The Story of Mankind
قصة البشرية
Publisher
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Genres
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فإن السعادة هدف منشود، ومطلب مُلِح، وغاية مبتغاة.
وكل إنسان يعيش على وجه الأرض يسعى لإسعاد نفسه، وطرد الهم عنها.
ولقد حرص الكتاب، والمفكرون، والفلاسفة، والأدباء، والأطباء على البحث في أسباب جلب السعادة، وطرد الهم؛ ولكل وجهة هو موليها، وقد علم كل أناس مشربهم.
ومع ذلك فإن السعادة التي يصل إليها أكثرهم سعادة مبتورة، أو ناقصة، أو وهمية أشبه ما تكون بالمخدر يتناوله متعاطيه، فيشعر بنشوة أول وهلة، حتى إذا ذهب أثره رجعت إليه الأحزان أضعافًا مضاعفة.
والسبب أن أولئك يغفلون أصل الأصول في جلب السعادة الحقة، ألا وهو الإيمان بالله ﷿ فذلك سر السعادة وطريقها الأقوم؛ فلا يجد السعادة الحقة الدائمة إلا من آمن بالله، واهتدى بهداه؛ فهناك يسعد في دنياه وأخراه.
1 / 1
وهذا الكتاب (١) الذي بين يديك يدعوك إلى السعادة العظمى؛ لأنه يهديك إلى الإيمان بربك الذي خلقك، ويدلك على الاعتقاد الحق الذي يؤيده عقلك السليم، وفطرتك السوية، والذي تعرف من خلاله بداية خلق الإنسان ونهايته، والحكمة من إيجاده، وغير ذلك مما ستجده في الصفحات التالية.
فهذا الكتاب يعرفك بدين الإسلام الذي ختم الله به الأديان، وارتضاه لجميع عباده، وأمرهم بالدخول فيه.
وسيتضح لك من خلاله عظمة هذا الدين، وصحة ما جاء به، وصلاحه لكل زمان، ومكان، وأمة.
وإذا أردت التفصيل بعد ذلك فما عليك إلا أن تبحث بنفسك، وأن تسأل عما يشكل عليك؛ فالإسلام دين مفتوح لا يغلق في وجه أحد، ولا يضيق بالأسئلة مهما كثرت وتنوعت؛ فلكل سؤال في دين الإسلام جواب، ولكل قضية حكم.
فإلى موضوعات الكتاب، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
الزلفي ١١٩٣٢ - ص. ب: ٤٦٠
٥ / ٤ / ١٤١٢٠ هـ.
_________
(١) هذا الكتاب كتب لتعريف غير المسلمين بالإسلام، ولهذا سوف يلاحظ القارىء قلة الحواشي والتفصيلات
1 / 2
قصة البشرية
تبدأ قصة البشرية منذ أن خلق الله أبا البشر آدم ﵇ حيث خلقه الله بيده الكريمة من طين، ونفخ فيه من روحه، وعَلَّمَهُ أسماء الأشياء كلها من الطيور، والدواب، وغير ذلك، وأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم؛ زيادة في التكريم والتشريف؛ فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر، فأهبطه الله من ملكوت السماوات، وأخرجه ذليلا مدحورا، وقضى عليه باللعنة، والشقاء، والنار.
وبعد ذلك سأل إبليس ربَّه أن يُنظِرَه إلى يوم القيامة، فقال الله: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ فقال إبليس: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾، وقال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
فقال الله ﷿ ﴿اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾
1 / 3
فأخرجه الله من الجنة، وأعطاه القدرة على الوسوسة والإغواء، وأمهله إلى يوم القيامة؛ ليزداد إثما، فتعظم عقوبته، ويتضاعف عذابه، وليجعله الله محكا يتميز به الخبيث من الطيب.
ثم بعد ذلك خلق الله من آدم زوجه حواء؛ ليسكن إليها، ويأنس بها، وأمرهما أن يسكنا دار النعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأخبرهما ﷿ بعداوة إبليس لهما، ونهاهما عن الأكل من شجرة من أشجار الجنة؛ ابتلاءًا وامتحانًا؛ فوسوس لهما الشيطان، وزين لهما الأكل من تلك الشجرة، وأقسم لهما أنه لهما من الناصحين، وقال: «إن أكلتما من هذا الشجرة كنتما من الخالدين»
فلم يزل بهما حتى أغواهما، فأكلا من الشجرة، وعصيا ربهما؛ فندما على ما فعلا أشد الندم، وتابا إلى ربهما، فتاب عليهما، واجتباهما، لكنه أهبطهما من الجنة دار النعيم إلى الدنيا دار النصب والتعب، وسكن آدم الأرض، ورزقه الله الذرية التي تكاثرت، وتشعبت إلى يومنا الحاضر، ثم توفاه الله، وأدخله الجنة.
ومنذ أن أهبط الله آدم وزوجته إلى الأرض والعداوة قائمة مستمرة بين بني آدم من جهة، وبين إبليس وذريته من جهة.
1 / 4
ومنذ ذلك الحين وإبليس وذريته في صراع دائم مع بني آدم؛ لصدهم عن الهدى، وحرمانهم من الخير، وتزيين الشر لهم، وإبعادهم عما يرضي الله؛ حرصا على شقائهم في الدنيا، ودخولهم النار في الآخرة.
ولكن الله ﷿ لم يخلق خلقه سدى، ولم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم الرسل الذين يبينون لهم عبادة ربهم، وينيروا لهم دروب الحياة، ويوصلوهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، فأخبر - سبحانه - الجن والإنس أنه إذا أتاكم مني كتاب، أو رسول يهديكم لما يقربكم مني، ويدنيكم من مرضاتي فاتبعوه؛ لأن من اتبع هدى الله، وآمن بكتبه ورسله، وما جاء في الكتب، وما أمرت به الرسل فإنه لا يخاف، ولا يضل، ولا يشقى، بل تحصل له السعادة في الدنيا والآخرة.
وهكذا بدأت قصة البشرية، فعاش آدم ومن بعده ذريته عشرة قرون وهم على طاعة الله، وتوحيده، ثم حصل الشرك، وعُبِد غير الله مع الله؛ فبعث الله أول رسله وهو نوح ﵇ يدعو الناس إلى عبادة الله، ونبذ الشرك.
1 / 5
ثم تتابع الأنبياء والرسل من بعده على اختلاف بينهم في الأزمنة، والأمكنة، وبعض الشرائع، وتفاصيلها مع الاتفاق في الأصل وهو الدعوة إلى الإسلام، وعبادة الله وحده، ونبذ ما يعبد من دونه.
إلى أن جاء إبراهيم ﵇ فدعا قومه إلى ترك عبادة الأصنام وإفراد الله بالعبادة، ثم كانت النبوة في ذريته من بعده في إسماعيل وإسحاق ثم كانت في ذرية إسحاق.
ومن أعظم الأنبياء من ذرية إسحاق، يعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى ﵈.
ولم يكن بعد عيسى نبي من بني إسرائيل.
وبعد ذلك انتقلت النبوة إلى فرع إسماعيل؛ فكان أن اصطفى الله ﷿ محمدا ﷺ ليكون خاتما للأنبياء، والمرسلين، ولتكون رسالته هي الخاتمة، وكتابه الذي أنزل إليه وهو القرآن هو رسالة الله الأخيرة للبشرية.
ولهذا جاءت رسالته شاملة، كاملة، عامة للإنس والجن، العرب وغير العرب، صالحة لكل زمان، ومكان، وأمة وحال؛ فلا خير إلا دلت عليه، ولا شر إلا حذرت منه، ولا يقبل الله من أحد دينا سوى ما جاء به محمد ﷺ.
1 / 6
١- دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى ﵉ ورؤيا أمه آمنة: يقول النبي ﷺ عن نفسه: «أنا دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام»
ومعنى الحديث أن النبي ﷺ يقول: أنا مصداق دعوة إبراهيم الخليل ﵇ لأن إبراهيم لما كان يرفع القواعد من الكعبة في مكة ومعه ابنه إسماعيل كان يقول - كما أخبرنا الله عنه في القرآن -: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ .
فاستجاب الله دعوة إبراهيم وإسماعيل فكان النبي الخاتم محمدا ﵊ من ذريتهما.
1 / 7
أما قوله: «وبشرى عيسى» فإن نبي الله عيسى ﵇ قد بشر بالنبي محمد ﷺ كما أخبر الله عنه في القرآن فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾
فعيسى ﵇ هو آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل، وليس بينه وبين محمد ﷺ نبي.
فعيسى بَشَّر بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد، وأحمد من أسماء النبي محمد ﷺ.
أما رؤيا أمه فقد رأت رؤيا صادقة؛ ذلك أن أمه لما أخذها المخاض، فوضعته تَمَثَّل لعينيها ذلك النور الذي أضاءت له بصرى من أرض الشام.
1 / 8
٢- كون النبي ﷺ خرج في أمة العرب: تلك الأمة التي فُضِّلَتْ على غيرها من الأمم أنذاك، حتى استعدت لهذا الإصلاح الروحي المدني العام، الذي اشتمل عليه دين الإسلام، بالرغم مما طرأ عليها من الأمية، وعبادة الأصنام، وما أحدثت فيها غلبة البداوة من التفرق والانقسام.
ومع ذلك فقد كانت أمة العرب متميزة باستقلال الفكر، وسعة الحرية الشخصية، في الوقت الذي كانت الأمم الأخرى ترسف في عبودية الرياستين الدينية والدنيوية، محظورا عليها أن تفهم غير ما يلقنها الكهنة، ورجال الدين من الأحكام الدينية، أو أن تخالفهم في مسألة عقلية، أو كونية، كما حظرت عليها التصرفات المدنية والمالية.
وكانت أمة العرب - أيضا - متميزة باستقلال الإرادة في جميع الأعمال أيام كانت الأمم مُذَلَّلَةً مُسَخَّرة للملوك والنبلاء، المالكين للرقاب والأموال بحيث يستخدمونهم كما يستخدمون البهائم؛ فلا رأي لهم في سلم، ولا حرب، ولا إرادة لها دونهم في عمل ولا كسب.
1 / 9
وكانت أمة العرب ممتازة بعزة النفس، وشدة البأس، وقوة الأبدان والقلوب، أيام كانت الأمم مؤلفة من رؤساء أفسدهم الإسراف والترف، ومرؤوسين أضعفهم البؤس والشظف، وسادة أبطرهم بغي الاستبداد، ومُسَوَّدين أذلَّهم قَهْرُ الاستعباد.
وكانت أمة العرب أقرب إلى العدل بين الأفراد، وكانت ممتازة بالذكاء، وكثير من الفضائل الموروثة والمكتسبة كإكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، والنجدة، والإباء، وعلو الهمة، والسخاء، والرحمة، وحماية اللاجىء، وحرمة الجار - أيام كانت الأمم مرهقة بالأثرة، والأنانية، والأنين من ثقل الضرائب والأتاوى الأميرية.
وكانت أمة العرب قد بلغت أوج الكمال في فصاحة اللسان، وبلاغة المقال مما جعلها مستعدة للتأثر، والتأثير بالبراهين العقلية، والمعاني الخطابية، والشعرية، وللتعبير عن جميع العلوم الإلهية والشرعية، والفنون العقلية، والكونية - أيام كانت الأمم الأخرى تنفصم عرى وحدتها بالتعصبات الدينية والمذهبية، والعداوات العرقية.
وأعظم مزية امتاز بها العرب أنهم كانوا أسلم الناس فطرة بالرغم من أن أمم الحضارة كانت أرقى منهم في كل فن وصناعة.
1 / 10
والإصلاح الإسلامي مبني على تقديم إصلاح النفس باستقلال العقل، والإرادة، وتهذيب الأخلاق على إصلاح ما في الأرض من معدن، ونبات، وحيوان.
وبهذا كان الله ﷿ يعد هذه الأمة للإصلاح العظيم الذي جاء به محمد ﷺ.
1 / 11
٣- شرف النسب: فقد كان نسبه ﵊ أشرف الأنساب، وأصرحها.
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾
فالله ﷿ اصطفى هؤلاء إذ جعل فيهم النبوة والهداية للمتقدمين، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى من بني هاشم سيد ولد آدم محمدا ﷺ فكان آل إسماعيل أفضل الأولين والآخرين، كما كان بنو إسحاق أفضل المتوسطين.
أما اصطفاء الله لقبيلة قريش فقد كان بما آتاهم الله من المناقب العظام، ولا سيما بعد سُكنى مكة، وخدمة المسجد الحرام؛ إذ كانوا أصرح ولد إسماعيل أنسابا، وأشرفهم أحسابا، وأعلاهم آدابا، وأفصحهم ألسنة، وهم الممهدون لجمع الكلمة.
أما اصطفاء الله لبني هاشم فقد كان لما امتازوا به من الفضائل والمكارم؛ فكانوا أصلح الناس عند الفتن، وخيرهم لمسكين ويتيم.
وإنما أطلق لقب هاشم على عَمْرو بن عبد مناف؛ لأنه أول من هشم الثريد - وهو طعام لذيذ - للذين أصابهم القحط، وكان يشبع منه كلَّ عامٍ أهلُ الموسم كافة، ومائدته منصوبة لا ترفع في السراء ولا في الضراء.
1 / 12
وزاد على هاشمٍ ولَدُه عبدُ المطلب جدُّ الرسول ﷺ فكان يطعم الوحش، وطير السماء، وكان أول من تعبد بغار حراء، وروي أنه حرم الخمر على نفسه.
وبالجملة فقد امتاز آل النبي ﷺ على سائر قومه بالأخلاق العلية، والفواضل العملية، والفضائل النفسية.
ثم اصطفى الله ﷿ محمدا ﷺ من بني هاشم؛ فكان خير ولد آدم، وسيدهم.
1 / 13
٤ - بلوغه ﷺ الذروة في مكارم الأخلاق: فقد جبله الله ﷿ على كريم الخلال، وحميد الخصال، فكان قبل النبوة أرقى قومه، بل أرقى البشرية في زكاء نفسه، وسلامة فطرته، وحسن خلقه.
نشأ يتيما شريفا، وشب فقيرا عفيفا، ثم تزوج محبا لزوجته مخلصا لها.
لم يتولَّ هو ولا والده شيئا من أعمال قريش في دينها ولا دنياها، ولا كان يعبد عبادتهم، ولا يحضر سامرهم، ولا ندواتهم، ولم يؤثر عنه قول ولا عمل يدل على حب الرياسة، أو التطلع إليها.
كان يُعرفُ بالتزام الصدق، والأمانة، وعلو الآداب؛ فبذلك كان له المقام الأرفع قبل النبوة؛ حتى لقبوه بالأمين.
وعلى هذه الحال كان ﷺ حتى بلغ أشده، واستوى، وكملت في جسده الطاهر، ونفسه الزكية جميع القوى، لا طمع في مال، ولا سمعة، ولا تطلع إلى جاه ولا شهرة، حتى أتاه الوحي من رب العالمين - كما سيأتي بيانه بعد قليل -.
1 / 14
٥- كونه ﷺ أميا لا يقرأ ولا يكتب: فهذا من أعظم المهيئات والدلائل على صدق نبوته؛ فهذا الرجل الأمي الذي لم يقرأ كتابا، ولم يكتب سطرا، ولم يقل شعرا، ولم يرتجل نثرا، الناشئ في تلك الأمة الأمية - يأتي بدعوة عظيمة، وبشريعة سماوية عادلة تستأصل الفوضى الاجتماعية، وتكفل لمعتنقيها السعادة الإنسانية الأبدية، وتعتقهم من رق العبودية لغير ربهم - جل وعلا -.
كل ذلك من مهيئات النبوة، ومن دلائل صدقها.
1 / 15
ثانيا: نبذة عن نسبه، وحياته:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن حكيم، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان، وعدنان من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم ﵇.
وأم النبي ﷺ هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، وزهرة أخو جد النبي ﷺ.
وقد تزوج بها عبد الله والد النبي ﷺ وأقام معها في بيت أهلها ثلاثة أيام، فلم تلبث أن حملت بالنبي ﷺ ولم تجد في حمله ثقلا، ولا وحما كما هو شأن المحصنات الصحيحات الأجسام.
وقد رأت أمه رؤيا لما حملت به، وقد مر ذكر الرؤيا في كلام سابق.
وقد ولدته أمه سوي الخلق، جميل الصورة، صحيح الجسم، وكانت ولادته عام الفيل الموافق للحادي والسبعين بعد الخمسمائة للميلاد.
وقد توفي والده وهو حمل في بطن أمه، فكفله جده عبد المطلب، وأرضعته أمه ثلاثة أيام ثم عهد جده بإرضاعه إلى امرأة يقال لها حليمة السعدية.
1 / 16
وكان من عادة العرب أن يسترضعوا لأولادهم في البوادي؛ حيث تتوافر أسباب النشأة البدنية السليمة.
ولقد رأت حليمة السعدية من أمر هذا الرضيع عجبًا، ومن ذلك أنها أتت مع زوجها إلى مكة على أتان هزيلة بطيئة السير، وفي طريق العودة من مكة، وهي تضع الرضيع في حجرها كانت الأتان تعدو عَدْوَا سريعا، وتُخَلف وراءها كل الدواب؛ مما جعل رفاق الطريق كلهم يتعجبون.
وتحدث حليمة بأن ثديها لم يكن يدر شيئا من الحليب، وأن طفلها الرضيع كان دائم البكاء من شدة الجوع، فلما ألقمت الثدي رسول الله ﷺ در غزيرا، فأصبحت ترضعه وترضع طفلها حتى يشبعا.
وتحدث حليمة عن جدب أرض قومها ديار بني سعد، فلما حظيت بشرف رضاعة هذا الطفل أنتجت أرضها، وماشيتها، وتَبَدَّلت حالها من بؤس وفقر، إلى هناء ويسر.
وبعد سنتين عادت به حليمة إلى أمه وجده في مكة، لكن حليمة ألحت على أمه أن توافق على بقائه عندها مرة ثانية؛ لما رأت من بركته عليها؛ فوافقت أمه آمنة، فعادت حليمة بالطفل مرة أخرى إلى ديارها والفرحة تملأ قلبها.
1 / 17
وبعد سنتين عادت به حليمة إلى أمه، وعمره آنذاك أربع سنوات، فحضنته أمه إلى أن توفيت، وكان له من العمر ست سنين، فكفله جده عبد المطلب سنتين ثم توفي، فأوصى به إلى ابنه أبا طالب عم النبي ﷺ فحاطه بعنايته كما يحوط أهله وولده.
إلا أنه كان لفقره يعيش عيش الشظف؛ فلم يتعود ﷺ نعيم الترف.
ولعل ذلك من عناية الله بهذا النبي الكريم.
وكان ﷺ قد ألف رعي الغنم مع إخوانه من الرضاع لما كان في بادية بني سعد، فصار يرعى الغنم لأهل مكة؛ فيوفر على عمه أبي طالب بما يأخذه على ذلك من الأجر.
ثم سافر مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام، وله من العمر اثنتا عشرة سنة، وشهران، وعشرة أيام، وهناك رآه بحيرا الراهب، وبشر به عمه أبا طالب، وحذره من اليهود عليه بعد أن رأى خاتم النبوة بين كتفيه.
ثم إنه سافر مرة أخرى مُتَّجرا بمالٍ لخديجة بنت خويلد، فأعطته أفضل مما كانت تعطي غيره؛ إذ جاءت تلك التجارة بأرباح مضاعفة، بل جاءت بسعادة الدنيا والآخرة.
1 / 18
وكانت خديجة هذه أعقل وأكمل امرأة في قريش، حتى كانت تدعى في الجاهلية: الطاهرة؛ لما لها من الصيانة، والعفة، والفضائل الظاهرة.
ولما حدثها غلامها ميسرة بما رأى من النبي ﷺ في رحلته معه إلى الشام، من الأخلاق العالية، والفضائل السامية، وما قاله بحيرا الراهب لعمه أبي طالب في رحلته الأولى إلى الشام - تعلقت رغبتها به، وبأن تتخذه زوجا لها، وكانت قد تزوجت من قبل، وتوفي عنها زوجها؛ فتم ذلك الزواج الميمون، وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين سنة، وعمرها قريبا من أربعين سنة.
ولم يتزوج عليها طيلة حياتها، ولا أحب مثلها، وتوفيت بعد البعثة النبوية بعشر سنين، فكان كثيرًا ما يذكرها، ويتصدق عنها، ويهدي لصاحباتها، وهي الزوجة التي رزق منها جميع أبنائه عدا إبراهيم فإنه من زوجته ماريا القبطية.
هذه بعض أخباره وسيرته قبل النبوة، وبدء الوحي على سبيل الإجمال.
1 / 19
ثالثا: بدء الوحي:
بلغ النبي ﷺ أشده وقَرُب من الأربعين، واكتملت قواه العقلية والبدنية، وكان أول ما بدأ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح واضحة كما رآها في منامه.
ثم بعد ذلك حُبِبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بنفسه في غار حراء في مكة، فيتعبد الله الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بالطعام والشراب، حتى جاءه الحق، وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان، وذلك بأن تمثل له المَلَكُ جبريل، ولقنه عن ربه أول ما نزل من القرآن، فقال: ﴿اقرأ﴾ فقال «ما أنا بقارىء» فقال له: ﴿اقرأ﴾ فقال: «ما أنا بقارىء» فقال: ﴿اقرأ﴾ فقال: «ما أنا بقارىء» وكان جبريل بعد كل جواب من الأجوبة الثلاثة يضمه على صدره، ويعصره حتى يبلغ منه الجهد.
ولما تركه جبريل في المرة الثالثة ألقى عليه أول آيات أنزلت من القرآن، وهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾
1 / 20