Tuhfat al-Asmāʿ waʾl-Abṣār
تحفة الأسماع والأبصار
ولما وصلنا إلى الملك[88/ب]وقد انتظم مجلسه في تلك الدار، وتهيأ أهل الحضرة من الوزراء وغيرهم وأعظم أبهة، حيث لبسوا مطارف الديباج المطرزة بالذهب ومطارف الحرير التي يقضي منها الناظر إليها بغريب الصنعة ونهاية العجب، وجعلوا في أوساطهم مناطق الذهب المحلاة بالفصوص الفاخرة، ونفيس الجواهر التي هي لهم في الدنيا ولنا إن شاء الله في الآخرة، ثم أخذوا في أيديهم السيوف السنارية المحلاة كذلك بعين الذهب الخالص، وتعجلوا بهذه النعمة التي هي إلى الزوال أسرع من الظل القالص، ثم انتظموا بذلك المجلس قياما أحسن نظام مع تمام صورهم، لما خلقهم الله تعالى عليه من بسطة الأجسام، وألوانهم مع ذلك غير مشوهة بالسواد الفاحم، ورؤوسهم مكشوفة عن الشعر الجعيد الناعم، وفي أيديهم أساورة الذهب، وفي آذانهم الأقراط المتلألئة كإشتعال اللهب، وعلى الجملة فما رأيت من صفات الملك غير هذه الأمور المنعوته وما سوى ذلك من الكمال فعراه مبتوكة مبتوتة، فلما رأينا تلك الهيئة وذلك الإنتظام، وقد كان في النفس شيء من ذلك الكلام، الذي قدمنا ذكره، فخطر بالبال أن هؤلاء الوزراء يريدون بهذا الإجتماع، معرفة حقيقة ما نقل إليهم، وقد يمكن أنهم يريدون الإطلاع على كتاب الإمام -عليه السلام- الذي في صحبتنا؛ لأن هؤلاء الوزراء لهم اليد القوية على الملك، والتصرف النافذ على كل حال، ولما نظرنا إلى الملك وجدناه وقد نزل عن سريره وقعد على الأرض إكراما لنا، وإعظاما لإمامنا، وقادته التي يعرف عليها أنه لا ينزل عن سريره لوفود وافد، إلا أن يكون في أعلى مراتب الفخامة، ومستحقا أنواع الكرامة، ثم إن كل وافد لا يقعد بين يديه إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن كانت منزلته كذلك، فلما استقر بنا المجلس أقبل علينا الملك، وقد أعد ترجمانا شريفا يقول إنه من آل الحسين بن علي-رضوان الله عليهما- من أرض بخارى، وهو ملازم حضرة الملك، قد سلب الإيمان، واستحوذ عليه الشيطان، وسلك في مساخط الرحمن، فهو شيطانهم المريد: {إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } وهذا الشريف يعرف لسان العرب أحسن المعرفة، ويعبر عنه أوفى العبارة، فاستقام بين يدي الملك يعبر عنا وعنه، وسألنا عن الأحوال، فأخفا السؤال، وبالغ في التحقيق عن الإمام -عليه السلام- وأولاد إخوانه بأبلغ الإستفصال، ثم إنه بدأنا بالسؤال عن كتاب الإمام الذي في أيدينا، واستدعاه منا بمسمع من أهل حضرته، فتأكد من ذلك الظن حيث ابتدأنا بذلك، فأجبنا عليه إن معنا[89/أ] كتابا وصحبته هدية من الإمام -عليه السلام- إلى الملك ولإيصاله الهدية مجلس آخر غير هذا، كما هي القاعدة المعروفة، فأجاب علينا الشريف الترجمان قبل أن يبلغ الملك قواعد هؤلاء القوم غير ما عرفتموه، وهي أن الوافد مثل وفودكم هذا يقدم هديته بين يديه حال قدومه، فقلناه له: بلغ الملك ما قلناه، واعتذر لنا في ما جهلناه، فبلغ الشريف ما عرفناه به وقبل عذرنا، ثم قال لنا بعد ذلك: في أي محل تريدون النزول في منازل النصارى أم في منازل المسلمين، وهناك حافة للمسلمين مخصوصة، محصورة في جانب من المدينة، فقلنا له: منازل المسلمين أولى بنا، والكل في جواركم وحماكم، فأمر معنا ذلك الشريف ينزلنا في بيوت تصلح لنا، ففعل الشريف ذلك، وبقينا تلك الليلة، وافتقدنا كتاب الملك وأسماء الهدية فيه وأعيانها، ثم استأذنا على الملك في اليوم الثاني للوصول إليه بالهدية، فأذن، وتوجهنا إليه بها ووجدنا حضرته كما كانت بالأمس فدفعنا إليه الكتاب، فقرأه الشريف الترجمان جهرا يسمعه أهل الحضرة، وعبر عنه بلسانهم الذي يعرفونه، ثم سلمنا تلك الهدية بأعيانها شيئا فشيئا، حتى أتينا على آخرها، ولما فرغنا من تسليمها، سألنا الملك أن يجعل لنا من أصحابه وأعوانه، ومن يتولى رفع حوائجنا إليه مما يعرض لنا فاستحسن ذلك، وعينه على الوزير المقدم ذكره المسمى (حواريا) ثم انصرفنا من حضرة الملك، وقد أمر ذلك الوزير أن يجري علينا من النفقة وتوابعها ما يقوم بكفايتنا، وألزمه أن يحسن التعاهد لنا لأحوالنا، فأجرى علينا من الملك في كل شهر ثلاثين حملا من الحنطة، وأربعين رأسا من الغنم، وأربع رؤوس من البقر، وعشرين جرة من العسل، وست جرار من السمن، واستمر ذلك مرتبا في كل شهر.
Page 389