار فيها، فأحرق اللهيب الأبواب الخارجية، واقتحم البيوت، وأتى على معظمها، وخرج الضباط وعائلاتهم هاربين منزعجين، وقد داخل الارتباك والرعب نفوسهم.
وأتت بعد حين قوات عظيمة من الجيش، ومعها رجال المطافئ الذين تغلبوا على الحريق بعد جهد جهيد، ولكن آثاره بقيت مسطرة بالسواد على الحيطان الخارجية نفسها والأبواب، وبقي الجيش في حراستها.
وأخذ الوطنيون يوالون هجماتهم على دوريات البوليس والجيش الفرنسي، ليلا نهارا، ويرمون «اللوريات» الحاملة للحرس المتنقل بالرصاص أو القنابل اليدوية، وكأن التونسيين أحجموا عن إنزال ضربتهم القاضية على الفرنسيين في العاصمة نفسها، لكثرة الجنود فيها، ولاحتلالها بقوات مصفحة هائلة، ولصعوبة الأعمال بها، وقد قال صحفي أجنبي: «لا ينبغي أن يغتر الإنسان بالمظاهرة الكاذبة، فإذا كان سطح الماء هادئا فإن أعماقه تفور، والحياة هنا كأنها على بركان.»
وقد قالت الجريدة الإيطالية الميساجيرو
Unknown page