وأقفل الباب وذهب إلى أمه ينبئها بمرض فايزة، واستقبلت الأم النبأ في شيء من الإشفاق سائلة عن نوع المرض، ثم قالت لابنها إنها ستزورهم بمجرد عودة أبيه لتستأذنه وتستقل سيارته في زيارتها. ثم دار بينهما الحديث بعد ذلك في نواح شتى، ولكن الأم لاحظت أن الابن فرح طروب يجاهد عينيه ووجهه ألا تفضح ما يموج في قلبه من هناءة ورضا. وشاءت الأم أن تظهر لولدها أن ما يبذله من جهد قد نجح، وأنها لم تلحظ السعادة التي يعيش فيها.
ولكن غريزة المرأة الأم لم تمهد لها المضي فيما تشاء، فإذا هي تجذب الحديث جذبة عنيفة إلى ناحية لم يكن خيري يتوقع أن ينحرف إليها الحديث، قالت الأم في هدوء: خيري! - نعم يا نينا. - لماذا لا نخطب لك؟ - ماذا؟ - لماذا لا نخطب لك؟ - أنا تلميذ ولا أزال في البكالوريا. - وماله؟ - كيف؟ - أنت تلميذ مستقيم، نخطب لك، وحين تتخرج تتزوج. لم لا؟ - ولكن يا نينا. - ماذا؟ - لا يا نينا، هذا غير معقول. - أترى هذا؟ - والله أظن لو انتظرنا قليلا. - ولماذا ننتظر؟ - والله أمرك. - قد لا تنتظر العروس التي تريدها.
وانتفض خيري في حيرة ذاهلة: ماذا؟ العروس التي أريدها؟ أي عروس؟
وقالت الأم في سخرية رحيمة: وفية. - نينا. - نعم. - هل قلت إني أريدها؟ - إنك يا ابني تقول هذا كل يوم، كل دقيقة، كل مذاكرة مع محسن، وكل عودة من عند محسن، المصيبة أن الأولاد دائما يظنون أن آباءهم وأمهاتهم سذج، وأنهم يستطيعون أن يضحكوا منهم.
وتشرق نفس خيري وتعلو وجهه حمرة يجاهد أن يخفيها فيخفق جهده، ولا يجد شيئا يقوله آخر الأمر إلا: على كل حال يا نينا لا بد أن ننتظر قليلا. - طبعا، حتى تنال البكالوريا.
ويتلعثم خيري وهو يقول: نعم، وتشفى فايزة. - ماذا؟ تشفى فايزة! وهل مرضها خطير يا ابني؟ - أبدا، ولكنها مريضة على كل حال. - مرض بسيط وستشفى منه طبعا قبل دخولك الامتحان بوقت كبير. - إن شاء الله، أقوم أنا أذاكر قليلا. - قم يا بني، ربنا يوفقك، أليس عندك مدرس اليوم؟ - نعم، سيأتي حامد أفندي، وكان مفروضا أن يأتي محسن ليأخذ الدرس معي؛ ولذلك سأؤجل الحصة اليوم. - وهل سيعطي يسري درسه؟
وضحك خيري وهو يقول: إن حامد أفندي مدرس ممتاز، وهو يدرس ليسري من أجل خاطرنا فقط. - أليس مدرسا في مدرسته؟ - مجرد سوء حظ، إنما الحقيقة أنه فوق مستوى الابتدائي بكثير. وقد طلب إلي أن أرجو عمي عزت ليرقى إلى الثانوي. - وهل كلمته؟ - نعم، ووعد بأن يتكلم له. - ربنا يوفق الجميع يا ابني. - على الله، أقوم أنا.
وقام خيري إلى مذاكرته، ولكن أي مذاكرة؟ لقد داعب حديث أمه أملا كان يهفو إليه وما كان ليتوقع أن يأتي إليه هكذا من قريب، لم يكن ينوي المذاكرة في يومه هذا، أما وقد أصبحت المذاكرة هي طريقه إلى وفية فهو سيذاكر اليوم، وكل يوم، وكل ساعة، ولكن أي مذاكرة يطيقها اليوم؟ عيناه في الكتاب وخاطره مشغول يجمح به إلى هواه الذي كان بعيدا فأصبح وهو لا يمنعه عنه إلا هذا الكتاب، فيعود إليه هنيهات، ثم يتركه. وهكذا كانت مذاكرته كحسو الطائر، يشرب مهما يشرب، فلا يصيب من الماء إلا رذاذا أو أقل من الرذاذ.
الفصل الرابع
كان حامد أفندي عبد الكريم يقيم مع أمه الست مريم وأخته دولت في شقة متواضعة على رغم أنفها في الدراسة، أما أبوه فقد تركهم لا يرد جوعهم إلا معاش ضئيل، استطاع حامد أن يزيده بعض الشيء بوظيفة حصل عليها كان يعمل بها بعد الظهر. واستطاع أن يجمع بين الوظيفة والمدرسة حتى يحصل على دبلوم المعلمين، وأصبح مدرسا للغة الإنجليزية والجغرافيا والتاريخ بمدرسة المنيرة الابتدائية. وقد كان حامد مثابرا في المذاكرة، حتى لقد استطاع أن يحصل على مكان كريم بين زملائه المتخرجين في دفعته، ولكنه كان بلا وساطة؛ فلم يستطع أن ينال إلا هذا المكان بمدرسة المنيرة. وهكذا ما كاد يعرف أن لأهل يسري صلة بذوي السلطان حتى بذل غاية جهده أن تتصل أسبابه بيسري. وقد نجح جهده وأصبح المدرس الخصوصي ليسري ولخيري أيضا. ولم يضع وقتا كثيرا، فإنه ما لبث أن طلب إلى خيري أن يكون شفيعه إلى عزت بك، ليشفع له في الوزارة، وقد اتسعت الآمال أمام عينيه منذ ذلك اليوم وأصبح يحلم بالترقية إلى المدارس الثانوية، حتى لقد قصد في يومه هذا إلى الوزارة ليعرف الأمكنة الخالية بمدارس القاهرة الثانوية، ولكن أبحاثه قادته إلى سبيل آخر لم يكن ليفكر فيه؛ فلقد أبلغه زميل له بالديوان العام أن الوزارة في سبيلها إلى إرسال بعثة إلى إنجلترا في العلوم الاجتماعية، وأن المرشحين لهذه البعثة من المتقدمين في دفعته. وقد أبلغه زميله أيضا أنه يستطيع أن يسافر في هذه البعثة إذا هو عثر على وساطة كبيرة ذات نفوذ في الوزارة. وهكذا عاد حامد إلى بيته والآمال تزحم نفسه أن يفوز بهذه البعثة، أربع سنوات قابلة للزيادة في إنجلترا، ومن هناك يستطيع أن يدور بالعالم أجمع. إنجلترا، أي أمل ضخم هذا، وأي مستقبل عريض ينتظره عند عودته، وما له لا يسعى وأي ضير في ذلك؟ ليجعل هدف البعثة بديلا عن هدفه القديم من ترقيته إلى المدارس الثانوية. قد تعترض أمه، ولكن أي أم لا تعترض على غياب ابنها أربع سنوات عنها؟ ولو أطاع الناس جميعا أمهاتهم لما نال أحد دكتوراه ولظلوا قابعين بجانب أمهاتهم فلا يصيبون من العلم إلا هذه الدرجة التي نالوها. وقد يضيق الحال بأمه بعض الشيء، ولكنها تعودت أن تكتفي بالمعاش، فلتعتمد عليه هذه السنوات. ولكن دولت كبرت وكثرت طلباتها، ولكن ما البأس بأمه وأخته أن تحتملا الضيق هذه السنوات القلائل ثم يعوضهما عنها بالعيش الرغيد؟ وماذا عليه لو قبل زواج دولت من فهمي الفهلوي، ولكن كيف؟!
Unknown page