The Explanation of the String of Pearls in the Sincerity of the Word of Unity
شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
Genres
شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الاستغاثة
بعث الله محمدًا ﷺ بعقيدة صافية نقية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وأمره أن يدعو الناس إلى توحيده جل وعلا، وصرف العبادة له ﵎، ومن أعظم العبادات والطاعات: الاستغاثة به ﷿، فهي تعني تمام الذل والخضوع لله ﷿، وطلب العون من الله تعالى في تفريج الكرب والشدائد، والاستغاثة لها منزلة عظيمة في الدين، لذا فقد سارع إليها أخيار الناس وأفضلهم على الإطلاق، ألا وهم الأنبياء والصالحون ومن جاء بعدهم.
1 / 1
طلبة العلم هم صفوة الناس
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: إخوتي الكرام: مرحبًا بصفوة الناس، مرحبًا بوصية رسول الله ﷺ، فقد ذهب أهل العلم بشرف الدنيا والآخرة، فقد أعتق عبد أسود لم تكن له قيمة عند السادة، ولا قيمة عند البشر، فلما أعتق وليست بيده صنعة يعمل بها نظر فقال: ماذا أفعل؟ كيف أعمل في هذه الدنيا وقد أعتقت؟ أي: أنه لا بد أن يكون لي من الأهداف والأعمال ما أرتفع بها مكانة بين الناس، فقال: ليس لي إلا أن أنتحل العلم، فقد وجدت الأشراف يتعلمون العلم، فذهب فتعلم العلم، وأتقن هذا الباب الشريف العظيم.
ويتذكر أحدنا قول أحمد مع هذا العبد عندما سجن، فقيل له: لم أوديت بنفسك إلى الردى؟ قال: إن هذا العلم شريف، إن أردت به الدنيا أخذتها، وإن أردت به الآخرة أخذتها.
فكأنه كان يتدبر هذه المقولة، فأتقن العلم، ثم جلس يعلم الناس، وكان الناس يأتونه من مشارق الأرض ومغاربها، حتى إن الخليفة أرسل إليه فقال: ائتنا ننهل من بحر علمك، فرد العبد الأسود للخليفة بقوله: مجالسنا مشهورة أو معلومة، فمن أرادنا فليأتنا.
فانظروا إلى شرف هذا العلم، وقد صدرت الباب: بصفوة الناس هم طلبة العلم، وقلت: إن أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء هم العلماء، فعضوا بالنواجذ على هذا الشرف؛ لعل الله جل في علاه أن يجعلنا جميعًا نسير على درب العلماء، ونصل كما وصلوا، ونرى أن الرجال يشتركون مع النساء في هذا الشرف العظيم، كما يشتركون مع النساء في معظم الأحكام، والأصل عندنا مستقى من حديث النبي ﷺ الذي في سنن أبي داود بسند صحيح قال: (النساء شقائق الرجال) أي: في الأحكام.
فالأصل في كل حكم أنه يجري على المرأة كما يجري على الرجل إلا ما فرق الدليل بينهما، وذلك في أمور تعد وتحسب، لكن بقية الأحكام بأسرها يشترك فيها الرجال والنساء معًا.
1 / 2
بيان كيف يعرف توحيد الله
اعلم أن التوحيد لا يعرف إلا من الكتاب، ولا يعرف مراد الله جل في علاه في الكتاب إلا بالسنة، ورحم الله عمران بن حصين عندما قال: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن.
وهناك قاعدة مهمة جدًا وهي: تقديم الأهم على المهم، وقد تستمد من قول النبي ﷺ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) فبدأ بالعقيدة مبينًا قدر أهميتها للمسلم، وطالب العلم على وجه الخصوص.
1 / 3
أقسام التوحيد
وقد قسم المتأخرون كـ شيخ الإسلام وغيره التوحيد إلى: توحيد معرفة وإثبات، وتوحيد قصد وطلب، وهذا التقسيم جاء من المتأخرين حقًا وليس من المتقدمين، لكن هذا التقسيم تبسيط وتيسير وتسهيل لطالب العلوم، وقد أنكروا عليه كثيرًا مسألة هذا التقسيم.
والقسم الثاني من أقسام التوحيد هو أهم ما يكون في علم التوحيد، فهو الذي من أجله أرسل الله الرسل، ومن أجله شرع الله القتال وأنزل الله السيف؛ ليفرق بين الصفين، فهذا العلم: علم القصد والطلب، أو توحيد الله جل وعلا بأفعال العباد، أو فعل العبد تجاه الرب، وهو توحيد الإلهية، وهو معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فمن أتقن القسم الأول وأتقن القسم الثاني من هذا الكتاب، وأتقن القسم الثاني بهذا الكتاب يصبح بارعًا في العقيدة، ولا أقول: مفتيًا ولا رجلًا قويًا في العقيدة، لكن على الأقل سيكون طالبًا للعلم، متقنًا لمسائل كثيرة من مسائل العقيدة.
1 / 4
ترجمة الإمام الشوكاني
وفي هذا الدرس إن شاء الله سنشرح هذا القسم من كتاب نافع جدًا، ألا وهو: (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) للعلامة الفقيه المجتهد المحدث الأصولي محمد بن علي الشوكاني، وأنا أركز هذا على الوصف لأبين أن رفعة القوم هي كما بين ابن رجب في القواعد وغيره، حيث قال: أشرف الناس على الإطلاق هم أهل العلم، وأهل العلم طبقات، وأول هذه الطبقات وأرفعها هم الفقهاء المحدثون الذين انشغلوا بعلم الفقه وعلم الحديث، ولذلك ترى أن أرفعهم وأقواهم ورأسهم هو الإمام الشافعي، فقد كان يقول الإمام أحمد عنه: رأس السنة أو ناصر السنة هو الإمام الشافعي.
فكان الشافعي وأحمد ومالك ممن انشغلوا بالفقه والحديث، فكانوا أرفع الناس، وكان خاتمة هؤلاء هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد سبقه ابن دقيق العيد؛ لأن ابن دقيق العيد أيضًا كان محدثًا فقيهًا أصوليًا، فأقول: وعلى الدرب والركب كان إمامنا ومصنف هذا الكتاب الذي نتحدث عنه وهو كتاب الإمام العلامة الفقيه المجتهد المفسر المحدث الأصولي البارع محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ثم الصنعاني، وقد ولد في ذي القعدة سنة (١١٧٢هـ) باليمن، فحفظ القرآن الكريم وجوده، ثم حفظ عددًا كبيرًا من المتون والمختصرات في فنون متعددة، وهنا أقول: لابد لطالب العلم أن يبدأ بالقرآن، فهذا هو دأب الصالحين ودأب علماء السلف، فقد كان الأعمش وغيره في مجالس العلم إذا جلسوا في مجلس التحديث وجاء الذي يكتتب -أي: أنه حضر وحمل عن هذا العالم- يسأل أولًا: هل حفظت القرآن؟ فإذا قال: لا.
قال: ارجع فاحفظ القرآن ثم ائت مجالس الحديث، فإذا حقق القرآن جاء فقيل له: هل تعلمت المواريث؟ والاهتمام بهذا العلم نادر، ولهذا كان أول العلوم اندراسًا هو علم المواريث، فإذا قال: لا، قال: وتجلس مجلس التحديث؟! ارجع فتعلم علم المواريث ثم ائتنا، فيرجع فيتعلم علم المواريث، ثم يجلس في مجلس التحديث، ولذلك ترى أنه ما من فقيه أو محدث أو عالم تقرأ في ترجمته في سير أعلام النبلاء أو غيره إلا ويقول: حفظ القرآن صغيرًا، حفظ القرآن حدثًا، فكانوا يهتمون أولًا بالقرآن، وقد كانت مصر عامرة بالخير في الكتاتيب، فكان أهم شيء للولد الصغير أن يذهب ليحفظ القرآن ويختمه، ثم بعد ذلك يظهر نبوغه بعد حفظ القرآن، وإمامنا أيضًا من الصغر ومن حداثة السن كان يحفظ القرآن، ثم كان يحفظ المختصرات في فنون متعددة.
هذا الإمام العلم -بإيجاز- كان إمامًا بارعًا في علم الحديث، وكان هو الغالب عليه، ولذلك له شروحات كثيرة في علم الحديث، أقواها وأرفعها هو: (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار)، وهو كتاب بديع جدًا؛ ترى فيه قوة عارضة هذا العالم الرباني، وهذا الفقيه المحدث الأصولي، فتراه يأتي بالأقوال ويبين لك، لكنه كثيرًا ما يتبع الحافظ ابن حجر، وكثيرًا ما ينقل عن الحافظ ابن حجر؛ لأن بعضهم اتهم الشوكاني أن كل كتبه حجم مصغر من كتب الحافظ ابن حجر، وهذا سوء أدب مع الشوكاني، فإن الشوكاني كان مجتهدًا بارعًا، بل كان اجتهاده اجتهادًا مطلقًا لا اجتهاد مذهب، لكنه كان كثيرًا ما يعول في التصحيح والتضعيف على الحافظ ابن حجر وينقل كثيرًا من أقواله.
المقصود: أن من أروع ما كتبه في فقه الحديث هو كتاب (نيل الأوطار)، وهو من أوسع الكتب، حتى إنه بعدما صنف هذا الكتاب اشتدت همته على أن يشرح كتاب صحيح البخاري، فلما فتح (فتح الباري) ووجد البحر الذي لا ساحل له للحافظ ابن حجر قال الكلمة المشهورة: لا هجرة بعد الفتح.
أي: لا أحد يستطيع أن يتقدم بين يدي الحافظ ابن حجر.
وله أيضًا كتاب ماتع في أصول الفقه، وهذا الكتاب وإن كان يعتبر كتابًا مقارنًا في الأصول وليس أصول مذهب، لكنه من أمتع الكتب التي يمكن أن يطلع عليها طالب العلم في أصول الفقه، واسم هذا الكتاب: (إرشاد الفحول)، وقد سماه بذلك من أجل أن يبين أن هذا الكتاب من عظم تصنيفه أنه للفحول فقط.
وله كتب أخرى في الفقه منها كتاب: (السيل الجرار) وهذا الكتاب يتكون من أربعة أجزاء، وهو كتاب ماتع جدًا، لكن أخذ على الشوكاني أنه كان فيه شيء من الميول لـ علي بن أبي طالب، فكان يرجح ما رجحه أبو حنيفة وغيره، وكان يرى أن علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه أفضل من عثمان، وهذا مخالف لما أجمعت عليه كلمة المهاجرين والأنصار، وهو ترتيب الأربعة في الفضل بنفس ترتيب الخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
1 / 5
شرح البسملة
وقد استفتح الكتاب أولًا بالبسملة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، ثم قال: أحمدك لا أحصي ثناءً عليك.
قوله: (باسم الله الرحمن الرحيم) بينا كثيرًا في كل الكتب أنها من روائع البيان، فما من مصنف إلا ويقتدي بكتاب الله ويقتدي بسنة النبي ﷺ، ويتأدب بين يدي الله، بأن يتقدم بين يدي أي مصنف بالبسملة.
وقوله: (باسم الله)، التقدير أستعين أو أصنف باسم الله، والاسم: إما مشتق من السمو وهو العلو، وهو في حق الله حق، أو مشتق من السمة وهي العلامة، وأيضًا أسماء الله جل في علاه أعلام على ذات الله وأوصاف لها كمالات.
(الله)، هو الاسم الأعظم لله جل في علاه، وقد بينا ذلك مرارًا فلا عودة له.
قوله: (الرحمن الرحيم) هذه أسماء من أسماء الله جل في علاه، وكل اسم من أسماء الله يتضمن صفة كمال، فهما اسمان من أسمائه الحسنى؛ لأنهما علامة على ذات الله جل في علاه، فيدل على ذات الله ويتضمن صفة كمال وجلال، فالرحمن: يتضمن صفة الرحمة، والرحيم يتضمن صفة الرحمة، والله يتضمن: صفة الإلهية، والإله: هو الذي تألهه القلوب، فهو المألوه، أي: المعبود بحق.
والفرق بين: (الرحمن والرحيم) أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، والرحمن هو رحمان الدنيا، والرحيم هو رحيم الآخرة، فاسم (الرحمن) عام للمؤمنين والكافرين، وأما (الرحيم) فهو خاص بالمؤمنين، والدليل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:٤٣] ولم يقل: رحمان، وإنما قال: «رَحِيمًا» فخصها بالمؤمنين.
1 / 6
معنى الحمد
ثم حمد الله جل في علاه، وأحق من يحمد هو الله جل في علاه، كما قال النبي ﷺ: (ما أحد أحب إليه الحمد من الله).
والحمد هو: الثناء الحسن على ذات الله جل في علاه.
1 / 7
معنى الاستغاثة والاستعانة
ثم ابتدأ المصنف بالكلام على أحكام الاستعانة والاستغاثة، وهذه معان من معاني توحيد الإلهية.
والاستغاثة في اللغة: مشتقة من الغوث، والغوث هو: الطلب من الله جل في علاه، أو نقول: طلب إزالة الضر ورفع الحرج، أو نقول: الاستغاثة: مصدر استغاث، والسين والتاء دائمًا في اللغة تكون للطلب، فالاستعانة هي: طلب تفريج الكربات.
والاستغاثة شرعًا كما قال شيخ الإسلام: هي الطلب من الله لتفريج الكرب وإزالة الشدة، أو تفريج الكربة وإزالة الشدة.
قال الحليمي - وهو شيخ البيهقي -: إن المغيث من أسماء الله الحسنى، والمغيث معناه المجيب للملهوف.
وفي هذا نظر؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، لابد لها من دليل من الكتاب أو السنة، ولم نجد دليلًا في الكتاب ولا في السنة بأن المغيث اسم من أسماء الله جل في علاه، وأما إذا احتج أحد بقول العامة: يا غياث المستغيثين! فنقول: هذا إما خبر عن الله، وإما صفة من صفات الله جل في علاه بتفريج الكربات ورفع الزلات، ونقول: إن المغيث ليس من أسماء الله جل في علاه.
1 / 8
العلاقة بين الاستغاثة والدعاء
والعلاقة بين الاستغاثة وبين الدعاء علاقة عموم وخصوص، فالاستغاثة تندرج تحت الدعاء، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ إذ أن الدعاء: طلب من الله لجلب منفعة ودفع مضرة، أما الاستغاثة فهي: طلب من الله لدفع مضرة.
إذًا: لو رسمت دائرة في الدعاء، فستجد أنه إما دفع مضرة أو جلب منفعة، ولا بد للدائرة الصغيرة أن تحتويها الدائرة الكبرى، فالاستغاثة جزء من الدعاء، فلك أن تقول: العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص، أو قل: الدعاء أعم من الاستغاثة؛ فكل مستغيث داع ولا عكس؛ لأن المستغيث يدعو بدفع الضر، لكن الداعي قد يدعو بجلب النفع ولا يدعو بدفع الضر.
1 / 9
منزلة الاستغاثة من العبادة
والاستغاثة لها منزلة عظيمة من العبادة، والله جل في علاه خلق الخلق لحكمة عظيمة ولمهمة جسيمة، ألا وهي: العبادة، كما قال جل في علاه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦].
وقال الله جل في علاه في بعض الأحاديث وبعض الآثار -وهذه الآثار ينظر في أسانيدها-: (عبدي خلقتك للعبادة فلا تلعب).
وهذه الآثار قد يتسامح في أسانيدها، ويشهد لها كثير من الآثار والأحاديث الصحيحة، فالمهمة الجسيمة التي خلق الله الخلق من أجلها هي العبادة.
وللعبادة ركنان: الركن الأول: غاية الذل، والركن الثاني: غاية الحب، فإن انفك ركن من هذه الأركان، كأن يأتي أحد بالعبادة ولم يكن عابدًا لله جل في علاه، فإنها لا تقبل منه، بل لا بد أن يأتي بالركنين تامين.
والاستغاثة من الركن الأول، بل هي قلب الركن الأول، بل هي أساس وأصل الركن الأول، فالاستغاثة هي الذل التام لله جل في علاه، فلما كانت هذه منزلة الاستغاثة من العبادة سارع إليها أخيار الناس وأفضل البشر على الإطلاق وهم الأنبياء، قال الله تعالى مبينًا تضرع وتذلل واستغاثة أنبيائه وأصفيائه من خلقه: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ [الأنبياء:٨٣ - ٨٤].
وقال الله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنبياء:٨٧] متمسكنًا متضرعًا مستغيثًا بالله جل في علاه: ﴿لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:٨٧].
وإبراهيم عندما أضرموا النار وألقوه فيها استغاث بربه جل في علاه وقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
فهذه من أجل العبادات، ولذلك كان النبي ﷺ له الحظ الوافر والنصيب الأكبر في هذه العبادة، ففي كل المواقف ترى النبي ﷺ يتذلل لربه جل في علاه، ففي غزوة بدر سقط الرداء من على كتف رسول الله وهو يتذلل ويستغيث بربه جل في علاه، ويقول: (اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت).
ولما اشتد الجدب على الناس، ودخل الأعرابي على رسول الله ﷺ وهو يخطب بالناس، فقال له: (هلك العيال، أو قال: هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا.
فقال النبي ﷺ مستغيثًا بربه: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
فالعبد الكامل في العبودية هو الذي يضع خده على التراب متذللًا لربه جل في علاه، متضرعًا عندما تنزل به الملمات وتلتئم عليه الكربات، فيتذلل لربه جل في علاه مستغيثًا به لا مستغيثًا بغيره، وهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة، وأصل ركن العبادة التذلل، والاستغاثة هي أم التذلل، فهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة.
1 / 10
الأدلة التي تبين أن الاستغاثة عبادة لله تعالى
وإذا قلنا بأن الاستغاثة هي عبادة فما الدليل من الكتاب والسنة على أنها عبادة؟ لأن الأصل في العبادات التوقيف، ولا بد لها من دليل من الكتاب أو من السنة، فكل عبادة ثبتت بالشرع أنها عبادة فصرفها لغير الله شرك.
أما الدليل على أن الاستغاثة عبادة لله جل في علاه: فقد قال الله تعالى مادحًا عباده بأنهم يتقربون إليه بالوسيلة، وأيضًا قال مانًا عليهم بكرمه وبحوله سبحانه جل في علاه: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ [الأنفال:٩] لأنكم تضرعتم وتذللتم واستغثتم بربكم، فقد أتيتم بما عليكم من التذلل، ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ منة وكرمًا منه جل في علاه.
أما من السنة: ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال -وهو يخطب بالناس-: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
وهذه سنة فعلية تبين أن الاستغاثة عبادة قولية وفعلية، فهي فعل من النبي ﷺ أيضًا.
فإذا ثبت أن الاستغاثة عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك.
1 / 11
أقسام الاستغاثة
والاستغاثة تنقسم إلى أقسام ثلاثة: استغاثة توحيد أو محض توحيد، واستغاثة محض شرك، واستغاثة وسط، وهي استغاثة مباحة حتى تميز بين ما يكون توحيدًا وبين ما يكون شركًا، وبين ما يكون فيه الإباحة.
فالقسم الأول: استغاثة توحيدية، وهي أن تستغيث بالله جل في علاه إذا نزل بك الكرب، ونزلت بك الملمات، وتتذلل لربك جل في علاه، فهذه استغاثة توحيدية تصرفها لله جل في علاه كما فعل النبي ﷺ، وفعل إبراهيم وفعل داود وفعل أيوب وفعل أنبياء الله جل في علاه، فقد صرفوا الاستغاثة هذه لله وحده لا شريك له.
إذًا: فالاستغاثة الأولى هي: استغاثة توحيدية، وهي التي يصرفها العبد لله جل في علاه، فيتذلل لربه، ويطلب الحاجات من ربه جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا قيد مهم.
القسم الثاني: استغاثة شركية، وهي أن يطلب العبد من غير الله رفع الحرج، وإزالة الضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذه استغاثة شركية، وهذه تنبثق من قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية وهي: كل من أنزل مخلوقًا منزلة الله جل في علاه فقد كفر، أو من أنزل الخالق منزلة المخلوق فقد كفر.
وعندما ننظر في هذه القاعدة وننظر في القسم الثاني من الاستغاثة الشركية نرى أنها طلب الغوث وطلب النصر وطلب العون من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه، فإذا قام عبد وقال: الغوث يا بدوي! أو قال: الغوث يا عبد القادر الجيلاني! أو أنقذني أو أغثنا أو أنزل المطر يا بدوي فهذا قد استغاث استغاثة شركية؛ لأن إنزال المطر لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك؛ لأنه صرف عبادة لا تكون إلا لله جل وعلا، فهذا نوع من أنواع الشرك، وهو شرك محض وحده، فإذا صرف الاستغاثة لغير الله بأن طلب من الميت أو طلب من الحي ما لا يقدر عليه إلا الله فقد صرف العبادة إلى غير الله، فوقع في الشرك.
وينضم إلى ذلك أنه إذا طلب الاستغاثة من غير الله جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله، فإذا قال للبدوي: اشف مريضي! فقد صرف العبادة لغير الله، وأيضًا لا يمكن أن يذهب إلى القبر ويقول للبدوي: اشف مريضي! إلا وهو يعتقد أن البدوي له القدرة على شفاء هذا المريض، وهذا شرك أيضًا في الربوبية، فيصير هذا الذي طلب أو صرف الاستغاثة لغير الله واقع في الشرك من وجهين: الوجه الأول: الشرك في الإلهية؛ لأنه صرف العبادة التي ثبتت بالشرع أنها عبادة لغير الله؛ فاستغاث بغير الله أو طلب أو دعا غير الله.
الوجه الثاني: الشرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله.
القسم الثالث: الاستغاثة المباحة، وقد جاء الشرع ليبين إباحتها، وهي الاستغاثة من البشر أو من الحي القادر الحاضر فيما يقدر عليه، فنجمعها في القاعدة الوجيزة (حي حاضر قادر)، فهذه جاءت جوازها من الكتاب ومن السنة: أما من الكتاب: فقد قص الله علينا قصة موسى ﵇ عندما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها: ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ [القصص:١٥]، فهذا دليل على الاستغاثة المباحة، فقد استغاث الرجل الذي من شيعة موسى بموسى، وأغاثه موسى، وهذا دليل يستدل به العلماء على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر القادر، ووجه ذلك من قوله: (فوكزه).
وعلى هذا فيباح للعبد أن يستغيث بغيره لينفعه، وهناك أدلة عامة وأدلة خاصة، فالأدلة العامة كقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:٢]، وقول النبي ﷺ في الصحيحين: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه).
فإذا استغاث أحد بأخيه فأغاثه فله ذلك، وليس من الشرك بحال من الأحوال، بل يمكن أن يكون من التوحيد.
والاستدلال الخاص هو بقول الله تعالى: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى﴾ [القصص:١٥]، فكيف استقى العلماء من هذا الدليل إباحة الاستغاثة بالحي الحاضر القادر؟
الجواب
وجه الدلالة من هذه الآية قوله: «فَقَضَى عَلَيْهِ» فقد استجاب موسى ﵇ له، ولأن موسى ﵇ أبو الموحدين، وهو الموحد الأكبر في عصره، ويدل على ذلك أن قومه قالوا له: ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف:١٣٨] فأنكر عليهم، والنبي ﷺ لما سمع ذلك قال: (الله أكبر قلتم مثلما قال قوم موسى).
فكل نبي هو أبو الموحدين في عصره، فلو كانت الاستغاثة هذه من الشرك لأنكرها موسى، لكن موسى أقرها، بل من دواعي الإقرار أنه قضى على الآخر فأغاث المستغيث.
والله جل وعلا لا يقص قصة فيها إنكار إلا وينكرها، ولا يقص قصة وفيها إقرار إلا ويقر ذلك.
مثال ذلك: الإقرار بملكة سبأ، كما قال تعالى حاكيًا عنها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل:٣٤] فمن الذي قال: «وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ»؟ قاله الله، فأقرها على ذلك.
وكقوله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران:١٢٨] فهذا إنكار على النبي ﷺ، وكقوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس:١ - ٢] والإنكار على نوح واضح جدًا في قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود:٤٦].
إذًا: فالله جل وعلا لا يقر على باطل بحال من الأحوال، بل لابد أن ينكر، وإذا كان حقًا أقره الله، وهنا قص الله علينا قصة موسى وقصة المستغيث بموسى وأقره، فهذه الآية دلالة واضحة جدًا على أن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه مباحة، والله جل وعلا أقرها.
أما من السنة: ففي السنن: أن أبا بكر ﵁ وأرضاه كان قد تعب كثيرًا من منافق فقال للناس: (قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ.
وهذا الحديث فيه ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث، فالسند فيه ضعف لكنه مما يستأنس به، فقال النبي ﷺ: إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه).
وهذا الحديث عجيب! لأن النبي ﷺ أنكر على أبي بكر فقال: (إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه).
ومع ذلك يحتج المصنف بهذا الحديث على أنه يجوز أن يستغيث المرء بالحي الحاضر القادر، فما وجه ذلك؟ وجه ذلك: أنه علم أولًا من تعليم النبي ﷺ أن الاستغاثة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه أنها مباحة، لكن توجيه قول النبي ﷺ: (أنه لا يستغاث بي)، أن هذا فيه سد الذريعة، فهو يعلم الناس ألا يقولوا ذلك، كما أنكر على من قال: ما شاء الله وشئت، نعم فالمرء له مشيئة، والله جل وعلا جعل له مشيئة، لكن سدًا للذريعة قال له النبي ﷺ: (لا تقل ذلك، أجعلتني لله ندًا؟ قل: ما شاء الله ثم شئت).
فهنا النبي ﷺ يعلمهم أن الأصل في الاستغاثة أن تكون بالله جل في علاه.
أما بالنسبة للتي يقدر عليها الإنسان الحي الحاضر فله أن يستغيث به، فمثلًا: رجل كاد أن يغرق في وسط البحر فوجد سفينة وعليها الركبان، فقال لأحدهم: أغثني أغثني أغثني، فقوله جائز ولا شيء عليه.
كذلك رجل كان من القراء يعالج بالقرآن، ويأخذ بقول النبي ﷺ: (وما أدراك أن الفاتحة رقية؟ اضربوا لي معكم بسهم).
فكان ينفع الناس بقول النبي ﷺ: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل).
فيقرأ على المصروع، وعنده جيوش جرارة من الجن المسلمين الفقهاء والمحدثين والمجاهدين، وفي ذات مرة وقع في ضائقة فنادى على جني منهم يعرفه باسمه، وكان يستعين به؛ استدلالًا بقول شيخ الإسلام ابن تيمية، فنادى عليه فقال: أنقذني مما أنا فيه، فما هو حكمه مع قول الله تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا﴾ [الجن:٦]؟ وكيف ترد عليه وهو يستغيث بغير الحي الحاضر.
فالجواب: أنه استغاث بغائب، فلا يمكن أن نقول: إن هذه استغاثة مباحة، بل هي استغاثة شركية، وهذا هو الراجح والصحيح.
أما كلام شيخ الإسلام بجواز الاستعانة بالجن بدليل قصة عمر بن الخطاب فنقول: أولًا: القصة ليست صحيحة.
ثانيًا: نقول: هذا غائب، فكيف يستعين بالغائب؟ فلا يجوز بحال من الأحوال، فهذه استغاثة لا تصح.
كذلك رجل كان في بلد وأخوه في بلد آخر فاتصل به بالهاتف، وقال: إني في ضائقة فأغثني، فهذه استغاثة مباحة جائزة؛ لأنه في أمر قادر عليه، وهو حي قادر حاضر، ولو كان غائبًا، لكنه في حكم الحاضر.
كذلك رجل قام في السحر فصلى، فتذكر أن الله جل في علاه يبعث ملائكة سياحين في الأرض ينظرون لمن يقومون الليل، وهم يستغفرون للمؤمنين، فبعدما قام في السحر وبكى في الدعاء، نظر يمينه ويساره وقال: تحوطني الآن الملائكة، فتكلم مع الملائكة فقال: إني في ضر فأغيثوني، يعني بذلك الملائكة فما حكمه؟ فالجواب: أن هذه استغاثة شركية؛ لأن الملائكة غائبون عن الرؤية كالجن تمامًا.
ولذلك قال العلماء: من طلب من ملك مقرب أو نبي مرسل أو من مقبور أو ولي صالح شيئًا مما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه فقد وقع في الشرك، ولو طلب ما يقدرون عليه فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب من غائب ولي
1 / 12
شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الاستعانة
بعث الله نبينا محمدًا ﷺ بشريعة تُعَبِّد العبد لربه ﷿، فدعا إلى التوحيد ونبذ الشرك، ومن التوحيد: استعانة العبد بربه ﷿ في كل أموره، وهذا هو دأب الأنبياء والصالحين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والاستعانة عبادة لا يجوز صرفها إلا لله ﷿، وصرفها لغير الله ﷿ يوقع العبد في الشرك والعياذ بالله.
2 / 1
الأمن التام في الدنيا والآخرة لمن آمن ولم يلبس إيمانه بظلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد بوب البخاري في صحيحه، باب: العلم قبل العمل، واستقى هذا التبويب من قول الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:١٩].
فأول العلوم وأشرفها هو علم التوحيد، وشرف العلم مستقى من شرف المعلوم، وليس أحد أشرف من الله جل في علاه، وقد بينا بأنها من فروض الأعيان على كل إنسان أن يعبد الله بالتوحيد الذي لا يشوبه أي شرك، وأن الله جل في علاه أناط الفلاح التام والهداية التامة والأمان التام بالتوحيد الكامل التام الذي لا يشوبه أي شرك.
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام:٨٢] أي: بشرك.
«أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ».
فإذا أتى العبد بالتوحيد التام كان له الأمن التام والهداية التامة، وكلما نقص من هذا التوحيد نقص الأمن والأمان، والهدى والاهتداء، والأمن يكون في الدنيا وفي الآخرة، وكذلك الاهتداء يكون في الدنيا وفي الآخرة، أما الأمن في الآخرة فهو معلوم، إذ أن الله جل وعلا لا يجمع لعبده بين خوفين ولا أمنين، فمن خافه في الدنيا وأتى بالتوحيد التام فله الأمن التام في الآخرة، لكن كيف يكون له الأمن في الدنيا، والدنيا بأسرها تجتمع على من قال لا إله إلا الله، ويعاديه كل من لم يعرف حقيقة الإسلام، فأين هو الأمن في الدنيا، ونحن نقول: قال الله تعالى: «أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ»؟! وكلمة: (الأمن) معرفة بالألف واللام تفيد العموم، أي: الأمن في الدنيا والأمن في الآخرة، بل كثير من الذين التزموا دين الله جل في علاه ابتلوا بتسليط الكفرة والفجرة والفسقة، فأين الأمن التام؟ فلا بد من توجيه لحل هذا الإشكال.
فنقول: إن الأمن أمنان: أمن معنوي، وأمن حسي، أو أمن قلوب، وأمن أبدان.
فأما في الآخرة فأمن القلوب وأمن الأبدان يتحصل عليه الذي أتى بالتوحيد الكامل الذي لا يشوبه أي شرك، وأما في الدنيا فيتحصل له أمن القلوب دون أمن الأبدان، أو دون الأمن الكامل للأبدان، ويجلى لنا ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عندما قال: ماذا يريد أعدائي بي؟ إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة.
ثم قال: جنتي في قلبي.
وهنا الأمن التام، فأنت عندما يتسلط العدو على رقبتك فإنه لا يستطيع أن يدخل الكفر في قلبك، ولا أن يزعزع الإيمان في قلبك، فمن أتى بالتوحيد دون أن يشوبه الشرك، فليعلم أن الله جل وعلا قد ضمن له التثبيت في قلبه، أو تثبيت الإيمان والإسلام في قلبه، نسأل الله جل وعلا أن يثبت الإيمان في قلوبنا حتى نلقاه.
2 / 2
تعريف الاستعانة
تكلمنا فيما سبق عن قسم التوحيد الذي من أجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وجعل السيف القاطع البتار بين الصفين، وجعل الجنة والنار، ألا وهو: توحيد الإلهية، وتكلمنا أيضًا عن الاستغاثة، وقلنا: إن الاستغاثة بغير الله شرك، وصرفها لله جل في علاه من التوحيد الكامل.
وسنتكلم بمشيئة الله تعالى عن الشق الثاني الذي ابتدأ به المصنف وهو: الاستعانة، والاستعانة في اللغة: من العون، وهي المظاهرة على الشيء أو طلب العون من الغير، تقول: استعنته، أي: طلب إعانته، ونقول: يقول محمد لزيد: أستعين بك في قضاء حوائجي عند نكاحي، أي: يطلب عونه عند النكاح، سواء العون المادي أو العون المعنوي، فيدفعه دفعًا إلى أن يعينه في أمور النكاح، سواء بالمال، أو بالجهد، أو بغيرهما من الأمور الحسية والمعنوية.
وفي الاصطلاح كما قال شيخ الإسلام: الاستعانة: طلب العون.
وهناك قاعدة في اللغة وهي: أن زيادة السين والتاء في الاسم تكون للطلب، فنقول: الاستعانة: طلب العون من الرب الجليل، لدفع الضر أو جلب المنفعة أو تثبيت الدين، فالكل ينزل تحته.
والفرق بين التعريف اللغوي والتعريف الشرعي: أن التعريف في الشرع أخص من التعريف في اللغة، إذ التعريف في الشرع طلب العون فقط من الله، وهذه فيها إشعار بأن الطلب من غير الله شرك.
2 / 3
استعانة الأنبياء والصالحين
إن الاستعانة لب العبادة، لذا قال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية: هي نصف الدين؛ لأن الدين نصفان: نصفه عبادة، ونصفه استعانة على العبادة، وقد استقى شيخ الإسلام هذا الكلام البارع من قول الله تعالى في فاتحة الكتاب: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة:٥] بهذا الشطر الأول.
«وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» أي: أننا لا نستطيع عبادتك إلا بالاستعانة بك، ولذلك قال: الاستعانة نصف الدين، أو هي شطر الدين.
والاستعانة لها منزلة عظيمة جدًا، لأنها والتوكل شيء واحد أو صنوان، والخلاف بينهما طفيف، والعبد بالاستعانة يدخل في غمار التوحيد، فتفتح له أنوار المعارف في آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لأن العبد الذي يستعين بربه أولًا لا بد أن يكون قد استيقن في قلبه أن الرب الذي هو فوق العرش ويعلم ما نحن عليه هو القادر المقتدر القدير، الرب الجليل الذي إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فبيده قلوب العباد كما قال النبي ﷺ في الصحيح: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فهو دائمًا كان يدعو: (اللهم يا مقلب القلوب) ويستعن بالله بالدعاء: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
ويعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا شيء يتحرك في الكون إلا بإرادة الله جل في علاه، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:٨٢]، فلما استيقن هذا اليقين في ربه، دعاه هذا اليقين إلى أن يحسن الظن بالله، ويستعين بالله جل في علاه، وهذا هو دأب الصالحين، ودأب خيار الناس، ودأب الصلحاء من البشر الذين استعانوا بربهم على إقامة الدين، وهؤلاء البشر هم الأنبياء والمرسلون الذين استعانوا بربهم، وأجلوا لنا هذه العبادة الجليلة.
فهذا خطيب الأنبياء شعيب ﵇ كان يقول: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:٨٨]، وأيضًا قال شعيب أو صالح: ﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [يونس:٧١]، وأيضًا قال نوح: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس:٧١] فهو ﵇ قد صدر كلامه بأنه توكل على الله جل في علاه، واستعان بربه جل في علاه.
وهذا نبينا محمد ﷺ كان أكثر ما يكون في حياته اليومية أنه يستعين بالله في نشر دين الله جل في علاه، وكان دائمًا يقول كما في الترمذي بسند صحيح: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وقوله ﷺ للرجل الذي جاءه فقال: (لا تقصر علي، أعطني نصيحة لا أسأل عنها أحدًا بعدك.
قال: اجعل لسانك رطبًا بذكر الله)، وكان النبي ﷺ لا تراه إلا وهو يحرك لسانه ذكرًا لله جل في علاه، حتى أنه إذا دخل الخلاء حرك لسان قلبه وليس العضو المعروف، وعند خروجه كان دائمًا يقول: (غفرانك).
وقد أولها بعض العلماء فقال: إنه كان يقول: إنه ليغان على قلبي.
أي: يجد مشقة، لأنه لم يذكر اسم الله جل في علاه عند قضاء الحاجة، مع أن قلبه يستحضر ذكر الله جل في علاه.
(اللهم أعني على ذكرك وشكرك) إذ الشكر من أهم العبادات التي يتقدم بها العبد لله جل في علاه، وإن ربك يحب من العبد أن يشكره كما صح عن نبينا ﷺ: (إذا أكل الأكلة أو شرب الشربة أن يحمد الله عليها).
وإن الله قد امتن بالمدح على نوح عندما قال: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء:٣]، فما من نبي إلا وهو يتذلل لله خضوعًا وشكرًا لعبادته، (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وهذه فيها لفتة جميلة وهي: أنه لم يقل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وعبادتك.
وإنما قال: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، ولذلك قال الله تعالى: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك:٢]؛ لأن حسن العبادة أن يؤدي العبد الإخلاص التام لله جل في علاه قدر استطاعته، وبعد هذا الإخلاص والعبادة التامة يستغفر الله عليها، لذلك فما من نبي وما من صالح إلا قد استعان بالله على طاعة الله، وترى أن العبد المتيقن بربه، الفقيه الأريب المسدد الموفق يعلم أنه ما من نعمة وما من عبادة وفق فيها وسدد إلا بالله، قال الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ﴾ [النحل:٥٣] وأجل هذه النعم الذل لله جل في علاه، وقد قال النبي ﷺ في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: يا عبادي! من وجد خيرًا فليحمد الله، ومن جد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فكل صالح وكل عبد بر لله جل في علاه يستعين بالله على عبادة الله جل في علاه، ولا يمكن لعبد أن يتقرب إلى ربه إلا بالله جل في علاه، ولا يمكن لطالب علم أن يطلب العلم إلا بالله، ولا يمكن لمستغفر أن يستغفر إلا بالله، ولا يمكن لمجاهد أن يجاهد إلا بالله جل في علاه، فإذا أقفل الله الباب عن العبد، ولم يوفقه، فلا يمكن له أن يتعبد لله جل في علاه، وإذا فتح الله جل وعلا الأبواب على مصراعيها لعباده، فاستعانوا به وصلوا إلى ربهم جل في علاه، ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ [الليل:٥ - ٩].
2 / 4
الإستعانة عبادة بالكتاب والسنة
إن الاستعانة عبادة، وهي نصف الدين، ووجب علينا تأصيلًا أن نبين من الأدلة الشرعية كيف تكون الاستعانة عبادة، وهل هي بالأهواء؟ وهل هي بالبدع والضلالات، أم هي بالآثار؟ فنقول: إن الأصل في العبادة أنها توقيفية، ومعنى توقيفية: أننا لا نعبد الله إلا بالسماع، والسماع لا يكون إلا من الكتاب أو السنة، ولا نقول: زيادة الخير خير، كما قال الرجل للإمام مالك عندما أراد أن يحرم من قبل الميقات، فقال له مالك: لا تفعل.
قال: ولم لا أفعل، فزيادة الخير خير.
فقال له الإمام: أخشى عليك من قول الله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:٦٣].
فأنت قد تقدمت بين يدي رسول الله ﷺ بِفعْلَه قصر عنها ﵊.
إذًا: التوقيف في العبادة: أن تقف عند ما أمر الله، إذ المشرع هو الله.
وهنا
السؤال
هل رسول الله ﷺ مشرع أو ناقل للشرع؟
و
الجواب
أن المسألة على خلاف بين أهل الأصول، فبعضهم يقول: بأن النبي ﷺ لا يكون مشرعًا، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ [الأعراف:٥٤] و(الأمر) هنا بمعنى: التشريع، فكما حصر الخلق له فقد حصر التشريع له جل في علاه، وقوله تعالى مبينًا وظيفة النبي ﷺ: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد:٤٠]، وقوله: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ﴾ [النور:٥٤]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة:٦٧].
فهذه الأدلة كلها تتظافر وتبين لنا بأن النبي ﷺ ناقل للشرع مبلغ فقط عن الله جل وعلا.
وبعض الأصوليين قالوا: لا، فالنبي ﷺ قد أعطاه الله حق التشريع، وعندنا أدلة على ذلك، منها: ما فعله النبي ﷺ مع ابن أم مكتوم، وذلك عندما تجنبه وذهب يدعو كبراء قريش، لعل الله أن يهديهم للإسلام، أيضًا: عندما مال النبي ﷺ إلى كلام أبي بكر ﵁ في شأن أسرى بدر، كذلك قوله ﷺ: (إنما حرم رسول الله كما حرم الله) أي: أنه تحريم جاء من الله جل في علاه.
فهذه أقوال أهل الأصول في المسألة، والصحيح والراجح أنه ﷺ ناقل للشرع وليس له أن يشرع، لكن له أن يجتهد في الأحكام، ولا يوافق على الاجتهاد الذي أخطأ فيه كما بينا في هذه الوقائع، فهذه اجتهادات من النبي ﷺ وما أقره الله جل وعلا عليها، قال تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس:١ - ٢] وعاتبه بقوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ [التوبة:٤٣] وغيرها من الاجتهادات التي اجتهدها النبي ﷺ ولم يقره الله عليها.
وعلى هذا فالأصل في العبادات التوقيف، أي: نسمعها من النبي ﷺ بالوحي الذي أنزل عليه من عند ربه جل في علاه، وإذا كانت العبادات الأصل فيها التوقيف، إذًا لابد من أدلة على أن الاستعانة عبادة، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة: قال الله تعالى في افتتاح السورة التي لا يتركها أحد في صلواته: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة:٢] إلى أن قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥]، فهذه دلالة على أن الاستعانة عبادة، فإذا قلت: عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، أيضًا قال الله تعالى في سورة يوسف عن يعقوب أنه قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف:١٨] فاستدل أهل العلم أيضًا بهذه الآية على أن فيها دلالة على أن الاستعانة عبادة.
وأما من السنة النبوية فقد جاء في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان ﵁ وأرضاه عن النبي ﷺ أنه قال: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز).
جاء عند الترمذي وأحمد عن ابن عباس ﵁ وأرضاه أن النبي ﷺ قال له: (إذا استعنت فاستعن بالله).
فهذه أدلة متوافرة متظافرة تبين لنا أن الاستعانة عبادة.
فوجه الدلالة من الآية الأولى: أن الله جل وعلا عطف الاستعانة على العبادة، فدل ذلك على أنهما يشتركان في الحكم، وهو العبادة والتعبد لله بذلك، أيضًا: هذه الآية خبر يراد بها الإنشاء، وكأن الله جل وعلا يقول: استعن بي إن أردت عبادتي، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، فكيف يعبد المرء ربه جل في علاه؟ فقال الله جل وعلا آمرًا إياه: استعن بي على عبادتي أعينك كيف تعبدني.
أما بالنسبة للآية الثانية: ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف:١٨] فهو قد طلب العون من الله، أيضًا: أن الله أقره على ذلك، كذلك: أن سياق الآية سياق مدح ليعقوب؛ لأنه كان يتعبد لله ويصرف لله هذه العبادة ويقول: أنا أستعين بالله على ما أنا فيه من البلاء، إذ البلاء يستلزم صبر ورضا، والصبر والرضا عبادة، فلا تكون إلا بالاستعانة، فقال: هذا البلاء الذي نزل علي بسببكم الله المستعان عليه، فأنا أستعين بالله لأصبر على هذه البلية ولأرضى بها، فاستعان بالله على هذه العبادة الجليلة.
وأما بالنسبة للأحاديث فظاهرة جدًا، قال النبي ﷺ: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز).
فقوله: (استعن) أمر، وأمر النبي ﷺ ظاهره الوجوب، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله تعالى ينزل تحت مسمى العبادة، والعبادة في الشرع: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فإذا أمرك الله بأمر فقد أحب ذلك، وما أحبه الله فهو عبادة.
ومثله قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ [البقرة:٤٣] فقوله: (وأقيموا) أمر، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله ينزل تحت مسمى العبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، إذًا: فالصلاة عبادة.
ومثله أيضًا قول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾ [المائدة:٩٠] فاجتناب الخمر عبادة، وذلك أن اجتناب الخمر يحبه الله تعالى، فترك المنهي عنه يحبه الله جل في علاه، وإذا أحب الله ترك شيء فإن هذا الترك محبوب لله، إذًا: ينزل تحت مسمى العبادة، إذ العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.
ومثله أيضًا: قوله الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ [المائدة:٦].
فالوضوء عبادة؛ لأن الله قد أمر به، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله ينزل تحت مسمى العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
وأما قول النبي ﷺ لـ ابن عباس: (وإذا استعنت فاستعن بالله) فوجه الدلالة من الحديث على أن الاستعانة عبادة من وجهين: الوجه الأولى: أن قوله: (فاستعن) أمر، وهذا أمر من رسول الله، والرسول لا يأمر إلا بما يحب وما يحبه الله، فينزل تحت مسمى العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
الوجه الثاني: أن التوحيد هو أن تستعين بالله وحده لا شريك له، فهذا وجه يبين لنا أن الاستعانة عبادة؛ لأنها لا تصرف إلا للمليك المقتدر جل في علاه.
إذًا: الاستعانة عبادة ثابتة بالشرع، ونأتي إلى القاعدة التأصيلية في مسائل التوحيد (توحيد الإلهية) وهي: أن كل عبادة ثبتت بالشرع فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك.
2 / 5
أنواع الاستعانة
النوع الأول: استعانة توحيدية، وهي الاستعانة بالله جل في علاه، ولأنها عبادة كما قال الله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥] فإن العبد المتقي البار الذي يتعبد لله جل في علاه يسارع بالاستعانة بالله جل في علاه، فالعبد الذي يريد أن يصل إلى العلم أو إلى مبلغ العلم لن يصل إليه إلا بالله جل في علاه، فعليه أن يستحضر ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥]، فالعلم من أجل العبادات، ولن يصل إليه إلا بالاستعانة، فيصرف هذه الاستعانة تذللًا لله جل في علاه، فيستعين بالله في حركاته، في سكناته، في نومه، في قيامه، في ذهابه إلى المسجد، في جلساته، في محضر دروس العلم، في مدارسته مع إخوانه، فهو دائمًا يستحضر استعانته بالله جل في علاه، استعانته بالله وهو يقرأ أحاديث النبي ﷺ؛ ليفهم ويتدبر ويعقل عن الله مراده، ويعقل عن رسول الله ﷺ مراده، يستعين بالله على نصرة دين الله جل في علاه، فلطالما استعان النبي ﷺ بالله على نشر دعوة الله جل في علاه.
النوع الثاني: استعانة شركية، وذلك إذا صرفت الاستعانة لغير الله، كطلب العون من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا التقييد لا بد أن تضبطه؛ لأن شيخ الإسلام قد قعد لنا قاعدة فقال: من طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد كفر بالله جل في علاه، لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق.
ومن صور شرك الاستعانة كأن يذهب إلى البدوي ويقول: مدد يا بدوي! وهذه مشهورة جدًا عند الناس، أو مدد يا عبد القادر الجيلاني! أو مدد يا أم هشام! أو مدد شدي حيلك يا بلد! وهذه المقولة الأخيرة على التفصيل، فإن أخمر فيكون كلامه: مدد يا الله! وشدي همتك يا بلد! وهنا يكون قد أتى بالتوحيد، لأن الأمور بمقاصدها، لكن إن لم يقصد الإضمار فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب العون من غير الله جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولأن البلد لا يمكن أن تستعين ببلد أخرى.
وأما إطلاقي في الأمثلة الثلاثة الأولى، فلأنهم أموات غير أحياء، فالأموات لا يستطيعون إحياء الجنين في بطن الأم كما زعم بعضهم فقال: إن الأولياء حباهم الله قوة لإحياء الجنين في بطن الأمهات.
وهذا القول صاحبه موغل في الكفر والشرك، فالأموات لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، قال الله تعالى على لسان نبيه محمد ﷺ: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا﴾ [الأعراف:١٨٨] فإذا كان النبي خاصة خلق الله جل في علاه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، وهو في عداد الأحياء، فمن باب أولى الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وقوله ﷺ: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية).
فإذا انقطع عمله فلا يستطيع لنفسه نفعًا ولا ضرًا؛ لأن العمل يزيد في حسناته فلا يستطيع.
ومن الأدلة الظاهرة الواضحة على أن الأموات لا يملكون نفعًا ولا ضرًا: قول عمر بن الخطاب ﵁ لل للعباس عندما وقع الجدب: كنا إذا أجدبنا توسلنا بدعاء نبينا، فقم يا عباس! وادع الله لنا، فقام العباس ودعا، ولم يذهب هو أو عمر إلى قبر النبي ﷺ فقال: يا رسول الله! أجدبنا فاستسق لنا؛ لأنهم يعلمون أن النبي ﷺ لا يملك ضرًا ولا نفعًا، فهذه دلالة على أن الأموات لا يملكون شيئًا.
أيضًا: حديث ظاهر جدًا في هذه المسألة أن النبي ﷺ: (دخل على عائشة فقالت: وارأساه! فقال لها النبي ﷺ: بل أنا وارأساه، إن أنتِ متِ صليت عليكِ).
أي: غسلتكِ وصليتِ عليكِ ودعوت لكِ، يريد النفع الذي سيصل إلى عائشة من النبي ﷺ حينما يكون حيًا، لكن لو مات فالنبي ﷺ يبين لها أنه لا ينفعها، لكن لو كان حيًا وهي ماتت قبله فأنه سيغسلها ويصلي عليها ويدعو لها.
إذًا: الميت لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فإذا ذهب إلى الميت وقال: مدد، أو طلب العون منه فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب يقينًا من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه.
النوع الثالث: الاستعانة المباحة، وهذه الاستعانة تجوز، ويمكن للإنسان بنيته الصالحة أن يصل بها إلى مرتقى التوحيد، أو ينزل بها إلى مهبط الشرك والعياذ بالله.
وهي: أن يستعين المرء بأخيه أو بأبيه أو بابنه، سواء استعانة دينية أو دنيوية.
فالاستعانة الدينية كأن يستعين بمن تقدمه في طلب العلم أن يتعلم منه، أو يستعين بالقارئ المتقن أن يضبط له الحروف ويضبط له القراءات، أو يستعين بمن يأخذ المخطوطات ينسخها فينسخ له ثم يخرج هو الأحاديث، أو يستعين بالمفتي أن يفتي له، أو يستعين بالحاج العالم في مناسك الحج أن يبين له مناسك الحج.
وأما الاستعانة في الأمور الدنيوية كأن يقترض قرضًا، أو يأخذ مالًا، أو هبة من أخيه، فهذه الاستعانة تجوز، وليس فيها ثمة شيء.
والدليل على ذلك عموم قول الله تعالى: «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى» [المائدة:٢]، فهذه استعانة أباحها الله جل في علاه في كتابه، وأيضًا عموم قول النبي ﷺ في الصحيحين: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل).
وهذه كأنها أمر من النبي ﷺ، وقوله ﷺ: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء).
فهذه أيضًا من باب التعاون على البر والتقوى.
إذًا: الاستعانة المباحة هي: استعانة بالآخرين فيما يقدرون عليه، ولا بد من ثلاثة شروط فيمن يستعان بهم: أن يكون حيًا حاضرًا قادرًا، فلو تخلف واحد من الثلاثة فهي استعانة شركية، كأن يستعين العبد بأخيه الميت على أن يقضي له حاجته عند ابن عمه! فهو قد استعان بميت ليس بحي، ولو استعان بالغائب عنه في بلد أخرى لأمر يستطيع أن يعينه عليه في هذه الدنيا، أو في المكان الذي هو فيه، فهذا على التفصيل: إن كان لا يقدر عليه فقد وقع في الشرك، لأنه استعان بغائب، وإن كان يقدر عليه فليس بواقع في الشرك.
وهنا مسألة مشهورة وهي: هل يصح الاستعانة بالجن أم لا؟
و
الجواب
أنه لا يصح؛ لأنه استعانة بغائب، وهذا هو الراجح والصحيح، ولا التفات لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا التفات لما احتج به من حديث المرأة التي سألت أبا موسى الأشعري؛ لأنهم لا يصححون سنده، ولا يأتون أيضًا بسنده، ولا يمكن أن نقبل هذا، ولو كان فعلًا لـ أبي موسى الأشعري فقد خالف في ذلك النصوص الصريحة الصحيحة عن النبي ﷺ.
2 / 6
الاستعانة بدعاء الصالحين
الاستعانة بدعاء الصالحين، كأن يطلب الدعاء من رجل صالح، أو ولي من أولياء الله تعالى، فهذه تدخل تحت الاستعانة المباحة.
وقد خالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: إنها على الكراهة.
والصحيح والراجح: أن طلب الدعاء من الصالحين الذين لا يفتنون -هذان قيدان مهمان- لا شيء فيه، والدليل على ذلك أن النبي ﷺ قال: (سبعون ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
فقال عكاشة ﵁ وأرضاه: يا رسول الله!) -استعان بدعاء النبي ﷺ (ادع الله أن أكون منهم.
فقال: أنت منهم).
وأيضًا في حديث آخر: أن عمر استعان بدعاء العباس كما ذكرنا ذلك فيما سبق.
كذلك: أن عمر طلب الدعاء من أويس القرني، وهو من التابعين، حتى قال العلماء: خير التابعين على الإطلاق هو أويس القرني.
والتابعون هم من الصلحاء، وفيهم فساق، فإذا قلت لي: الحكم للغالب، فنقول: ونحن الآن نقول: الحكم للغالب، فالمسألة مسألة الظاهر؛ فإذا كان ظاهره الصلاح فلك أن تسأله هذا السؤال، وإلا نقول: الأمر فيه تخصيص كما أقر النبي ﷺ عكاشة بن محصن أن يطلب منه الدعاء؛ وأقر الصحابة عمر بن الخطاب أن يطلب الدعاء من العباس ﵁ وأرضاه، فأنت إما أن تقول: كل من نعيش معه من الفساق، أو ليسوا من الصلحاء، أو لا نعرف صلاحهم، فنقول لك: أبعدت النجعة وهدمت سنة النبي ﷺ، لأن عندك دليل صريح عن رسول الله أنه قال: (أمتي كالمطر لا يدري الخير في أولها أو في آخرها) والمطر فيه خير، وقال: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم).
فأنت تهدم من هذا هدمًا قاطعًا، وهذا كلام باطل وفاحش، فالصحيح الراجح أنك تقول: عندنا الأدلة على الاستعانة بدعاء الصالحين، وتنزل منزلة الاستعانة المباحة.
2 / 7
أقسام الناس في الاستعانة
الناس في الاستعانة على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: أخيار خلص؛ وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين يستعينون بالله على نصرة دينه ونشر دعوته وتعلم العلم ونشره بين الناس، كما كان يفعل الصحابة الكرام: (بلغوا عني ولو آية)، وكما فعل من بعدهم من المحدثين والفقهاء، الدين كانوا يستعينون بالله على تعلم العلم ونصرة الدين.
وأذكر قصة طريفة للإمام ابن خزيمة نتبين من خلالها كيف كان السلف يستعينون بالله في قضاء حوائجهم، تقول القصة: إن أربعة نفر من بينهم ابن خزيمة جلسوا في مكان يطلبون العلم ويكتبون الحديث، فإذا جاء الليل ذهب أحدهم لينظر هل هناك طعام وشراب أم لا؟ وبقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام لا يجدون طعامًا ولا شرابًا، وفي الليلة الرابعة قالوا: لا بد أن أحدنا يسأل الناس حتى يعطوه طعامًا وشرابًا لنا، حتى لا نموت جوعًا، فارتجف قلب ابن خزيمة؛ لأنه اعتاد أن يكون طالبًا للعلم لا طالبًا للمال من الناس، ورفض أن يفعل ذلك، فقالوا: نعمل قرعة، ومن وقعت عليه فيلزمه الذهاب لذلك، فعملوا القرعة فخرجت على ابن خزيمة، فقال: سأذهب، لكن دعوني أصلي لله تعالى، وانظروا إلى الاستعانة الحقة، وإلى اليقين الحق في ربه جل في علاه، فقام يصلي لله جل في علاه فبكى فقال: اللهم لا تعوزني أن أسأل غيرك في هذا الأمر.
ثم ما إن سلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله إلا ووجدوا الباب يطرق طرقًا شديدًا، فلما فتحوا الباب وجدوا الجائزة من السلطان، دنانير ودراهم وأطعمة، وهذا بسبب الاستعانة بربهم جل في علاه، فالأخيار الخلص الذين اصطفاهم الله جل في علاه يستعينون بالله على دين الله جل في علاه، على نشر دين الله جل في علاه، على نصرة دين الله جل في علاه.
والفقيه الأريب اللبيب الذي يقول: استعانتي بربي على حفظ القرآن تجعلني أحفظ القرآن لا الإتقان على المشايخ، استعانتي بربي على تحصيل العلم تجعلني أحصل العلم؛ لأن الله جل وعلا ذو فضل عظيم سبحانه جل في علاه.
الصنف الثاني: شرار خلص، وهؤلاء الذين لا يعبدون الله ولا يستعينون به، فهم كما وصفهم الله: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان:٤٤] يأكلون ويشربون ويتمتعون وهم أقل من الأنعام، لا يذكرون الله ولا يتعبدون لله ولا يستعينون بالله جل في علاه.
الصنف الثالث: قوم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا: وهؤلاء يخرج منهم فرعان: الفرع الأول: مبتدعة ضالة -وهم أهل عبادة- وهم: القدرية والمعتزلة، فهؤلاء يجتهدون في العبادة لله لكنهم لا يستعينون بالله على أداء هذه العبادة؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يخلق أفعال العباد -والعبادة أفعال تخرج منهم، وهذه الأفعال هم يخلقونها لكنهم لا يمحون فضل الله عليهم كاملًا، فهم يقولون: إن الله خلق لنا آلات نستعين بها على العبادات، كالسمع فنسمع القرآن، ونسمع الأذان فنذهب نصلي، وكالبصر فنقرأ القرآن ونعقل عن الله أوامره، ونقرأ أحاديث النبي ﷺ، وكالماء خلقه الله لنتوضأ، وكالطعام نستعين به على الطعام، فهم يردون الاستعانة بأنفسهم، وجعلوا أنفسهم خالقين مع الله تعالى، ولذلك قال بعض علمائنا: إن المعتزلة أصحاب أجرة، يقولون: الجنة لنا بأعمالنا وليست برحمة الله جل في علاه، مع أن النبي ﷺ يقول: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فهؤلاء قد ضلوا في باب الاستعانة، فما سددوا وما وفقوا، بل خسروا كثيرًا، ونسأل الله جل وعلا أن يهدينا وإياهم سواء السبيل.
الفرع الثاني: الذين استعانوا بربهم، لكن ما استعانوا على العبادة، وإنما استعانوا على رغيف العيش، واستعانوا على الدرهم والدينار، واستعانوا على الدنيا، فهؤلاء ما استعانوا الاستعانة الحقة، فالاستعانة الحقة: أن يستعين بقدرة الله على عبادة الله جل في علاه، والله قد تكفل لهم بهذا الرزق، لكنهم لما جهلوا جهلًا مركبًا قالوا: الاستعانة نأخذ بها على أمر الدنيا لا على أمر الآخرة، وفي مسند أحمد بسند صحيح عن علي بن أبي طالب أنه قال: من انشغل بالله كفاه الله كل الهموم وكل الأمور، وقال النبي ﷺ: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها).
فأنت قد تكفل الله لك بالرزق الذي خلقه لك، فانشغل أنت بما خلقت له وهي العبادة، ولذلك استقى ابن القيم كلامًا بديعًا من هذا الحديث فقال: خلق الله الكون لك وخلقك أنت له، فانشغل بما خلقت له ولا تنشغل بما خلق لك، فما خلق لك سيأتيك، فالرزق يكون خلفك كما أن الموت خلفك، وأنت مطلوب مأمور بعبادة الله، فاخلص العبادة لله جل في علاه.
2 / 8