The Muhammadan Message
الرسالة المحمدية
Publisher
دار ابن كثير
Edition Number
الأولى
Publication Year
١٤٢٣ هـ
Publisher Location
دمشق
Genres
مقدمة الكتاب
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين وخاتم النّبيّين، محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد؛ فإن المكتبة الإسلامية حافلة بالكتب في موضوع السّيرة النّبوية على صاحبها الصلاة والسلام- وإذا استعرضنا اللغات الأكثر تأليفا في هذا الموضوع غير العربية نجد اللغة الأردوية أكثرها تأليفا وأغناها في هذا الموضوع، وهي تحتوي على أقوى وأروع ما كتب في السيرة النبوية في العصر الأخير.
ومن جملة تلك الكتب فيها بالأردوية «سيرة النّبي ﷺ» للعلامة الباحث المؤرخ الشيخ شبلي النّعماني «١» الّذي بدأ بتأليفه وأكمل جزءين منها إذ عاجلته منيته، فعني بتأليف الأجزاء التالية تلميذه النابغ العبقري العلامة سيد سليمان النّدوي حتى أكمله في سبعة مجلدات ضخمة التي تعتبر اليوم
_________
(١) هو الأستاذ العلامة المؤلف، الباحث المؤرخ العلامة الشيخ شبلي النعماني أحد رجال النهضة الإسلامية وكبار المصلحين في الهند، شارك في تأسيس دار العلوم- ندوة العلماء، وأنشأ دار المصنفين في أعظم كره، كان وثيق الصلة بالعالم الإسلامي ونهضاته السياسية والاجتماعية، توفي سنة ١٩١٤ م، ومن مؤلفاته المشهورة بالعربية «انتقاد تاريخ التمدن لزيدان» وبالأردوية «السيرة النبوية» (الجزء الأول والثاني) و«سيرة الفاروق» و«النعمان»، انظر للاطلاع على ترجمته بكاملها كتاب: «شبلي النعماني علّامة الهند الأديب والمؤرخ الناقد الأريب» للأستاذ محمد أكرم الندوي، طبع دار القلم دمشق، وكتاب المحقق «الإعلام بمن في الهند من الأعلام في القرن العشرين» .
1 / 5
موسوعة في السيرة النبوية بالأردوية، ليس لها نظير في أيّ لغة من لغات العالم الإسلاميّ من أقصاه إلى أقصاه.
وقد فاق العلامة سيّد سليمان في تأليفها أستاذه العلامة النّعماني في الاطلاع على أسرار الشريعة، واستكناه وجوه التعويل، ومعرفة السنة النبوية، واستعراض الوقائع والحوادث استعراضا علميا دقيقا يضيق بنا نطاق المقام هنا عن سرد تفاصيل مواضيعها. يقول راوية العصر، وأمين التراث الإسلامي العلامة الكبير الشيخ محمد زاهد الكوثري مشيدا بهذا الكتاب ومقترحا بترجمته إلى العربية على علماء الأزهر: «... كتاب الأستاذ شبلي النّعماني الهندي وتلميذه وزميله الأستاذ سليمان الندوي في تمحيص السيرة النبوية عن الروايات الزائفة- باللغة الهندية في عدّة مجلدات- قد سدّ فراغا كبيرا في فضح دخيلة المستشرقين والردّ عليهم، وقد ترجم إلى اللغة الإنكليزية ثم إلى اللغة التركية، ولو قام بعض رجال الأدب بترجمته إلى اللغة العربية مع إصلاح بعض مواضع أخطأ فيها لكان هذا عملا نافعا يردّ به كيد أمثال البرنس كيتانو الإيطالي «١»، وغولد زيهير الهنغاري ...» «٢» .
وبعد هذا لا نبالغ إذا قلنا: إنّ صاحب هذا الكتاب الضخم العلّامة سيد سليمان الندوي من كبار المؤلفين في السيرة النبوية لعصره، وقد كان من مزاياه أنه بلغ في توسيع نطاق السيرة النبوية من سرد الأحداث، وبيان الشمائل، ووصف العادات إلى الرسالة المحمدية والتعليمات النّبوية والشريعة الإسلامية، وبحث شعبها المختلفة مبلغا لم يبلغه أحد قبله.
وهذا الكتاب الّذي بين يديك هو مجموعة من ثماني محاضرات للعلامة الندوي التي ألقاها بالأردوية تلبية لدعوة من هيئة التعليم الإسلامي بمدينة
_________
(١) كتابه في تاريخ الإسلام في مجلداته العشر مترجم إلى بعض اللغات الشرقية، وهو كتاب خطير يسعى المؤلف في طياته إلى وصم الإسلام وتاريخه المقدس تحت ستار البحث العلمي.
(٢) مقالات الكوثري، ص ٦٢٨- ٦٢٩، طبع المكتبة الأزهرية.
1 / 6
مداراس (الهند) عام ١٩٢٥ م، تلقي هذه المحاضرات الضوء على جوانب السيرة النبوية المختلفة، وتقدّم إلى القارئ عصارة أمهات كتب السيرة النبوية وما كتب فيها باللّغات الأجنبية، وخلاصة لمجلّدات ضخمة لكتابه «سيرة النبي ﷺ» يقول فيه فقيد الدّعوة الإسلامية العلّامة السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي:
«... فهو من أقوى الكتب في السّيرة وأروعها في جمال التعبير، وبثّ حلاوة الإيمان، وتوثيق الصلة بذات النّبيّ ﷺ، والكتاب عصارة لمكتبة كاملة في السيرة النبوية، وهو هدية ثمينة لغير المسلمين والمثقفين المسلمين، والباحثين عن الحق للتعريف بالإسلام، ولعرض سيرة النبي ﷺ بإيجاز، وأسلوب مقنع مؤثّر ...» «١» .
وقد طبعت مجموعة هذه المحاضرات للمرة الأولى عام ١٩٢٥ م باسم «خطبات مداراس» في كتاب مستقلّ، ونال تلقيا كبيرا، وإقبالا عظيما لدى القراء، حتى صدرت له عدّة طبعات في مدّة قصيرة، وسرعان ما صار الكتاب أهمّ مرجع في السيرة بالأردوية، قلما تخلو اليوم منه مكتبة من مكتبات ناطقي اللغة الأردوية، ثم ترجم الكتاب للإنكليزية باسم، Mohammad The Ideal Prophet وكان الإقبال عليه مثل صنوه بالأردوية.
ثم أراد العلامة المؤلف نقله إلى العربية لرغبة ملحة من الإخوة العرب، لكن كثرة المشاغل وضعف الصحة لم يسمحا له بذلك، فتولّى عملية ترجمته إلى العربية تلميذه الشاعر الأديب الأستاذ محمد ناظم النّدوي وأكمله في مدة قصيرة بأسلوب عربيّ أصيل يترقرق في غضونه وثناياه حلاوة وبهاء؛ من حيث لا يشعر القارئ بأنه مترجم من لغة إلى لغة، وتلك مقدرة فائقة يغتبط بها الأستاذ الكريم أي اغتباط، فصدرت له طبعات عديدة في مصر وسورية، ولكنها كانت في حاجة إلى التنقيح والتحقيق وبعض
_________
(١) «شخصيات وكتب» للعلامة أبي الحسن الندوي، ص ٥٦، طبع دار القلم- دمشق.
1 / 7
التعليقات والتراجم التي لا بدّ منها، فأشار عليّ أحد أساتذتي الندويين أن أقوم بهذا العمل، وكانت لهذا الكتاب منّة عظيمة عليّ كونه من باكورة الكتب التي قرأتها في السّيرة في الصغر.
فقمت بهذا العمل ما وسعني فيه من الجهد متهيبا خاشعا أمام جلال الموضوع، ومنزلة العلامة المؤلف، وعلو كعبه، وضلوعه في السيرة النبوية مؤمنا بضالة قدر نفسي، وقلة بضاعتي في علم السيرة النبوية حيث لا أزال طالبا صغيرا في مدرسته الوسيعة، أسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يتقبّله تقبلا حسنا، وأن يجعل عملي فيه خالصا لوجهه، إنّه سميع مجيب.
دمشق ١٤ ذي القعدة ١٤٢١ هـ
٧ شباط ٢٠٠١ م
كتبه
المعتز بالله تعالى
عبد الماجد الغوري
1 / 8
ترجمة العلّامة سيّد سليمان الندوي
إنّ الذين نعرفهم من رجال العلم الإسلامي، والذين عرفناهم، واتصلنا بهم، ودرسنا سيرهم وتراجمهم من رجال الهند وباكستان تنحصر عظمتهم ونبوغهم في ناحية دون ناحية، أو عدّة نواح من نواحي الحياة وشعب العلم، ولكنا لا نعرف من بينهم من أخذ من كلّ شيء بقسط كالعلامة سيد سليمان الندوي.
تخرج العلامة سيد سليمان الندوي في دار العلوم التابعة لندوة العلماء على أساتذتها ومنهم العلامة المحقّق شبلي النعماني.
وجعل من بعد ذلك يساعد الأستاذ النعماني في تحرير مجلة «الندوة» التي كان يرأس تحريرها، والتي كانت أمّ المجلات الأردية العلمية يومئذ.
ثم عيّن مدرسا للغة العربية في دار العلوم التي تخرج فيها، فظهر من كفاءته، وملكته الأدبية، وتفننه في طرق التدريس ما أنطق الألسنة بالثناء عليه. فظلّ كذلك زهاء ست سنين (١٩٠٦- ١٩١٢) كتب خلالها مقالات في مجلة «الندوة» .
ثم التحق بصحيفة «الهلال» الأسبوعية الزاهرة لأبي الكلام «١» - التي لم
_________
(١) هو محيي الدين بن خير الدين، أبو الكلام آزاد، أحد كبار علماء المسلمين وزعمائهم في الهند، وأحد كبار المؤلفين في هذا العصر، اشتغل في تحرير الهند من الاستعمار البريطاني، وتكرر اعتقال البريطانيين له، يقول الأستاذ أنور الجندي: «أمضى في السجن أحد عشر عاما ولم يصرفه عن هدفه في مقاومة الإنجليز، وصنف-
1 / 9
تصدر صحيفة أسبوعية مثلها باللغة الأردية إلى الآن- فعارض صاحبها المبدع في أسلوبه، وجعل ينشىء مقالات افتتاحية، لم يعرف الناس أبا عذرها وابن بجدتها، فتارة نسبوها إلى أبي الكلام، صاحب الصحيفة ورئيس تحريرها وأخرى عزوها إلى سيد سليمان.
وبعد الانقطاع عن دار الهلال أسّس جمعية دار المصنفين الشهيرة التي كان وصّى بها أستاذه شبلي النعماني وعاجلته المنية دون إبراز أمنيته- أمنية تأسيس مجمع علمي- إلى عالم الوجود. تأسس هذا المجمع العلمي- دار المصنفين- سنة ١٩١٥ م، ١٣٢٣ هـ في مدينة أعظم كره «١» مولد الشبلي النعماني، ومنبت أرومته، فعكف السيد سليمان يتعهّد الدار، ويعنى بتدريب الشبان، وتثقيف أحداث الكتّاب، وينشر نتاج قرائحهم بعد تهذيبه إلى أن تكونت جماعة صالحة من أفاضل الكتاب والمؤلفين الذين وقفوا حياتهم لخدمة الدين والعلوم الإسلامية، وأصدر من دار المصنفين مجلة «معارف» الشهرية بالأردوية التي تعتبر أرقى مجلة علمية في الهند.
ومن أبرز أعماله العلمية وأرفعها ذكرا إكماله لكتاب (سيرة النبي ﷺ الذي كان بدأ بتأليفه أستاذه المحقق العلامة شبلي النعماني، وهذا الكتاب هو دائرة معارف في السيرة النبوية، نشرت منه سبعة مجلدات ضخمة لا يقلّ أحدها عن سبعمئة صفحة من القطع الكبير، وهذه المعلمة من عيون ما ألّفه علماء الإسلام منذ قرون، ومن غرر ما أهداه علماء الهند إلى المكتبة الإسلامية العامّة.
وله مصنفات علمية نافعة غير هذا الكتاب الضخم، سارت سير الشمس
_________
- في السجن كتابه «التذكرة» بالأردوية. بعد استقلال الهند تولى رئاسة البرلمان، ثم وزارة المعارف إلى أن توفي سنة ١٩٥٨ م، وله مؤلفات قيمة نافعة، انظر للاطلاع على ترجمته بكاملها كتاب المحقق «الإعلام بمن في الهند من الأعلام في القرن العشرين» .
(١) مدينة صغيرة تقع في ولاية «ترابرديش» في شمال الهند.
1 / 10
- كمحاضراته في السيرة النبوية المعروفة ب (خطبات مداراس «١») و(سيرة عائشة) و(أرض القرآن) و(العرب والهند) و(خيّام) وغيرها من آثار قلمه التي تفاخر بها اللغة الأردية. وقد بلغ في المواضيع المختلفة من التحقيق والإجادة ما لم يبلغه أحد من معاصريه في هذه البلاد، وأضرب مثلا لذلك مصنفه الشهير في جغرافية القرآن التاريخية المسمّى (أرض القرآن) فقد تناول فيه بالبحث والتحقيق جميع البلاد والأمم المذكورة في الكتاب العزيز، وأحاط بتاريخهم، وجغرافية أماكنهم التي كانوا يقطنونها. صنفه منذ أربعين سنة، والموضوع بكر لم تطمثه أقلام الباحثين، وقد نقل هذا الكتاب النافع- مثل بعض مؤلفاته الآخرى- إلى اللغة الإنكليزية، وكذلك كتابه عن الشاعر الشهير الخيام، يعدّ من أحسن ما ألف في هذا الباب على كثرة ما ألف في الموضوع ببلاد الغرب، وقد شهد بذلك بعض كبار رجال الهند المطلعين على مصنفات الغرب في هذا الموضوع.
وبالنظر إلى هذه المؤلفات القيامة يمكن أن يصدر الحكم بأنّ شخصا واحدا في بعض الظروف ينجز من الأعمال العلمية الهائلة ما لا تستطيع الأكاديميات الكبيرة إنجازه، وقد كتب شاعر الإسلام العلامة محمد إقبال، الذي كان بدوره عالما كبيرا بالفلسفة والعلوم الشرقية، في رسالة له: (إنّ سيد سليمان الندوي يفجّر من الصخرة ينبوعا من العلم، ويمتلك ناصية العلوم الإسلامية) .
كان من مزايا شخصية العلّامة سيد سليمان الندوي: الجامعية، والشمول في المعرفة والبحث، فقد كان خبيرا بالعلوم القديمة والعصرية، وكان مؤرخا، وأديبا، وناقدا، ومحققا، وبجانب ذلك كان فقيها ومحدثا في آن واحد، وبالإضافة إلى هذا الاشتغال والشغف بالبحث العلمي كان من كبار القادة لحركة تحرير البلاد والانتفاضة السياسية للمسلمين، فكان يرأس اجتماعات وحفلات أدبية ولغوية، ويرأس مجالس فقهية، ودينية تضمّ العلماء، وكان أحد أعضاء وفد حركة الخلافة الذي توجه إلى إنكلترا
_________
(١) وهو الآن يقدّم محققا ومنقحا لأوّل مرّة باسم «الرسالة المحمدية» .
1 / 11
برئاسة زعيم الأحرار مولانا محمد علي في عام (١٩٢٠ م)، لشرح مشاعر المسلمين إزاء قضية الخلافة على المسؤولين البريطانيين، والمثقفين، وقادة الفكر في بريطانيا، وترأس أيضا وفد الخلافة الذي اشترك في المؤتمر الإسلامي الأول؛ الذي دعا إليه الملك عبد العزيز بن سعود في عام (١٩٢٦ م)، وكان أحد الأعضاء الثلاثة للوفد الذي توجه إلى أفغانستان بناء على دعوة نادر خان ملك أفغانستان لإعداد خطّة جديدة للتعليم في أفغانستان، وكان العضوان الآخران في الوفد الدكتور محمد إقبال، والسر رأس مسعود نائب رئيس الجامعة الإسلامية بعليجرة.
وقد انتقل في آخر حياته- قبل انتقاله نهائيا إلى باكستان- إلى إمارة بهوبال، وشغل مناصب رئيس القضاة، وأمير الجامعة الأحمدية، والمستشار للشؤون الدينية، ومكث هناك أربع سنوات، ثم اشترك في إعداد الدستور لجمهورية باكستان الإسلامية، وقام بإرشاد هذا البلد الفتي دينيا.
وبقي مشغولا بالذكر والعبادة، والتربية والإفادة، إلى أن وافاه الأجل في غرة ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمئة وألف هجرية (١٩٥٢ م) في كراتشي، وحضر جنازته كبار العلماء وأعيان البلاد، وسفراء الحكومات الإسلامية والعربية، ودفن بجوار الشيخ شبير أحمد العثماني «١» .
_________
(١) انظر: «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» للعلامة عبد الحي الحسني، الجزء الثالث، و«شخصيات وكتب» للعلامة أبي الحسن الندوي، ص ٥٦، ومجلة «المسلمون» المجلد الخامس، ص ٣٨٤، و«الإعلام بمن في الهند من الأعلام في القرن العشرين» للمحقق.
1 / 12
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة المؤلف
هذه ثماني خطب في ثماني نواح من السيرة النبوية، على صاحبها الصّلاة والتحية، ألقيتها، سنة ١٣٤٤ هـ باللغة الأوردية- لغة عامة الهند- على جماعات من شباب المسلمين وطلبة الكليات في مدينة مداراس بالهند، فاستمع لها الحاضرون باذان صاغية، وتلقاها المستمعون بقلوب واعية، وقرّظتها الصّحف والمجلّات بكلمات مشجعة، وامتدحها أهل الفضل بالثناء والإطراء، جزاهم الله خيرا. وكان ذلك مما شجعني على طبعها، ونشرها، فطبعت ونشرت مرّات، وأدخلت في مناهج التعليم في بعض الولايات. ثم نقلها بعض المترجمين إلى الإنكليزية فعمّ نفعها. وقد أحببت أن أنقلها إلى العربية لتردّ البضاعة إلى أهلها، فلم يتيسّر لي ذلك لكثرة المشاغل، فرغبت إلى بعض أصحابي أن يكفوني مؤونة النقل، فاستجاب لذلك الأخ الصالح الأديب الفاضل محمد ناظم النّدوي أستاذ اللغة العربية بدار العلوم لندوة العلماء سابقا، وشيخ الجامعة العباسية في بهاولبور الآن، فأتمّ ذلك في عدة أشهر من سنة ١٣٦٦ هـ وحالت دون طبعها حوادث سياسية حدثت بالهند.
فلما سكنت الزعازع، وأتيح لي الاتصال ببعض الإخوان من العرب المسلمين، سألوني أن أقدم إليهم بعض مؤلفاتي لتنشر على أبناء العربية
1 / 13
بمصر، فلبيت دعوتهم، وأهديت إليهم هذه الخطب لتكون مقدمة لأخواتها. وأسأل الله تعالى أن ينفع بها شباب المسلمين، ويجعلها وسيلة لي يوم الدين.
كراتشي (عاصمة باكستان) «١»
٢٠ شعبان ١٣٧١ هـ
١٤ مايو- أيار- ١٩٥٢ م
المخلص الداعي
سليمان الندوي
_________
(١) حين كتابة العلامة المؤلف هذه المقدمة كانت «كراتشي» عاصمة باكستان، ثم انتقلت إلى «إسلام آباد» .
1 / 14
المحاضرة الأولى سيرة الأنبياء هي الأسوة الحسنة للبشر
1 / 15
خصائص النباتات أكثر من خصائص الجماد، فواجباته أكثر، وخصائص الحيوان أكثر من خصائص النباتات، فواجباته أكثر، ومدارك الإنسان أرقى، فواجباته أعظم.
هذا العالم- وإذا سميناه «المتحف الأعظم» لم نعد الحقّ، ولم نرتكب الشطط «١» - يحتوي على أنواع من المخلوقات: ففيه ما شئت من جماد بديع الألوان، غريب الهيئات، وما يقع عليه نظرك من نبات بين أخضر ناضر، وأصفر فاقع، وأحمر قان إلى غير ذلك من شتى الألوان، وفيه ما يخطر أو لا يخطر على بالك من حيوان لو حاول أحدنا أن يحصي أنواعه لأعياه ذلك.
ومن أنواعه نوع عجيب يفوق سائر الأنواع في هيئته، ويفضل عليها بعلمه ونشاطه، وهو الإنسان.
هذا إذا نظرنا إلى العالم بعين من لا يتبصّر بحكمة ولا يتدبّر بعلم. أما الحكيم الذي ينعم النظر في الأشياء، والعالم الذي يحسن التأمّل في ملكوت الله، فيبدو لهما من الفوارق بين المخلوقات ما يتميّز به كلّ نوع عن غيره، ويكتشفان في كلّ شيء الخصوصية التي يمتاز بها ولا توجد في الأشياء الآخرى؛ لأن البارىء العظيم لما صوّر هذه المخلوقات اختصّ كلّا منها بخصائص، وأودع فيها من القوى ما امتاز به بعضها عن بعض. ومن هنا كانت هذه المخلوقات على غير اطّراد في الطبائع والمواهب، فتراها تتدرّج وترتقي- من أدنى إلى أعلى- على مدارج في الشعور والإدراك والإرادة. وإنّ أول الجماد وهو الهباءة- أو الذرّة كما يسمّونها اليوم- لا تجد فيها أثرا للحياة: من الشعور، والإدراك. ومن الجماد ما تلمح فيه أمارة خفيفة من أمارات الحياة. أما النبات فإن أمارات الحياة بارزة في نمائه واخضراره، بيد أنّه في درجة الصفر من حيث الشعور والإدراك. بينما نجد
_________
(١) الشّطط: بفتحتين مجاوزة القدر في كل شيء. وفي الحديث «لا وكس ولا شطط» هو لابن مسعود أخرجه موقوفا أبو داود والترمذي والنّسائي.
1 / 16
في الحيوان- مع الإحساس والشعور- إرادة قوية تحمله على الحركة: في القعود، والنهوض، والمشي. وللإنسان إحساس تامّ، وإدراك كامل، وإرادة بالغة، وعزيمة ماضية، وإلى هذه القوى الإنسانية- من شعور تامّ، وإدراك كامل، وإرادة قويّة، وعزيمة صارمة- يرجع تكليف الإنسان، ومن جرّاء ذلك قد حمل أثقال الفرائض، وأعباء الواجبات. وكلّما كان نوع من أنواع المخلوقات أقلّ نصيبا من هذه القوى الموهوبة له من الله، كان أخفّ عبئا في المسؤوليات، وأقلّ واجبات في مناط التكليف. فالجماد ليس عليه واجب قطّ، والنبات قد نال نصيبا من صفات الحياة فأصابه حظّ من الواجبات، أما الحيوان فأكثر حظّا، وأوفر نصيبا من الجماد والنبات في القوى الحيوية، فثقلت عليه أعباؤه من واجبات الحياة وتكاليفها. ولما كان نصيب الإنسان من العقل والمدارك، ومن الذكاء والفطنة، أوفى من سائر المخلوقات وأوفر؛ فقد ازدادت تكاليفه، وواجباته بنسبة ذلك. وتتفاوت الواجبات والتكاليف بين أفراد بني الإنسان بحسب تفاوتهم في مناط هذه الواجبات والتكاليف، أعني العقل والمدارك: فالمجنون، والمعتوه، والأحمق، والصبيّ لا يطالبون بما يطالب به العاقل الفطن، والعالم المثقف، ولا يستطيع أولئك أن يقوموا بما يستطيع أن يقوم به هؤلاء، وكلّ ذلك يرجع إلى تفاوت القوى الباعثة على العلم: بين شعور ناقص، أو إحساس كامل، وخمود الطبيعة، أو توقد القريحة. بل منهم من لا يكلّف بواجب قطّ، ومنهم من يكلّف ببعض الواجبات دون بعضها الآخر، ومنهم من يضطلع بالعبء الأعظم من الواجبات والتكاليف.
ثم إذا تأمّلنا المخلوقات وأمعنا النّظر فيها يبدو لنا أنّه مهما يكن عند مخلوق من شعور ناقص، أو إحساس ضعيف، أو إدراك ضئيل؛ فإنّ القدرة الإلهية قد تتولّى تربيته، وترعى نشأته، وتختصّه بعنايتها، حتى إذا امتازت صفاته، وارتقت مميزاته؛ فوّضت إليه الفطرة من أمر نفسه ما تحتمله قواه، وتستحقّه مواهبه. أليس من مواهب الله لبعض أصناف الحجر أن تتحوّل في جبالها ومعادنها إلى ياقوت وزمرّد، وصار لها هذا البريق الذي تتلألأ به أحجارها، بينما باتت الأحجار الآخرى المجاورة
1 / 17
للياقوت والزمرد محرومة هذا الجمال الذي أخذ بالعيون، والصفات التي تحيّر الألباب. ومن ذا الذي يغذو الحيتان في أعماق البحار، والحيوانات في الآجام «١» والصحاري القاحلة؟ ومن ذا الذي يشفي الحيوان إذا مرض، ويقيه عوادي الحرّ والقرّ «٢» في شهور القيظ وليالي الشتاء؟
من جرّاء ذلك نرى هذا الاختلاف البادي في صور أفراد نوع واحد من الحيوان، وهو يرجع إلى عوامل مختلفة: من برودة الجوّ، وحرارة البيئة، وطبيعة المناخ. فالكلب الأوربي يختلف عن الكلب الإفريقيّ بقدر ما بين بلاديهما من اختلاف في الجوّ والبيئة، فتختلف بسبب ذلك حاجاتهما، وتتباين لوازم حياتهما. وقد هيأت الفطرة الإلهية لكلّ منهما أسباب العيش، ولوازم الحياة التي تلائم طبعه، وتقضي بها حاجاته. فللكلب الأوربيّ ما ليس لأخيه الكلب الإفريقيّ من الفرو «٣» الأثيث الضافي «٤» .
وهكذا ترى الفرق جليا بين الحيوانات الشرقية والحيوانات الغربية في فرائها، وشعورها، وأوبارها، وبراثنها، ومخالبها، وأظفارها بل ترى الفرق أوضح وأجلى في سحنها، ووجوهها، وهيئات جلودها. ومردّ ذلك إلى حكمة خالقها الحكيم المدبّر، العليم بكل مخلوق، وما يحتاج إليه في غذائه، وبقائه، ولوازم حياته.
لقد تبين مما تقدّم: أنّ الخالق القيّوم ﷻ تكفّل بحاجات مخلوقاته المسلوبة الإحساس والشعور، وأنّ المخلوقات التي رزقت الشعور والإحساس قد وكلت إليها الفطرة الإلهية أمر السعي لتحصيل حاجاتها على قدر ما هي حاصلة عليه من الاستعداد الفطريّ لذلك، فالإنسان مكلّف بالسعي في أسباب رزقه، ومتاع حياته، وهو يلقى من
_________
(١) الآجام: (جمع الأجمة) الشجر الكثيف الملتف.
(٢) القرّ: البرد.
(٣) الفرو: جلود بعض الحيوان، كالدّببة والكلاب، والثعالب، تدبغ ويتخذ منها ملابس للدّفء وللزينة (ج) فراء.
(٤) الضافي: التامّ السّابغ.
1 / 18
التّعب والعناء ما يلقى في التجارة، والزراعة، والصناعة، وغير ذلك من وسائل الكسب. وليس لجسم الإنسان من الفرو الضّافي، والجلد المتين ما يدفع عنه عوادي البرد القارس، والحرّ اللافح «١»، لذلك هو مضطرّ إلى أن يعدّ بنفسه ما يقي جسمه حرارة القيظ، ولوافح السموم، وبرودة الشتاء، وسواقع الزّمهرير «٢»، فيصنع مختلف الثياب المناسبة لكلّ جوّ، ويعالج ما يصاب به من أمراض بما هداه إليه إدراكه من عقاقير، وأدوية، ووسائل.
ومن كان من المخلوقات أقلّ نصيبا من الإدراك، وأضعف حيلة في الحصول على متع الحياة، وأسباب العيش، تداركته الفطرة الإلهية، فمنحته في نفسه، وجسمه من أسباب الوقاية وأسلحة الجوارح ما يدفع به عن نفسه عادية الكون ومخلوقاته، ويسّرت له سبل العيش: فمن الحيوانات ما وهبه الخلّاق العظيم مخالب قاطعة، وبراثن مرهفة، ومنها المسلح في فمه بأسنان مفترسة، ومنها ذوات القرون، وذوات الأجنحة، والسوابح في اليمّ، والمدافعة عن كيانها بالحمة السّامة، إلى غير ذلك من الأسلحة والجوارح التي عوّض الله بها لبعض خلقه عما فقده من نعمة العقل، ونور البصيرة، ومذاهب الرأي. أما الإنسان المجرّد من مثل خرطوم الفيل، وقرن الثور، وسمّ الأفعى، وحمّة العقرب وسائر أسلحة الدوابّ والهوامّ، فكان لذلك أعزل ضعيفا، إلا أنه قد أوتي من العقل الكامل، والشعور الشامل، والحسّ المرهف، والفهم الثاقب، والبصيرة النافذة، ما لم يؤت أحد من خلق الله مثله. وهذه المواهب التي امتاز الإنسان بها على سائر المخلوقات تغنيه عما فقده من القوى الجسمية التي امتازت عليه بها الحيوانات القويّة، فاستطاع أن يسخّر الفيل العظيم الهيكل ذا الخرطوم الطويل، وأن يستذلّ الأسد الضّاري ذا البراثن الحديدية، وأن يقبض على الأفعى الثائرة، ويصيد الطيور المحلقة في جو السماء، بل صار لا يعييه حوت في لجج البحار الزاخرة، ولا وحش غابة كثيفة من الوحوش
_________
(١) الحرّ اللافح: الحرّ الحارق.
(٢) الزّمهرير: شدّة البرد.
1 / 19
المفترسة الكاسرة؛ لأنه قد اخترع بمواهبه العقلية أسلحة فاق بها على أسلحة سائر المخلوقات مجتمعة بلا استثناء.
مسؤولية الإنسان بقدر مواهبه:
سادتي: لا بدّ لكم أن تعترفوا- على اختلاف أديانكم، وتباعد أوطانكم، وتنوّع نزعاتكم وأفكاركم- بأنّ الإنسان قد انهالت عليه الواجبات، وتعدّدت المسؤوليات بسبب ما امتاز به من عقل راجح، ورأي حصيف، وفكر ثاقب، وفقه لطيف، وهذه الواجبات والمسؤوليات تسمّى بلغة الشرع «التكاليف» وهي موجهة إليه من ناحية قواه الظاهرة والباطنة، وكأنّ الإنسان قد خاطب الفطرة الإلهية بلسان مواهبه وقواه أن تفرض عليه عملا، فكان بسببها مكلفا بهذه الواجبات التي تملأ وسعه، وتتناسب مع طاقته، قال الله ﷿: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] .
وعبّر سبحانه عن هذا التكليف بالأمانة في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: ٧٢] . ولا يتصف بالظلم والجهل إلا المكلّف بالعدل والعلم، والظلم والجهل من نعوت الإنسان لا ينعت بهما غيره؛ لأنه لم يكلف بالعدل والعلم إلا هو، فهاتان الصفتان من صفات الإنسان: الأولى ضد العدل، والآخرى ضد العلم. وذلك لا يوجد إلا في الإنسان، فالظلم تعدّي الإنسان حدوده، واستعماله قوّته الظاهرة العاملة في غير محلّها.
والجهل نقص يتطرّق إلى الإنسان من جهة قواه العلمية. والظلوم يقابله العادل، والجهول يضادّه العالم. والعدل والعلم يتصف الإنسان بهما بالقوة لا بالفعل، فيحتاج إلى العدل لتكميل قوته العملية، وإلى العلم والمعرفة لتكميل قوته العلمية. والقرآن الحكيم قد يسمي العدل بالعمل الصّالح، والعلم بالإيمان. قال الله ﷿: وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر: ١- ٣] فمن لم يعمل صالحا؛ فقد ظلم نفسه، ومن لم يؤمن بالله؛ فقد جهل. ولا ينجو من الخسران إلا من آمن وعمل صالحا. وقد أشهد الله الزمان على خسران الإنسان. ومن الظاهر البيّن أنّ المراد بالزمان الحوادث التي حدثت فيه منذ بدء العالم، وقد صدق
1 / 20
كارليل «١» في وصفه التاريخ بأنه «سجل لأعمال العظماء وسيرهم»، وتاريخ العالم أصدق شاهد على أنّ كلّ أمّة لم تؤمن بالله، ولم تعمل صالحا بأنها قد خسرت، وهلكت، وكذلك الأفراد الذين لم يؤمنوا بالله، ولم يعملوا صالحا أنهم قد خسروا، وهلكوا. والصّحف السّماوية والأسفار القديمة ملأى بأنّ الظلم والجهل ما وجدا في بيئة إلا وجرّا عليها الخراب والدّمار، والعدل والعمل الصّالح ما وجدا في أمة إلا نتج عنهما الحياة والعمران.
وتقصّ عليك هذه الكتب وغيرها أنباء الذين آمنوا وعملوا الصالحات كيف أفلحوا، وعمروا الدّنيا، وأخبار الذين طغوا وبغوا كيف بادوا، وهلكوا، وذهبوا أحاديث تروى، وتفرّقوا أيدي سبأ، فلم يبق لهم إلا أثر بعد عين.
وتثني هذه الكتب على الذين قاموا أحسن قيام بالواجبات المكلفين بها من قبل فطرتهم، فأدّوا ما عليهم منها خير أداء، كما تذمّ الذين أهملوا فرائضهم، ونبذوها وراء ظهورهم. وحتى الإلياذة «٢»، والشاهنامة «٣»، ومهابهارته «٤»، ورامائن «٥»، وغيتا «٦»، كل هذه الأسفار، تقص علينا أخبار الأمم الذين خلوا من قبل، وتحدّثنا بما وقع من القتال بين الظالمين والعادلين، وبين الكافرين والمؤمنين، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار ممّن يعتبرون بتجارب الأمم، فينتهون عن الظلم والشر، ويرتدعون عن الكفر والشرك، ويقيمون الحقّ، ويتواصون بالخير ويعملون صالحا.
_________
(١) كارليل توماس (Carlyle،Tomas) أحد كبار المستشرقين، من أشهر كتبه «الأبطال» وقد عقد فيه فصلا رائعا عن الرسول ﷺ، نقله إلى العربية الأستاذ علي أدهم، مات سنة ١٨٨١ م.
(٢) الإلياذة: ملحمة يونانية عن حرب طروادة، من روائع الشعر العالمي، عرّبها شعرا سليمان البستاني.
(٣) شاهنامه: ملحمة للفردوسي من ٠٠٠، ٦٠ بيت في أخبار ملوك فارس وأساطيرهم.
(٤) مهابهارته: الملحمة القومية السنسكريتية للهندوس، يزيد عدد أشعارها على مئتي ألف بيت.
(٥) رامائن: ملحمة سنسكريتية تروي قصة إله الهندوس «راما» وفيها قصص وأمور فلسفية وروحيّة.
(٦) غيتا: كتاب مقدّس عند الهندوس.
1 / 21
حكمة إرسال الله الرسل للبشر:
أليست سور القرآن الحكيم، وأسفار التوراة والإنجيل ملأى بالقصص، مسجلة بأنّ كلّ أمّة آمنت وعملت صالحا، وعدلت في الحكم وجاءت بالحسنة قد أفلحت، ونجت، وسعدت، وكلّ أمة ظلمت، وكفرت بأنعم الله، وركبت هواها، وعدت طورها، وتعدّت الحدود الفطرية قد هلكت، وانقرضت دولتها، وتقوّض صرح مجدها. إنّ في بعض آيات كتاب الله قصة لمؤمن عادل صالح، وفي البعض الآخر منها قصة لظالم طاغ: كلّ ذلك ليرتدع الطّاغية عن طغيانه، ويكفّ الفاسق عن الفسق، وينتهي الظالم عن الظلم والبغي، فيعودوا جميعا إلى الرشد، ويكونوا عادلين مؤمنين صالحين.
لأجل ذلك بعث الله الأنبياء والرسل- قبل محمد ﷺ إلى كلّ بلد، بل إلى كلّ قرية، ليكونوا بسيرتهم الصالحة المستقيمة أسوة لأممهم، فتتبع الشعوب التي بعثوا إليها السنن التي يسنونها لأفرادهم وجماعاتهم، فيستقيموا، ويفلحوا جميعا، أو تهتدي بهدي الأنبياء والرسل طوائف من قومهم على الأقل، فيواصلوا الدّعوة، ويسيروا في طريق الحقّ. وقد بعث الله إلى الإنسانية خاتم رسله محمدا ﷺ بشيرا للناس كافة ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه، ورحمة للعالمين، لتكون لهم فيه أسوة، ويكون لهم من حياته الشريفة قدوة، ثم يكون مثلا أعلى للذين يأتون بعده إلى أن تقوم الساعة. وقد جاء في القرآن الكريم على لسان نبيه ﷺ: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [يونس: ١٦]، وذلك أنّ الرسول ﷺ ولد فيهم، وترعرع بينهم، ونشأ أمام أعينهم، وعاش بين ظهرانيهم برهة من الدّهر قبل بعثته، فعرفوا أخلاقه كل المعرفة، وجرّبوا عاداته وأعماله، فهو لم يكن فيهم غريبا، ولا خاملا، ولا مجهول الأحوال. والوحي الإلهي في هذه الآية يقدّم حياة الرسول وسيرته الطاهرة قبل البعثة دليلا على نبوّته ﷺ وأنّ رسالته هي من عند الله العظيم؛ ليؤمن به العرب، ويصدّقوه فيما يخبر به، أو يدعو إليه، فإنّهم قد علموا مصبحه وممساه، واختبروا أخلاقه وعاداته من صباه ونعومة أظافره إلى أن شبّ واكتهل، وأعلن نبوّته، وخرج إلى الناس يدعوهم برسالة الإسلام.
1 / 22
الفرق بين دعوة الرسل ودعاوى غيرهم:
لقد مضى في سالف الأيام كثير من العظماء، دعوا الناس إلى أن يقتدوا بأخلاقهم وأعمالهم، منهم ملوك جبابرة عاشوا في قصورهم الشامخة بين ندمائهم وجلسائهم وملؤوا القلوب مهابة وجلالة، ومنهم قادة جيوش عاشوا بين ضباطهم وجنودهم، يرهبون الناس، ويخيفونهم بشدّة بأسهم، وضخامة أجسامهم، ورواء هندامهم «١»، ومنهم حكماء وفلاسفة كانوا إذا نطقوا أبانوا، وإذا خطبوا أبدعوا، ونثروا من درر الحكمة ما شاءت بلاغتهم وطلاقة ألسنتهم، فملكوا القلوب، وبهروا النفوس. وترى بجانب هؤلاء طائفة الشعراء ممّن إذا أنشدوا أطربوا، وإذا رتلت أناشيدهم غلبوا السّامعين على أهوائهم، ولعبوا بالقلوب كيف شاؤوا. وقد خلا كثير من الفاتحين الذين دوخوا البلاد، واستولوا على المماليك، كما مرّ في مواكب التاريخ كثير من المثرين والأغنياء الذين كانت أقدامهم تطأ البسط الناعمة والزرابي «٢» الوثيرة، ويمشون على الحرير الفاخر والإستبرق «٣» الزاهر، اكتنزوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، واسترعوا أنظار بني آدم بما كانوا فيه من ترف، وعظمة، وسعة. وقد كان هنيبعل القرطاجني «٤»، والإسكندر المقدوني، وقيصر الروم، ودارا «٥» الفارسي، ونابليون الفرنسي يملأ كلّ منهم عيون بني آدم بعظمته، وأحداث حياته، ومختلف أعماله، وكذلك نجد سقراط، وأفلاطون، وديوجنس «٦»، وغيرهم من
_________
(١) الهندام: حسن القدّ، وتنظيم الملابس.
(٢) الزّرابيّ (جمع الزّربية): الوسادة تبسط للجلوس عليها، وفي القرآن: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية: ١٦] .
(٣) الإستبرق: الديباج الغليظ.
(٤) هنيبعل القرطاجني: قائد قرطاجني فينيقي الأصل (٢٤٧- ١٨٣ ق. م) أشعل الحرب الفونية ضد روما.
(٥) دارا: ملك الفرس.
(٦) هو: ديوجنس لا يرتيوس: فيلسوف يوناني صقلي، مؤلف أول تاريخ للفلسفة اليونانية.
1 / 23
حكماء اليونان وغير اليونان مثل: سبنسر «١» وأضرابه، تجتذب سيرتهم النفوس، وتروق القلوب، وإن اختلفت مظاهر عظمتهم عن مظاهر عظمة الآخرين ممّن ذكرت أسماءهم قبلهم. فهل ترى في حياة هؤلاء وأولئك ما يضمن فلاح بني آدم؟ ومن منهم تؤدي سيرته ودعوته إلى صلاح الإنسانية وسعادتها؟
إنّ في هؤلاء وأولئك لقادة فتحوا البلاد، ودوّخوا المماليك، واقتحموا أقصى الأرض، وأدناها، وذلّلوا ما اعترض سبيلهم من صعاب، وسخّروا الملوك بظبا سيوفهم. ولكن من منهم ترك لمن أتى بعده أسوة يؤتسى بها في تعميم الخير؟ ومن منهم إذا اهتدى الناس بهديه ينجون من المهالك، ويسلكون سبيل السعادة والهناء؟ ومن من هؤلاء استعملوا سيوفهم البواتر «٢» في قطع حبائل العقائد الفاسدة، وتخليص العقول من الأوهام الواهية والأفكار الباطلة؟ ومن منهم وقف حياته على حلّ معضلات بني آدم، وكان حريصا على عقد أواصر الإخاء بينهم على الحق والتواصي في الخير؟ وهل يوجد في حياة من ذكرنا من هؤلاء العظماء ما يستعين به بنو الإنسان على تخفيف ما يعانونه من الغمرات في حياتهم الاجتماعية؟ أم في أخلاقهم وأعمالهم ما ييسر للإنسانية الشفاء من أمراضها الخلقية وأوصابها النفسية؟
أم في دعوتهم ما يجلو صدأ القلوب ورينها، أو يرتق فتقا في الحياة الاجتماعية؟
لا شكّ أنّ الشعراء نالوا إعجاب الناس بأناشيدهم الرنّانة، وملكوا النفوس، وتصرّفوا فيها بشعرهم البليغ وقصائدهم الغرّ. ولكن هل نعوا الإنسانية وهم يهيمون في أودية الخيال؟ كلّا! ولذلك لم يكن لهم في جمهورية أفلاطون نصيب، ولا منصب. والشعراء- من هوميروس «٣» إلى
_________
(١) هو سبنسر هربرت (١٨٢٠- ١٩٠٣ م) فيلسوف وعالم اجتماع إنكليزي، صاحب مذهب قائم على التطوّر الطبيعي (أي: مذهب النشوء والارتقاء) .
(٢) سيوفهم البواتر: سيوفهم القاطعة.
(٣) هوميروس (Homers) شاعر ملحمي يوناني من القرن التاسع قبل المسيح، نسب-
1 / 24