AUTO الجزء الأول
الجزء الأول
إن أبلغ ما نطقت به البلغاء بادئ بدء (1)، وأفصح ما بدأت الفصحاء به الكلام أبدا، حمد الله الذي أنطق العرب بأعرب لسان، وشرف منهم النسب بأشرف إنسان، وأحل العربية من اللغات محل الغرة من الجبين، ورفع منارها بنسبة كتابه العربي المبين، وجعل الفصاحة ضوءا لا يعلق إلا بذبالة مصباحها، والبلاغة نورا لا يشرق إلا بإنارة إصباحها. والصلاة والسلام على نبيه الناطق بأفصح اللغات، وأرجح البلاغات؛ المنتخب من سلالة الكرم، وسرارة الحرم، وصميم النسب، ومصاص الحسب، وأرومة المجد، وهامة الشرف النجد؛ عصمة المتوسلين، وسيد الأنبياء والمرسلين، عبده ورسوله الذي أهدأ ببعثته كل مضطرب، أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وعلى آله الهادين، والخلفاء الحنفاء الراشدين.
Page 5
أما بعد: فيقول العبد الفقير إلى ربه الغني، علي صدر الدين الحسيني الحسني، أسنى الله له جوائز فضله السني: هذا كتاب جمعت فيه من لسان العرب، ما يحظى منه بارتشاف الضرب، وأحرزت فيه من غريب القرآن والأثر، ما يرضى منه صدق العين والأثر، وأضفت إلى ذلك من بيان مجازات الكلام، ومصطلحات العلماء الأعلام، وأمثال العرب العرباء، ونفاثات سقاة الألبان والألباء، ما لا يستغني عنه الفضلاء في مدارسهم، والأدباء في مجالسهم، والخطباء في مقاماتهم، والشعراء في كلماتهم، وأمليته حاويا للفصيح، والثابت الصحيح، والآحاد والمتواتر، والشوارد والنوادر، معتمدا في النقل على الكتب المشهورة، وأمهات الزبر المأثورة، مع الأخذ بالثقة في البيان والتعريف، والتحرز في الضبط عن التصحيف والتحريف، غير متكل على النقل دون النقد، إلا ما أجمع عليه أهل الحل والعقد.
فإن هذه اللغة الشريفة التي رفع الله مقدارها، وجعل على ألسنة خيرته من خلقه مدارها، لم تكن تؤخذ إلا بالسماع والتلقين، أو الرواية الوافية ببلج الحق وثلج اليقين، وعلى هذا جرى السلف من العلماء في سالف الدهر، فجنوا من رياضها يانع الثمر ونافح الزهر، وما كانوا ليتكلوا على ما في بطن صحيفة ومتن مجلة، ما لم يشافهوا به الجهابذ من المشايخ الجلة، ثم طمست آثار تلك الأعلام، وعمت سبل الهدى غاشية الظلام، وحار طرف الدليل، وطاح صوت الحادي، وأمسى الخريت ينادي: إنه الليل وأضواج الوادي؛ فلم يبق إلا الرجوع الى ما أودعه العلماء في بطون الدفاتر، والنهوض الى الاقتباس منها بعزم غير فاتر، وإذ قد تعذر الاستفهام عند الاستبهام، والحصول على الصواب، بالسؤال والجواب.
Page 6
فمن اللازم للبيب الحازم، أن يتثبت في المداحض والمزال، ويتعمق في الميز بين الراجح والزال، وأن لا يأمن غائلة التعجيل، بالمبادرة إلى الإثبات والتسجيل، حتى يتقصى في الاستقراء، لا سيما عند التصنيف والإقراء، فمن جمد على ما وجد في كتاب، فقد استهدف لنبل اللوم وسهام العتاب، وكأين ممن صنف وألف، وكلف نفسه من كلفة الإفادة ما كلف، ما زاد على أن ملأ المزاد، بما وجد ورأى، وأكثب ونأى، ولم يدر أخطأ أم أصاب، وجنى الشهد أم الصاب؟ فهو حاطب ليل، وخاطب ويب وويل.
وإني لأعجب من المجد الفيروز آبادي، وهو المتسم بالإمامة في معرفة اللسان الضادي؛ إذ صنف قاموسه، وشنف قابوسه، وتصدى للتنبيه على أغلاط الجوهري في صحاحه، وخاض في غمر التشنيع عليه وضحضاحه، زاعما أنه لم يقصد بذلك مراء، ولا تنديدا به وإزراء، بل استيضاحا للصواب، واسترباحا للثواب، وحذرا من أن ينمى إليه التصحيف، أو يعزى إليه الغلط والتحريف، كيف خالف قوله فعله، وزلت بقدمه نعله؟! فوقع من الأغلاط والأوهام، فيما تحار فيه ثواقب الأفهام، ومن التصحيف والتحريف، والغلط في مسائل النحو والتصريف، فيما لا يكاد يقضى منه العجب، ولا تنقضي عن طرفيه جمادى ورجب، كما ستقف عليه في أثناء الكتاب مفصلا، وتجده في أطوائه إن شاء الله تعالى محصلا.
على أن ما تتبع به كلام الجوهري وتعقب، ونقر عنه بزعمه ونقب، أكثره مسبوق إليه، ومدخول فيه عليه، وكأنه حين أخذ يتبجح، ويترنح عجبا ويترجح، قد تمسك من العصمة بسبب، وأمن الهوي من الخطأ في صبب، وما علم أن للعجب آفة، والعاسف طريقه لا يأمن المخافة.
ولعل بعض من يصغي إلى هذا المقال، من متعصب أو حاسد أو قال، ينسبني فيه إلى العول، ويرميني بالهجر من القول، ظنا منه أن القاموس بحر لا تخاض لججه، ولا تقاض براهينه وحججه، ومن يعارض صاحب القاموس فإنما يقامس حوتا، ويحاول بطلا عن الحق مسحوتا.
Page 7
وهيهات، إن الكتاب الذي لا ريب فيه إنما هو كتاب الله الذي لا يضل مقتفيه، وما سواه فهو مظنة للاختلاف وإن كان لذي العلم أثيرا، بنص: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (1)، والحق أحق بالاتباع، ولا يتطاول عليه إلا قصير الباع، فلا يغرنك من سقط به جهله وهوى، وإياك والتمادي في أضاليل الهوى.
وإني في تأليفي لهذا الكتاب وتصنيفه، وتقريطي للسمع بدره وتشنيفه، لمعترف حقا والصدق منجاة، بأن المستبضع مقل والبضاعة مزجاة، غير أني أرجو السداد فيما اقتطفت واقتطعت، ولا أريد إلا الإصلاح ما استطعت، ثم لا بدع إن برز النزر على الجم، تبريز الرامح على الأجم، فللطش من نقع العطش ما ليس لليم الزاخر اللهم.
Page 8
على أنك أيها الفطن الألمعي، واللقن اللوذعي، إذا وعيت ما أوعبت (2)، وفليت ما أمليت، رأيته قد حوى ما لم تحوه البحور المحيطة، وخيطت شواكله على ما خلت عنه المهارق البسيطة؛ فالجمهرة (3) وإن كانت البحر الخضم، لم تشتمل على ما اشتمل عليه وانضم، والصحاح (4) على صحة روايته، لم يحل ببلاغة معجز آيته، والمحكم (5) على إحكام نصوصه، لم ينطو على عيونه وفصوصه، والعباب (1) على تلاطم أمواجه، لم يحتو على أفراد دره وأزواجه، والتهذيب (2) على خلاصته ونقاوته، لم يفز ببهجته وطلاوته، والمجمل (3) على إجماله وإيجازه، لم يحرز تفصيل حقيقته ومجازه، ولسان العرب (4) على جمعه وإحصائه، لم يحصل على حسن انتحائه وانتصائه، والقاموس (5) على سعة باحته، لم يحظ بعذوبته وملاحته.
ولا أدعي له الإنافة على هذه الكتب المنيفة في الإحسان، والزبر التي هي أساطين اللغة وقوانين اللسان، إلا بحسن الانتقاء والانتقاد، وتمييز النقادة من النقاد، وإيراد ما يروق ويحسن، وتستعذب جنى عذباته الألسن، إلى غير ذلك من النكت والملح، ونخب الموضوع والمصطلح، مع التقصي في البيان والتبيين، والتحري في التخصيص والتعيين ، ورعاية المناسبة في سوق الكلمات، بين معانيها الملتئمات.
Page 9