10
ومع ذلك فإن هذا الثبت يظهرنا على ضخامة حجم البحوث التي كتبها وتنوع الميادين التي استوعبتها تنوعا مذهلا؛ فهي تكاد تغطي كل مجالات المعرفة البشرية؛ من المنطق والميتافيزيقا والمسائل الأساسية في الفيزياء وسائر العلوم الطبيعية كالفلك والطقس والهيدرولوجيا (علم المياه) والتعدين والزلازل، إلى النبات والحيوان والطب وعلم النفس، ومن الأخلاق والسياسة والاقتصاد والطب والتشريح إلى الخطابة وفن الشعر والأدب وتاريخ الحضارة وتاريخ العلم. وقسا الزمان (أو خرونوس الذي تؤكد أساطير اليونان أنه يبتلع كل شيء!) عليه وعلينا، فلم يحفظ من أعماله الكبرى سوى كتابيه عن النبات والميتافيزيقا، إلى جانب عدد من البحوث الصغيرة - التي تبدو مجتزأة من بحوث أكبر وأشمل في العلوم الطبيعية والفسيولوجيا، فضلا عن شذرات عديدة وتلخيصات ومقتطفات مختلفة وردت عند بعض المؤلفين المتأخرين.
11
وأخيرا بقي لنا هذا الكتيب الذهبي عن «الطباع»، وإن كان بعض المتأخرين يرجحون - كما سنرى - أن ثيوفراسط لم يقتصر على الطباع السيئة التي قدمها في ثلاثين نمطا أو نموذجا سيطرت عليهم الرذائل بصور مختلفة، وإنما قدم نماذج أخرى طيبة أو خيرة لم يبق لها أثر.
وإذا كانت الأعمال الأدبية بالمعنى الدقيق قليلة إلى حد الندرة في التراث الذي خلفه ثيوفراسط، فإن معظم أعماله لا يزال يحمل الخاتم الذي انطبع عليه بحكم نشأته وسبب وجوده، وأعني به طابع التعليم والمحاضرة التي تبتعد في أسلوبها وطريقة تأليفها عن الزخارف الخطابية والملاحظات الجزئية والتبسيط الذي يقصد به عامة القراء. وربما أمكن تقسيم كتابات ثيوفراسط إلى خمسة أنواع متميزة:
مواد متفرقة من تجميع المؤلف (ولم يصلنا أي كتاب من هذا النوع)، وملاحظات نقدية عن آراء فلاسفة آخرين (ومن أمثلة ذلك كتابه عن الإدراكات الحسية)، وكتابات «إشكالية»، أي تطرح مشكلة معينة وتعرف بالصعوبات التي تنطوي عليها من اقتراح الطريق أو الطرق الممكنة لحلها (ومن هذا النوع كتابه عن الميتافيزيقا)، وبحوث وصفية أو تقريرية عن وقائع معينة (مثل كتابه عن تاريخ النبات)، وأخيرا تأتي كتاباته عن الأسباب أو العلل الممكنة للوقائع المختلفة (ومن أمثلة ذلك كتابه عن علل النباتات). وغني عن الذكر أن هذه الأنواع بمناهجها المختلفة يمكن أن تجتمع في كتاب أو بحث واحد؛ فكتابته عن النار تشرح عللها وأسبابها، كما تقدم أوصافا وآراء نقدية مختلفة في الفقرة التي يتكلم فيها عن شكل اللهب، حتى ليذهب إلى حد الشك في كون النار أحد العناصر الأربعة الأولية كما قال بذلك القدماء؛ ومن ثم إلى حد الشك في أسس الفيزياء القديمة بأكملها. وعلى العكس من ذلك نجد أن بحثه عن الأحجار والأراضي مجرد تجميع لوقائع كثيرة، وإن كان لا يخلو تماما من النظرة في العلل والأسباب، ولا من الآراء النقدية النافذة. والمهم أن أعماله تكشف في جملتها عن براعته في تحديد المشكلة، وبيان صعوباتها، وقدرته على توجيه النقد لغيره، ودقة ملاحظته، وقدرته على التصنيف والتقسيم التي تتجلى قبل كل شيء في كتاباته عن النباتات والمعادن، وكل ذلك إلى جانب «منهجيته» ونزعته التجريبية التي تجعله - بعد أرسطو - أحد رواد المنهج العلمي الذي لا تنفصل فيه قوة الملاحظة عن النقد العقلي، ولا تجميع المادة عن الشك والتساؤل المستمر ومناقشة آراء السابقين ونقدها. (4)
ونأتي إلى السؤال العويص عن علاقته بأستاذه وصديقه، ومدى تأثره به أو استقلاله عنه. وهو سؤال عويص؛ لأن الباحثين والمؤرخين منذ القرن الأول قبل الميلاد قد درجوا على وضع ثيوفراسط في موضع الظل من أرسطو؛ أي إنهم رجعوا لأعماله لاستكمال الأجزاء الناقصة من النسق الأرسطي أو على الأقل لشرحه وتفسيره، ونظروا إليه في الحالين كأحد أتباعه، أو على أحسن الفروض باعتباره أوفى المحافظين على فلسفته. صحيح أنهم اعترفوا له بتعديل شيء أو إضافة أو تصحيح شيء هنا أو هناك من فلسفة المعلم الأول (مثل نظريته عن الأقيسة الشرطية التي أضافها - قبل الرواقيين ثم المناطقة العرب - لنظرية القياس عند أرسطو، ومثل رده لأحكام «الجهة» إلى الترجيح والاعتقاد الذاتي، ومعارضته لفكرة أرسطو المشهورة عن غائية الطبيعة بالرغم من دفاعه عن فكرته عن قدم العالم، بجانب كونه أحد رواد التاريخ الفلسفي من خلال عرضه لآراء الفلاسفة الطبيعيين قبل إبداء انتقاداته لها، وإدخاله لمفاهيم ومصطلحات عديدة (مثل مصطلح التكيف للبيئة والظروف المحيطة؛ الأويكيوزيس) من العلوم الطبيعية والبيولوجية المختلفة في اللغة الفلسفية، إلى جانب اهتمامه بدراسة الحياة الشعبية والأمثال والطباع نتيجة اهتمامه بالبحوث النفسية حتى عند الحيوانات).
12
استطاعت البحوث الحديثة عن ثيوفراسط أن تخرجه إلى حد كبير من ظل أرسطو الذي خيم عليه ما يقرب من عشرين قرنا، وهي الآن - كما يقول الأستاذ بيتر شتاينمتز الباحث في أعماله وناشر ومحقق ومترجم النص الأصلي لكتابه عن الطباع - في الطريق إلى بلورة فلسفته المستقلة التي بدأت معالمها في الوضوح بعد رحيل معلمه وصديقه.
والحقيقة أن القول بوجود فلسفة مستقلة لثيوفراسط أو إنكار ذلك ونفيه إنما يتوقف على تتبع العلاقة بين التلميذ والمعلم تتبعا تاريخيا يكشف عن الاستقلال التدريجي مع البقاء على الإخلاص والوفاء وإعلاء البناء على الأسس التي وضعها الأستاذ والصديق، ولا بد لتوضيح هذا من الكلام باختصار عن تطور كتابات ثيوفراسط وما طرأ عليها من تطور وتغير. (5)
Unknown page