272

Al-ṭibb al-nabawī li-Ibn al-Qayyim - al-Fikr

الطب النبوي لابن القيم - الفكر

Publisher

دار الهلال

Edition Number

-

Publisher Location

بيروت

وَهِيَ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ، رَدِيئَةٌ لِلْمَعِدَةِ، بَطِيئَةُ الْهَضْمِ، وَإِذَا أُدْمِنَتْ، أَوْرَثَتِ الْقُولَنْجَ وَالسَّكْتَةَ وَالْفَالِجَ، وَوَجَعَ الْمَعِدَةِ، وَعُسْرَ الْبَوْلِ، وَالرَّطْبَةُ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الْيَابِسَةِ، وَمَنْ أَكَلَهَا فَلْيَدْفِنْهَا فِي الطِّينِ الرَّطْبِ، وَيَسْلُقْهَا بِالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالصَّعْتَرِ، وَيَأْكُلْهَا بِالزَّيْتِ وَالتَّوَابِلِ الْحَارَّةِ، لِأَنَّ جَوْهَرَهَا أَرْضِيٌّ غَلِيظٌ، وَغِذَاؤُهَا رَدِيءٌ، لَكِنْ فِيهَا جَوْهَرٌ مَائِيٌّ لَطِيفٌ يَدُلُّ عَلَى خِفَّتِهَا، وَالِاكْتِحَالُ بِهَا نَافِعٌ مِنْ ظُلْمَةِ الْبَصَرِ وَالرَّمَدِ الْحَارِّ، وَقَدِ اعْتَرَفَ فُضَلَاءُ الْأَطِبَّاءِ بِأَنَّ مَاءَهَا يَجْلُو الْعَيْنَ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ الْمَسِيحِيُّ، وَصَاحِبُ الْقَانُونِ وَغَيْرُهُمَا.
وَقَوْلُهُ ﷺ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ»، فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحُلْوَ فَقَطْ، بَلْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنَ النَّبَاتِ الَّذِي يُوجَدُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ وَلَا حَرْثٍ، فَإِنَّ الْمَنَّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ «مَمْنُونٌ» بِهِ، فَكُلُّ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ الْعَبْدَ عَفْوًا بِغَيْرِ كَسْبٍ منه ولا علاج، مَنٌّ مَحْضٌ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرُ نِعَمِهِ مَنًّا منه على عبده، فخصّ منها مالا كَسْبَ لَهُ فِيهِ، وَلَا صُنْعَ بِاسْمِ الْمَنِّ، فَإِنَّهُ مَنٌّ بِلَا وَاسِطَةِ الْعَبْدِ، وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ قُوَّتَهُمْ بِالتِّيهِ الْكَمْأَةَ، وَهِيَ تَقُومُ مَقَامَ الْخُبْزِ، وَجَعَلَ أُدْمَهُمُ السَّلْوَى، وَهُوَ يَقُومُ مَقَامَ اللَّحْمِ، وَجَعَلَ حَلْوَاهُمُ الطَّلَّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَشْجَارِ يَقُومُ لَهُمْ مَقَامَ الْحَلْوَى، فَكَمُلَ عَيْشُهُمْ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ ﷺ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» فَجَعَلَهَا مِنْ جُمْلَتِهِ، وَفَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَالتَّرَنْجَبِينُ الَّذِي يَسْقُطُ عَلَى الْأَشْجَارِ نَوْعٌ مِنَ الْمَنِّ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَنِّ عَلَيْهِ عُرْفًا حَادِثًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَ الْكَمْأَةَ بِالْمَنِّ الْمُنَزَّلِ مِنَ السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ يُجْمَعُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا كُلْفَةٍ وَلَا زَرْعِ بِزْرٍ وَلَا سَقْيٍ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَإِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَ الْكَمْأَةِ، فَمَا بَالُ هَذَا الضَّرَرِ فِيهَا، وَمِنْ أَيْنَ أَتَاهَا ذَلِكَ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ صَنَعَهُ، وَأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَهُوَ عِنْدَ مَبْدَأِ خَلْقِهِ بَرِيءٌ مِنَ الْآفَاتِ والعلل، تامّ المنفعة لما هيىء وَخُلِقَ لَهُ، وَإِنَّمَا

1 / 274