The Fifth Pillar
الركن الخامس
Publisher
دار اقرأ للطباعة والنشر والتوزيع
Publisher Location
دمشق- سوريا
Genres
مقدمة
الحجُّ إلى بيت الله الحرام هو الجامعة الكبرى التي ينطوي تحت جناحها جميع كليات وجزئيّات المعاني الحضاريّة، التي أرساها الإسلام في قلب المجتمعات الإنسانيّة.
فالحجُّ وسيلةُ إيضاح تختزل لنا مقاصد الدِّين الإسلاميّ كلهّا؛ ذلك أنَّ العبادات في الإسلام هي منافذ يطل بها العبد على معرفة الخالق جلَّ وعلا، ويمد منها جسور التَّواصل مع ربه، ضمن خريطة عمل رسمت خطواتها المترابطة يد العناية الإلهية، لإبعاد شبح الغفلة والضياع عن قلب المسلم، والمحافظة على هويته الإيمانية؛ لذا فقد اتصفت عبادات المسلمين بالخصوصية والموسمية، وهما الوصفان اللذان يبدوان بقوة في قمة هرم العبادات الإسلامية المسمى فريضة الحج، التي تضم إليها سائر العبادات.
فالصَّلاة مفتاح العلاقة بين العبد وربه، وهي تحضر في الرّكن الخامس بصورة بارزة حتى لكأنَّ الذاهب إلى بيت الله الحرام ذاهب للصَّلاة، كما أنَّ الطَّواف حول البيت صلاةٌ إلَّا أنَّ الله أحلَّ فيه الكلام، فمن تكلّم فلا يليق به أنَّ يتكلم إلَّا بخير.
والصَّلاة في الإسلام ليست مجردَ أدعيةٍ وابتهالاتٍ، كما يظنُّ البعضُ، وكما هو الأمرُ عند أبناءِ الشَّرائع الأخرى، وإنما هي عملٌ حضاريٌّ متكامل له خصوصيته التي تضع بصمتها على الحياة الإسلاميّة للفرد والأمّة بوضوح وعمق.
فالصَّلاة لها شروطُ وجوبٍ من إسلامٍ وعقلٍ وبلوغٍ، وشروط صحّة تسبق أداءها من نحو طهارة، وستر للعورة، ودخولٍ للوقت ...
والصَّلاة لها أركانها وآدابها التي تقارن فعلها من نحو افتتاح بالتكبير، واختتام بالتَّسليم، واستقبال القبلة، وقراءة الفاتحة في القيام، ومن نحو الرّكوع والاعتدال
1 / 3
والسّجود والتّشهد، والدّعاء والتسبيح والأوراد وسائر الشُّروط التي تحدد خصوصيّة أول ركن في الإسلام، وأكثره شيوعًا وتكليفًا.
أمّا الزَّكاة التي يكثر حضورها في فريضة الرّكن الخامس - من خلال الكفارات التي تدفع إلى فقراء الحرم - ليست مجرد دعوة للتّصدق والإحسان باختيارِ المنفق كما هو عهد هذه العبادة في شرائع غيرنا، لكنّها عندنا حقٌّ معلومٌ لا يملكه المسلم؛ لذلك يدفعه بطواعية المؤمن لما افترضه الخالق عليه، فإن أبى أخذت منه عنوة، فإنْ كان الصّادُّ عنها ذا شوكة ومَنَعَةٍ قاتلتهم عليها الدَّولة المسلمة حتى يعطوها عن يد وهم صاغرون، غيرة على حكم الله، وحرصًا على حقوق الفقراء الذين لم يجدوا في تاريخهم دولة تقاتل من أجلهم بقوة السلاح دون تلبيس إلّا الدولة الإسلامية أيام الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق ﵁.
وكذلك الصّيام الذي يصهر المسلمين في محراب العبودية بين يدي الخالق الكريم بما يوقظه في قلب المؤمن من مراقبة العلي المتعالي فإنه ينطوي تحت راية الحج الذي لا يغفل بين أيام ذي الحجة كفارة الصيام، كما أَن ربّنا يفيض في فريضة الحج على قلب الصادق في توجُّهه إلى تلك الديار أضعافًا مضاعفة من تلك الجرعات الإيمانية التي يفيضها في شهر الصيام والتي يعجز اللسان عن وصفها، والقلم عن تبيانها؛ حيث يدخل بها المسلم من جديد معترك الحياة في مواجهة الشهوات الدونية، بعد أن حج أرضًا تهب عليها النفحات الإبراهيمية من بعيد والمحمدية من قريب.
هذه العبادات الثلاث تمتاز كذلك بالموسميَّة، كل عبادة بحسبها:
فالصلاة ذات سمة ساعية؛ حيث تتكرر خمس مرات كل يوم بتكرر أوقات الصلاة، تعضدها ساعات السحر، وصلوات الرواتب والنوافل.
هذا التكرار يقيم بين العبد وربه ثقة متينة يستمد بها العبد الضعيف المدد من مالك
1 / 4
الملك، ذي الجلال والإكرام، فيغدو قويًّا لا يتزلزل ولو اجتمع عليه الثقلان (١).
وخلال كل سبعة أيام هناك موسم أسبوعي للخير تجسده صلاة الجمعة التي تمثل محاضرة الأسبوع، يلقيها الإسلام على أبنائه، يخاطب فيها حاضرهم وواقعهم، والتحديات التي تنتصب في طريق مستقبلهم.
وعلى مدار العام هناك موسم سنوي يتجلى في شهر رمضان ربيع الحياة الإسلامية، كما يتجلى في تجديده لجوهر الشخصية المسلمة على جميع الأصعدة، يرفده صيام النوافل والكفارات.
أمَّا الحج فهو أكثر العبادات خصوصية وموسمية:
فإذا كانت الصلاة والصيام عبادتان بدنيّتان، وإذا كانت الزكاة عبادة مالية فإنّ الحج هو عبادة بدنية ومالية معًا؛ لأن العبد يبذل فيه كثيرًا من الراحة والجهد المتواصل، مرتحلًا في هجرة صادقة إلى بيت الله يضع عنه أوزار السنين، ويُلقي وراء ظهره أيام الغفلة والشرود عن الله، مستقبلًا نفحات مكة بقلب حاضر، وعهد صحيح.
والحج الذي يُقَدَّم فيه ذلك الجهد البدني الشاق هو عبادة يبذل فيها المال أيضًا الذي هو شقيق الروح؛ لأنّ الباذل لماله هو كمن يجود بروحه في سبيل بارئه الكريم (٢).
_________
(١). هذه هي الملاحظة التي أثارت فضول أحد اللوردات الإنجليز في أوائل القرن العشرين ويدعى "هيدلي" ودفعت به للدخول في الإسلام، توَّجَهُ بكتاب سماه: "إيقاف الغرب للإسلام" جاء فيه: "إنّ هذا الدين هو الذي يصل العبد بربه، بحيث لا ينقطع عنه أبدًا، من خلال الصلوات الخمس التي عليه أن يصلِّيها كلَّ يوم". هذه الفكرة نقلًا عن محاضرة للدكتور يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة، في قناة الجزيرة بتاريخ ٢٥/ ١/٢٠٠٤، أُخذت عن طريق موقع الجزيرة نت>.
(٢) الحق أنّ الذي يبذل هناك من أجرة الراحلة وهي الطائرة أو الباخرة غالبًا، ومن نفقات إقامة وتنقلات وطعام وخيام، هي أرقام مرتفعة مقارنة بكل دول العالم.
1 / 5
إن من خصوصيّته ما يلازمه من غربة الأوطان، وما يصاحبه من ارتحال إلى الواجبات والسنن والأركان، وسائر عبادات الإسلام، حتى إنّ الحجاج ليشعرون منذ بدء الرحلة أنهم في عمل متواصل ساعةً بساعةٍ، لا انقطاع فيه، بينما يشعرون في المدينة المنورة بانتهاء عهد التعب، وابتداء زمن الراحة والاستجمام، وعهد الضيافة الكريمة على مائدة النّبيّ الأكرم.
ومن خصوصيته أنه استجابة لأمر الله الذي أوجب، ولنداء إبراهيم الذي بلَّغ، وهو ما ينال صدى واسعًا في القلوب المؤمنة التي تشعر بمزيد من الفخار فأيُّ فرحةٍ تغمر العبد المؤمن أبلغ من هذه؟
ومن خصوصيته أنه رحلة تواصل مع أمّة عظيمة تشكل رقعتها الجغرافية امتدادًا لكل مسلم، لاسيما بالنسبة لمن لم تُتِح لهم ظروف العيش القاسية أن يتخطَّوا سور قريتهم أو مدينتهم فتقدّم لهم فريضة الحج فرصة سانحة ربما لن تتكرر في حياتهم، ولن تمحى من ذاكرتهم، للالتقاء والإطلاع على الثقافات المتنوعة، وعلى سر التنوع في أمة الإسلام العظيمة.
ومن خصوصيته أنه رحلة لتوحيد الله ﷿، وإفرادِه بالعبادة، في أرض لا يقطنها إلّا الساجدون لله ﷿.
ومن خصوصيته أنه يفتتح بطواف القدوم، ويختتم بطواف الوداع، وكل منهما تشترط فيه أمور، وتسنُّ فيه أُخرى، تزيد من تلك الخصوصية.
ومن خصوصيته أنّ الحجاج يدخلون مكة بعد طواف القدوم مرَّة أخرى؛ حيث يقفون خارجها على صعيد عرفات، فيسألون الله، ويُلحون عليه في الدعاء، ويناجونه ويبكون بين يديه حتى تبتلَّ منهم اللّحى، حتى إذا ما أُذن لهم اندفعوا نحو الأرض
1 / 6
المقدسة من بوابة مزدلفة ملبّين، ذاكرين الله عند المشعر الحرام الذي يبيتون عنده وما يحيط به، فإذا ما أُذن لهم من جديد تقدّموا خطوة أخرى صوب البيت الحرام بوصول منى، ورميّ جمرة العقبة الواقعة في رأس الطريق هناك باتجاه غايتهم، ومع الفراغ من هذا النُسك العظيم الذي يتقرب به الحجاج إلى الله، فإنهم يَجدُّوْن السير - سواء من تحلل بالحلق أو من لم يتحلل - على الطريق الذي سلكه محمد ﷺ نحو المعبد الإسلامي الذي شيده إبراهيم ﵇ لتوحيد الله وحده، وتلبيته، وسؤاله من جوامع الخير، وإنزال الأثقال من فوق كاهل العباد عنده؛ لذلك فإنّ الأبواب ما تلبث أن تفتح لهم إيذانًا بالدخول لطواف الزيارة، والسعي عقبه. ومع الفراغ من هذا المنسك الركن، يُؤذَنُ للحجيج بأن يعودوا أدراجهم للدخول في سلك الضيافة الإلهية في منى أيام العيد الأكبر، حيث يجلس الجميع على مائدة الرحمن العامرة؛ إذْ تذبح الذبائح وتقام أعراس الطاعة، التي تقدم فيها أطايب اللحوم، والحلوى، وألوان الشراب البارد والساخن، تكرمة من الله لضيوفه - الذين أتموا أركان فريضتهم ولم يبق أمامهم سوى بعض الواجبات - وتداركًا في هذه الأوقات لمن فات في حقه شيء من الأركان كالحلق أو طواف الإفاضة، فيستأذن من مضيفه وهو ربُّ العزة بالتوجه إلى الكعبة المشرفة لساعاتٍ لأداء ما تأخر عنه، ثم يعود تارة أخرى ليأخذ مكانه على تلك المائدة.
وكما ترى فالعيد هناك خصوصية من وراء خصوصية، وموسم خيرٍ تتداخل فيه مواسم من جنسه، لذلك تعد أيام منى مناسبة لإظهار طبيعة الأعياد عند المسلمين، التي لم تكن يومًا إطلاقًا لعنان الأهواء والشهوات، ولا استغراقًا في وحل المعاصي والآثام، ولا استثناءً يبيح ما كان محظورًا على عادة الغربيين في أعيادهم!، لكنه طاعات
1 / 7
تمتزج فيها الأفراح، وسرور يعكس سعادة العباد بطاعة الله، ومباحات تتعانق بحرارة مع القربات.
الأعياد عندنا مظهرٌ من مظاهر تواصل المسلم مع ربه، وصورة صادقة لمراقبته لشهود الله على عمله، وتأكيدٌ على نفي الغفلة عنه في ذروة النشوة والفرحة، لذلك لا عجب أن تقترن بداياته بالتكبير بالنسبة للحاج ولغير الحاج كلٌ بحسبه، وسواءٌ في مكة أو في امتداداتها على كل بقاع الأرض، والذي يرافقه حتى السُّوَيْعات الأخيرة، كما يسبقه ويتصل به أهمُّ أركان الحج وهو الوقوف بعرفه، ويؤدّى فيه ركنا الحلق والطواف، وواجب المبيت والرمي في ذات الأرض التي تقام عليها أفراح العيد وهي أرض منى.
إنّ وقوع العيد في الأرض التي هي جزء من البلدة الحرام، ويؤدَّى فيها مايرتبط بتحلل الحاج من إحرامه التحلل الأول، كما تؤدَّى الواجبات الشرعية التي إنْ تركت لا سبيل لتكفيرها إلّا بإراقة دماء الكفارات ليتم ذلك في امتزاج كامل بمظاهر الأفراح التي تحيط بها هالة من المعاني الإنسانية كالتزاور والتراحم، وصلة الأرحام، وتفقد الأحباب، وتبادل الدعوات، وتقديم الطعام والشراب للغني والفقير سواء بسواء، لهو مما يضفي أثر الثقافة الإسلامية المستمدة من معين الشَّرع المطهر؛ حيث يدعونا الله في كتابه إلى الذكر في أيام منى المعدودات، أيام العيد: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٠٣].
هذه الدعوة تعضدها أخرى على لسان رسول الله ﷺ على سبيل الوصف الإسلامي لتلك الأيام بقوله: "أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله ﷿ (١) ".
_________
(١) أخرجه مسلم في صحيحه برقم (١١٤١/ ١٤٤) وفي رواية عنده: "أيام التشريق" كما رواه بهذا اللفظ البيهقي في السنن الكبرى برقم (٦٣٥٨) و(٦٣٥٧).
1 / 8
فالأعياد عند المسلمين تأكيد لوجه الصلة بالله ﷿، ودعوة لأنْ تكون أفراحنا مهرجانات إسلامية وذات أبعاد إنسانية، لا تدعى لها طبقة متميزة في المجتمع تسمى المخملية، وتستثنى سائر الطبقات.
هذا المعنى هو امتداد لجوهر الركن الخامس الذي يدعو جميع المسلمين القادر منهم، دونما إبطاء أو استثناء لحضور المؤتمر السنوي، والدعوة مفتوحة، وعاجز اليوم قد يغدو قادرًا في عام قادم، والباب مشرع على مصراعيه لكل أحد دون النظر إلى طبقته، أو ثقافته أو مهنته، أو إقليمه، وهو ما ندعوه بالموسمية، فالحج هو موسم سنوي بالنسبة لعموم الأُمة، لكنه موسمُ العمر بالنسبة لآحادها؛ لأنه العبادة التي فرضها ربنا ﷾ مرّة واحدة في حياة كل مسلم ما لم يأت إلى مكة ناذرًا أو على وجه القضاء، لذلك عرَّفه الإمام الغزالي في الإحياء بأنه عبادة العمر حين قال: "فإنَّ الحج من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين (١) ".
فالحج موسم الخير والعطاء الدائم يحتضن بين ذراعيه كل مواسم الخير والعطاء الإسلامية فهل نعجب بعد ذلك ونحن نقرأ كلام ربنا في القرآن الكريم يقسم بالليالي العشر الأوائل من ذي الحجة (٢)، وكلام نبينا الذي لا ينطق عن الهوى وهو ينادي بأيام العشر أفضل الأيام على الإطلاق (٣). لا بل إنّ أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن صدر ذي الحجة
_________
(١) إحياء علوم الدين لحجة الإسلام محمد بن محمد الغزالي في كتاب أسرار الحج ج ١، صـ ٢٤٠ ـ.
(٢) قال تعالى في صدر سورة الفجر: ﴿وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢)﴾.
(٣) قال ﷺ: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله ﷿ من هذه الأيام" يعني: أيام العشر. قال: "يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجعْ من ذلك بشيء" أخرجه الإمام أحمد في مسنده، واللفظ له برقم (١٩٦٨) وقال محققوا الموسوعة الحديثية على مسند أحمد "إسناده صحيح على شرط الشيخين". اُنظر ج ٣ ص ٤٣٣ كما رواه البخاري برقم (٩٦٩).
1 / 9
هو المعني به في قوله تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَمَانِينَ لَيْلَةُ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةُ﴾ [الأعراف: ١٤٢] أما الثلاثون فهي شهر ذي العقدة.
وإذا كانت الأشهر الحرم أربعة فإن اثنين منها هي من أشهر الحج (١)، فهل بعد هذا من خصوصية وموسمية.
ومن تجليات الركن الخامس على المسلمين ذلك الرابط الذي عمد إليه الإسلام بين كلّ واجب يؤديه الحاج ومرجعه التاريخي الذي سجّل ميلاد الحادثة إلى حيّز الوجود، وهو ما يؤجج في قلوب الحجاج مشاعر إيمانية فياضة حين يؤدون بمتابعة دقيقة ما سبقهم إليه رجالات عظام أقامهم الله في موقع القدوة بعد أن صبروا في سبيل الله، وسموا فوق كل إغراء، وتفانوا في مرضاة ربهم وحده، فاستحقوا بذلك أن يتحولوا إلى مناراتٍ تضيء للبشرية درب الحياة مهما أحلولك الظلام في طريق الشعوب.
تعيش فيك هذه المعاني وأنت تطوف حول البيت، وذاكرتك يتردّد فيها صدى البيان الإلهي: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)﴾ [البقرة: ١٢٧].
وتتأمل ذلك وأنت تصلي إلى مقام إبراهيم وفي أذنيك خطابُ الله للمكلفين: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]، فتؤدي ركعتي الطواف وأنت
_________
(١) قال الله ﷿: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: ٣٦]، والأشهر الحرم هي ثلاثة سَرْد، وواحد فرد، أي: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم والآخر هو رجب مضر الذي بين جمادى الآخرة وشعبان، وقد سُمّي كذلك؛ لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبًا، وكانت مُضر تحرم رجبًا نفسه. وكما ترى فإنّ الله نهانا عن الظلم خاصة في أشهر الحج بنص الآية تأكيدًا على تلك الخصوصية. اُنظر: "تفسير الجامع لأحكام القرآن" للإمام القرطبي ج ٨ ص ١٢٣.
1 / 10
تستحضر صورة رسل الله وأنبيائه قاطبة، وألسنتهم تلهج حول البيت العتيق بأدعية شفافة رقيقة، فتفوح من هذا السَّرد الذي يشبه آلة العرض السينمائي ذكرى رسول الله ﷺ وهو يدخل مكة من ثنيَّة كَدَاء، ويغتسل من بئر ذي طُوى، ويطوف بالبيت في تواضع لله، وخشوع بين يديه وبكاء، وفي إظهار للقوة أمام أعداء الله مهرولًا في الأشواط الثلاثة الأول التي بدأها بتقبيل الحجر الأسود، والتي تلت هدم أصنام الشرك المزعومة في ختام رحلة الجهاد فداءً لدين الله؛ ليؤسس مع بداية الطواف بضوابطه الجديدة قيام مجتمع جديد أساسه التوحيد لله، وعنوان وحدته الكعبة المشرفة، وثمرة بنائه مجتمع سعيد رمزه الفضيلة والستر والروابط الإيجابية بلا كَبْتٍ أو سلبيّة.
إنّه المجتمع الذي يقوم فيه الولاء لله تعالى وحده، وليس لآلهة مزيَّفة من أصنام ومادة وشهوات.
وفي المسعى تحضر بقوة ذكرى الأم العظيمة هاجر، يوم استجابت لأمر ربها، ورضيت بالإقامة في وادٍ غير ذي زرع لا ساكن فيه ولا ماء، أو أيَّ شيء من مقوّمات الحياة حتى صارت مثلًا يُحتذى لكل من تسوِّل له نفسه أنّ في طاعة الله ضياعَ الأفراد والمجتمعات، فهاهي أُمنّا، وبسبب يقينها وثقتها بالله تعالى لم تنج من براثن موت مؤكد فحسب، وإنما صارت سيدة هذا الوادي الذي أخذ يعج بجموع السكان والزّوار، وصارت إحدى الخالدات اللائي حُفر اسمهنّ بجلاء في جدار التاريخ، وبالسيرة العطرة التي تشرئب لها أعناق روّاد الخلود في الدنيا.
وفي عرفة حيث وقف رسول الله ﷺ فألقى في جموع المسلمين خطابه المودِّع الجامع يناشد فيه حاضرهم وأجيالهم أن تحمل الأمانة التي ألقيت على عاتق الأمة في تلك اللحظات المؤثرة من تاريخ الرسول والرسالة.
1 / 11
وفي مزدلفة حيث المشعر الحرام وصلاة الجمع، والتقاط الحصى، إقتداءً بالرسول ﷺ.
وفي منى عند الجمرات يستشعر المسلم صورة صادقة من صور الصراع بين الحق والباطل الذي لا ينفك بين البشر حتى يقضي الله بين العباد، والذي يرمز لجانب الشرِّ فيه الشيطان، ولجانب الخير فيه المسلم الذي يُصرّ على توطين نفسه لنبذ دواعي الفتنة من خلال رمي الشاخص بما يعمق عقيدة التولي عن دعوات إبليس المتلاحقة، ومن خلال الإقتداء بمن هو أهلٌ لأن يقتدى به، إنه إبراهيم أبو الأنبياء خليل الرحمن، ومحلُّ إجماع أبناء المجتمعات الإنسانية في كل زمان ومكان؛ حيث عارض الشيطان، وخالف أوامره، وانتصر عليه ورماه بالحصباء امتثالًا لأمر ربه.
وفي النَّحر عَوْد على أروع الأمثلة التي وضعت فيها العبودية لله تعالى موضع التنفيذ يوم لم يتردّد إبراهيم في الإقدام على ما أوحاه الله إليه من ذبح ولده الوحيد إسماعيل آنذاك (١)، في أرض غربة وتقشف وحرٍّ شديد، تسليمًا لأمر ربه، فإذا بالولد البارِّ يجدّ السير على درب أبيه، يقدم الروح متبسمًا في سبيل رضوان ربه، وهو يقول: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: ١٠٢].
ومن تجليات الركن الخامس أنه يحقق في أمتنا ما عاشت البشرية أزمنة طويلة تنادي
_________
(١) ليس في هذه القصة دعوة لذبح الأولاد، أو تبريرٌ لذلك، فهذا الفهم الساذج لم يقل به أحد من أمَّة الإسلام سواء في عهد نزول الآية المذكورة أو زمن حدوث القصة قبل أربعة آلاف عام؛ لوجود خصوصيتين في هذه الحكاية النبوية: الأولى أنّ الوالد نبي، والثانية أنّ الابن نبي، فالدعوة للذبح جاءت من طريق الوحي الذي لا سبيل لأحد إليه بعد انقطاعه مع وفاة رسول الله ﷺ، وكذلك نهاية المشهد بالفداء بذبح عظيم طريقها الوحي أيضًا، والمقصود من أحداث القصة أن يتعلم المسلم أن طاعة ربه، والاستسلام لأوامره هي السمة الملازمة لكل لحظة من سيرة حياته، وأنّ لنا في خليل الرحمن إبراهيم أسوة حسنة الذي انقاد عن طواعية لأمر الذبح، وفي نبي الله إسماعيل الذي انقاد مثله عن طواعية؛ لأن الآمر اللهُ، أمّا الحكمة من أمر ربنا ﷾ فهي أن يقدم هذا الأنموذج للبشرية، لتعلم كيف جاء الدين لحفظ الروح والنفس.
1 / 12
له، وتسعى إليه حتى رفعت به الصوت عاليًا بالثورة الفرنسية من دعوتها لتحرير الإنسان من رقّ الإقطاعيين والمستغلين والمتنفذين، بينما قدّمته لنا هذه الفريضة بتواضع وسبق واضح، يوم حرّرت المسلم من عبودية أخيه الإنسان، وأخرجت منه خلقًا آخر لا يعرف الضيم، ولا ينام على الظلم من خلال ربطه بعبودية التشريف للإله الحق الذي يدفع الاعتماد على قوته العليا اللطيفة المحيطة بالخلق أجمع، إلى تكسير قيود الاستعباد للشهوات والأهواء، وأرباب النفوذ مهما بلغوا من السطوة والجبروت في صور يعجز عن فكِّ ألغازها الملاحدة ومنكروا الإيمان بالله ﷿، ومن ورائهم طابور المنافقين الذين يُظهِرون غير ما يُبطنون، ويتفوَّهون بغير ما يعتقدون.
ومن تجلياته تحقيق مبدأ المساواة الذي يحلم به بنو الإنسان دون أن يلجوا إليه عادة من باب موصل صحيح لكن ها هو الحلم يغدو حقيقة ماثلة للعيان في موسم الحج الذي يدعو من خلاله رب العزة جميع المسلمين لدخول ساحة الآخرة في زمان واحد لا يستثنى منه أحد من حجاج بيت الله، ومكان واحد لا تفاضل في رحابه، وبثوب واحد يتقربون به إلى مولاهم الذي دعاهم، ويتقارب به المدعوون فيما بينهم؛ حيث تتجلّى مظاهر التساوي والتوحد والتواضع والصفاء؛ لأنّ الزيّ الخاص بكل إقليم وقطر ينحسر في هذا الحشد فلا يعود له وجود، بينما يتقدّم زيّ بسيط لا صلة له بعادات الناس، ولا بتقاليدهم، وليس له من معنى اللباس إلّا غايته وهو الإزار الذي يلف القسم السفلي ساترًا العورة، والرداء الذي يغطي الكتفين، وكلاهما بلون أبيض ناصع يجدد في الروح تطهير أرضها من مكدّرات النفس الإنسانية.
لباسٌ يستوي فيه السيد والمسود، والأمير والفقير، وتذوب معه سائر الفوارق الطبقية، في مشهد يُضَمُّ إليه التجاء الحجيج بعبودية وانكسارٍ، يذكر أوّل ما يذكر
1 / 13
بالبدايات الأُولى حين خرج النّاس من بطون أُمهاتهم حفاة عراة، وبالمعاد حين يقومون لا أحساب بينهم ولا أنساب، وبالانتقال فيما بين وادي الدنيا والآخرة من نافذة القبر المظلم الصغير، وجميعها صورٌ شاهدة على المساواة بين سائر البشر (١).
ومن تجليات هذا الركن العظيم أنه أعظم تظاهرة اقتصادية في التاريخ البشري، وفي الحياة المعاصرة؛ لأن الملايين من المسلمين يحزمون أمتعتهم كلَّ عام صوب المسجد الحرام لأداء مناسك الحج فرضًا أو نافلة، بشتى وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، مفعّلين بذلك عجلة هذا المرفق الحيوي الهام، حاملين معهم المال إلى بلدة شهدت ولا تزال تدفق عصارات الأمم في شتى الصناعات، وثمرات الكرة الأرضية على كل المستويات، فإذا بأبناء الأقاليم والقارات يتبادلون في هذا اللقاء الحاشد السلع والحاجيات ضمن أضخم عملية تبادل اقتصادي في الدنيا تسهم في تحريك عجلة الاقتصاد العالمي وتفعليه نحو الأرقى، في سبقٍ إسلامي لفكرة التجمعات الاقتصادية الكبرى، ومعارضها الإنتاجية، من خلال إعطاء الحج بعدًا اقتصاديًا، رُسخ فيه من خلال ربط هذه الفريضة بالاستطاعة المالية التي لا يتم نهوض اقتصاديٌّ ما حال
_________
(١) من العبادات الإسلامية الأخرى ما يحقق بين المسلمين المساواة المنشودة، لكن ليس إلى درجة إذابة الفوارق تمامًا بينهم، فالصلاة مثلًا وهي عماد الدين كله، تؤدي جانبًا كبيرًا من هذا المعنى لكنها لاتبلغه؛ لأن الناس وإن كانوا يقفون بين يدي الله في أوقات لا يختص بها بعضهم دون بعض، وفي أداء يستوون فيه جميعًا، وفي صفوف لا يحظى في مقدمتها أصحاب طبقة دون أخرى، ولا في مساجد يدخلها النخبة، وأخرى من نصيب العامة، وبسجود جماعي يضع فيه المسلم رأسه قريبًا من قدمي أخيه، بينما تقع قدماه هو في مقابلة رأس مصلٍّ آخر بالخلف دون النظر إلى رئيس ومرؤوس، وكل هذا من مظاهر المساواة، إلّا أن الصلاة تتيح لشارات السيادة والغنى أن تحضر فيها، وتعكس الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمصلي من خلال الثياب واللباس الذي يصبغ صاحبه بصبغة الفوارق الإقليمية والطبقية؛ لأن اللباس يحكي جوهر لابسه الدنيوي، وبهذا فإن الحج مرتبة متقدمة في ترسيخ معاني التسوية بين البشر.
1 / 14
استبعادها.
كما أنه دُفع بالقضية برمتها إلى دائرة الضوء بجعل الحج ركنًا من أركان الإسلام، وتسمية إحدى سور القرآن الكريم باسم هذا الركن العظيم - سورة الحج - والتي ضمّنها البيان الإلهي قوله تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨)﴾ [الحج: ٢٨، ٢٩]، وبذلك قطع البيان القرآني دابر الشك أمام من يتردد من الحجاج في المتاجرة والانتفاع الدنيوي المشروع، في هيئة تظهر تعانق النُسك الشرعي مع البناء الحضاري في هذا الدين، وتثبت من جديد أنّ إسلامنا لم يكن يومًا رهبانية حبيسةَ دور العبادة، ولا صوفيةً لا تَفْقَهُ الدنيا، لكنه دائمًا دينٌ سماوي لبناء مكتسبات أرضية، ودنيا لا تقطع صلتك بالله، وسماء تؤكد لك بالصوت والصورة اليومية أنّ الذي أبدع الإنسان في أحسن تقويم، وخلق سبع سماوات طباقًا لا ترى في خلقهن تفاوتًا، هو وحده الخبير بما يضمن سعادة هذا الكائن البشري الذي انطوى فيه العالم الأكبر، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾؟ [الملك: ١٤] ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾؟ [التين: ٨].
فأين من ينظر بموضوعية مجرّدة عن مؤثرات الأهواء والمصالح الضيّقة؟ ! .
الإسلام والدنيا في ميزان شريعتنا لا مقاطعة بينهما ولا هجران، وإنما تعاون على تذليل كل شيء لنيل رضوان الواحد الأحد المنّان، ولذلك وطدت الآية السابقة في كلماتها جانبًا اقتصاديًا آخر بتقديم كفارات على بعض مخالفات الحجاج، على هيئة ذبائح وصدقات لا يجوز أن تدفع لغير فقراء الحرم، وبهذا عالجت الحكمة الإلهية قدر الله على أهل مكة في واديهم الذي لا يخرج زرعًا، بالوصفة الاقتصادية التي تعوض محصول الأرض الذي لا وجود له بموسم الحج السنوي، والمواسم المتكررة للعمرة على مدار العام.
1 / 15
والحج كذلك تظاهرة رياضية كبرى، يمكنني أن أُطلق عليه: "ماراتون المسلمين"؛ لأن الحاج يقطع في حقيقة الأمر عشرات الكيلو مترات أو أكثر، دون أن يشعر بثقلها، وبأنه فعلًا قطع تلك المسافة، بسبب لواعج الشوق التي تتحرك بين جوانحه للقاء بيت الله، واستغراقه مع الله في العبادة في لقاء ملائكي مهيب، لا يجد فيه المسلم قدرة على منع دموعه من الانهمار بغزارة من عينين تكحلتا أخيرًا برؤية البيت، وبمناجاة الله عنده، وفي ربا عرفات والمشاعر.
لو أردنا أن نلقي نظرة عابرة على المسيرة الفعلية التي يقطعها كل حاج أثناء هذه الرحلة، فإنها ستتجاوز مسافة الماراتون الفعلية، ففي مدينة الحجَّاج في جُدَّة يتحرك الحاج سيرًا على قدميه من صالة الانتظار الأولى، إلى صالة الجوازات، ومنها إلى صالة الأمتعة، ومنها إلى صالة (شيك الخدمات) وأحيانًا يكون موقعها في بداية المطار؛ حيث الصالة الأولى، ومنها إلى مركز البعثة التابعة لبلد الحاج، وأحيانًا تقع بعد الصالة العاشرة، ومن ثم يتحرك سيرًا على الأقدام من موقع البعثة إلى مكان تجمع الباصات، ومن هناك يتحرك إلى مكة بواسطتها.
البداية الثانية من ساحات الحرم المكي الخارجية التي لا بد منها للوصول إلى أسوار الحرم ولوجًا إلى الأبنية هناك، وصولًا إلى المطاف، الذي نقطعه من محيطه إلى مركز دائرته؛ حيث الكعبة المشرفة التي تُستقبل بطواف القدوم سبعة أشواط، قد تصل مدة الشوط الواحد من ربع إلى نصف ساعة وربما أكثر في أوقات الذروة والازدحام بسبب اتساع محيط الدائرة التي يسير في إطارها الطائفون.
ومن فراغ عبادة الطواف ينتصب الحاج لركعتيه خلف مقام إبراهيم، والمسافة بينهما ليست بالقصيرة وقد تبلغ مئات الأمتار عند الازدحام، ومن ثَمَّ انتقال من موقع
1 / 16
ركعتي الطواف، إلى حيث جبل الصفا لبدء السعي بين الصفا والمروة، وهي مسافة كسابقتها تقريبًا.
وفي المسعى رياضة متجددة لقطع مسافة (٣٩٥ م) للشوط الواحد يقينًا بين جبلي الصفا والمروة، فضلًا عن المسافة الاحتياطية والأخرى الإلزامية التي يفرضها ازدحام جموع الساعين هناك.
هذه المسافة يقطعها الحُجَّاج بين مشي على الأقدام، يبدأ بالنزول الخفيف إلى الوادي المتصل بجبل الصفا، وبين هرولة يؤديها الساعون عند استواء الأرض فيما يعرف بالميلين الأخضرين، ثم يعاودون المشي صعودًا إلى جبل المروة، وبالوصول الموفق يكون أحدهم قد أدّى شوطًا واحدًا عليه أن يتبعه بستة أخرى هي على شاكلته، لكن عندما يكون سكن الحجاج في غير جهة المروة، فعليهم أن يعودوا أدراجهم من ذات الطريق، وهو ما يحصل معي دائمًا حيث نضطر للتحرك على خطى المسعى من المروة إلى الصفا إلى باب الملك فهد إلى ساحات الحرم الخارجية إلى النفق تحت ساحات الحرم المكي، أو لقطع الشارع المقابل للحرم عرضيًا لركوب الباصات، وأحيانًا يضطر الحجيج للسير على الأقدام في أوقات الذروة حيث يُوقِف الازدحام بعد صلاة الجمعة والصلوات الخمس مباشرة خطوط المواصلات بصورة جزئية أو كلية تمتد مسيرة الحجاج على أقدامهم من (٥٠٠ م) إلى (١٠٠٠ م) إن لم يؤثر الانتظار في المسجد الحرام.
هذه المسيرة تتكرر على نفس الهيئة كلما أراد الحاج أن يؤدي عمرة، وبشاكلة أقلَّ منها كلما أراد أن يؤدي طواف نفل، كما يعود للمسيرة زخمها السابق عندما يتقدّم الحجاج لأداء طواف الإفاضة والسعي بعده.
كما تتجدد الصورة بدرجة أقل من سابقاتها عندما يتوجه الحاج لأداء إحدى
1 / 17
الصلوات الخمس في المسجد الحرام إذ عليه قطع مسافة الساحات الخارجية، ثم يتجاوز الأروقة المغطاة على قدميه، وصولًا إلى ساحة المطاف، وأحيانًا بسبب الازدحام صعودًا إلى الطابق الثاني بامتدادته الواسعة وفي بعض الأوقات لا يجد في كل هذه المساحات الشاسعة ما يمكّنه من الجلوس فيضطر للبحث عن مكان مناسب على سطح الحرم وهو كبير واسع باتساع المسجد الحرام نفسه.
ومع انتهاء الصلاة تبدأ رحلة العودة من السطح المترامي الأطراف إلى المخارج الجانبية على محيط دائرته إلى الأبواب الأرضية، ومنها لتخطّي ساحات الحرم الخارجية من جديد إلى مواقع تجمع الحافلات، ومن ثَمَّ إلى موقع الإقامة، لتبدأ جولة أُخرى من الجهاد الرياضي مع صلاة قادمة ليتكرر ذلك خمس مرات بعدد أوقات الصلاة، بالنسبة لمن يحرص على فعلها جميعها في المسجد الحرام.
أما في أرض عرفه فالحركة ضمن المخيم الواحد لا تهدأ، وهي تؤدّى على الأقدام، وكذا بين مخيم وآخر بحثًا عن الأهل والأصحاب تواصلًا وصِلة للأرحام.
وفي دعاء عرفات يسن أن يناجي الحجيج ربهم واقفين، بارزين، ما لم تكن ثمة مشقة لا تحتمل. وفي طريق النَّفرة من عرفات إلى مزدلفة يتحرك مئات الآلاف من الحجاج سيرًا على أقدامهم، ومنها ينفذون إلى منى، وصولًا إلى جمرة العقبة الكبرى، انتهاءً بمكة المكرمة، وأذكر أنّ الله أقدرني على قطع هذه المسافة كاملة في رحلة بدأت قبل غروب شمس اليوم التاسع من ذي الحجة، وانتهت مع اشتداد شمس اليوم الثاني قبل الظهر بطواف الزيارة، والانتقال إلى محل إقامتي مشيًا بفضل الله تعالى، وأذكر أنني كنت أرى عن يمينٍ وشمالٍ في الطريق جموع الزاحفين إلى بيت الله سيرًا تملأ السهل والجبل.
فالحج رسالة متكاملة في وسائلها وأهدافها وغاياتها الجليلة، لم تتركْ معنى حضاريًا
1 / 18
إلّا وأتت به، ومهدَّتْ له، وسعت إليه، من خلال ربطه بأحكام تشريعية ترسِّخُه في الذاكرة اليومية للفرد، والشعبية للمجتمع، والثقافية للأمة، لبناء صرح حضاري لا ينهار أمام عوامل الطغيان.
الحج محطة تأمُّليَّة يعود فيها الإنسان المسلم إلى حالة الشكر الحقيقي التي أُقصي عنها الكثيرون بسبب ما أغدق الله عليهم من نعم أنستهم فضل المنعم عليهم.
لكنَّ فريضة الحج ما تلبث أن توقظ في حجّاج بيت الله الحرام مراكز الحس لما يواكب الحج من شظفٍ للعيش كانوا في مأمن منه قبل شدّ الرحال إلى مكة، فالإحرام ومحظوراته، وضوابط الحج الزمانية والمكانية والتشريعية، وأعدادّ هائلة من البشر المستطيعة إلى بيت الله سبيلًا تتحرك كالبحر في اقتدائها بنبيِّها رسول الله ﷺ.
هذه اللوحة المتكاملة يتخرّج من صفوفها جيلّ رحيم بالعباد بعد أن ذاق الحجاج من شظف العيش ألوانًا لم يكن لهم بها دراية.
والحج حديقة تجد فيها كلَّ صنوف الثمار الطيّبة، تقطف الأمة من ورودها، وتتغذّى على فاكهتها، وتستظل بأشجارها، وتنعم بنصيب وافر من معاني الأمن والسلام اللذين تعمّقهما فريضة الركن الخامس، لذلك عرّفه فضيلة الدكتّور يوسف القرضاوي بقوله: "الحج هو رحلة سلام، في أرض السلام، في زمن السلام".
فالعنوان الرئيسي في قصد البيت الحرام هو السلام، لذلك يتخلّى الحاج عن ثياب الصنعة إلى ثيابٍ لا زُرَّ فيها ولا أكمام، مستحضرًا معها صورةً لا بد آتية في يوم يلفُّ فيها المسلم بالأكفان، يعجز فيه عن فعلٍ يصدر منه لأحدٍ من خلق الله، ويصبح حينئذٍ فقيرًا أكثر إلى إسدال نعمة السلام عليه بالعفو والصفح من الله السلام.
أمّا شعار التلبية فهو امتداد لتربية الإسلام؛ لأنه استسلام لتكاليف صاحب الخلق والأمر.
1 / 19
وأمّا تحريم الصيد البري في كل أرض يطؤها الحاج قبل الوصول إلى مكة، وبعده حيث يحرم في حدود الحرم الصيد والتنفير والترويع كذلك، كما يحرم فيه قطع الحشائش والأشجار التي نبتت وحدها دون زرع أو استنبات.
كما يحرم مع اللحظة الأولى للإحرام استخدام الآلات الحادة كتلك التي تستخدم في حلق الرأس، وقصّ الشعر، وتقليم الأظافر.
كل هذه التعليمات هي ترويض للحاج المسلم لينسجم في رحلة الحج مع عنوانها الرئيسي: "عنوان السَّلام" الذي رفعه الإسلام في حياة المسلمين واقعًا مستقرًا لا سبيل للعدول عنه إلّا تحت وطأة ظروف تُفرض على الأمة، تضطرها للخروج عن جادة الموادعة والمسالمة إلى ساحة الجهاد والنزال لتذود عن ذاتها.
ثقافة السَّلام جسّدها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الأثر المروي عنه: "لو رأيت في الحج قاتل أبي لما امتدّتْ إليه يدي بسوء".
فالحج إلى بيت الله الحرام رحلة ذاتُ وجهين وضيئين:
الأول: مكتوب ﵇، والآخر: منقوش على صفحته الأمان.
ومن الخطوات الإلهية لتحقيق هذين المقصدين معًا محظورات الإحرام التي سبق ذكرها، ثم اجتماع حرمة الزمان إلى حرمة المكان (١)، تقوية للشعور بحرمة هذا الركن وجلاله، وتأييدًا للشعور بالمراقبة والمسؤولية، لجعل المسلم مرهف الحس، حاضر الفكر،
_________
(١) حرمة الزمان في جعل الحج أشهرًا معلومات بعينها، وفي جعلها من الأشهر الحرم التي عظمها الله يوم خلق السموات والأرض، ففي الحديث الذي يرويه الشيخان عن أبي بكر ﵁ عن النبي ﷺ: "إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يومَ خلَق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو الحجة وذو القعدة والمحرّم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" البخاري برقم (٣١٩٧)، ومسلم (١٦٧٩) وأبو داود (١٩٤٧).
1 / 20
منسجمًا مع الجوّ الروحاني الذي أقامته العناية الإلهية فيه (١).
من هنا فإنَّ المسلم يقيم هناك علاقة مسالمة وأمان حقيقي يمتد إلى الكون من حوله بَشَرِهِ ونباتِهِ وحيوانه حتى الطير في الهواء، ثم يغادر الحاج أرض السَّلام وفي حقيبته المزيد من المعاني السامية التي تنبض بالحب والأمن والسلام، بما يرتد خيرًا على البشرية قاطبة؛ لأن المسلم كالمطر أينما حلّ أينعت الأرض خضرة وثمرًا، فإن لم يكن فيرتوي الناس بتوفير مصادر الحياة بها لخلق الله أجمعين.
والحج أحد العناصر الرئيسة في بقاء الأمة متماسكة مستعصية أمام كل محاولات التغريب والتبشير المزعوم.
والحج هو أحد العوامل القوية في تبديد مشروع التغريب في حق مَن وقعوا في شباكه تحت تأثير حملة المد الغربيّ الخطير.
آيةُ ذلك أن قصد بيت الله الحرام، أوَّل بيت وضع للناس، موئل الموحدين، وملاذ الحيارى التائهين، هو من العبادات الفريدة التي يسكب فيها ربُّ العزة على قلوب عباده هذا القدْر الهائل من الروحانيات، والطاقات الإيمانية، فتلمتع حقائق العبودية بين يدي الله ﷿، في رحاب البيت العتيق، حين يعيش العبد حالة من الافتقار إلى رحمة الله، والتذلل إليه، والتقرُّب بشتّى ألوان الطاعة والتبرُّءِ بكل صيغ الانفكاك عن زمن المعصية الغابر، والاعتراف والإقرار بكل ما صدر عن العبد من تقصير، وطلب العفو والصفح في مقام المغفرة والتبييض لصحائف العباد في موسم العطاء الجزيل، والخير العميم، في عرين بيت الله، وعلى مائدة ضيافته.
_________
(١) اُنظر "الكعبة مركز العالم" للدكتور سعد المرصفيص ٢٤٥ ـ.
1 / 21
أجواء يتجسد فيها نداء كل مسلم إلى ربه بالدعاء المشهور:
"اللَّهم أنت ربي لا إله إلّا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء (أقُرُّ) لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت".
عند كعبة الله في مكة المكرّمة لا تحتاج - كما في كل مكان - إلى توسيط أحد بينك وبين الله ﷿، فالذي عصيت أوامره، وأوْقَعتَ نفسك في قوس غضبه، هو من دعاكَ إليه، وفتح لك أبواب السور العظيم، لتدخل مدينة النور الحقيقي، وتقرَّ عنده دون وساطة سمسارٍ أو شفيع بما سبق به قضاؤه عليك، وتسأله بلغة الصدق والتواضع والدموع أن يتجاوز عما زلّ به القلم واللسان، وزلَّت به الجوارح والأقدام، لتبدأ مع مالك الأمر كله صفحة من عهدٍ جديد مع الله.
هذه العبارات التي سقتها هي وميض من ضياء كاشف، تعجز الكلمات عن رصده وتسطيره؛ لأن الذي يجوب ببصره في بيت الله الحرام يرى عصاة الأمس، وفساق الماضي استحالوا في حضرة ملك الملوك إلى عُبَّاد نادمين، يندفعون بين جموع الطائفين لا همَّ لأحدهم إلّا أن يملأ قلبه من حسراتٍ على ما فات، فتتسابق كلماتُ الإدانة والتوبة والمناجاة على شفتي لسانه، ودموع الندم على عيني رأسه، بعد أن بكى القلب مرارًا من سنوات الشرود والضياع، وبعد أن بكى من فرحته وهو يرى ذاته في حضرة قيُّوْم الأرض والسموات. وكم رأيت من أصحاب الفن والمراكز، والشهرة وعامة الناس من يلصق بطنه بالبيت عند الملتزم أو في حجر إسماعيل ويضع خدّه عليه، ويتعلّق بأستاره، ويبسط عليه كفَّيه، ويقول - كلٌ بلغته ولهجته وطريقته ـ: "اللهم يا ربَّ البيت العتيق أعتِقْ رقبتي من النار، وأعذني من شر براثن الشيطان، اللهم إنَّ البيت بيتك، والحرمَ حرمك، والعبدَ
1 / 22