Tisca Tasawwurat Can Zaman
تسعة تصورات عن الزمن: السفر عبر الزمن بين الحقيقة والخيال
Genres
لم تؤخذ تلك الفكرة على نحو جاد طيلة عقود. والقلة من العلماء الذين كانوا على وعي بها اعتبروها من غرائب الرياضيات، كالحلول السالبة التي تبرز فجأة في المعادلات التربيعية. فإن كان هناك مهندس معماري يحاول أن يحسب كم ينبغي أن يكون ارتفاع أحد المباني، ويقوم بعملية حسابية تخبره بأن الإجابة هي الجذر التربيعي للعدد 400،
2
فإن الرياضيات تقول إن ارتفاع المبنى يمكن أن يكون إما 20 مترا أو «سالب» 20 مترا. وبافتراض أن هذا المهندس لا يصمم مرأبا للسيارات تحت الأرض، فسيتجاهل الحل السالب، وهو نفس ما حدث بالضبط مع حلول معادلات أينشتاين المقابلة لجسيمات العالم الأسرع من الضوء. على الأقل، تم تجاهلها حتى ستينيات القرن العشرين، حين بدأ علماء الفيزياء في دراسة الأشعات الكونية بالتفصيل.
لكن لم تكن هذه هي المرة الأولى (ولا الأخيرة) التي يدلنا فيها الخيال العلمي على الطريق. ففي عام 1954، نشرت مجلة «جالاكسي ساينس فيكشن» رواية قصيرة بعنوان «صافرة التنبيه» للكاتب جيمس بليش.
3
لا تعتبر هذه الرواية من أفضل ما كتب، لكنها تقدم فكرة «راديو ديراك» الذي يوفر تواصلا فوريا عبر أي مسافة. لكن متى استقبلت رسالة صوتية، فإنها تبدأ بصافرة تنبيه مزعجة. وقد تبين أن تلك هي نسخة مضغوطة من «كل رسالة من رسائل ديراك أرسلت من قبل أو سترسل فيما بعد». تتجاوز الإشارات كلا من المكان «والزمان»؛ وأدرك بليش أن الإشارات التي تسافر أسرع من الضوء (فوريا في هذه الحالة) لا بد أنها تسافر أيضا عبر الزمن عكسيا. لم يول أحد القصة اهتماما كبيرا، حتى قرأها عالم الفيزياء جيرالد فاينبرج - الأستاذ بجامعة كولومبيا - في مجموعة مختارات أدبية
4
بعد مرور أكثر من عقد على نشرها، فأوحت إليه بفكرة البحث في العلوم والخوض فيها، وقدم ورقة بحثية علمية بعنوان «احتمالية وجود جسيمات أسرع من الضوء»، والتي نشرت في دورية «فيزيكال ريفيو» في عام 1967. في تلك الورقة البحثية قدم جيرالد اسم «تاكيون» للإشارة إلى الجسيمات الأسرع من الضوء الافتراضية، وهي كلمة مشتقة من اللفظة اليونانية
tachys ، ومعناها «سريع أو خاطف». لكن إن وجدت إشارة ديراك في المستقبل من الأساس باستخدام عمليات إرسال تاكيونية، فسيكون لذلك الراديو سمة غاية في الغرابة. تتمثل هذه السمة في أنه سيفقد الطاقة حين تصله إشارة، ومن ثم سيبرد. لكن وبما أن أحدا لا يتوقع أن يصمم مثل هكذا جهاز، فلن أقلق بشأن ذلك في هذا الصدد . الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن التاكيونات إذا فقدت الطاقة وزادت سرعة حركتها، فستكون طاقة معظم التاكيونات الموجودة طبيعيا في الكون (إن وجدت) صفرا بصفة أساسية وستتحرك بسرعة شبه لا نهائية، الأمر الذي سيجعل كشفها أمرا في غاية الصعوبة. لكن ثمة حلا لهذه المشكلة.
سعى الناس خلال السنوات التي تلت نشر فاينبرج لورقته العلمية إلى إيجاد دليل على وجود التاكيونات في الأشعات الكونية. والأشعات الكونية هي جسيمات عالية الطاقة تأتي من الفضاء (تتكون في معظمها من البروتونات)، تنتج في الأحداث الكونية العالية الطاقة، وتنطلق هذه الأشعات متسارعة عبر المجرة في جزء كبير من سرعة الضوء (يصل إلى 90 بالمائة أو أكثر منها)، وتصطدم بالغلاف الجوي العلوي للأرض. وتحمل هذه الأشعات مقدارا هائلا من الطاقة، حتى إنه حين تصطدم أشعة كونية «أولية» كهذه بنواة ذرة كالنيتروجين مثلا - وهو المكون الأكثر شيوعا لغلافنا الجوي - فإنها لا تدمر النواة فحسب. بل يتحول قدر كبير من الطاقة إلى جسيمات جديدة - أشعات كونية «ثانوية» - تصنع من الطاقة الخالصة بما يتوافق مع معادلة أينشتاين الشهيرة، وتنهمر هذه الجسيمات على سطح الأرض فيما يعرف بسيل الأشعة الكونية. لا تسبب لنا هذه الجسيمات أي ضرر (وإن كانت قد تسبب ضررا حال إنتاج أعداد هائلة منها بسبب انفجار مستعر أعظم قريب، على سبيل المثال)، لكن يمكن كشفها باستخدام كل من الأدوات على الأرض وأجهزة الكشف التي توضع على متن مناطيد شاهقة الارتفاع. وإن كان بعض الجسيمات التي أنتجتها هذه العملية لإحداث سيل من الأشعة الكونية هي في أصلها تاكيونات، فإنها ستصل إلى أجهزة الكشف الكائنة على الأرض ليس قبل وصول كل الجسيمات العادية في السيل فحسب، بل حتى قبل أن تصطدم الأشعة الكونية الأولية بالطبقة العلوية من الغلاف الجوي؛ وذلك لأنها تسافر عبر الزمن عكسيا. قد يكون من الممكن كشف هذه الجسيمات قبل أن تفقد كل طاقتها وتنطلق عبر الكون بسرعة لا نهائية.
Unknown page