فأجاب الفارس صابرا: «لتكن إرادة الله ومشيئة المليك. إني لا أعارض في عدالة الحكم، ولا أرغب في تأجيل القضاء.»
وحينئذ شرع دي فو يفصل عن الفسطاط في أناة شديدة، ثم وقف لدى الباب، والتفت خلفه ونظر إلى الاسكتلندي الذي وقف وكأن آمال هذه الدار الفانية قد انتفت من خاطره انتفاء تاما، وكأنه رجل قد توجه إلى الله بكل نفسه. ولم يكن البارون الإنجليزي البدين عامة من ذوي المشاعر الحادة، ولكن عاطفته في ذلك الموقف غلبت عليه - رغم ذلك - غلبة لم يعهدها في نفسه من قبل، فقفل راجعا إلى فراش القصب الذي كان يرقد عليه الأسير، وأمسك بإحدى يديه المغلولتين وقال بنغم فيه من اللين بمقدار ما يستطيع صوته الأجش أن يلفظ: «سيدي كنث، إنك ما زلت في ريعان الشباب، وإن لك لأبا، وإن ابني «رالف» الذي خلفته يدرب جواده الصغير الذي أتينا له به من «جالوى» على ضفاف «أرذنج» قد يبلغ عمرك يوما من الأيام - ولا أخفيك أني ليلة الأمس كنت أرجو الله أن أرى شبابه كشبابك - هلا تريدني أن أقول شيئا أو أفعل فعلا نيابة عنك؟»
فكان الجواب الحزين على ذلك: «لا شيء، لقد أهملت واجبي، وفقد العلم الذي عهد به إلي. فإذا ما أصبح الجلاد وباتت المقصلة على استعداد، فإن رأسي وجذعي كليهما على أهبة أن يفترقا.»
فقال دي فو: «رحماك اللهم، والله لوددت لو أني قمت بحراسة العلم عوضا عن رعاية جوادي الكريم. إن في الأمر لسرا أيها الرجل الشاب، سرا يلمسه الرجل الساذج وإن كان لا يدرك له كنها، هل كان جبنا منك؟ كلا. ما قاتل جبان قط كما شهدتك تقاتل. هل كانت خيانة؟ لا أظن الخونة يموتون في خيانتهم بمثل هذه السكينة. إنما صرفك عن مقرك غدر بعيد المدى وخطة محكمة التدبير. إنما ملك عليك سمعك صياح فتاة منكوبة، أو صرف عنك بصرك وجه ضاحك باش، لا تستح من هذا، فليس منا من لم يحد به يوما مثل هذا الدافع عن جادته، هيا، هيا، وبح لي عوضا عن قسك بمكنون سريرتك؛ إن رتشارد لرءوف رحيم حينما تهدأ ثورته. أليس لديك ما تعهد به إلي؟»
فأشاح الفارس البائس بوجهه عن هذا المقاتل الرحيم، وأجابه بغير تردد أن: «لا شيء.»
ولما أن استنفد دي فو كل حديث من أحأديث الإغراء، نهض وفصل عن الفسطاط مطبق الذراعين، تعلوه كآبة ظن أنها أظلم مما تقتضي الحال، بل وناقما على نفسه لأنه رأى أن أمرا تافها - كموت رجل اسكتلندي - له مثل هذا الأثر العميق في نفسه.
ولكن، كما قال محدثا نفسه: «لئن كان الأجلاف ذوو الأقدام الخشنة أعداء لنا في كمبرلاند
4
فإنا في فلسطين نكاد نحسبهم لنا إخوانا.»
الفصل السادس عشر
Unknown page