ولم تستقبل الدعابة إلا بنظرة غير مبالية وهي تقول: أكنت تنتظر الزغاريد؟
وكان مدركا ما بها فقال: أنت غاضبة؟ - ذكي، عرفتها وحدك. - ما لك؟ - ولد، ألا تعرف ما لي؟ - لا والله. - يسري، أتراني ساذجة؟ - العفو، من قال ذا؟ - أنت، ألا تعرف ما لي؟ - أفهميني. - يسري، حط مخك في رأسك، ألا تعرف إلى من تتكلم؟ - ألأنني خطبت فايزة؟ - ها أنت ذا تعرف.
فقال يسري وابتسامة تعلو شفتيه: وماذا يغضبك في هذا؟ - ألا تعرف؟ ألا تعرف ماذا يغضبني في هذا؟ - اسمعي يا عبيطة، إنني حين أتزوج فايزة سأكون معك دائما. - وماذا كسبت أنا؟ - غدا تعرفين ماذا كسبت، هل أنت مجنونة؟ ألا تدرين الفوائد التي نجنيها من هذا الزواج؟ لقد طلبتك اليوم لتقنعيها بالزواج إن كانت غير راغبة. - وأنا يا يسري. - أنت في عيني، ألا تعرفين مكانتك عندي؟
فقالت ساخرة: أعرفها تماما. - لا والله، أنت لا تعرفين شيئا، غدا تعرفين، المهم الآن أن تقنعيها.
وصمتت دولت. لم تنبئه أن فايزة قد قبلت الزواج مرغمة. فقد أرادت أن تنتهز الفرصة لتظهر له أنها صاحبة الفضل في هذا الزواج عسى أن ينفعها هذا في أيامها القادمة. ولم يتركها يسري لصمتها، بل قال: هيه! ماذا قلت؟ - وماذا عساي أقول؟ - هل سأل الباشا فايزة عن رأيها في الزواج؟ - نعم. - وماذا قالت؟ - لم تقل شيئا. - كيف؟ - تركته وخرجت إلى حجرتها، وقد ظلت تبكي طول يومها أمس. - أهي التي أخبرتك بالخطبة، أم كنت معها حين أخبرها أبوها؟ - هي التي أخبرتني. - ولماذا تبكي؟ - ألا تعرف؟! - ألا تريد الزواج؟ - إنها تعتقد أنك تريدها لمالها. - وماذا قلت لها؟ - وماذا كنت تريدني أن أقول؟! - ماذا قلت؟ - أنا أعرف أنها ساذجة وضعيفة. - إذن فقد وافقت على زواجها بي. - أنت والله لا تستأهل هذا العطف مني. - أبقاك الله لي. - أبعد يدك. - أنت أعظم إنسانة في العالم، غدا ترين كيف أعوضك عن هذا. - كلام! - غدا ترين.
الفصل الحادي والثلاثون
وأقيم الفرح، فرحا متألقا، وجلست فايزة إلى جانب يسري يحف بهما الورد أكداسا، وكان يسري فرحا غاية الفرح، وكانت فايزة تعسة يملأ الخوف قلبها رعبا، تكاد تثق أن زوجها هذا لم يتزوجها لذاتها، وإنما لمالها، ومع ذلك لا يزال وامض من الأمل يراوحها ويغاديها تذوده عن نفسها باليأس القاتل المرير. حتى إذا بارحها هذا الوميض المتهافت وخلت إلى اليأس وحده خالصا عادت تسترجع وامض الأمل لتجد فيه راحة، ثم ما تلبث أن تجد في الشك عذابا يعدل عذاب اليأس أو يزيد، فتظل تتقلب بين نيران الأمل ولواذع اليأس يملأ الرعب قلبها على الحالين، ويسري بجوارها ينظر إلى الراقصة نظرات جريئة، وينظر إلى المستقبل نظرات مقتحمة، يطمئن نفسه أنه بلغ من الحياة ما يريد أن يبلغ. وتلتقي عيناه بعيني أمه فيجد فيهما الخوف فيشيخ عنها لينظر إلى الدكتور حامد، فيجده فرحا مطمئنا مقبلا، وإذا التقت عيناه بعيني دولت وجد فيهما تساؤلا ووجد في شفتيها ابتسامة المتفضل إلى المفضول، وابتسامة حامل السر يبديها لمن يحمل سره.
وبحث يسري عن أخيه خيري فلم يجده، فخطر في ذهنه أن يبحث عن وفية فلم يجدها أيضا، فقال في نفسه: «لعلهما التقيا ولعلهما الآن يتذكران الهوى القديم.» ثم يبتسم ساخرا من أفكار أخيه الخيالية ويعود إلى الراقصة ينعم النظر في جسمها اللدن يتأود أمامه فيرى فيها فرحة الدنيا التي يقبل عليها.
لم تكن وفية ولا كان خيري في البهو الذي أقيم فيه الفرح، فقد انتهزت وفية خلسة من الناس وأومأت إلى خيري أن يتبعها فتبعها، وصعدت إلى الطابق الأعلى وهو وراءها. حتى إذا اطمأنت إلى نجوة من العيون جلست وجلس، وقالت وفي عينيها خوف ولهفة: خيري، لقد أردت أن أراك منذ وقت طويل.
وقال خيري في هدوء: نعم أعرف. - لماذا لم تأت؟ - لأنني أعرف ما تريدينني فيه. - هل أخوك مثلك؟ - أترينه كذلك؟ - بل أرى فيه صنفا من الناس يختلف عنك كل الاختلاف. - إذن فقد أدركت. - لا شك. - أنا لا يد لي في الأمر. - وهذا أدهى. - وماذا تريدينني أن أفعل؟ - أما كان جديرا بك أن تحذر أبي؟
Unknown page