The Impact of Quranic Readings on Lexicography: Taj al-Arus as a Model
أثر القراءات القرآنية في الصناعة المعجمية تاج العروس نموذجا
Publisher
رسالة دكتوراه بإشراف الأستاذ الدكتور رجب عبد الجواد إبراهيم-قسم اللغة العربية-كلية الآداب
Publisher Location
جامعة حلوان
Genres
جامعة حلوان
كلية الآداب
قسم اللغة العربية
رسالة دكتوراه بعنوان
أثر القراءات القرآنية في الصناعة المعجمية
"تاج العروس نموذجا"
مقدمة من الباحث
عبد الرازق حمودة عبد الرازق القادوسي
إشراف
الأستاذ الدكتور
رجب عبد الجواد إبراهيم
١٤٣١هـ / ٢٠١٠م
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
إهداء
1 / 3
المقدمة
1 / 1
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ (١)، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (٢). هكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، ذلك الكتاب المعجز والخاتم لكل رسالات السماء إلى الأرض، وحري بلغة هذا شأنها أن تكون أوسع اللغات مذهبا، وأكثرها لفظا، وأجلها إفصاحا وبيانا.
يتناول الدارس في هذه المقدمة: الموضوع وسبب اختياره، وأهدافه، والمنهج المتبع، ومادة الدراسة، والجهود السابقة، ثم خطة الدراسة.
أما موضوع الدراسة فهو: «أثر القراءات القرآنية في الصناعة المعجمية - تاج العروس نموذجا» ويعود سبب اختياره؛ لكونه يدرس جانبا مهما لا زالت المكتبة العربية فقيرة إليه، حيث يدرس مدى أثر القراءات القرآنية، في جانب الصناعة المعجمية، وذلك من خلال معجم "تاج العروس من جواهر القاموس" للزبيدي محمد بن محمد بن عبد الرزاق (١١٤٥ - ١٢٠٥هـ) وعلى الرغم من أن القراءات القرآنية قد ظهر إسهامها بفاعلية في صناعة المعجم العربي منذ "العين" - الذي يعد أول عمل معجمي للعربية - وتُوُسِّعَ في استخدامها فيما تلاه من معاجم موسوعية، فإن المكتبة العربية لا زالت في حاجة لمثل هذه الدراسة.
و"الصناعة المعجمية" علم - من حيث أُطُره وأُصُوله النظرية - جديدٌ لم تَلُكْهُ الألسنُ بَعْد، أما من حيث الممارسة والتطبيق، فهو من العلوم القديمة التي أبدع فيها العرب وشهد لهم بذلك الخصوم، إذًا الجديد فيه يتمثل في التنظير الذي يرسم الأطر والمحاور لينضبط العمل بمنهجيته. فالعرب مارسوا الصناعة المعجمية، ولكن في غياب المنهجية الدقيقة الصارمة الواضحة، التي تضفي على
_________
(١) الكهف: ١٧.
(٢) إبراهيم: ٤.
1 / 2
العمل الاستمرارية على نسق واحد، وفي نفس الوقت توفر على مطالع المعجم الجهد والعناء في سبيل الحصول على مبتغاه. فالحق أن هذا الفن كان له أكبر الأثر في صناعة المعجم المعاصر مما جعله مفيدا عن ذي قبل.
ووقع الاختيار على "تاج العروس نموذجا"؛ لأنه من أصح المعاجم، وأكبرها، وأشملها: من أصحها؛ لأن مؤلفه اطلع على كل ما حوته المعاجم القديمة، ونظر في قول أصحابها كل منهم لأخيه فأفاد منها كل الفائدة، وأكبرها لأنه طبع في أربعين مجلدا، وأشملها؛ لأنه احتوى على ما جاء في أكبر المعاجم العربية: كالمحكم، والعباب، واللسان (١) ...
وهو " أضخم معجم عربي شرح فيه مؤلفه القاموس جامعا ما تفرق في مؤلفات من سبقه من علماء اللغة والنحو والأمثال والطبقات والحديث ... " (٢). فهو بحق موسوعة احتوت غالب المعاجم العربية الموسوعية فصار جديرا بأن يمثل المعجم العربي في جميع جوانبه وخصائصه.
طبع التاج عدة طبعات أقدمها طبعة المطبعة الوهابية بالقاهرة سنة ١٢٨٦هـ صدرت منها خمسة مجلدات حتى آخر حرف العين، ثم طبعته المطبعة الخيرية بالجمالية سنة ١٣٠٦هـ. ثم عكفت مطبعة الحكومة بالكويت على نشره منذ سنة ١٣٧٩هـ -١٩٦٠م محققا ومراجعا، بإشراف لجنة فنية من وزارة الإرشاد والأنباء الكويتية، صدرت في أربعين مجلدا، وكان صدور آخر مجلد سنة ٢٠٠١م، بتحقيق الدكتور ضاحي عبد الباقي. ثم أصدرت دار الفكر ببيروت طبعتها سنة ١٤١٤هـ - ١٩٩٤م والتي قام بتحقيقها الأستاذ: علي شيري في عشرين مجلدا. وقد اعتمد الدارس على طبعة الحكومة الكويتية؛ لأنه عمل مؤسسي، تبنته وزارة الإرشاد الكويتية، وجندت له نخبة من خيرة العلماء الأكفاء، عكفوا على تحقيقه على مدار أكثر من أربعين عاما، مما دعاني إلى القول بأن هذا العمل أقرب إلى الكمال.
ومطالع التاج - دون عناء - يدرك أن الزبيدي قد اعتمد إلى حد كبير على القراءات القرآنية في صناعته لمعجمه، فما من مادة تطالعها، إلا وتَمُرُّ عليك عشرات المواضع للقراءات القرآنية، أوردها صانع المعجم محتجا بها للغة من اللغات، أو لعربية كلمة، أو تركيب، أو معنى من المعاني ... الخ. كما أن الزبيدي استطاع أن يستثمر القراءات على كل مستويات دراسة اللغة: صوتية وصرفية، ونحوية، ودلالية. ودراسة مثل هذه لابد منها لتجلية هذا الجانب في تراثنا الزاخر. وقد رأى الدارس أن هذه الدراسة تحقق الأهداف الآتية:
١ - استخلاص القراءات القرآنية من " التاج ".
٢ - تصنيف هذه القراءات حسب أبوابها ومباحثها من علم اللغة.
٣ - بيان أثر القراءات القرآنية في تأصيل المباحث الصوتية، كالهمز، والإبدال والإدغام، والجمع بين الساكنين، وهاء السكت ... إلخ.
٤ - إبراز دور القراءات في تأصيل الكثير من المباحث الصرفية، كصيغ الأسماء والأفعال، والمشتقات.
٥ - إسهام القراءات القرآنية في الكثير من المباحث الدلالية، نحو: المُعَرَّب وتغير الدلالة.
وأما عن المنهج الذي اختاره الدارس لتحقيق هذه الأهداف، فقد قام على حصر واستخلاص القراءات القرآنية ومتعلقاتها من معجم التاج، ثم تصنيف هذه القراءات حسب مستويات علم اللغة. إن المنهج العلمي المتبع في هذه الدراسة هو المنهج التحليلي. وهذا لا يمنع أن الدارس قد لجأ أحيانا إلى منهج آخر كالمنهج الوصفي.
وأما عن حيز الدراسة فهو القراءات القرآنية المتواتر منها والشاذ في معجم تاج العروس للزبيدي.
وقد رجعت بالقراءات التي ذكرها الزبيدي إلى مصادرها المتعددة: من كتب قراءات، واحتجاج، وتفسير، ومعاني، ونحو، ولغة ... كما أكثرت الرجوع إلى معجمين في القراءات: أولهما لأحمد مختار عمر، والآخر لعبد اللطيف محمد الخطيب، وكلاهما يحمل نفس الاسم تقريبا: (معجم القراءات)، فما ذكرت فيه (معجم القراءات) غير منسوب فهو لأحمد مختار، وأحيانا يأتي منسوبا لمختار، أما معجم الخطيب فهو يأتي دوما منسوبا لصاحبه منعا للبس.
وأما عن الدراسات السابقة ذات الصلة بهذا الموضوع فهي الدراسات التي تناولت القراءات في المعجم العربي، وهذا النوع من الدراسات عزيز في المكتبة العربية. بعد لأْيٍ توفر للدارس مطالعة أطروحة دكتوراه، بجامعة طنطا، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، عام ١٩٩٩م، موضوعها: "القراءات القرآنية في معجم تهذيب اللغة للأزهري في ضوء علم اللغة الحديث". وتتلخص هذه الدراسة في أن صاحبها قد عمد إلى جمع نماذج من القراءات من معجم التهذيب، ثم نسقها حسب مستويات علم اللغة: الصوتي، والصرفي، والنحوي. ومباحثها، وكان منهجه في دراسته أن يحدد الظاهرة ثم يفرش لها بمقدمة من علم اللغة، ثم يذكر نماذج من القراءات القرآنية الواردة في التهذيب مرتبة حسب ترتيب هذه الشواهد في القرآن الكريم، ثم يتبعها بما قيل فيها في كتب توجيه القراءات بصفة خاصة، وكتب القراءات واللغة بصفة عامة. كما أن صاحب الدراسة لم يدع أنه حصر كل القراءات الواردة في التهذيب، وإنما أخذ منها شواهد بالقدر الذي يحقق أهداف الدراسة. وقد بين صاحب الدراسة هدفه منها فذكر أنها: " محاولة جادة لإيجاد نوع من العلاقة الوثيقة بين مستويات التحليل اللغوية، التي تسري فيها حركة دينامية، تسفر بعد ذلك عن اتساع في الدلالات المتعددة للكلمة الواحدة، ويعد هذا هو الهدف الرئيسي للدراسة، مستعينا بأدوات التحليل اللغوي، واختيار منهج تحليل يقوم على التصنيف والتخريج " (٣).
أما عن الدراسات التي تناولت أثر القراءات القرآنية في الصناعة المعجمية فلم تقع يدي على دراسة متكاملة تعالج هذا الموضوع، وإن وجدت، فهي إشارات متناثرة في بطون الكتب، من أهمها دراسة ماجستير بعنوان (القراءات السبع والاستشهاد بها) (٤)، وقد بينت الدارسة هدفها من هذه الدراسة فقالت: "وقد قصدت منه أن أتعرض للقراءات واستشهاد العلماء بها في مختلف فنون اللغة،
_________
(١) انظر: المعجم العربي لحسين نصار: ٢/ ٦٧٨، ومعجم مسائل النحو والصرف في تاج العروس لشوقي المعري: المقدمة صفحة رقم: ف.
(٢) المعجم العربي لعدنان الخطيب: ٥٨، وانظر: معجم مسائل النحو شوقي المعري: المقدمة.
(٣) ص: ٦.
(٤) هذه الدراسة مقدمة من الطالبة رقية محمد صالح الخزامي، إلى قسم اللغة العربية، بكلية الشريعة الإسلامية، جامعة أم القرى بمكة المكرمة، تحت إشراف أ. د: عبد الفتاح إسماعيل شلبي سنة: ١٤٠١هـ. وقد طالع الدارس نسخة من هذا العمل مهداة إلى مكتبة جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
1 / 3
محاولة الإلمام ببعض ما جاد به القراء من قراءات مختلفة، والوقوف على مواقف علماء العربية منها، من حيث القبول والرفض" (١).
ويهمني من هذه الدراسة على وجه الخصوص معالجتها للجانب اللغوي حيث التزمت منهجا لا تحيد عنه يتمثل في أنها تذكر الآية، ثم تذكر القراءات الواردة فيها مسندة إلى أصحابها، ثم تذكر ما ورد عنها في كتب الاحتجاج، ثم تذكر ما قاله صاحب القاموس المحيط في الكلمة. وقد جاءت بخمسة وعشرين شاهدا على هذا النهج، وقد لخصت الدارسة منهجها في هذا الجانب بقولها: "ثم كان الميدان اللغوي .. فأوردت فيه بعض الآيات التي تضمنت كلمات قرئت بأوجه لغوية مختلفة، مثل: (ربوة، وجذوة، وضيق)، إلى غير ذلك من الكلمات، ثم رجعت إلى القراءات المختلفة فيها، واتخذت القاموس المحيط للفيروز آبآدي مرجعا، فوجدت هذه الأوجه وردت فيه، فأحيانا تأتي سردا فقط، وأحيانا أخرى يأتي بالقراءة نفسها على مجيء المادة على هذه الصورة ... واستدللت بواسع الاستدلالات على أن علماء اللغة والذين يمثلهم عندي الفيروز آبآدي قد اتخذوا من القراءات المورد العذب، والمعين الصافي، في الاستشهاد بها في موادهم اللغوية " (٢).
وقد أشار الأستاذ الدكتور حسين نصار إلى استشهاد الخليل بن أحمد بالشواهد القرآنية بقوله: "وذكر ذات مرة القراءات في الآية" (٣). وهذا القول قد يُفْهَمُ منه ندرة الاستشهاد بالقراءات في (العين)، ولكن مطالعتي له، قد أسفرت عن ورود العديد من المواضع التي تعرض فيها الخليل بن أحمد للقراءات لأغراض متنوعة.
وأما عن خطة الدراسة فإنها تقع في: مقدمة، وتمهيد، وثلاثة أبواب، وخاتمة، والفهارس. أما المقدمة فيتناول الدارس فيها: الموضوع من حيث سبب الاختيار والأهمية، والدراسات السابقة، ومادة الموضوع اللغوية، والمنهج المتبع ... وأما التمهيد فيتناول مفهوم القراءات القرآنية، وأثر القراءة والقراء في
_________
(١) القراءات السبع والاستشهاد بها لرقية محمد الخزامي: ٢٥٩.
(٢) السابق: ٢٦٦.
(٣) المعجم العربي: ١/ ٢١٢.
1 / 6
الدرس اللغوى، ومنهج الزبيدي في تناول القراءات، ومفهوم الصناعة المعجمية. وأما أبوابها فثلاثة: يتناول الباب الأول القراءات القرآنية والأصوت، وينقسم إلى فصلين: يتحدث الفصل الأول عن القراءات القرآنية والحركات، ويتحدث الفصل الثاني عن القراءات القرآنية والصوامت، تناولت فيه جملة من المباحث الصوتية نحو: الإدغام، والإبدال، والجمع بين الساكنين، والهمز، وهاء السكت ... أما الباب الثاني فيعالج القراءات القرآنية والبنية الصرفية، ويشتمل فصلين: يتناول الفصل الأول تغيير بنية الأفعال، ويتناول الثاني تغيير بنية الأسماء. وأما الباب الثالث فيتناول القراءات والدلالة، ويشتمل فصلين يعالج الأول منهما المُعَرَّب، ويعالج الثاني من قضايا التغير الدلالي مسألتين: إحداهما: تغير الدلالة لتغير الصوت، والأخرى: تغير الدلالة لتغير البنية الصرفية. وينتهي البحث بخاتمة تشمل أهم النتائج والتوصيات، يعقبها ثلاثة فهارس أحدهم يشتمل القراءات الوارد في التاج والتي خضعت للدراسة، وثانيهم لمراجع الدراسة، وثالثهم لموضوعات الدراسة.
1 / 7
تمهيد
- مفهوم القراءات القرآنية.
- أثر القراءة والقراء في الدرس اللغوي.
- منهج الزبيدي في تناول القراءات.
- مفهوم الصناعة المعجمية.
1 / 8
التمهيد
أولا: مفهوم القراءات القرآنية
اختلف العلماء في مفهوم القراءات؛ لأن منهم من عرفها بجزء منها كما فعل الزركشي في البرهان حيث قال:" القراءات هي: اختلاف ألفاظ الوحي في الحروف وكيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرها " (١) ويفهم من تعريفه أن علم القراءات يهتم بكلمات القرآن التي وردت في قراءتها صور مختلفة دون الكلمات المتفق على قراءتها، فاقتصر على عنصر الاختلاف. وكما فعل أحد المعاصرين فقال: "القراءات: وجوه مختلفة في الأداء من النواحي الصوتية، أو التصريفية، أو النحوية " (٢).
وقد أضاف الزرقاني عنصر الإسناد إلى عنصر الاختلاف، فقال: "القراءات هي: مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها " (٣).
ومنهم من نظر إليها نظرة عامة تشمل الفروع أو العلوم التي تنضوي تحتها فأضافوا عنصرا ثالثا إلى التعريف وهو الكلمات المتفق على قراءتها، كما فعل ابن الجزري حيث قال معرفا للقراءات: "هو علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوا لناقله" (٤).
ويعرفها البناء الدمياطي بكلام قريب من ذلك إلا أنه أكثر تفصيلا فيقول: "هو عِلْمٌ يُعْلَمُ منه اتفاق الناقلين لكتاب الله تعالى، واختلافهم في الحذف والإثبات والتحريك والتسكين، والفصل والوصل، وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال وغيره، من حيث السماع" (٥). فشمل هذان التعريفان المتفق على قراءته من كلمات القرآن، والذي وردت قراءته على صور وكيفيات مختلفة الإسناد.
_________
(١) البرهان للزركشي: ١/ ٣٩٥.
(٢) في علوم القرآن للسيد رزق الطويل: ٢٧.
(٣) انظر: مناهل العرفان للزرقاني: ١/ ٤١٢.
(٤) النشر: ١/ ٦٧.
(٥) الإتحاف: ١/ ٦٧.
1 / 9
فالقراءات إذن علم يبحث في كيفية أداء كلمات القرآن والنطق بها كما أنزلت على النبي ﷺ، مع معرفة مختلفها إعرابا وبناء، تذكيرا وتأنيثا، تخفيفا وتشديدا، مدا وقصرا ... عن طريق التلقي والمشافهة من المشايخ المجودين؛ لأن هناك أمورا في القراءة لم يدركها خط المصحف المكتوب، ولا تعرف إلا عن طريق المشافهة والسماع كالإمالة، والتفخيم، والترقيق، والقلقلة، ونطق الهمزة بين بين ونحو ذلك (١).
وهذه القراءات لم يكن مصدرها اجتهادا من العلماء، ولا طبيعة الخط العربي، ولا رسم مصحف سيدنا عثمان، وإنما كان مصدرها النبي ﷺ؛ فهي أقدم وجودا من كتابة المصحف، وقد أقرأ النبي الصحابة بهذه الكيفيات، وليس أدل على ذلك من حديث يرويه البخاري بسنده عن سيدنا عمر بن الخطاب يقول فيه: "سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ فَقُلْتُ مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ قَالَ أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ" (٢).
وعلى الرغم من تواتر هذا الحديث فإنه" من المشكل الذي لا يُدْرَى ما معناه؛ لأن الحرف يَصْدُقُ لغةً على حرف الهجاء، وعلى الكلمة، وعلى المعنى، وعلى الجهة " وهذا الإشكال أدى إلى اختلاف آراء العلماء في فهم معناه، حتى إن السيوطي في " الإتقان " يروي في معناه أربعين وجها (٣).
_________
(١) انظر: القراءات القرآنية وأثرها في علوم العربية لمحمد محيسن: ١/ ٩.
(٢) رواه البخاري في صحيحه: ٤/ ٣٩٢، باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف، رقم: ٤٦٠٨.
(٣) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: ١/ ٤٥.
1 / 10
ومن أشهر هذه الآراء ما ذكره أبو عبد الله الزنجاني من أن " المراد بالأحرف السبعة: سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو: أقبل وهلم، وتعال، وعجل، وأسرع، وأخر، ومهل، وامض، وسر" (١). أما أبو حاتم السجستاني فيرى أن الأحرف السبعة هي سبع لغات نزل بها القرآن وهي " لغة قريش، وهذيل، وتميم، والأزد، وربيعة، وهوازن، وسعد بن بكر" (٢). وأما الرأي الذي أطمئنُ إليه فهو ما قاله الإمام أبو الفضل الرازي، حيث يرى أن الأحرف السبعة تنحصر في الوجوه الآتية:
الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من: ماض، ومضارع، وأمر.
الثالث: اختلاف وجوه الإعراب.
الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة.
الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير.
السادس: الاختلاف بالإبدال.
السابع: اختلاف اللغات (٣).
وسبب اختياري لهذا الرأي أني وجدته يستوعب كل القراءات التي وقفت عليها في نطاق الدراسة متواترها وشاذها. أما الوجوه الأخرى فقد راعت جانبا من القراءات وأهملت جوانب أخرى فكأنها تفسر الأحرف بعيدا عن القراءات.
ويوضح ابن قتيبة سبب تعدد القراءات حاملا له على مبدأ التيسير فيقول: "فكان من تيسيره ﷿ أن أمره ﷺ بأن يقرأ كل قوم بلغتهم، وما جرت عليه عادتهم، فالهذلي يقرأ ﴿عَتَّى حِين﴾ (٤) يريد: ﴿حَتَّى حِين﴾، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها. والأسدي يقرأ ﴿تِعْلَمُونَ﴾ و﴿تِعْلَم﴾ و﴿تِسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ (٥)، و﴿ألم إِعْهَدْ إليكم﴾ (٦)، والتميمي يهمز، والقرشي لا يهمز، والآخر يقرأ ﴿وَإذِا قِيلَ
_________
(١) تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني: ١٥، ١٦.
(٢) لطائف الإشارات لشهاب الدين القسطلاني: ١/ ٣٣.
(٣) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني: ١٤٨.
(٤) يوسف: ٣٥.
(٥) آل عمران: ١٠٦.
(٦) يس: ٦٠.
1 / 11
لَهُمْ﴾ (١)، و﴿غِيضَ المَاءُ﴾ (٢) بإشمام الضم مع الكسر و﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ (٣) بإشمام الكسر مع الضم، و﴿مَالَكَ لَا تَأْمَنَّا﴾ (٤) بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا مالا يَطُوعُ به كلُّ لسان. ولو أن كل فريق من هؤلاء أُمِرَ أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعا في اللغات، ومتصرفا في الحركات" (٥).
وإذا كانت العلة من القراءات هي التيسير فإن الأمر في القراءة ليس كلأً مستباحا، فلكل أحد أن يقرأ بلغته أو ما شاء له أن يقرأ، ليس الأمر كذلك، إنما القراءة سنة متواترة عن النبى ﷺ، قال ابن القاصح: "مذهب الأصوليين وفقهاء المذاهب الأربعة، والمحدثين، والقراء أن التواتر شرط في صحة القراءة، ولا تثبت بالسند الصحيح غير المتواتر، ولو وافقت رسم المصاحف العثمانية، والعربية" (٦).
_________
(١) البقرة: ١١.
(٢) هود: ٤٤.
(٣) يوسف: ٦٥.
(٤) يوسف: ١١.
(٥) تأويل مشكل القرآن: ٣٠.
(٦) سراج القارئ المبتدئ وتذكرة المقرئ المنتهي لابن القاصح: ٦.
1 / 12
ثانيا: أثر القراءة والقراء في الدرس اللغوي
كان لنزول القرآن باللغة العربية أعظم الأثر في توطيدها وتثبيت دعائمها وتقوية سلطانها على الألسن قبل النفوس، ومنذ نزول القرآن ارتبطت قدسية القرآن باللغة العربية فصار تعلم العربية فرضا على جماعة من الأمة وهم الذين يتصدون لتفسير القرآن، ودراسة التراث الإسلامي. والحقيقة التي لا مراء فيها أن العلاقة بين العربية والقرآن كالعلاقة بين وجهي العملة الواحدة، فلا فهم للقرآن إلا بالعربية، ولا سلطان للعربية إلا بالقرآن. والمتتبع للدرس اللغوي منذ عصر الجمع والرواية والتدوين، يرى إلى أي مدى أثر القرآن في اللغة العربية.
فعلى صعيد لهجات القبائل العربية، تجد الفضل الأكبر في الحفاظ عليها حتى آخر الزمان يعود إلى القرآن الكريم وقراءاته، ولولاه لما سمعت هذه اللهجات، ولضاعت كما ضاع الكثير غيرها من التراث العربي الذي لم يتعلق بالقرآن. وكان للقرآن الفضل دون منازع وراء جمع اللغة وروايتها وتدوينها وبعد عصر الجمع والتدوين، تفرغت جماعة من العلماء وتوفرت على دراسة العربية، وكانت هذه الدراسات معظمها وإن لم تكن كلها من منطلق ديني، وهو خدمة القرآن الكريم عن طريق تسهيل وتعليم لغته للخاصة والعامة قربة إلى الله تعالى، حتى أنه يصعب على المطالع في تراجم علماء اللغة القدامى أن يجد أحدا منهم بعيدا عن القرآن. وقد ذكر صراحة جُلُّ مَنْ أَلَّفَ في عِلْمِ العربية في مقدمة كتبهم أن دافعهم هو خدمة القرآن. بل إن معظم رجال الدين في مختلف العصور يعدون من اللغويين، ذلك أن التصدي لحمل القرآن لابد معه من أدوات تعين على فهمه، ومن أول هذه الأدوات اللغة العربية، ومن هنا تجد نجوما لمعت في سماء العربية ودراستها هم في الأصل دعاة وحملة قرآن مثل: ابن عباس، والطبري، والقرطبي، وأبي حيان وابن مالك، والإمام مالك بن أنس، والشافعي وغيرهم كثير؛ ذلك لأن" حياة لغتنا العربية في هذا الكتاب الكريم، ولا يعرف التاريخ لغة اتصلت حياتها بكتاب مقدس كما تتصل حياة العربية بالقرآن. ولا سبيل إلى فهم حياة هذه الأمة إلا بدرس كتابها ودرس لغتها التي عاشت فيه.
1 / 13
ولسنا نعرف درسا لغويا آصل ولا أعمق من درس يصل بين العربية والقرآن" (١)
ومجرد نظرة على الفهرس التفصيلي لكتاب البرهان للزركشي أو الإتقان للسيوطي، ترى عشرات المباحث اللغوية في سائر مستويات دراسة اللغة: صوتية، وصرفية، ونحوية، ودلالية، كان منطلقها هو القرآن الكريم وقراءاته. فعلى المستوى الصوتي تجد أن القرآن الكريم هو النص العربي الوحيد الذي نُقِلَ من جيل إلى جيل عن طريق التلقي القائم على السماع والعرض نقلا متواترا أجمعت الأمة على صحته، وقد بذل علماء القراءة في سبيل نقل القرآن كما سُمِعَ من النبي ﷺ جهودا جبارة أثمرت علما واسعا، هو علم القراءات القرآنية، والتجويد يعد من أشهر أبوابه، ومباحثه تتعلق بكيفية الأداء الصوتي لبعض المواضع في القرآن الكريم، أداء منضبطا بقوانين صارمة، صاغها القراء ضمانا للأداء المتقن للقرآن، وهو يعبر الزمن والمحن لا يتأثر بعربية فَسَدَتْ، ولا بأَعْجَمِيَّةٍ حَكَمَتْ. فَأَيُّ نَصٍّ عربي له ما للقرآن الكريم من وسائل حفظ مُوكَلَةٍ لِرَبِّ الأَرْبَاب: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (٢). ولما كان الأمر كما وَصَفْتُ رأى العلماء - على امتداد التاريخ - القرآن الأنموذج اللغوي الفَذَّ، الذي يستحق أن يكون مُنْطَلَقًَا لأي دراسة لُغَوِيَّةٍ، يُرَادُ لها القبولُ والخلودُ، فَتَزَيَّنَتْ كُتُبُ اللُّغَةِ بِآيِهِ وشَوَاهِدِهِ حتى أنه يَعِزُّ على مُطَالِعِ كُتُبِ العَرَبِيَّةِ أن يجدَ كتابًا تَخْلُو صفحاته من شواهده وفوائده؛ لما امتلكه من ثقة جعلته قَيُّومًَا على اللغةِ وشاهدًا ودليلًا. ومما يوضح مدى التأثير المتبادل بين العربية والقراءات، ما ذكر في تراجم اللغويين والقراء والفقهاء. لقد كان علماء العربية الأوائل يجمعون إلى علم العربية، علما أو أكثر من علوم القرآن من قراءة، أو تفسير، أو غير ذلك، فقد " أخذ عبد الله بن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر القراءة وأخذها عن نصر بن عاصم" (٣). وكان أبو عمرو بن العلاء إماما في العربية والقراءة حتى " قال شعبة لعلي بن نصر الجهضمي: خذ قراءة
_________
(١) اللهجات العربية في القراءات القرآنية لعبده الراجحي: ص١.
(٢) الحجر: ٩.
(٣) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: ٣٢.
1 / 14
أبي عمرو، فيوشك أن تكون إسنادا. قال أبو حاتم: وكان أبو عمرو يكتب إلى عكرمة بن خالد في مكة، فيسأله عن الحروف" (١).
وممن أجاد النحو من القراء يحيى بن يعمر، كان أعلم الناس وأفصحهم ومع ذلك لا يذكرونه؛ لأنه استبد بالنحو غيره (٢).
وكان الأوائل من أهل العلم يعدون العلم بالعربية منقبة للقارئ، ومدعاة لتفضيله على غيره، حتى "قال أبو حاتم: الكسائي أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم " (٣).
و"قال المازني: قرأت على يعقوب الحضرمي القرآن، فلما ختمت رمى إليَّ بخاتمه، وقال: خذ ليس لك مثل ". وختم أبو حاتم على يعقوب سبع ختمات، ويقال: خمسا وعشرين ختمة، فأعطاه خاتمه، وقال: أقرئ الناس (٤). و"كان أبو حاتم في نهاية الثقة والإتقان، والنهوض باللغة والقرآن مع علم واسع بالإعراب أيضا" (٥).
وقد قيل نحو من هذه العبارات في أمثال ابن مالك وغيره من الأئمة، وفيما أوردته كفاية، وهو يصور مدى الترابط والتلازم بين العربية وعلومها والقرآن وعلومه من قراءات، وتفسير، ورسم، وغير ذلك.
ولو نظر ناظر في تراجم القراء، وتأمل أحوالهم لوجد أن المقدم منهم في القراءة متقدم في علم العربية. ولو نظر في ترجمة الكسائي لوجد فيها " أحد القراء السبعة، كان إمامًا في النحو، واللغة، والقراءات" (٦)، ومثل هذا في ترجمة سبط الخياط " وهو أحد الذين انتهت إليهم رئاسة القراءة علما وعملا ... وكان إماما في اللغة والنحو جميعا " (٧).
_________
(١) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: ٣٥
(٢) السابق: ٥٠.
(٣) السابق: ١٢١.
(٤) وفيات الأعيان لابن خلكان: ٦/ ١٧٣.
(٥) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي:١٣٠ – ١٣٢.
(٦) وفيات الأعيان لابن خلكان: ٣/ ٢٩٥.
(٧) غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: ١٩٢.
1 / 15
وكان إحكام العربية مدعاة لحذق الفن وعلم القراءة، كما جاء في ترجمة أبي سعيد الذي قيل عنه "كان رأسا في نحو البصريين، تصدر لإقراء القراءات واللغة، والفقه، والفرائض، والعربية، والعروض. قرأ القرآن على ابن مجاهد، واللغة عن ابن دريد، والنحو عن أبي بكر بن السراج " (١). وقد وُصِفَ يوسف بن إبراهيم بإحكام العربية (٢).
وكان القراء سابقا يبذلون ما يملكونه في سبيل إتقان العربية، قال خلف بن هشام (١٥٠ - ٢٢٩هـ (: "أشكل علي باب من النحو، فأنفقت ثمانية آلاف درهم حتى حذقته " (٣). وكانوا يُعْنَوْنَ بمعرفة من أَخَذَ عنهم القَارِئُ عِلْمَ العربيةِ: النحوَ، واللغةَ، والأدبَ، والمعاني.
والتميز في علوم العربية مدعاة الاستقلال، والانفراد بالقراءة، ومدعاة للاجتهاد في الاختيار "قيل: إن وَرْشًَا لما تعمق في النحو اتخذ لنفسه مَقْرَأَ وَرْشٍ، فلما جِئْتُ (القائل أبو يعقوب الأزرق) لأقرأ عليه قلت له يا أبا سعيد: إني أحب أن تُقْرِئَنِي مَقْرَأَ نافعٍ خالصًا، وتَدَعُنِي مما استحسنتَ لنفسك، فَقَلَّدْتُهُ مَقْرَأَ نَافِعٍ" (٤).
ويظهر من النصوص السابقة أنهم ما كانوا يقنعون بإتقان علوم العربية صناعة، بل كانوا يطلبون الفصاحة، وكانت الفصاحة قبل أن تدون علوم العربية وقالوا عن عاصم بن أبي النجود: "جمع بين الفصاحة، والإتقان والتحرير، والتجويد، وكان أحسن الناس صوتًا بالقرآن. قال أبو إسحاق السبيعي: ما رأيت أحدًا أقرأ للقرآن من عاصم بن أبي النجود. وقال حسن بن صالح: ما رأيت أحدًا قط كان أفصح من عاصم، إذا تكلم كاد يدخله خيلاء" (٥). و" كان أحمد بن عبد العزيز من أطيب الناس صوتا، وأفصحهم أداء" (٦). وقد وصف عبد الوارث التنوري بالفصاحة والبلاغة، قال أبو عمر الجرمي: "ما رأيت فقيها أفصح
_________
(١) سير أعلام النبلاء للذهبي: ١٦/ ١٦.
(٢) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: ٥٤.
(٣) السابق: ١٧٢.
(٤) السابق: ١٥٠.
(٥) غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري: ١/ ١٥٣.
(٦) معرفة القراء الكبار للذهبي: ٢٥٤.
1 / 16
منه" (١). وفي ترجمة عبد الله بن كثير " كان فصيحًا بليغًا مفوها ... قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو: قرأت على ابن كثير. قال: نعم، ختمت على ابن كثير، بعدما ختمت على مجاهد. وكان ابن كثير أعلم بالعربية من مجاهد" (٢).
وكان مما ينتقص به المقرئ أو القارئ قصوره في العربية، كما قال أبو حيان في حسن بن عبد الله التلمساني (ت ٦٨٥ هـ) " كان بربريا، في لسانه شيء من رطانتهم، وكان مشهورا بالقراءات، عنده نزر يسير جدا من العربية كألفية ابن معط، ومقدمة ابن بابشاذ، يحل ذلك لمن يقرأ عليه" (٣). وقد رد الذهبي على أبي حيان قوله فيه، وقال: "إنه كان عارفا بالعربية، بل قوي المعرفة، ويكفيه أن يشرح ألفية ابن معط للناس ... " (٤). وكان القصور في علم العربية، مدعاة إلى القصور في علم القراءات، كما قيل في محمد بن منصور (ت٧٠٠هـ (: "إنه لم يبرع في العربية ... وكان متوسط المعرفة في القراءات" (٥). وقال عاصم: "من لم يحسن من العربية إلا وجها لم يحسن شيئا" (٦).
وبعد، لعل في هذه النظرة العجلى لجانب من كتب التراجم ما يوضح للقارئ الصلة الوثيقة بين علوم القرآن، وعلوم العربية، وكأنهما توأمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر. والنوعان من العلوم مختلفان. فأولهما غاية، والعلوم الأخرى خدم له، والثاني آلة يتوصل بها إلى فهم النوع الأول، وخدمته وإتقانه. ولا أغالي إذا قلت: إن علوم العربية على اختلاف أنواعها، إنما وجدت لخدمة القرآن وعلومه، ولعل المسلمين لم يُعنوا بالعربية وآدابها ولم يخدموها إلا لأنها الأصل الخادم للقرآن وعلومه، من قراءة، ورسم، وإعراب وبلاغة، وإعجاز، ومعنى وتفسير (٧).
_________
(١) معرفة القراء الكبار للذهبي: ١٣٥.
(٢) غاية النهاية: ١٩٨.
(٣) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: ٥٦١.
(٤) السابق: ٥٦٠ – ٥٦١.
(٥) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي: ٥٦٩.
(٦) السابق: ٧٥.
(٧) عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم لسليمان بن إبراهيم
العايد: ٤٠ - ٥١.
1 / 17
ولأن الدارس قد اتضح لديه أن معظم القراءات المستخدمة في دراسة اللغة من الشاذ، فقد رأى أن يوضح الموقف منها على صعيد الدراسات الدينية واللغوية. وجملة القول في هذه المسألة أنه قد تباين رأي المحققين من الفقهاء والقراء من ناحية، ورأي اللغويين من ناحية أخرى في موقفهم من القراءات الشاذة، فالمحققون من الفقهاء والقراء والأصوليين ينظرون إلى القراءة على أنها وسيلة تعبُّد، وطريق تقرُّب، وشرط لصحة الصلاة، ومصدر للتشريع والتحريم والتحليل. وهناك إلى جانبهم فريق اللغويين الذين نظروا إلى القراءة نظرة مغايرة؛ لأن هدفهم مختلف، وغايتهم من قبول القراءة ليست العبادة أو الصلاة بها، إنما هي مجرد إثبات حكم لغوي أو بلاغي؛ ولذا فقد وضعوا شرطًا واحدًا لصحة الاستدلال اللغوي بالقراءة، وهو صحة نقلها عن القارئ الثقة حتى ولو كان فردا، سواء رويت القراءة بطريق التواتر، أو الآحاد، وسواء كانت سبعية، أو عشرية، أو أكثر من ذلك. بل إن ابن جني في مقدمة كتابه المحتسب كان حريصًا على وضع القراءة الشاذة على قدم المساواة مع القراءة السبعية، وذلك بقوله: " وغرضنا منه – أي من كتاب المحتسب - أَنْ نُرِيَ وَجْهَ قُوَّةِ ما يُسَمَّى الآنَ شَاذًا، وأَنَّهُ ضَارِبٌ في صِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِجِرَانِهِ، آخذٌ مِنْ سَمْتِ العربيةِ مُهْلَةَ مَيْدَانِهِ، لئلا يُرَى مُرَىً أَنَّ العُدُولَ عنه إنما هو غَضٌّ منه، أو تُهْمَةٌ له. ومعاذَ اللهِ! وكيف يكون هذا والرواية تَنْمِيهِ إلى رسول الله ﷺ، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ (١)؟. وهذا حكم عام في المعاني والألفاظ، وأخذه: هو الأخذ به، فكيف يَسُوغُ مع ذلك أن ترفضه وتجتنبه. فإن قَصُرَ شيء منه عن بلوغه إلى رسول الله ﷺ فلن يَقْصُرَ عن وَجْهٍ من الإعراب داع إلى الفسحة والإسهاب، إلا إننا وإن لم نقرأ في التلاوة به مخافة الانتشار فيه، ونتابع من يتبع في القراءة كل جائز رواية ودراية، فإنا نعتقد قوة هذا المسمى شاذا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبله وأراد منا العمل بموجبه، وأنه حبيب إليه، ومرضي من القول لديه. نعم وأكثر ما فيه أن يكون غيره من المجتمع عندهم عليه أقوى منه إعرابا، وأنهض قياسا، إذ هما جميعا مرويان مسندان إلى السلف ﵃ فإن كان هذا قادحا فيه، ومانعا من الأخذ به، فليكونن ما ضَعُفَ إعرابه مما قرأ السبعة به
_________
(١) الحشر: ٧.
1 / 18
هذه حاله، ونحن نعلم مع ذلك قراءة ابن كثير:" ضئاء" (١) بهمزتين مكتنفتي الألف، وقراءة ابن عامر: ﴿وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ﴾ (٢) ... وهو أيضا مع ذلك مأخوذ به" (٣).
والقراءة - من زاوية الاستشهاد اللغوي البحت - نص عربيّ، رواه أو قرأ به من يوثق في عربيته، ولهذا فهي - حتى على فرض اختلاف العلماء في صحة التعبد والصلاة بها - تحقق شرط اللغوي، وهو النقل عن العربي الثقة، حتى ولو كان فردًا، بل إن السيوطي يصرح بما هو أكثر من ذلك حين ينفي اشتراط العدالة في العربي الذي يستشهد بكلامه.
ولما كانت غاية دراسة القراءات هنا غاية لغوية معجمية، لا تتجاوز إثبات وجود اللفظ في اللغة، أو ضبط نطقه، أو ذكر معناه، أو غير ذلك من النتائج الجزئية التي لا تعمم حكمًا، ولا تبني قاعدة، فلا يفسد هذه الغاية أن تكون القراءة هي النموذج الوحيد المنقول إلينا؛ إذ لم يشترط أحد من اللغويين لحجية النص في مثل هذه الحالة كثرة أو قلة.
وإذا كان جَمْعُ عثمانَ المسلمين على المصحف الإمام قد أزال الفرقة بينهم ووحد كلمتهم، وألزمهم بالصلاة والتعبد بنصوصه - فإنّ ذلك لم يلغ ما سجله المسلمون من قراءات على اعتبار أنها - في أضعف حالاتها - تعد نصوصًا لغوية موثقة، وكلامًا عربيًا فصيحًا. وما خالف رسم المصحف من هذه القراءات لا يخرج - حتى في أدنى درجاته - عن أن يكون من باب التفسير، أو الشرح اللغوي الذي كان يسجله بعض الصحابة القراء أو بعض المتلقين عنهم وإذا كان جمهور العلماء يحظر التعبد بالقراءات التي لم تتوفر فيها الشروط الثلاثة سابقة الذكر، فهناك غايات أخرى كثيرة تُرْوَى من أجلها كُلُّ القراءات وتدرس، وتشرح ويستخرج منها الفوائد اللغوية (٤).
يقول الأستاذ الدكتور السيد رزق الطويل: "وكتب النحو حافلة بعشرات القراءات الشاذة يستشهدون بها على قضايا نحوية. وهم على حق فيما فعلوا؛
_________
(١) يونس: ٥.
(٢) الأنعام: ١٣٧.
(٣) المحتسب: ١/ ٣٢، ٣٣.
(٤) انظر: القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب لعبد الفتاح القاضي: ١/ ٨.
1 / 19