Tocqueville Muqaddima Qasira
توكفيل: مقدمة قصيرة جدا
Genres
يمكن تبين عدم الاتساق داخل فكرة التقدم؛ فالمساواة، بحسب قول توكفيل، «توحي» للأمريكيين بفكرة قابلية الإنسان «اللامحدودة» لبلوغ الكمال، وهي توحي بذلك ولكن لا تجبر الديمقراطيين على الإيمان بالتقدم؛ لأن الإجبار سينتقص من مكانة الابتكار الإنساني ومن تصور طريقة أفضل للوجود أو للفعل والترويج لتلك الطريقة. السؤال: لماذا التقدم الديمقراطي غير محدود؟ يمكن أن يحدث التقدم في النظم الأرستقراطية، لكنه سيكون محددا في ظلها؛ فهو عبارة عن تطوير باتجاه الكمال أو تقدم «في حدود معينة لا يمكن تجاوزها»؛ فلا يمكن للتقدم أن يتجاوز حد الكمال، ولا يستطيع سوى الاقتراب من الكمال، باعتبار أن البشر ناقصون.
لا تسعى النظم الديمقراطية وراء الكمال وإنما وراء شيء مختلف؛ وهو: «صورة كمال مثالي صعب الوصول إليها دائما»؛ «عظمة كبيرة» دائما ما تتوارى لكن يمكن لمحها فقط على نحو مشوش. إنها لا تعرف المقصود بالكمال، لكنها في الوقت نفسه لا تنكر وجوده؛ إنها غير فلسفية لأنها تنكر وجود أي منطق أو حقيقة خارج ذواتها، غير أنها في الوقت ذاته تتبع «نظرية فلسفية» تقوم على القابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال التي تؤيد سيادة العقل على المادة، لكنها تقر بأن بإمكان كل البشر والدول تحقيق التقدم. ذكر توكفيل طرفة بطلها بحار أمريكي قال إن سفن بلاده لم تبن حتى تبقى للأبد؛ لأن التقدم سريع الخطى جدا بحيث سرعان ما تصبح السفن القديمة عديمة الجدوى. بالنسبة إلى الأمريكيين، لا يوجد ما يسمى بالسفينة الكاملة المثالية، لكننا - على نحو ما ودون أن نعرف ما المقصود بالكمال - نعرف على نحو غامض وغير محدد أن الجديد دائما يكون أفضل.
وهكذا، فإن للعقل الديمقراطي نظرية خاصة بالتقدم، لكنها تتجاهل النظرية المجردة الخاصة بالكمال، وتفضل تطبيق النظرية على الممارسة. قال توكفيل: «المساواة تثير في كل شخص الرغبة في الحكم على الأشياء بنفسه؛ فهي تعطيه فيما يتعلق بكل الأشياء رغبة في الأشياء الملموسة والواقعية، وازدراء للتقاليد والنظم.» فالناس في ظل حركة النشاط الدءوبة للديمقراطية ليس لديهم الوقت للتأمل الهادئ المطلوب للوصول ل «معظم المبادئ النظرية»، كما تنقصهم الآراء المعبرة عن «كرامة الإنسان وقوته وعظمته» التي لها قيمتها في النظم الأرستقراطية، ويستغنون عن العقل لصالح حب الحقيقة. حذر توكفيل من أن التقدم يعتمد على الاكتشافات التي تقوم على النظريات المجردة، والتي يكون احتمال الوصول إليها ضئيلا - وإن لم يكن مستحيلا - في المجتمعات الساعية للتقدم؛ فالتقدم يحدث على يد الشعوب التي لديها «شغف كبير بالحقيقة»، ولا يحدث نتيجة لحب التقدم. فالعلم، كما يبدو، ليس متعلقا بالمنهج العلمي - الذي هو منهج الأمريكيين - بقدر تعلقه بحب الحقيقة؛ ففي الحركة الفكرية للأمريكيين، لا يعرف الأمريكيون وجهتهم، وهم لا يبدون اهتماما كبيرا ل «تأمل الأسباب الأولى» الضرورية للعلم المجرد. قال توكفيل: «في وقتنا هذا، يجب على المرء أن يحتجز العقل الإنساني في النظرية»؛ حيث إن العقل الديمقراطي يفضل الجانب العملي ولا يهتم بالتفكير على نحو عميق ومستقل. وفي هذا القسم من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، كشف توكفيل عن تقدير للنظرية لم يكن على هذا النحو من الوضوح في أي موضع آخر في كتابه، لكنه لم يكن غائبا؛ ففي معظم الكتاب، كان يصف الأمر ثم يثني أو يعيب عليه، لكنه هنا، بصفته معلما للديمقراطية، شرع في تقديم النصح.
أشار توكفيل بعد ذلك فيما يتعلق بالفنون في أمريكا إلى أن الأمريكيين، بالرغم من قدرتهم على تقدير الجمال، يفضلون الشيء النافع على الشيء الجميل، ويريدون أن يكون الشيء الجميل نافعا. لكنه بعد ذلك عرض نقطة أقل وضوحا فيما يتعلق بروح التصنيع لدى الأمريكيين؛ فبخلاف العصور الأرستقراطية، حيث كان الهدف من الفنون الإنتاجية هو تصنيع أفضل منتج ممكن، نادرا ما يصنع الأمريكيون منتجات عالية الجودة؛ فهي تكون في الغالب متوسطة الجودة، بالرغم من أن الجميع يحصلون عليها. وباتباعهم هذا الأسلوب على نحو واع ومتعقل، فإن المهم بالنسبة إليهم أن يكون المنتج «جيدا على نحو كاف»، وقد اكتشفوا أن بإمكانهم أن يصبحوا أغنياء بأن يبيعوا منتجات رخيصة الثمن للجميع. لكن - كما قد يتساءل المرء - كيف سيسعى الأمريكيون للكمال في منتجاتهم إذا كانوا لا يدركون أن فعل الشيء يعني فعله على نحو متقن؟ وحتى المنتج المتوسط الجودة يحتاج إلى وجود نموذج مثالي، إذا أراد منتجه أن يطوره. أثنى توكفيل على الأعمال الفنية لرافائيل، وهو رسام من عصر النهضة يبدو أن توكفيل كان يعتبره أرستقراطيا؛ لأنه جعلنا «نلمح الألوهية في أعماله.» وألوهية كهذه تسمو فوق الكمال البشري، لكنها مصدر إلهام للكمال البشري الضروري للتقدم الديمقراطي ، غير أنه من المستبعد أن تتواجد في العصور الديمقراطية.
عند تلك النقطة، أثار توكفيل النقطة الخاصة بمكان العظمة في الديمقراطية؛ ففي ظل الديمقراطية، الأفراد ضعفاء، لكن الدولة أو الأمة قوية وعظيمة. ربما يعيش الأفراد في مساكن صغيرة، لكنهم في مبانيهم العامة العملاقة يتصورون رغبتهم في العظمة ويبدونها؛ فقد بنى الأمريكيون لأنفسهم مدينة ضخمة واصطناعية (وهي واشنطن العاصمة)، التي قلما وجدت بلدة فرنسية أقل سكانا منها في عصر توكفيل؛ ذلك لأن الديمقراطية في المجمل تنتج عددا كبيرا من المباني الصغيرة، وعددا قليلا جدا من المباني العظيمة، دون وجود وسط بين الأمرين. إن العظمة في الديمقراطية تقوم على الخيال الرحب، وقد ناقش في الفصول التالية من كتابه الأشكال المختلفة للتعبير الديمقراطي عن الرأي، التي يعبر من خلالها العقل الديمقراطي عن نفسه، مركزا على اتسامها بالمبالغة والغرور.
في الأدب، يحتقر الكتاب الديمقراطيون سمات الأسلوب الشكلية التي يتم تقديرها في النظم الأرستقراطية، كما أنهم أقل إبداعا وأكثر جرأة وحدة، وأقل علما وعمقا، وأكثر خيالا وإقناعا؛ فهم يسعون لإبهار الآخرين لا لإسعادهم، ولإثارة الانفعالات بدلا من رفع الذوق؛ فيمكن للمرء أن يلاحظ وجود عدد قليل من الكتاب العظام والآلاف من مروجي الأفكار. ولا تتم كثيرا دراسة الكتاب القدماء - باهتمامهم بالتفاصيل وجاذبيتهم بالنسبة إلى الخبراء - في النظم الديمقراطية حيث يكون التعليم علميا وتجاريا وصناعيا أكثر منه أدبيا؛ بالرغم من أنهم، بحسب اعتقاد توكفيل، «وجبة دسمة» بالنسبة إلى الديمقراطيين الذين يريدون التميز في مجال الأدب. وتعكس لغات الشعوب الديمقراطية رغبتهم في الحركة والابتكار وكرههم لأي شيء تقليدي أو تعسفي وحبهم للتجريد؛ فالشعر الديمقراطي لديه كره فطري لأي شيء قديم ولأي حديث عن أي شيء مثالي. بدلا من ذلك، هو منفتح على المستقبل ويسعى وراء أشياء رحبة مثل مصير كل الإنسانية، كما أن فن الخطابة الديمقراطي عادة ما يعتمد على التحذلق والمبالغة في الأسلوب، في حين أن المسرح الديمقراطي «يصبح أكثر إبهارا وأكثر فجاجة وأكثر صدقا» دائما مقارنة بالمسرح الأرستقراطي.
غير أن آخر فصلين في الفصول التي تتناول أشكال التعبير الديمقراطي عن الرأي يكشفان عن الغرور الحزين الموجود في قلب العقل الديمقراطي: ما مدى أهمية الإنسان في حالة المساواة بين كل الناس؟ للإجابة عن هذا السؤال، قارن توكفيل على نحو درامي بوجه خاص بين الديمقراطية والأرستقراطية، وقال إن المؤرخين في العصور الأرستقراطية يجعلون كل الأحداث تعتمد على الإرادات والأهواء الخاصة بأشخاص بعينهم، لكن في العصور الديمقراطية، هم لا ينسبون أي تأثير تقريبا في التاريخ لأي شخص، بل يحددون أسبابا عامة كبرى لحقائق معينة. صحيح أن تلك الأسباب، بحسب اعتقاده، تفسر الكثير في العصور الديمقراطية عندما يكون الأشخاص في واقع الأمر أقل تأثيرا، لكن تلك التفسيرات تكون خطيرة لأنها تخضع الأشخاص لعناية إلهية غير مرنة أو حتمية عمياء؛ فهي تشير ضمنا إلى أنه بما أن الإنسان ليس سيد نفسه، فهو لا يتحكم في الأحداث؛ ومن ثم ليس حرا. يبدو أن المؤرخين الديمقراطيين مصممون على إثبات أن التقدم ليس هدفا يتحقق على نحو واع وطوعي على يد البشر؛ فبحسب قوله: «يعلم المؤرخون القدماء الناس كيف يحكمون، أما مؤرخو اليوم، فنادرا ما يعلمونهم شيئا بخلاف كيف يطيعون.»
غير أن المؤرخين يبدون عظماء، ويتخلون على ما يبدو عن الأسباب الكبرى التي يصفونها ويزدرون بلا مبالاة باقي البشر الذين يجهلون القوى التي تحركهم. يبدو أن الفصل التالي المخصص لفصاحة أعضاء البرلمان في الولايات المتحدة غير متعلق بالتاريخ، لكنه في واقع الأمر يصب في نفس الاتجاه. في البرلمانات الأرستقراطية، لا يكون لدى الأعضاء، الذين هم في واقع الأمر أرستقراطيون، أي شيء يريدون إثباته ويقنعون بالسكوت إذا لم يكن لديهم أي شيء يقولونه. على العكس من ذلك، في أمريكا، يكون النائب شخصا عاديا، وهو يشعر دائما بالحاجة إلى أن تكون له ولمن انتخبوه أهمية ومكانة يبرزها؛ لذا فهو كثيرا ما ينزع لإلقاء خطب رنانة عديمة الجدوى. تتناقض روح النائب الديمقراطي الذي يقول إنه مهم مع روح المؤرخين الديمقراطيين الذين يفترضون أن الإنسان ليس له أهمية. من الواضح أن الإنسان الديمقراطي لديه رغبة في أن يكرم ، وهي رغبة غير معروفة لمن يعيش في ظل نظام أرستقراطي؛ حيث سيكرم باعتباره شخصا مهما؛ فعقله المحب للتعميم والمشغول بتبرير الديمقراطية متعارض مع عقله الشخصي الذي يحاول تبرير نفسه.
الفردية الديمقراطية
انتقل توكفيل من تناول أفكار العقل الديمقراطي إلى تناول «المشاعر» التي تميز القلب الديمقراطي، وأهم تلك المشاعر هو الإحساس بالضعف الذي أطلق عليه «الفردية». إن الفردية مصطلح نسمعه الآن كل يوم وبمعان مختلفة، وعادة بمعنى إيجابي كما في «الفردية الصارمة». لم يكن توكفيل هو أول من استخدم هذا المصطلح، لكنه كان أول من ركز عليه واعتبره أساسيا؛ فهو لم يعرفه بأنه نوع من الأنانية أو الأثرة؛ أي حب شديد للذات يعد بوجه عام رذيلة أخلاقية، وإنما على أنه شعور ديمقراطي، تأملي ومسالم، يجعل كل مواطن يميل لأن يعزل نفسه عن جموع المواطنين الآخرين وأن يتقوقع داخل أسرته وأصدقائه ونفسه. ويصاحب هذا الشعور شغف بالمساواة يكون دائما أقوى في أي نظام ديمقراطي من الرغبة في الحرية، لكنه في ذاته حكم خاطئ أكثر منه شغف أو رذيلة؛ وهذا الحكم، الناتج عن الحالة الاجتماعية الديمقراطية، هو نفسه الذي يقول به الواحديون والمؤرخون الديمقراطيون الذين يرون أن الفرد لا حول له ولا قوة، وأنه خاضع لقوى هائلة خارج الذات، وأن الفضائل العامة عديمة الجدوى. وعلى عكس النظام الأرستقراطي حيث يربط النظام الطبقي الأفراد بعضهم ببعض وبالماضي، يساوي النظام الديمقراطي بينهم بحيث يهتمون في واقع الأمر فقط بمن هم أقرب إليهم، وذلك على الرغم من أن إحسانهم وعطفهم يمتدان على نحو مجرد وضعيف لكل الإنسانية.
Unknown page